تفسير سورة عبس

بيان المعاني
تفسير سورة سورة عبس من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

من الآيات المستشهد بها أعلاه، وإذ قامت الدلائل على صدقه صلّى الله عليه وسلم فضلا عن أن الأمة أجمعت على أنه معصوم من الإخبار بخلاف الواقع من قبل الله لا قصدا ولا سهوا ولا غلطا ولا نسيانا ولا خطأ، كيف وقد قال تعالى:
(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) الآية ٣ المارة، وعلى هذا فلا يجوز ذلك عليه إلا زنديق مارق منافق خائن لا حظ له في الآخرة إلا النار، ولا نصيب له في الدنيا إلا العار هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
تفسير سورة عبس عدد ٢٤- ٨٠
نزلت بمكة بعد سورة والنجم، وهي اثنتان وأربعون آية، ومائة وثلاثون كلمة وخمسمائة وثلاثون حرفا لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدئت وختمت به، ويوجد ستة سور في القرآن بدئت بالفعل الماضي هذه والنمل والأنبياء والفرقان والملك والمعارج.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «عَبَسَ» تقطب واكفهر وجه الرسول المرسل إليكم أيها الناس «وَتَوَلَّى ١» أعرض وأدبر من «أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ٢» عبد الله بن شريح بن مالك بن أم مكتوم عاتكة بنت عبد الله المخزومي «وَما يُدْرِيكَ» يا حبيبي «لَعَلَّهُ» ذلك الأعمى الذي لم تعبأ به ولم تلق له بالا «يَزَّكَّى ٣» من دون الكفر بما يتعلمه منك فيطهر بطهارة الإيمان «أَوْ يَذَّكَّرُ» بمواعظك القيمة المنزلة إليك من قبلنا «فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ٤» التي يتلقاها منك من وحينا فيكون خيرا من هؤلاء الذين اشتغلت بهم عنه وهم المعنيون بقوله تعالى «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ٥» بماله وعشيرته عن الإيمان بك والانقياد لما تتلوه من الذكر «فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ٦» تنقصد الإقبال عليه والإصغاء لقوله مكبا بكلك اليه ومجهدا نفسك به حرصا على إيمانه «وَما عَلَيْكَ» فرض والتزام «أَلَّا يَزَّكَّى ٧» من شركه فيطهر ويهتدي للايمان وانما عليك تبليغه وإنذاره فقط قال تعالى: (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) الآية الاخيرة من سورة ق الآتية
وقال تعالى (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) الآية ٢٢ من الغاشية في ج ٢، «وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ٨» كهذا الأعمى «وَهُوَ يَخْشى ٩» الله واليوم الآخر طائعا مختارا راغبا راهبا «فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ١٠» بغيره ومتشاغل عنه بهم وهم يظهرون الاستغناء عنك
«كَلَّا» لا تعد لمثل هذا أبدا كيف تقبل على الخطير وتعرض عن الحقير فكم من حقير عند الله لا يوازيه الف خطير في المنزلة واعلم يا أكمل الرسل «إِنَّها» الآيات المنزلة عليك من لدنك «تَذْكِرَةٌ ١١» عظيمة للناس أجمع لا يختص بها إلا من شملته العناية ولا يعرض عنها إلا من سخط عليه «فَمَنْ شاءَ» أن يتعظ بها ويؤمن بك وبربك «ذَكَرَهُ ١٢» أي ذكر الله ربه منزلها بإلهام منه فاهتدى وهذه الآيات المعبر عنها بالتذكرة مدونة عند الله «فِي صُحُفٍ» عظيمة جليلة «مُكَرَّمَةٍ ١٣» على الله الكريم والتنوين فيها يدل على التفخيم ولذلك وصفها بقوله (مَرْفُوعَةٍ) القدر عالية الاحترام «مُطَهَّرَةٍ ١٤» مقدسة لا يمسها هناك إلا المطهرون من الملائكة الكرام كما أنه لا يمسها في الدنيا إلا المطهرون من البشر كما سيأتي في الآية ٧٩ من سورة الواقعة الآتية «بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ١٥» جمع سفير وذلك أنه عند ما يأمر الله بايجاد شيء منها بوحيه بأن يأمر هذا النوع من الملائكة فيسفرون به بين الله ورسله فيكونون كالسفير بينهما وقد أنشد:
وما أدع السفارة بين قومي وما أمشي يغش إن مشيت
ويقال لكتبة الوحي سفرة أيضا وللكاتب سافر، لأنه يسفر بكتابته عن الأحوال التي يكتبها أي يبينها ويكشفها (كِرامٍ) على الله هؤلاء «بَرَرَةٍ ١٦» أنقياء بارين طائعين لا يخالفونه قيد شعرة، بل لا يعرفون المخالفة وسبب نزول هذه الآيات أن النبي صلّى الله عليه وسلم بينما كان يدعو أشراف قريش إلى الإسلام ويناجيهم أتاه ذلك الأعمى وقال له علمني يا رسول الله مما علمك ربك وهو مدبر عنه ومقبل على أولئك والأعمى لا يدري بتشاغله في غيره فصار يكرر النداء عليه فكره الرسول قطعه لكلامه وقطب وجهه وأعرض عنه وقال في نفسه لعلي إذا أقبلت عليه
وتركتهم يقولون ما قاله أحزابهم من الصناديد ما تبعه إلا الصبيان والسفلة فصد عنه وأقبل على أولئك يكلمهم، فأنزل الله هذه الآيات يعاتبه فيها، فكان كلما رآه يكرمه ويقول له مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويقول له هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين وهو من المهاجرين الأولين وقتل شهيدا في القادسية وواراه أنس وعليه درع ومعه راية سوداء ودفن بدمشق وقبره معروف حتى الآن. ثم أنزل الله في عتبة بن لهب وأضرابه كأمية ابن خلف المتعصبين بالكفر (قُتِلَ الْإِنْسانُ) الذي لم يؤمن بالله ولم يطع رسوله «ما أَكْفَرَهُ ١٧» ما أشد تعنته بالكفر تعجبا من عناده مع كثرة إحسان الله اليه وهي عامة في كل كافر متصلب في كفره، ثم بين الله من أمر هذا الكافر وما ينبغي له أن يعلم «مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ١٨» الله فإذا علم ذلك كان عليه أن يؤمن به لخلقه على الأقل، ثم فسر ماهية خلقه بقوله (مِنْ نُطْفَةٍ) نقطة دموية قليلة حقيرة وهي عبارة عن بعض ماء الرجل المختلط ببعض ماء المرأة فمن هذا (خَلَقَهُ) فسواه بشرا سويا «فَقَدَّرَهُ ١٩» على ما أراد من مخلوقاته وعلى أنواع كثيرة من المصنوعات وعلى الخط والكتابة والقراءة وفضّله على كثير من خلقه وأكرمه بأنواع كراماته «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ٢٠» له فسهل عليه خروجه من بطن أمه أولا ويسر له سلوك الطريق الموصل اليه ويسره لما خلق له من عمل ورزق مدة حياته
(ثُمَّ أَماتَهُ) بأجله المحتوم بعد استيفاء ما قدره له في الدنيا «فَأَقْبَرَهُ ٢١» في الأرض التي خلق أمله منها وتكونت منها نطفته وقد أمر بدفنه كرامة له فلم يجعله كالبهائم تطرح للوحوش ومن فعل معه هذا الفعل بحياته ومماته جدير بأن يطيعه ولكن الإنسان كفور «ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ ٢٢» أحياه للحساب والجزاء بالوقت المقدر لبعثه بعد انتهاء الوقت المقدر له في برزخه (كلا) ردع وزجر لذلك الإنسان المتكبر المتجبّر المترفع المصر على الكفر وإنكار البعث وهو «لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ» ربه من الإيمان به ولم يؤد ما افترضه عليه ولم يقم بشكر ما أنعم به عليه ولم يف بعهده الذي أخذه عليه في عالم الذر كما سيأتي في الآية ١٧٢ من الأعراف الآتية وبقي على حالته تلك من حين ولد إلى أن مات، ثم أنه
تعالى بعد أن بين له ذلك وعلم أنه لم ينجع به ذكره بما لا بدّله منه في دنياه لعله يعتبر فقال «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ٢٤» كيف يسره له وكيف يأكله وكيف يبقي ما فيه حياته وينتفع به وجوده ويخرج منه فضلاته التي لو بقيت أهلكته وكيف علمه الضار منه فاجتنبه والنافع فأكله مما يحار به العقل، ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول عند خروجه من المستراح الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ثم بين كيفية خلق طعامه فقال «أَنَّا» نحن الإله المنفرد في ملكوته «صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ٢٥» من السماء على الأرض لتنعش وتربو «ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ٢٦» بالنبات والأشجار الخارجة، ثم بين جل شأنه ثمانية أنواع من النبات فقال «فَأَنْبَتْنا فِيها» أي الأرض بسبب ذلك الماء «حَبًّا ٢٧» يتغذى به الإنسان والحيوان مختلفا لونه وشكله وطعمه ويفيد التنوين التعميم بما يشمل الحنطة والذرة والشعير والعدس وغيرها «وَعِنَباً» يتفكه به كسائر الفواكه الأخرى، لأنه ذكر أمهات الأشياء اكتفاء عما يتفرع عنها «وَقَضْباً ٢٨» في كل ما يقضب ويقطع مرة بعد أخرى كالبقدونس والنعنع والفصة فانها كلما حصد شيء منها ظهر بدله والقضبة الرطبة فإذا يبست تسمى قثا، وقال بعض المفسرين القضب كل ما يعلف للدواب وهو جدير لولا أن تأتي كلمة الأب بعد، فهي أولى بهذا المعنى وهو من خصائص الحيوان لأن الله تعالى ذكر أولا ما يخصّ الإنسان وقد عطف عليه قوله «وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا ٢٩» وهاتان الشجرتان أكثر نفعا من غيرهما لأنهما فاكهة وإدام ويؤكل ثمرهما رطبا ويدخر أيضا «وَحَدائِقَ» جنات وبساتين عظيمة منافعها «غُلْباً ٣٠» غلاظ أشجارها ملتفة على بعضها
ثم عمم فقال «وَفاكِهَةً» من كل يتفكه به الإنسان من تفاح وخوخ وإجاص وكمثرى وسفرجل ومشمس وغيرها «وَأَبًّا ٣١» من كل نبات وشجر وحب يتغذى به الحيوان ويتملح به يابسا أو أخضر وما قيل أن الأب بلغة الحبشة الفاكهة وفسرها بها فغير سديد لانها تكون مكررة إذ ذكرت الفاكهة قبله قال تعالى: وجعلنا هذه النباتات «مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ٣٢» الأب خاصة فاشكروا نعمة الله عليكم أيها الناس لأنّا نمتعكم بذلك كله وغيره متاعا زائلا
سريع الاضمحلال «فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ٣٣» صيحة القيامة وسميت صاخّة لأنها تصخ الآذان لشدتها وهذه هي الصيحة الثانية بدليل قوله «يَوْمَ» يوم مجيئها «يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ٣٤ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ٣٥ وَصاحِبَتِهِ» زوجته لملازمتها له أكثر من غيره «وَبَنِيهِ ٣٦» لعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا إذ ذاك ولا يخففون عنه ما أثقل ظهره من الذنوب لهذا لا يلتفت إليهم، وهم أيضا لا ينظرون اليه لأنهم لا يتوخون منه نفعا في ذلك اليوم إذ «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ» يوم تكون الصّيحة «شَأْنٌ يُغْنِيهِ ٣٧» عنهم أيا كانوا لشدة الهول والفزع ويشغله عن التواد الذي كان في الدنيا. أما الصيحة الأولى فلا يكون فيها الا موت الخلائق أجمع روى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: تحشرون حفاة عراة عزلا فقالت امرأة أينظر أحدنا أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال يا فلانه (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) - أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح- وأخرج بن مردويه والبيهقي مثله وصححه الحاكم وأن السائلة سودة بنت زمعة أم المؤمنين وجاء في رواية الطبراني عن سهل ابن سعد أنه قيل له عليه الصلاة والسلام ما شغلهم؟ فقال نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل! ثم ذكر الله تعالى حال الخلائق المكلفين وبدأ بالسعداء فقال: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ٣٨» مضيئة مشرقة من آثار أعمالها الصالحة في الدنيا كغبار الجهاد ومعاملة الناس بالحسنى وآثار الصوم والصلاة والزكاة والصدقة وقيام الليل مستنيرة من آثار السجود والوضوء وغيرها فهي «ضاحِكَةٌ» سرورا وفرحا بثواب الله «مُسْتَبْشِرَةٌ ٣٩» بكرامة الله لها ورضوانه بعد الحساب ثم ذكر أهل الشقاء أجارنا الله منهم وجعلنا من السعداء. بقوله «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ» أني بعد الفراغ من الحساب تراها منكمشة «عَلَيْها غَبَرَةٌ ٤٠» تعارها والعياذ بالله فتصيرها كدرة مائلة إلى السواد
«تَرْهَقُها» تغشاها فتدركها عن قرب بسرعة هائلة «قَتَرَةٌ ٤١» ظلمة كالدخان فلا يرى أوحش منها لاجتماع العبرة والدخان عليها «أُولئِكَ» الذين صنع بهم ذلك من كشف وجوههم وتغيرها «هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ٤٢» لأنهم جمعوا في الدنيا بين الكفر والجحود فجمع الله عليهم في الآخرة
Icon