تفسير سورة الشورى

اللباب
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الشورى
مكية١ وهي ثلاث وخمسون آية، وثمانمائة وست وستون كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا٢.
١ في قول ابن عباس والجمهور، وحكي عن ابن عباس: إلا أربع آيات نزلت بالمدينة وانظر الخازن ٦/١١٥، والقرطبي ١٦/١. والقول بأنها مكية قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر..
٢ الخازن السابق..

مكية وهي ثلاث وخمسون آية، وثمانمائة وست وستون كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: «حم عسق» تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح.
وسئل الحُسينُ بنُ الفضل: لم قطع حم عسق ولم يقطع كهيعص فقال: لأنها سور أوائلها «حم» فجرت مجرى نظائرها. كأنَّ «حم» مبتدأ «عسق» خبره، ولأنهما عدا آيتين وأخواتها مثل: كهيعص، والمص والمر عدت آية واحدة. وقيل: لأن أهل
161
التأويل لم يختلفوا في كهيعص، وأخواتها، لأنها حروف التهجي لا غير.
واختلفوا في «حم» فأخرجها بعضهم من حيِّز الحروف، وجعلها فعلاً. وقيل: معناه حُمَّ أي قضي ما هو كائن. روى عكرمة عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أنه قال: «ح» حلمه «م» مجده «ع» عمله، «س» سناؤه، «ق» قدرته أقسم الله بها. وقال شهرُ بن حوشب وعطاءُ بن أبي رباح: «ح» حرب يعِزُّ فيها الذليل ويذلُّ فيها العزيز من قريش «م» ملكُ يتحول مِنْ قوم إلى قوم «ع» عدوٌّ لقريش يقصدهم «س» سبيٌ يكون فيهم «ق» قُدرةُ الله النافذة في خلقه؛ ورُوِيَ عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أنه قال: ليس من نبي صاحب كمتاب إلا وقد أوحيت إليه حم عسق فلذلك قال: يُوحى إليك وإلى الَّذِين من قبلك وعلى هذا فقوله ﴿الله العزيز الحكيم﴾ تبيين للفاعل كأنه قال: من يوحي؟ فقيل: الله العزيزُ الحيكم كما سيأتي. وقرأ ابنُ عباس وابنُ مسعود حمَ سَق.
قوله: «كَذَلِكَ يُوحِي» القراء على يوحي بالياء من أسفل مبنيًّا للفاعل، وهو الله تعالى، والعزيز الحكيم نعتان، والكاف منصوبة المحل إما نعتاً لمصدر، أو حالاً من ضميره، أي يوحي إيحاءً مثل ذلك الإيحاء.
وقرأ ابن كثير وتُرْوَى عن أبي عمرو يُوحَى بفتح الحاء مبنياً للمجهول وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:
أحدها: ضمير مستتر يعود على كذلك، لأنه مبتدأ، والتقدير مثلُ ذلك الإيحاء يُوحَى هو إليك. «فمِثْلُ ذَلِك» مبتدأ، و «يُوحَى إِلَيْكَ» خبره.
الثاني: أن القائم مقام الفاعل «إليك» والكاف منصوبة المحل على الوجهين المقتدمين.
الثالث: أن القائم مقامه الجملة من قوله «اللهُ العزيزُ» أي يُوحى إليك هذا اللفظُ. وأصول البصريين لا تساعد عليه؛ لأن الجملة لا تكون فاعلةً ولا قائمةً
162
مقامه. وقرأ أبو حيوة والأعمش وأبان نُوحي بالنون وهي موافقة العامة. ويحتمل أن تكون الجملة من قوله: ﴿الله العزيز الحكيم﴾ منصوبة المحل مفعولة بنُحي أي نُوحِي إليك هذا اللفظ، إلا أنَّ فيه حكاية الجملة بغير القول الصريح.
و «يُوحِي» على اختلاف قراءته يجوز أن يكون على بابه من الحال والاستقبال فيتعلق قوله: ﴿وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ﴾ بمحذوف لتعذر ذلك تقديره: «وأُحِي إلى الذَّين من قَبْلِكَ» وأن يكون يكون بمعنى الماضي، وجيء به على صورة المضارع لغرضٍ وهو تصوير الحال.
قوله: «اللهُ العَزيزُ» يجوز أن يرتفع بالفاعلية في قراءة العامة، وأن يرتفع بفعل مضمر في قراءة ابن كثير كأنه قيل: من يوحيه؟ فقيل: اللهُ العزيزُ، كقوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ﴾ [النور: ٣٦، ٣٧] وقوله:
٤٣٧٠ - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ... وقد مرَّ. وأن يرتفع بالابتداء، وما بعده خبره، والجملة قائمة مقام الفاعل على ما مر، وأن يكون «العَزِيزُ الحَكِيمُ» خبرين، أو نعتين، والجملة من قوله: ﴿لَهُ مَا فِي السماوات﴾ خبر أول أو ثانٍ على حسب ما تقدم في «العَزِيزِ الحَكِيم». وجوَّز أبو البقاء يكون «العَزِيزُ» مبتدأ، و «الحكيم» خبره، أو نعته و ﴿لَهُ مَا فِي السماوات﴾ خبره.
وفيه نظر؛ إذا الظاهر تبعيَّتُها للجلالة. وأنت إذا قلت: «جَاءَ زَيْدٌ العَاقِلُ الفَاضِلُ» لا تجعل العامل مرفوعاً على الابتداء.
163

فصل


الكاف في «كَذَلِكَ» معناه المثل و «ذَا» للإشارة إلى شيء سبق ذكره فيكون المعنى مثل حم عسق يوحي إليك وإلى الذين من قبلك، وعند هذا حصل قولان:
أحدهما: ما نقل عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أنه قال: لا نبي صابح كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عسق كما تقدم.
قال ابن الخطيب: «وهذا عندي بعيد».
والثاني: أن يكون مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحى إليك وإلى الذين من قبلك، وهذه المماثلة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والنبوة والمعاد، وتقبيح أحوال الدنيا، والترغيب في أمور الآخرة.
قال الزمخشري: لم يقل: أُوحِيَ إليك ولكن قال: يوحى إليك على لفظ المضارع ليدل على أن أيحاء مثله عادة وكونه عزيزاً بدل على كونه قادراً على ما لانهاية له وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجيات كما تقدم بيناه في أول سورة «حم» المؤمن.
وقوله: ﴿لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ يدل على كونه موصوفاً بالقدرة الكاملة النافذة في جميع أجواء السموات والأرض على عظمها وسعتها بالإيجاد والإعلام وأن ما في السموات وما في الأرض ملكه وملكه، وهو العَلِيّ أي المتعالي عن مُشابهةِ المُمْكِنَات العظيم بالقدرة والقهر والاستعلاء.
قوله تعالى: ﴿تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ﴾ تقدم الكلام فيه مُشْبعاً في مريم، وإلا أن الزمخشري زاد هنا وروى يونس عن أبي عمرو قراءةً غريبةً تتفطَّرن بتاءين مع النون.
ونظيرها حرف نادر، رُوِيَ في نوادر ابن الأعرابي: «الإِبل تتشمَّمْنَ».
164
قال أبو حيان: والظاهر أن هذا وهمٌ، لأن ابن خالويه قال في شاذِّ القرآن ما نصه «تَنْفَطِرْنَ» بالتاء والنون يُونسُ عن أبي عمرو.
قال ابن خالويه: وهذا حرف نادر؛ لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث لا يقال: النساء تقُمْنَ، ولكن يَقُمْنَ، والوالِدَاتُ يُرْضِعنَ ولا يقال: تُرضِعن. وقد كان أبو عمر الزَّاهِدُ روى في نوادر ابن الأعرابي: الإبل تتشمَّمْنَ فأنكرناه، فقد قواه الآن هذا.
قال أبو حيان: فإن كانت نسخُ الزمخشري متفقةً على قوله: بتاءين مع النون «فهو وهم، وإن كان في بعضها بتاء مع النو كان موافقاً لقول ابن خالويه وكان بتاءين تحريفاً من النساخ وكذلك كتبهم تتفطَّرن وتَتشمَّمْنَ بتاءين. انتهى.
قال شهاب الدين: كيف يستقيم أن يكو (ن) كتبهم تتشمَّمن بتاءين وهماً وذلك لأن ابن خالويه أورده في معرض الندرة والإنكار حتى يقوى عنده بهذه القراءة، وإنما يكون نادراً منكراً بتاءين، فإنه حينئذ يكون مضارعاً مسنداً لضمير الإبل، فكان من حقه أن يكون حرف مضارعته ياء منقوطة من أسفل، نحو: النِّساءُ يقُمن فكان ينبغي أن يقال: الإبل يتشمَّمن بالياء من تحت ثم بالتاء من فوق، فلما جاء بتاءين كلاهما من فوق ظهر نُدُوره وإنكاره، ولو كان على ما قال أبو حيان: إن كتبهم بتاءين وهماً بل كان ينبغي كتبه بتاء واحدة لما كان فيه شذوذ ولا إنكار، لأنه نظير: النِّسوة تدحرجْنَ فإنه ماض مسندٌ لضمير الإناث، وكذا لو كتبت بياء من تحت وتاء من فوق لم يكن فيه شذوذ، ولا إنكار.
وإنما يجيء الشذوذ والإنكار إذا كان بتاءن منقوطتين من فوق، ثم إنه سواء قُرِىء تتفطَّرن بتاءين أو بياء ونون، فإنه نادر لما ذكر ابن خالويه، وهذه القراءة لم يقرأ بها في نظيرتها في سورة مريم.
قوله:»
مِنْ فَوْقِهِنَّ «في هذا الضمير ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه عائد على السموات، أي كل واحدة منها تتفطَّرُ فوق التي تليها من قول المشريكن: ﴿اتخذ الله وَلَداً﴾ [الكهف: ٤] كما في سورة مريم، أي يبتدىء
165
انفطارهُنَّ من هذه الجهة» فِمَنْ «لا بتداء الغاية متعلقة بما قبلها.
الثاني: أنه يعود على الأرضين؛ لتقدم ذكر الأرض.
الثالث: أنه يعود على فرق الكفار والجماعات الملحدين. قاله الأخفش الصغير. وأنكره مكي وقال لا يجوز ذلك في المذكور من بني آدم، وهذا لا يلزم الأخفش فإنه قال على الفرق والجماعات فراعى ذلك المعنى.

فصل


قال الزمخشري: كلمة الكفر إنَّما جاءت من الذين تحت السموات، وكان القياس أن يقال: ينفطِرن من تحتهن (أي) من الجهة التي (تحت) جاءت منها الكلمة، ولكن بُولغ في ذلك فجعلت مؤثرة مِنْ جهة الفوقِ، فكأنه قيل: يكون ينفطرن من الجهة التي فوقهنَّ، دع الجهة التي تحتهن.
ونظيره في المبالغة، قوله تعالى: ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود﴾ [الحج: ١٩، ٢٠]. فجعل مؤثراً في أجزائهم الباطنة.
وقال ابن الخطيب: يعني من فوقهن أي من فوق الجهة التي حصلت هذه السموات فيها، وتلك الجهة هي فوق، فقولهن: من فوقهن أي من الجهة الفوقانيَّة التي هُنَّ فيها.
قوله: ﴿والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ فالتسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي والتحميد عبارة عن وصفه بكونه مُفيضاً لكُلِّ الخيرات.
قوله: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض﴾ أي من المؤمنين كما حكى عنهم في سورة المؤمن فقال: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ [غافر: ٧].
فإن قيل: (قوله) : ويستغفرون لمن في الأرض عام، فيدخل فيهم الكفار وقد لعنهم الله تعالى فقال: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [البقرة: ١٦١] فيكف (يكونون) لا عنين لهم ومستغفرين لهم؟! قال ابن الخطيب: والجواب من وجوه:
166
الأول: أنه عام مخصوص بآية المؤمن كما تقدم.
الثاني: أن قوله ﴿لِمَن فِي الأرض﴾ لا يفيد العموم؛ لأنه (لا) يصح أن يقال: إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال: إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ولو كان صريحاً في العموم لما صحَّ ذلك.
الثالث: يجوم أن يكون المراد من الاستغفار أنه لا يُعاجلهم بالعقاب، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ﴾ [فاطر: ٤١] إلى أن قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ [فاطر: ٤١].
الرابع: يجوز أن يقال: إنهم يستغفرون لكل من في الأرض، أما في حق الكفار فبطلب الإيمان لهم وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم فإنا نقول: اللهم أهدش الكفار، وزيِّن قلوبهم بنور الإيمان وأَزِل عن خواطرهم وحشة الكُفْرِ، وهذا استغفار لهم في الحقيقة.

فصل


قال ابن الخطيب: قوله: «ويستغفرون لمن في الأرض» يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم ولو وجد منهم معصية لا ستغفروا لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض، فحيث لم يذكر الله عزَّ وجلَّ استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مُبرَّأُون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم ذنوب، والذين لا ذنب لهم ألبتة أفضل ممن له ذنب، وأيضاً فقثوله: «ويستغفرون لمن في الأرض» يدعل على أنهم يستغفرون للأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لأنهم من جملة مَنْ في الأرض، وإذال كانوا مستغفرين للأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان الظاهر أنهم أفضل منهم. ثم قال تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم﴾ وهذا تنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر، إلا أن المغفرة المُطْلَقة لله تعالى وهذا يدل على أنه تعالى يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة.
قوله: ﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾ أي جعلوا له شركاء وأنداداً الله حفيظٌ عليهم أي رقيب عليهم ويحفظ أعمالهم، وأقوالهم ويُحصيها ليجازيهم بها، ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم﴾ يا محمد «بِوَكِيل» أي لم يوكلك بهم ولا أمرهمه إليك إنَّما أنت مُنذرٌ.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ في قرآناً وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول أوحَيْنَا، والكاف للمصدر نعتاً أو حالاً.
167
الثاني: أنه حال من الكاف، والكاف هي المفعول «لأَوْحَيْنَا» أي أوحينا مثل ذلك الإيحاء، وهو قرآن عربي وإليه عربي وإليه نحا الزمخشري. وكون الكاف اسماً في النثر مذهب الأخفش.

فصل


قال ابن الخطيب: قوله وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً يقتضي تشبيه وحي الله بالقرآن بشيء سبق ذكره، وليس ههنا شيء سبق ذكره يمكن تشبيه وحي القرآن به إلا قوله: ﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ يعني أوحينا إليك أنك لست حفيظاً عليهم ولست وكيلاً عليهم وكذلك أوحينا إلريك قرآناً عربياً ليكون نذيراً لهم.
قوله: ﴿أُمَّ القرى﴾ أي أهلَ أُمِّ القرى؛ لأن البلد لا تعقِلُ.
قوله: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ عطف على أهل المقدر من قبل أم القرى والمفعول الثاني محذوف أي العذاب.
وقرىء: ليُنذر بالياء من تحت أي القرآن، أم القرى أصل القرى بمعنى مكة، وسمي بهذا الاسم إجلالاً؛ لأن فيها البيت ومقامَ إبراهيِم. والعرب تسمي أص لكلٍّ شيء أمةً، حتى يقال: هذه القصيدة من أُمَّهاتِ قصائد فلانٍ ومعنى «مَنْ حَوْلَها» أي قرى الأرض كلها من أهل البدو والحضر وأهل المَدَر والوَبَر. والإنذار: التخويف.
قوله: ﴿وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع﴾ أي تنذرهم بيوم الجمع، وهو يوم القيامة، جمع الله فيه الأولين والآخرين وأهل السموات والأرض. وقيل: المراد تجمع الأرواح بالأجساد.
وقيل: يجمع كبين العامل وعمله وقيل: يجمع بين الظالم والمظلوم.
168
قوله: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ إخبارٌ فهو مستأنف، ويجوز أن يكون حالاً من «يَوْمِ الجَمْعِ» وجعله الزَّمخشري اعتراضاً وهو غير ظاهر صناعة إذ لم يقع بين مُتلازمين.
قوله: «فَرِيقٌ» العامة على رفعه بأحد وجهين:
إمَّا الابتداء، وخبره الجار بعده، وساغ هذا في النكرة، لأنه مقام تفصيل كقوله:
٤٣٧١ -........................ فَثَوْبٌ نَسِيتُ وثَوْبٌ أَجُرٌّ
ويجوز أن يكون الخبر مقدراً تقديره منهم فريق. وساغ الابتداء بالنكرة لشيئين: تقديم خبرها جار ومجروراً ووصفها بالجار بعدها، والثاني: أنه خبر ابتداء مضمر إي هم أي المجموعون، دَلَّ على ذلك يوم الجمع.
وقرأ زيدٌ بن عليٍّ: فريقاً وفريقاً، نصباً على الحال من جملة محذوفة أي افتَرَقُوا أي المجموعون.
وقال مكي: وأجاز الكسائي والفراءُ النصب في الكلام في «فريقاً» على معنى: تُنذر فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير يوم الجمع وكأنه لم يطلع على أنها قراءة.
وظاهر نقله عن هذين الإِمامين أنهما لم يطلعا (عليها) وجعل «فريقاً» مفعولاً أول لتنذر، «ويوم الجمع» مفعولاً ثانياُ.
وفي ظاهره إشكالٌ وهو أنَّ الإنذار لا يقع للفريقين وهما في الجنة وفي السعير إنما يكون الإنذار قبل استقرارهما فيهما. ويمكن أن يُجَابَ عنه بأن المراد مَنْ هو من أهل الجنة ومن أهل السعير، وإن لم يكن حاصلاً فيهما وقت
169
الإنذار، و «فِي الجَنَّةِ» صفة «فَرِيقاً» أو متعلق بذلك المحذوف.
فإن قيل: يوم الجمع يقتضي كون القوم مجتمعين، والجمع بين الصنفين محال!.
فالجواب: أنهم يجتمعون أولاً ثم يصيرون فريقين.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ قال ابن عباس (رضي اللهُ عَنْهُمَا) على دين واحدٍ وقال مقاتل: على ملة الإسلام، كقوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى﴾ [الأنعام: ٣٥] ﴿ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ أي في دين الإسلام «والظَّالِمُونَ» الكافرون ﴿مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ﴾ يرفع عنهم العذاب «وَلاَ نَصِير» يمنعهممن النار وهذا تقرير لقوله تعالى: ﴿حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ أي أنت لا تقدر أن تحملهم على الإيمان فلو شاء الله لفعله؛ لأنه أقدر منك، ولكنه جعل البعض مؤمناً والبعض كافراً.
قوله تعالى: ﴿أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾ أم هذه (هي) أم المنقطعة فتقدر ببل التي للانتقال وبهمزة الإنكار، أو بالهمزة فقط. واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أولاً أنهم اتخذوا من دونه أولياء ثم يقال بعده لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: لَسْتَ عَلَيْهمْ بِوَكِيلٍ أي لا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان فإن الله لو شاء لفعله أعاد ذلك الكلام على سبيل الاستنكار. ثم قال: ﴿فالله هُوَ الولي﴾، قال ابن عباس (رضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) : وليك يا محمد، وولي من اتبعك، والفاء جواب شرط مقدر كأنه قال: إنْ أَرَادُوا أولياء بحق فاللهُ هو الوليّ، لاَ وليَّ سواه؛ لأنه يحيي الموتى ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء قاله الزمخشري. وقيل: الفاء عاطفة ما بعدها على ما قبلها.
قوله تعالى: ﴿وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله﴾ وجه النظم أنه تعالى كما منع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحمل الكفار على الإيمان قهراً فكذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معهم في الخُصُوماتِ والمنازعات فقال: ﴿وَمَا اختلفتم فِيهِ﴾ (من شيء) من أمر الدين فحكمه إلى الله يقضي فيه ويحكم يوم القيامة بالفصل الذي يُزيل الرَّيب، وقيل:
170
وما اختلفتُم فيه من شيء وتنازعتم فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم ولا يُؤْثروا حكومة غيره على حكومته.
وقيل: ما وقع بينكم فيه خلاف من الأمور التي لا يصل تكليفكم ولا ط ريق لكم إلى علمه، فقولوا الله أعلم كما قال تعالى:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: ٨٥].
قوله: ﴿فَحُكْمُهُ إِلَى الله﴾ إما أن يكون المراد فحكمه مستفاد من نص الله عليه، أو المراد فحكمه مستفاد من القياس على مان نص الله عليه، والثاني باطل، لأنه يقتضي كون كل الأحكام مثتبة بالقياس وأنه باطل فتعين الأول، فوجب كون كل الأحكام مثبتة بالمعنى، وذلك ينفي العمل بالقياس.
فإن قيل: لايجوز أن يكون المراد فحكمه معروف من بيا الله تعالى سواء كان ذلك البيان بالنص أو القياس؟.
فالجواب: أن المقصود من التحاكم إلى الله قطع الاختلاف والرجوع إلى القياس يقوي حكم الاختلاف ولا يوضحه فوجب أن يكون الواجب هو الرجوع إلى نص الله تعالى.
قوله: ﴿ذَلِكُمُ الله﴾ أي الذي يحكم بين المختلفين ﴿رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ في رفع كيد الأعداء وفي طلب كُل خير ﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ أي أرجع إليه في كل المهمات، وهذا يفليد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه.
171
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:قوله تعالى :«حم عسق » تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح١.
وسئل الحُسينُ بنُ الفضل : لم قطع حم عسق ولم يقطع كهيعص٢ فقال : لأنها سور أوائلها «حم » فجرت مجرى نظائرها. كأنَّ «حم » مبتدأ و«عسق » خبره، ولأنهما عدا آيتين وأخواتها مثل : كهيعص، والمص والمر عدت آية واحدة٣. وقيل : لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص، وأخواتها، لأنها حروف التهجي لا غير٤.
واختلفوا في «حم » فأخرجها بعضهم من حيِّز الحروف، وجعلها فعلاً. وقيل : معناه حُمَّ أي قضي ما هو كائن٥. روى عكرمة عن ابن عباس ( رضي الله٦ عنهما ) أنه قال :«ح » حلمه «م » مجده «ع » علمه، «س » سناؤه، «ق » قدرته أقسم الله بها. وقال شهرُ بن حوشب وعطاءُ بن أبي رباح :«ح » حرب يعِزُّ فيها الذليل ويذلُّ فيها العزيز من قريش «م » ملكُ يتحول مِنْ قوم إلى قوم «ع » عدوٌّ لقريش يقصدهم «س » سبيٌ يكون فيهم «ق » قُدرةُ الله النافذة في خلقه ؛ ورُوِيَ عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أنه قال : ليس من نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحيت إليه حم عسق فلذلك قال : يُوحى إليك وإلى الَّذِين من قبلك وعلى هذا فقوله ﴿ الله العزيز الحكيم ﴾ تبيين للفاعل كأنه قال : من يوحي ؟ فقيل : الله العزيزُ الحكيم٧ كما سيأتي. وقرأ ابنُ عباس وابنُ مسعود حمَ سَق٨.
١ انظر أول العنكبوت..
٢ الأولى من مريم..
٣ والذي سأل الحسين بن الفضل عبد المؤمن. القرطبي ١٦/١..
٤ البغوي ٦/١١٦..
٥ حكاه القرطبي عن القشيري المرجع السابق..
٦ زيادة من أ..
٧ ذكر هذه الأقوال القرطبي في مرجعه السابق والبغوي في معالم التنزيل في المرجع السابق أيضا..
٨ من القراءة الشاذة غير المتواترة ذكرها الزمخشري في الكشاف ٣/٤٥٩ والقرطبي في الجامع ١٦/١ و٢ وابن خالويه في المختصر ١٣٤..


جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
الكاف في «كَذَلِكَ» معناه المثل و «ذَا» للإشارة إلى شيء سبق ذكره فيكون المعنى مثل حم عسق يوحي إليك وإلى الذين من قبلك، وعند هذا حصل قولان :
أحدهما : ما نقل عن ابن عباس ( رضي الله١ عنهما ) أنه قال : لا نبي صابح كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عسق كما تقدم.
قال ابن الخطيب :«وهذا عندي بعيد»٢.
والثاني : أن يكون مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحى إليك وإلى الذين من قبلك، وهذه المماثلة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والنبوة والمعاد، وتقبيح أحوال الدنيا، والترغيب في أمور الآخرة٣.
قال الزمخشري : لم يقل : أُوحِيَ إليك ولكن قال : يوحى إليك على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء٤ مثله عادة٥ وكونه عزيزاً بدل على كونه قادراً على ما لانهاية له وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجيات كما تقدم بيناه في أول سورة «حم» المؤمن.

قوله :«كَذَلِكَ يُوحِي » القراء على يوحي بالياء من أسفل مبنيًّا للفاعل، وهو الله تعالى، والعزيز الحكيم نعتان، والكاف منصوبة المحل١ إما نعتاً لمصدر، أو حالاً من ضميره، أي يوحي إيحاءً مثل ذلك الإيحاء.
وقرأ ابن كثير وتُرْوَى عن أبي عمرو يُوحَى بفتح الحاء مبنياً للمجهول٢ وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :
أحدها : ضمير مستتر يعود على كذلك، لأنه مبتدأ، والتقدير مثلُ ذلك الإيحاء يُوحَى هو إليك. «فمِثْلُ ذَلِك » مبتدأ، و«يُوحَى إِلَيْكَ » خبره.
الثاني : أن القائم مقام الفاعل «إليك » والكاف منصوبة المحل على الوجهين المتقدمين.
الثالث : أن القائم مقامه الجملة من قوله «اللهُ العزيزُ » أي يُوحى إليك هذا اللفظُ٣. وأصول البصريين لا تساعد عليه٤ ؛ لأن الجملة لا تكون فاعلةً ولا قائمةً مقامه. وقرأ أبو حيوة والأعمش وأبان نُوحي بالنون٥ وهي موافقة العامة. ويحتمل أن تكون الجملة من قوله :﴿ الله العزيز الحكيم ﴾ منصوبة المحل مفعولة بنُوحي أي نُوحِي إليك هذا اللفظ، إلا أنَّ فيه حكاية الجملة بغير القول الصريح٦.
و«يُوحِي » على اختلاف قراءته يجوز أن يكون على بابه من الحال والاستقبال فيتعلق قوله :﴿ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ ﴾ بمحذوف لتعذر ذلك تقديره :«وأُوحِي إلى الذَّين٧ من قَبْلِكَ » وأن يكون بمعنى الماضي، وجيء به على صورة المضارع لغرضٍ وهو تصوير الحال٨.
قوله :«اللهُ العَزيزُ » يجوز أن يرتفع بالفاعلية في قراءة العامة، وأن يرتفع بفعل مضمر في قراءة ابن كثير كأنه قيل : من يوحيه ؟ فقيل : اللهُ العزيزُ، كقوله تعالى :﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ ﴾ [ النور : ٣٦، ٣٧ ] وقوله :
٤٣٧٠ لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ٩ ***. . .
وقد مرَّ. وأن يرتفع بالابتداء، وما بعده خبره، والجملة قائمة مقام الفاعل على ما مر، وأن يكون «العَزِيزُ الحَكِيمُ » خبرين، أو نعتين،
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
الكاف في «كَذَلِكَ» معناه المثل و «ذَا» للإشارة إلى شيء سبق ذكره فيكون المعنى مثل حم عسق يوحي إليك وإلى الذين من قبلك، وعند هذا حصل قولان :
أحدهما : ما نقل عن ابن عباس ( رضي الله١ عنهما ) أنه قال : لا نبي صابح كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عسق كما تقدم.
قال ابن الخطيب :«وهذا عندي بعيد»٢.
والثاني : أن يكون مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحى إليك وإلى الذين من قبلك، وهذه المماثلة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والنبوة والمعاد، وتقبيح أحوال الدنيا، والترغيب في أمور الآخرة٣.
قال الزمخشري : لم يقل : أُوحِيَ إليك ولكن قال : يوحى إليك على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء٤ مثله عادة٥ وكونه عزيزاً بدل على كونه قادراً على ما لانهاية له وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجيات كما تقدم بيناه في أول سورة «حم» المؤمن.


١ انظر التبيان ١١٣٠..
٢ السبعة ٥٨٠ والإتحاف ٣٨٢ ومعاني القرآن للفراء ٣/٢١ وهي قراءة متواترة..
٣ أخذ المؤلف هذا من التبيان لأبي البقاء ١١٣٠..
٤ في ب إليه. وقد اختلف في الإسناد إلى الجملة على مذاهب، أصحها: المنع فلا يكون فاعلا، ولا نائبا عنه، والثاني: الجواز، لوروده في قوله تعالى: ﴿ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه﴾ فأجازوا: يعجبني يقوم زيد، وظهر لي أقام زيد أم عمرو، وأجيب: بأن الفاعل في الآية ضمير البداء المفهوم من بدا أو ضمير السجن المفهوم من الفعل. والثالث: يجوز أن يقع فاعلا أو نائبا عنه لفعل من أفعال القلوب إذا علق، نحو ظهر لي أقام زيد أم عمرو، وعلم أقام بكر أم خالد، بخلاف نحو: يسرني خرج عبد الله فلا يجوز. ونسب هذا لسيبويه انظر الهمع ١/١٦٤..
٥ البحر المحيط ٧/٥٠٨ وابن خالويه ١٣٤ وهي فيه الشواذ..
٦ أقول قد يحكى بالقول وتصريفه الجمل ولا يحلق بت معناه خلافا للكوفيين وابن عصفور، فيوحي هنا معنى من معاني القول مرجح عند الكوفيين وممتنع عند البصريين (بتصرف من الهمع ١/١٥٦)..
٧ انظر البحر المحيط ٧/٥٠٨..
٨ بالمعنى من الكشاف ٣/٤٥٩، وباللفظ من الدر المصون ٤/٧٤٢..
٩ صدر بيت من الطويل عجزه:
ومختبط مما تطيح الطوائح
وهو لضرار بن نهشل يرثي يزيد بن نهشل. وشاهده: رفع "ضارع" حيث رفع بفعل مقدر أي يبكيه ضارع أي ذليل ومسكين. و "مختبط" محتاج. أقول: وهذا البيت مما اختلف في نسبته. فقد نسبه العيني لنهشل بن حري النهشلي والثعلبي إلى الحارث بن نهيك، والنيلي لضرار النهشلي، وبعضهم لمزرد، وأبو عبيدة لمهلهل، وقد تقدم..

والجملة من قوله :﴿ لَهُ مَا فِي السماوات ﴾ خبر أول أو ثانٍ على حسب ما تقدم في «العَزِيزِ الحَكِيم ». وجوَّز أبو البقاء يكون «العَزِيزُ » مبتدأ، و«الحكيم » خبره، أو نعته و﴿ لَهُ مَا فِي السماوات ﴾ خبره.
وفيه نظر ؛ إذا الظاهر تبعيَّتُها للجلالة. وأنت إذا قلت :«جَاءَ زَيْدٌ العَاقِلُ الفَاضِلُ » لا تجعل العامل مرفوعاً على الابتداء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
الكاف في «كَذَلِكَ» معناه المثل و «ذَا» للإشارة إلى شيء سبق ذكره فيكون المعنى مثل حم عسق يوحي إليك وإلى الذين من قبلك، وعند هذا حصل قولان :
أحدهما : ما نقل عن ابن عباس ( رضي الله١ عنهما ) أنه قال : لا نبي صابح كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عسق كما تقدم.
قال ابن الخطيب :«وهذا عندي بعيد»٢.
والثاني : أن يكون مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحى إليك وإلى الذين من قبلك، وهذه المماثلة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والنبوة والمعاد، وتقبيح أحوال الدنيا، والترغيب في أمور الآخرة٣.
قال الزمخشري : لم يقل : أُوحِيَ إليك ولكن قال : يوحى إليك على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء٤ مثله عادة٥ وكونه عزيزاً بدل على كونه قادراً على ما لانهاية له وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجيات كما تقدم بيناه في أول سورة «حم» المؤمن.


وقوله :﴿ لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ يدل على كونه موصوفاً بالقدرة الكاملة النافذة في جميع أجواء٦ السموات والأرض على عظمها وسعتها بالإيجاد والإعلام وأن ما في السموات وما في الأرض ملكه وملكه، وهو٧ العَلِيّ أي المتعالي عن مُشابهةِ المُمْكِنَات العظيم بالقدرة والقهر والاستعلاء.
٦ في ب والرازي أجزاء وهو الأصح..
٧ أخذ المؤلف كلام الرازي بتغيير وتبديل، ولعل هذا من النساخ ففي الرازي: "... أن كل ما في السماوات وما في الأرض فهو ملكه وملكه وجب أن يكون منزها عن كونه حاصلا في السماوات وفي الأرض وإلا لزم كونه ملكا لنفسه" الرازي ٢٧/١٤٢، ١٤٣..
قوله تعالى :﴿ تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ ﴾ تقدم الكلام فيه مُشْبعاً في مريم١، وإلا أن الزمخشري زاد هنا وروى يونس عن أبي عمرو قراءةً غريبةً تتفطَّرن بتاءين مع النون. ونظيرها حرف نادر، رُوِيَ في نوادر ابن الأعرابي :«الإِبل تتشمَّمْنَ »٢.
قال أبو حيان : والظاهر أن هذا وهمٌ، لأن ابن خالويه قال في شاذِّ القرآن ما نصه «تَنْفَطِرْنَ » بالتاء والنون يُونسُ عن أبي عمرو٣.
قال ابن خالويه : وهذا حرف نادر ؛ لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث٤ لا يقال : النساء تقُمْنَ، ولكن يَقُمْنَ، والوالِدَاتُ يُرْضِعنَ ولا يقال : تُرضِعن. وقد كان أبو عمر الزَّاهِدُ٥ روى في نوادر ابن الأعرابي : الإبل تتشمَّمْنَ٦ فأنكرناه، فقد قواه الآن هذا٧.
قال أبو حيان : فإن كانت نسخُ الزمخشري متفقةً على قوله : بتاءين مع النون فهو وهم، وإن كان في بعضها بتاء مع النون كان موافقاً لقول ابن خالويه وكان بتاءين تحريفاً من النساخ وكذلك كتبهم تتفطَّرن وتَتشمَّمْنَ بتاءين. انتهى٨.
قال شهاب الدين : كيف يستقيم أن يكو( ن )٩ كتبهم تتشمَّمن بتاءين وهماً وذلك لأن ابن خالويه أورده في معرض الندرة والإنكار حتى يقوى عنده بهذه القراءة، وإنما يكون نادراً منكراً بتاءين، فإنه حينئذ يكون مضارعاً مسنداً لضمير الإبل، فكان من حقه أن يكون حرف مضارعته ياء منقوطة من أسفل، نحو : النِّساءُ يقُمن فكان ينبغي أن يقال : الإبل يتشمَّمن بالياء من تحت ثم بالتاء من فوق، فلما جاء بتاءين كلاهما من فوق ظهر نُدُوره وإنكاره، ولو كان على ما قال أبو حيان : إن كتبهم بتاءين وهماً بل كان ينبغي كتبه بتاء واحدة لما كان فيه شذوذ ولا إنكار، لأنه نظير : النِّسوة تدحرجْنَ فإنه ماض مسندٌ لضمير الإناث، وكذا لو كتبت بياء من تحت وتاء من فوق لم يكن فيه شذوذ، ولا إنكار.
وإنما يجيء الشذوذ والإنكار إذا كان بتاءين منقوطتين من فوق، ثم إنه سواء قرئ تتفطَّرن بتاءين أو بياء ونون، فإنه نادر لما ذكر ابن خالويه، وهذه القراءة لم يقرأ بها في نظيرتها في سورة مريم١٠.
قوله :﴿ مِنْ فَوْقِهِنَّ ﴾ في هذا الضمير ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عائد على السموات، أي كل واحدة منها تتفطَّرُ فوق التي تليها١١ من قول المشركين :﴿ اتخذ الله وَلَداً ﴾ [ الكهف : ٤ ] كما في سورة مريم، أي يبتدئ انفطارهُنَّ من هذه الجهة «فِمَنْ » لابتداء الغاية متعلقة بما قبلها١٢.
الثاني : أنه يعود على الأرضين ؛ لتقدم ذكر الأرض١٣.
الثالث : أنه يعود على فرق١٤ الكفار والجماعات الملحدين١٥. قاله الأخفش الصغير١٦. وأنكره مكي وقال لا يجوز ذلك في المذكور من بني آدم١٧، وهذا لا يلزم الأخفش فإنه قال على الفرق والجماعات فراعى ذلك المعنى.

فصل


قال الزمخشري : كلمة الكفر إنَّما جاءت من الذين تحت السموات، وكان القياس أن يقال : ينفطِرن من تحتهن ( أي )١٨ من الجهة التي ( تحت )١٩ جاءت منها الكلمة، ولكن بُولغ في ذلك فجعلت مؤثرة مِنْ جهة الفوقِ، فكأنه قيل : يكون ينفطرن من الجهة التي فوقهنَّ، دع الجهة التي تحتهن.
ونظيره في المبالغة، قوله تعالى :﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود ﴾ [ الحج : ١٩، ٢٠ ]. فجعل مؤثراً في أجزائهم الباطنة٢٠.
وقال ابن الخطيب : يعني من فوقهن أي من فوق الجهة التي حصلت هذه السموات فيها، وتلك الجهة هي فوق، فقولهن : من فوقهن أي من الجهة الفوقانيَّة التي هُنَّ فيها٢١.
قوله :﴿ والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾ فالتسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي والتحميد عبارة عن وصفه بكونه مُفيضاً لكُلِّ الخيرات.
قوله :﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض ﴾ أي من المؤمنين كما حكى عنهم في سورة المؤمن فقال :﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ [ غافر : ٧ ].
فإن قيل :( قوله )٢٢ : ويستغفرون لمن في الأرض عام، فيدخل فيهم الكفار وقد لعنهم الله تعالى فقال :﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ [ البقرة : ١٦١ ] فيكف ( يكونون )٢٣ لاعنين لهم ومستغفرين لهم ؟ ! قال ابن الخطيب : والجواب من وجوه :
الأول : أنه عام مخصوص بآية المؤمن كما تقدم.
الثاني : أن قوله ﴿ لِمَن فِي الأرض ﴾ لا يفيد العموم ؛ لأنه ( لا )٢٤ يصح أن يقال : إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال : إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ولو كان صريحاً في العموم لما صحَّ ذلك.
الثالث : يجوز ن يكون المراد من الاستغفار أنه لا يُعاجلهم بالعقاب، كما في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ ﴾ [ فاطر : ٤١ ] إلى أن قال :﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ [ فاطر : ٤١ ].
الرابع : يجوز أن يقال : إنهم يستغفرون لكل من في الأرض، أما في حق الكفار فبطلب الإيمان لهم وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم فإنا نقول : اللهم أهد الكفار، وزيِّن قلوبهم بنور الإيمان وأَزِل عن خواطرهم وحشة الكُفْرِ، وهذا استغفار لهم في الحقيقة٢٥.

فصل


قال ابن الخطيب : قوله :«ويستغفرون لمن في الأرض » يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم ولو وجد منهم معصية لاستغفروا لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض، فحيث لم يذكر الله عزَّ وجلَّ استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مُبرَّأُون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم ذنوب، والذين لا ذنب لهم ألبتة أفضل ممن له ذنب، وأيضاً فقوله :«ويستغفرون لمن في الأرض » يدل على أنهم يستغفرون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم من جملة مَنْ في الأرض، وإذا كانوا مستغفرين للأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان الظاهر أنهم أفضل منهم. ثم قال تعالى :﴿ أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم ﴾ وهذا تنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر، إلا أن المغفرة المُطْلَقة لله تعالى وهذا يدل على أنه تعالى يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة٢٦.
١ من الآية ٩٠ من مريم: ﴿تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض﴾ فقد قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة "تكاد" بالتاء "يتفطرن" بالياء وبعدها تاء، وكذلك حفص عن عاصم إلا في رواية هبيرة عنه "ينفطرن" بالنون مثل أبي عمرو بالإضافة إلى القراءات الشاذة التي ذكرها أعلى..
٢ الكشاف ٣/٤٥٩ والذي في الكشاف: تشممن بتاء واحد وميمين والصواب ما أتى بت المؤلف حتى يتحقق الشاهد..
٣ البحر المحيط ٥٠٨/٧..
٤ تاء التأنيث الأولى، ونون النسوة..
٥ محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم المعروف بغلام ثعلب والملقب بالزاهد من أكابر أئمة اللغة والنحو أخذ عن ثعلب. انظر إنباه الرواة ٣/١٧١: ١٧٧..
٦ في مختصر ابن خالويه (تسمن) بالسين والنون المشددة..
٧ انظر مختصر ابن خالويه ١٣٤ والبحر المحيط ٧/٥٠٨..
٨ قاله في البحر المحيط ٧/٥٠٨..
٩ النون من تكون سقطت من ب..
١٠ انظر هذا كله للسمين في الدر المصون ٤/٧٤٣..
١١ بالمعنى من الكشاف ٣/٤٦٠ وباللفظ من الدر المصون ٤/٧٢٤..
١٢ المرجعين السابقين..
١٣ نقله أبو حيان عن الحوفي في البحر المحيط ٧/٥٠٨..
١٤ في ب فريق..
١٥ المرجع السابق..
١٦ هو علي بن سليمان بن الفضل أخذ عن المبرد وثعلب وغيرهما توفي ببغداد سنة ٣١٥ هـ. انظر إنباه الرواة للقفطي ٢/٢٧٦ ـ ٢٧٨ ونشأة النحو ١٥٢، وانظر رأيه في البحر المرجع السابق..
١٧ البحر المرجع السابق ولم أجده في مشكل الإعراب له..
١٨ أي زائدة من النسخ عن الكشاف..
١٩ ساقطة من الكشاف..
٢٠ الكشاف ٣/٤٦٠..
٢١ تفسيره ٢٧/١٤٤..
٢٢ ساقطة من أ الأصل..
٢٣ ساقطة من ب..
٢٤ زيادة من ب..
٢٥ وانظر في هذا كله تفسير الرازي ٢٧/١٤٥..
٢٦ بالمعنى من الفخر الرازي ٢٧/١٤٥ و١٤٦..
قوله :﴿ والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ﴾ أي جعلوا له شركاء وأنداداً الله حفيظٌ عليهم أي رقيب عليهم ويحفظ أعمالهم، وأقوالهم ويُحصيها ليجازيهم بها، ﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم ﴾ يا محمد «بِوَكِيل » أي لم يوكلك بهم ولا أمرهم إليك إنَّما أنت مُنذرٌ١.
١ السابق..
قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾ في قرآناً وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول أوحَيْنَا١، والكاف للمصدر نعتاً أو حالاً.
الثاني : أنه حال من الكاف، و الكاف هي المفعول «لأَوْحَيْنَا » أي أوحينا مثل ذلك الإيحاء، وهو قرآن عربي وإليه نحا الزمخشري٢. وكون الكاف اسماً في النثر٣ مذهب الأخفش٤.

فصل


قال ابن الخطيب : قوله ﴿ وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً ﴾ يقتضي تشبيه وحي الله بالقرآن بشيء سبق ذكره، وليس ههنا شيء سبق ذكره يمكن تشبيه وحي القرآن به إلا قوله :﴿ والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾ يعني أوحينا إليك أنك لست حفيظاً عليهم ولست وكيلاً عليهم وكذلك أوحينا إلريك قرآناً عربياً ليكون نذيراً لهم٥.
قوله :﴿ أُمَّ القرى ﴾ أي أهلَ٦ أُمِّ القرى ؛ لأن البلد لا تعقِلُ٧.
قوله :﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ عطف على أهل المقدر من قبل أم القرى والمفعول الثاني محذوف أي العذاب٨.
وقرئ : ليُنذر - بالياء من تحت - أي القرآن٩، وأم القرى أصل القرى بمعنى مكة، وسمي بهذا الاسم إجلالاً ؛ لأن فيها البيت ومقامَ إبراهيِم. والعرب تسمي أصل كلٍّ شيء أمةً، حتى يقال : هذه القصيدة من أُمَّهاتِ قصائد فلانٍ ومعنى «مَنْ حَوْلَها » أي قرى الأرض كلها من أهل البدو والحضر وأهل المَدَر والوَبَر. والإنذار : التخويف١٠.
قوله :﴿ وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع ﴾ أي تنذرهم بيوم الجمع، وهو يوم القيامة، جمع الله فيه الأولين والآخرين وأهل السموات والأرض. وقيل : المراد تجمع الأرواح بالأجساد.
وقيل : يجمع كبين العامل وعمله وقيل : يجمع بين الظالم والمظلوم١١.
قوله :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ إخبارٌ فهو مستأنف، ويجوز أن يكون حالاً من «يَوْمِ الجَمْعِ » وجعله الزَّمخشري اعتراضاً١٢ وهو غير ظاهر صناعة إذ لم يقع بين مُتلازمين١٣.
قوله :«فَرِيقٌ » العامة على رفعه بأحد وجهين :
إمَّا الابتداء، وخبره الجار بعده، وساغ هذا في النكرة، لأنه مقام تفصيل كقوله :
٤٣٧١. . . . . . . . . . . . . . . فَثَوْبٌ نَسِيتُ وثَوْبٌ أَجُرٌّ١٤
ويجوز أن يكون الخبر مقدراً تقديره منهم فريق١٥. وساغ الابتداء١٦ بالنكرة لشيئين : تقديم خبرها جار ومجروراً ووصفها بالجار بعدها، والثاني : أنه خبر ابتداء مضمر أي هم أي المجموعون، دَلَّ على ذلك يوم الجمع.
وقرأ زيدٌ بن عليٍّ : فريقاً وفريقاً، نصباً١٧ على الحال من جملة محذوفة أي افتَرَقُوا أي المجموعون.
وقال مكي : وأجاز الكسائي والفراءُ١٨ النصب في الكلام في «فريقاً » على معنى : تُنذر فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير يوم الجمع١٩ وكأنه لم يطلع على أنها قراءة٢٠.
وظاهر نقله عن هذين الإِمامين أنهما لم يطلعا ( عليها )٢١ وجعل «فريقاً » مفعولاً أول لتنذر، «ويوم الجمع » مفعولاً ثانياُ.
وفي ظاهره إشكالٌ وهو أنَّ الإنذار لا يقع للفريقين وهما في الجنة وفي السعير إنما يكون الإنذار قبل استقرارهما فيهما. ويمكن أن يُجَابَ عنه بأن المراد مَنْ هو من أهل الجنة ومن أهل السعير، وإن لم يكن حاصلاً فيهما وقت الإنذار، و«فِي الجَنَّةِ » صفة «فَرِيقاً » أو متعلق بذلك المحذوف٢٢.
فإن قيل : يوم الجمع يقتضي كون القوم مجتمعين، والجمع بين الصنفين محال !.
فالجواب : أنهم يجتمعون٢٣ أولاً ثم يصيرون فريقين.
١ قاله أبو حيان في البحر ٧/٥٠٩ والسمين في الدر ٤/٧٤٤..
٢ الكشاف ٣/٤٦١..
٣ في ب البين تحريف ولحن..
٤ والفارسي وجماعة، وهذه الكاف الاسمية لا تقع كذلك عند سيبويه والمحققين إلا في الضرورة كقوله:
بيض ثلاث كنعاج جم يضحكن عن كالبرد المنهم
أما الأخفش والفارسي وجماعة فجوزوا ذلك في الاختيار. بتصرف من المغني ١٨٠..

٥ الفخر الرازي ٢٧/١٤٧..
٦ فهو مجاز عقلي كقوله تعالى: ﴿واسأل القرية﴾ وكذلك ههنا..
٧ في ب لا يعقل بتذكير عائد على البلد وهما جائزان..
٨ بالمعنى من كشاف الزمخشري ٣/٤٦١..
٩ السابق ولم ينسبها الزمخشري إلى من قرأ بها. وانظر أيضا الدر المصون ٤/٧٤٤..
١٠ نقله الرازي في تفسيره ٢٧/١٤٧..
١١ قال بالأول البغوي ٦/١١٧ وبالأقوال مجتمعة الرازي المرجع السابق..
١٢ قال في الكشاف: اعتراض لا محل له. الكشاف ٣/٤٦١..
١٣ كالمبتدأ والخبر والفعل وفاعله والفعل ومفعوليه أو مفعوله الخ..
١٤ عجز بيت من المتقارب لامرئ القيس صدره:
فلما دنوت تسديتها .........................................
ويروى: فأقبلت زحفا على الركبتين، كما يروى: "لبست" بدل "نسيت" رواية المؤلف والبيت في معنى الفحش الجاهلي. والشاهد: فثوب نسيت... الخ، حيث ابتدأ الشاعر بنكرة وجاز لمسوغ من المسوغات وهو وجود التفصيل. وانظر الديوان ١٥٩، والمغني ٤٧٢، وشرح الرضي على الكافية ١/٩٢ والكتاب ١/٨٦، والمحتسب ٢/١٢٤، والخزانة ١/٣٧٣، ٣٧٥، وابن عقيل ٣٤، وأمالي الشجري ١/٩٣ كما ورد بالمغني أيضا ٦٣٣..

١٥ في ب فريق منهم عكسا وهو خطأ بالطبع فلا مسوغ حينئذ وانظر في هذا التقدير الأعلى أبا البقاء في التبيان ١١٣٠ والزمخشري ٢/٤٦١..
١٦ في ب الأخذ بدل الابتداء..
١٧ ذكرها أبو حيان في البحر ٧/٥٠٩..
١٨ قال في معاني القرآن له قوله: فريق في الجنة وفريق في السعير رفع بالاستئناف كقولك: رأيت الناس شقي وسعيد، ولو كان فريقا في الجنة وفريقا في السعير كان صوابا والرفع أجود في العربية. معاني الفراء ٣/٢٢..
١٩ انظر مشكل الإعراب لمكي ٢/٢٧٦..
٢٠ انظر مشكل الإعراب لمكي ٢/٢٧٦..
٢١ سقط من ب..
٢٢ انظر الدر ٤/٧٤٥..
٢٣ الكشاف ٣/٤٦١..
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ قال ابن عباس ( رضي اللهُ عَنْهُمَا )١ على دين واحدٍ وقال مقاتل : على ملة الإسلام، كقوله :﴿ وَلَوْ شَاءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى ﴾ [ الأنعام : ٣٥ ] ﴿ ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾ أي في دين الإسلام «والظَّالِمُونَ » الكافرون ﴿ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ ﴾ يرفع عنهم العذاب «وَلاَ نَصِير » يمنعهم من النار٢ وهذا تقرير لقوله تعالى :﴿ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾ أي أنت لا تقدر أن تحملهم على الإيمان فلو شاء الله لفعله ؛ لأنه أقدر منك، ولكنه جعل البعض مؤمناً والبعض كافراً٣.
١ زيادة من أ..
٢ وانظر هذه الآراء في البغوي والخازن ٦/١١٧..
٣ الرازي ٢٧/١٤٨..
قوله تعالى :﴿ أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ﴾ أم هذه ( هي )١ أم المنقطعة فتقدر ببل التي للانتقال وبهمزة الإنكار٢، أو بالهمزة فقط٣. واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أولاً أنهم اتخذوا من دونه أولياء ثم قال بعده لمحمد عليه الصلاة والسلام : لَسْتَ عَلَيْهمْ بِوَكِيلٍ أي لا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان فإن الله لو شاء لفعله أعاد ذلك الكلام على سبيل الاستنكار. ثم قال :﴿ فالله هُوَ الولي ﴾، قال ابن عباس ( رضِيَ اللهُ عَنْهُمَا )٤ : وليك يا محمد، وولي من اتبعك، والفاء جواب شرط مقدر٥ كأنه قال : إنْ أَرَادُوا أولياء بحق فاللهُ هو الوليّ، لاَ وليَّ سواه ؛ لأنه يحيي الموتى ﴿ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء قاله الزمخشري٦. وقيل : الفاء عاطفة ما بعدها على ما قبلها.
١ زيادة لتوضيح السياق..
٢ قال بالوجهين أبو حيان في البحر ٧/٥٠٩..
٣ الزمخشري في الكشاف ٣/٤٦١..
٤ زيادة من أ..
٥ وهي ما تسمى بفاء الفصيحة..
٦ بتوضيح وتفصيل لكلامه في الكشاف ٣/٤٦١..
قوله تعالى :﴿ وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله ﴾ وجه النظم أنه تعالى كما منع١ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحمل الكفار على الإيمان قهراً فكذلك منع٢ المؤمنين أن يشرعوا معهم في الخُصُوماتِ والمنازعات فقال :﴿ وَمَا اختلفتم فِيهِ ﴾ ( من شيء )٣ من أمر الدين فحكمه إلى الله يقضي فيه ويحكم يوم القيامة بالفصل الذي يُزيل الرَّيب، وقيل : وما اختلفتُم فيه من شيء وتنازعتم فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم ولا يُؤْثروا حكومة غيره على حكومته٤.
وقيل : ما وقع بينكم فيه خلاف من الأمور التي لا يصل تكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه، فقولوا الله أعلم كما قال تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [ الإسراء : ٨٥ ].
قوله :﴿ فَحُكْمُهُ إِلَى الله ﴾ إما أن يكون المراد فحكمه مستفاد من نص الله عليه، أو المراد فحكمه مستفاد من القياس على ما نص الله عليه، والثاني باطل، لأنه يقتضي كون كل الأحكام مثتبة بالقياس وأنه باطل فتعين الأول، فوجب كون كل الأحكام مثبتة بالمعنى، وذلك ينفي العمل بالقياس.
فإن قيل : لا يجوز أن يكون المراد فحكمه معروف من بيان الله تعالى سواء كان ذلك البيان بالنص أو القياس ؟.
فالجواب : أن المقصود من التحاكم إلى الله قطع الاختلاف والرجوع إلى القياس يقوي حكم الاختلاف ولا يوضحه فوجب أن يكون الواجب هو الرجوع إلى نص الله تعالى.
قوله :﴿ ذَلِكُمُ الله ﴾ أي الذي يحكم بين المختلفين ﴿ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ في رفع كيد الأعداء وفي طلب كُل خير ﴿ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ أي أرجع إليه في كل المهمات، وهذا يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه٥.
١ في ب يمنع وهو مخالف لما في الرازي ففيه منع..
٢ في ب يمنع وهو مخالف لما في الرازي ففيه منع..
٣ سقط من ب..
٤ قاله أبو حيان والرازي في مرجعيهما السابقين..
٥ ذكر كل هذا الإمام الفخر الرازي ٢٧/١٤٩..
قوله تعالى: ﴿فَاطِرُ السماوات والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير﴾.
171
قوله تعالى: «فاطر» العامة على رفعه خبراً «لذلكم»، أو نعتاً «لربي» على محض إضافته و «عليه توكلت» معترض على هذا، أو مبتدأ خبره «جعل لكم» أو خبر مبتدأ مضمر أي هو.
وقرأ زيد بن على «فاطِر» بالجر، نعتاً للجلالة في قوله: «إلَى اللهِ» وما بينهما اعتراض أو بدل من الهاء في «عَلَيْهِ» أو «إلَيْهِ».
وقال مكيُّ: وأجار الكسائي النصب على البدلِ، وقال غيره: على المدح ويجوز في الكلام الخفض على البدل من الهاء كأنه لم يطلع على أنها قراءة زيد بن علي.
قوله: ﴿جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً﴾ قيل: معناه: جعل لكم من أنفسكم أزواجاً أي مثل خلقكم، وأزواجاً أي حلائل، وقيل معنى من أنفسكم أي خلق حوّاء نم ضِلع آدم، ﴿وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً﴾ أي أصنافاً ذكوراً وإناثاً.
قوله: ﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ أي يكثركم. وقوله: «فيه» يجوز أن تكون «في» عَلَى بَابها، والمعنى يكثركم في هذا التدبير، وهو أن يجعل الناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد. والضمير في «يذرأكم» للمخاطبين والأنعام، إلا أنه غلب فيه العقلاء من وجهين:
أحدهما: أن غلب فيه جانب العقلاء على غير العقلاء.
الثاني: أنه غلب جانب المخاطبين على الغائبين.
قال الزمخشري: وهي من الأحكام ذات العلَّتين. قال أبو حيان: وهو اصطلاح غريب يعني أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا. ثم قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى يذرأكم في هذا التدبير وهلا قيل: يذرأكم به؟ قلت: حعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير، ألا تراك تقول للحيوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩]. وقيل: إنها للسببيّة كالباء أي
172
يكثركم بسببه، والضمير يعود على الجعل أو للمخلوق.
وقيل: يذرأكم فيه أي يخلقكم في الرحم. وقيل: في البطن.
قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ في هذه الآية أوجه:
أشهرها: أن الكاف زائدة في خبر ليس، و «شيء» اسمها، والتقدير: ليس شيءٌ مثله. قالوا: ولولا ادعاء زيادتها للزم أن يكون له مثل، وهو محال؛ إذ يصير التقدير على أصالة الكاف: ليبس (مِثْلَ) مثله شيء فنفى المماثلة عن مثله، فثبت أن له مثلاً لا مثل لذلك المثل، وهذا محال تعالى الله عن ذلك.
وقال أبو البقاء: لو لم تكن زائدة، لأفضى ذلك إلى المحال؛ إذ كان (يكون) المعنى أن له مثلاً وليس لمثله مثل، وفي ذلك تناقض؛ لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل وهو هو، مع أن إثبات المثل لله تعالى محال.
وهذه طريقة حسنة في تقرير زيادة الكاف، وفيها حسن صناعةٍ.
الثاني: أن «مثل» هي الزائدة كزيادتها في قوله تعالى: ﴿بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ [البقرة: ١٣٧] قال الطبريُّ: كما زيدت الكاف في قوله:
٤٣٧٢ - وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفِينْ...
173
وفي قوله:
٤٣٧٣ - فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُول... وهذا ليس بجيد، لأن زيادة الأسماء ليست بجائزة، وأيضاً يصير التقدير: ليس كهو شيء. ودخول الكاف على الضمائر لا يجوز إلا في شعر.
الثالث: أن العرب تقول: «مِثْلُكَ لاَ يَفْعَلُ كَذَا» يعنون المخاطب نفسه؛ لأنهم يريدون المبالغة في نفي الوصف عن المخاطب فينفونها في اللفظ عن مثله، فثبت انتفاؤها عنه بدليلها ومنه قول الشاعر (رحمة الله عليه) :
٤٣٧٤ - عَلَى مِثْلِ لَيْلَى يَقْتُلُ المَرْءُ نَفْسَهُ... وَإِنْ بَاتَ مِنْ لَيْلَى عَلَى النَّاسِ طَاوِيَا
وقال أوس بن حجر:
٤٣٧٥ -... ولَيْسَ كَمِثْلِ الفَتَى زُهَيْر
خَلْقٌ يُوَازِيهِ فِي الفَضَائِلِ... وقال آخر:
٤٣٧٦ - وَقَتْلَى كَمِثْلِ جُذُوعِ النَّخِيلِ... تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ
174
وقال آخر:
٤٣٧٧ - سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إذَا أَبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ فَمَا كَمِثْلِهِم في النَّاس مِنْ أَحَدِ
قال ابن قتيبة: العرب تٌقِيمُ المِثْلَ مُقَامِ النَّفْس فتقول: «مِثْلِي لاَ يُقَالُ لَهُ هَذَا» أي أنا لا يقال لي. قيل: ونسبة المثل إلى من لا مثل له قولك: فلانٌ يده مبسوطةٌ، يريد: أنه جواد، ولا نظير له في الحقيقة إلى اليد حتى تقول ذلك لمن لا يد له كقوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: ٦٤].
الرابع: أن يراد بالمثل الصفة، وذلك أن المثل بمعنى المثل، والمثل الصفة كقوله ﴿مَّثَلُ الجنة﴾ [محمد: ١٥]، فيكون المعنى ليس مثل صفته تعالى شيء من التي لغيره (وهو مَحْمِلٌ سَهْلٌ).

فصل


قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) معناه ليس له نظير «وهو السميع البصير» أي سامعاً للمسموعات بصيراً للمرئيات.
فإن قيل: قوله: ﴿وهو السميع البصير﴾ يفيد الحصر، فما معنى هذا الحصر مع العباد أيضاً موصوفون بكمونهم سميعين بصيرين؟!.
فالجواب: «السمعي البصير» لفظان مشرعان بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال والكمال في كل الصفات وليس إلا الله، فهذا هو المراد من هذا الحصر.
قوله تعالى: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض﴾ أي مفاتيح الرزق في السموات والأرض، قال المفسرون: مفاتيح السموات: الأمطار. ومقاليد الأرض: النبات وتقدم الكلام على المقاليد في الرمز. ﴿يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ﴾ لأن مفاتحي الأرزاق بيده ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من البسط والتقدير «عَلِيمٌ».
175
قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين... ﴾ الآية لمَّا عظم وحيه إلى محمد عليه الصَّلاة والسَّلام بقوله: ﴿كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم﴾ ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً﴾ أي بين لكم من الدين يا أصحاب محمد ما وصى به نوحاً وهو أول أنبياء الشريعة.
قال مجاهد: أوصيناك وإياه يا محمد ديناً واحداً ﴿والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ من القرآن وشرائع الإسلام ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى﴾ إنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم كانوا أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة.
واختلوفا في الموصى به، فقال قتادة: تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقال الحكم: تحريم الأمهات والبنات والأخوات. وقال مجاهد: لم يبعث الله تعالى نبياً إلى وهداه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإقرار لله بالطاعة، فذلك دينه الذي شرع لهم.
وقيل: هو التوحيد والبراءة من الشرك. وقيل: هو ما ذكر من بعد في قوله: ﴿أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ بعث الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة.

فصل


قال ابن الخطيب: في لفظ الآية إشكالات:
أحدهما: قال في أول الآية: ﴿مَا وصى بِهِ نُوحاً﴾ وفي آخرها: ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ﴾ وفي وسطها ﴿والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ فما فائدة هذا التفاوت؟
وثانيها: ذكر نوحاً على سبيل الغيبة فقال: ﴿مَا وصى بِهِ نُوحاً﴾ وقال ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ﴾.
وثالثها: تقدير الآية شرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك؟ وهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد، وهو مشكل، وهذه مضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها بالجملة.
واعلم أن المقصود من الآية أن يقال: شرع لكم من الدين ديناً تطابقت الأنبياء على صحته، فيجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايراً للتكاليف والأحكام؛ لأنها مختلفة متفاوتة، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة: ٤٨] فوجب أن يكون المراد منه (الأمور) التي لا تخلتف باختلاف الشرائع، وهو الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، (وأصول الدين).
176

فصل


استدل بعضهم بقوله: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً﴾ على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان في أول الأمر متعبداً بشريعة نوح عليه الصَّلاة والسَّلام، وأجيب: با، هـ عطف عليه سائر الأنبياء، فدل ذلك على أن المراد هو الأخذ بالشريع المتفق عليها بين الكل.
قوله: ﴿أَنْ أَقِيمُواْ الدين﴾ يجوز فيها أوجه:
أحدها: أن تكون مصدرية في محل رفع على خبر مبتدأ مضمر، كأنه قيل: وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين المشروع توحيد الله.
الثاني: أنها في محل نصب بدلاً من الموصول، كأنه قيل: شرع لكم ما وصَّى به نوحاً توحيد الله.
الثالث: أنها في محل جر بدلاً من الدين.
الرابع: أنها في محل جر أيضاً. بدلاً من الهاء.
الخامس: أن تكون مفسِّرة؛ لأنه قد تقدمها ما هو بمعنى القول.
قوله: ﴿كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ من التوحيد، ورفض الأوثان.
قوله: «الله يَجْتَبِي» أي يصطفي ﴿إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ﴾ يهدي إليه من يشاء يصطفي لدينه من عباده من يشاء ﴿ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ يقبل إلى طاعته. والاجتباء يدل على الضم ومنه: جبى الخَراجَ واجْتَبَى الماء في الحوض فقوله: «الله يجتبي» أي يضم إليه ويقربه منه تقريب الإكرام والرحمة.

فصل


احتج نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: إنه تعالى أخبر بأن أكابر الأنبياء أطبقوا على أنه يجب إقامة الدين بحيث لا يفضي إلى الاختلاف والنزاع، والله تعالى ذكر في معرض المنَّة على عباده أنه أرشدهم إلى الدين الخالي عن التفرق والمخالفة، المعلوم أن فتح باب القياس يُفْضِي إلى أعظم أنواع التفرق والمنازعة فإن الحسَّ شاهد بأن هؤلاء الذين
177
بنوا دينهم على القياس تفرقوا تفرقاً لا رجاء في حصول الاتفاق بينهم إلى قيام القيامة، فوجب أن يكون ذلك محرماً.

فصل


اعلم أنه تعالى لما بين أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه كان لقائل أن يقول: فلماذا نجدهم متفرقين؟ فِأجاب بقوله: ﴿وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة، فحملتهم الحميَّة النَّفسانية الطبيعية، على أن ذهبت كل طائفة إلى مذهب، ودعوا الناس إليه، وقبحوا ما سواه طلباً للذكر والرياسة فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف.
ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل، إلا أنَّه تعالى أخَّر عنهم ذلك العذاب لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمًّى، أي وقتاً معلوماً وهذا معنى قوله: ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ﴾. والأجل المسمَّى قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة، واختلفوا في الذين أريدوا بهذه الصفة، فقال ابن عباس والأكثرون: هم اليهود والنصارى، لقوله تعالى في آل عمران: ﴿وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩].
قوله في سورة «لم يكن» :﴿وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة﴾ [البينة: ٤]. وقيل: هم العرب، وهذا باطل، لما تقدم، لأن قوله تعالى بعد هذه الآية: ﴿وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي من بعد أنبيائهم. وقيل: من بعد الأمم الخالية ﴿لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ﴾ أي من كتابهم. وقيل من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ و «مُرِيبٍ» صفة الشك، أي لا يؤمنون به حق الإيمان.
قوله: «أُورِثُوا: قرأ زيد بن علي: وُرِّثُوا بالتشديد مبنياً للمفعول.
قوله تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فادع واستقم كَمَآ أُمِرْتَ﴾ في اللام وجهان:
أحدهما: أن تكون بمعنى»
إلى «أي فإلى ذلك الدين فادع واستقم، وهو الاتفاق
178
على الملة الحنيفية،» واسْتَقِمْ «عليها (أي على الدين الذي أمَرَكَ به) كما أمرك الله ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ﴾ المختلفة الباطلة.
والثاني: أنها للعلة، أي لأجل التفرق والاختلاف ادع للدين القيم ﴿آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ﴾ أي بأيِّ كتابٍ صحَّ أن الله أنزله يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة.
قوله: ﴿وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ﴾ يجوز أن يكون التقدير: وأمرت بذلك لأعدل بينكم في الحكم، وقيل: أمِرْتُ أنْ أَعْدِلَ، فاللم مزيدة. وفيه نظر لأنك بعد زيادة اللام تحتاج إلى تقدير حرف أي بأن أعدل.

فصل


قال القفال: معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي أو أنفسكم بأن آمركم بما لا أعلمه أو أخالفكم إلى ما لا أنهاكم عنه، لكني أسوي بينكم وبين نفسي كذلك أسوي بين: أكابركم وأصاغركم في الحكم. وقيل معناه: لا أضيف عليكم بأكثر مما أفترض الله عليكم من الأحكام.
قوله: ﴿الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ يعني إلهنا واحد، وإن ختلفت أعمالنا، فكلُّ يُجازَى بعمله، «لا حجَّة»
، لا خصومة، «بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ». نسختها أية القتال، وإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة لم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة.
قال ابن الخطيب: ومعنى الآية أنه إله الكل واحد، وكل واحد مخصوص بعمل نفسه، فوجب أن يشتغل كل واحد في الدنيا بنفسه فإن الله تعالى يجمع بين الكل يوم القيامة ويجازيه على عمله.
فإن قيل: كيف يليق بهذه المتاركة ما فعل بهم من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟! فالجواب: هذه المتاركة كانت مشروطة بشرط أن يقبلوا الدين المتفق
179
على صحته بين كل الأنبياء ودخل فيه التوحيد، وترك عبادة الأصنام والإقرار بنبوة الأنبياء وبصحة البعث والقيامة فلمَّا لم يقبلوا هذه الدين فات الشَّرط فيفوت المشروط.
واعلم أن قوله تعالى: ﴿لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ يجرى مجرى محاجَّتهم، بدليل أن هذا الكلام مذكور في معرض المحاجَّة، فلو كان المراد من هذه الآية تحريم المحاجة لزم كونها محرمةً لنفسها، وهو متناقض. وأيضاً لولا الأدلة لما توجه التكليف، وأيضاً: أن الدليل يفيد العلم وذلك لا يمكن تحريمه بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وإنما تركوا تصديقه عناداً فبين تعالى أنه حصل الاستغناء عن محاجَّتهم؛ لأنهم عرفوا صدقه، ولا حاجة معهم إلى المحاجَّة ألبتة.
ومما يقوي عدم تحريم المحاجة قوله: ﴿وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥] وقوله: ﴿قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ [هود: ٣١] وقوله: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: ٨٣].
180
قوله تعالى :﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض ﴾ أي مفاتيح الرزق في السموات والأرض، قال المفسرون : مفاتيح السموات : الأمطار. ومقاليد الأرض : النبات١ وتقدم الكلام على المقاليد في الرمز. ﴿ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ﴾ لأن مفاتيح الأرزاق بيده ﴿ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ من البسط والتقدير «عَلِيمٌ ».
١ البغوي المرجع السابق..
قوله تعالى :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين. . . ﴾ الآية لمَّا عظم وحيه إلى محمد عليه الصَّلاة والسَّلام بقوله :﴿ كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ﴾ ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً ﴾ أي بين لكم من الدين يا أصحاب محمد ما وصى به نوحاً وهو أول أنبياء الشريعة.
قال مجاهد١ : أوصيناك وإياه يا محمد ديناً واحداً ﴿ والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ من القرآن وشرائع الإسلام ﴿ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى ﴾ إنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم كانوا أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة٢.
واختلفوا في الموصى به، فقال قتادة : تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقال الحكم : تحريم الأمهات والبنات والأخوات. وقال مجاهد : لم يبعث الله تعالى نبياً إلا وهداه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإقرار لله بالطاعة، فذلك دينه الذي شرع لهم.
وقيل : هو التوحيد والبراءة من الشرك. وقيل : هو ما ذكر من بعد في قوله :﴿ أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ﴾ بعث الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة٣.

فصل


قال ابن الخطيب : في لفظ الآية إشكالات :
أحدهما : قال في أول الآية :﴿ مَا وصى بِهِ نُوحاً ﴾ وفي آخرها :﴿ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ وفي وسطها ﴿ والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ فما فائدة هذا التفاوت ؟
وثانيها : ذكر نوحاً على سبيل الغيبة فقال :﴿ مَا وصى بِهِ نُوحاً ﴾ وقال ﴿ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ ﴾.
وثالثها : تقدير الآية شرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك ؟ وهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد، وهو مشكل، وهذه مضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها بالجملة٤.
واعلم أن المقصود من الآية أن يقال : شرع لكم من الدين ديناً تطابقت الأنبياء على صحته، فيجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايراً للتكاليف والأحكام ؛ لأنها مختلفة متفاوتة، قال تعالى :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ [ المائدة : ٤٨ ] فوجب أن يكون المراد منه ( الأمور )٥ التي لا تختلف باختلاف الشرائع، وهو الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ( وأصول الدين )٦.

فصل


استدل بعضهم بقوله :﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً ﴾ على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الأمر متعبداً٧ بشريعة نوح عليه الصَّلاة والسَّلام، وأجيب : بأنه عطف عليه سائر الأنبياء، فدل ذلك على أن المراد هو الأخذ بالشريعة المتفق عليها بين الكل٨.
قوله :﴿ أَنْ أَقِيمُواْ الدين ﴾ يجوز فيها أوجه :
أحدها : أن تكون مصدرية في محل رفع على خبر مبتدأ مضمر، كأنه قيل : وما ذلك المشروع ؟ فقيل : هو إقامة الدين المشروع توحيد الله٩.
الثاني : أنها في محل نصب بدلاً من الموصول، كأنه قيل : شرع لكم ما وصَّى به نوحاً توحيد الله١٠.
الثالث : أنها في محل جر بدلاً من الدين١١.
الرابع : أنها في محل جر أيضاً. بدلاً من الهاء١٢.
الخامس : أن تكون مفسِّرة١٣ ؛ لأنه قد تقدمها ما هو بمعنى القول.
قوله :﴿ كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ﴾ من التوحيد، ورفض الأوثان.
قوله :«الله يَجْتَبِي » أي يصطفي ﴿ إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ ﴾ يهدي إليه من يشاء يصطفي لدينه من عباده من يشاء ﴿ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴾ يقبل إلى طاعته. والاجتباء يدل على الضم ومنه : جبى الخَراجَ واجْتَبَى١٤ الماء في الحوض فقوله :«الله يجتبي » أي يضم إليه ويقربه منه تقريب الإكرام والرحمة١٥.

فصل


احتج نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا : إنه تعالى أخبر بأن أكابر الأنبياء أطبقوا على أنه يجب إقامة الدين بحيث لا يفضي إلى الاختلاف والنزاع، والله تعالى ذكر في معرض المنَّة على عباده أنه أرشدهم إلى الدين الخالي عن التفرق والمخالفة، المعلوم أن فتح باب القياس يُفْضِي إلى أعظم أنواع التفرق والمنازعة فإن الحسَّ شاهد بأن هؤلاء الذين بنوا دينهم على القياس تفرقوا تفرقاً لا رجاء في حصول الاتفاق بينهم إلى قيام القيامة، فوجب أن يكون ذلك محرماً١٦.
١ البغوي السابق..
٢ الرازي السابق ٢٧/١٥٤..
٣ انظر البغوي السابق والقرطبي ١٦/١٠..
٤ في الرازي وبالجملة فالمقصود من الآية.. الخ..
٥ سقط من ب..
٦ زيادة عن الرازي وانظر تفسيره ٢٧/١٥٦..
٧ في الرازي مبعوثا..
٨ المرجع السابق..
٩ الزمخشري في الكشاف ٣/٤٦٤..
١٠ قاله ابن الأنباري في البيان ٢/٣٤٦..
١١ الدر المصون ٤/٧٤٩..
١٢ قاله العكبري في التبيان ١١٣٢..
١٣ السابق..
١٤ في ب واجتباء بلفظ الاسمية وانظر الرازي ٢٧/١٥٧ ولسان العرب (جبى) قال: جبى الماء والحوض والخراج يجباه ويجبيه جمعه وجبى يجبى مما جاء نادرا مثل أبى يأبى اللسان جبى ٥٤١..
١٥ قاله الرازي في تفسيره ٢٧/١٥٧..
١٦ السابق..

فصل


اعلم أنه تعالى لما بين أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه كان لقائل أن يقول : فلماذا نجدهم متفرقين ؟ فِأجاب بقوله :﴿ وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة، فحملتهم الحميَّة النَّفسانية الطبيعية١، على أن ذهبت٢ كل طائفة إلى مذهب، ودعوا الناس إليه، وقبحوا ما سواه طالباً للذكر والرياسة فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف.
ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل، إلا أنَّه تعالى أخَّر عنهم ذلك العذاب لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمًّى، أي وقتاً معلوماً وهذا معنى قوله :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ ﴾. والأجل المسمَّى قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة، واختلفوا في الذين أريدوا بهذه الصفة، فقال ابن عباس والأكثرون : هم اليهود والنصارى٣، لقوله تعالى في آل عمران :﴿ وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٩ ].
قوله في سورة «لم يكن » :﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البينة ﴾ [ البينة : ٤ ]. وقيل : هم العرب٤، وهذا باطل، لما تقدم، لأن قوله تعالى بعد هذه الآية :﴿ وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ ﴾٥ أي من بعد أنبيائهم. وقيل : من بعد الأمم الخالية ﴿ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ﴾ أي من كتابهم. وقيل من محمد صلى الله عليه وسلم٦ و«مُرِيبٍ » صفة الشك، أي لا يؤمنون به حق الإيمان.
قوله :«أُورِثُوا : قرأ زيد بن علي : وُرِّثُوا بالتشديد مبنياً للمفعول٧.
١ كذا في ب وفي الرازي: الحمية النفسانية والأنفة الطبيعية..
٢ في ب والرازي ذهب وانظر الرازي السابق..
٣ ذكره الرازي في تفسيره ٢٧/١٥٨ والقرطبي في الجامع ١٦/١٢..
٤ ولم يحدد الرازي من قال بهذا. انظر الرازي السابق..
٥ المراد بهم أهل الكتاب الذين في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانظر الرازي السابق..
٦ البغوي ٦/١١٩..
٧ من الشواذ غير المتواترات البحر المحيط ٧/٥١٣ والسمين في الدر ٤/٧٤٩..
قوله تعالى :﴿ فَلِذَلِكَ فادع واستقم كَمَا أُمِرْتَ ﴾ في اللام وجهان :
أحدهما : أن تكون بمعنى «إلى » أي فإلى ذلك الدين فادع واستقم١، وهو الاتفاق على الملة الحنيفية، «واسْتَقِمْ » عليها ( أي اثبت على الدين٢ الذي أمَرَكَ به ) كما أمرك الله ﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ المختلفة الباطلة.
والثاني : أنها للعلة٣، أي لأجل التفرق والاختلاف ادع للدين القيم ﴿ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ ﴾ أي بأيِّ كتابٍ صحَّ أن الله أنزله يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة.
قوله :﴿ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ ﴾ يجوز أن يكون التقدير : وأمرت بذلك لأعدل بينكم في الحكم٤، وقيل : أمِرْتُ أنْ أَعْدِلَ٥، فاللام مزيدة. وفيه نظر لأنك بعد زيادة اللام تحتاج إلى تقدير حرف أي بأن أعدل٦.

فصل


قال القفال : معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي أو أنفسكم٧ بأن آمركم٨ بما لا أعلمه أو أخالفكم إلى ما لا أنهاكم عنه، لكني أسوي بينكم وبين نفسي كذلك أسوي بين أكابركم٩ وأصاغركم في الحكم. وقيل معناه : لا أضيف عليكم بأكثر مما أفترض الله عليكم١٠ من الأحكام.
قوله :﴿ الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ يعني إلهنا واحد، وإن اختلفت أعمالنا، فكلُّ يُجازَى بعمله، «لا حجَّة »، لا خصومة، «بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ». نسختها آية القتال، وإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة لم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة١١.
قال ابن الخطيب : ومعنى الآية أنه إله الكل واحد، وكل واحد مخصوص بعمل نفسه، فوجب أن يشتغل كل واحد في الدنيا بنفسه فإن الله تعالى يجمع بين الكل يوم القيامة ويجازيه على عمله١٢.
فإن قيل : كيف يليق بهذه المتاركة١٣ ما فعل بهم من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء ؟ ! فالجواب : هذه المتاركة كانت مشروطة بشرط أن يقبلوا الدين المتفق على صحته بين كل الأنبياء ودخل فيه التوحيد، وترك عبادة الأصنام والإقرار بنبوة الأنبياء وبصحة البعث والقيامة فلمَّا لم يقبلوا هذه الدين فات الشَّرط فيفوت المشروط.
واعلم أن قوله تعالى :﴿ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ﴾ يجرى مجرى محاجَّتهم، بدليل أن هذا الكلام مذكور في معرض المحاجَّة، فلو كان المراد من هذه الآية تحريم المحاجة لزم كونها محرمةً لنفسها، وهو متناقض١٤. وأيضاً لولا الأدلة لما توجه التكليف، وأيضاً : أن الدليل يفيد العلم وذلك لا يمكن تحريمه بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد صلى الله عليه وسلم. وإنما تركوا تصديقه عناداً فبين تعالى أنه حصل الاستغناء عن محاجَّتهم ؛ لأنهم عرفوا صدقه، ولا١٥ حاجة معهم إلى المحاجَّة ألبتة.
ومما يقوي عدم تحريم المحاجة قوله :﴿ وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] وقوله :﴿ قَالُواْ يا وح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ﴾ [ هود : ٣١ ] وقوله :﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ١٦ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ ﴾ [ الأنعام : ٨٣ ].
١ قاله الفراء في المعاني ٣/٢٢..
٢ سقط من ب..
٣ في ب للعلم خطأ وقال بهذا الوجه أبو حيان في البحر ٧/٥١٣..
٤ قال الأخفش في المعاني: أي أمرت كي أعدل. المعاني ٦٨٦ وانظر الدر المصون ٤/٧٥٠..
٥ قاله القرطبي في الجامع ١٦/١٣ وقد نقل الأول أيضا..
٦ فيعاد إلى حرف الجر مرة أخرى..
٧ في "أ" "ونفسك" والأصح من ب والرازي..
٨ في أ أمرك والأصح من ب والرازي أيضا..
٩ وانظر الرازي ٢٧/١٥٨..
١٠ هو رأي ابن عباس. نقله البغوي في تفسيره ٦/١١٩..
١١ السابق..
١٢ الرازي المرجع السابق..
١٣ كذا في أ والرازي وفي ب المشاركة غير مقصود..
١٤ انظر الرازي المرجع السابق..
١٥ في ب فلا..
١٦ سقط من أ..
قوله: ﴿والذين يُحَآجُّونَ﴾ (مبتدأ، و «حجتهم» ) مبتدأ ثانٍ و (داحضة) خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول. وأعرب مكيٌّ: حجتهم بدلاً من الموصول بدل اشتمال والهاء في «لَهُ» تعود على الله تعالى، أو على الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام أي من بعد ما استجاب الناس لله أو من بعد ما استجاب الله لرسوله حين دعا على قومه. وقال ابن الخطيب: يعود على «الدين» أي من بعد ما استجاب النَّاس لذلك الدين.

فصل


المعنى والذين يخاصمون في دين الله نبيَّه. وقال قتادة: هم اليهود، قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم، فنحن خيرٌ منكم، فهذه خصومتهم من بعد ما استجاب له الناس، فأسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزته «حجتهم داحِضةٌ» خصومتهم باطلة «عِنْدَ رَبِّهِمْ» قال ابن الخطيب: تلك المخاصمة هي أن اليهود قالوا: ألستم تقولون إن الأخذ بالمتفق عليه أولى بالأخذ من المختلف فيه فنبوة موسى عليه الصَّلاة والسَّلام وحقيقة التوراة معلومة بالاتفاق، ونبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليست متفقاً عليها فوجب الأخذ باليهودية، فبين تعالى فساد هذه الحجة، وذلك لأن اليهود أجمعوا على أنه إنما وةجب الإيمان بموسى عليه الصَّلاة والسَّلام لأجل ظهور المعجزات على قوله وهاهنا نظهرت المعجزات على وفق قول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، واليهود شاهدوا تلك المعجزات، فإن كان ظهور المعجزة يدل على الصدق فهاهنا يجب الاعتراف بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإن كان لا يدل على الصدق وجب في حق موسى أن لا يقروا بنوته بظهور المعجزات؛ لأنه يكون متناقضاً، ولما قرر (الله تعالى) هذه الدلائل خوف المنكرين بعذاب القيامة فقال: ﴿وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ في الآخرة.
قوله تعالى: ﴿الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان﴾ قال قتادة ومجاهد ومقاتل: سمي العدل ميزاناً؛ لأن الميزان آلة للإنصاف والتسوية. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أمر الله تعالى بالوفاء ونهى عن البخس.
181
ومعنى الآية أنه تعالى أنزل الكتاب المشتمل على الدلائل والبيِّناتم وأنزل الميزان وهو الفصل الذي هو القسطاس المستقيم وأنهم لا يعلمون أن القيامة حق يفاجئهم، ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجتهد في النظر والاستدلال، ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد. ولما كان الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام يهددهم يوم القيامة ولم يروا لذلك أثراً قالوا على سبيل السخرية متى تقوم الساعة؟ وليتها قامت حتى يظهر لنا الحقّ أهو الذي نحن عليه أم الذي عليه محمد وأصحابه؟!.
قوله: ﴿لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ﴾ إنما ذكر «قريب» وإن كان صفة لمؤنث لأن الساعة في معنى الوقت أو البعث أو على معنى النَّسب أي ذات قُرْبٍ، أوعلى حذفق مضاف، أي مجيء الساعة.
وقيل للفرق بينها وبين قاربة النسب. وقيل: لأن تأنيثها مجازي نقله مكي. وليس بشيء، إذ لا يجوز: الشمسُ طالعٌ، ولا القِدْرُ فائِرٌ، وجملة الترجي أو الإشفاق معلِّقة للدراية. وتقدم مثله آخر الأنبياء.

فصل


قال مقاتل: ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا مستهزءين: متى تكون الساعة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾ ظناً منهم أنهم غير آتية ﴿والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ﴾ خائفون ﴿مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق﴾ أي أنها آتية لا ريب فيها، ثم قال: ﴿أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ﴾ يخاصمون. وقيل: يدخلهم المرية والشك في «وُقُوع الساعة» لفي ضلالٍ بعيدٍ؛ لأن استيفاء حقِّ المظلوم من الظالم واجب في العدل فلو لم تحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وهذا من أمحل المحالات، فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالاً بعيداً.
قوله تعالى: ﴿الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : حفيٌّ
182
بهم. وقال عكرمة: بارٌّ بهم. وقال السديّ: رفيق بهم. وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم بدليل قوله: ﴿بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ﴾ وكل من رزقه الله من مؤمن وكافرٍ وذي روحٍ فهو ممَّن يشاءُ الله أن يرزقه.
قال جعفر الصادق: اللطيف في الرزق من وجهين:
أحدهما: أنه جعل رزقك من الطيبات.
الثاني: أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة.
و «هو القوي» القادر على ما يشاء «العزيز» الذي لا يغالب.

فصل


إنما حسن ذكر هذا الكلام هاهنا؛ لأنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة، فكان ذلك من لطف الله (تعالى) بعباده، وأيضاً فالمتفرقون استوجبوا العذاب الشديد. ثم إنه تعالى آخر عنهم ذلك العذاب فكان ذلك أيضاً من لطف الله تعالى، فلما سبق ذكر إيصال أعظم المنافع إليهم (و) دفع أعظم المضارِّ عنهم لا جرم حسن ذكره هاهنا.
قوله: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ... ﴾ الآية الحرث في اللغة الكسب، أي من كان يريد بعمله الآخرة نزد له في حرثه بالتضعييف بالواحد عشرة إلى ما شاء الله من الزيادة. قال مقاتل. وقيل: معناه إنا نزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه.
وقال الزمخشري: إنه تعالى سمَّى ما يعمله العامل مما يطلب به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز. واعلم أنه قد تقدم أن كون الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً مجزوماً لا يختص مجيئه بكان خلافاً لأبي الحكم مصنِّف كتاب الإعراب فإنه قال: لا يجوز ذلك إلا مع «كان» إلا في ضرورة شعر.
وأطلق النحويون جواز ذلك وأنشدوا بيت الفرزدق:
183
٤٣٧٨ - دَسَّتْ رَسُولاً بِأَنَّ القَوْمَ إنْ قَدَرُوا عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُوراً ذَاتِ تَوْغِيرِ
وقوله أيضاً:
٤٣٧٩ - تَعَشَّ فَإِنْ عَاهَدْتَني لاَ تَخُونِنِي نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ
وقرأ ابن مقسم والزَّعفرانيُّ ومحبوب: يزد ويؤته بالياء من تحت، أي الله تعالى.
وقرأ سلام يؤته بضم هاء الكناية وهو الأصل، وهو لغة الحجاز وتقدم خلاف القراء في ذلك.

فصل


قال قتادة: معنى قوله: ومن كان يريد (حَرْثَ) الدنيا أي يريد جملة حرث الدُّنيا نؤته منها أي نؤته بقدر ما قسم له كما قال: ﴿عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ﴾ [الإسراء: ١٨] وما له في الآخرة من نصيب؛ لأنه لم يعمل للآخرة قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «بَشِّرْ هَذِهِ الأمَّة بالسناء والرِّفْعَةِ والنَّصْرِ والتَّمْكِينِ في الأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ للدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ في الآخِرَةِ نَصِيبٌ» واعلم أنه تعالى قال في طلب الآخرة (إنه) يزيد له في حرثه ولم يذكر أنه يعطيه الدنيا أم لا بل سكت عنه نفياً وإثباتاً.
وأما الطالب الدنيا فبين أنه لا يعطيه شيئاً من نصيب الآخرة على التنصيص، وهذا يدل على التفاوت العظيم كأنه يقول: الآخرة أصلٌ والدنيا تبعٌ فواجد الأصل يكون واجداً للتَّبع بقدر الحاجة، إلا أنه لم يذكر ذلك تنبيهاً على أن الدّنيا أحسن من أن يقرن ذكرها بذكر الآخرة. وأيضاً بين أن طالب الآخرة يزاد في مطلوبه وطالب الدنيا يعطى بعض
184
مطلوبه ولا يحصل له في الآخرة من نصيب البتة فبين أن طالب الآخرة يكون حاله أبداً في التزايد، وأن طالب الدنيا يكون حاله في النقصان والبطلان في الآخرة، وذلك يدل على تفضيل طلب الآخرة.
وأيضاً فإنه تعالى بين أن منافع الآخرة ومنافع الدنيا ليست حاضرة ناجزةً، بل لا بدَّ فيهما من الحرث والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاق (في البذر ثم التسقية والتنمية ثم الحصد ثم التنقية فلما سمى الله كلا القسمين حرثاً علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل) والمتاعب. ثم بين أنَّ مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال وأن مصير الدنيا إلى النُّقصان والعناء، فكأنه قيل: إذا كان لا بد في القسمين من متاعب الحراثة من التبقية والتنمية والحصد والتَّنْقِية فصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في التزايد الباقي أولى من صرفها إلى ما يكون في التناقص والانقضاء.

فصل


قال ابن الخطيب: فإن قيل: ظاهر اللفظ يدل على أن من صلَّى لأجل طلب الثواب أو لأجل دفع العقاب فإنه تصح صلاته، وأجمعوا على أنها لا تصح.
فالجواب: أنه تعالى قال: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة﴾، والحرث لا يَتَأَتَّى إلا بإلقاء البذر الصَّحيح في الأرض، والبذر الصحيح الجامع للخيرات والسعادات ليس إلا عبودية الله سبحانه وتعالى.

فصل


إذا توضأ بغير نية، لم يصح، لأنه لم يرد حرث الآخرة، وذلك لا يحصل بالوضوء العاري عن النية.
قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين... ﴾ الآية. لما بين القانون الأعظم في أعمال الآخرة والدنيا أردفه بيان ماهو الأصل في باب الضَّلالة والسعادة فقال: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ﴾ ومعنى الهمزة في «أم» التقرير والتقريبع. والضمير في «شَرَعوا» يجوز أن يكون عائداً على «الشركاء»، والضمير في «لهم» على الكفار، ويجوز العكس؛ لأنهم جعلوا لهم أنصباء، والمعنى شركاؤهم أي شياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث، والعمل للدنيا. وقيل: شركاؤهم أوثانهم، وإنما أضيفت إليهم؛ لأنهم هم الذي اتَّخذوها شركاء لله. ولما كانت سبباً لضلالتهم جعلت شارعة
185
لدين ضلالتهم لهم كما قال إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس﴾ [إبراهيم: ٣٦].
قال المفسريون: يعني كفار مكة أأي لهم آلهة سنوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) شرعوا لهم ديناً غير دين الإسلام.
قوله: ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل﴾ أي لولا القضاء السابق بتأخير الحزاء أو لولا الوعد بأن الفصل يكون بينهم يوم القيامة «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» أي بين الكافرين والمؤمنين، أو بين المشركين وشركائهم.
قوله: «وإنَّ الظَّالِمِينَ» العامة بكسر «إن» على الاستئناف ومسلم بن بجنوب والإعرج بفتحها عطفاً على كلمة الفصل. وفصل بين المتعاطفين بجواب «لولا»، تقديره: ولولا كلمة واستقرار الظالمين في العذاب لَقَضِي بينهم في الدنيا. وهو نظير قوله: ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ [طه: ١٢٩]. ثم إنه تعالى ذكر أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب. أما الأول فهو قوله: ﴿تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ﴾ أي ترى المشركين يوم القيامة خائفين وجَِلِينَ «مِمَّا كَسَبُوا» من السيئات، ﴿وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ أي جزاء كسبهم واقع سواء أشفقوا أو لم يشفقوا.
وأم الثاني وهو أحوال أهل الثواب فهو قوله: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات﴾ قال أبو حيان: اللغة الكثيرة تسكين واو «رَوْضَات»، ولغة هذيل فتح الواو إجراء لها مُجْرَى الصحيح نحو: جَفَنَات. ولم يقرأ أحد فيما علمناه بلغتهم. قال شهاب الدين: إن عنى لم يقرأ أحد بلغتهم في هذا الباب من حيث هو فليس كذلك؛ لما تقدم في سورة النور أن الأعمش قرأ: «ثَلاَثُ عَوَرَاتٍ» بفتح الواو وإن عَنَى أنه لم يقرأ في روضات بخصوصها فقريب، لكن ليس هو ظاهر عادته.
186

فصل


اعلم أن روضة الجنة أطيب بقعةٍ فيها، وفيه تنبيه على أن الفسَّاق من أهل الصلاة كلهم من أهل الجنة؛ لأنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنهم في روضات الجنَّات، وهي البقاع الشَّريفة كالبقاع التي دون تلك الروضات، لا بد وأن تكون مخصوصة بمن كانوا دونن الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ثم قال: ﴿لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ وهذا يدل على أن تلك الأشياء حاضرة عنده مهيَّأة. والعندية مجاز و «عِنْدَ رَبِّهِمْ» يجوز أن يكون ظرفاً «لِيَشَاءُونَ». قاله الحوفي، أو للاستقرار العامل في «لهم» قال الزمخشري. ثم قال: ﴿ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير﴾ وهذا يدل على أنَّ الجزاء المرتب على العمل إنما حصل بطريق الفضل من الله تعالى لا بطريق الوجوب والاستحقاق.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ﴾ كقوله: «كالَّذِي خَاضُوا». وقد تقدم تحقيقه. وتقدمت القراءات في يُبَشِّرُ. وقرأ مجاهدٌ وحُمَيْدُ بنُ قَيْسٍ: يُبْشِرُ بضم الياء وسكون الباء وكسر الشين من أَبْشَرَ منقولاً من بَشِرَ بالكسر لا من بَشَرَ بالفتح؛ لأنه متعدٍّ والتشديد في «بشر» للتكثير لا للتعدية، لأنه متعد بدونها.
ونقل أبو حيان قراءة يَبْشُرُ بفتح الياء وضم الشين عن حمزة والكسائي (أي) من السَّبعة، ولم يذكر غيرهما من السبعة، وقد وافقهما على ذلك ابن كثير وأبو عمرو. و «ذلك» مبتدأ، والموصول بعده خبره، وعائده محذوف على التدريج
187
المذكور كقوله «كالَّذِي خَاضُوا» أي يُبَشِّرُ بِهِ، ثم يُبَشِّرُهُ على الاتساع. وأما على رأي يونُس فلا يحتاج إلى عائد؛ لأنها عنده مصدرية وهو قول الفراء أيضاً، أي ذلك تبشير الله عباده. وذلك إشارة إلى ما أعده الله تعالى لهم من الكرامة. وقال الزمخشري: أو ذلك التبشير الذي يبشِّره الله عباده. قال أبو حيان: وليس بظاهر؛ إذ لم يتقدم في هذه السورة لفظ البشرى ولا ما يدل عليها من «بَشَّر» أو شبهه.

فصل


هذه الآيات دالة على تعظيم حال الثواب من وجوه:
الأول: أن الملك الذي هو أعظم الموجودات وأكرمهم إذا رتب على أعمال شاقة جزاءً، دل ذلك على أن ذلك الجزاء قد بلغ إلى حيث لا يعلم كُنْهَهُ إلاَّ الله تعالى.
الثاني: أن قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ﴾ يدخل في باب غير المتناهي؛ لأنه لا درجة إلا والإنسان يريد ما هو أعلى منها.
الثالث: أنه تعالى قال: ﴿ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير﴾ والذي يحكم بكبره من له الكبرياء والعظمة على الإطلاق يكون في غاية الكبر.
واعلم أنه تعالى لما أوحى إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الكتاب الشريف، وأودع فيه أقسام الدلائل والتكاليف ورتبه على لطاعة والثواب وأمره بتبليغه إلى الأمة أمره بأن يقول إني لا أطلب منكم بسبب هذا التبليغ نفعاً حاضراً فقال: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى﴾.
في الاستثناء قولان:
أحدهما: أنه منقطع؛ إذ ليست المودة من جنس الأجر.
188
والثاني: أنه متصل، أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا وهو أن تودُّوا أهل قرابتي ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة؛ لأن قرابتهم وكانت صلتهم لازمةً لهم في المودة. قاله الزمخشري.
وقال أيضاً: فإن قلت: هلا قيل: إلاَّ مودَّة القربى، أو إلا المودة للقربى؟!
قلت: جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها، كقولك: في آل فلان مودة وليست «في» صلة المودة، كاللام إذا قلت: إلا المودة للقربى، إنما هي متعلقة بمحذوف فتعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس، وتقديره: إلا المودة ثابتةً في القربى ومتمكنةً فيها.
وقال أبو البقاء: وقيل: متصل، أي لا أسألكم شيئاً إلا المودة.
قال شهاب الدين: وفي تأويله متصلاً بما ذكر نظر؛ لمجيئه بشيء الذي هو عام، وما من استثناء منقطع إلا ويمكن تأويله بما ذكر، ألا ترى إلى قولك: ما جاءني أحدٌ إلا حمار، أنه يصح ما جاءني شيء إلا حماراً.
وقرأ زيد بن عليٍّ: «مودة» بدون ألفٍ ولامٍ.

فصل


في الآية ثلاثة أقوال:
الاول: قال الشَّعبيُّ: أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك، فكتب أبن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كاتن وسط النسب من قريش ليس بطنٌ من بطونهم إلا قد ولده، وكان له فيهم قرابةٌ، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ على ما أدعوكم إليه إلا أن تؤثروني لقرابتي أي تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، والمعنى أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني، فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق
189
القربى وصلوا رحمي، ولا تؤذوني. وإلى هذا ذهب مجاهد وقتادة وعكرمة ومقاتل والسدي والضَّحَّاك.
الثاني: روى الكلبي عن ابن عباس، قال: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما قدم المدينة كانت تَنُوبهُ نوائب وحقوق، وليس في يده سعةٌ لقالت (الأنصار) : إن هذا الرجل هداكم هو ابن أخيكم، وأجاركم من بلدكم، فاجمعةوا له طائفة من أموالكم، ففعلوا ثم أتوه بها، فردها عليهم ونزل قوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى﴾ أي على الإيمان (إلا) أن لا تؤذوا أقاربي وعشيرتي، وتحفظوني فيهم، قاله سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب.
الثالث: قال الحسن: معناه إلا أن تَوَدُّوا الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح، ورواه ابن أبي نُجَيْحٍ عن مجاهد.
فالقربى على القول الأول بالقرابة التي بمعنى الرَّحِم، وعلى الثاني بمعنى الأقارب، وعلى الثالث فُعْلَى من القُرْبِ والتَّقْرِيب.
فإن قيل: طلب الأجر على تبليغ الوحي لا يجوز لوجوه:
أحدها: أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء التصريح بنفي طلب الأجر، فقال في قصة نوح عليه الصَّلاة والسَّلام
﴿وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ [الشعرا: ١٠٩].. الآية وكذا في قصة هود وصالح ولوط وشعيب عليه الصَّلاة والسَّلام ورسلونا أفضل الأنبياء فَبِأَنْ لا يطلب الأجر على النبوة والرسالة أولى.
وثانيها: أنه عليه الصَّلاة والسَّلام صرَّح بنفي طلب الأجر فقال: ﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين﴾ [ص: ٨٦] وقال: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾ [سبأ: ٤٧].. الآية وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بأقل الناس فضلاً عن أعلم العلماء.
ورابعها: أن النبوة أفضل من الحممة، وقد قال تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ [البقرة: ٢٦٩] ووصف الدينا بأنها متاع قليل فقال: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ﴾ [النسا: ٧٧] فكيف يحين بالعاقل مقابلة أشرف الأنبيثاء بأخس الأشيءا؟!
190
وخامسها: أن طلب الأجر يوجب التهمة، وذلك ينافي القطع بصحة النبوة. فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يطلب أجراً ألبتة على التبليغ والرسالة، وهاهنا قد ذكر ما يجري مَجْرَى طلب الأجر وهو المودة في القربى (هذا تقرير السؤال).
فالجواب: أنه لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على التبليغ، وأما قوله: إلا المودة في القربى فالجواب عنه من وجهين:
الأول: أنه هذا من باب قوله:
٤٣٨٠ - وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ
يعني أنا لا أطلب منكم إلا هذا. وهذا في الحقيقة ليس أجراً؛ لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب، قال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ [التوبة: ٧١]، وقال، عليه الصَّلاة والسَّلام: «المُؤْمِنُونَ كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً» والآيات الأخبار في هذا كثيرة. وإذا كان حصول المودة بين المسلمين واجب فحصولها في احق أششرف المسلمِين أولى، فقوله: ﴿إلا المودة في القربى﴾ تقديره والمودة ف يالقربى ليست أجراً، فرَجَعَ الحاصل إلى أنه لا أجر ألبتة.
الثاني: إن هذا استثناء منقطع، وتم الكلام عند قوله: ﴿لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ ثم قال: ﴿إِلاَّ المودة فِي القربى﴾ أي أذكركم قرابتي منكم فكأنه في اللفظ أجر وليس بأجر.

فصل


اختلفوا في قرابته، فقيل: هم فاطمة وعلى وأبناؤهما، وفيهم نزل: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٣].
وروى زيد بن أرقم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كتابَ اللهِ تَعَالَى وَأَهْلَ بَيْتِي وَأُذَكِّرُكُم الله في أَهْلِ بَيْتِي» قيل لزيد بن أرقم: فمن أهل بيته؟
191
فقال: هم آلُ عليِّ وآل عَقِيل وآل جعفر، وآل عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وروى ابن عمر عن ابن بكر رضي الله تعالى عنه قال: أرقبوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أهل بيته.
وقيل: هم الذي تحرم عليه الصدقة من أقاربه ويقسم فيه الخًمسُ هم بنو هاشم، وبنوا المطلب الذين لم يتفرقوا بجاهلية ولا إسلام. وقيل: هذه الآية منسوخة، وإليه ذهب الضحاك بن مُزاحم والحسين بن الفضل. قال البغوي وهذا قول (غير) مرضٍ؛ لأن مودة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكف الأذى عنه ومودة أقاربه والتقرب إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح من فرائض الدين.
قوله تعالى: ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً﴾ أي من يكتسب طاعة ﴿نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً﴾ العامة على «نَزد» بالنون، وزيد بن علي وعبدُ الوارث عن أبي عمرو يَزِدْ بالياء من تحت، أي يزِد الله. والعامة «حُسْناً» بالتنوين مصدراً على «فُعْلٍ» نحو: شُكر وهو مفعول به، وعبد الوارث عن أبي عمرو حُسْنَى بألف التأنيث على وزن بُشْرَى، ورُجْعَى، وهنو مفعول به أيضاً. ويجوز أن يكون صفة كفُضْلَى، فيكون وصفاً لمحذوف أي خصْلَةً
حُسْنَى. قيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه والظاهر العموم في أي حسنة كانت، إلا أنها لما ذكرت عقيب المودة في القُرْبَى دل ذلك على أن المقصود التأكيد في تلك المودَّةِ.
ثُمَّ قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ : للقليل (حتى يضاعفها) والشكر في حق الله تعالى مجاز، والمعنى أنه تعالى يُحْسِنُ للمطيعين في إيصال الثواب إليهم، وفي أن يزيدَ عليهم أنواعاً كثيرةً من التفضل.
قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ اعلم أن الكلام ابتداء من أول هذه السورة في تقرير أن هذا الكتاب إنما حصل بِوَحْي الله تعالى، قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يوحي إلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ﴾ [الشورى: ٣] واتصال الكلام في تقرير هذا المعنى وتعلق بعضه ببعض (حتى وصل) إلى هاهنا، ثم حكى هاهنا، شبهة القوم وهي قولهم: إن هذا ليس وحياً من الله تعالى فقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾. قال الزمخشري: «أم» منقطعة ومعنى الهمزة للتوبيخ والمعنى: أيقع في قلوبهم ويجري على ألسنتهم أن ينسبوا مثله على الافتراء على الله سبحانه وتعالى الذي هو أقبح الأنواع وأفحشها، ثم أجاب عنه بأن قال:
192
﴿فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ﴾ قال مجاهد: يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشقَّ عليك أذاهم وقولهم: إنه مفتر كذابٌ، وقال قتادة: يعني يطبع على قبلك فينسيك القرآن وما آتاك فأخبرهم أنه لو افترى على الله كذباً لفعل به، وما أخبر في هذه الآية فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب إلاّ من كان في هذه الحالة والمقصود من هذا الكلام المبالغة في تقرير الاستبعاد، ومثاله: أن ينسب رجل بعض الأمناء إلى الخيانة فيقول الأمين: لعل الله أعمى قَلْبي، وهو لا يريد إثبات الخِذلان ولا عَمَى القلب لنفسه وإنما يريد استبعاد صدق الله تعالى الخيانة عنه.
قوله تعالى: ﴿وَيَمْحُ الله الباطل﴾ هذا مستأنف غير داخل في جزاء الشرط؛ لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً، وسقطت الواو منه لفظاً لالتقاء السكانين في الدَّرج، وخطَّا حملاً للخطِّ على اللفظ كما كتبوا: ﴿سَنَدْعُ الزبانية﴾ [العلق: ١٨] عليه، ولكن ينبغي أن لا يجوز الوقف على هذه الآية لأنه إن وقف عليه بالأصل هو الواو خالفنا خط المصحف وإن وقف عليه بغيرها موافقاً للرسل خالفنا الأصل. وتقدَّم بحث مثل هذا.
وقد منع مكيٌّ الوقف على نحو: ﴿وَمَن تَقِ السيئات﴾ [غافر: ٩]. وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير مجازه والله يمح الباطل فهو في محل رفع، ولكن حذفت منه الواو في المصحف حملاً على اللفظ كما حذفت من قوله: ﴿وَيَدْعُ الإنسان﴾ [الإسراء: ١١] ﴿سَنَدْعُ الزبانية﴾ [العلق: ١٨].

فصل


أخبر تعالى أن ما يقولونه باطل يمحوه الله «ويُحِقُّ الحَقَّ» أي الإسلام بكلماته، أي بما أنزل الله تعالى من كتاب، وقد فعل الله ذلك فمحى باطلهم، وأعلى كلمة الإسلام «إنَّهُ عَلِيم» بما في صدرك وصدورهم، قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لما نزلت ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى﴾ وقع في قلوب قوم منها شيء وقالوا: يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده، فنزل جبريل فأخبره أنه اتهموه فأنزل الله هذه الآية فقال القوم يا رسول الله: (ف) إنا نشهد أنك صادف فنزل: ﴿وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ﴾ قال ابن عباس: يريد أولياءه وأهل طاعته. قال الزمخشري: يقال: قَبِلْتُ مِنْهُ الشيء وقَبِلْتُهُ عَنْهُ.
193

فصل


قيل: التوبة بترك المعاصي نية وفعلاً، والإقبال على الطاعة نيَّةً وفعلاً. وقال سهل ابن عبد الله: التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال الممدوحة. وقيل: الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل روى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، وكبَّر، فلما فرغ من صلاته قال عليٌّ رضي الله تعالى عنه: يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبه الكذابين، فقال ياأمير المؤمنين (وما) التوبة؟ فقال: اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفريضة الإعادى ورد المظالم وإدامة النفس في الطاعهة كما ربتيها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل ضحك ضحكته.
قالت المعتزلة: يجب على الله قبول التوبة، وقال أهل السنة: لا يجب على الله تعالى، وكل ما يقبله فهو كرم وفضل، واحتجوا بهذه الآية فقالوا: إنه تعالى تمدح بقبول التوبة، ولو كان ذلك القبول واجباً لما حصل المدح العظيم، ألا ترى أنه من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس ظلماً كان ذلك مدحاً.
قوله: ﴿وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات﴾ إما أن يكون المراد منه أن يعفو عن الكبائر بعد التوبة، مأو المراد أن يعفو عن الصغائر أو المراد: إن يعفو عن الكبائر قبل التوبة.
والأول باطل وإلا صار قوله: ﴿وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات﴾ عين قوله: ﴿وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ﴾ والتكرار خلاف الأصل).
والثاني أيضاً باطل؛ لأن ذلك واجبٌ، وأداء الواجب لا يمدح به فبقي القسم الثالث فيكون المعنى أنه تارة يعفو بواسطة قبول التوبة، وتارة يعفو ابتداء من غير توبة.

فصل


روى أنس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «للهُ أشَدُّ فَرَحاً
194
بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بأرْضٍ فَلاَةٍ فانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهضا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرةً فاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنضا هُوَ كَذَلِكَ إذْ هُوَ بِهَا قَائِمةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخُطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ» أخطأ من شدَّة الفَرَحِ.
قوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ قرأ الأخوان وحَفْصٌ يَفْعَلُونَ بالياء من تحت؛ نظراً إلى قوله: «مِنْ عِبَادِهِ» وقال بعده: ﴿وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ والباقون بالخطاب إقبالاً على اناس عامةً، وهو خطاب للمشركين.
قوله تعالى: ﴿الذين آمَنُواْ﴾ يجوز أن يكون الموصول فاعلاً أي يجيبون ربهم إذا دعاهم كقوله تعالى: ﴿استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤] واستجاب كأجاب، ومنه قوله الشاعر:
٤٣٨١ - وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَلِكَ مُجِيبُ
ويجوز أن تكون السين للطلب على بابها بمعنى ويستدعي المؤمنون الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة. ويجوز أن يكون الموصول مفعولاً به والفاعل مضمر يعود على الله بمعنى: ويُجيبُ الذينَ آمنوا اي دُعَاءَهُمْ. وقيل: ثَمَّ لام مقدرة أي ويستجيبُ الله لِلذِينَ آمنوا، (فحذفها، للعلم بها، كقوله: ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ﴾ [المطففين: ٣] قال عطاء عن ابن عباس معناه: ويُثِيبُ الذين آمنوا) وعلموا الصالحات ﴿وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ سِوَى ثواب أعمالهم تفضلاً منه، وروى أبو صالح عه: يشفعهم ويزيدهم من فضله. (ثُمَّ) قال في أخونان إخوانهم: ﴿والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض﴾، قال خَبَّاب بن الأرتِّ: فينا نزلت هذه الآية، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قُرَيْظَة والنَّضير وبني قَينقاعَ وتمنيناها فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ﴾، لطغوا في الأرض، قال ابن عباس (
195
رضي الله عهنما) : بغيهم طَلَب (هم) منزلةً بعد منزلة، ومركباً بعد مركب وملبساً بعد ملبس، ولكن ينزل أرزاقهم قدر ما شاء نظراً منه لعباده.
(قرأ ابن كثير وأبو عمر يُنَّزِّلُ مشددة، والباقون مخففة) إنَّه بعباده خبيرٌ بصيرٌ. روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله علهي وسلم عن جبريل عن الله عَزَّ وَجَلَّ في حديث طويل وفيه يقول الله عزَّ وجلَّ: «ما تَرَدَّدْتُ في شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي في قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي المُؤْمِن يَكْرَهُ المَوْتَ وأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وإنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ لمَنْ يَسْأَلُنِي البَابَ عَنِ العِبَادَةِ فأَكُفُّهُ عَنْهُ (أّنْ) لاَ يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فيُفْسِدَهُ ذَلِكَ وَإنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ لمَنْ لاَ يُصْلِحُ إيمَانَهُ إلاَّ الغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي (المُؤمِنِينَ) لمَنْ لاَ يًصْلِحُ إيمَانهُ إلاَّ الفَقْرُ ولو أَعْنَيْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي (المُؤْمِنِينَ) لمَنْ لاَ يًصْلِحُ إيمانَهُ إلاَّ الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي (المُؤْمِنِينَ) لمَنء لاَ يُصْلِحُ إيمَانَهُ إلاَّ السَّقَمُ وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ وذّلِكَ أَنِّي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي بِعِلْمِي بِقُلُوبِهِمْ ِإنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ».

فصل


وجه التعلق أنه تعالى لما قال في الآية الأولى إنه يجيب دعاء المؤمنين وَرَدَ عليه سؤالٌ وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبليَّةٍ وفَقْر ثم يدعو فلا يظهر أثر الإجابة فكيف الجمع بينه وبين قوله: ويستجيب الذين آمنوا؟ ﴿فأجاب تعالى عنه بقوله: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض﴾، ولأقدموا على المعاصي، فلذلك وجب أن لا يعطيهم ما طلبوه، ويؤيده الحديث المتقدم.

فصل


قال الجبائِيُّ: هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة من وجهين:
196
الأول: أنه تعالى لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض غير مراد، فعلمنا أنه تعالى لا يريد البَغْيَ في الأرض، وذلك يوجب فساد قول المجبرة.
الثاني: أنه تعالى إنما لم يرد بسط الرزق؛ لأنه يفضي إلى المفسدة، فلما بين تعالى أنه لا يريد ما يفضي إلى المفسدة فبأن لا يكون مريداً للمفسدة كان أولى.
وأجيب: بأن الميل إلى البغي والقسوة والقهر صفة حدثت بعد أن لم تكن، فلا بد لها من فاعل وفاعل هذه الأحوال إما البعد أو الله، والأول باطل؛ لأنه إنما يفعل هذه الأشياء لو مال طبعه إليه وعاد السؤال في أنه من المحدث لذلك الميل الثاني؟ ويلزم التسلسل، وأيضاً فالميل الشديد إلى الظلم والقسوة عيوبٌ ونقصاناتٌ، والعاقل لا يرضى بتحصيل موجبات النقصان لنفسه، ولما بطل هذا ثبت أن محدث هذا الميل والرغبة هو الله تعالى.
ثم أوده الجبائي على نفسه سؤالاً:
فإن قيل: أليس قد يبسط الرزق لبعض عباده مع أنه يبغي؟}.
فأجاب عنه: بأن الذي يبسط الرزق إذا بغى كان المعلوم من حاله أنه يبغي على كل حال سواء أُعْطِيَ ذلك الرزق أو لم يُعْطَ. قال ابن الخطيب: هذا الجواب فاسد، ويدل عليه القرآن والعقل أما القرآن فقوله تعالى:
﴿كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى﴾ [العلق: ٦٧] حكم مطابق لكن حصول الغنى سبب لحصول الطغيان وأم العقل فهو أن النفس إذا كانت مائلةً إلى الشر فمعحصول الغنى تميل إلى الشر أكثر، فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان.

فصل


في كون بسط الرزق موجباً للطغيان وجوه:
الأول: أن الله تعالى لو سوَّى في الرزق بين الكل لا متنع كون البعض محتاجاً إلى البعض، وذلك يوجب خراب العالم وتعطيل المصالح.
الثاني: أن هذه الأية مختصة بالعرب. فإنه كلما اتسع رزقهم، ووجدوا من ماء المطر ما يرويهم ومن الكلأ والعشب ما يشبعهم، أقدموا على النهب والغارة.
الثالث: أن الإنسان متكبر بالطبع، فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبليَّة ومكروه انكسر وعاد إلى التواضع والطاعة.
197
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث﴾ أي املطر ﴿مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ﴾ من بعد ما يئس الناسُ منه. وإنزال الغيب بعد القنوط أدعى إلى الشكر؛ لأن الفرح بحصول النعمة بعد البلية أتمُّ.
قال الزمخشري: قرىء قنطوا، بفتح النون وكسرها. (فأما فتح النون فهي قراءة العامة، وأما كسرها فهي قراءة يحيى بن وثَّاب، والأعمش وهي لغة وعليها قراءة: ﴿يَقْنَطُ﴾ [الحجر: ٥٦] ﴿لاَ تَقْنَطُواْ﴾ [الزمر: ٥٣] بفتح النون في المتواتر. ولم يقرأ في الكسر في الماضي إلا شاذاً و «ما» مصدرية أي من بعد قُنُوطِهِمْ). قال مقاتل: حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين حين قنطوا، ثم أنزل الله المطر فذكرهم الله نعمه.
قوله: ﴿وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ يبسط مطره، كما قال: ﴿وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الأعراف: ٥٧] وهو الولي الحميد. «الوَلِيُّ» : الذي يتولى عباده بإحاسنه «الحَميد» المحمود على ما يوصل إلى الخلق من الرحمة وقيل: «الولي» لأهل طاعته، «الحميد» عند خلقه.
198
قوله تعالى :﴿ الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان ﴾ قال قتادة ومجاهد ومقاتل : سمي العدل ميزاناً ؛ لأن الميزان آلة للإنصاف والتسوية. قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )١ أمر الله تعالى بالوفاء ونهى عن البخس٢.
ومعنى الآية أنه تعالى أنزل الكتاب المشتمل على الدلائل والبيِّنات٣ وأنزل الميزان وهو الفصل الذي هو القسطاس المستقيم وأنهم لا يعلمون أن القيامة حق٤ يفاجئهم، ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجتهد٥ في النظر والاستدلال، ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد. ولما كان الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام يهددهم يوم القيامة ولم يروا لذلك أثراً قالوا على سبيل السخرية متى تقوم الساعة ؟ وليتها قامت حتى يظهر لنا الحقّ أهو الذي نحن عليه أم الذي عليه محمد وأصحابه٦ ؟ !.
قوله :﴿ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ ﴾ إنما ذكر «قريب » وإن كان صفة لمؤنث لأن الساعة في معنى الوقت أو البعث أو على معنى النَّسب أي ذات قُرْبٍ٧، أو على حذف مضاف، أي مجيء الساعة٨.
وقيل للفرق بينها وبين قرابة النسب٩. وقيل : لأن تأنيثها مجازي نقله مكي١٠. وليس بشيء، إذ لا يجوز : الشمسُ طالعٌ، ولا القِدْرُ فائِرٌ، وجملة الترجي أو الإشفاق معلِّقة للدراية. وتقدم مثله آخر الأنبياء١١.
١ زيادة من أ..
٢ في ب الفحش وما هنا في أ موافق لما في البغوي ٦/١٢٠..
٣ في ب البيانات جمع بيان وما في أ هنا موافق لما في الرازي بينات جمع بينة..
٤ في الرازي: متى تفاجئهم..
٥ وفيه: أن يجد ويجتهد..
٦ وانظر الرازي ٢٧/١٥٩..
٧ ذكر هذه الأوجه ابن الأنباري في البيان ٢/٣٦٤ ومكي في المشكل ٢/٢٧٧، وانظر التبيان ١١٣٢..
٨ ذكره الزمخشري في كشافه ٣/٤٩٥ والسمين في الدر ٤/٧٥٠..
٩ في النسختين قراءة النسب وهو تصحيف والأصح ما كتبته أعلى..
١٠ مشكل إرعراب القرآن ٢/٢٧٦ والبيان ٢/٣٤٦ وقد قال بالتأنيث المجازي الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٩٦ والقرطبي في الجامع ١٦/١٥..
١١ من قوله: ﴿وأن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين﴾ [الأنبياء: ١١١]. وانظر اللباب ٦/٣٥٣ ب ميكروفيلم..

فصل


قال مقاتل : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا مستهزءين : متى تكون الساعة ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ﴾ ظناً منهم أنهم غير آتية ﴿ والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ ﴾ خائفون ﴿ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق ﴾ أي أنها آتية لا ريب فيها، ثم قال :﴿ أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ ﴾ يخاصمون. وقيل : يدخلهم المرية والشك١ في «وُقُوع الساعة » لفي ضلالٍ بعيدٍ ؛ لأن استيفاء٢ حقِّ المظلوم من الظالم واجب في العدل فلو لم تحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله عز وجل، وهذا من أمحل المحالات، فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالاً بعيداً.
١ انظر البغوي والخازن ٦/١٢٠..
٢ هذا قول الرازي في تفسيره ٢٧/١٦٠..
قوله تعالى :﴿ الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ﴾ قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : حفيٌّ بهم. وقال عكرمة : بارٌّ بهم. وقال السديّ : رفيق بهم. وقال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم بدليل قوله :﴿ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ﴾ وكل من رزقه الله من مؤمن وكافرٍ وذي روحٍ فهو ممَّن يشاءُ الله أن يرزقه.
قال جعفر الصادق : اللطيف في الرزق من وجهين :
أحدهما : أنه جعل رزقك من الطيبات.
الثاني : أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة١.
و«هو القوي » القادر على ما يشاء «العزيز » الذي لا يغالب.

فصل


إنما حسن ذكر هذا الكلام هاهنا ؛ لأنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة، فكان ذلك من لطف الله ( تعالى )٢ بعباده، وأيضاً فالمتفرقون استوجبوا العذاب الشديد. ثم إنه تعالى آخر عنهم ذلك العذاب فكان ذلك أيضاً من لطف الله تعالى، فلما سبق ذكر إيصال أعظم المنافع إليهم ( و )٣ دفع أعظم المضارِّ عنهم لا جرم حسن ذكره هاهنا٤.
١ البغوي والخازن في تفسيريهما السابقين..
٢ زيادة من أ..
٣ زيادة من أ أيضا..
٤ قاله الرازي في تفسيره ٢٧/١٦٠..
قوله :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ. . . ﴾ الآية الحرث في اللغة الكسب، أي من كان يريد بعمله الآخرة نزد له في حرثه بالتضعيف بالواحد عشرة إلى ما شاء الله من الزيادة. قاله مقاتل١. وقيل : معناه إنا نزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه٢.
وقال الزمخشري : إنه تعالى سمَّى ما يعمله العامل مما يطلب به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز٣. واعلم أنه قد تقدم أن كون الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً مجزوماً لا يختص مجيئه بكان خلافاً لأبي الحكم٤ مصنِّف كتاب الإعراب فإنه قال : لا يجوز ذلك إلا مع «كان » إلا في ضرورة شعر.
وأطلق النحويون جواز ذلك وأنشدوا بيت الفرزدق :
٤٣٧٨ دَسَّتْ رَسُولاً بِأَنَّ القَوْمَ إنْ قَدَرُوا عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُوراً ذَاتِ تَوْغِيرِ٥
وقوله أيضاً :
٤٣٧٩ تَعَشَّ فَإِنْ عَاهَدْتَني لاَ تَخُونِنِي نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ٦
وقرأ ابن مقسم والزَّعفرانيُّ ومحبوب : يزد ويؤته٧ بالياء من تحت، أي الله تعالى.
وقرأ سلام يؤته بضم هاء الكناية٨ وهو الأصل، وهو لغة الحجاز وتقدم خلاف القراء في ذلك.

فصل


قال قتادة : معنى قوله : ومن كان يريد ( حَرْثَ )٩ الدنيا أي يريد جملة حرث الدُّنيا نؤته منها أي نؤته بقدر ما قسم له كما قال :﴿ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ﴾ [ الإسراء : ١٨ ] وما له في الآخرة من نصيب ؛ لأنه لم يعمل للآخرة قال عليه الصَّلاة والسَّلام :«بَشِّرْ هَذِهِ الأمَّة بالسناء والرِّفْعَةِ والنَّصْرِ والتَّمْكِينِ في الأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ للدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ في الآخِرَةِ نَصِيبٌ »١٠ واعلم أنه تعالى قال في طلب الآخرة ( إنه )١١ يزيد له في حرثه ولم يذكر أنه يعطيه الدنيا أم لا بل سكت عنه نفياً وإثباتاً.
وأما الطالب١٢ الدنيا فبين أنه لا يعطيه شيئاً من نصيب الآخرة على التنصيص، وهذا يدل على التفاوت العظيم كأنه يقول : الآخرة أصلٌ والدنيا تبعٌ فواجد الأصل يكون واجداً للتَّبع بقدر الحاجة، إلا أنه لم يذكر ذلك تنبيهاً على أن الدّنيا أحسن من أن يقرن ذكرها بذكر الآخرة. وأيضاً بين أن طالب الآخرة يزاد في مطلوبه وطالب الدنيا يعطى بعض مطلوبه ولا يحصل له في الآخرة من نصيب البتة فبين أن طالب الآخرة يكون حاله أبداً في التزايد، وأن طالب الدنيا يكون حاله في النقصان والبطلان في الآخرة، وذلك يدل على تفضيل طلب الآخرة.
وأيضاً فإنه تعالى بين أن منافع الآخرة ومنافع الدنيا ليست حاضرة ناجزةً، بل لا بدَّ فيهما١٣ من الحرث والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاق ( في البذر ثم التسقية١٤ والتنمية ثم الحصد ثم التنقية فلما سمى الله كلا القسمين حرثاً علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل ) والمتاعب. ثم بين أنَّ مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال وأن مصير الدنيا إلى النُّقصان والعناء، فكأنه قيل : إذا كان لا بد في القسمين من متاعب الحراثة من التبقية والتنمية١٥ و الحصد١٦ والتَّنْقِية فصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في التزايد الباقي أولى من صرفها إلى ما يكون في التناقص والانقضاء.

فصل


قال ابن الخطيب : فإن قيل : ظاهر اللفظ يدل على أن من صلَّى لأجل طلب الثواب أو لأجل دفع العقاب فإنه تصح صلاته، وأجمعوا على أنها لا تصح.
فالجواب : أنه تعالى قال :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة ﴾، والحرث لا يَتَأَتَّى إلا بإلقاء البذر الصَّحيح في الأرض، والبذر الصحيح الجامع للخيرات والسعادات ليس إلا عبودية الله سبحانه وتعالى١٧.

فصل


إذا توضأ بغير نية، لم يصح، لأنه لم يرد حرث الآخرة، وذلك لا يحصل بالوضوء العاري عن النية.
١ قاله البغوي في معالم التنزيل ٦/١٢٠..
٢ نقله الرازي في المرجع السابق..
٣ نقل الكشاف ٣/٤٦٥ قال: سمي ما يعمله العامل مما ينبغي بت الفائدة والزكاء حرثا، على المجاز..
٤ نقل المؤلف هذا عن السمين عن أبي حيان في البحر قوله: "ولا نعلم خلافا في الجزم فإنه فصيح مختار إلا ما ذكره صاحب متاب الإعراب وهو أبو الحكم بن عذرة عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلام الفصيح وإنما يجيء مع كان؛ لأنها أصل الأفعال ولا يجيء مع غيرها من الأفعال. انظر البحر ٧/٥١٤، والدر المصون ٤/٧٥١..
٥ من بحر البسيط له. ودست: أرسلت في خفية. والتوغير: الإغراء بالحقد. وقد تقدم..
٦ البيت من الطويل له أيضا وقد رواه في الكتاب: تعال فإن.. البيت.
على أن رواية هذه التي أتى بها المؤلف هي المشهورة. والبيت فيه شاهدان:
شاهد معنا وهو جزم "نكن" جوابا لشرط فعله ماض (فإن عاهدتني).
وشاهد آخر غير مراد هنا وهو استعمال من للتثنية. وانظر كتاب سيبويه ٢/٣١٦، والخصائص ٢/٤٢٢ وشرح ابن يعيش ٢/١٣٢، ٤/١٣، والأشموني ١/١٥٣ والهمع ١/٨٧ والبحر المحيط ٧/٥١٤ والدر المصون ٤/٧٥١ والمغني ٤٠٤ وشرح شواهده للسيوطي ٥٣٦ و٧٢٩ والديوان ٢/٣٢٩..

٧ من القراءة الشاذة ذكرها صاحب البحر ٧/٥١٤ ومحبوب هو محمد بن الحسن بن هلال بن محبوب أبو بكر محبوب البصري مولى قريش مشهور كبير، روى القراءة عن شبل بن عباد، وأبي عمرو بن العلاء وعنه خلف بن هشام وروح بن عبد المؤمن. انظر غاية النهاية ٢/١٢٣..
٨ المحتسب لأبي الفتح ٢/٢٤٩ وهي كسابقتها شذوذا..
٩ سقط من أ الأصل..
١٠ أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي كعب ٥/١٣٤..
١١ زيادة من أ..
١٢ في ب طلب..
١٣ في ب منها..
١٤ ما بين القوسين ساقط من أ الأصل..
١٥ في الرازي التسمية..
١٦ في ب ثم الحصد..
١٧ انظر الرازي ٢٧/١٦٢..
قوله تعالى :﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين. . . ﴾ الآية. لما بين القانون الأعظم في أعمال الآخرة والدنيا أردفه ببيان ما هو الأصل في باب الضَّلالة والسعادة١ فقال :﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ ﴾ ومعنى الهمزة في «أم » التقرير والتقريع. والضمير في «شَرَعوا »٢ يجوز أن يكون عائداً على «الشركاء »، والضمير في «لهم » على الكفار، ويجوز العكس ؛ لأنهم جعلوا لهم أنصباء، والمعنى شركاؤهم أي شياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث، والعمل للدنيا. وقيل : شركاؤهم أوثانهم، وإنما أضيفت إليهم ؛ لأنهم هم الذين اتَّخذوها شركاء لله. ولما كانت سبباً لضلالتهم جعلت شارعة لدين ضلالتهم لهم كما قال إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام :﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ].
قال المفسرون : يعني كفار مكة أي ( أ )٣ لهم آلهة سنوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله. قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )٤ شرعوا لهم ديناً غير دين الإسلام٥.
قوله :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل ﴾ أي لولا القضاء السابق بتأخير الجزاء أو لولا الوعد بأن الفصل يكون بينهم يوم القيامة «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ » أي بين الكافرين والمؤمنين، أو بين المشركين وشركائهم٦.
قوله :«وإنَّ الظَّالِمِينَ » العامة بكسر «إن » على الاستئناف ومسلم بن جنوب٧ والأعرج بفتحها٨ عطفاً على كلمة الفصل. وفصل بين المتعاطفين بجواب «لولا »، تقديره : ولولا كلمة واستقرار الظالمين في العذاب لَقَضِي بينهم في الدنيا٩. وهو نظير قوله :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى ﴾ [ طه : ١٢٩ ].
١ في ب الشقاوة وهو الأصح..
٢ في ب عن وانظر الرازي السابق الكشاف ٣/٤٦٦ والبحر ٧/٥١٥..
٣ الهمزة ساقطة من ب..
٤ زيادة من أ..
٥ انظر البغوي ٦/١٢٠ و١٢١..
٦ الرازي ٢٧/١٦٣..
٧ كذا في النسختين جنوب والأصح جندب أبو عبد الله الهذلي مولاهم المدني القاص، تابعي مشهور عرض على عبد الله بن عياش ونافع وعنه ابنه وزيد بن أسلم، وابن أبي ذئب، وغيرهم مات سنة ١٣ هـ. انظر الغاية ٢/٢٩٦..
٨ انظر مختصر ابن خالويه ١٣٤ والكشاف ٢/٤٦٦..
٩ بالمعنى من الكشاف ـ المرجع السابق ـ وباللفظ من الدر المصون ٤/٧٥٢..
ثم إنه تعالى ذكر أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب. أما الأول فهو قوله :﴿ تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ ﴾ أي ترى المشركين يوم القيامة خائفين وجَِلِينَ «مِمَّا كَسَبُوا » من السيئات، ﴿ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ﴾ أي جزاء كسبهم واقع سواء أشفقوا أو لم يشفقوا.
وأم الثاني وهو أحوال أهل الثواب فهو قوله :﴿ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات ﴾ قال أبو حيان : اللغة الكثيرة تسكين واو «رَوْضَات »، ولغة هذيل١ فتح الواو إجراء لها مُجْرَى٢ الصحيح نحو : جَفَنَات٣. ولم يقرأ أحد فيما علمناه بلغتهم٤. قال شهاب الدين : إن عنى لم يقرأ أحد بلغتهم في هذا الباب من حيث هو فليس كذلك ؛ لما تقدم في سورة النور أن الأعمش قرأ :«ثَلاَثُ عَوَرَاتٍ » بفتح الواو وإن عَنَى أنه لم يقرأ في روضات بخصوصها فقريب، لكن ليس هو ظاهر عادته٥.

فصل


اعلم أن روضة الجنة أطيب بقعةٍ٦ فيها، وفيه تنبيه على أن الفسَّاق من أهل الصلاة كلهم من أهل الجنة ؛ لأنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنهم في روضات الجنَّات، وهي البقاع الشَّريفة كالبقاع التي دون تلك الروضات، لا بد وأن تكون مخصوصة بمن كانوا دون الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ثم قال :﴿ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ وهذا يدل على أن تلك الأشياء حاضرة عنده مهيَّأة٧. والعندية مجاز و«عِنْدَ رَبِّهِمْ » يجوز أن يكون ظرفاً «لِيَشَاءُونَ ». قاله الحوفي٨، أو للاستقرار العامل في «لهم » قال الزمخشري٩. ثم قال :﴿ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير ﴾ وهذا يدل على أنَّ الجزاء المرتب على العمل إنما حصل بطريق الفضل من الله تعالى لا بطريق الوجوب والاستحقاق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
هذه الآيات دالة على تعظيم حال الثواب من وجوه :
الأول : أن الملك١٤ الذي هو أعظم الموجودات وأكرمهم إذا رتب على أعمال شاقة جزاءً، دل ذلك على أن ذلك الجزاء قد بلغ إلى حيث لا يعلم كُنْهَهُ إلاَّ الله تعالى.
الثاني : أن قوله تعالى :﴿ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ ﴾ يدخل في باب غير المتناهي ؛ لأنه لا درجة إلا والإنسان يريد ما هو أعلى منها.
الثالث : أنه تعالى قال :﴿ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير ﴾ والذي يحكم بكبره من له الكبرياء والعظمة على الإطلاق يكون في غاية الكبر١٥.


١ هو هذيل بن مدركة كما قال أبو حيان في البحر ٧/٥١٥..
٢ في البحر: إجراء للمعتل مجرى..
٣ في النسختين حصيات وفي البحر والسمين جفنات وهو المراد..
٤ وانظر البحر ٧/٥١٥..
٥ الدر المصون ٤/٧٥٢ وهو بالمعنى منه..
٦ في ب قطعة..
٧ والنظر الرازي ٢٧/١٦٣..
٨ نقله عنه أبو حيان في البحر ٧/٥١٥. وقد رفض الزمخشري هذا الرأي..
٩ منصوب بالظرف لا بيشاؤون. الكشاف ٣/٤٦٦..
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ ﴾ كقوله :«كالَّذِي خَاضُوا »١. وقد تقدم تحقيقه. وتقدمت القراءات في يُبَشِّرُ٢. وقرأ مجاهدٌ وحُمَيْدُ بنُ قَيْسٍ : يُبْشِرُ بضم الياء وسكون الباء وكسر الشين٣ من أَبْشَرَ منقولاً من بَشِرَ بالكسر لا من بَشَرَ بالفتح ؛ لأنه متعدٍّ والتشديد في «بشر » للتكثير لا للتعدية، لأنه متعد بدونها٤.
ونقل أبو حيان قراءة يَبْشُرُ بفتح الياء وضم الشين عن حمزة والكسائي٥ ( أي )٦ من السَّبعة، ولم يذكر غيرهما من السبعة، وقد وافقهما على ذلك ابن كثير وأبو عمرو٧. و«ذلك » مبتدأ، والموصول بعده خبره، وعائده محذوف على التدريج المذكور كقوله «كالَّذِي خَاضُوا » أي يُبَشِّرُ بِهِ٨، ثم يُبَشِّرُهُ٩ على الاتساع. وأما على رأي يونُس١٠ فلا يحتاج إلى عائد ؛ لأنها عنده مصدرية وهو قول الفراء١١ أيضاً، أي ذلك تبشير الله عباده. وذلك إشارة إلى ما أعده الله تعالى لهم من الكرامة. وقال الزمخشري١٢ : أو ذلك التبشير الذي يبشِّره الله عباده. قال أبو حيان : وليس بظاهر ؛ إذ لم يتقدم في هذه السورة لفظ البشرى ولا ما يدل عليها من «بَشَّر » أو شبهه١٣.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
هذه الآيات دالة على تعظيم حال الثواب من وجوه :
الأول : أن الملك١٤ الذي هو أعظم الموجودات وأكرمهم إذا رتب على أعمال شاقة جزاءً، دل ذلك على أن ذلك الجزاء قد بلغ إلى حيث لا يعلم كُنْهَهُ إلاَّ الله تعالى.
الثاني : أن قوله تعالى :﴿ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ ﴾ يدخل في باب غير المتناهي ؛ لأنه لا درجة إلا والإنسان يريد ما هو أعلى منها.
الثالث : أنه تعالى قال :﴿ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير ﴾ والذي يحكم بكبره من له الكبرياء والعظمة على الإطلاق يكون في غاية الكبر١٥.


واعلم أنه تعالى لما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب الشريف، وأودع فيه أقسام الدلائل والتكاليف ورتبه على لطاعة والثواب وأمره بتبليغه إلى الأمة أمره بأن يقول إني لا أطلب منكم بسبب هذا التبليغ نفعاً حاضراً فقال :﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى ﴾.
في الاستثناء قولان :
أحدهما : أنه منقطع ؛ إذ ليست المودة من جنس الأجر١٦.
والثاني : أنه متصل١٧، أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا وهو أن تودُّوا أهل قرابتي ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة ؛ لأن قرابتهم وكانت صلتهم لازمةً لهم في المودة. قاله الزمخشري١٨.
وقال أيضاً : فإن قلت : هلا قيل : إلاَّ مودَّة القربى، أو إلا المودة للقربى١٩ ؟ !
قلت : جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها، كقولك : في آل فلان مودة٢٠ وليست «في » صلة المودة، كاللام إذا قلت : إلا المودة للقربى٢١، إنما هي متعلقة بمحذوف فتعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس، وتقديره : إلا المودة ثابتةً في القربى ومتمكنةً فيها٢٢.
وقال أبو البقاء : وقيل : متصل، أي لا أسألكم شيئاً إلا المودة٢٣.
قال شهاب الدين : وفي تأويله متصلاً بما ذكر نظر ؛ لمجيئه بشيء الذي هو عام، وما من استثناء منقطع إلا ويمكن تأويله بما ذكر، ألا ترى إلى قولك : ما جاءني أحدٌ إلا حمار، أنه يصح ما جاءني شيء إلا حماراً٢٤.
وقرأ زيد بن عليٍّ :«مودة » بدون ألفٍ ولامٍ٢٥.

فصل


في الآية ثلاثة أقوال :
الأول : قال الشَّعبيُّ : أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك، فكتب ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان٢٦ وسط النسب من قريش ليس بطنٌ من بطونهم إلا قد ولده، وكان له فيهم قرابةٌ، فقال الله عز وجل ﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ على ما أدعوكم إليه إلا أن تؤثروني٢٧ لقرابتي أي تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، والمعنى أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني، فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى وصلوا رحمي، ولا تؤذوني٢٨. وإلى هذا ذهب مجاهد وقتادة وعكرمة ومقاتل والسدي والضَّحَّاك٢٩.
الثاني : روى الكلبي عن ابن عباس، قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كانت تَنُوبهُ٣٠ نوائب وحقوق، وليس في يده سعةٌ لقالت ( الأنصار )٣١ : إن هذا الرجل هداكم٣٢ هو ابن أخيكم، وأجاركم من بلدكم، فاجمعوا له طائفة من أموالكم، ففعلوا ثم أتوه بها، فردها عليهم ونزل قوله تعالى :﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى ﴾ أي على الإيمان ( إلا )٣٣ أن لا تؤذوا أقاربي وعشيرتي، وتحفظوني فيهم، قاله سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب٣٤.
الثالث : قال الحسن : معناه إلا أن تَوَدُّوا الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح، ورواه ابن أبي نُجَيْحٍ عن مجاهد٣٥.
فالقربى على القول الأول بالقرابة التي بمعنى الرَّحِم، وعلى الثاني بمعنى الأقارب، وعلى الثالث فُعْلَى من القُرْبِ والتَّقْرِيب.
فإن قيل : طلب الأجر على تبليغ الوحي لا يجوز لوجوه :
أحدها : أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء التصريح بنفي طلب الأجر، فقال في قصة نوح عليه الصَّلاة والسَّلام ﴿ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ [ الشعراء : ١٠٩ ]. . الآية وكذا في قصة هود وصالح ولوط وشعيب عليه الصَّلاة والسَّلام ورسولنا أفضل الأنبياء فَبِأَنْ لا يطلب الأجر على النبوة والرسالة أولى.
وثانيها : أنه عليه الصَّلاة والسَّلام صرَّح بنفي طلب الأجر فقال :﴿ قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين ﴾ [ ص : ٨٦ ] وقال :﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ﴾ [ سبأ : ٤٧ ]. . الآية وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بأقل الناس فضلاً عن أعلم العلماء.
ورابعها : أن النبوة أفضل من الحكمة، وقد قال تعالى :﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾ [ البقرة : ٢٦٩ ] ووصف الدنيا بأنها متاع قليل فقال :﴿ قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ ﴾ [ النساء : ٧٧ ] فكيف يحسن بالعاقل مقابلة أشرف الأنبياء بأخس٣٦ الأشياء ؟ !
وخامسها : أن طلب الأجر يوجب التهمة، وذلك ينافي القطع بصحة النبوة. فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب أجراً ألبتة على التبليغ والرسالة، وهاهنا قد ذكر ما يجري مَجْرَى طلب الأجر وهو المودة في القربى ( هذا تقرير٣٧ السؤال ).
فالجواب : أنه لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على التبليغ، وأما قوله : إلا المودة في القربى فالجواب عنه من وجهين :
الأول : أنه هذا من باب قوله :
٤٣٨٠ وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ٣٨
يعني أنا لا أطلب منكم إلا هذا. وهذا في الحقيقة ليس أجراً ؛ لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب، قال تعالى :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [ التوبة : ٧١ ]، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام :«المُؤْمِنُونَ كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً »٣٩ والآيات والأخبار في هذا كثيرة. وإذا٤٠ كان حصول المودة بين المسلمين واجب فحصولها في حق أشرف المسلمِين أولى، فقوله :﴿ إلا المودة في القربى ﴾ تقديره والمودة في القربى ليست أجراً، فرَجَعَ الحاصل إلى أنه٤١ لا أجر ألبتة.
الثاني : إن هذا استثناء منقطع، وتم الكلام عند قوله :﴿ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ ثم قال :﴿ إِلاَّ المودة فِي القربى ﴾ أي أذكركم قرابتي منكم فكأنه في اللفظ أجر وليس بأجر٤٢.

فصل


اختلفوا في قرابته، فقيل : هم فاطمة وعلى وأبناؤهما، وفيهم نزل :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ [ الأحزاب : ٣٣ ].
وروى زيد بن أرقم٤٣ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كتابَ اللهِ تَعَالَى وَأَهْلَ بَيْتِي وَأُذَكِّرُكُم الله في أَهْلِ بَيْتِي »٤٤ قيل لزيد بن أرقم : فمن أهل بيته ؟
فقال : هم آلُ عليِّ وآل عَقِيل وآل جعفر، وآل عباس رضي الله عنهم وروى ابن عمر عن ابن بكر رضي الله تعالى عنه قال : ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته.
وقيل : هم الذي تحرم عليه الصدقة من أقاربه ويقسم فيه الخًمسُ وهم بنو هاشم، وبنو المطلب الذين لم يتفرقوا بجاهلية ولا إسلام. وقيل : هذه الآية منسوخة، وإليه ذهب الضحاك بن مُزاحم والحسين بن الفضل. قال البغوي وهذا قول ( غير )٤٥ مرضٍ ؛ لأن مودة النبي صلى الله عليه وسلم وكف الأذى عنه ومودة أقاربه والتقرب إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح من فرائض الدين٤٦.
قوله تعالى :﴿ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ﴾ أي من يكتسب طاعة ﴿ نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ﴾ العامة على «نَزد » بالنون، وزيد بن علي وعبدُ الوارث عن أبي عمرو يَزِدْ بالياء٤٧ من تحت، أي يزِد الله. والعامة «حُسْناً » بالتنوين مصدراً على «فُعْلٍ » نحو : شُكر وهو مفعول به، وعبد الوارث عن أبي عمرو حُسْنَى بألف التأنيث٤٨ على وزن بُشْرَى، ورُجْعَى، وهو مفعول به أيضاً. ويجوز أن يكون صفة كفُضْلَى، فيكون وصفاً لمحذوف أي خصْلَةً حُسْنَى. قيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه والظاهر العموم في أي حسنة كانت، إلا أنها لما ذكرت عقيب المودة في القُرْبَى دل ذلك على أن المقصود التأكيد في تلك المودَّةِ٤٩.
ثُمَّ قال سبحانه وتعالى :﴿ إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ : للقليل ( حتى يضاعفها )٥٠ والشكر في حق الله تعالى مجاز، والمعنى أنه تعالى يُحْسِنُ للمطيعين في إيصال الثواب إليهم، وفي أن يزيدَ عليهم أنواعاً كثيرةً من التفضل.
١ في حذف العائد كما سيقرره بعد والآية ٦٩ من التوبة..
٢ ولا أعرف مقصوده بتقديم القراءة في يبشر هل هي في مريم، أو الإسراء أو الحجر، أو الكهف أو التوبة، وقد وصلت إلى مريم من قوله: لتبشر به المتقين ٩٧ فاستنتجت الآتي: قرئ يبشر بفتح الياء وسكون الموحدة وضم الشين مخففة من بشر الثلاثي ونسبت لابن كثير وأبي عمرو وحمزة والكسائي، والباقون بالتشديد للتكثير لا للتعدية، وقد قرأ نافع وابن عامر بالتشديد في القرآن كله وافقهم الكسائي هنا في الشورى، بالإضافة إلى ما ذكر من القراءات أعلى. وانظر السبعة ٢٠٥ و٢٠٦ والإتحاف ٣٨٣ واللباب ميكروفيلم..
٣ نقلها صاحب الكشاف ٣/٤٦٦، وابن جني في المحتسب ٢/٢٥١، والسمين في الدر المصون ٤/٧٥٢..
٤ انظر المرجعين الأخيرين السابقين..
٥ البحر المحيط ٧/٥١٥..
٦ زيادة من أ فقط..
٧ نقل ابن مجاهد ـ كما سبق من قليل ـ في السبعة ـ أن ابن كثير وأبا عمرو يوافقانهما في هذا الموضع فقط من الشورى وانظر السبعة ٢٠٥ و٢٠٦..
٨ فحذف الياء من الضمير المجرور محلا..
٩ ثم اتصل بعد ذلك الضمير بالفعل مضموما هيئة ولكنه منصوب محلا، وانظر البيان ٢/٣٤٧..
١٠ وهو يونس بن حبيب الذي نقل عنه سيبويه كثيرا أبو عبد الرحمن الضبي أخذ عن أبي عمرو، وحماد ابن سلمة. انظر إنباه الرواة للقفطي..
١١ وهو المفهوم من عبارته في المعاني قال: "كخوضهم الذي خاضوه" المعاني ١/٤٤٦. وممن وافقهما من المتأخرين ابن مالك في التسهيل "٣٧" قال: "وقد تقع الذي مصدرية"..
١٢ الكشاف ٣/٤٦٦..
١٣ البحر المحيط ٧/٥١٥ و٥١٦..
١٦ قال بت أيضا غير الزمخشري الأخفش في المعاني ٦٨٦ ومكي في المشكل ٢/٢٧٧ وابن الأنباري في البيان ٢/٢٤٧..
١٧ وبه قال الزجاج في المعاني ٤/٣٩٨ وأبو البقاء في التبيان ١١٣٢ ناقلا له..
١٨ الكشاف ٣/٦..
١٩ وفيه: وما معنى قوله: إلا المودة في القربى؟ قلت... الخ..
٢٠ فيه: ولي فيهم هوى وحب شديد تريد: أحبهم وهم مكان حبي ومحله..
٢١ في ب في القربى خطأ وتحريف..
٢٢ الكشاف ٣/٤٦٦، واللفظ لفظ السمين ناقلا عنه ٤/٧٥٣..
٢٣ التبيان لأبي البقاء العكبري ١١٣٢..
٢٤ الدر المصون له ٤/٧٥٣، ٧٥٤ واعتراض السمين أن قدير أبي البقاء يصح في المنقطع لا في المتصل لأنه أتى بلفظ عام وهو شيء..
٢٥ عزاها صاحب شواذ القرآن (٢١٥) إلى عيسى الكوفي، بينما نسبها أبو حيان إلى ما ذكر المؤلف البحر المحيط ٧/٥١٦، وهي من الشواذ غير المتواترة..
٢٦ في ب: في وسط وفي الرازي: واسط وفي السمين أوسط وكذا في القرطبي ١٦/٢١..
٢٧ ما في المراجع تودوني وكذا ب..
٢٨ الرازي ٢٧/١٦٤ والقرطبي المرجع السابق..
٢٩ ذكره البغوي في تفسيره ٦/١٢١..
٣٠ في الرازي تعروه..
٣١ سقط من أ..
٣٢ في الرازي: هداكم الله على يده..
٣٣ سقط من ب وفي الرازي: إلا أن تودوا أقاربي. الرازي السابق..
٣٤ نقله القرطبي في الجامع ١٦/٢١..
٣٥ السابق ٢٦/٢٢ وانظر البغوي ٦/١٢١ والرازي السابق ٢٧/١٦٥..
٣٦ في ب: أحسن تحريف..
٣٧ زيادة من الرازي..
٣٨ للنابغة الذبياني من الطويل وقد أتى به شاهدا لما يسمى المدح بما يشبه الذم. وهذا البيت مشهور في الشواهد البلاغية معناه: إذا كان هذا عيبهم، فليس فيهم عيب، بل هو مدح فيهم.
انظر تفسير الخازن لباب التأويل ٦/١٢٢ وتفسير الرازي ٢٧/١٦٥، والمغني ١١٤، والهمع ١/٢٣٢..

٣٩ رواه البخاري بلفظ المؤمن للمؤمن عن أبي موسى رضي اله عنه باب المظالم ٢/٦٧ وانظر مسند الإمام أحمد ٤/٤٠٤ و٤٠٥ و٤٠٩..
٤٠ في ب: وإنه كان..
٤١ وفيها: أن لا..
٤٢ انظر في هذين الوجهين الإمام الرازي ٢٧/١٦٥، والإمام الخازن ٦/١٢٢..
٤٣ ابن زيد بن النعمان كان صحابيا مات سنة ٦٦. انظر خلاصة الكمال ١٢٦..
٤٤ رواه الإمام أحمد في مسنده ٣/١٤ و١٧ و٢٦ و٥٩ و٤/٣٦٧ و٣٧١ وقد روي الحديث: أنا تارك فيكم ثقلين..
٤٥ زيادة من البغوي..
٤٦ وانظر هذه الأقوال في البغوي والخازن ٦/١٢٢..
٤٧ ذكرها ابن خالويه في مختصره ١٣٤ وأبو حيان في البحر ٧/٥١٦ وهي شاذة غير متواترة..
٤٨ لم ترو عن أبي عمرو في المتواتر؛ انظر البحر المحيط ٧/٥١٦ ومختصر ابن خالويه ١٣٤..
٤٩ ذكره الرازي ٢٧/١٦٧..
٥٠ زيادة من البغوي ٦/١٢٢..
قوله :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً ﴾ اعلم أن الكلام ابتداء من أول هذه السورة في تقرير أن هذا الكتاب إنما حصل بِوَحْي الله تعالى، قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ يوحي إلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ ﴾ [ الشورى : ٣ ] واتصال الكلام في تقرير هذا المعنى وتعلق بعضه ببعض ( حتى١ وصل ) إلى هاهنا، ثم حكى هاهنا، شبهة القوم وهي قولهم : إن هذا ليس وحياً من الله تعالى فقال :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً ﴾٢. قال الزمخشري :«أم » منقطعة ومعنى الهمزة للتوبيخ٣ والمعنى : أيقع٤ في قلوبهم ويجري على ألسنتهم أن ينسبوا مثله على الافتراء على الله سبحانه وتعالى الذي هو أقبح الأنواع وأفحشها، ثم أجاب عنه بأن قال :﴿ فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ ﴾ قال مجاهد : يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشقَّ عليك أذاهم وقولهم : إنه مفتر كذابٌ، وقال قتادة : يعني يطبع على قبلك فينسيك٥ القرآن وما آتاك فأخبرهم أنه لو افترى على الله كذباً لفعل به، وما أخبر في هذه الآية٦ فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب إلاّ من كان في هذه الحالة والمقصود من هذا الكلام المبالغة في تقرير الاستبعاد، ومثاله : أن ينسب رجل بعض الأمناء إلى الخيانة فيقول الأمين : لعل الله أعمى قَلْبي، وهو لا يريد إثبات الخِذلان ولا عَمَى القلب لنفسه وإنما يريد استبعاد صدق الله تعالى الخيانة عنه٧.
قوله تعالى :﴿ وَيَمْحُ الله الباطل ﴾ هذا مستأنف غير داخل في جزاء الشرط ؛ لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً، وسقطت الواو منه لفظاً لالتقاء الساكنين في الدَّرج، وخطَّا حملاً للخطِّ على اللفظ كما كتبوا :﴿ سَنَدْعُ الزبانية ﴾ [ العلق : ١٨ ] عليه، ولكن ينبغي أن لا يجوز الوقف على هذه الآية لأنه إن وقف عليه بالأصل هو الواو خالفنا خط المصحف وإن وقف عليه بغيرها موافقاً للرسل خالفنا الأصل٨. وتقدَّم بحث مثل هذا.
وقد منع مكيٌّ الوقف على نحو :﴿ وَمَن تَقِ السيئات ﴾ [ غافر : ٩ ]. وقال الكسائي : فيه تقديم وتأخير مجازه والله يمح الباطل فهو في محل رفع، ولكن حذفت منه الواو في المصحف حملاً على اللفظ كما حذفت من قوله :﴿ وَيَدْعُ الإنسان ﴾ [ الإسراء : ١١ ] ﴿ سَنَدْعُ الزبانية ﴾ [ العلق : ١٨ ].

فصل


أخبر تعالى أن ما يقولونه باطل يمحوه الله «ويُحِقُّ الحَقَّ » أي الإسلام بكلماته، أي بما أنزل الله تعالى من كتاب، وقد فعل الله ذلك فمحى باطلهم، وأعلى كلمة الإسلام «إنَّهُ عَلِيم » بما في صدرك وصدورهم.
١ زيادة من الرازي..
٢ المرجع السابق..
٣ الكشاف ٣/٤٦٨..
٤ في ب ليقع. والتصحيح من الرازي..
٥ انظر البغوي وفي ب فيسرك والتصحيح من البغوي..
٦ انظر البغوي ٦/١٢٣..
٧ الرازي ٢٧/١٦٧ و١٦٨..
٨ قاله شهاب الدين السمين في الدر المصون ٤/٧٥٥..
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت ﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى ﴾ وقع في قلوب قوم منها شيء وقالوا : يريد أن يحثنا٠ على أقاربه من بعده، فنزل جبريل فأخبره أنه اتهموه فأنزل الله هذه الآية فقال القوم يا رسول الله١ :( ف )٢ إنا نشهد أنك صادق فنزل :﴿ وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ ﴾ قال ابن عباس : يريد أولياءه وأهل طاعته٣. قال الزمخشري : يقال٤ : قَبِلْتُ مِنْهُ الشيء وقَبِلْتُهُ عَنْهُ.

فصل


قيل : التوبة بترك المعاصي نية وفعلاً، والإقبال على الطاعة نيَّةً وفعلاً. وقال سهل ابن عبد الله : التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال الممدوحة٥. وقيل : الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل روى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، وكبَّر، فلما فرغ من صلاته قال عليٌّ رضي الله تعالى عنه : يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، فقال يا أمير المؤمنين ( وما )٦ التوبة ؟ فقال٧ : اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفريضة الإعادة ورد المظالم وإدامة٨ النفس في الطاعة كما ربتيها٩ في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل ضحك ضحكته١٠.
قالت المعتزلة : يجب على الله قبول التوبة، وقال أهل السنة : لا يجب على الله تعالى، وكل ما يقبله فهو كرم وفضل، واحتجوا بهذه الآية فقالوا : إنه تعالى تمدح بقبول التوبة، ولو كان ذلك القبول واجباً لما حصل المدح١١ العظيم، ألا ترى أنه من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس١٢ ظلماً كان ذلك مدحاً.
قوله :﴿ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات ﴾ إما أن يكون المراد منه أن يعفو عن الكبائر بعد التوبة، أو المراد أن يعفو عن الصغائر أو المراد : أن يعفو عن الكبائر قبل التوبة١٣.
والأول باطل وإلا صار قوله :﴿ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات ﴾ عين قوله :﴿ وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ ﴾ والتكرار خلاف الأصل )١٤.
والثاني أيضاً باطل ؛ لأن ذلك واجبٌ، وأداء الواجب لا يمدح به فبقي القسم الثالث فيكون المعنى أنه تارة يعفو بواسطة قبول التوبة، وتارة يعفو ابتداء من غير توبة١٥.

فصل


روى أنس ( رضي الله عنه )١٦ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«للهُ أشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بأرْضٍ فَلاَةٍ فانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْها طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرةً فاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنا هُوَ كَذَلِكَ إذْ هُوَ بِهَا قَائِمةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخُطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ : اللَّهُمَّ أنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ » أخطأ من شدَّة الفَرَحِ.
قوله :﴿ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ قرأ الأخوان وحَفْصٌ يَفْعَلُونَ بالياء من تحت ؛ نظراً إلى قوله :«مِنْ عِبَادِهِ » وقال بعده :﴿ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ والباقون١٧ بالخطاب إقبالاً على الناس عامةً، وهو خطاب للمشركين.
٠ تصحيح من البغوي ٦/١٢٣، وفي ب يخشى..
١ زيادة من ب عن البغوي..
٢ زيادة من ب عن البغوي..
٣ انظر البغوي ٦/١٢٣..
٤ الكشاف ٣/٤٦٨..
٥ البغوي المرجع السابق..
٦ تكملتان من تفسير الرازي..
٧ تكملتان من تفسير الرازي..
٨ في الرازي: ولإذابة النفس..
٩ في ب وأمهر. والتصحيح من الرازي..
١٠ وانظر تفسير الإمام الرازي ٢٧/١٦٨، والكشاف ٣/٤٦٨ و٤٦٩..
١١ في الرازي: التمدح..
١٢ وفيه: ولا يقتلهم غضبا، والعبارة بتصرف من المؤلف في عبارة الرازي ٢٧/١٦٨..
١٣ السابق..
١٤ ما بين القوسين سقط من ب..
١٥ الرازي المرجع السابق..
١٦ سقط من ب..
١٧ من القراءات المتواترة، انظر السبعة ٥٨٠، والإتحاف ٣٨٣، ومعاني القرآن للفراء ٣/٢٣..
قوله تعالى :﴿ ويستجيب الذين آمَنُواْ ﴾ يجوز أن يكون الموصول فاعلاً١ أي يجيبون ربهم إذا دعاهم كقوله تعالى :﴿ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [ الأنفال : ٢٤ ] واستجاب كأجاب، ومنه قوله الشاعر :
٤٣٨١ وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَلِكَ مُجِيبُ٢
ويجوز أن تكون السين للطلب على بابها بمعنى ويستدعي المؤمنون الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة٣. ويجوز أن يكون الموصول مفعولاً به والفاعل مضمر يعود على الله بمعنى : ويُجيبُ الذينَ آمنوا أي دُعَاءَهُمْ. وقيل : ثَمَّ لام مقدرة أي ويستجيبُ الله لِلذِينَ آمنوا٤، ( فحذفها، للعلم بها٥، كقوله :﴿ وَإِذَا كَالُوهُمْ ﴾ [ المطففين : ٣ ] قال عطاء عن ابن عباس معناه : ويُثِيبُ الذين آمنوا )٦ وعلموا الصالحات ﴿ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ سِوَى ثواب أعمالهم تفضلاً منه، وروى أبو صالح عه : يشفعهم ويزيدهم من فضله. ( ثُمَّ )٧ قال في إخوان إخوانهم٨ :﴿ والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾.
١ البحر المحيط ٧/٥١٧..
٢ من تمام الطويل وهو لكعب بن سعد الغنوي من قطعة أوردها القالي في أماليه ٢/١٥١. وشاهده: أن أجاب واستجاب بمعنى واحد، و "فلم يستجبه" بمعنى فلم يجبه. وانظر الأصمعيات ٩٦، ومجاز القرآن ١/٦٧ و٢/١٠٧ والاقتضاب ٣/٣٩٩، واللسان جوب، والمسائل العسكرية للفارسي ١٥٥، والدر المصون ٤/٧٥٥..
٣ نقله الفراء في المعاني ٣/٢٤..
٤ قال بهذين الوجهين ابن الأنباري في البيان ١/٣٤٨..
٥ الكشاف ٣/٤٦٩..
٦ ما بين القوسين كله سقط من ب بسبب انتقال النظر..
٧ زيادة من ب..
٨ انظر البغوي ٦/١٢٤..
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ﴾، قال خَبَّاب بن الأرتِّ : فينا نزلت هذه الآية، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قُرَيْظَة والنَّضير وبني قَينقاعَ وتمنيناها فأنزل الله عز وجل ﴿ وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ ﴾، لطغوا في الأرض، قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )١ : بغيهم طَلَب ( هم )٢ منزلةً بعد منزلة، ومركباً بعد مركب وملبساً بعد ملبس، ولكن ينزل أرزاقهم بقدر ما شاء نظراً منه لعباده٣.
( قرأ ابن كثير٤ وأبو عمر يُنَّزِّلُ مشددة، والباقون٥ مخففة ) إنَّه بعباده خبيرٌ بصيرٌ. روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عز وجل في حديث طويل وفيه يقول الله عزَّ وجلَّ :«ما تَرَدَّدْتُ في شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي في قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي المُؤْمِن يَكْرَهُ المَوْتَ وأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ٦ وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وإنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ لمَنْ يَسْأَلُنِي البَابَ عَنِ العِبَادَةِ فأَكُفُّهُ عَنْهُ ( أّنْ )٧ لاَ يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فيُفْسِدَهُ ذَلِكَ وَإنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ لمَنْ لاَ يُصْلِحُ إيمَانَهُ إلاَّ الغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي ( المُؤمِنِينَ )٨ لمَنْ لاَ يًصْلِحُ إيمَانهُ إلاَّ الفَقْرُ ولو أَعْنَيْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي ( المُؤْمِنِينَ ) لمَنْ لاَ يًصْلِحُ إيمانَهُ إلاَّ الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي ( المُؤْمِنِينَ ) لمَنء لاَ يُصْلِحُ إيمَانَهُ إلاَّ السَّقَمُ وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ وذّلِكَ أَنِّي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي بِعِلْمِي بِقُلُوبِهِمْ ِإنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ »٩.

فصل


وجه التعلق أنه تعالى لما قال في الآية الأولى إنه يجيب دعاء المؤمنين وَرَدَ عليه سؤالٌ وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبليَّةٍ وفَقْر ثم يدعو فلا يظهر أثر الإجابة فكيف الجمع بينه وبين قوله : ويستجيب الذين آمنوا ؟ ! فأجاب تعالى عنه بقوله :﴿ وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ﴾، ولأقدموا على المعاصي، فلذلك وجب أن لا يعطيهم ما طلبوه، ويؤيده الحديث المتقدم١٠.

فصل١١


قال الجبائِيُّ : هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة من وجهين :
الأول : أنه تعالى لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض غير مراد، فعلمنا أنه تعالى لا يريد البَغْيَ في الأرض، وذلك يوجب فساد قول المجبرة.
الثاني : أنه تعالى إنما لم يرد بسط الرزق ؛ لأنه يفضي إلى المفسدة، فلما بين تعالى أنه لا يريد ما يفضي إلى المفسدة فبأن لا يكون مريداً للمفسدة كان أولى.
وأجيب : بأن الميل إلى البغي والقسوة والقهر صفة حدثت بعد أن لم تكن، فلا بد لها من فاعل وفاعل هذه الأحوال إما البعد أو الله، والأول باطل ؛ لأنه إنما يفعل هذه الأشياء لو مال طبعه إليه وعاد السؤال في أنه من المحدث لذلك الميل الثاني ؟ ويلزم التسلسل، وأيضاً فالميل الشديد إلى الظلم والقسوة عيوبٌ ونقصاناتٌ، والعاقل لا يرضى بتحصيل موجبات النقصان لنفسه، ولما بطل هذا ثبت أن محدث هذا الميل والرغبة هو الله تعالى.
ثم أورده الجبائي على نفسه سؤالاً :
فإن قيل : أليس قد يبسط الله الرزق لبعض عباده مع أنه يبغي ؟ !.
فأجاب عنه : بأن الذي يبسط له الرزق إذا بغى كان المعلوم من حاله أنه يبغي على كل حال سواء أُعْطِيَ ذلك الرزق أو لم يُعْطَ١٢. قال ابن الخطيب : هذا الجواب فاسد، ويدل عليه القرآن والعقل أما القرآن فقوله تعالى :﴿ كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رءآه استغنى ﴾ [ العلق : ٦-٧ ] حكم مطابق لكن حصول الغنى سبب لحصول الطغيان وأما العقل فهو أن النفس إذا كانت مائلةً إلى الشر فمع حصول الغنى تميل إلى الشر أكثر، فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان١٣.

فصل


في كون بسط الرزق موجباً للطغيان وجوه :
الأول : أن الله تعالى لو سوَّى في الرزق بين الكل لامتنع كون البعض محتاجاً إلى البعض، وذلك يوجب خراب العالم وتعطيل المصالح.
الثاني : أن هذه الآية مختصة بالعرب. فإنه١٤ كلما اتسع رزقهم، ووجدوا من ماء المطر ما يرويهم ومن الكلأ والعشب ما يشبعهم، أقدموا على النهب والغارة.
الثالث : أن الإنسان متكبر بالطبع، فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبليَّة ومكروه انكسر وعاد إلى التواضع والطاعة١٥.
١ زيادة من أ..
٢ كذلك..
٣ البغوي المرجع السابق..
٤ ما بين القوسين سقط من ب..
٥ كذا ذكر المؤلف وفي الرازي: قرأ ابن كثير وأبو عمرو ينزل خفيفة والباقون بالتشديد ولم أجدها في المتواتر عنهما ولا في الشواذ، وقد ذكرها الرازي في تفسيره ولكن على العكس مما ذكر المؤلف انظر الرازي ٢٧/١٧١..
٦ في ب إساءته..
٧ زيادة من البغوي..
٨ كلمة المؤمنين سقطت من ب محررة..
٩ أخرجه الإمام البغوي في تفسيره عن هشام الكناني عن أنس. البغوي ٦/١٢٥، وانظر الخازن نفس الصفحة ومسند الإمام أحمد ٦/٢٥٦، والقرطبي ١٦/٢٨ وهو جزء من حديث..
١٠ الرازي ٢٧/١٧٠..
١١ هذا الفصل كله سقط من نسخة ب..
١٢ انظر الرازي مع تغيير وتصرف في العبارة ٢٧/١٧٠..
١٣ بالمعنى من تفسيره ٢٧/١٧٠..
١٤ في ب وإنه..
١٥ المرجع السابق..
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث ﴾ أي المطر ﴿ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ ﴾ من بعد ما يئس الناسُ منه. وإنزال الغيب بعد القنوط أدعى إلى الشكر ؛ لأن الفرح بحصول النعمة بعد البلية أتمُّ.
قال الزمخشري : قرئ قنطوا، بفتح النون وكسرها١. ( فأما فتح النون فهي قراءة العامة، وأما كسرها فهي قراءة يحيى بن وثَّاب، والأعمش٢ وهي لغة وعليها قراءة :﴿ يَقْنَطُ ﴾ [ الحجر : ٥٦ ] ﴿ لاَ تَقْنَطُواْ ﴾ [ الزمر : ٥٣ ] بفتح النون في المتواتر. ولم يقرأ في الكسر في الماضي إلا شاذاً و«ما » مصدرية أي من بعد قُنُوطِهِمْ )٣. قال مقاتل : حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين حين قنطوا، ثم أنزل الله المطر فذكرهم الله نعمه.
قوله :﴿ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ﴾ يبسط مطره، كما قال :﴿ وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ [ الأعراف : ٥٧ ] وهو الولي الحميد. «الوَلِيُّ » : الذي يتولى عباده بإحسانه «الحَميد » المحمود على ما يوصل إلى الخلق من الرحمة وقيل :«الولي » لأهل طاعته، «الحميد » عند خلقه.
١ الكشاف ٣/٤٦٩..
٢ وهي من الأربع فوق العشر انظر الإتحاف ٣٨٣، ثم الكشاف السابق والبحر المحيط ٧/٥١٨..
٣ ما بين القوسين ساقط من ب..
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض... ﴾ الآية قد تقدم الكلام على دلالة خلق السموات والأرض والحيوانات على وجود الإله الحيكم.
فإن قيل: كيف يجوز إطلاق لفظ الدابَّة على الملائكة؟!.
فالجواب: فيه وجوه:
الأول: أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة، وإن كان فاعله واحداً منهم كما يقال: «بَنُو فُلاَنٍ فَعَلُوا كََذَا»، وإنما فعله واحدٌ م نهم ومنه قوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢].
الثاني: أن الدابة عبارة عما فيه الروح والحركة، والملائكة لهم الروح والحركة.
الثالث: لا يبعد أن يقال: إنه تعالى خلق في السموات أنواعاً من الحيوانات يمشون
198
مشي الأناس على الأرض. وروى العبَّاس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «فوق السماء السابعة بحر (بين) أسفله وأعله كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعاٍ بين رُكَبِهِنَّّ وأَضلاَفِهِنَّ كما بين السَّمَاءِ والأرْضِ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِك العَرْش... » الحديث.
قوله: «وَمَا بَثَّ» يجوز أن تكون مجرورة المحل عطفاً على «السموات» أو مرفوعته عطفاً على «خلق»، على حذف مضاف أي وخلق ما بثَّ. قاله أبو حيان. وفيه نظر؛ لأنه يئول إلى جره بالإضافة «لِخَلق» المقدر فلا يعدل عنه.
قوله: «إذَا يَشَاءَ» «إذَا» منصوبة «بجَمْعِهِمْ» لا «بِقَدِيرٍ»، قال أبو البقاء: لأن ذلك يؤدي إلى أن يصير المعنى: وهو على جمعهم قدير إذا يشاء، فتتعلق القدرة بالمشيئة وهو محال. قال شهاب الدين: وَلاَ أدري ما وجه كونه محالاً على مذهب أهل السنة، فإن كان يقول المعتزلة، وهو القدرة تتعلق بما لم يشأ الله مشى كلامه، ولكنه مذهب رديء لا يجوز اعتقاده. ونقول: يجوز تعلق الظرف به أيضاً. قال الزمخشري: «إذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ»، والمقصود أنه تعالى خلقها لا لعجز ولا لمصلحة ولهذا قال: ﴿والليل إِذَا يغشى﴾ [الليل: ١] ٍ، يعنى الجمع والحشر والمحاسبة.

فصل


احتج الجبَّائيُّ بقوله: إذا يشاء قدير على أن مشيئة الله تعالى محدثةٌ، قال: لأن كلمة «إذا» ظرف لما (لم) يستقبل من الزمان ولكمة «يَشَاءُ» صيغة المستقبل فلو كانت مشيئته تعالى قديمة لم يكن لتخصيصها بذلك الوقت المستقبل فائدة، ولما دل قوله: «إذَا يَشَاءُ» على التخصيص علمنا أن مشيئته تعالى محدثة.
وأجيب: بأن هاتين الكلمتين كما دخلتا على المشيئة فقد دخلتا أيضاً على لفظ «القَدِير» فلزم على هذا أن تكون قدرته صفة محدثة، ولما كان هذا باطلاً فكذا القول في المشيئة.
199
قوله: ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ قرأ نافع وابن عامر بما كسبت بغير فاء، الباقون بالفاء «فما» في القراءة الأولى الظاهر أنها موصولة بمعنى الذي، والخبر الجار من قوله «بما كسبت».
وقال قوم منهم أبو البقاء: إنها شرطية حذفت منها الفاء، قال أبو البقاء: كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٢١]
وقول الآخر:
٤٣٨٢ - مَنْ يَفْعَل الحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا..............................
وهذا ليس مذهب الجمهور، إنما قال به الأخفش وبعض البغداديِّين، وأما قوله: «إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» فلي جواباً للشرط، إنما هو جواب لقسم مقدر حذفت لامه الموطِّئة قبل أداة الشرط.
وأما القراءة الثانية، فالظاهر أنها فيها شرطية. وقال أبو البقاء: إنَّه ضَعيفٌ ولا يلتفت إلى ذلك. ويجوز تكون موصولة، والفاء داخلة في الخير تشبيهاً للموصول بالشرط بشروط مذكورة في هذا الكتاب. وقد وافق نافع وابن عامر مصاحفهما، فإن الفاء ساطقة من مصاحف المدينة والشام، وكذلك الباقون، فإنها ثابتة في مصاحف مكَّة والعراق.

فصل


اختلفوا فيما يحصل في الدنيا من الآلام والأسقام، والقَحط، والغَرَق، والمصائب هي هي عقوبات على ذنوب سلفت أم لا؟ فمنهم من أنكر ذلك لوجوه:
الأول: قوله تعالى: ﴿اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [غافر: ١٧] بيّن تعالى أن ذلك إنما يحصل يوم القيامة وقال تعالى: ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ [الفاتحة: ٤] أي يوم الجزاء، وأجمعوا على أن المراد منه يوم القيامة.
الثاني: مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق، والصِّدِّيق، فيمتنع أن يكون عقوبة على
200
الذنوب، بل حصول المصائب (للصالحين) والمتقين أكثر منه للمذنبين، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «خُصَّ البَلاَءُ بالأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الأَمْثَل فالأَمْثَلِ».
الثالث: أن الدنيا دار تكليف، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار تكليف ودار جزاء معاً وهو محالٌ. وقال آخرون: هذه المصائب قد تكون أَجزيةً على ذنوب متقدمة لهذه الآية، ولما روى الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ ولا عَثْرةِ قَدَمٍ وَلاَ اخْتِلاَجِ عِرْقٍ إلاَّ بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللهُ عَنْهُ أَكْثَرُ».
قال علي بن أبي طالب: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَفْضَلِ آيَةَ في كِتَابِ اللهِ حَدَّثَنا بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوعَنْ كَثِيرٍ « (قال) : وَسَأفسِّرُها لَكَ يَا عَلِيُّ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلاَءٍ في الدُّنْيَا فبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ واللهُ عَزَّ وجَلَّ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْكُمْ العُقُوبَةَ في الآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللهُ عَنْهُ في الدُّنْيَا، فَالله أَحْلَمُ مِنْ أنْ يَعُودَ بعد عَفْوِهِ. وتمسكوا أيضاً بقوله تعالى بعد هذه الآية: ﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا﴾ » وذلك تصريح بأن ذلك الاهلاك بسبب كسبهم. وأجاب الأولون بأن حصول هذه المصائب يكون من باب الأمتحان في التكليف، لا من باب العقوبات، كما في حق الإنبياء والأولياء.
ويحمل قوله: ﴿بما كسبت أيديكم﴾ على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم.

فصل


هذه الآية تقتضي إضافة الكسب إلى اليد، والكسب لا يكون بل بالقدرة القائمة باليد فوجب أن يكون المراد من لفظ اليد هاهنا القدرة، وإذا كان هذا المجاز مشهوراً مستعملاً كان لفظ اليد الوارد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيهاً لله تعالى عن الأعضاء.
قوله: ﴿وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾ أي قد يترك الكثير بفضله ورحمته قال الواحدي بعد أن روى حديث عليٍّ المتنقدم: وهذه أرجى آية في كتاب الله؛ لأن الله تعالى جعل ذنوب
201
المؤمنين صنفين، صنف كفَّر عنهم بالمصائب، وصنفٌ عَفَا عنه في الدنيا، وهو كَرَمٌ لا يرجع في عفوه فهذه سنة الله مع المؤمنين. وأما الكافر، فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي (رَبَّهُ) يوم القيامة.
ثم قال: ﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أي بفائتين «في الأرض» هرباً، أي لا تُعْجِزونَنِي حيث ما كنتم ولات َسْبِقُونِي ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ والمراد به من يعبد الأصنام، بين أنه لا فائدة فيها ألبتة بل النّصير هو الله تعالى، فلا جرم هو الذي يحْسُنُ عِبَادَتُهُ.
202
قوله :﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ قرأ نافع وابن عامر بما كسبت بغير فاء١، والباقون بالفاء «فما » في القراءة الأولى الظاهر أنها موصولة٢ بمعنى الذي، والخبر الجار من قوله «بما كسبت ».
وقال قوم منهم أبو البقاء : إنها شرطية حذفت منها الفاء، قال أبو البقاء : كقوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٢١ ].
وقول الآخر :
٤٣٨٢ مَنْ يَفْعَل الحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَ . . . . . . . . . . . . . . . . ٣
وهذا ليس مذهب الجمهور، إنما قال به الأخفش وبعض البغداديِّين٤، وأما قوله :«إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ » فلي جواباً للشرط، إنما هو جواب لقسم مقدر حذفت لامه الموطِّئة قبل أداة الشرط٥.
وأما القراءة الثانية، فالظاهر أنها فيها شرطية. وقال أبو البقاء : إنَّه ضَعيفٌ٦ ولا يلتفت إلى ذلك. ويجوز تكون موصولة، والفاء داخلة في الخبر تشبيهاً للموصول بالشرط بشروط مذكورة في هذا الكتاب. وقد وافق نافع وابن عامر مصاحفهما، فإن الفاء ساقطة من مصاحف المدينة والشام، وكذلك الباقون، فإنها ثابتة في مصاحف مكَّة والعراق٧.

فصل


اختلفوا فيما يحصل في الدنيا من الآلام والأسقام، والقَحط، والغَرَق، والمصائب هل هي عقوبات على ذنوب سلفت أم لا ؟ فمنهم من أنكر ذلك لوجوه :
الأول : قوله تعالى :﴿ اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [ غافر : ١٧ ] بيّن تعالى أن ذلك إنما يحصل يوم القيامة وقال تعالى :﴿ مالك يَوْمِ الدين ﴾ [ الفاتحة : ٤ ] أي يوم الجزاء، وأجمعوا على أن المراد منه يوم القيامة.
الثاني : مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق، والصِّدِّيق، فيمتنع أن يكون عقوبة على الذنوب، بل حصول المصائب ( للصالحين )٨ والمتقين أكثر منه للمذنبين، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام :«خُصَّ البَلاَءُ بالأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الأَمْثَل فالأَمْثَلِ »٩.
الثالث : أن الدنيا دار تكليف، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار تكليف ودار جزاء معاً وهو محالٌ. وقال آخرون : هذه المصائب قد تكون أَجزيةً على ذنوب متقدمة لهذه الآية، ولما روى الحسن قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ ولا عَثْرةِ قَدَمٍ وَلاَ اخْتِلاَجِ عِرْقٍ إلاَّ بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللهُ عَنْهُ أَكْثَرُ »١٠.
قال علي بن أبي طالب :«أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَفْضَلِ آيَةَ في كِتَابِ اللهِ حَدَّثَنا بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :«﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ ( قال )١١ : وَسَأفسِّرُها لَكَ يَا عَلِيُّ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلاَءٍ في الدُّنْيَا فبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ واللهُ عَزَّ وجَلَّ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْكُمْ العُقُوبَةَ في الآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللهُ عَنْهُ في الدُّنْيَا، فَالله أَحْلَمُ مِنْ أنْ يَعُودَ بعد عَفْوِهِ١٢. وتمسكوا أيضاً بقوله تعالى بعد هذه الآية :﴿ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ﴾ » وذلك تصريح بأن ذلك الإهلاك بسبب كسبهم. وأجاب الأولون بأن حصول هذه المصائب يكون من باب الامتحان في التكليف، لا من باب العقوبات، كما في حق الأنبياء والأولياء.
ويحمل قوله :﴿ بما كسبت أيديكم ﴾ على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم١٣.

فصل


هذه الآية تقتضي إضافة الكسب إلى اليد، والكسب لا يكون بل بالقدرة القائمة باليد فوجب أن يكون المراد من لفظ اليد هاهنا القدرة، وإذا كان هذا المجاز١٤ مشهوراً مستعملاً كان لفظ اليد الوارد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيهاً لله تعالى عن١٥ الأعضاء.
قوله :﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ أي قد يترك الكثير بفضله ورحمته قال الواحدي بعد أن روى حديث عليٍّ المتقدم : وهذه أرجى آية في كتاب الله ؛ لأن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين، صنف كفَّر عنهم بالمصائب، وصنفٌ عَفَا عنه في الدنيا، وهو كَرَمٌ لا يرجع في عفوه فهذه سنة الله مع المؤمنين. وأما الكافر، فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي ( رَبَّهُ )١٦ يوم القيامة١٧.
١ وكذا قرأ أبو جعفر من السبعة أيضا انظر السبعة ٥٨١، والإتحاف ٣٨٣..
٢ وهو أحد قولي ابن الأنباري في البيان ٢/٣٤٩ وانظر الجامع للإمام القرطبي ١٦/٣٠..
٣ سبق هذا البيت وبيان ما فيه، وانظر التبيان ١١٣٣..
٤ حذف الفاء ضرورة عند المحققين والجمهور في موضع اللزوم كالبيت السابق وقد روي: من يفعل الخير فالرحمن يشكره فلا ضرورة إذن. وأجاز الكوفيون حذف العلامة اختيارا استدلالا بقوله: ّأيونما تكونوا يدرككم الموت" على قراءة الرفع وهي شاذة. وهذا على غير رأي سيبويه والجمهور. انظر شرح الكافية ٢/٢٦٣..
٥ والتقدير: ولئن أطعتموهم، وهذا قول السمين في الدر ٤/٧٥٦..
٦ التبيان ١١٣٣..
٧ الكشاف ٣/٤٧٠ والسمين في الدر المصون ٤/٧٥٧..
٨ سقط من ب..
٩ في ابن كثير: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون" ٣/٤٠٤ بدون سند..
١٠ رواه ابن أبي حاتم عن الحسن انظر المرجع السابق ٤/١١٦ والكشاف ٣/٤٧١..
١١ سقط من ب..
١٢ نقله البغوي في معالم التنزيل ٦/١٢٦..
١٣ قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٧/١٧٢، ١٧٣..
١٤ فهو مجاز مرسل علاقته السببية كقوله تعالى: ﴿يد الله فوق أيديهم﴾..
١٥ في ب "من". وانظر الرازي السابق..
١٦ لفظ ربه سقط من ب..
١٧ انظر البسيط للإمام الواحدي ميكروفيلم، والرازي ٢٧/١٧٣..
ثم قال :﴿ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ أي بفائتين «في الأرض » هرباً، أي لا تُعْجِزونَنِي حيث ما كنتم ولا تَسْبِقُونِي ﴿ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ والمراد به من يعبد الأصنام، بين أنه لا فائدة فيها ألبتة بل النّصير هو الله تعالى، فلا جرم هو الذي يحْسُنُ عِبَادَتُهُ١.
١ السابق..
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام﴾ قرا نافعٌ وأبو عمرو «الجواري» بيا في الوصل. وأما الوقف فإثباتها على الأصل وحذفها للتخفيف، وهي السفن، وأحدثها جاريةٌ، وهي السائرة في البحر.
فإن قيل: الصفة متى لم تكن خاصةً بموصوفها امتنع حذف الموصوف، لا تقول: مررت بماشٍ؛ لأن المَشْيَ عامٌّ، وتقول: مررت بمهندس وكاتبٍ، والجري ليس من الصفات الخاصة فما وجه ذلك؟
فالجواب: أن قوله: «في البحر» قرينة دالة على الموصوف، ويجوز أن تكون هذه صفة غالبة كالأبطح والأبرق، فوليت العوامل دون موصوفها. و «في البَحْرِ» متعلق «بالجواري»، إذا لم يجر مجرى الجوامد، فإن جرى مجراه كان حالاً منه، وكذا قوله: «كالأَعْلاَمِ» وهي الجبال قالت الخَنْسَاءُ:
202
روي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استنشد (ب) قصيدتها هذه، فلما وصل (الراوي) (إلى) هذا البيت قال: قَاتَلَهَا اللهُ مَا رَضِيَتْ تَشْبِيهَهُ بالجَبَلِ حَتَّى جَعَلتْ في رَأْسِهِ نَاراً.
وقال مجاهد: الأعلام القصور، واحدها علم. وقال الخليل بن أحمد: كل شيءٍ مرتفع عند العرب فهو علم وسمع: هذه الجوار، وركبت الجوار، وفي الجوار، بالإعراب على الراء تناسياً للمحذوف، وتقدم هذا في قوله تعالى: ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ [الأعراف: ٤١].

فصل


اعلم أن المقصود من ذكر هذه الآية أمران:
أحدهما: أن يستدل به على وجود الإله القادر الحكيم.
الثاني: أن يعرف ما فيه من النِّعم العظيمة لله تعالى على العباد، وأما وجه الأول فإن هذه السفن العظيمة التي كالجبال تجري على وجه البحر عد هبوب الريح على أسرع الوجوه وعنند سكون الرياح (تقف) وقد تقدم في سورة النحل أن مُحَرِّك الرياح ومُسَكِّنَها هو الله (سبحانه و) تعالى؛ إذْ لا يقدر أحد من البشر على تحريكها ولا على تسكينها، وذلك يدل وجود الإله القادر مع أن تلك السفينة في غاية الثقل ومع ثقلها بقيت على وجه الماء أيضاً. وأما دلالتها على النعم العظيمة، وهو مافيها من المنافع فإنه تعالى خص كل جانب من الأرض بنوع من الأمتعة، فإذا نقل متاع هذا الجانب إلى الجانب الآخر في السفن وبالعكس حصلت المنافع العظيمة بالتجارة، فلهذه الأسباب ذكر الله تعالى حال هذه السفن.
قوله: ﴿إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح﴾ التي تجري بها ﴿فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ﴾ قرأ أبو عمرو والجمهور بهمزة: «إنْ يَشَأْ» لأن السكون علامة الجزم، وورشٌ عن نافع بلا همز وقرأ ناقع «يُسْكِنِ الرِّيَاحَ» على الجمع والباقون «الريحَ» على التوحيد.
وقوله: «فَيَظْللْنَ» العامة على فتح اللام التي هي عين الكملة وهو القياس؛ لأن
203
الماضي بكسرها، تقول ظَلِلْتُ قائماً.
وقرأ قتادة بكسرها وهو شاذ، نحو: حسب يحسب وأخواته وقد تقدمت آخر البقرة.
وقال الزمخشري: قرىء بفتح اللام وكسرها من ظَلَّ يظل ويظل، نحو: ظَلّْ يَضَلَ ويَضِلُّ. قال أبو حيان: وليس كما ذكر؛ لأن يضَلُّ بفتح العين من ظَلِلْت بكسرها في الماضي ويَضِلّ بالكسر من ضَلَلْتُ بالفتح وكلاهما مقيس يعني أن كلاً منهما له أصلٌ يرجع إليه بخلاف «ظَلَّ» فإن ماضيه مكسور العين فقط.
والنون أسمها، و «رَوَالكِدَ» خبرها ويجوز: أن يكون «ظل» هنا بمعنى صار؛ لأن المعنى ليس على وقت الظلول، وهو النهار فقط وهو نظير: أين باتت يده، من هذه الحيثية. والرُّكود والثُّبُوتُ الاستقرارُ قال:
٤٣٨٣ - وَإِنَّ صَخْراً لتَأْتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأْسِهِ نَارُ
٤٣٨٤ - وَقَدْ رَكَدَتْ وَسْطَ السَّمَاءِ نُجُومُهَا رُكُوداً بِوَادِي الرَّبْرَب المُتَفَرِّقِ
والمعنى فيظللن رواكد أي ثوابت على ظهر البحر، لا تجري ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ﴾ على بلا الله «شَكُورٍ» على نعمائه.
قوله: أوْ يُوبِقْهُنَّ «عطف على» يُسْكِنْ «قال الزمخشري: لأن المعنى: إن يَشَأْ يُسْكِنْ فَيَرْكُدْنَ، أو يَعْصِفْهَا فَيَغْرقْنَ بِعَصْفِهَا، قال أبو حيان: ولا يتعين أن يكون التقدير: أو يعصفها فيغرقن لأن إهلاك السفن لا يتعين أن يكون بعصف الريح، بل قد يهلكها بقلع لوح أو خسفٍ.
قال شهاب الدين: والزَّمخشريُّ لم يذكر أن ذلك متعين، وإنما ذكر شيئاً مناسباً؛ لأن قوله: يسكن الرياح يقابله»
يعصفها «فهو في غاية الحسن والطِّباق.
204

فصل


معنى» يُبِقْهُنَّ «يُهْلِكْهُنَّ ويغرقهن» بِمَا كَسَبُوا «أي بما كسبت ركابها من الذنوب ﴿وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ﴾ من ذنوبهم فلا يعاقب عليها. يقال: أوْبَقَهُ أي أهلكه، كما يقال للمجرم: أوْبَقَتْهُ ذنوبه أي أهلكته.
فإن قيل: ما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوماً مثله؟
فالجواب: معناه إن يشأ يهلك ناساً ينج ناساً على طريق العفو عنهم، وأما من قرأ»
ويعفو «فقد استأنف الكلام؟ والعامة على الجزم عطفاً على جواب الشرط. واستشكله القشيريُّ، وقال: لأن المعنى إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكداً ويهلكها بذنوب أهلها، فلا يحسن عطف:» وَيَعْفُ «على هذا لأن المعنى يصير: إن يشأ يعف، وليس المعنى على ذلك، بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة فهو عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى. قال أبو حيان: وما قاله ليس يجيّد، إذ لم يفهم مدلول التركيب والمعنى إلا أنه تعالى إن يشأ أهلك ناساً وأنجى ناساً على طريق العفو عنهم. وقرأ الأعمش: ويعفو بالواو. وهي تحتمل أن تكومن كالمجزوم، وثبتت الواو في الجزم كثبوت الياء في» مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرْ «.
ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعاً، أخبر الله تعالى أنه يعفو عن كثير من السَّيِّئات.
وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار «أنْ»
بعد الواو كنصبه في قول النابعة: شعراً:
205
بنصب ونأخذ ورفعه وجزمه، وهذا كما ترى بالأوجه الثلاثة بعد الفاء في قوله تعالى: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ﴾ [البقرة: ٢٨٤] كما تقدم آخر البقرة ويكون قد عطف هذا المصدر المؤول من «أَنْ» المضمرة والفعل على مصدر متوهَّم من الفعل قبله تقديره: أو يقع إيباقٌ، وعفوٌ عن كثيرٍ. فقراءة النصب كقراءة الجزم في المعنى إلا أن في هذه عطف مصدر مؤول على مصدر متوهم وفي تيك عطفُ فعل على مثله.
قوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ﴾ قرأ نافع وابن عامر برفعه والباقون بنصبه. وقرىء: بجزمه أيضاً. فأما الرفع فواضح جداً، وهو يحتمل وجهين: الاستنئاف بجملة اسمية، فتقدر الفعل مبتدأ أي وهو يعلم الذين و «الذين» على الأول فاعل، وعلى الثاني مفعول. وأما قراءة النصب ففيها أوجه: «
أحدها: قال الزجاج: على الصرف قال: ومعنى الصرف صرف العطف عن اللفظ إلى العطف على المعنى قال: وذلك أنه لم يحسن عطف»
ويعلم «مجزوماً على ما قبله؛ إذ يكون المعنى إن يشأ يعلم عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله، ولا يتأتى ذلك إلا بإضمار» أن «ليكون من الفعل في تأويل اسم. وقال البغوي: قرىء بالنصب على الصَّرف والجزم إذا صرف عنه معطوفه نصب كقوله: ﴿وَيَعْلَمَ الصابرين﴾ [آل عمران: ١٤٢] نقل من حال الجزم إلى النصب استخفافاً وكراهية توالي الجزم.
الثاني: قول الكوفيون: إنه منصوب بواو الصرف يعنون أن الواو نفسها هي الناصبة، لا بإضمار»
أنْ «وتقدم معنى الصَّرف.
206
الثالث: قال الفارسي ونقله الزمخشري عن الزجاج إن النصب على إضمار» إنْ «؛ لأن قبلها جزاءً تقول: ما تصنع أصنع، وأكرمك وإن شئت: وأكرمك على: وأنا أكرمك، وإن شئت: وأكرمك جزماً.
قال الزمخشري: وفيه نظر؛ لما أورده سيبويه في كتابه قال: واعلم أنَّ النَّصب بالواو والفاء في قوله: إن تَأْتِنِي آتِكَ، وأُعطِيكَ ضعيفٌ، وهو نحو من قوله:
٤٣٨٦ -......................... وَأَلْحَقَ بِالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا
فهذا (لا) يجوز، لأنه ليس بحَدِّ الكلام ولا وجه، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً؛ لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالا ستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه. قال الزمخشري: ولا يجوز أن تحصل القراءة المستفيضة على وجةٍ ليس بحدِّ الكلام ولا وجهه، ولو ك انت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه.
وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة.
الرابع: أن ينتصب عطفاً على تعليل محذوف تقديره: لينتقم منهم ويعلم الذين ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه: ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ﴾ [مريم: ٢١] ﴿وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى﴾ [الجاثية: ٢٢] قاله الزمخشري. قال أبو حيان: ويبعد تقديره: لينتقم منهم لأنه مرتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن «لينتقم منهم»
وأما الآتيان فيمكن أن تكونت اللام متعلقةً بفعل محذوف تقديره «وَلِنجْعَلَهُ آيَةً فَعَلنَ ذلك، ولتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ فَعَلْنَا ذَلِكَ» وهو كثيراً (ما) يقدر هذا الفعل مع هذه اللام إذا لم يكن فعل يتعلق به. وقال شهاب الدين: بل يحسن تقدير: لينتقم؛ لأنه يعود في المعنى على إهلاك قوم المترتب على الشرط.
وأما الجزم فقال الزمخشري:
207
فإن قلت كيف يصح المعنى على جزم «وَيَعْلَمْ» ؟!
قلت: كأنه قيل: أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور إهلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين. وإذا قرىء بالجزم فيكسر الميم لالتقاء الساكنين.
وقوله: ﴿مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ﴾ في محل نصب، بسدها مسدَّ مفعولي العلم.

فصل


المعنى وليعلم الذين يجادلون أي يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله عزّ وجلّ بعد البعث لا مهرب لهم من عذاب الله، كما أنه لا مخلص لهم إذا وُقصت السفن وإذا عصفت الرياح، ويكون ذلك سبباً لا عترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا الله.
208
قوله :﴿ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح ﴾ التي تجري بها ﴿ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ ﴾ قرأ أبو عمرو والجمهور بهمزة :«إنْ يَشَأْ » لأن السكون علامة الجزم، وورشٌ عن نافع بلا همز١ وقرأ ناقع «يُسْكِنِ٢ الرِّيَاحَ » على الجمع والباقون «الريحَ » على التوحيد٣.
وقوله :«فَيَظْللْنَ » العامة على فتح اللام التي هي عين الكلمة وهو القياس ؛ لأن الماضي بكسرها، تقول٤ ظَلِلْتُ قائماً.
وقرأ قتادة بكسرها٥ وهو شاذ، نحو : حسب يحسب وأخواته وقد تقدمت آخر البقرة٦.
وقال الزمخشري : قرئ بفتح اللام وكسرها من ظَلَّ يظل ويظل، نحو : ظَلّْ يَضَلَ٧ ويَضِلُّ. قال أبو حيان : وليس كما ذكر ؛ لأن يضَلُّ بفتح العين من ظَلِلْت بكسرها في الماضي ويَضِلّ بالكسر من ضَلَلْتُ بالفتح وكلاهما مقيس٨ يعني أن كلاً منهما له أصلٌ يرجع إليه بخلاف «ظَلَّ » فإن ماضيه مكسور العين فقط.
والنون أسمها، و«رَوَاكِدَ » خبرها ويجوز : أن يكون «ظل » هنا بمعنى صار ؛ لأن المعنى ليس على وقت الظلول، وهو النهار فقط وهو نظير : أين باتت يده٩، من هذه الحيثية. والرُّكود والثُّبُوتُ الاستقرارُ قال :
٤٣٨٥ - فَإنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ رَبِيعُ النَّاسِ والبَلَدُ الحَرَامُ
وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بذنابِ عَيْشٍ أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
٤٣٨٤ وَقَدْ رَكَدَتْ وَسْطَ السَّمَاءِ نُجُومُهَا رُكُوداً بِوَادِي الرَّبْرَب المُتَفَرِّقِ١٠
والمعنى فيظللن رواكد أي ثوابت على ظهر البحر، لا تجري ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ ﴾ على بلا الله «شَكُورٍ » على نعمائه.
١ لم أجدها في كتب المتواتر ولا الشواذ وقد نقلها الرازي ٢٧/١٧٥..
٢ في ب بسكون خطأ..
٣ وانظر الإتحاف ٣٨٣..
٤ مكررة في ب..
٥ من القراءة الشاذة التي لم يجزها أبو الفتح قال: هذه القراءة على ظللت أظل، كفررت أفر والمشهور فيها: فعلت أفعل، وأما ظللت أظل يمر بنا، لكن قد مر نحو: ضللت أضل وضللت أضل. المحتسب ٢/٢٥٢ وأبان أبو الفتح أنها لغة..
٦ فعل قياس مضارعه يفعل بفتح العين وجاء بكسرها وجوبا في مضارع ومق، ووثق، ووفق، وولي، وورث، وورع، وورم، ووري الخ، ووعم، وبكسرها جوازا مع الفتح في مضارع حسب، ونعم، ويئس، وبئس، ووعر، ووحر، ووله، ووهل، وولع، ووزع، ووسق، ووحب، وولغ. (المزهر ٢/٣٧ و٣٨)..
٧ الكشاف ٣/٤٧٠..
٨ البحر المحيط ٧/٥٢٠..
٩ جزء من حديث رواه أبو هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واستشهد بالحديث بأن "بات" ليست للدلالة على حال البيات، وإنما على مطلق المكث وانظر الحديث في صحيح البخاري ١/٤٢..
١٠ من الطويل وهو مجهول قائله. والربرب: قطيع البقر والظباء. والشاهد: ركدت.. ركودا، فإن الراكود بمعنى الثبوت والاستقرار. وانظر البحر المحيط ٧/٥٠٧ والدر المصون ٤/٧٥٨..
قوله :﴿ أوْ يُوبِقْهُنَّ ﴾ عطف على ﴿ يُسْكِنْ ﴾ قال الزمخشري : لأن المعنى : إن يَشَأْ يُسْكِنْ فَيَرْكُدْنَ، أو يَعْصِفْهَا فَيَغْرقْنَ١ بِعَصْفِهَا، قال أبو حيان : ولا يتعين أن يكون التقدير : أو يعصفها فيغرقن لأن إهلاك السفن لا يتعين أن يكون بعصف الريح، بل قد يهلكها بقلع لوح أو خسفٍ٢.
قال شهاب الدين : والزَّمخشريُّ لم يذكر أن ذلك متعين، وإنما ذكر شيئاً مناسباً ؛ لأن قوله : يسكن الرياح يقابله «يعصفها » فهو في غاية الحسن والطِّباق٣.

فصل


معنى «يُوبِقْهُنَّ » يُهْلِكْهُنَّ ويغرقهن «بِمَا كَسَبُوا » أي بما كسبت ركابها من الذنوب ﴿ وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ﴾ من ذنوبهم فلا يعاقب عليها٤. يقال : أوْبَقَهُ أي أهلكه، كما يقال للمجرم : أوْبَقَتْهُ ذنوبه أي أهلكته٥.
فإن قيل : ما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوماً مثله ؟
فالجواب : معناه إن يشأ يهلك ناساً ينج ناساً على طريق العفو عنهم، وأما من قرأ «ويعفو » فقد استأنف الكلام٦ ؟ والعامة على الجزم عطفاً على جواب الشرط. واستشكله القشيريُّ، وقال : لأن المعنى إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكداً ويهلكها بذنوب أهلها، فلا يحسن عطف :«وَيَعْفُ » على هذا لأن المعنى يصير : إن يشأ يعف، وليس المعنى على ذلك، بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة فهو عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى٧. قال أبو حيان : وما قاله ليس يجيّد، إذ لم يفهم مدلول التركيب والمعنى إلا أنه تعالى إن يشأ أهلك ناساً وأنجى ناساً على طريق العفو عنهم٨. وقرأ الأعمش : ويعفو بالواو٩. وهي تحتمل أن تكون كالمجزوم، وثبتت الواو في الجزم كثبوت الياء في «مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرْ »١٠.
ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعاً، أخبر الله تعالى أنه يعفو عن كثير من السَّيِّئات١١.
وقرأ بعض أهل المدينة١٢ ١٣ بالنصب بإضمار «أنْ » بعد الواو كنصبه في قول النابغة : شعراً :
٤٣٨٥ فَإنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ رَبِيعُ النَّاسِ والبَلَدُ الحَرَامُ
وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بذنابِ عَيْشٍ أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ١٤
بنصب ونأخذ ورفعه وجزمه، وهذا كما ترى بالأوجه الثلاثة بعد الفاء في قوله تعالى :﴿ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٤ ] كما تقدم آخر البقرة ويكون قد عطف هذا المصدر المؤول من «أَنْ » المضمرة والفعل على مصدر متوهَّم١٥ من الفعل قبله تقديره : أو يقع إيباقٌ، وعفوٌ عن كثيرٍ. فقراءة النصب كقراءة الجزم في المعنى إلا أن في هذه عطف مصدر مؤول على مصدر متوهم وفي تيك عطفُ فعل على مثله١٦.
١ الكشاف ٣/٤٧١..
٢ بالمعنى من البحر ٧/٥٢١..
٣ بالمعنى من البحر ٤/٧٥٨..
٤ قاله البغوي في ٦/١٢٦ من معالم التنزيل..
٥ قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ٣٩٣، واللسان "وبق" ٤٧٥٥..
٦ قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٧/١٧٥..
٧ القرطبي في الجامع بتصرف ١٦/٣٣..
٨ البحر المحيط ٧/٥٢١..
٩ السابق وانظر الكشاف ٢/٤٧١ والقرطبي بدون نسبة فيهما ١٦/٣٣..
١٠ وهي قراءة ابن كثير وصلا ووقفا. السبعة ٣٥١ وهي من الآية ٩٠ من يوسف..
١١ بالمعنى من الكشاف ٣/٤٧١ وباللفظ من الدر المصون ٤/٧٥٩..
١٢ أخبر ابن مجاهد في السبعة ٥٨١، أنهم ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي..
١٣ زيادة من ب..
١٤ بيتان من تمام الوافر له مدحا في النعمان بن الحارث، والذباب عقب كل شيء، و "أجب الظهر" مقطوع السنام.
والشاهد في "وتأخذ" حيث يجوز فيه النصب والرفع والجزم فالجزم على العطف والنصب على الإضمار والرفع على الاستئناف، وقد تقدم..

١٥ أو متصيد..
١٦ البحر المحيط ٧/٥٢٠ والدر المصون ٤/٧٥٩..
قوله تعالى :﴿ وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ ﴾ قرأ نافع وابن عامر برفعه والباقون بنصبه١. وقرئ : بجزمه أيضاً٢. فأما الرفع فواضح جداً، وهو يحتمل وجهين : الاستئناف بجملة اسمية، فتقدر الفعل مبتدأ أي وهو يعلم الذين و«الذين »٣ على الأول فاعل، وعلى الثاني مفعول. وأما قراءة النصب ففيها أوجه :
أحدها : قال الزجاج : على الصرف قال : ومعنى الصرف صرف العطف عن اللفظ إلى العطف على المعنى قال : وذلك أنه لم يحسن عطف «ويعلم » مجزوماً على ما قبله ؛ إذ يكون المعنى إن يشأ يعلم عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله، ولا يتأتى ذلك إلا بإضمار «أن » ليكون مع الفعل في تأويل اسم٤. وقال البغوي : قرئ بالنصب على الصَّرف والجزم إذا صرف عنه معطوفه نصب كقوله :﴿ وَيَعْلَمَ الصابرين ﴾ [ آل عمران : ١٤٢ ] نقل من حال الجزم إلى النصب استخفافاً وكراهية توالي الجزم٥.
الثاني : قول الكوفيون : إنه٦ منصوب بواو الصرف يعنون أن الواو نفسها هي الناصبة، لا بإضمار «أنْ » وتقدم معنى الصَّرف.
الثالث : قال الفارسي٧ ونقله الزمخشري٨ عن الزجاج إن النصب على إضمار «إنْ » ؛ لأن قبلها جزاءً تقول : ما تصنع أصنع، وأكرمك وإن شئت : وأكرمك على : وأنا أكرمك، وإن شئت : وأكرمك جزماً.
قال الزمخشري : وفيه نظر ؛ لما أورده سيبويه في كتابه قال : واعلم أنَّ النَّصب بالواو والفاء في قوله : إن تَأْتِنِي آتِكَ، وأُعطِيكَ ضعيفٌ، وهو نحو من قوله :
٤٣٨٦. . . . . . . . . . . . . وَأَلْحَقَ بِالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا٩
فهذا ( لا )١٠ يجوز، لأنه ليس بحَدِّ الكلام ولا وجه، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً ؛ لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه١١. قال الزمخشري : ولا يجوز أن تحصل القراءة المستفيضة على وجةٍ ليس بحدِّ الكلام ولا وجهه، ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه.
وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة١٢.
الرابع : أن ينتصب عطفاً على تعليل محذوف تقديره : لينتقم منهم ويعلم الذين ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه :﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ ﴾ [ مريم : ٢١ ] ﴿ وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى ﴾ [ الجاثية : ٢٢ ] قاله الزمخشري١٣. قال أبو حيان : ويبعد تقديره : لينتقم منهم لأنه مرتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن «لينتقم منهم » وأما الآتيان فيمكن أن تكونت اللام متعلقةً بفعل محذوف تقديره «وَلِنجْعَلَهُ آيَةً فَعَلنَ ذلك، ولتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ فَعَلْنَا ذَلِكَ » وهو كثيراً ( ما )١٤ يقدر هذا الفعل مع هذه اللام إذا لم يكن فعل يتعلق به١٥. وقال شهاب الدين : بل يحسن تقدير : لينتقم ؛ لأنه يعود في المعنى على إهلاك قوم المترتب على الشرط١٦.
وأما الجزم فقال الزمخشري :
فإن قلت كيف يصح المعنى على جزم «وَيَعْلَمْ » ؟ !
قلت : كأنه قيل١٧ : أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور إهلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين١٨. وإذا قرئ بالجزم فيكسر الميم لالتقاء الساكنين.
وقوله :﴿ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ ﴾ في محل نصب، بسدها مسدَّ مفعولي١٩ العلم.

فصل


المعنى٢٠ وليعلم الذين يجادلون أي يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله عزّ وجلّ بعد البعث لا مهرب لهم من عذاب الله٢١، كما أنه لا مخلص لهم إذا وُقصت السفن وإذا عصفت الرياح، ويكون ذلك سبباً لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا الله٢٢.
١ قراءة متواترة أوردها صاحب الإتحاف ٣٨٣ وكذا صاحب السبعة ٥٨١..
٢ قراءة شاذة لم ينسبها الزمخشري في كشافه ٣/٤٧٢ وانظر معاني القرآن للفراء ٣/٢٥ ونقلها القرطبي عن الفراء الذي قال: "ولو جزم "يعلم" جازم كان مصيبا". القرطبي ١٦/٣٤..
٣ الدر ٤/٧٥٩..
٤ لم أجد هذا الرأي منسوبا للزجاج في: معاني القرآن وإعرابه عند هذه الآية ونسبه أبو شامة في: إبراز المعاني لأبي عبيد ٦٧٥ وأبو حيان في البحر المحيط ٧/٥٢١. ولقد مشى المؤلف وحذا حذو صاحب الدر المصون في نسبة هذا الرأي للزجاج. الدر المصون ٤/٧٥٩..
٥ ذكره في معالم التنزيل ٦/١٢٦..
٦ قال ابن هشام في المغني: والواو الداخلة على المضارع المنصوب لعطفه على اسم صريح أو مؤول، فالأولى كقوله: "للبس عباءة وتقر عيني... البيت".
والثاني: شرطه أن يتقدم الواو نفي أو طلب وسمى الكوفيون هذه الواو واو الصرف، وليس النصب بها خلافا لهم. وقال ابن هشام: والحق أن هذه واو العطف كما سيأتي. المغني ٣٦٠: ٣٦١..

٧ الحجة ٧/٩٩ بلدية..
٨ الكشاف ٣/٤٧٢..
٩ عجز بيت من الوافر للمغيرة بن حبناء صدره:
سأترك منزلي لبني تميم ...............................
وفي المقتضب لأبي العباس: وألحق بالعراق، وشاهده: نصب الفعل أستريح بعد الفاء في غير جواب الأمر والنهي وشبههما وذلك لا يكون إلا في ضرورة فهو ضعيف كما قال سيبويه وانظر ابن يعيش ١/٢٧٩، والخزانة ٨/٥٢٢، والكتاب ٣/٣٩ و٩٢ والأشموني ٣/٣٠٥. والهمع ١/٧٧ و٢/١٠ و١٦ و٧٣ والمقتضب ٢/٢٢ والإفصاح ١٨٤..

١٠ سقطت من ب..
١١ الكتاب ٢/٣٤٢..
١٢ الكشاف ٣/٤٧٢..
١٣ الكشاف السابق..
١٤ لفظ "ما" سقط من ب..
١٥ انظر البحر المحيط ٧/٥٢١..
١٦ الدر المصون ٤/٧٦٠..
١٧ في الكشاف كأنه قال..
١٨ السابق..
١٩ التبيان ١١١٤..
٢٠ في ب يعلم..
٢١ وانظر البغوي ٦/١٢٦..
٢٢ الرازي ٢٧/١٧٦..
قوله تعالى: ﴿فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الشورى: ٣٦] الآية لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتنفير عن الدنيا وتحقير شأنها؛ لأن المانع من قبول الدليل هو الرغبة في الدنيا، فقال: «وَمَا أوتِيتُمْ» «ما» شرطية، وهي في محل نصب مفعولاً ثانياً «لأوتِيتُمْ» والأول هو ضمير المخاطبين قام مقام الفاعل، وإنما قدم الثاني؛ لأن له صدر الكلام، وقوله: «مِنْ شَيْءٍ» بيان لما الشرطية لما فيها من الإيهام. وقوله «فَمَتَاعُ» الفاء جواب الشرط و «متاع» خبر مبتدأ مضمر أي فهو متاع، وقوله «فَمَتَاعُ» الفاء جواب الشرط و «متاع» خبر خبرها، و «لِلَّذِينَ» يتعلق «بَأبْقَى».
208

فصل


المعنى: وما أوتيتم من شيء من رياش الدنيا فمتاع الحياة الدنيا ليس من زاد المعاد، وسماه متاعاً تنبيهاً على قلته وحقارته وجعله من متاع الدنيا تنبيهاً على انقراضه، وأما الآخرة فإنها خير وأبقى والباقي خير من الخَسِيس الفاني.
ثم بين أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفاً بصفات منها أن يكون من المؤمنين فقال ﴿لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾. وهذا يدل على من زعم أن الطاعةت توجب اثواب؛ لأنه متكل على عمل نفسه لا على الله فلا يدخل تحت الآية.
الصفة الثانية: قوله: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ» نسقٌ الى «الذين» الأولى. وقال أبو البقاء: «الذين يجتنبون» في موضع جر بدلاً من «الَّذِينَ آمَنُوا» ويجوز أن يكون في محل نصب بإضمار «أعْنِي» أو في موضع رفع على تقدير «هُمْ» وهذا وَهَمٌ منه في التلاوة كأنه اعتقد أن القرآن: وعلى ربهم يتوكلون الذين يجتنبون فبنى عليه الثَّلاثة الأوجه وهو بناء فاسد.
قوله: «كَبَائِرَ الإِثْمِ» قرأ الأخوان هنا وفي النجم: «كَبِيرَ الإِثْمِ: بالإفراد، والباقون كَبَائِرَ بالجمع في السورتين، والمفرد هنا في معنى الجمع والرسم الكريم يحتمل القراءتين.

فصل


تقدم معنى كبائر الإثم في سورة النساء. قال ابن الخطيب: نقل الزمخشري عن ابن عباس: أن كبير الإثم هو الشرك، وهو عندي ضعيف لأن شرط الإيمان مذكور وهو يغني عن عدم الشرك، وقيل: كبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات. وأما
209
الفواحش فقال السدي: يعني الزنا. وقال مقاتل: ما يوجب الوحدَّ.
قوله: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُواْ﴾ : إذا» منصوبة بيغفرون، و «يَغْفِرُونَ» خير لهم والجملة بأسرها عطف على الصلة وهي «يجتنبون»، والتقدير: والذين يجتنبون وهم يغفرون عطف اسمية على فعلية.
ويجوز أن يكون «هم» توكيد للفاعل في قوله: «غضبوا»، وعلى هذا فيغفرون جواب الشرط. وقال أبو البقاء: هم مبتدأ، ويغفرون الخبر، والجملة جواب إذا.
قال شهاب الدين: وهذا غير صحيح، لأنه لو كان جواباً لإذا لاقترن بالفاء، تقول: إذا جاء زيدٌ فعمرو منطلق، ولا يجوز: عمرو ينطلق. وقيل: (هم) مرفوع بفعل مقدر يفسره «يغفرون» بعده ولما حذف الفعل انفصل الضمير. ولم يستبعده أبو حيان، وقال: ينبغي أن يجوز ذلك في مذهب سيبويه، لأنه أجازه في الأداة الجازمة تقول: إنْ يَنْطَلِقْ زَيْدٌ ينطلق تقديره: ينطلق زيد ينطلق فينطلق واقع جواباً ومع ذلك فسَّر الفعل فكذلك هذا. وأيضاً فذلك جائز في فعل الشرط بعدها نحو: إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فليجز في جوابها أيضاً.

فصل


وإذا ما غضبوا هم يغفرون يَحْلِمُونَ ويَكْظِمُونَ الغيظ، وخص الغضب بلفظ الغفران؛ لأن الغضب على طبع النار واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة، فلهذا خصه الله تعالى بهذا اللفظ.
قوله (تعالى) :﴿والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ﴾ أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته. وقال ابن الخطيب: المراد منه تمام الانقياد.
فإن قيل: أليس أنه لما حصل الإيمان فيه شرطاً فقد دخل في الإيمان إجابة الله؟ {
والجواب: أن يحصل هذا على الرضا بضاء الله من صميم القلب وأن لا يكون في
210
قلبه منازعة. ثم قال: «وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ» أي الواجبة لأن هذا هو الشرط في حصول الثواب.
قوله: ﴿وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ﴾ أي يتشاورون فيما يبدوا لهم ولا يجعلون. والشُّورَى مصدر كالفتيا بمعنى التَّشاور. ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾.
قوله: ﴿والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي﴾ أي الظلم والعدوان «هُمْ يَنْتَصِرُونَ» أي ينتقمون من ظالمهم من غير أن يعتدوا. قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين: صنف يعفون عن ظالمهم فبدأ بذكرهم وهو قوله: ﴿وإذا ما غضبوا هم يغفرون﴾ وصنف ينتصرون نم ظالهم وهم المذكورون في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا. وقال عطاء: هم المؤمنون الذي أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم، ثم مكنهم الله في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم. وعن النَّخعيِّ أنه كان إذا قرأها قال: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم السفهاء.
فإن قيل: هذه الآية مشكلة لوجهين:
الأول: أنه لما ذكر قبله: وإذا ما غضبوا هم يغفرون كيف يليق أن يذكر معه ما يَجْرِي مَجْرَى الضد له وهم الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون؟}
الثاني: أن جميع الآيات دالة على أن العفوا أحسن. قال تعالى: ﴿وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى﴾ [البقرة: ٢٣٧] وقال: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً﴾ [الفرقان: ٧٢] وقال ﴿خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين﴾ [الأعراف: ١٩٩] وقال: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾
[النحل: ١٢٦] ؟
فالجواب: أن العفو على قسمين:
أحدهما: أن يصير العفو سبباً لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عنه جنايته.
والثاني: أن يصير العفو سبباً لمزيد جرأة الجاني وقوة غيظه، فآيات العفو محمولة على القسم الأول، وهذه الآية محمولة على القسم الثاني وحينئذ يزول التناقض.
«روي: أن زَيْنَبَ أقبلت على عائشة تشتمها فنهاها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنها فلم تنته فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» دونَكِ فَانْتَصِرِي «وأيضاً فإنه تعالى لم يرغِّب في الانتصار، بل بين أنه مشروع فقط، ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة فقال: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
211
مِّثْلُهَا} ثم بين أن العفو أولى بقوله: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله﴾ فزال السؤال.
قوله:» هُمْ يَنْتَصِرُونَ «إعرابه كإعراب: ﴿وإذا ما غضبوا هم يغفرون﴾ ففيه ما تقدم، إلا أنه يزيد هنا أنه يجوز أن يكون» هُمْ «توكيداً للضمير المنصوب في» أصَابَهُمْ «أكد بالضمير المرفوع وليس فيه إلا الفصل بين المؤكد والمؤكد، والظاهر أنه غير ممنوعٍ.
قوله تعالى: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا... ﴾ الآية لما قال: ﴿والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون﴾ بين بعده أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل، فإن العدل هو المساواة، وسمي الجزاء سيئة وإن كان مشروط مأذوناً فيه قال الزمخشري: كلتا الفعلتين: الأولى: وجزاؤها سيئة؛ لأنها تسوء من تنزل به، قال تعالى: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ﴾ [النساء: ٧٨] يريد: ما يسوءهم من المصائب والبلاء. وأجاب غيره بأ، هـ لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر أطلق اسم أحدهما على الآخر مجازاً والأول أظهر.
وقال آخرون: إنما سمي الجزاء سيئة وإن لم يكن سيئةً لتشابههما في الصُّورة.

فصل


قال مقاتل: يعني القصاص في الجراحاتن والدماء. وقال مجاهد والسدي: هو جواب القبيح إذا قال: أخزاك الله تقول: أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي. قال سفيان بين عيينة: قلت لسفيان الثوريِّ: ما قوله عَزَّ وَجَلَّ: وجزاء سيئة سيئة مثلها؟ قال: أن يشتمك رجلٌ فتشتمه أو يفعل بك فتفعل به فلم أجد عنده شيئاً، فسألت هشام بن حجيرٍ عن هذه الآية فقال: الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك فتشتمه.

فصل


دلت هذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمِّيِّ وأن الحرَّ لا يقتل بالعبد؛ لأن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة في المسألتين، وأيضاً فإن الحر إذا قتل العبد
212
يكون قد أتلف على مالك البعد شيئاً (ف) يساوي عشرة دنانير مثلاً فوجب أن يلزمه أداء عشرة دنانير لهذه الآية وإذا وجب الضَّمان وجب أن لا يجب القصاص، لأنه لا قائل بالفرق، فوجب أن يجري القصاص بينهما. والدليل على أن المماثلة شرط لوجوب القصاص هذه الآية، وقوله:
﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا﴾ [غافر: ٤٠] وقوله ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] وقوله تعالى: ﴿والجروح قِصَاصٌ﴾ [المائدة: ٤٥] وقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى﴾ [البقرة: ١٧٨]. والقصاص عبار عن المساواة والمماثلة فهذه النصوص تقتضي مقابلة الشيء بمثله. ودلت الآية أيضاً على أن الأيدي تقطع باليد الواحدة؛ لأن كل القطع أو بعضه صدر عن (كل) أولئك القاطعين أو عن بعضهم. فوجب أن يشوع في حق أولئك القاطعين مثله بهذه النصوص.
فإن قيل: فيلزم استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع!.
فالجواب: أنه لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجنيِّ عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى. ودلت الآية أيضاً على مشروعية القصاص في حق شريك الأب لأنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله. ودلت الآية أيضاَ على أن من حرق حرقناه، ومن غرَّق غرقناه، وعلى أن شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا: تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص؛ لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه فوجب أن يهدر دمهم. ودلت أيضاً على أن المكره يجب عليه القود، لأنه صدر منه القتل ظلماً فوجب مثله أما صدور القتل فالحسّ يدل عليه، وأما أنه قتل ظلماً فلإجماع المسلمين على أنه مكلف بأن لا يقتل فوجب أن يقابل بمثله ودلت أيضاً على أن منافع الغصب مضمونة، لأن الغاصب فوَّت على المالك منافع تقابل في العرف بدينار مثلاً فوجب أن يفوّت على الغاصب مثله من المال.
قوله: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾ بالعفو بينه وبنين ظالمه «فأمره على الله». قال الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إذا كان يوم القيامة نادة منادٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الله أجْرٌ فَلْيَقُمْ، فَلاَ يَقُومُ إلاَّ مَنْ عَفَا. ثم مقرأ هذه الآية ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : الذين يبدأون بالظلم، وفيه تنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له الزيادة والتعدي في الاستيفاء خصوصاً في حال الحرب والتهاب الحمية فربما صار المظلوم عند الاستيفاء ظالماً.
213
وفيه دقيقة وهو أنه تعالى لما حث على العفو عن الظالم وأخبر أنه لا يحب الظالم وإذا كان لا يحبه وندب غيره إلى العفو عنه فالمؤمن الذي يحبه الله بسبب إيمانه أولى أن يعفو الله عنه.
قوله: «وَلَمَنِ انْتَصَرَ» هذه لام الابتداء، وجعلها الحوفي وابن عطية للقسم، وليس يجيد إذا جعلنا «مَنْ» شرطية كما سيأتي؛ لأنه كان ينبغي أن يُجاب السابق، وهنا لم يجب إلا الشرط. و «من» يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر، والفاء في «فَأُؤْلَئِكَ» جواب الشرط، وأن تكون موصولة ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط. و «ظُلْمِهِ» مصدر مضاف للمفعول وأيدها الزمخشري بقراءة من قرأ: «بعدما ظُلِمَ» مبنياً للمفعول.

فصل


معنى الآية: ولمن انتصر بعد ظلم الظالم إياه فأولئك المنتصرين ما عليهم من سبيل لعقوبة ومؤاخذة، لأنهم ما فعلوا إلا ما أبيح لهم من الانتصار. واحتجوا بهذه الآية على أن سراية القود مُهْدَرَةٌ لأنه فعل مأذون فيه مطلقاً فيدخل تحت هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس﴾ أي يبدأون بالظلم ﴿وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ يعملون فيها بالمعاصي ﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
214
الصفة الثانية : قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ ﴾ نسقٌ على١ «الذين » الأولى. وقال أبو البقاء :«الذين يجتنبون » في موضع جر بدلاً من٢ «الَّذِينَ آمَنُوا » ويجوز أن يكون في محل٣ نصب بإضمار «أعْنِي » أو في موضع رفع على تقدير «هُمْ »٤ وهذا وَهَمٌ منه في التلاوة كأنه اعتقد أن القرآن : وعلى ربهم يتوكلون الذين يجتنبون فبنى عليه الثَّلاثة الأوجه وهو بناء فاسد٥.
قوله :﴿ كَبَائِرَ الإِثْمِ ﴾ قرأ الأخوان هنا وفي النجم٦ :«كَبِيرَ الإِثْمِ » : بالإفراد٧، والباقون كَبَائِرَ بالجمع في السورتين، والمفرد هنا في معنى الجمع والرسم الكريم يحتمل القراءتين.

فصل


تقدم معنى كبائر الإثم في سورة النساء٨. قال ابن الخطيب : نقل الزمخشري عن ابن عباس : أن كبير الإثم هو الشرك، وهو عندي ضعيف لأن شرط الإيمان مذكور وهو يغني عن عدم الشرك، وقيل : كبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات٩. وأما الفواحش فقال السدي : يعني الزنا. وقال مقاتل : ما يوجب الحدَّ.
قوله :﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ ﴾ : إذا » منصوبة بيغفرون، و«يَغْفِرُونَ » خير لهم والجملة بأسرها عطف على الصلة وهي «يجتنبون »، والتقدير : والذين يجتنبون وهم يغفرون عطف اسمية على فعلية.
ويجوز أن يكون «هم » توكيد للفاعل في قوله :«غضبوا »، وعلى هذا فيغفرون جواب الشرط١٠. وقال أبو البقاء : هم مبتدأ، ويغفرون الخبر، والجملة جواب إذا١١.
قال شهاب الدين : وهذا غير صحيح، لأنه لو كان جواباً لإذا لاقترن بالفاء، تقول : إذا جاء زيدٌ فعمرو منطلق، ولا يجوز : عمرو ينطلق١٢. وقيل :( هم )١٣ مرفوع بفعل مقدر يفسره «يغفرون » بعده ولما حذف الفعل انفصل الضمير١٤. ولم يستبعده أبو حيان، وقال : ينبغي أن يجوز ذلك في مذهب سيبويه١٥، لأنه أجازه في الأداة الجازمة تقول : إنْ يَنْطَلِقْ زَيْدٌ ينطلق تقديره : ينطلق زيد ينطلق فينطلق واقع جواباً ومع ذلك فسَّر الفعل فكذلك هذا. وأيضاً فذلك جائز في فعل الشرط بعدها نحو : إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فليجز في جوابها أيضاً١٦.

فصل١٧


وإذا ما غضبوا هم يغفرون يَحْلِمُونَ ويَكْظِمُونَ الغيظ، وخص الغضب بلفظ الغفران ؛ لأن الغضب على طبع النار واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة، فلهذا خصه الله تعالى بهذا اللفظ١٨.
١ التبيان ١١٣٤ ومشكل إعراب القرآن ٢/٢٧٩، وفي معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٤٠٠ أنه صفة "للذين آمنوا"..
٢ لم أجد ذلك في كتابه السابق وإنما ما وجدته ما قاله المؤلف بعد..
٣ في ب موضع..
٤ التبيان ١١٣٥..
٥ والصحيح أن أبا البقاء لم يتوهم ذلك ولقد تابع المؤلف السمين الذي نقل هذا عن أبي حيان ولقد تتبعت كتاب التبيان وآراءه في هذه الآية فلم أجد ما كتبه عنه المؤلف تبعا للسمين وشيخه. انظر البحر ٧/٥٢٢، والدر المصون ٤/٧٦١..
٦ يعني الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمم الآية ٢٢..
٧ انظر السبعة ٥٨٣، وابن خالويه ٣١٩ ومعاني الفراء ٣/٢٥..
٨ في قوله: ﴿إن تجتنبوا كبائر﴾ [النساء: ٣١]..
٩ الرازي ٢٧/١٧٦..
١٠ انظر البيان ٢/٣٥٠..
١١ انظر التبيان له ١١٣٥..
١٢ في ب: عمرو منطلق.. وفي السمين لينطلق ولعله خطأ من الناسخ وانظر الدر المصون ٤/٧٦٢..
١٣ سقط من ب..
١٤ قال بهذا ابن الأنباري في البيان ٢/٣٥٠ في الآية الآتية وهي: "هم ينتصرون" قال: هذا قياس قول سيبويه..
١٥ قال في الكتاب ٣/١١٣ و١١٤: "واعلم أن قولهم في الشعر: إن زيد يأتك يكن كذا إنما ارتفع على فعل هذا تفسيره كما كان ذلك في قولك: إن زيدا رأيته يكن ذلك، لأنه لا تبتدأ بعدما الأسماء ثم يبنى عليها..
١٦ وانظر البحر المحيط بالمعنى ٧/٥٢٢..
١٧ في ب قوله بدل من فصل..
١٨ الرازي ٢٧/١٦٧..
قوله ( تعالى )١ :﴿ والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ ﴾ أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته. وقال ابن الخطيب : المراد منه تمام الانقياد.
فإن قيل : أليس أنه لما حصل٢ الإيمان فيه شرطاً فقد دخل في الإيمان إجابة الله ؟ !
والجواب : أن يحصل هذا على الرضا بقضاء الله من صميم القلب وأن لا يكون في قلبه منازعة. ثم قال :«وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ » أي الواجبة لأن هذا هو الشرط في حصول الثواب.
قوله :﴿ وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ ﴾ أي يتشاورون فيما يبدوا لهم ولا يجعلون. والشُّورَى مصدر كالفتيا بمعنى التَّشاور٣. ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾.
١ سقط من ب..
٢ الرازي ٢٧/١٦٧..
٣ في الرازي جعل فعلى صفة كفعلى صفة مثل: قسمة ضيزى. وانتظر المرجع السابق..
قوله :﴿ والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي ﴾ أي الظلم والعدوان «هُمْ يَنْتَصِرُونَ » أي ينتقمون من ظالمهم من غير أن يعتدوا. قال ابن زيد : جعل الله المؤمنين صنفين : صنف يعفون عن ظالمهم فبدأ بذكرهم وهو قوله :﴿ وإذا ما غضبوا هم يغفرون ﴾ وصنف ينتصرون نم ظالهم وهم المذكورون في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا. وقال عطاء : هم المؤمنون الذي أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم، ثم مكنهم الله في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم١. وعن النَّخعيِّ أنه كان إذا قرأها قال : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء٢.
فإن قيل : هذه الآية مشكلة لوجهين :
الأول : أنه لما ذكر قبله : وإذا ما غضبوا هم يغفرون كيف يليق أن يذكر معه ما يَجْرِي مَجْرَى الضد له وهم الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ؟ !
الثاني : أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن. قال تعالى :﴿ وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى ﴾ [ البقرة : ٢٣٧ ] وقال :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾ [ الفرقان : ٧٢ ] وقال ﴿ خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين ﴾ [ الأعراف : ١٩٩ ] وقال :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾ [ النحل : ١٢٦ ] ؟
فالجواب : أن العفو على قسمين :
أحدهما : أن يصير العفو سبباً لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عنه جنايته.
والثاني : أن يصير العفو سبباً لمزيد جرأة الجاني وقوة غيظه، فآيات العفو محمولة على القسم الأول، وهذه الآية محمولة على القسم الثاني وحينئذ يزول التناقض.
«روي : أن زَيْنَبَ أقبلت على عائشة تشتمها فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عنها فلم تنته فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«دونَكِ٣ فَانْتَصِرِي » وأيضاً فإنه تعالى لم يرغِّب في الانتصار، بل بين أنه مشروع فقط،
١ البغوي ٦/١٢٧..
٢ نقله القرطبي بلفظ: "فتجترئ عليهم الفساق" انظر الجامع ١٦/٣٩..
٣ تصحيح من تفسير الإمام الرازي ففي النسختين: فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبيها، ولا أدري من أي مرجع أخذ المؤلف هذه اللفظة..
ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة١ فقال :﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ ثم بين أن العفو أولى بقوله :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله ﴾ فزال السؤال.
قوله :«هُمْ يَنْتَصِرُونَ » إعرابه كإعراب :﴿ وإذا ما غضبوا هم يغفرون ﴾ ففيه ما تقدم، إلا أنه يزيد هنا أنه يجوز أن يكون «هُمْ » توكيداً للضمير المنصوب في «أصَابَهُمْ » أكد بالضمير المرفوع وليس فيه إلا الفصل بين المؤكد والمؤكد، والظاهر أنه غير ممنوعٍ٢.
قوله تعالى :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا. . . ﴾ الآية لما قال :﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾ بين بعده أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل، فإن العدل هو المساواة، وسمي الجزاء سيئة وإن كان مشروط مأذوناً فيه قال الزمخشري : كلتا الفعلتين : الأولى : وجزاؤها سيئة ؛ لأنها تسوء من تنزل به، قال تعالى :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ ﴾ [ النساء : ٧٨ ] يريد : ما يسوءهم من المصائب والبلاء٣. وأجاب غيره بأنه لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر أطلق اسم أحدهما على الآخر مجازاً والأول أظهر٤.
وقال آخرون : إنما سمي الجزاء سيئة وإن لم يكن سيئةً لتشابههما في الصُّورة٥.

فصل


قال مقاتل : يعني القصاص في الجراحات والدماء. وقال مجاهد والسدي : هو جواب القبيح إذا قال : أخزاك الله تقول : أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي٦. قال سفيان بين عيينة : قلت لسفيان الثوريِّ : ما قوله عز وجل : وجزاء سيئة سيئة مثلها ؟ قال : أن يشتمك رجلٌ فتشتمه أو يفعل بك فتفعل به فلم أجد عنده شيئاً، فسألت هشام بن حجيرٍ٧ عن هذه الآية فقال : الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك فتشتمه٨.

فصل


دلت هذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمِّيِّ وأن الحرَّ لا يقتل بالعبد ؛ لأن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة في المسألتين، وأيضاً فإن الحر إذا قتل العبد يكون قد أتلف على مالك البعد شيئاً ( ف )٩ يساوي عشرة دنانير مثلاً فوجب أن يلزمه أداء عشرة دنانير لهذه الآية وإذا وجب الضَّمان وجب أن لا يجب القصاص، لأنه لا قائل بالفرق، فوجب أن يجري القصاص بينهما. والدليل على أن المماثلة شرط لوجوب القصاص هذه الآية، وقوله :﴿ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا ﴾ [ غافر : ٤٠ ] وقوله ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [ النحل : ١٢٦ ] وقوله تعالى :﴿ والجروح قِصَاصٌ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] وقوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ]. والقصاص عبارة عن المساواة والمماثلة فهذه النصوص تقتضي مقابلة الشيء بمثله. ودلت الآية أيضاً على أن الأيدي تقطع باليد الواحدة ؛ لأن كل القطع أو بعضه صدر عن ( كل )١٠ أولئك القاطعين أو عن بعضهم. فوجب أن يشوع في حق أولئك القاطعين مثله بهذه النصوص.
فإن قيل : فيلزم استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع !.
فالجواب : أنه لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجنيِّ عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى. ودلت الآية أيضاً على مشروعية القصاص في حق شريك الأب لأنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله. ودلت الآية أيضاَ على أن من حرق حرقناه، ومن غرَّق غرقناه، وعلى أن شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا : تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص ؛ لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه فوجب أن يهدر دمهم. ودلت أيضاً على أن المكره١١ يجب عليه القود١٢، لأنه صدر منه القتل ظلماً فوجب مثله أما صدور القتل فالحسّ يدل عليه، وأما أنه قتل ظلماً فلإجماع المسلمين على أنه مكلف بأن لا يقتل فوجب أن يقابل بمثله ودلت أيضاً على أن منافع الغصب مضمونة، لأن الغاصب فوَّت على المالك منافع تقابل في العرف بدينار مثلاً فوجب أن يفوّت على الغاصب مثله من المال١٣.
قوله :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ ﴾ بالعفو بينه وبنين ظالمه «فأمره على الله ». قال الحسن رضي الله عنه : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الله أجْرٌ فَلْيَقُمْ، فَلاَ يَقُومُ إلاَّ مَنْ عَفَا. ثم قرأ هذه الآية ﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين ﴾. قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )١٤ : الذين يبدأون بالظلم١٥، وفيه تنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له الزيادة والتعدي في الاستيفاء خصوصاً في حال الحرب والتهاب الحمية فربما صار المظلوم عند الاستيفاء ظالماً.
وفيه دقيقة وهو أنه تعالى لما حث على العفو عن الظالم وأخبر أنه لا يحب الظالم وإذا كان لا يحبه وندب غيره إلى العفو عنه فالمؤمن الذي يحبه الله بسبب إيمانه أولى أن يعفو الله عنه١٦.
١ انظر هذا في تفسير العلامة فخر الدين الرازي ٢٧/١٧٧..
٢ هو قول أبي حيان في البحر ٧/٥٢٢ قال: وقال الحوفي: وإن شئت جعلت "هم" توكيدا للهاء والميم يعني في أصابهم، وهو ضمير رفع، وفي هذا نظر، وفيه الفصل بين المؤكد والتوكيد بالفاعل (وهو البغي) وهو فعل الظاهر أنه لا يمتنع. البحر ٧/٥٢٢ فكأن الرأي أورده المؤلف أعلى هو رأي الحوفي نقلا عن السمين في الدر عن أبي حيان في البحر، وانظر الدر المصون ٤/٧٦٢..
٣ في الكشاف: والبلايا وانظر الكشاف ٣/٤٧٣..
٤ وانظر الرازي ٢٧/١٧٨..
٥ البغوي ٦/١٢٧..
٦ الخازن والبغوي السابق ٦/١٢٧..
٧ في ب حجة تحريف وتصحيف وهو هشام بن حجير ـ مصغرا ـ المكي صدوق له أوهام من السادسة. انظر تقريب التهذيب ٢/٣١٧..
٨ انظر معالم التنزيل للبغوي ٦/٣١٧..
٩ زيادة من أ..
١٠ سقط من ب..
١١ في ب المكذب..
١٢ هو قتل النفس بالنفس شاذ كالحوكة والخونة، وقال الجوهري: هو القصاص. انظر اللسان والصحاح قود..
١٣ وكل هذه الأشياء عن الشافعي ـ رضي الله عنه ـ فيما نقله عنه الرازي في التفسير الكبير..
١٤ زيادة من أ الأصل..
١٥ انظر معالم التنزيل ٦/١٢٧..
١٦ الرازي ٢٧/١٨١..
قوله :«وَلَمَنِ انْتَصَرَ » هذه لام الابتداء، وجعلها الحوفي وابن عطية للقسم١، وليس يجيد إذا جعلنا «مَنْ » شرطية كما سيأتي ؛ لأنه كان ينبغي أن يُجاب السابق، وهنا لم يجب إلا الشرط. و«من » يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر، والفاء في «فَأُؤْلَئِكَ » جواب الشرط، وأن تكون موصولة ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط. و«ظُلْمِهِ » مصدر مضاف للمفعول وأيدها الزمخشري بقراءة من قرأ :«بعدما ظُلِمَ » مبنياً للمفعول٢.

فصل


معنى الآية : ولمن انتصر بعد ظلم الظالم إياه فأولئك المنتصرين ما عليهم من سبيل لعقوبة ومؤاخذة، لأنهم ما فعلوا إلا ما أبيح لهم من الانتصار. واحتجوا بهذه الآية على أن سراية القود مُهْدَرَةٌ٣ لأنه فعل مأذون فيه مطلقاً فيدخل تحت هذه الآية.
١ البحر المحيط ٧/٥٢٣..
٢ كشاف الزمخشري ٣/٤٧٣..
٣ الرازي المرجع السابق..
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس ﴾ أي يبدأون بالظلم ﴿ وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق ﴾ يعملون فيها بالمعاصي ﴿ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
قوله: ﴿وَلَمَن صَبَرَ﴾ الكلام في اللام كما تقدم: فإن جعلناها شريطة فإن جواب
214
القسم المقدر، وحذف الشرط للدلالة عليه، وإن كانت موصولة، كان قوله: «إنَّ ذَلِكَ» هو الخبر. وجوز الحوفي وغيره أن تكون «مَنْ» شرطية و «إنَّ ذَلِكَ» جوابها على حذف الفاء على حدِّ حذفا في قوله:
٤٣٧٨ - مَنْ يَفْعَل الحَسَنَات............................
وفي الرابط قولان:
أحدهما: هو اسم الإشارة، إذا أريد به المبتدأ، ويكون حينئذ على حذف مضاف تقديره: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾.
والثاني: أنه ضمير محذوف تقديره لمن عزم الأمور «منه أو له». وقوله: ﴿وَلَمَن صَبَرَ﴾ عطف على قوله: «ولمن انْتَصَرَ» والجملة من قوله: «إنَّما السَّبِيلُ» اعتراض.

فصل


المعنى لمن صبر وغفر فلم يقتص وتجاوز، إن ذلك الصبر والتجاوز من عزم الأمور حقها وحزمها. قال مقاتل: من الأمور التي أمر الله بها. وقال الزجاج: الصابر يؤتى بصبره الثواب والرغبة في الثواب أتم عزماً.
قوله: ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ﴾ أي فليس له ناصر يتولاه من بعد إضلال الله إياه، وليس له من يمنعه من عذاب الله، وهذا صريح في جواز أن الإضلال من الله وأن الهداية ليست في مقدور أحد سوى الله.
قال القاضي: المراد: ومن يضلل الله عن الجنة لجنايته فما له من ولي من بعده ينصره. وأجيب بأن تقييد الإضلال بهذه الصور المعينة خلاف الدليل، وأيضاً فالله تعالى ما أضله عن الجنة في قولكم بل هو أضل نفسه عن الجنة.
قوله: ﴿وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب﴾ يوم القيامة ﴿يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ﴾ أي يطلبون الرجوع إلى الدنيا لعظم ما شاهدوا من العذاب.
ثم ذكر حالهم عند عرض النار. قوله: «يُعْرَضُونَ» حال، لأن الرؤية بصرية، و «خَاشِعِينَ» حال والضمير في «عَلَيْهَا» يعود على النار لدلالة العذاب عليها.
215
وقرأ طلحة: من الذِّلِّ بكسر الذال وقد تقدم الفرق بين الذَّل والذِّل و «مِنْ الذُّلِّ» يتعلق بخاشعين ِأي من أجل. وقيل: هو متعلق بينظرون. وقوله: «مِنْ طَرَفٍ» يجوز في «مِنْ» أن تكون لاتبداء الغاية، وأن تكون تبعيضية وأن تكون بمعنى الباء، والظرف قيل: يراد به العضو وقيل: يراد به المصدر يقال: طرفت عينه تطرف طرفاً أي ينظرون نظراً خفيًّا.

فصل


اعلم أنه ذكر حالهم عند عرضهم على النار، فقال: خاشعين أي خاضعين حقيرين بسبب ما لحقهم من الذل يسارقون النظر إلى النر خوفاً منها وذلة في أنفسهم، كما ينظر المقتول إلى السيف فلا يقدر أن يملأ عينيه منه، ولا يفتح عينه إنما ينظر ببعضها، وإذا كانت من بمعنى الباء أي بطرف خفي ضعيف من الذل.
فإن قيل: إنه قال في صفة الكفار: إنهم يحشرون عمياً فكيف قال هاهنا إنهم ينظرون من طرفٍ خفي؟! فالجواب: لعلهم يكونون في الابتداء هاهنا ثم يصيرون عمياً، أو لعل هذا في قوم وذاك في قوم آخرين. وقيل: معنى ينظرون من طرفٍ خفيٍّ أي ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عمياً والنظر بالقلب خفيّ.
ولما وصف الله تعالى حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال: ﴿وَقَالَ الذين آمنوا إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة﴾ وقيل: خسروا أنفسهم بأن صاروا إلى النار وأهليهم بأن صاروا لغيرهم إلى الجنة. وهذا القول يحتمل أن يكون واقعاً في الدنيا، وإما أن يقولوه يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة، ثم قال: ﴿أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ﴾ أي دائم. قال القاضي: هذا يدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما والجواب: أنّ لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكافر قال تعالى: ﴿والكافرون هُمُ الظالمون﴾ [البقرة: ٢٥٤] والذي يؤكد هذا قوله تعالى بعد هذه الآية: ﴿وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله﴾ والمعنى أن الأصنام التي كانوا يعبدونها لتشفع لهم عند الله تعالى ما أتوا بتلك الشفاعة وهذا لا يليق إلا بالكافر.
216
قوله: «يَنْصُرُونَهُمْ» صفة «لأولياء»، فيجوز أن يحكم على موضعها بالجرِّ اعتباراً بلفظ موصوفها وبالرفع اعتباراً بمحلة، فإنه اسم لكان. وقوله: «مِنْ سَبِيلٍ» إما فاعل وإما مبتدأ، والمعنى فما له من سبيل إلى الحق في الدنيا والجنة في العُقْبَى وقد أفسد عليهم طريق الخير.
قوله: ﴿وَقَالَ الذين آمنوا﴾ يجوز أن يكون ماضياً على حقيقته، ويكون «يَوْمَ القِيَامَةِ» معمولاً «لخَسِرُوا» ويجوز أن يكون بمعنى يقول فيكون يوم القيامة معمولاً له.
قله تعالى: ﴿استجيبوا لِرَبِّكُمْ... ﴾ الآيات. لما ذكر الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود، فقال: ﴿استجيبوا لِرَبِّكُمْ﴾ أي أجيبوا داعي (ربكم) يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله﴾ أي لا يقدر أحدٌ على دفعه.
قوله: «مِنَ اللهِ» يجوز تعلقه بيأتي أي يأتي من الله يومٌ لا مرد له، وأن يتعلق بمحذوف يدل عليه «لاَ مَرَدَّ لَهُ» أي لا يرد ذلك اليوم ما حكم الله به فيه.
وجوز الزمخشري أن يتعلق «بِلاَ مَرَدَّ»، ورده أبو حيان: بأنه يكون معمولاً وكان ينبغي أن يعرب فينصب منوناً.
واختلفوا في المراد بذلك اليوم، فقيل: هو ورود الموت. وقيل: يوم القيامة، قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون معنى قوله: لا مرد له «أي لا يقبل التقديم ولا التأخير، وأن يكون معناه أنه لا مرد فيه إلى حال التكليف حتى يحصل فيه التلاقي.
ثم وصف اليوم فقال فيه: ﴿مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ﴾ تلجأون إليه يقع به المخلص من العذاب ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ﴾ ينكر تغير ما بكم. ويجوز أن يكون المراد من النكير الإنكار، أي لا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه من الأعمال.
قوله: «فَإنْ أَعْرَضُوا»
عن الاستجابة ولم يقبلوا هذا الأمر ﴿فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ بأن تحفظ أعمالهم وتُحْصِيهَا ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ﴾ أي ما عليك إلا البلاغ، وذلك تسلية من الله تعالى له. ثم بين السبب في إصرارهم على الكفر فقال: {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا
217
الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) يعني الغنى والصحة «فرح بها».
واعلم أن نعم الله وإن كانت في الدنيا عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر، فلذلك سميت ذوقاً. فبين (الله) تعالى أن الإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به وعظم غروره، ووقع في العجب والكبر، ويظن أنه فاز بكل المنى، ووصل إلى أقصى السعادات، وهذه طريقة من ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة.
ثم إنه تعالى بين أنه متى أصابهم سيئة أي شيء يسوءهم في الحال كالمرض والفقر والقحط وغيرها فإنه يظهر الكفر وهو (معنى) قوله: ﴿فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ﴾، والكفور: هو المبالغ في الكفران والمراد بقوله: كفور أي لما تقدم من نعمة الله عليه ينسى ويجحد باول شدة جميع ما سلف من النِّعم.
وقوله: فإنَّ الإنسان من وقوع الظاهر موقع المضمر أي فإنه كفور. وقدر أبو البقاء: ضميراً محذوفاً فقال فإن الإنسان (منهم) ولما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بعدها اتبع ذلك بقوله: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ له التصرف فيهما بما يريد والمقصود منه أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه بل إذا علم أن الكل ملك لله وملكه وإنما حصل له القدر إنعاماً من الله عليه فيصير ذلك حاملاً له على مزيد من الطاعة.
ثم ذكر من أقسام تصرف الله تعالى في العالم أنه يخص البعض بالأولاد والإناث والبعض بالذكور والبعض بهما، والبعض بأن يجعله محروماً من الكل وهو المراد بقوله: ﴿وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً﴾.
قوله: ﴿ذُكْرَاناً وَإِنَاثا﴾ حال وهي حال لازمة؟ وسوغ مجيئها كذلك أنها بعد ما يجوز أن يكون الأمر على خلافه، لأن معنى يزوجهم يقرنهم.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قدم الإناث على الذكور مع تقديمهم عليهن ثم رجع فقدمهم؟ ﴿ولم عرف الذكور بعدما نكَّر الإناث؟﴾. قلت: لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى، وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنه، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد فقد الإناث؛ لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه لا ما يشاؤ
218
الإنسان، فكان ذكر الإنثا اللاتي من جملة ما يشاؤه الإنسان أهم، والأهم واجب التقديم، وليليَ الجنس التي كانت العرب تعده بلاء (ذكر) البلاء، وآخر الذكور، فلما أخرهم تدارك تأخيرهم وهم أحقَّاء بالتقديم وبالتَّعريف، لأن تعريفهم فيه تنويه وتشهير، كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الاعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم.
ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حظه من التقديم والتأخير وعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ولكن لمقتضى آخر فقال: «ذُكْرَاناً وإنَاثاً» (كَمَا قَالَ: إنَّا) ﴿خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى﴾ [الحجرات: ١٣] فجعل فيه ﴿الزوجين الذكر والأنثى﴾.

فصل


قال ابن الخطيب: وفي الآية سؤالات:
الأول: أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور أولاً، ثم قدم الذكر على الإناث ثانياً فما السبب في هذا التقديم والتأخير؟
الثاني: أنه ينكّر الإناث وعرف الذكور وقال في الصِّنفين معاً ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً﴾.
الثالث: لما كان حصول الولد هبة من الله تعالى فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأيّ حاجة في عدم حصوله إلى قوله: ﴿وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً﴾.
الرابع: هل المراد بهذا الحكم جمع معيَّنون أو الحكم على الإنسان المطلق؟
والجواب على الأول: أن الكريم يسعى في أن يقع الحتم على الخير والراحة فإذا وهب الأنثى أولاً ثم أعطي الذكر بعده فكأنه نقله من الغم إلى الفرح، وهذا غاية الكرم، أما إذا أعطي الذكر أولاً ثم أعطي الأنثى ثانياً فكأنه نقله من الفرح إلى الغم، فذكر الله تعالى هبة الأنثى أولاً، ثم ثنَّى بهبة الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون أليق بالكرم.
قيل: من يُمْنِ المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر؛ لأن الله بدأ بالإناث وأما تقديم ذكر الذكور على الإناث ثانياً؛ لأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى، والأفضل مقدم على المفضول.
وأما الجواب عن تنكير الإناث وتعريف الذكور فهو أن المقصود منه التبيه على أن الذكور أفضل من الأنثى وأما قوله: ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً﴾ وهو أن كل شيئين يقرن أحدهما بالآخر، فهما زوجان وكل واحد منهما يقال له: زوج والكناية في «يُزَوِّجُهُمْ»
219
عائدة على الإناث والذكور والمعنى يجعل الذكور والإناث أزواجاً أي يجمع له بينهما فيولد له الذكور والإناث.
وأما الجواب عن قوله «عقيماً» فالعقيم هو الذي لا يلد ولا يولد له يقال: رَجُلٌ عَقِيمٌ، وامْرَأَةٌ عَقِيمٌ، وأصل العقم القطع ومنه قيل: الملك عقيمٌ، لأنه يقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق.
وأما الجواب عن الرابع فقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : يَهبُ لمن يشاء إناثاً، يريد لوطاً وشعيباً لم يكن لهما إلا البنات، و ﴿وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور﴾ يريد: إبراهيم لم يكن له إلا الذكور، ﴿أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً﴾ يريد محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان له من البنين ثلاثة على الصحيح القاسم وعبد الله، وإبراهيم، ومن البنات إربع: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة ﴿وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً﴾ يريد يحيى وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام.
وقال أكثر المفسرين: هذا على وجه التمثيل، وإنما الحكم عام في كل الناس؛ لأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله تعالى في تكوين الأنبياء كيف شاء، فلا معنى للتخصيص.
ثم إنه تعالى خت الآية بقوله: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : عليم بما خلق قدير ما يشاء أن يخلقه. والله أعلم.
220
قوله :﴿ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ ﴾ أي فليس له ناصر يتولاه من بعد إضلال الله إياه، وليس له من يمنعه من عذاب الله، وهذا صريح في جواز أن الإضلال من الله وأن الهداية ليست في مقدور أحد سوى الله.
قال القاضي : المراد : ومن يضلل الله عن الجنة لجنايته فما له من ولي من بعده ينصره. وأجيب بأن تقييد الإضلال بهذه الصور المعينة خلاف الدليل، وأيضاً فالله تعالى ما أضله عن الجنة في قولكم بل هو أضل نفسه عن الجنة.
قوله :﴿ وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب ﴾ يوم القيامة ﴿ يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ﴾ أي يطلبون الرجوع إلى الدنيا لعظم ما شاهدوا من العذاب١.
١ الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير ٢٧/١٨٣..
ثم ذكر حالهم عند عرض النار. قوله :«يُعْرَضُونَ » حال، لأن الرؤية بصرية، و«خَاشِعِينَ » حال والضمير في «عَلَيْهَا » يعود على النار لدلالة العذاب عليها.
وقرأ طلحة : من الذِّلِّ بكسر١ الذال وقد تقدم الفرق بين الذَّل والذِّل٢ و«مِنْ الذُّلِّ » يتعلق بخاشعين ِأي من أجل. وقيل : هو متعلق بينظرون٣. وقوله :«مِنْ طَرَفٍ » يجوز في «مِنْ » أن تكون لابتداء٤ الغاية، وأن تكون٥ تبعيضية وأن تكون بمعنى الباء٦، والظرف قيل : يراد به العضو وقيل : يراد به المصدر يقال : طرفت عينه تطرف طرفاً أي ينظرون نظراً خفيًّا٧.

فصل


اعلم أنه ذكر حالهم عند عرضهم على النار، فقال : خاشعين أي خاضعين حقيرين بسبب ما لحقهم من الذل يسارقون النظر إلى النار خوفاً منها وذلة في أنفسهم، كما ينظر المقتول إلى السيف فلا يقدر أن يملأ عينيه منه، ولا يفتح عينه إنما ينظر ببعضها، وإذا كانت من بمعنى الباء أي بطرف خفي ضعيف من الذل.
فإن قيل : إنه قال في صفة الكفار : إنهم يحشرون عمياً فكيف قال هاهنا إنهم ينظرون من طرفٍ خفي ؟ ! فالجواب : لعلهم يكونون في الابتداء هاهنا٨ ثم يصيرون عمياً، أو لعل هذا في قوم وذاك في قوم آخرين. وقيل : معنى ينظرون من طرفٍ خفيٍّ أي ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عمياً والنظر بالقلب خفيّ.
ولما وصف الله تعالى حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال :﴿ وَقَالَ الذين آمنوا إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة ﴾ وقيل : خسروا أنفسهم بأن صاروا إلى النار وأهليهم بأن صاروا لغيرهم إلى الجنة. وهذا القول يحتمل أن يكون واقعاً في الدنيا، وإما أن يقولوه يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة، ثم قال :﴿ أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ﴾ أي دائم. قال القاضي : هذا يدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما والجواب : أنّ لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكافر قال تعالى :﴿ والكافرون هُمُ الظالمون ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ]
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قوله :﴿ وَقَالَ الذين آمنوا ﴾ يجوز أن يكون ماضياً على حقيقته، ويكون «يَوْمَ القِيَامَةِ» معمولاً «لخَسِرُوا» ويجوز أن يكون بمعنى يقول فيكون يوم القيامة معمولاً له٥.

١ البحر المحيط ٧/٥٢٤..
٢ والذل هو ضد العز والذل فهو للحيوان..
٣ انظر الكشاف ٣/٤٧٤..
٤ قال الزمخشري أن يبتدئ نظرهم من تحريك لأجفانهم السابق..
٥ نقله أبو حيان وعنه نقل السمين وعنه نقل المؤلف عن قتادة. البحر المحيط ٧/٥٢٤..
٦ نقله الأخفش في معانيه عن يونس، قال: وقال يونس إن "من طرف" مثل بطرف كما تقول العرب: ضربته في السيف وبالسيف" معاني الأخفش ٦٨٧..
٧ البحر المحيط ٧/٥٢٤ والدر ٤/٧٦٥..
٨ في ب بدل ههنا هكذا، وكذا هي في الرازي..
والذي يؤكد هذا قوله تعالى بعد هذه الآية :﴿ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله ﴾ والمعنى أن الأصنام التي كانوا يعبدونها لتشفع لهم عند الله تعالى ما أتوا بتلك الشفاعة وهذا لا يليق إلا بالكافر١.
قوله :«يَنْصُرُونَهُمْ » صفة «لأولياء »، فيجوز أن يحكم على موضعها بالجرِّ اعتباراً بلفظ موصوفها وبالرفع اعتباراً بمحلة، فإنه اسم لكان٢. وقوله :«مِنْ سَبِيلٍ » إما فاعل وإما مبتدأ٣، والمعنى فما له من سبيل إلى الحق في الدنيا والجنة في العُقْبَى وقد أفسد عليهم طريق الخير٤.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قوله :﴿ وَقَالَ الذين آمنوا ﴾ يجوز أن يكون ماضياً على حقيقته، ويكون «يَوْمَ القِيَامَةِ» معمولاً «لخَسِرُوا» ويجوز أن يكون بمعنى يقول فيكون يوم القيامة معمولاً له٥.

١ انظر الرازي ٢٧/١٨٢..
٢ التبيان للعكبري ١١٣٥..
٣ قاله السمين في الدر المصون ٤/٧٦٥..
٤ البغوي ٦/١٢٨..
قوله تعالى :﴿ استجيبوا لِرَبِّكُمْ. . . ﴾ الآيات. لما ذكر الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود، فقال :﴿ استجيبوا لِرَبِّكُمْ ﴾ أي أجيبوا داعي ( ربكم )١ يعني٢ محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله ﴾ أي لا يقدر أحدٌ على دفعه.
قوله :«مِنَ اللهِ » يجوز تعلقه بيأتي٣ أي يأتي من الله يومٌ لا مرد له، وأن يتعلق بمحذوف٤ يدل عليه «لاَ مَرَدَّ لَهُ » أي لا يرد ذلك اليوم ما حكم الله به فيه.
وجوز الزمخشري أن يتعلق «بِلاَ مَرَدَّ »٥، ورده أبو حيان : بأنه يكون معمولاً٦ وكان ينبغي أن يعرب فينصب منوناً.
واختلفوا في المراد بذلك اليوم، فقيل : هو ورود الموت. وقيل : يوم القيامة، قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون معنى قوله : لا مرد له «أي لا يقبل التقديم ولا التأخير، وأن يكون معناه أنه لا مرد فيه إلى حال التكليف حتى يحصل فيه التلاقي٧.
ثم وصف اليوم فقال فيه :﴿ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ ﴾ تلجأون إليه يقع به المخلص٨ من العذاب ﴿ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ ﴾ ينكر٩ تغير ما بكم. ويجوز أن يكون المراد من النكير الإنكار، أي لا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه من الأعمال.
١ سقط من أ الأصل..
٢ البغوي المرجع السابق..
٣ الكشاف المرجع السابق..
٤ البحر المحيط ٧/٥٣٥..
٥ قال: من صلة "لا مرد" أي لا يرده الحكم الله بعد ما حكم بت. الكشاف ٣/٤٧٤..
٦ تصحيح من البحر ففي النسختين مطولا. وانظر البحر المحيط ٧/٥٢٥..
٧ تفسيره التفسير الكبير ٢٧/١٨٣..
٨ في ب التخلص وفي الرازي: ينفع في التخلص من العذاب..
٩ في ب ينكر يعني ما بكم وفي الرازي: ممن ينكر ذلك حتى يتغير حالكم بسبب ذلك المنكر..
قوله :﴿ فَإنْ أَعْرَضُوا ﴾ عن الاستجابة ولم يقبلوا هذا الأمر ﴿ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾ بأن تحفظ أعمالهم وتُحْصِيهَا ﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ ﴾ أي ما عليك إلا البلاغ، وذلك تسلية من الله تعالى له. ثم بين السبب في إصرارهم على الكفر فقال :﴿ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ﴾ قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )١ يعني الغنى والصحة «فرح بها ».
واعلم أن نعم الله وإن كانت في الدنيا عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر، فلذلك سميت ذوقاً. فبين ( الله ) تعالى أن الإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به وعظم غروره، ووقع في العجب والكبر، ويظن أنه فاز بكل المنى، ووصل إلى أقصى السعادات، وهذه طريقة من ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة.
ثم إنه تعالى بين أنه متى أصابهم سيئة أي شيء يسوءهم في الحال كالمرض والفقر والقحط وغيرها فإنه يظهر الكفر٢ وهو ( معنى ) قوله :﴿ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ ﴾، والكفور : هو المبالغ في الكفران والمراد بقوله : كفور أي لما تقدم من نعمة الله عليه ينسى ويجحد بأول شدة٣ جميع ما سلف من النِّعم.
وقوله : فإنَّ الإنسان من وقوع الظاهر موقع المضمر أي فإنه كفور. وقدر أبو البقاء : ضميراً محذوفاً فقال٤ فإن الإنسان ( منهم )٥
١ زيادة من أ..
٢ في ب الكفران..
٣ في النسختين: شديدة، وانظر في هذا تفسير الرازي ٢٧/١٨٣ والبغوي ٦/١٢٨..
٤ في ب فقدر وفي أ فصار وفي السمين فقال..
٥ سقط من ب وانظر التبيان ١١٣٥..
ولما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بعدها اتبع ذلك بقوله :﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض ﴾ له التصرف فيهما بما يريد والمقصود منه أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه بل إذا علم أن الكل ملك لله وملكه وإنما حصل له القدر إنعاماً من الله عليه فيصير ذلك حاملاً له على مزيد من الطاعة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل

قال ابن الخطيب : وفي الآية سؤالات :

الأول : أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور أولاً، ثم قدم الذكر على الإناث ثانياً فما السبب في هذا التقديم والتأخير ؟
الثاني : أنه ينكّر الإناث وعرف الذكور وقال في الصِّنفين معاً ﴿ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ﴾.
الثالث : لما كان حصول الولد هبة من الله تعالى فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأيّ حاجة في عدم حصوله إلى قوله :﴿ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً ﴾.
الرابع : هل المراد بهذا الحكم جمع معيَّنون أو الحكم على الإنسان المطلق ؟
والجواب على الأول : أن الكريم يسعى في أن يقع الحتم على الخير والراحة فإذا وهب الأنثى أولاً ثم أعطي الذكر بعده فكأنه نقله من الغم إلى الفرح، وهذا غاية الكرم، أما إذا أعطي الذكر أولاً ثم أعطي الأنثى ثانياً فكأنه نقله من الفرح إلى الغم، فذكر الله تعالى هبة الأنثى أولاً، ثم ثنَّى بهبة الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون أليق بالكرم.
قيل : من يُمْنِ المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر ؛ لأن الله بدأ بالإناث وأما تقديم ذكر الذكور على الإناث ثانياً ؛ لأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى، والأفضل مقدم على المفضول.
وأما الجواب عن تنكير الإناث وتعريف الذكور فهو أن المقصود منه التنبيه على أن الذكور أفضل من الأنثى وأما قوله :﴿ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ﴾ وهو أن كل شيئين يقرن أحدهما بالآخر، فهما زوجان وكل واحد منهما يقال له : زوج والكناية في «يُزَوِّجُهُمْ» عائدة على الإناث والذكور والمعنى يجعل الذكور والإناث أزواجاً أي يجمع له بينهما فيولد له الذكور والإناث٨.
وأما الجواب عن قوله «عقيماً» فالعقيم هو الذي لا يلد ولا يولد له يقال : رَجُلٌ عَقِيمٌ، وامْرَأَةٌ عَقِيمٌ، وأصل العقم القطع ومنه قيل : الملك عقيمٌ، لأنه يقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق٩.
وأما الجواب عن الرابع فقال ابن عباس ( رضي الله عنهما )١٠ : يَهبُ لمن يشاء إناثاً، يريد لوطاً وشعيباً لم يكن لهما إلا البنات، و﴿ وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكور ﴾ يريد : إبراهيم لم يكن له إلا الذكور، ﴿ أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ﴾ يريد محمداً صلى الله عليه وسلم كان له من البنين ثلاثة على الصحيح القاسم وعبدالله، وإبراهيم، ومن البنات إربع : زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة ﴿ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً ﴾ يريد يحيى وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام١١.
وقال أكثر المفسرين : هذا على وجه التمثيل، وإنما الحكم عام في كل الناس ؛ لأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله تعالى في تكوين الأنبياء كيف شاء، فلا معنى للتخصيص١٢.

ثم ذكر من أقسام تصرف الله تعالى في العالم أنه يخص البعض بالأولاد و الإناث والبعض بالذكور والبعض بهما، والبعض بأن يجعله محروماً من الكل وهو المراد بقوله :﴿ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً ﴾١.
قوله :﴿ ذُكْرَاناً وَإِنَاثا ﴾ حال وهي حال لازمة ؟ وسوغ مجيئها كذلك أنها بعد ما يجوز أن يكون الأمر على خلافه، لأن معنى يزوجهم يقرنهم٢.
قال الزمخشري : فإن قلت : لم قدم الإناث على الذكور مع تقديمهم عليهن ثم رجع فقدمهم ؟ ! ولم عرف الذكور بعدما نكَّر الإناث ؟ !. قلت : لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى، وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنه، ثم عقبه٣ بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد فقد الإناث ؛ لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه لا ما يشاؤ ( ه )٤ الإنسان، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما يشاؤه الإنسان أهم، والأهم واجب التقديم، وليليَ الجنس التي كانت العرب تعده بلاء ( ذكر )٥ البلاء، وآخر الذكور، فلما أخرهم تدارك تأخيرهم وهم أحقَّاء بالتقديم وبالتَّعريف، لأن تعريفهم فيه تنويه وتشهير، كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم.
ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حظه من التقديم والتأخير وعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ولكن لمقتضى آخر فقال :«ذُكْرَاناً وإنَاثاً » ( كَمَا قَالَ : إنَّا )٦ ﴿ خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى ﴾ [ الحجرات : ١٣ ] فجعل فيه ﴿ الزوجين الذكر والأنثى ﴾٧.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل

قال ابن الخطيب : وفي الآية سؤالات :

الأول : أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور أولاً، ثم قدم الذكر على الإناث ثانياً فما السبب في هذا التقديم والتأخير ؟
الثاني : أنه ينكّر الإناث وعرف الذكور وقال في الصِّنفين معاً ﴿ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ﴾.
الثالث : لما كان حصول الولد هبة من الله تعالى فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأيّ حاجة في عدم حصوله إلى قوله :﴿ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً ﴾.
الرابع : هل المراد بهذا الحكم جمع معيَّنون أو الحكم على الإنسان المطلق ؟
والجواب على الأول : أن الكريم يسعى في أن يقع الحتم على الخير والراحة فإذا وهب الأنثى أولاً ثم أعطي الذكر بعده فكأنه نقله من الغم إلى الفرح، وهذا غاية الكرم، أما إذا أعطي الذكر أولاً ثم أعطي الأنثى ثانياً فكأنه نقله من الفرح إلى الغم، فذكر الله تعالى هبة الأنثى أولاً، ثم ثنَّى بهبة الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون أليق بالكرم.
قيل : من يُمْنِ المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر ؛ لأن الله بدأ بالإناث وأما تقديم ذكر الذكور على الإناث ثانياً ؛ لأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى، والأفضل مقدم على المفضول.
وأما الجواب عن تنكير الإناث وتعريف الذكور فهو أن المقصود منه التنبيه على أن الذكور أفضل من الأنثى وأما قوله :﴿ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ﴾ وهو أن كل شيئين يقرن أحدهما بالآخر، فهما زوجان وكل واحد منهما يقال له : زوج والكناية في «يُزَوِّجُهُمْ» عائدة على الإناث والذكور والمعنى يجعل الذكور والإناث أزواجاً أي يجمع له بينهما فيولد له الذكور والإناث٨.
وأما الجواب عن قوله «عقيماً» فالعقيم هو الذي لا يلد ولا يولد له يقال : رَجُلٌ عَقِيمٌ، وامْرَأَةٌ عَقِيمٌ، وأصل العقم القطع ومنه قيل : الملك عقيمٌ، لأنه يقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق٩.
وأما الجواب عن الرابع فقال ابن عباس ( رضي الله عنهما )١٠ : يَهبُ لمن يشاء إناثاً، يريد لوطاً وشعيباً لم يكن لهما إلا البنات، و﴿ وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكور ﴾ يريد : إبراهيم لم يكن له إلا الذكور، ﴿ أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ﴾ يريد محمداً صلى الله عليه وسلم كان له من البنين ثلاثة على الصحيح القاسم وعبدالله، وإبراهيم، ومن البنات إربع : زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة ﴿ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً ﴾ يريد يحيى وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام١١.
وقال أكثر المفسرين : هذا على وجه التمثيل، وإنما الحكم عام في كل الناس ؛ لأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله تعالى في تكوين الأنبياء كيف شاء، فلا معنى للتخصيص١٢.


ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله :﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾. قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )١٣ : عليم بما خلق قدير ما يشاء أن يخلقه. والله أعلم.
١ انظر الرازي ٢٧/١٨٤..
٢ الدر المصون ٤/٧٦٥..
٣ في النسختين ذكره..
٤ زيادة من الكشاف..
٥ زيادة من الكشاف..
٦ سقط من أ..
٧ [القيامة: ٣٩]. وانظر الكشاف ٣/٤٧٥..
١٣ في النسختين ليس بدل لبشر تحريف..
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً... ﴾ الآية لما بين حال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه. وقوله: «أَنْ يُكَلمَهُ» «أن» ومنصوبها اسم كان و «لِبَشَرٍ» خبرها. وقال أبو البقاء: «أن» والفعل في موضع رفع
220
على الابتداء وما قبله الخبر، أو فاعل بالجار لاعتماده على حرف النفي، وكأنه وهم في التلاوة فزعم أن القرآن: وما لبشر أن يكلمه مع أنه يمكن الجواب عنه بتكلُّفٍ.
و ﴿إِلاَّ وَحْياً﴾ يجوز أن يكون مصدراً أي إلا كلام وحي. وقال أبو البقاء: استثناء منقطع؛ لأن الوحي ليس من جنس الكلام. وفيه نظر؛ لأن ظاهره أنه مفرغ، والمفرغ لا يوصف بذلك. ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال.
قوله: «أَوْ يُرْسِلَ» قرأ نافع: «أوْ يُرْسِلُ» بفرع اللام، وكذلك: فيوحي فسكنت ياؤه. والباقون بنصبهما. فاما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه رفع على إضمار مبتدأ أي: أو هو يرسل.
الثاني: أنه عطف على «وَحْياً» على أنه حال؛ لأن وحياً في تقدير الحال أيضاً فكأنه قال: إلا موحياً أو مرسلاً.
الثالث: أن يعطف على ما يتعلق به «مِنَ وَراءِ» ؛ إذ تقديره أو يُسْمِعُ من وراء حجاب و «وَحْياً» في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه «أوْ يُرْسِل»، والتقدير: إلاَّ موحياً أو مُسْمِعاً مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ مُرْسِلاً.
وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يعطف على المضمر الذي يتعلق به ﴿مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ إذ تقديره: أو يُكَلِّمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وهذا الفعل (المقدر) معطوف على «وَحْياً»، والمعنى: إلا بوحي أو إسماعٍ من وراءِ حجابٍ أو إرسال رسولٍ.
ولا يجوز أن يعطف على «يُكَلِّمَهُ» لفساد المعنى؛ إذ يصير التقدير: ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أن يُرْسِلَ اللهُ رَسُولاً، فيفسد لفظاً ومعنًى.
وقال مكي: لأنه يلزم منه نفي الرسل، ونفي المرسل إليهم.
الثاني: أن ينصب بأن مضمرة وتكون هي وما نصبته معطوفين على «وَحْياً»
221
و «وَحْياً» حال، فيكون هذا أيضاً حالاً، والتقدير: إلا موحياً أو مرسلاً.
وقال الزمخشري: «وَحْياً وأن يرسل» مصدران واقعان موقع الحال، لأن: أن يُرْسِلَ في معنى: إرسالاً و ﴿مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ ظرف واقع موقع الحال أيضاً كقوله: ﴿وعلى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٩١] والتقدير: وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً.
ورد عليه أبو حيان بأن وقوع المصدر موقع الحال غير منقاس وإنما قاس منه المبرد ما كان نوعاً للفعل فيجيز أتيته ركضاً ويمنع: أتيته بكاءً أي باكياً.
وبأن: أن يرسل لا يقع حالاً لنص سيبويه: على أن «أَنْ» والفعل لا يقع حالاً وإن كان المصدر الصريح يقع حالاً تقول: جاء زيد ضحكاً، ولا يجوز أن يضحك.
الثالث: أنه عطف على معنى وحياً فإنه مصدر مقدر بأن والفعل والتقدير: إلاَّ بأن يوحي إليه أو بأن يرسل. ذكره مكي وأبو البقاء.
قوله: ﴿مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ العامة على الإفراد. وابن أبي عبلة: حجبٍ جمعاً. وهذا الجار يتعلق بمحذوف تقديره: أو يكلمه من وراء حجاب. وقد تقدم أن هذا الفعل معطوف على معنى وحياً، أي إلاَّ أن يوحي أو يكلمه.
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يتعلق من ب «يْكَلِّمهُ» (الموجودة في اللفظ لأن ما قبل الاستثناء لا يعمل فيما بعد إلا. ثم قال: وقيل: من مسبوقة بيُكَلِّمُهُ} لأنه ظرف والظرف يُتَّسَعُ فيه.
222

فصل


ذكر المفسرون أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نيباً كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال: لم ينظر موسى إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. فأنزل الله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أي يوحي إليه في المنام أو بالإلهام أو من وراء حجاب يسمعه كلامه ولا يراه كما كلم موسى عليه الصَّلاة والسَّلام أو يرسل رسولاً ما جبريل أوة غيره من الملائكة فيوحي بإذنه ما يشاء أن يوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله مايشاء.
وهذه الآية تدل على (أن) الحسن لا يحسن لوجه عائد إليه وأن القبح لا يقبح لوجه عائد إليه بل الله إنما يأمر بما يشاء من غير تخصيص وأنه ينهى عما يشاء من غير تخصيص، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما صح قوله: «مَا يَشَاءُ»، ثم قال: ﴿إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ أي عليم بصفات المخلوقين حيكم تجري أفعاله على الحكمة فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام وأخرى بإسماع الكلام وثالثاً بواسطة الملاكئة الكرام. ولما بين الله كيفية أقسام الوحي إلى الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام قال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾ أي كما أوحينا إلى سائر رسلنا أوحينا إليك روحاً من أمرنا.
قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) نبوة. وقال الحسن (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) : رحمة وقال السدي ومقاتل: وحياً. وقال الكلبي: كتاباً، وقال الربيع، جبريل. وقال مالك بن دينار: يعني القرآن.
قوله: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب﴾ «ما» الأولى نافية والثانية استفهامية، والجملة الاستفهامية معلقة للدِّراية، فهي في محل نصب لسدها مفعولين، والجملة المنفية بأسرها في محل نصب على الحال من لكاف في «إلَيْكَ».

فصل


المعنى: وما كنت تدري قبل الوحي ما الكتاب ولا الإيمان يعني شرائع الإيمان
223
ومعالمه. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: الإيمان هنا الصلاة لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣] أي صلاتكم. وقيل: هذا على حذف مضاف أي ما كنت تدري ما الكتب ولا الإيمان حين كنت طفلاً في المهد.
وقيل الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به وأنه قبل النبوة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى بل كان عارفاً بالله تعالى. وقال بعضهم: صفات الله تعالى على قسمين: منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقول ومنها مالا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية فهذا القسم الثاني لم يكن معرفته حاصلاً قبل النبوة. واعلم أن أهل الأصول على أن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام كانوا مؤمنين من قبل الوحي، كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم ولم يتبين له شرائع دينه.
قوله: «جَعَلْنَاهُ» الضمير يعود إما لروحاً وإما للكتاب، وإما لهما، لأنهما مقصد واحد، فهو كقوله: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢].

فصل


قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) يعني الإيمان: وقال السدي: يعني القرآن يهدي به من يشاء «نرشد به من نشاء» مِنْ عِبَادِنَا، و «نهدي» يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون مفعولاً مكرراً للفعل وأن يكون صفة لنوراً.
قوله: ﴿وَإِنَّكَ لتهدي﴾ قرأ (شهر) بن حوشب: لتهدي مبنياً للمفعول وابن السَّميقع: لتهدي بضم التاء وكمسر الدال من: أهدى والمراد بالصراط المستقيم الإسلام.
قوله: ﴿صِرَاطِ الله﴾ بدل من: «صِرَاطٍ» قبله بدل كل من كل معرفة من نكرة.
224

فصل


نبه بهذه الآية على أن الذي يجوز عبادته يجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض، ثم قال: ﴿أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور﴾ أمور الخلائق كلها في الآخرة وهذا كالوعيد والزجر أي ترجع الأمور كلها إلى الله تعالى حيث لا يحاكم سواه فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
روى أبو أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ قَرَأَ سُورَة حَمَ عَسَقَ كان ممَّن تصلِّي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحِمُون له» (والله أعلم).
225
سورة الزخرف
226
ولما بين الله كيفية أقسام الوحي إلى الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام قال :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ أي كما أوحينا إلى سائر رسلنا أوحينا إليك روحاً من أمرنا.
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )١ نبوة. وقال الحسن ( رضي الله عنه )٢ : رحمة وقال السدي ومقاتل : وحياً. وقال الكلبي : كتاباً، وقال الربيع، جبريل. وقال مالك بن دينار : يعني القرآن٣.
قوله :﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب ﴾ «ما » الأولى نافية والثانية استفهامية، والجملة الاستفهامية معلقة للدِّراية٤، فهي في محل نصب لسدها مفعولين، والجملة المنفية بأسرها في محل نصب على الحال من لكاف في «إلَيْكَ »٥.

فصل٦


المعنى : وما كنت تدري قبل الوحي ما الكتاب ولا الإيمان يعني شرائع الإيمان ومعالمه. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة : الإيمان هنا الصلاة لقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] أي صلاتكم٧. وقيل : هذا على حذف٨ مضاف أي ما كنت تدري ما الكتب ولا الإيمان٩ حين كنت طفلاً في المهد.
وقيل الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به وأنه قبل النبوة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى بل كان عارفاً بالله تعالى. وقال بعضهم : صفات الله تعالى على قسمين : منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقول ومنها١٠ مالا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية فهذا القسم الثاني لم يكن معرفته حاصلاً قبل النبوة. واعلم أن أهل الأصول على أن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام كانوا مؤمنين من قبل الوحي، كان النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم ولم يتبين له شرائع دينه١١.
قوله :«جَعَلْنَاهُ » الضمير يعود إما لروحاً وإما للكتاب، وإما لهما، لأنهما مقصد واحد، فهو كقوله :﴿ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾١٢ [ التوبة : ٦٢ ].

فصل


قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )١٣ يعني الإيمان : وقال السدي : يعني القرآن١٤ يهدي به من يشاء «نرشد به من نشاء » مِنْ عِبَادِنَا، و«نهدي » يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون مفعولاً مكرراً للفعل وأن يكون صفة لنوراً١٥.
قوله :﴿ وَإِنَّكَ لتهدي ﴾ قرأ ( شهر ) بن حوشب : لتهدي مبنياً للمفعول وابن السَّميقع : لتهدي بضم التاء وكسر الدال١٦ من : أهدى والمراد بالصراط المستقيم الإسلام.
١ زيادة من أ..
٢ كذلك..
٣ انظر هذه الأقوال في البغوي والخازن ٦/١٢٩ والقرطبي ١٦/٥٤..
٤ ذكره السمين في الدر المصون ٤/٧٦٨ عن أبي حيان في البحر المحيط ٧/٥٢٨..
٥ ذكره العكبري في تبيانه ١١٣٦، وانظر الدر المصون السابق..
٦ هذا الفصل كله سقط من ب..
٧ البغوي المرجع السابق والرازي ٢٧/١٩٠..
٨ هذا هو رأي الرازي..
٩ كان من الأولى: أي ولا أهل الإيمان يعني من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن الرازي ٢٧/١٩٠..
١٠ الرازي المرجع السابق..
١١ نقله البغوي والخازن في تفسيريهما معالم التنزيل ولباب التأويل ٦/١٢٩..
١٢ أقول: وقد جوز الأول أبو حيان في البحر ٧/٥٢٨ والثاني ابن عطية فيما نقله عنه أبو حيان أيضا، وحكى الثلاثة أبو زكريا في معاني القرآن ٣/٢٧..
١٣ سقط من ب..
١٤ البغوي ٦/١٢٩..
١٥ الدر المصون ٤/٧٦٩..
١٦ كلتا القراءتين شاذة الأولى أوردها أبو حيان في البحر ٧/٥٢٨ وابن خالويه في المختصر ١٣٤ والسمين في الدر ٤/٧٦٨، والثانية أوردها أبو حيان والسمين في مرجعيهما السابقين..
قوله :﴿ صِرَاطِ الله ﴾ بدل من :«صِرَاطٍ » قبله بدل كل من كل معرفة من نكرة١.

فصل


نبه بهذه الآية على أن الذي يجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض، ثم قال :﴿ أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور ﴾ أمور الخلائق كلها في الآخرة وهذا كالوعيد والزجر أي ترجع الأمور كلها إلى الله تعالى حيث لا يحاكم سواه فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب٢.
١ الكشاف ٣/٤٧٦..
٢ الرازي ٢٧/١٩١..
Icon