سورة يوسف سورة مكية، وعدد آياتها إحدى عشرة ومائة، وقالوا : إن أربع آيات هي الأولى والثانية والثالثة والسابعة مدنية، ولا نرى فيها ما يدل معناها على أنها مدنية، والله أعلم.
ولقد كفرت طائفة من الطوائف الخارجة عن الإسلام بإنكارها سورة يوسف، وادعاء أنها ليست من القرآن، وكان القرآن يخضع بالزيادة والنقصان للأهواء المنحرفة، وإن ادعت التمسك بالدين، فهي تمرق منه مروق السهم من الرمية، وأولئك هم أتباع عبد الكريم عجرو، وإن القرآن كله غير منقوص ثبت بالتواتر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه تلقاه عن جبريل الرسول الأمين عن رب العالمين مرتلا متلوا، كما قال تعالى :﴿.... ورتلناه ترتيلا٣٢ ﴾ ( الفرقان ).
وما كان لنا أن نعرف ما دفعهم إلى هذا الإنكار الذي كفروا بسببه، ولكن نذكره لبيان أنه وهم كافرين لم يذوقوا القرآن ولم يعلموه، قالوا إنها قصة غرام، ونزلت دفعة واحدة، والقرآن منزه عن ذكر الغرام والحب، والقرآن نزل منجما، ونقول في الإجابة عن ذلك، إنها قصة المجتمع المصري، والأسرة الفرعونية التي طغت في البلاد وأكثرت فيها الفساد، وقال قائلهم :﴿.... أنا ربكم الأعلى٢٤ ﴾ ( النازعات )، وبيته على هذا النحو من الانحلال، وهي بينت مغبة الغرام، وكيف يوجد الانحلال، والاستعصام بالفضيلة حيث تفور فورة الرذيلة، ودعوة الوحدانية في وسط الوثنية، وتدبير الاقتصاد، واستعانة الفراعنة بخبراء الاقتصاد حيثما كانوا، وخضوعهم لآرائهم، وتوسيد الأمر لهم، ثم هي تبين مركز مصر الاقتصادي، واستعانة من حولها بها، ثم تثبت نفسية الآباء مع الأبناء، والحسد بين الإخوة، وما ينبغي عند تربية الأولاد.
وإن ما سموه الغرام المنحرف لم يكن إلا في جزء صغير منها، ولم يستغرقه، بل ترددت عباراته، وقد ابتدأته ب﴿ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه.... ٢٣ ﴾، وانتهت بدخوله السجن، وهي ثماني آيات، فيها الغرام من جانبها والاستعصام من جانبه، وباقي السورة حكمة واقتصاد وتدبير، وتعاون، ومشقة وصبر، ثم لقاء الأحباب على مائدة المودة والأخوة والودود.
فكيف تسمى سورة غرام إلا ممن انحرف عقله انحرافا منعه من استيعاب السورة.
وإن القرآن لم ينزل كله منجما، فأول سورة التوبة نزل دفعة واحدة، وأكثر سورة الأنعام نزل دفعة واحدة وسورة إبراهيم أكثرها نزل دفعة واحدة.
وإذا كان مما تسموا باسم من الخوارج من قال هذا القول، فقد كان منهم أيضا، من أجاز نكاح البنات والأمهات والمجوس، وهم- بلا شك- كافرون كإخوانهم.
ونقول : إن أكثرهم كان مؤمنا منحرف العقل، ورضي الله عن علي بن أبي طالب إذ قاتلهم، وقتل منهم مقتلة كبيرة، فقد قال بعد ذلك القتال :( لا تقاتلوهم بعدى، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه ).
إن القصص الذي هو هود وغيرها، كان في الأرض العربية، ولم يكن فيها من غير البلاد العربية، إلا قصة موسى عليه السلام، وقد ذكر فيها طغيان فرعون، وخضوع أهل مصر له، في نفوسهم، وأفكارهم، وعقولهم حتى ساغ له أن يقول :﴿.... ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد٢٩ ﴾( غافر )، أما قصة يوسف عليه السلام فإنها تناولت ناحية اجتماعية، تعرضت للأسرة، وما يجري في داخل القصور، وتعرضت للمجتمع المصري، وانحراف نساء الطبقة التي تسمى راقية، ثم تعرضت للإقتصاد في مصر، وكيف كان يدبره إلى آخر ما جاء في السورة الكريمة، ثم صورت لقاء الأحبة بعد أن فرق الحسد فيما بينهم.
الحسد بين الإخوة في سورة يوسف
إذا كان الحسد بين ابنى آدم قد حمل أحد الأخوين على أن تطوع نفسه قتل أخيه فقتله، فالحسد بين يوسف وإخوته على أن يحاولوا أن يلقوه في غيابة الجب.
رأى يوسف رؤيا صادقة، وهو غلام، قال يوسف لأبيه﴿.... يا أبت إني رأيت أحدا عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ٤ ﴾ فهم يعقوب الأب الحبيب الذي يؤثر يوسف على إخوته باختصاص بمحبة أكثر لصغره، ومنها أن ليوسف منزلة عند الله فوق منزلة إخوته، فقال له :﴿... لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين٥ ﴾.
ولقد أخبره باصطفاء ربه له، وتعليمه من تأويل الأحاديث، ما قد يثير إخوته.
﴿ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ٧ ﴾، أي دلائل تبين حكمة الله تعالى في الخلق والتكوين، وطبائع النفوس، وطغيان الحسد على المحبة الأخوية والمودة الواصلة، وإن تسعة أعشار الجرائم أو كلها سببها الحسد، فإذا اقتلع من النفوس اقتلع أكثر الأخباث النفسية، و﴿ للسائلين ﴾ أي الباحثين الدارسين لطبائع النفوس.
ابتدأ التدبير السيئ بقولهم :﴿.... ليوسف وأخوه أحب إلي أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين ٨ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ٩ قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب... ١٠ ﴾، لم ينفذوا القتل، أو لم يريدوه، وذلك للمشورة، فكان منهم من لم يرد القتل المباشر، بل أراد القتل البطيء، أو الموت المحتمل وذلك حين تكون الحياة أقرب من الموت، ولذا قال :﴿..... يلتقطه بعض السيارة... ١٠ ﴾.
التنفيذ
ذهبوا إلى أبيهم، و﴿ قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون١١ ﴾محبون مخلصون، ﴿ أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون١٢ ﴾.
عندئذ قال يعقوب ما يدل على ما توجسه خيفة على ولده الحبيب العزيز، وفرطت من الرجل الطاهر نبي الله كلمة اتخذوها ذريعة لستر جريمتهم، قال لهم :﴿.... إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ١٣ ﴾.
لقد ذكر أنه يخاف أن يأكله الذئب، في غفلتهم، فلقنهم ما يستر إجرامهم، قالوا وقد وجدوا الحجة وأخفوها في أنفسهم، ﴿.... لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون ١٤ ﴾.
ذهبوا به واجتمعوا أن يلقوه في غيابة الجب﴿ فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم وهم لا يشعرون ١٥ ﴾، وقد ألقى الله تعالى في روع يوسف الغلام الحبيب أنه سيعلو عليهم، وسينبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون.
بعد أن ألقوه في الجب ﴿ وجاءوا أباهم عشاء يبكون ١٦ قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ١٧ ﴾.
وهكذا ترى أن الأب الشفيق الكريم قال إني أخاف أن يأكله الذئب، فقالوا ساترين جريمتهم أكله الذئب، ونبي الله تعالى لم يصدق أبناءه، بل قال بعد أن جاءوا على قميصه بدم كذب :﴿.... قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون١٨ ﴾.
استراح إخوة يوسف، أو توهموا أنهم استراحوا، وعشى على قلوبهم الحسد البغيض فلم يدركوا ما صنعوا وبقيت لوعة الشيخ أبيهم تترقب ابنه، ولم يذهب عنه الأمل في لقائه، ولم ييئس﴿... إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون٨٧ ﴾.
ولننظر في قصة القرآن عما جرى ليوسف، وقد ألهمه الله تعالى الاطمئنان، جاءت قافلة تسير فأرسلوا واردهم يتعرف أماكن الماء، فوجد الجب، فألقى دلوه، فلم يخرج الماء، ولكن خرج ما هو أطهر فاستبشر، و﴿.... قال يا بشرى هذا غلام... ١٩ ﴾، وأسروه على أنه بضاعة، ولأنها بضاعة جاءت من غير ثمن، باعوه بثمن بخس دراهم معدودة، ولم يكونوا راغبين في اقتناء هذه البضاعة بل كانوا فيه من الزاهدين.
وإذا كان قداستقبل شقوة الحسد، فقد استقبل بعد ذلك بالبشر والحبور، ﴿ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.... ٢١ ﴾، وكذلك أشرق النور في وسط الظلمة.
وبذلك مكن الله تعالى ليوسف، وألهمه الله تعالى تأويل الأحاديث التي تتحدث بها النفس في منامها، ﴿ ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ٢٢ ﴾ ولكن النفس الصبور يصقلها الله تعالى بالشدة واذا كانت الشدة التي استقبلته اولا كانت تتعلقل بحياته او موته فالشدة الثانية اخطر على نفس الصديق يوسف.
﴿ وراودته التي هو بيتها عن نفسه... ٢٣ ﴾، أي أرادته لنفسها، وحاولت أن تخرجه من نفسه الطاهرة الصافية، ﴿.... وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ٢٣ ولقد همت به وهم بها لولا أن رأي برهان ربه.... ٢٤ ﴾ في وقت هذه المحنة النفسية رأى نور الحق الذي يعصم نفسه، فبقي نقيا طاهرا، وصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عباد الله الصالحين، واستبقا بعد ذلك إلى الباب هو يفر هاربا، وهي تمنعه وتجذبه إليها، وفي هذه المسابقة قدت قميصه من ورائه ؛ لأنها تجري وراءه لتشده إليها مانعة له من الخروج.
ولكنهما وجدا سيدها لدى الباب، وببداهة المرأة التي تفجر ألقت التهمة على يوسف، و﴿.... قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ٢٥ ﴾.
فبرأ يوسف نفسه عن التهمة، وقال الصدق :﴿.... هي راودتني عن نفسي... ٢٦ ﴾.
اتهمته كاذبة، واتهمها صادقا، فلم يندفع العزيز، واحتكم، فحكم حكم من أهلها :﴿.... إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين٢٦ وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ٢٧ ﴾ فألفيا قميصه قد من دبر، وبذلك تبين كذبها، وصدقه.
اطمأن زوجها إلى براءة يوسف، وقال :﴿... إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم٢٨ يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين٢٩ ﴾.
وإن أخبار القصور تشيع وتنتشر، وقد كانت قصة المراودة بين زوج العزيز، ويوسف، وزوجها وبعض ذوي قرباها، ولا ندري كم كان عددهم، والخبر إذا خرج عن اثنين شاع، والناس دائما في شوق إلى ما يجري داخل القصور، وينشر دائما ما فيه غرابة.
﴿ وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه... ٣٠ ﴾ فأقامت لهن وليمة﴿ فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا الاملك كريم ٣١ قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين٣٢ ﴾.
ومع تصميمها على المراودة، كان تصميم يوسف على الطهر، والدفع، ورضي بالسجن عن هذه المعصية و﴿ قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين٣٣ فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن... ٣٤ ﴾.
كان الخبر يشيع، وقد رأى العزيز وملؤه الآيات الدالة على براءة يوسف، وأنه كان فريسة المراودة ولم يكن فاعلها. وقد رأوا حسما للشائعات حبسه﴿ ثم بذا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ٣٥ ﴾ أي حتى تمر مدة تهدأ فيها عواصف الشائعات.
دخل السجن، ومعه فتيان، استأنسا به، وفاضت نفوسهما إليه، ورأى كل منهما رؤيا، فقال أحدهم يقص رؤياه :﴿.... إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأوليه إنا نراك من المحسنين ٣٦ ﴾ أجابهما، ﴿ قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون٣٧ واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون٣٨ ﴾ابتدأ بالدعوة إلى التوحيد، وهو رسالة النبيين، ومعه دليلها، وهو تعليم الله تعالى له، أنه ينبئهم بما يأكلون، كما ع
ﰡ
ابتدأ سبحانه وتعالى هذه السورة بحروف صوتية منفردة، ومهما يحاول العلماء أن يفسروها لا يصلون إلى معانيها وهي ظنون يرددونها وليست معاني يستقيم إدراكها، إنها متشابه اختص الله تعالى بعلمه، وقد آمنا به، كل من عند ربنا، ولا ينبغي تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله.
ونتلمس الحكمة في نزول هذه الحروف، فما أنزل الله شيئا إلا لحمة، وما أنزل شيئا عبثا سبحانه، وإنا نتلمس الحكمة في أمور :
الأمر الأول : أنها حروف مفردة لا يعرفها الأمي، ويعرفها الكاتب، فمجيئها على لسان أمي دليل على إعجاز القرآن الكريم.
الأمر الثاني : أنها تشير إلى الإعجاز، فهي تشير إلى أنه مكون من الحروف التي تتكلمون بها، ولكنه معجز، فهو من جنس كلامكم، ولكنكم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله ؛ لأنه فوق طاقتكم، وإن كان قريبا لكنه معجزة.
الأمر الثالث : أن كبار المشركين كانوا قد اتفقوا على أن يلغوا إذا سمعوه ليشغلوا أنفسهم، فكان النبي ومن معه من المؤمنين إذا ابتدءوا يقرأون بهذه الحروف الصوتية قطعوا عليهم كفرهم والتفتوا مستمعين ناقضين ما اتفقوا عليه، كما اتفقوا على ألا يذهبوا ويسمعوا، ثم تبين أن المتفقين على المقاطعة، قد اجتمعوا ليسمعوا.
ولذا يذكر القرآن أمر الكتاب بعد هذه الحروف في كثير من السور التي ابتدئت بها، والله أعلم.
الأمر الأول : أنه نزل مقروءا متلوا، علمنا الله تعالى قراءته وتلاوته، ولم يتركنا نتصرف في قراءته، كما نقرأ كلاما من كلام الناس، بل علمنا قراءته وترتيله، كما قال تعالى :﴿.... ورتلناه ترتيلا٣٢ ﴾ ( الفرقان ). وكما قال تعالى في نزوله، وجبريل يقرئه للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به١٦ إن علينا جمعه وقرآنه١٧ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ١٨ ثم إن علينا بيانه١٩ ﴾( القيامة ).
الأمر الثاني : إن القرآن المعجز هو العربي، وليست ترجمته قرآنا ؛ لأنها من عبارات البشر، ولأن الترجمة لا يمكن أن تكون محققة لمعاني القرآن، إذ هو عميق يغوص فيه الغواصون على الحقائق، وإنه محدد المعاني، تزيد المعاني في نفس القارئ بمقدار ما يزداد إدراكه، وهو واضح لكل إنسان بمقدار إدراكه، فالأمي يدرك منه بمقدار ما تتسع له طاقته العلمية، والعالم بالكون تتسع له المعاني بمقدار طاقته، ولذا واصفه العربي البليغ بقوله :{ إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو، ولا يعلى عليه.
ولا يصح أن يدعي لأحد أنه ترجم القرآن، وأن ترجمته قرآن يتعبد بتلاوته، ويسجد له سجدة تلاوة ولا يمسه إلا وهو طاهر، وقد أجمع على ذلك العلماء ؛ السلف والخلف على سواء، إلا من ران الله على قلبه وعقله، وإذا كان قد روي عن أبي حنيفة أنه أجاز الفاتحة بالفارسية، فإن الراجح أنه رجع عن ذلك، عندما لانت ألسنة الأعاجم، بقراءة القرآن ١، وقانا الله تعالى شر البدعة والمبتدعين.
وقال تعالى :﴿ لعلكم تتقون ﴾، أي رجاء أن تعقلوا معانيه، وما يدعو إليه وما يتضمنه من بلاغة معجزة وما فيه من بلاغ للناس، والرجاء من الناس لا من الله، أي لعلكم تكونون في وضع من يرجو الإدراك السليم، والله عليم بما تخفي الصدور.
وقد مهد الله سبحانه وتعالى لقصة يوسف، التي كان الخبر عن يوسف الصديق عليه السلام وهو قطبها الذي دارت عليه أخبارها، عليه وعلى نبينا أفضل السلام وأتم التسليم، فقال :
الضمير﴿ نحن ﴾ ضمير المتكلم، وهو الله تعالى، وهو الله العظيم في ذاته وصفاته، ﴿ نقص عليك أحسن القصص ﴾، والقصص الإخبار المتتابع، الذي يحكي، ويتبع ما يحكيه، تتبع الاستقصاء، وعبر عنه سبحانه بأنه﴿ أحسن القصص ﴾ ؛ لأنه قص بأبدع أسلوب، ولأنه يبين عجائب النفوس، وفيه أحسن الآداب، وما ينبغي لاتقاء آفات النفوس، وانحرافها، ولأن فيها علاج الآفات النفسية التي ينزغ فيها الشيطان نزغته، ولأن فيها علاج الأمم في اجتماعها واقتصادها وإفضاء بالخير على جيرانها، وإمداد المحتاجين من الأمم، ففيه الخير، كما في إمداد الآحاد بالخير.
﴿ بما أوحينا عليك هذا القرآن ﴾ أي أن هذا القصص مصدره الوحي، ولا علم لأحد به حتى يعلمك هذا، ولذا قال :﴿ بما أوحينا إليك ﴾، أي بإيحائنا، ولا مصدر له إلا وحي الله تعالى، وقد أوحي به في ضمن القرآن الكريم، ليكون دليلا من أدلة إعجازه، وسببا من أسباب الإعجاز، وإذ أخبر بما هو صادق، ولم يكن للعرب علم به عندهم، ولذا قال تعالى :﴿ وإن كنت من قبله لمن الغافلين ﴾ "إن" مخففة من الثقيلة، وإنها ضمير الشأن والحال، والمعنى وإن الحال والشأن كنت من الغافلين، و"اللام" لام التوكيد، وقد تأكد نفي علم النبي بذلك من غير الوحي ب"إن" المخففة من الثقيلة، و"كان" الدالة على استمرار غفلته عنه من قبل ذلك القرآن المبين الذي أوحى به.
وعبر سبحانه بإثبات الغفلة، لا بمجرد نفي العلم ؛ للإشارة إلى أن هذا من دقائق العلم وعميقه الذي تغفل منه العلماء، إلا من يكون آتاه الله تعالى وحيا من علام الغيوب ؛ لأنه علم بالنفوس، وخواطرها وما تختلج به الأفئدة، وذلك لا يكون إلا من عليم، وفيه علم كامل بالاقتصاد من غير تعليم أحد من البشر، فعلم يوسف بالاقتصاد الصالح مع النزاهة النبوية علم من الله، فعلمه الله تعالى تأويله الرؤيا الصادقة، وبها اهتدى ودبر الأمر، وادخر من سني الرخاء للشدة، وكان تدبيره خيرا، وبذلك علم الناس، ألا يسرفوا في رخاء حتى يقحطوا إذا اشتدت من بعد.
وقد ابتدأ سبحانه وتعالى ذكر القصص بذكر الرؤيا التي رآها، وهو غلام،
﴿ إني رأيت ﴾ من الرؤيا لا من رؤية البصرية، فهي رؤيا في المنام، لقول أبيه له فيما قص القرآن الكريم :
وإن هؤلاء كانوا إخوته من أبيه، كما جاء في حالهم عندما سألهم عن أخ لهم من أبيهم، وهو شقيقه فدل هذا على أنه مع إخوته الأحد العشر من أولاد العلات الذين تختلف أمهاتهم، ويتحد أبوهم، ولا يكونون متحاربين كتحاب أولاد الأعيان أي الأشقاء، ويجد الشيطان فرصة لينزع بينهم.
وقد ذكروا أسماء الكواكب في روايات لم تصح عندنا، ولا نحتاج إلى معرفتها ؛ لأن المغزى متحقق، وهو أنه رأى هذه الرؤيا الصادقة، ورؤيا النبيين لا تكون إلا صادقة، ويوسف عندما رآها كان غلاما، ولا يمنع ذلك من أن تكون صادقة، فإن صدق الرؤى ليس مقصورا على الأنبياء، إنما رؤى الأنبياء مقصورة على الصدق، رأى نبي الله تعالى يعقوب عليه السلام، ما يحرك نفوس الإخوة، أن تثير هذه الرؤيا حسد إخوته الذين ليسوا أشقاء فقال :﴿ لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين ﴾.
هذا درس حكيم لمن يكون له أولاد علات، يجب عليه أن يعلم أن الشيطان ينزغ بينهم العداوة ويزكي لهيب التحاسد بين الأولاد، فيجب عليه أن يمنع ما يوجب التحاسد، فوراء التحاسد التباغض، وعداوة القرابة تكون أشد إزراء١، كما قال الشاعر :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
لم يرد نبي الله يعقوب أن يذكر يوسف الرؤيا لإخوته وقال في سبب النهي عن قص الرؤيا على إخوته﴿ فيكيدوا لك كيدا ﴾( الفاء ) تدل على أن ما قبلها وهو القصص سبب لما بعدها وهو الكيد، والكيد هنا هو التدبير السيئ الذي بسببه الحسد، الذي هو سلاح الشيطان، لذا قال بعد ذلك ﴿ إن الشيطان للإنسان عدو مبين ﴾ أي إنه عدو لك ولإخوتك، ولذا يغري بينكم بالعداوة والبغضاء، وتكون الإساءة بدل الود.
وإن هذه القصة فيها آيات بينات دالة على النفس الإنسانية في توادها، وبغضائها، ورعاية الله للضعفاء، والأخذ بأيديهم من المهانة إلى المعزة، وقد قال تعالى فيها، إن فيها آيات للسائلين.
وفي وقت هذا الحرص الشديد على منع يوسف من القصص على إخوته حتى لا يثير حسدهم، بشره بأن الله اجتباه لمكانة عظيمة، فقال مبشرا :
الاجتباء افتعال من "جبي"، وهو الجمع للنفس، فمعنى اجتباك أي جباك لنفسه، واختارك سبحانه وتعالى، أي لتكون خالصا لله تعالى، ﴿ وكذلك ﴾ الإشارة إلى ما تضمنته الرؤيا، أي كهذه الرؤيا التي سجدت لك فيها الكواكب والشمس والقمر، يختارك الله تعالى لتكون نبيه﴿ ويعلمك من تأويل الأحاديث ﴾، أي معرفة مآل الأحاديث في الرؤيا، وفي الرؤية، فيعرف صادقها وكاذبها، ويتم نعمته عليك بالنبوة والملك والسلطان العادل﴿ كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم ﴾ إذ جعله خليله، وصفيه وحبيبه، ﴿ وإسحاق ﴾ أي وكما أتمها على إسحاق النبوة وحباه من ذريته النبيين، وآل يعقوب هم إخوته وأسرته، وعلى رأسها أبواه.
وقد صحت نبوءة يعقوب التي فهمها من الرؤيا الصادقة، فقد أجلس أسرته على عرش مصر، كما تبين من آخر القصة، وسنذكرإن شاء الله تعالى.
في قصة يوسف آية للسائل
قال تعالى :
هذا تدبيرهم الماكر، وقد ابتدأ الله سبحانه بالإشارة إلى ما في قصة يوسف عليه السلام من آيات بينات في تكوين النفوس والمجتمعات من أول الأسرة إلى المجتمع الإنساني الأكبر الذي يجمع العناصر المكونة للمجتمع الكبير والمجتمع الصغير، وفي الأسرة والحي.
أول هذه الآيات بدءا وظهورا :"الحسد" الذي يعتري أولاد العلات أو أولاد الضرائر، وهو ظاهرة من الظواهر التي تبدو، ويحسب بعض الناس أنه داء لا علاج له، والسورة تشير إلى أنه داء، يمكن توقيه، وإذا وقع يمكن تحسين عواقبه، وأنه لا يصح لإبعاده، منع تعدد الضرائر، أو منع تعدد الزوجات.
ولكن السورة أشارت إلى أن الوقاية منه هو منع ما يثيره، بإظهار المنزلة العالية، لبعض الأبناء، وإظهار البخس للآخرين أشار إلى ذلك قول يعقوب ليوسف :﴿ لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا ﴾.
وإن هذا الحسد ليس حسدا متمكنا بحيث يبقى بين الإخوة ما داموا، بل إنه سرعان ما تقضي عليه المحبة التالية التي إن اختفت حينا، فلن تختفي طوال الحياة، وسرعان ما تكون، وهي الباقية، والأصل، والحسد عارض لا يدوم، ألم تر لقاء يوسف بإخوته ذلك اللقاء الحبيب، وهم يقولون :﴿... تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين٩١ ﴾.
والثانية : من الآيات النفسية. أنه لا يذهب بقوة الرجل غير الحزن الدفين المستكن في النفس، فهذا يعقوب الإنسان يمض نفسه الحزينة، حتى تبيض عيناه من الحزن وهو كظيم.
الثالثة : أن البشر بعد البؤس، والسرور بعد الألم يرد إلى النفس ما أذهبه الحزن، فإنه لما ألقي على وجهه قميص يوسف ارتد بصيرا ؛ لأن الحزن قد ذهب إلى غير أوبة، والسرور يفعل فعله في الجسم فيزيل ما فعلته الكآبة فيه.
الرابعة : أنه في وسط ثورة الباطل وحدته في غلمان يعقوب وحسدهم لأخيهم وجد من يدعو إلى الرفق، ويستمع إليه، فقد اتفقوا على قتله، فجاء واحد منهم، وهم في حدة الحسد، وقال :﴿.... لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة.... ١٠ ﴾، وهذا يوحي إلى أن كلمة الرفق لها استجابة في أشد الإخوة عنفا.
الخامسة : إن أشد ما يثير الحسد، هو الإيثار بالمحبة، فإن إثارة الحسد، لا تكون بالإيثار بالطعام أو الشراب وإعطاء المال فقط، بل إن الإيثار بالمحبة أفعل وأشد، ألم تر أولئك الغلمان يقولون : إن يوسف وأخاه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة.
السادسة : أن الصبا أقرب إلى حب الانتقام من كبر في السن، فشدة الصبا، معها شدة الجهالة وحب الانتقام، من غير نظر إلى العواقب، وأنت ترى صبيان يعقوب، وهم يحسدون يوسف قد بدله الله تعالى منهم رجالا يتحملون التبعات بعد أن أوشكوا أن يكونوا كهؤلاء أو كانوها.
السابعة : أنه لا يطفئ الحسد إلا المحبة القوية المانعة، ألم تر أن المحبة التي كانت تنبعث من قلب الأب الرفيق الشفيق كانت تنهنه من حدة الحسد فيهم، وقد بدا ذلك منهم عندما طلب يوسف أخاهم من أبيهم، فقالوا :﴿... إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه.... ٧٨ ﴾، فهل كانت هذه حالهم عندما أخذوا يوسف، وألقوه في غيابة الجب بعد أن أرادوا قتله.
وإن هذا يدل على أن حسد الإخوة مهما يكن مآله إلى زوال، وعوامل زواله أقوى من عوامل بقائه.
الثامنة : أن الدعوة إلى الخير لا يصح أن يكف عنها المؤمن مهما يكن في حال من البؤس والألم، ألم تر يوسف الصديق وهو في السجن، لم تشغله حاله عن الدعوة إلى التوحيد.
التاسعة : أن السورة تصور النفس الإنسانية في انحرافها، واستقامتها، ألم ترها تصور امرأة العزيز وقد انحرفت عن الجادة نحو فتاها، وأنه شغفها حبا، وإن ذلك يدل على فساد القصور في هذا العهد، وألا ترى أن في هذا دعوة لأن يحتاط أرباب البيوت فلا يجعلون في خدمهم جميلا ؛ فإنهم يفسدون به نساءهم، ويفسدونهم، ويطمعونهم فيهم.
وإن هذه الحال من شغف امرأة العزيز بيوسف، وردها، ومقاومة دواعي الهوى في شاب قوي فتي، يدل على أن الإرادة القوية الحازمة تكبح جماح الشهوة.
العاشرة : أن السورة تصور نساء الطبقة المترفة في ذلك العصر لقد كن يشعن قالة السوء وينشرنها، غير ملتفتات إلى عواقب ما يقلن، وما أشبه الليلة بالبارحة، فإن ذلك لا يزال خلق المترفات من نساء مصر، وخصوصا أهل القصور.
الحادية العاشرة : أن الرؤيا الصادقة سبحة روحانية، وأنها تكون للمشركين كما تكون للمؤمنين، والإنسان ولو كان مشركا له روح، فقد رأى الفتيان صاحبا يوسف في السجن، رأيا رؤية كانت صادقة، فأول لهما يوسف الصديق الرؤيا، ووقعت كما أول.
الثانية عشر : أن يوسف عليه السلام، كان علمه لدنيا من الله تعالى، فما تعلم على أحد، وما درس، فقد فصل عن أبيه في سن دون سن التعلم، وعاش عيش العبيد، وهو "الكريم ابن الكريم" ١، وقد علمه الله تأويل الأحاديث، وعلمه تدبير السلطان، وخصوصا وقت أن تعقد الاقتصاد وتأزمت حلقاته.
الثالثة عشرة : أن مصر كانت مصدر الخير، لأهل الشرق، فكانت مزرعته الذي يقصد إليها في شدائده.
الرابعة عشرة : أن أرض الله يفيض خيرها بعضها على بعض، كما رأيت ما أفاضت به مصر على جيرانها، وكيف كانت تميرهم، وتمونهم.
الخامسة عشرة : أن الله تعالى له عبرة في خلقه، كيف جعل ذلك الأسير الذي باعوه بثمن بخس لأنهم لا يريدونه- ملكا مسيطرا على مصر، ومن حولها من بقاع الأرض.
السادسة عشرة : أن سيادة العدل تأتي بالخير والوفير، وأن الظلم لا يأتي إلا بالشر المستطير.
السابعة عشرة : أن الصفح الجميل علاج كل الآفات الاجتماعية ما دام الصفح عن قوى.
الثامنة عشرة : أن العز الحقيقي يجب أن يفيض على الأحباب حتى من ظلم، ولا يبخس لحق غيرهم كما فعل يوسف مع أبويه.
التاسعة عشرة : أنه يجب أن يخضع الكبير في سنه، لحكم الصغير في سنه ما دام عدلا، وقد رأيت خضوع يعقوب ليوسف، كما قال :﴿.... وخروا له سجدا... ١٠٠ ﴾ أي خاضعين ؛ لا أنهم سجدوا له سجود الصلاة.
الآية المتممة للعشرين : شكر المنعم، كما فعل يوسف الصديق، فقد قال خاضعا خاشعا :﴿ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصلحين ١٠١ ﴾.
هذا ما نراه في معنى الآيات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله :﴿ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين٧ ﴾، أي للمتعرفين الذين يسألون عن معاني الحوادث وما ترمي إليه، وما تدل عليه.
وقد ابتدأ سبحانه وتعالى قصتهم بذكر ما جالت به صدور إخوة يوسف وما نطقت به ألسنتهم
﴿ إذ ﴾ ظرف للماضي، وقالوا إنه يتعلق بفعل محذوف تقديره"اذكر"، أي اذكر هذا القصص يا محمد. ﴿ قالوا ﴾، وهم الإخوة عن أخويهم من امرأة غير أمهم، وقالوا كما صورته لهم العلاقة بين أولاد من أمين، وليس الأمر كما تصوروا وقد أكد لهم ذلك شبابهم، وانفصال نفوسهم عن أخويهم وقالوا مؤكدين :﴿ ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ﴾ وقد أكد لهم وهمهم أنهم أقرب حبا إلى أبيهم، وقالوا :﴿ أحب إلى أبينا منا ﴾ وأضيفوا جميعا إليه للدلالة على أن التسوية واجبة بينهم، وزعمهم أنه لم يسو بينهم، كما صوره لهم وهمهم، وأكدوا أن يوسف وأخوه أحب إلى أبيهم، فعبروا بقولهم﴿ وأخوه ﴾، كأنه ليس أخاهم، ولكن الشر استحكم في نفوسهم.
﴿ ونحن عصبة ﴾ أي قوة نافعة له في زرعه وضرعه، وكل حاجاته، لينتهوا بأن قالوا كما زين لهم الشيطان بسبب الحسد :﴿ إن أبانا لفي ضلال مبين ﴾ أي أنه بعيد عن الصواب بعدا بينا، وأكدوا ذلك الذي توهموه ب﴿ إن ﴾ المؤكدة، و( اللام ) في قوله :﴿ لفي ضلال ﴾، والتعبير ﴿ لفي ﴾ فيه إشارة إلى أن الضلال محيط به إحاطة المظروف بظرفه، سيطر الشيطان على نفوسهم، فحرك الحسد إلى أقصى غاياته، فابتدءوا تدبيرهم فقالوا :
هذا تصوير للجريمة كيف يبتدئ دخولها في نفس من تسول له نفسه الإجرام، لقد زينوا لأنفسهم أولا أنهم الأجدر بالمحبة، وأنهم الأنفع، ثم اندفعوا إلى تدبير الجريمة وتنفيذ القتل، أو أن يطرحوه ارضا بعيدة عن العمران، فاتفقوا على أحد الأمرين إما القتل، وإما النفي، وتركه في أرض الله.
ولكن واحد منهم أبعد فكرة القتل، وقال : لا تقتلوه.
ومعنى :﴿ يخل لكم وجه أبيكم ﴾ يكون خالصا خاليا من الحب الذي كان ليوسف، ﴿ وتكونوا من بعده قوما صالحين ﴾ أي تستقيم حياتكم مع أبيكم، ويصلح أمركم مع أبيكم بعذر تعتذرونه، أو تتوبوا عن إثم القتل، ﴿ وتكونوا من بعده قوما صالحين ﴾، وهكذا تزين الجريمة، وتقرب التوية.
﴿ قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف ﴾ أبعد أحدهم فكرة القتل لبقية من شفقة، ولا يريد أن يقتل أخوه بين يديه، ولا يريد أن يغيب في الأرض تائها فيها، ولكن يكتفي بأن يغيب عن أبيه، ويتركه لله عسى أن ينقذ، قال :﴿ لا تقتلوا يوسف ﴾، وذكره باسمه لبقية من صلة تربطه، ﴿ وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ﴾، الغيابة ما يغيب عن الأنظار، غيابة الجب قاعه الذي يغيب عن الأنظار، ولا يستطيع أن يرتفع يوسف منه إلى ظاهر الأرض، والتقاط بعض السيارة له احتمالي، ولكن جعل قريبا، ولعله كان يرجو ذلك كبقية الإخوة مع حرارة الحسد، و﴿ السيارة ﴾ : القافلة السائرة في الصحراء، ثم يقول إن كنتم فاعلين، وإن هذا القائل، كان يرجو من بقيتهم أن يعدلوا، ولذا قال :﴿ إن كنتم فاعلين ﴾ فعلق القول ب﴿ إن ﴾ الدالة على الشك دون القطع، ونحسب أنه كان يرجو ألا يفعلوا.
وقوله تعالى :﴿ يلتقطه بعض السيارة ﴾ معناه يأخذه لقيطا، كأنه لقطة لا مالك لها.
دبروا ذلك التدبير، وبيتوا لأخيهم الشر، وبقي أن يبسطوا أيديهم إليه، بأن يأخذوه من أبيهم.
وقال تعالى عنهم :
كانت المرحلة السابقة مرحلة ظهور الحسد البغيض، والكيد والتدبير السيئ، وهذه المرحلة مرحلة التنفيذ بلا رحمة وبإحكام، ذهبوا إلى أبيهم يعتبون عليه بظاهر من القول أنه لا يأمنهم على يوسف، ﴿ قالوا يا أبانا ﴾ نادوه بالأبوة التي تجمعهم بيوسف، وأبدوا له أنهم يحدبون عليه ويحبونه، ﴿ ما لك لا تأمنا على يوسف ﴾ أي لأي سبب سوغ لك أن لا تأمنا على يوسف، وهنا أدغمت نون( تأمن ) مع( نا ) ضمير المتكلمين، ﴿ وإنا له لناصحون ﴾ النصح يتضمن الشفقة والإخلاص وإرادة الخير، وقد أكد الكاذبون نصحهم له ب( إن ) وباللام، وبالجملة الاسمية، وكان هذا التوكيد لأنهم يريدون أن ينزعوا من نفس أبيهم ما يعتقد أنهم يحسدونه، فهم يقولون : إنا نحبه ونريد الخير، ولا نبغضه.
وبنوا على قولهم الذي أظهروا فيه الشفقة والحرص والمحبة قولهم :
فأجاب الأب الشفيق الطيب، وقد كانوا في مذأبة من الأرض، يكثر ذئابها، قال :
بذلوا أقصى معسول للقول، وأكثروا من تأكيد المحبة، والإخلاص، ويكثر الكائد من قول يكون لإحساسه بأنه كاذب في نفسه، ويحاول أن يستر ذلك على من يخاطبه.
وقد توجس يعقوب منهم خيفة، وقال معلنا خوفه بهاتين العبارتين أولاهما :﴿ إني ليحزنني أن تذهبوا به ﴾ وفي هذه العبارة السامية يبين حزنه الشديد الذي أكده ب( إن ) ولام التوكيد، وسبب الحزن هو مفارقته، فذهابهم به يوجد في نفسه حزنا عميقا، وذلك إمارة حبه الدفين الذي لا يستطيع معه فراقا، والثانية : قوله :﴿ وأخاف أن يأكله الذئب ﴾ فهو لا يحب أن يفترق عنه، ويخاف عليه الذئب.
وهنا نقول : إن نبي الله يعقوب كان ينطق بفطرة الأبوة المحبة، ولكنه يخاطب من يريدون الشر ويفعلون ويحاولون من بعد أن يلتمسوا المعاذير التي يرونها تدخل على نفس أبيهم في يسر، ومن غير استئذان وقد وجدوا الأب الكريم الطيب النقي، يسهل لهم معاذيرهم، وهو خوفه من أن يأكله الذئب، وهم عنه غافلون، فقالوا : أكله الذئب، فعذرهم الكاذب أخذوه من قول أبيهم الصادق، وعلموا أنه الذريعة إلى التصديق، وإخفاء ما بيتوا.
قالوا مسترسلين في خديعة أبيهم، ومن يدبر الشر
قبل الأب الكريم ما بدا من ظاهر قولهم، ولكنه لم يحس بالاطمئنان الكامل ؛ لأنه كلام ليس خارجا من قلوبهم، بل هم كاذبون في حقيقة أمرهم، والله ولي الباطن، وللناس- ولو أنبياء- ما ظهر.
أخذوه بعد أن أحكموا الخطة، ونجحت الخطوة الأولى منها.
( الفاء )لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي ترتيب على أخذه بعد إقناع الأب أن يأخذوه، فلما أخذوه، نفذوا فيه ما دبروا﴿ وأجمعوا ﴾ معناه اعتزموا وأصروا على أن يجعلوه في أعماق البئر، كما قرروا من قبل ودبروا، ويروى أنهم آذوه بالضرب والتنكيل، وهو يستغيث، ولا يغاث حتى كادوا يقتلونه، ونبههم إلى ذلك من نهاهم عن القتل في ابتداء التدبير، وفي هذه الشديدة، والألم المرير، ألقى الله تعالى في قلبه الاطمئنان الى المستقبل والهمه الالهام الصادق بوحي الله تعالى ان المستقبل سيكون له، وأنه سينبئهم بأمرهم هذا، وفي وقت يكونون محتاجين إليه، وهو غير محتاج إليهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى في آخر السورة، وهم لا يشعرون بهذا الإلهام الذي كان وحيا إلهاميا.
بعد أن أتموا ما دبروا من إثم قاتل، وإن لم يأخذ صورة الذبح عادوا إلى أبيهم باكين حقا، أو متباكين لستر ما دبروا، ونحسب أنه بكاء ؛ لأن الاندفاع إلى الشر لا يمنع الإحساس بالألم عند وقوعه، ودم الإخوة لا ينقطع، بل له عواقب أليمة بعد الفعل القاطع.
أي أنهم قضوا النهار غائبين عن أبيهم، ثم عادوا في العشية، يقول المفسرون : إنهم كانوا يتباكون، ولا يبكون، ونحن نميل إلى أنه كان ثمة بكاء حقيقي من بعضهم على الأقل، وهو بعض من الندم على ما ارتكبوا أو أثموا وقد أحسوا بفظاعته، وخصوصا عندما لقوا أباهم، فإن لم يكن لأجل يوسف، فلأجل أبيهم الثاكل.
قالوا في بكائهم أو تباكيهم :
قالوا أمرين كاذبين :
الأمر الأول : أنهم ذهبوا يتسابقون، وتركوه عند متاعهم.
والأمر الثاني : أنهم قالوا : إن الذئب أكله، وما أكله الذئب، إنما أكله الحسد والحقد الدفين.
ولقد أحسوا بأنه لن يصدقهم، فقالوا :﴿ وما أنت بمؤمن ﴾ أي ما أنت بمسلم لنا ومؤمن بصدق قولنا، ولو كانوا صادقين، وادعاؤهم صدق قولهم هو أكذب الكذب.
وقد أحسوا بأن القول لا يغني فتيلا، إزاء الشك من أبيهم،
لم يصدق كلامهم﴿ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا ﴾ و﴿ سولت ﴾ معناها سهلت، وزينت لكم أمرا خطيرا شديد الخطورة، فالتنكير في﴿ أمرا ﴾ لبيان شدته، وبلوغ أقصى قوته، ثم قال :﴿ فصبر جميل ﴾ والصبر الجميل هو الذي يليق بمقام النبوة، والصبر الجميل هو الصبر من غير أنين والشكوى مع الرضا بقدر الله تعالى، وما كتبه الله ورجاء كشف البلاء، ولذلك ما يئس قط من أن يعود إليه ابنه وحبيبه، ولو ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم.
وهو في صبره المرير يتجه إلى الله تعالى ويقول :﴿ والله المستعان على ما تصفون ﴾ أي لايستعان إلا وحده في الصبر على ما يصفون من قول، ولم يقل على ما وقع، بل قال على ما وصفتم، للإحساس بأن ما وصفوا غير ما وقع.
والصبر الجميل، لا يمنع الألم المرير، بل إنه لا صبر إلا إذا كان الألم الشديد، ولكن لا يجزع، ولا يفرط منه ما يدل على عدم الرضا بما قدره الله تعالى وكان.
وديعة الجب، وما جرى لها ! !
ألقى يوسف الحبيب في الجب، وسلمه إخوته وديعة لله تعالى، وإن لم يقصدوا، ونرجح بمقتضى طبائع النفوس أنهم لم يكونوا جميعا مستريحين لهذه الجريمة بل روي أن واحد منهم كان غائبا، فلما أخبر ذهب إلى الجب، ولكن السيارة كانت قد التقطته، وإنه لا يمكن بمقتضى الطبيعة الإنسانية أن يرتاح المجرم بعد جريمته، وخصوصا أنها كانت على أخيهم، وجريرتها كانت على أبيهم الشفيق.
ألقي في الجب، وقد ألقى الله في قلبه الاطمئنان بإلهام الله تعالى والرضا بقضائه وقدره، ﴿ وجاءت السيارة ﴾ قافلة﴿ فأرسلوا واردهم ﴾ الذي يتكشف لهم الماء ليرده، ويملأ لهم ما يسقيهم، فتعرف هذه البئر التي يقر فيها يوسف نتيجة الحسد، ﴿ فأدلى دلوه ﴾، أي أرسل الدلو إلى ماء البئر فتعلق به الغلام الذي أريد له الضياع- أو الموت أيهما أسبق- بالدلو فبدل أن يخرج ماء وجد غلاما جميلا، فقال :﴿ يا بشرى هذا غلام ﴾، استبشر به، وكان وجها صبوحا مشرقا، وقال :﴿ يا بشرى ﴾، يناد البشرى من فرط فرحه، أي أقبلي فهذا وقتك.
أسرته القافلة كلها، وعدوه بضاعة يتجر فيها، تباع وتشترى، ويجري من ورائها كسب، ولم يكونوا راغبين في بقائه بينهم ؛ لأنهم لا يكون معهم إلا من يعمل معهم، وغلام يحملونه ويغذونه قد يكون عبئا عليهم، وهذا معنى قوله تعالى حكاية عن حالهم﴿ وكانوا فيه من الزاهدين ﴾، زهدوا فيه ولم يرغبوا في إقامته معهم، وحملهم إياه، ولذلك باعوه بيع من يرغب عنه، لا من يرغب فيه، وفي اقتنائه، إن صح هذا التعبير بالنسبة لنبي الله تعالى.
ولذا قال تعالى :
باعوه لأحد المصريين، وقد ابتدأ الفرج، وابتدأ يلقاه من يرغب في بقائه، لا من ينفر منه،
﴿ والله غالب على أمره ﴾ لا يرده شيء، ولا يرد قدره شيء، أرادوا له الضياع، وأراد الله له الكرامة فكان ما أراد الله، ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ يغترون بما أوتوا من قوة، وما مكنوا، فيعميهم ذلك عن حقيقة السلطان الإلهي، فلا يعلمون.
كان ذلك التعليم بإلهام من الله وهو صغير لم يبلغ أشده، ولما بلغ أشده آتاه حكمة وعلما بالأمور وتدبيرها، عندما تمكن من حكم مصر، ولذا قال تعالى :
وهنا نسأل أتناولته الأيدي بالبيع والشراء حتى وصل إلى العزيز، فاشتراه، أم أن الذي اشتراه ابتداء هو العزيز ؟ الظاهر من العبارات أن المشتري الأول لم يكن العزيز، وإلا كان يذكر، والله أعلم.
لمحنة النفسية
تنقل يوسف من محنة إلى محنة، لقد امتحنه الله تعالى بإرادة إخوته له الضياع، ثم امتحنه بالرق، وهو الكريم ابن الكريم وقد احتمل، ثم امتحنه بعد ذلك بمحنة لا يقوى عليها إلا أهل العزيمة، وهي فتنة النساء به، وخاف أن يصبو إليهن، ولذا قال تعالى :
راود من راد، فهو مفاعلة من راد، وأصلها تكرار الفعل مرة بعد أخرى، وهي الأخذ برفق ولطف وقوله :﴿ عن نفسه ﴾، أي أنها راودته عن نفسه، أو لتحوله عن نفسه وإرادته ليكون لإرادتها هي ورغبتها فيه، وإن هذه المراودة القولية، واللين والتلطف معه، لتحوله عن إرادة نفسه إلى إرادتها تبعتها حركة عملية، ﴿ وغلقت الأبواب ﴾، ولم يعد منفذ يمكن غيرهما من الاطلاع على ما تريد، ﴿ وقالت هيت لك ﴾ أي أقبل، وقوله :﴿ لك ﴾ أي النداء له، ولعله تغافل عنها أو لم يستجب ابتداء لكلامها، أو لم يفهم، فقالت : النداء لك، فلما علم ما تريد صراحة من غير مداورة ولا مواربة، صرح هو الآخر بردها، وقال إنه لا يليق به فقال :﴿ معاذ الله ﴾ أي الله معاذي وملجئ، أعوذ به من أن أفعل مثل هذا ؛ لأنه فوق فحشه، ليس وفاء لرب البيت الذي أكرمني، ﴿ إنه ربي أحسن مثواي ﴾، هذه الحماية تعليل لامتناعه عن هذه الفحشاء، أي لأن زوجها هو ربه الذي أحسن إليه في مثواه أي في إقامته في بيته، فلا يخونه وإنه حينئذ، يكون خائنا وظالما، ﴿ إنه لا يفلح الظالمون ﴾، لا يفوزون بخير قط.
وقد كان أدبه النبوي أن يتكلم على نفسه، لترعوي هي في نفسها، وتمتنع عما هي مقدمة عليه، فهو قد أكرمها، وأعزها وهي زوجه، وأجدر من فتاها بالوفاء.
ولكنها أصرت، وسارت في الغي إلى أقصى مداه
ومعنى﴿ همت به ﴾ أي قصدته وأرادته لنفسها، فالهم بالشيء قصده، والعزم عليه، فهمت به أرادت مخالطته في هذه الخلوة التي أرادتها، ﴿ وهم بها ﴾ جاء في تفسير البيضاوي، والمراد بهمه بها عليه السلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف عن نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم، أو مشارفة الهم، كقوله : قتلته لو لم أخف الله﴿ لولا أن رأى برهان ربه ﴾ في قبح الزنى وسوء مغبته لخالطها لشبق الغلمة ولا يجوز أن يجعل ﴿ وهم بها ﴾، جواب لولا، فإنها في حكم أدوات الشرط اه.
وخلاصة كلام البيضاوي، وهو كلام الزمخشري أيضا، أنها بدأت له في حال انفعال جسدي، وهمت بمخالطته وأثارت شهوته، وكان الشأن أن يهم بها وأن يقصد مخالطتها، ولكن في هذه الساعة الحرجة رأى برهان ربه وأراد الفرار من سورة الشهوة، وليس في ذلك ما يمس النبوة، بل هو يعليها، فليس الفضل لمن لا يزني وهو غير قادر، إنما الفضل لمن كف عند منازعة الشهوة ومساورتها، وردها، والاستقامة على الطريق.
دفعها عن نفسه، وتركها فشدت قميصه حتى قد من ورائه، واستبقا الباب، هي تريد الوصول إليه لتحكم إغلاقه، أو تسد عليه طريق الخروج، وهو يريد أن يسبق ليخرج طاهرا مطهرا.
لكن كانت المفاجأة
ولقد نطق البريء وما كان لينطق لولا هذا الاتهام
وإذا كان قميصه قطع من دبر أي الوراء فمؤدي ذلك أنه أراد الفرار مما دعته إليه، وأرادت استبقاءه لغايتها، وقد ثبت أن قميصه قد من دبر أي من الوراء، وهذا قوله تعالى :
ولماذا تساهل هذا التساهل ؟ لعله عذرها لجمال يوسف، ولإيمانه بعفته، وقد يكون لبرود طبعه، أو لقوة سلطانها عليه.
﴿ وشهد ﴾ هنا معناها حكم، كما يبدو من السياق.
طيب العزيز نفس يوسف، وقد كان له محبا، واتخذه ولدا، فقال له :
ولماذا تساهل هذا التساهل ؟ لعله عذرها لجمال يوسف، ولإيمانه بعفته، وقد يكون لبرود طبعه، أو لقوة سلطانها عليه.
﴿ وشهد ﴾ هنا معناها حكم، كما يبدو من السياق.
طيب العزيز نفس يوسف، وقد كان له محبا، واتخذه ولدا، فقال له :
إن الأمر لم يعد سرا ؛ لأنه قد صارت محاكمة، ليعرف البريء من السقيم، وهذا موضوع من شأنه أن تتناوله الأفواه، وإن أخبار هذا الصنف سرعان ما يسري بين النساء، وخصوصا نساء القصور.
الشائعة
أخذت الألسنة في المدينة تلوك الخبر، وتتحدث به، ﴿ وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ﴾، ما بين لائمة ومتعرفة، ومتمنية كشأن النساء، وقال سبحانه :﴿ في المدينة ﴾ لبيان شيوع القول بين أهل المدينة، وقلن﴿ فتاها ﴾ ؛ لأن الفتى هو العبد، وذكر ذلك لتصغير شأنها، وأنها تتحبب إلى عبدها، وقالوا في بيان تدلهها به، ﴿ قد شغفها حبا ﴾، أي أصاب شغاف قلبها حبه، فيقال شغفه إذا أصاب شغاف قلبه، ويقال دمغه إذا أصاب دماغه و﴿ حبا ﴾ تمييز محول من الفاعل أي شغف حبه قلبها، ثم حكمن عليها بالضلال حكما صريحا، ﴿ إنا لنراها في ضلال مبين ﴾ أي ضلال بين واضح، والضلال هنا تنكب الصواب، والوقوع في الهوى الذي لا يليق بها فهو لوم شديد لها.
وسمت قولهن مكرا ؛ لأنهن كن يشعنه، وكأنه تدبير السوء، ولأن بعضهن علمته من جانبها فما كتمن لها سرا، ولأنهن كن يوجهن اللوم إليها، ويتبادلن ذلك، وكأنه أمر يدبر، ولذا سمي مكرا.
وبعد أن تهيأ المجلس، قالت ليوسف اخرج عليهن﴿ وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ﴾.
خرج عليهن، يتلألأ فيه نور الحق، الجمال الذي كساه الله إياه، فأخذه أبصارهن وقلوبهن، وحسهن، فقلن :﴿ حاش لله ﴾ أي تنزيها له عن فعل البشر وقوله﴿ لله ﴾، لأنه هو الذي نزهه وكرمه، أو قلن كلمة التنزيه، لأنه خلق مثل هذا الملاك الكريم. و﴿ أكبرنه ﴾، أي جعلنه في موضع الإكبار والشرف، ولذهولهن من الروعة التي تبدى بها جرحن أيديهن، وعبر سبحانه عن الجرح بالقطع ؛ لأن الجرح كان بليغا، ولأن الجرح في حد ذاته قطع لبعض البشرة، وقلن تلك الكلمة المعبرة عما في نفوسهم :﴿ ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ﴾ بهرهن حتى ارتفعت مرتبة الإنسانية إلى مرتبة الملكية. ف﴿ إن ﴾ هنا هي النافية أي : ما هو إلا ملك كريم.
التفتت امرأة العزيز اليهن، وقد رأت الجروح تسيل بالدم من أيديهن، وما اعترى نفوسهن من إكبار له، واستهواء حتى حسبنه ملكا كريما، وليس إنسانا من الطين.
قالت :
فقالت :﴿ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ﴾ كشفت كل ما كان خفيا، أو ما كان ينبغي أن يكون، وبلغت الغلمة أقصاها، ولم تعد المراودة والملاطفة، لأنه استعصم، أي طلب العصمة، وتمسك بها، وتحول الأمر إلى إكراه بالسجن، وتصغير أمره وشأنه في القصر.
ولكن يوسف الأمين المحفوظ برعاية الله، والمحصن بحصن الإيمان، ازداد قوة في الاستمساك بالعفة ؛ وإنه إذا كانت المراودة والتلطف تدني، فالإكراه يجافي ويبعد، وإزاء التهديد لجأ إلى ربه معاذه وملجأه قال :
قالت المرأة الشبقة المغتلمة، إما السجن، وإما الاستسلام لها، فقال عليه السلام :﴿ السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ﴾، وإذا كانت قد بلغ بها عنف الشهوة أعلاها، فقد بلغت به العفة أقواها، ولكنه خشى بحكمة النبوة أن موالاة المراودة والمعاودة إليها والتدبير لإسقاطه أن يؤثر في نفسه، فلجأ إلى مقلب القلوب، ومصرف الأنفس﴿ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ﴾ أي إن لم تصرف عني تدبيرهن الخبيث، وإغراءهن المتوالي أمتثل إليهن وأكن من الجاهلين، أهل الحماقة والفساد.
أجابه سبحانه وتعالى إلى دعائه، والسين والتاء لتأكيد الإجابة، ﴿ فصرف عنه كيدهن ﴾ أي تدبيرهن، وكان يأسهن من إجابته مسهلا للانصراف عن الكيد بالمراودة والإغراء والتهديد، وإن لم تنصرف عنه قلوبهن، إنه سبحانه هو العليم بكل الأحوال السميع لكل الأقوال يدبر كل شيء على مقتضى علمه وحكمته.
السجين البريء
قال تعالى :
هبطت الفتنة في نفوس النسوة، ولكن صداها كان يتردد بين الناس، وخصوصا النساء، وقد آمن الملك فحقيقتين : عفة يوسف، وإغواء امرأته، وانضم إليها من كن يلمنها، وتشايع الخبر في المدينة، فرأوا أن من حسن السياسة أن يسجن يوسف ليبعد عامل الاستهواء، ولينس الناس هذه السيرة، وهذا هو قوله تعالى :﴿ ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ﴾ أي العزيز ومن معه من أهل مشورته من بعد ما رأوا البينات الدالة على مكرهن وإغوائهن مع التهديد﴿ ليسجننه حتى حين ﴾ أي أكدوا إرادة سجنه حينا.
أي بدا لهم الإصرار على سجنه لمدة معينة، حتى ينسى الناس حوادث المرأة والنسوة اللاتي انضممن إليها، وقد أكدن هذا الأمر الذي بدا لهم بالقسم، ولامه، ونون التوكيد، ولكن السجن كان مؤقتا، وليس مطلقا كما ظهر من كلامهم.
وكان تأكيد السجن، لأنه لم يكن منطقيا أن يسجن وهو البريء، ولكن لأنهم وجدوه إطفاء لهذه الشائعة التي هزت مقومات المجتمع، وأشاعت القول بالفاحشة- عن أكبر سيدة في مصر، فكان التأكيد بالسجن ليقاوم منطق البراءة الذي يوجب الثناء وطيب الجزاء، بدل العقاب والإلقاء في غياهب السجن.
حسنت الألفة بين يوسف الحبيب، ومن معه في السجن ؛ لأنه أليف بفطرته، ولأن الضعف يقرب ولا يبعد، ولأن محنة السجن جمعت بينهم، والمحنة تجمع، ولا تفرق.
رأى أحدهما أنه يعصر خمرا، أي يعصر عنبا يكون بعد ذلك خمرا، فعبر بالخمر باعتبار المآل، ورأى الآخر أنه يحمل فوق رأسه خبزا، وتأكل الطير منه.
اقتضى حسن الصحبة ان يلجأ إلى يوسف، وقد توسما فيه الخير، فاتجها إليه قائلين :
أجابهما يوسف، ولكن قبل أن يجيبهما دعاهما إلى الحق وإلى عبادة الله وحده، وأثبت ما يوجب نبوته، ونحسب أنه في هذا الوقت بلغ كمال الرجولة، ولنجزي الكلام في المعجزة والدعوة.
أما المعجزة فقد قال ما يدل على أنه يتكلم عن الله تعالى، وأن الله تعالى يعلمه قال :
التأويل هنا معرفة حقيقة الطعام، ومآله، وقال ليس ذلك بإعلام أحد، إنما هو من تعليم الله تعالى، ولذا قال :﴿ ذلكما مما علمني ربي ﴾، وإن ذلك إخبار بالغيب بتعليم الله تعالى، وليس من ذاته، وإنه لا يعلم الغيب إلا الله، وما يعطيه الله تعالى، كما أعطى عيسى ابن مريم، إذ كان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وكان ذلك بعد يوسف بعشرات القرون.
وإن هذا يدل على أن الله تعالى قد بعثه نبيا على ملة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وقد كان قد بلغ أشده ليتحمل الرسالة، لقد تلونا من قبل قوله تعالى :﴿ ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين٢٢ ﴾ والنبوة هي الحكم والعلم.
قبل أن يؤول تقدم بالنبوة، ودعا إلى إبطال الشرك وإنكار البعث، وابتدأ الدعوة النبوية بأن ذكر نفسه قدوة لهم، فقال :﴿ إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ﴾، وقد وصفهم بحالين سلبيتين إحداهما : أنهم لا يؤمنون بالله، بل يعبدون الأوثان، والثانية : أنهم يكفرون بالعبث، وأكد كفرهم بالبعث بتقديم( الآخرة )، على الكفر، وذلك لمزيد الاهتمام بالكفر بالآخرة، وبتكرار ﴿ هم ﴾، وكان التأكيد لغرابته عند أهل العقول المدركة، فالعقل يوجب الإيمان بالآخرة، لأن الله تعالى لم يخلق الإنسان سدى، ولأن فيه سلوان لمن لا يدرك حظه في الدنيا، ولأنه يتفق مع العلو الإنساني.
بين أنه ترك أن يكون من ملة هؤلاء المشركين الكافرين باليوم الآخر، وبين بعد ذلك أنه لم يكن سلبيا، بل كان إيجابيا، ولذا قال :
فهو فضل الله إذ هداهم إلى عبادة المنعم وحده، وهدي الناس إليه، ولكن أكثر الناس لا يشكرون المنعم بعبادته وحده، ثم بعد أن بين إيمانه وهدايته ليأتسوا، وجه الطلب إليهما، مبنيا بالدليل القاطع أن الله وحده هو المستحق للعبادة ولا يستحقها غيره فقال :
ثم أخذ يبين بطلان الشرك المصري، فقال :
نفي وجود ما يسمونه آلهة، فهي في حقيقة أمرها لا وجود لها وجودا حقيقيا، فضلا عن أن تكون آلهة معبودة وذلك حق ؛ لأن قدماء المصريين كانوا يفرضون آلهة للزرع، وآلهة تتوالد، وتتقاتل، كلها فروض لا وجود لها فهي أسماء سموها وعبدوها، وتتابعت أجيالهم على عبادة ليست إلا أسماء سماها أبوهم، وتبعوهم تبعية الوهم للوهم ما كان لها وجود﴿ ما أنزل الله بها من سلطان ﴾، أي حجة تسوغ عبادتها، وإن الحكم والسلطان، والقدرة القاهرة ليست إلا لله خالق كل شيء﴿ إن الحكم إلا لله ﴾، وهو الجدير بالسلطان وحده﴿ أمر ألا تعبدوا إلا إياه ﴾، وقد أمر ألا تعبدوا غيره، و﴿ ذلك الدين القيم ﴾، أي الدين القويم الذي مع العقل والإدراك السليم، ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾، أي ليس لهم علم بالحقائق، بل تسيطر عليهم الأوهام الباطلة، التي تخدع العقول فلا تعلم، والمصريون القدماء كانوا خاضعين للأوهام، ولا تزال بقية منهم خاضعة للأوهام، وهم الذين لم يدخلوا في دين التوحيد دين الله القيم.
وهكذا نرى نبي الله يوسف عليه السلام ابتدأ بإثبات معجزته، ثم نهى عن الشرك، ووجههم إلى الاقتداء بشخصه، وقد صاروا له حبيبين، ثم وازن بين الوحداينة وتعدد الآلهة، ثم بين لهم إلى أنه لا وجود لما يسمونه آلهة، وأن الدين القويم الحق الذي يوافق قضية العقل البديهية هو الوحدانية.
بعد ذلك اتجه لتأويل رؤياهما، وقد يقال إن دعوته إلى الوحدانية، كانت بين اثنين، ونقول : إن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ابتدأ دعوته بين زوجه خديجة، وصديقه أبي بكر، وعلي وكان ابن تسع، ومولاه، ومكث مستخفيا بالدعوة بضع سنين، فالعدة لا تكون بكثرة العدد، ولكن بقوة الإيمان.
اتجه إليهما بعد ذلك الإرشاد قائلا :
مكث في السجن حينا، وهو يعلم أنه بريء والملك يعلم ذلك، والنسوة يعلمن، فأراد أن يذكر الملك بنفسه فطلب ممن ظن أنه ناج أن يخبر الملك بذلك
وهنا ملاحظتان تتعلقان بالمنهج البياني القرآني
الأولى : قول يوسف ﴿ للذي ظن أنه ناج منهما ﴾، فعبر بالظن ولم يعبر بالعلم، تأدبا مع الله في العلم بالغيب، فإنه وإن كان يقينا عند يوسف، ولكن طريقه لا ينتج إلا ظنا.
الثانية : في كلمة﴿ فانساه الشيطان ذكر ربه ﴾، المعنى ذكره عند ربه، والإضافة لأدنى ملابسة، وقد مكث بعد ذلك بضع سنين، كان فيها داعية للتوحيد، وقد أنس به الذين كانوا يدخلون السجن، فدعاهم إلى التوحيد، وكانوا يدخلون متهمين من الملك أو غيره، ويخرجون مؤمنين مدركين، وكان بعضهم لأنسه بيوسف الصديق يرغب في أن يعود سجينا.
وكان يدعو- كما رأينا في دعوته – صاحبي السجن أولا، وفي هذا إشارة إلى استمرار دعوته إلى التوحيد.
والسجناء في مصر كانوا في أغلب الأحوال أبرياء وضعفاء، وأول من يستجيب للنبيين الضعفاء كما رأينا من بعد في أتباع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وكما رأينا من قبل في أتباع نوح عليه السلام، كما قال عن قوم نوح :﴿.... وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي.... ٢٧ ﴾( هود ).
الخلاص
قال تعالى :
ابتدأ الخروج من السجن، لأن نور النبوة خرج إليهم بعد أن اهتدى بنورها من اهتدى من نزلائه، وكانوا يودون أن يعودوا بعد أن يخرجوا أنسا بيوسف.
رأى الملك رؤيا صادقة، إن وصفت رؤيا من لم يكن موحدا – بالصدق، وإن لم تكن وحيا، رأى الملك﴿ سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ﴾، أي نحيلات لا لحم عليهن، ولا سمن فيهن، والعجاف يأكلن السمان، ورأى سبع سنبلات خضر وأخر يابسات لا خضرة فيهن، وهي متجاورات، نادى ملأه، وهم شيعته الذين يحيطون به وقال :﴿ يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ﴾، يقال عبر الرؤيا، أي جاء بما تدل عليه الحال النفسية التى دلت عليها من عبارة بينة موضحة، وقد تكون من عبور النهر بمعنى عبر النهر، أي بلغ نهايته، وهي هنا ما تنتهي إليه الرؤيا من حقائق قد تكون ثابتة، ومعنى ﴿ أفتوني في رؤياي ﴾، أي اعبروا إلى هذه الرؤيا التي هي امرى وحالي المستولي على نفسي المستغرق لها.
ولقد أجابه ملؤه مجهلين لحاله، وما يشغله، أو مسرين عليه، حتى لا يلج به الهم الغالب، وذلك هو الأقرب المعقول بين ملك وحاشيته.
وأتمو الجواب بنفي قدرتهم على تأويل الأحلام، فقالوا :﴿ وما نحن بتأويل بعالمين ﴾ وما نحن بمعرفة مآل الأحلام بعالمين، أكدوا نفي علمهم بالباء في﴿ بعالمين ﴾، وكان تأكيد ذلك النفي لتأكيد أنه لا مدلول لها ؛ ليطمئن بعد أن أصابه القلق الملقى بالهم والحزن.
عندئذ تذكر صاحب السجن بعد أن أنساه الشيطان، والحوادث يذكر بعضها ببعض إذا كانت متجانسة فذكرته رؤيا الملك برؤياهم، ولذا قال تعالى :
والمعنى تذكر تذكرا شديدا لائما لنسيانه ما كلفه يوسف من أن يذكره عند ربه، ﴿ بعد أمة ﴾ أي حين من الزمان، إذ لبث يوسف بسبب هذا النسيان بضع سنين، والبضع بين الثلاث والعشر، وقيل : خمس سنين، كان فيها هاديا مرشدا للمساجين، قال ذلك الذي نجا :﴿ أنا أنبئكم بتأويله ﴾ بمعرفة مآله، ويظهر أنه أخبرهم بأن يوسف هو الذي سيعلمه، ولذا قال :﴿ فأرسلون ﴾، أي أرسلوني إلى السجن ليعلمني يوسف.
ذهب إلى السجن، وقال :
﴿ أفتنا ﴾، أي بين لنا ما تدل عليه هذه الرؤيا، رجاء أن أرجع إلى الناس، ورجاء أن يعلموه.
قال يوسف في تأويل الرؤيا :
وذكر لهم نصيحة، وهي مقتضى الحلم فقال :﴿ فما حصدتم ﴾، أي ما قطعتم من عيدان الحبوب، ﴿ فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ﴾، وبقاؤه في سنبله يحميه من السوس، ويبقى لما يجيء بعد ذلك من سنين يابسة لا خير فيها لا تؤتي أكلا، وقال بعض المفسرين : إن هذه نصيحة، وهي غير رؤيا، ونحن نرى أنها نصيحة حقا وهي صادقة، والرؤيا تشير إليها، إذ إن العجاف لا تأكل السمان إلا إذا ادخرت ثمرات السمان لتأكلها العجاف، والعجاف جمع عجفاء.
ويقول يوسف مما حكاه الله تعالى عنه :
﴿ إلا قليلا مما تحصنون ﴾، من أحصى بمعنى حفظ، وكأنه جعله في حصن، وهو ما ادخروه ليكون بذرا للزرع في مستقبل أيامهم.
بعد ذلك التفسير بشرهم بأن الأزمة التي تأزمت تنتهي بعد ذلك، وذلك مما علمه من غيب
ولقد بلغ الملك هذا التعبير، وهذا التبشير، فراعه ذلك، فأرسل إليه يحضر ليختص به :
طمأن الملك بعلم حقيقي مما علمه ربه، فأرسل إليه ليأتوه به، ولكن الكريم ابن الكريم لا يذهب إلا مبرأ من كل إثم، وإلا مبينا أنه كان مظلوما بهذا السجن، وأنه كان فريسة كيد النساء، وإن الله تعالى عليم بكيدهن.
طلب منه التحقيق في سبب إلقائه في السجن : قال :﴿ ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ﴾ لقد كادوا لي﴿ إن ربي بكيدهن عليم ﴾ ذكر النسوة اللاتي قلن﴿ امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ﴾، وخرج عليهن فجرحن أيديهن، اسأله ما بالهن أي ما حالهن، ومآل أمرهن.
سأل عن النسوة، ولم يسأل عن امرأة العزيز، وهي التي كانت الأصل فيما نزل به، وقد أدخل السجن لستر الأمر ومنع الناس من أن يتحدثوا به، ويجعلوه ملهاة مجالسهم وسمرهم، وذلك أولا لأن تحقيق مآل النسوة يجر إلى الكلام في امرأة العزيز ؛ لأنه مترتب على ما كان من امرأة العزيز، وثانيا، لأنه لم يرد أن يفاجئ الملك بأمر يمس شخصه، فلم يذكره، لأنه نتيجة للبحث في أمر النسوة، ولا يقوم هو بالاتهام إكراما للملك، فقد أحسن مثواه، ولكي لا يشنع عليها، ولكيلا يحرجه أمام الناس في اتهام امرأته.
استجاب الملك لسؤال يوسف الصديق فقال لهن :
هذا ما كان منهن، وموقفهن في هذا المقام سلبي، أما امرأة العزيز فقد تحرك ضميرها، ونفسها اللوامة، فقالت مخبرة بالإيجاب بالنسبة لها وله﴿ قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ٥١ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين٥٢ ﴾اشتمل كلام امرأة العزيز على ثلاثة أمور كلها إيجابي، وليس سلبيا.
الأمر الأول : قوله :﴿ الآن حصحص الحق ﴾ أي الآن ثبت الحق واستقرت الأمور، وعرفت على حقيقتها، وحصحص : معناها استقر الحق، مأخوذ من حصحص البعير إذا أناخ في مباركه واستقر.
الامر الثاني : اقرارها بانها راودتهعن نفسه
الأمر الثالث : أن يوسف كان هو الصادق عندما قال :﴿.... هي راودتني عن نفسي.... ٢٦ ﴾ وكان قولها موافقا تمام الموافقة لما انتهى إليه الحكم الذي كان من أهلها، وقال إن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين.
وقوله تعالى :
الإشارة في قوله تعالى :﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ إلى قول امرأة العزيز، ولكن الضمير يعود إلى من في قوله :﴿ أخنه ﴾، أيعود إلى يوسف، أم يعود إلى الملك ؟، إن قلنا : إن الكلام كلام يوسف يعود إلى الملك، أي كانت تلك المجاوبة ليعلم أني لم أخنه في غيبته، وأني كنت أمينا على شرفه وعرضه، وإن الله تعالى لا يهدي كيد الخائنين، أي لا يوفق تدبير الخائنين، ويقول تعالى :
هذا على أن هذا القول جاء على لسان يوسف، وهو تخريج الزمخشري، ويصح أن يكون ذلك استرسالا لقولها، ويكون على مع هذا التخريج، ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، وأني أتهمته وأصررت على الاتهام، وهأنذا أقر بالحق أمام زوجي وأمام الناس وأنا ما أبرئ نفسي، إن النفس أمارة بالسوء إلا من رحم ربي إن ربي لغفور رحيم.
وإني أميل إلى أن ذلك من كلام يوسف عليه السلام تبرئة لنفسه أمام العزيز، ولأنه قوله﴿ إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ﴾ هي التي تليق بمقام النبوة، وقوله :﴿ إن النفس لأمارة بالسوء ﴾ فيه إشارة إلى ﴿ ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه.... ٢٤ ﴾ وفي إشارة إلى جيشان الغريزة، ثم كفها، لما رأى برهان ربه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
تمكينه من ولاية مصر
قال تعالى :
من غيابت السجن إلى ملك مصر
سار بهداية الله، وتحت عين الله ورعياته من الجب حتى قال الملك :﴿ ائتوني به أستخلصه لنفسي ﴾، أي أجعله خالصا لنفسي أوسد إليه من الأمور ما أصلح به أمري، وهذا يدل على أن ملوك مصر حتى في عهد الفراعنة، يتخيرون الرجل ليضعوه في المكان الذي يصلح به الأمر، لا كطاغية ظهر في عصر، يعطي الأمر غير أهله، ولا يختار من تكون له كفاءة خاصة.
اختار يوسف ليكون بجواره، فلما كلمه، قال :﴿ إنك اليوم لدينا مكين أمين ﴾، ومكين أي ثابت لك مكانة وممكن في الأمور نأتمنك على كل شيء.
ويوسف الصديق عليه السلام عرف مما علمه ربه المكان الذي يستطيع به إصلاح الأمور، وعرف مما عبر من رؤيا تعلم تعبيرها من الله كيف أمر اقتصادها ولذا قال :
إن هذه المكانة التي وصل إليها يوسف، الفضل فيها لله وحده، ولذا قال تعالى :
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى :﴿ ولا نضيع أجر المحسنين ﴾ أي نجزي الذين يتصفون بالإحسان، والإحسان يقتضي استقامة العقول، وإخلاص القلوب، والقول الطيب والعمل الصالح، وغير ذلك مما يدخل في معنى الإحسان، وهذا جزاء دنيوي مداره التوفيق في القول والعمل. وفي الآخرة خير منه، ولذا قال تعالى :
الوصف الأول : الإيمان، فقال :﴿ للذين آمنوا ﴾، وقد أطلق الإيمان، ليشمل الإيمان بالله تعالى، وهو رأس الإيمان، والإيمان بالحق، والإيمان بالفضائل، والإيمان بحقوق الناس وحماية هذه الحقوق، ويصح أن نقول إن الإيمان بالله تعالى يتضمن هذا كله.
الوصف الثاني : التقوى، ولذا قال تعالى :﴿ وكانوا يتقون ﴾، أي استمروا على التقوى، والتقوى استشعار خشية الله تعالى، وأن يجعلوا بينهم وبين المفاسد أيا كانت وقاية من الاندحار في مخازي الشيطان.
اللقاء
ألقي الإخوة أخاهم في الجب، ثم كذبوا على أبيهم وصاروا لا يعلمون من أمره شيئا، وما كان يجول يخاطرهم أنهم سيلقونه ملكا حاكما، يمدون أيديهم طالبين منه العون، ولكن ما لم يكونوا يتصورونه كان أمرا واقعا رأوه، ولم يعرفوه ؛ لأنهم تركوه غلاما صغيرا، ولكن عرفهم، وهذا قوله تعالى :
ولقد صدق بهذا اللقاء إلهام الله تعالى في وحيه إذ قال تعالى :﴿.... وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ١٥ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وهم له منكرون ﴾ معناه أنهم لم يعرفوه، والنفي مؤكد، بكلمة﴿ هم ﴾، وبالوصف، فحالهم حال إنكار مؤكد وذلك لطول العهد، وتركهم له وهو غلام، وقد صار رجلا مكتملا، وليوهمهم أنه هلك، والفارقة الكبيرة بين حاله إذ رموه في غياهب الجب، وحاله وهو جالس على عرش مصر، أو قريب منه، لذا لم يعرفوه.
وقد روى الكاتبون في قصص الأنبياء أنه صار وزير الملك، وجعل على خزائن الأرض وأقام العدل، والعدل ذاته فيه نماء، واجتهد في تنمية الثروة المصرية، فأكثر من الزراعات، وضبط الثمرات والغلات وادخر ما ادخر لسنى الجدب على النحو الذي شرعه في تفسير الرؤيا، ولما جاء الجدب، وكان يعلم ذلك بتعليم من الله، عم القحط مصر، وتوجه الناس إليه فباعها بالدراهم والدنانير أولا، ثم باعوا حليهم وجواهرهم ثانيا، ثم باعوا أنفسهم ثالثا، ولكن نبي الله أعتقهم بتفويض من الملك.
وقد وصل القحط حيث تقيم أسرة نبي الله تعالى يعقوب فأرسل ولده يمتارون من مصر التي كانت وحدها بفضل تعليم الله تعالى لابنه هي التي يمكن أن تكون فيها الميرة.
كان يوسف هو الذي يتولاها، فأعطاهم ما طلبوا، وطلب منهم طلبا وقد قال تعالى :
ثم هددهم بأنهم إذا لم يحضروه، وكان في شوق إليه، وفي جمع الشمل، وهذا من دوافعه
ولكن يوسف ما نوي أن يمنعهم من الكيل، ولكن أظهر لهم ذلك، ولذلك قال لعبيده :﴿ اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ﴾، أي في ركابهم، فقال تعالى في ذلك :
ونرى هنا أن يوسف الذي كان رفيقا بأهل مصر، كان رفيقا أيضا بإخوته وأبيه، فلم يؤخر عنهم الميرة، بل عجلها لهم، وإن أوهمهم أنه يؤجلها حتى يعودوا إليه مع أخيه.
هل آمنكم عليه ! !
قال الله تعالى :
أرادوا أخذ يوسف من أبيه ليكيدوا له، وكادوا ما كادوا، وهذه المرة، أخذوا أخيه ليكيدوا له، ولكن ليميروا لأهلهم، تشابه الموقف في الظاهر، واختلف الباطن، ويشترك القصص القرآني الصادق في مجراه.
﴿ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل ﴾، الكيل المراد به المكيل، فهو مجاز لتلاقي الاشتقاق، وذلك لإحضار أخينا ﴿ فأرسل معنا أخانا ﴾ أو نقول : إن الكيل على حقيقته، أي منع أن يكال لنا، و﴿ نكتل ﴾ معناها يكال لنا، ونكتل مجزومة في جواب الأمر، ﴿ وإنا له لحافظون ﴾ وعدوا وأكدوا الوعد ب( إن ) واللام، كوعدهم عند أخذهم ليوسف، ولكنهم كانوا كاذبين، وهنا كانوا صادقين، فتشابهت ألفاظ الوعد، واختلفت الحقائق فيها، وإن الأحكام على الأقوال تؤخذ من الظاهر، ويقاس فيه الحاضر بالماضي، وقد كان ماضيهم في يوسف يجعله يخاف من حاضرهم.
وإنه في أثناء مبادلة القول مع أبيهم بشأن أخيهم، وجدوا بضاعتهم في رحالهم،
وإن وجود البضاعة في رحالهم أحيت آمالا، فقالوا :﴿ نمير أهلنا ﴾ فاطمأنوا إلى ذلك، ﴿ ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير ﴾، واعتزموا الوفاء لأبيهم، بحفظ أخيهم، فقالوا :﴿ ونحفظ أخانا ﴾.
وأبوهم كان مكلوما من نتائج إعطائهم يوسف، فكان لا بد أن يحتاط لأخيه، حتى لا تكون النتيجة مثل ما كان بالنسبة ليوسف، بل أخذ عليهم ميثاقا كان نصه :
كان الميثاق أن يأتوه به إلا أن يكونوا في حال إحاطة بهم، بحيث يغلبون على أمرهم، أو يكونون لا يطيقون فيها القدرة على المحافظة، ولقد قال بعد أن أتوه موثقهم﴿ الله على ما نقول وكيل ﴾، أي رقيب يعلم ما في الصدور فيعرف نيتكم، وإرادتكم الوفاء.
ولقد كان نبي الله شفيقا بأولاده جميعا، ويخص يوسف وأخاه بحبه لصغرهما، إبان رمي يوسف في غيابة الجب، ولذا قال لهم :
لقاء الأحبة
دخلوا من أبواب متفرقة، وتمثلت في يعقوب النبي صورة الأب الشفيق الذي يخشى على أولاده من كل شيء، فإن الشفقة توهم ما لا يكون له حقيقة أو تكون له حقيقة ولكن بعيدة ؛ خاف على أولاده أن يعانوا، أي تصيبهم العين، فقال :﴿ يا بني لا تدخلوا من باب واحدة وادخلوا من أبواب متفرقة ﴾، ففعلوا استجابة للحنان الذي يغمرهم، ولذا قال تعالى :﴿ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ﴾، أي من أبواب متفرقة حيث أمرهم أبوهم مما كان لا يغني عنهم من الله من شيء، أي لا يدفع عنهم دون الله تعالى من شيء، أي أن العين وأشباهها لا تدفع بالدخول من أبواب متفرقة، إنما يدفعها الله إذا شاء﴿ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها ﴾، هذا استثناء منقطع، على نظر الكثيرين من المفسرين، والحاجة هي الخاطر الذي خطر على فكر يعقوب، وصار في حاجة لأن ينصح ولده بأن يدخلوا من أبواب متفرقة، وهذه الحاجة هي شفقته على أولاده، وخوفه من العين تصيبهم، كما أشرنا، ومن المفسرين من أنكر خوف العين، على مثل نبي الله يعقوب عليه السلام، وقال : إنه الخوف من الملك إذا رآهم وأولادهم جميعا في أبهة وفخامة أن يبطش بهم، والحاجة تحتمل الأمرين، وربما كان يرشح للثاني قوله تعالى :﴿ وإنه لذو علم لما علمناه ﴾ من الحكمة والنبوة فلا يغني عن الله شيء وإنا نميل إلى هذا.
ورشحه أيضا قوله تعالى :﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ بل يسيرون وراء ما يتوهمون، وإن لم تكن له حقيقة ثابتة، والله أعلم.
التقى يوسف بأخيه الحبيب المحسود من إخوته كما حسد هو، وترتب على الحسد كيدهم له الذي أدى إلى وقوعه في الرق ثم نجاته، وصيرورته عزيز مصر المنقذ.
التقى بأخيه فضمه إليه، وأسر إليه وقال له :
والأخوة هنا هي الأخوة بالمعنى الخاص، وهو أنهما شقيقان، ولأن حقدهما عليهما جعلهما ينحازان في منحاز واحد، كما أراد الإخوة الكبار، وتذهب به شفقته، وما أنعم الله تعالى به عليه إليه التسرية عن نفس أخيه بقوله ﴿ فلا تبتئس بما كانوا يعملون ﴾، أي فلا تدخل على نفسك البؤس والحزن بما كانوا يعملون، أي بما استمروا على عمله من إثارة للحسد والحقد، عملوه معي وكانت عاقبته ما ترى لي، فقد آلت عاقبة فعلهم إلى أن أكون عزيز مصر، وما يفعلونه معك لا تتصوره أن تكون عاقبته شرا، فعاقبته لك خيرا.
وكأنه أسر إليه بالإطمئنان إزاء ما سيفعله معهم، لا إرهابا ولا انتقاما، فمعاذ نبي الله أن يكون منتقما جبارا، ولكن ليبقى أخوه في ظله، وليستمتع كلاهما بالأخوة الرفيقة القريبة، كما سيتبين من الآيات.
جهزهم بجهازهم الذي جاءوا طامعين أن يزيدهم كيل بعير، وحقق ما يبتغون، ومكر بهم مكرا طيبا، ليس خبيثا، ولا اعتداء كما فعلوا هم معه، فجعل الصواع الذي كال به في رحل أخيه، ولذا قال تعالى :
وقوله :﴿ بجهازهم ﴾ أي الجهاز الذي ابتغوه وأرادوه غير منقوص، وقد جعل السقاية في رحل أخيه، أو وضعه في الرحل الذي يحمل البعير المخصص له، ثم بحث عن السقاية، فتبين أنها غير موجودة، وأنها في رحال القوم، فانطلق حراس القافلة منادين، وهذا معنى ﴿ أذن مؤذن ﴾، أي أعلم معلم﴿ أيتها العير ﴾، أي أيتها القافلة، وهو اسم الإبل التي عليها الأحمال، وهنا مجاز مرسل إذ أطلقت، وأريد راكبوها.
وفي وصفهم بالسرقة مع أنه لم تكن منهم سرقة، وما كان لنبي الله يوسف أن يكذب، ولو لخير، وقد أجيب عن ذلك بأنه لم يكن هو الذي وصفهم بالسارقين، إنما الحارس المنوط به حراسة حاجة الملك هو الذي قال ذلك، وإن كان يوسف هو الذي وصفهم، فالوصف حقيقي، لأنهم سرقوا يوسف من أبيه، فكيف لا يمسون سارقين وقد سرقوا من الأب أعز ولد عنده.
والسقاية هي المشربة التي يشربون منها، وسميت هنا سقاية، وسميت من بعد بالصواع، لأنها استخدمت سقاية، ، واستخدمت للكيل، ولا مانع للمقتصد من أن يستخدم أمرا واحدا في حاجتين مختلفتين، وخصوصا إذا كانت غالية في ذاتها، فقد قيل إنها من الفضة أو نحو ذلك، والصواع لغة في الصاع.
أجابهم العير﴿ ماذا تفقدون ﴾، أي شيء ضاع منكم وتبحثون عنه ؟
كانت التهمة صريحة ابتداء، ثم هدأت للبحث عن المفقود، فتحايل المؤذن المتكلم باسم المصريين ليجد المفقود، وتخلى عن الاتهام الذي ابتدأه وعرض المكافأة، وتكفل بها.
ولكن الاتهام الأول بالسرقة ما زال قائما.
ولذا رد إخوة يوسف الاتهام بقولهم :
وثانيا بأن السرقة لا تليق بهم، وليست من شأنهم، ولذا قالوا :﴿ وما كنا سارقين ﴾، أي ما كان شأننا ولا من خصالنا أن نتصف بوصفة السرقة.
وقد أكدوا نفي التهمة بالقسم، وباللام، وبأن ذلك لم يكن مقصدهم ولا غايتهم.
لم يقبل من كان يتهمونهم ذلك النفي المجرد، ولا أن يكتفوا بهذا الاتهام المجرد، بل أردفوا الأمر بالتحري
عدوا الحكم على السارق إن كان، وهو أن يسترق في نظير ما أخذ، فأخذوا يبحثون في الأمتعة،
ويبين الله تعالى عدالته في الناس ﴿ نرفع درجات من نشاء ﴾ أي نرفع درجات ومنازل في العلو من نشاء، وقد رفعنا يوسف فوق إخوته، حتى احتاجوا إليه، ومدوا أيديهم طالبين منه الميرة والعون، وأعطيناه الملك والعزة والحلم وتدبير شئون الدولة، حتى صارت تمد غيرها، ﴿ وفوق كل ذي علم عليم ﴾ وما من علم بتدبير الأمور إلا فوقه علم الله تعالى وهو فوق كل علم، وقد أحاط بكل شيء علما.
الرجاء واليأس والماضي
استيقظ الحقد الدفين، فكذبوا على يوسف، وهو يخاطبهم، وهم في كلاءته، وحمايته، فقالوا :﴿ إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ﴾ وإذا كانوا قد سلموا بالسرقة، لأنهم قامت لديهم الظاهرة الدالة عليها، فلماذا كان الافتراء على أخيه، وهم الذين سرقوه من أبيه، وألقوه في الجب، ولكنه الحقد والحسد لم يقتلهما الزمان، وأسر ذلك يوسف في نفسه، ولم يبدها لهم، كرما وهو القوي المسيطر ولكنه ليس جبارا، وليس حانقا، لأن الله سبحانه وتعالى جعل النتيجة خيرا ونعمة له، وكانت بحكم الله تعالى التمهيد لذلك السلطان، فكيف ينتقم وإذا كان لم يبد ما أسر فإنه وصفهم بوصفهم الحقيقي، وقال ما هو نفي للسرقة عن أخيه ونفسه﴿ قال أنتم شر مكانا ﴾، أي أنتم شر منزلة عند الله لأنكم سرقتم أخاكم، وصنعتم السوء من غير جريرة من أبيكم ولا أخيكم، ﴿ والله أعلم ﴾ علما ليس مثله علم﴿ بما تصفون ﴾، ولو كانوا يعلمون أنه أخوهم يوسف لأدركوا المغزى والمرمى من القول، ولكنهم لم يعلموا، ولم يتوهموا أن يكون هو يوسف والضمير في ﴿ فأسرها ﴾ يعود إلى الفرية أو الكلمة.
وبعد أن افتروا ذلك الافتراء إشباعا لنهمة الحقد أخذوا يستعطفون يوسف، ويثيرون عوامل الرحمة في نفسه
ويلاحظ هنا أمران :
الأمر الأول : أن ينبوع الشفقة على أبيهم أخذ ينبع من قلوبهم، فقبلوا أن يكون أحدهم في الرق بدل أخيهم المحسود، رفقا بأبيهم، وللعهد الذي أخذ عليهم.
الأمر الثاني : أنهم نادوا يوسف بأنه العزيز، ويستفاد من الكلام أنه آل إليه أمر مصر، ويؤيد هذا أن أخبر الله بعد أنه استولى على العرش.
يئس الإخوة من أن يرجعوا بأخيهم إلى أبيهم، وقد صاروا في حيرة من أمرهم، ودفعتهم الحيرة إلى أن تعود قلبوهم إلى ما كانت عليه، ولذا قال تعالى عنهم :
ويلاحظ هنا أمران :
الأمر الأول : أن ينبوع الشفقة على أبيهم أخذ ينبع من قلوبهم، فقبلوا أن يكون أحدهم في الرق بدل أخيهم المحسود، رفقا بأبيهم، وللعهد الذي أخذ عليهم.
الأمر الثاني : أنهم نادوا يوسف بأنه العزيز، ويستفاد من الكلام أنه آل إليه أمر مصر، ويؤيد هذا أن أخبر الله بعد أنه استولى على العرش.
يئس الإخوة من أن يرجعوا بأخيهم إلى أبيهم، وقد صاروا في حيرة من أمرهم، ودفعتهم الحيرة إلى أن تعود قلبوهم إلى ما كانت عليه، ولذا قال تعالى عنهم :
أبدى الكبير العهد، وأبدى استنكاره لتفريطهم في يوسف، وعبر عن فعلهم بأنه تفريط في حق الأخوة، واستهانة بالواجب نحوها، سيرا في طريق الحقد، والغي، ﴿ فلن أبرح الأرض ﴾، أي مصر، ﴿ حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ﴾.
ولكن كما أشرنا انبعث فيهم ما كان قد اختفى من نفوسهم الحاسدة، فقالوا في نجواهم :
يتضمن هذا الكلام الذي حكاه الله تعالى عن سائر الإخوة مفردا الكبير بكلام عاطف نابع من النفس اللوامة، وكلامهم هذا يشير إلى معان :
المعنى الأول : أنهم استهانوا بالأمر، وأن الأمر لا يتجاوز أن ابنه سرق، وما عبروا بأنه أخوهم بل بأنه ابنه، وهي نغمة الافتراق الحاسدة.
المعنى الثاني : أنهم لم يقولوا اتهم بالسرقة، بل يقولون : إنه سرق، مؤمنين بذلك مستوثقين ومؤكدين، وذلك من بقايا حسدهم وحقدهم عليه.
المعنى الثالث : أنهم يؤكدوا سرقته بثلاثة أمور :
الأمر الأول : شهادة القرية التي كانوا فيها وهي المدينة العظيمة بمصر.
الأمر الثاني : شهادة العير التي كنا فيها.
الأمر الثالث : تأكيد صدقهم، وكل هذا من انفعال نفوسهم بالحقد الدفين على يوسف وأخيه.
ذهبوا إلى أبيهم، وقالوا تلك الكلمات التي تنبئ عن حقدهم، ولذا لم يصدقهم الأب الشفيق، ورد كلامهم قائلا :
يتضمن هذا الكلام الذي حكاه الله تعالى عن سائر الإخوة مفردا الكبير بكلام عاطف نابع من النفس اللوامة، وكلامهم هذا يشير إلى معان :
المعنى الأول : أنهم استهانوا بالأمر، وأن الأمر لا يتجاوز أن ابنه سرق، وما عبروا بأنه أخوهم بل بأنه ابنه، وهي نغمة الافتراق الحاسدة.
المعنى الثاني : أنهم لم يقولوا اتهم بالسرقة، بل يقولون : إنه سرق، مؤمنين بذلك مستوثقين ومؤكدين، وذلك من بقايا حسدهم وحقدهم عليه.
المعنى الثالث : أنهم يؤكدوا سرقته بثلاثة أمور :
الأمر الأول : شهادة القرية التي كانوا فيها وهي المدينة العظيمة بمصر.
الأمر الثاني : شهادة العير التي كنا فيها.
الأمر الثالث : تأكيد صدقهم، وكل هذا من انفعال نفوسهم بالحقد الدفين على يوسف وأخيه.
ذهبوا إلى أبيهم، وقالوا تلك الكلمات التي تنبئ عن حقدهم، ولذا لم يصدقهم الأب الشفيق، ورد كلامهم قائلا :
ولكن الرجاء في رحمة الله سابق إليه دائما، ولذا قال :﴿ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا ﴾، أي بيوسف وأخيه، ولعله قد انضم إليهم أخوهم الأكبر الذي لم يشترك في تفريطهم في يوسف ولامهم بعد عودته، وكان غائبا وقد أكد رجاءه بأن يأتوا إليه مجتمعين غير متفرقين.
وختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة، بما يقوي رجاءه﴿ إنه هو العليم الحكيم ﴾ الضمير يعود إلى الله تعالى الحاضر في الألسن المؤمنة دائما، العليم الذي يعلم كل شيء، لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء، الحكيم الذي يدبر الأمور بحكمته وعلى مقتضى علمه الواسع.
الأب الحزين الذي ابيضت عيناه من الحزن
قال تعالى :
زاد أباهم حزن إلى حزنه، لما عادوا إلى أبيهم من غير ابنه، فنكئوا جرحه القديم على يوسف، ولقد صور الله تعالى حاله عندما أنهوا إليه خبر ولده الثاني فقال تعالت كلماته :﴿ وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ٨٤ ﴾أعرض عنهم ؛ لأن إخبار أخبار السوء، تضر ولا تسر، فانكفأ على نفسه، والأسف الحزين الذي يملأ نفسه الحزن، ويستغرق حسه، وهو يقول﴿ يا أسفى على يوسف ﴾، وهي جملة تصور ألمه وحزنه، وكأنه ينادي الأسف والحزن ؛ لأن هذا وقته، وذكر يوسف مع أنه رزئ رزءا جديدا بولديه شقيق يوسف وولده الأكبر الذي كان يشاركه في أحزانه وآلامه، وذلك لأن أمرهما معلوم، فهو يعلم أنهما على قيد الحياة، وأن أحدهما في الرق، والآخر قد رضي مختارا بالعبد، ويشاركه في الأسف، أما يوسف الحبيب فأمره مجهول لا يدري أهو حي أو ميت، وأهو في تعب أم في راحة فرزؤه في يوسف كان عاقده المصائب، وكان غضبه آخذا بمجامع قلبه، كما عبر البيضاوي١.
وقد اجتمع طول الأدهر التي مرت على يعقوب غربة ولده التي لا يعلم له مآل وقلق مستمر، وحنان وشوق شديد إلى رؤيته وبكاء مستمر، دائب، وحزن عميق مؤسف، وانقسام بين أحبابه وفلذة كبده، وكل هذه الآلام أثرت في بصره، ولذا قال تعالى :﴿ وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ﴾ أي طوى نفسه على آلام مستمرة من أولاده الذين كادوا لأخويهم، ومن الحوادث التي باعدت بينه وبين أحبابه، وكظم الغيظ في ذاته ممض، وملق بالبؤس في نفسه، لولا ما امتلأ قلبه بالإيمان، ولولا الرجاء الذي يرجوه، والأمل الذي عاش عليه، والكظم أصله كضم البعير إذا رادها من فرقه.
أجابه أولاده في ذكر آلامه المستمرة
والمعنى أنهم يؤكدون بالقسم أنه لا يزال يذكر يوسف حتى يؤدي به الأمر أن يكون في مرض دائم مستمر يذيب نفسه، وينتهي بالهلاك لا محالة، ، و﴿ أو ﴾ هنا بمعنى الواو.
قال لأولئك الذين يلومونه على حزنه، وهم سببه، ولا يحسون باهتمام لآلامه، لا يشكو حزنه إليهم إنما يشكو حزنه إلى الله
البث الهم العارض الذي لا يمكنني الصبر عليه، وينتشر في كل نفسي، ويسد على أسباب السرور، و( الحزن ) ما يكون في النفس من الآلام الدفينة، وقد كان حزنه على يوسف قديما، وبثوا إليه هما آخر هو في ولديه شقيق يوسف وكبيرهم، و( إنما ) من أدوات الحرص، أي أنه لا يشكو همومه العارضة، وأحزنه الدفينة إليكم، بل يشكوها إلى الله وحده.
﴿ وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾، هذه الجملة تحوي في نفسه كل الرجاء الذي يرجوه والأمل الذي يأمله، وفيه دلالة على أنه يعلم أن الله كاشف كربه، مزيل همه، وهو من علم الله تعالى، لا من علم أحد، يعلمه بالإلهام أولا، وبرجائه في الله ثانيا، وبرؤيا يوسف الصادقة ثالثا، ففيها أنه رأى الشمس والقمر واحد عشر كوكبا له ساجدين، وتأويل الرؤيا أن يكون في ظل يوسف، وهو في عز مكين، وإن ذلك واقع لا محالة.
وقد بني على هذا الأمل، وذلك الرجاء أن كلفهم بالبحث عن يوسف وأخيه، فقال كما حكى الله تعالى :
جمع الشمل
قال الله تعالى :
طلب إليهم أبوهم أن يتحسسوا، ويتتبعوا أثر يوسف وأخيه، ولا ييئسوا من روح الله، ولعلهم أطاعوا وأخذوا الأهبة، ليتعرفوا آثار أخويهم، وخصوصا أنهم يذهبون لمصر للميرة، وهي مكان تحسسهم، فذهبوا إليها، ولقوا يوسف كبيرها ﴿ فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ٨٨ ﴾
( الفاء ) هنا تفصح عن كلام مقدر تقديره قصدوا إلى يوسف، فلما دخلوا عليه، نادوه بما يليق بمنصبه، وبمكانته التي صار بها عزيز مصر، وخاطبوه بذلك متلطفين طالبين عطفه ورفده﴿ مسنا وأهلنا الضر ﴾ وهو الضرر الذي يصيب الجسم في داخله، وذلك الضر الذي أصابهم سببه الجوع، ﴿ وجئنا ببضاعة مزجاة ﴾ أي مردودة مدفوع عنها، لرداءتها وعدم الرغبة فيها، أي جئنا ببضاعة ليس من شأنها أي تقبل، بل من شأنها أن تزجى وتدفع، ﴿ فأوف لنا الكيل ﴾، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وإيفاء الكيل ليس مترتبا على كون البضاعة مزجاة مدفوعة، إنما أيضا الكيل مترتب على إصابتهم الضر، أي بسبب هذا الضر أوف الكيل مع أن الثمن الذي نقدمه بضاعة مزجاة.
﴿ وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ﴾ أي تصدق بهذا الوفاء وبالزيادة عليه مع أن البضاعة التي جعلناها ثمنا رديئة ترد ولا تقبل، ﴿ إن الله يجزي المتصدقين ﴾، فاطلب حب الله، ولا تطلب عوضا منا.
أن ليوسف الصديق الرفيق الشفيق الصالح أن يظهر شخصه مع ما من الله تعالى به عليه :
يشتد الإحسان بالخطأ إذا أظهرت النتائج غير الحسنة، ولذلك أحس أولئك الإخوة بظلم ما فعلوا فقالوا :
قالوا مقسمين على حقيقتين :
الحقيقة الأولى : أن الله آثر بالفضل والإحسان والتوفيق يوسف عليه السلام، فقد أعطاه النجاة من الموت والرق، والسلطان على مصر، خير بلاد الأرض تجاورهم، فكان هو ملكا عزيزا، وهم دونه، وأكدوا أن الله آثره : ب( اللام )، و( قد )، وب( القسم ).
الحقيقة الثانية : أنهم أحسوا بأنهم كانوا آثمين، ولذا قالوا :﴿ وإن كنا لخاطئين ﴾، ﴿ إن ﴾ هي المخففة من الثقيلة وإنه الحال والشأن كنا لخاطئين، والخاطئ هو الواقع في الإثم، أو الخطيئة، وقد أكدوا إثمهم أولا ب( إن ) المخففة من الثقيلة، و( كان ) الدالة على استمرار خطئهم، و( لام التوكيد ) ﴿ لخاطئين ﴾ وهذا اعتراف خطير بالذنب، وهو أول خطوات التوبة.
ولكن الكريم ابن الكريم، النبي ابن النبي يعقوب، "وما زاد عبد بعفو إلا عزا"١، ويقول :
وقد دعا يوسف الصديق إلى جمع الشمل بالمودة الموصلة، بعد أن فرقه إخوته بالحسد الغامر، وقال :﴿ وأتوني بأهلكم أجمعين ﴾ من تربطكم بهم قرابة دانية، وقرابة قاصية.
الغفران والرحمة ولقاء الأب لابنه الحبيب
قال تعالى :
كان صفح يوسف الجميل هو الخطوة الأولى لجمع الشمل، وما أشبه ذلك بفصح محمد صلى الله عليه وسلم عن قريش الذين أخرجوه، وقتلوا أحبته من المؤمنين، من وقت مبعثه إلى فتح مكة، فاستمر الأذى عشرين سنة أوتزيد، ومع ذلك ما إن بعثهم، حتى قال مقالة يوسف :﴿ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ﴾١ وموقف محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان جليلا عظيما، يتعاظم بعظم ما ارتكبوا في جنبه﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض.... ٢٥٣ ﴾( البقرة ).
صفح عنهم يوسف، والتفت إلى أبيه الشيخ الحزين الأسيف، وكان أن أرسل القميص، وعادت العير إلى البدو حاملة القميص، وقد كان معطرا بعطر ملوك مصر، وقد قالوا : إن عبيقه شمه نبي الله يعقوب من نحو ثمانين فرسخا، وقد يقال إنه إلهام النبوة، جعله يشم رائحة يوسف من مكان بعيد، ويقول عليه السلام :﴿ لولا أن تفندون ﴾، أي إلا أن تنسبوني إلى الفند، والفند نقصان عقل بسبب الشيخوخة، وما هي شيخوخة، ولكنها نبوة وشفقة أبوة. و﴿ لولا ﴾ حرف شرط وتعليق، وجوابه محذوف، أي لولا أن تفندوني لصدقتهم، ولآمنتم بالحق وتقدير التفنيد لعقليتهم غير المدركة، لا للأمر في ذاته.
عندئذ أحسوا بجريمتهم الشديدة نحو أبيهم، إذ حرموه من ابنه سنين طوالا، وتركوه فريسة الشوق والحزن والأسى والبكاء مع الصبر الجميل من غير أنين لأحد من العباد، فاتجهوا إلى أبيهم يطلبون أن يستغفر لهم ربه
لقد أحسوا بعظم الذنب، وهو أول طريق التوبة وندموا على ما فعلوا، وطلبوا المغفرة، وبذلك توافرت عناصر التوبة طلبوا من بعد ذلك أن يطلب أبوهم المغفرة، لأنه مع الذنب العظيم هو المجني عليه، وهم يطلبون مرضاته، وفتح قلبه لهم وهو القريب إلى الله، ولذا لجأوا إليه، وعبروا ب﴿ إنا كنا خاطئين ﴾ آثمين غير مدركين سوء المغبة.
فأجاب الأب الشفيق النبي الكريم :
كان يوسف عندما طلب أن يوضع القميص على وجه أبيه ليرتد بصيرا طلب أن يأتوهم بأهله أجمعين ليكونوا معه في عزة الحكم، وإن الكريم عندنا يجتمع أهله بعزته متمتعين : أولاهما متعة العزة الحلال العادلة لنفسه، ومتعة مشاركة أهله له في العزة والسلطان ؛ تلك هي الفطرة.
استجاب إخوته أو من جاءوا إليه منهم لرغبته، وأتوا بأهله، وفيهم الأبوان الكريمان،
وقال بعض المفسرين : إن الضمير في ﴿ له ﴾ يعود على يوسف، والمعنى وخروا ساجدين لله شكرا على النعمة التي أنعمها على يوسف، وأن صاروا في رحابه، وذلك معنى معقول في ذاته.
وقال بعض المفسرين : إن الضمير في ﴿ له ﴾ يعود لله تعالى، والمعنى خروا ساجدين لله كأنهم يصلون صلاة شكر لله تعالى، والمعنيان الأخيران نميل إليهما، ولا مضاربة بينهما، بل السجود فيهما لله.
أخذ يوسف يستمتع بالحديث مع أبيه، ويثيران ذكريات طيبة، ﴿ وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي وأخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم ﴾.
قص يوسف على أبيه ما أصابه من شدة، ولكنه ذكر النعم التي أعقبت النقم، ذكر خروجه من السجن، ولم يذكر دخوله، ﴿ وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ﴾ وذكر تأويل الرؤيا وغايتها، ولم يذكر ما كان بعد الرؤيا، وكان مستمتعا بنعمة الأبوة إذ يناديه﴿ يا أبت ﴾ وفيها ياء المتكلم قلبت تاء، حتى كان اللفظ نداء محيبة.
ذكر اللقاء السعيد في هناء وسرور، فقال :﴿ وجاء بكم من البدو ﴾، أي جاء بكم من بدو الصحراء حيث لأوائها وشدائدها، وقيظها وريحها الرعناء الساخنة إلى ريف مصر وخصبها.
فهو يذكر النعم، والنفس المؤمنة تذكر النعمة وتشكرها فكانت نفس النبي الصديق ذاكرة للنعمة غير مبينة للشدة ؛ لأن الأساس هو النتائج، لا الوسائل.
ولم تذكر قضيته مع إخوته إلا بالإشارة غير عائدة باللائمة عليهم، بل يكاد لا يخلي نفسه من ملام، فيقول :﴿ من بعد أن نزغ الشيطان بين وبين إخوتي ﴾ أي أفسد ما بيننا من محبة وود وإخاء جامع، و﴿ نزغ ﴾ معناها نسخ وأفسد من قولهم نسخ الدابة فجمحت فألقت حملها، ولم ينسب الشر إلى إخوته، بل نسب النزغ بأنه بينهم مع أنهم المعتدون وهو البريء المجنى عليه، ولكنه الكريم ابن الكريم، يريد أن يمحو العداوة بالمودة، وعبر بالأخوة الرابطة، فقال :﴿ نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ﴾، ثم بين لطف الله، وترتيبه الخير وسط إرادة الشر، فقال مثنيا على ربه بما هو أهله، ﴿ إن ربي لطيف لما يشاء ﴾، أي لطيف التدبير محكمه يجعل الخير من إرادة غيره، ويجعل من النقمة نعمة، ومن السيئة حسنة.
إذ لولا سيئة إخوته ما كانت أرداف الحسنات التي أسبغها الله تعالى عليه، إنه هو العليم بكل شيء، العليم بمقدمات الأمور ونهاياتها الحكيم الذي يدبر كل شيء بمقتضى علمه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
ثم اتجه إلى الله شاكرا له فضل نعمائه جملة وتفصيلا فقال :
﴿ رب قد آتيتني من الملك ﴾، ﴿ قد ﴾ هنا للتحقيق، وقال :﴿ من الملك ﴾ ولم يقل الملك، لأن الملك كله لمالك الملك ذي الجلال والإكرام، والطول والإنعام، فما يملك الحاكمون ليس إلا ذرة من ملكه سبحانه، وهو ليس من جنسه، بل من جنس آخر، وهو ما يكون للعبيد في هذه ومتاعها، وهو قليل بجوار متاع الآخرة.
﴿ وعلمتني من تأويل الأحاديث ﴾، أي من معرفة مآل الأحاديث سواء أكانت رؤيا من المنام أم كانت أحاديث الناس فمعرفة أحاديث الناس، شعوبا ودولا وجماعات، من علم سياسة الدولة، وكيف يدبر أمرها، وقال عليه السلام :﴿ من تأويل الأحاديث ﴾، أي علمه بعضها، لا كلها، وفوق كل ذي علم عليم، فما علم كل سياسة الحكم، ومعاملة الناس، وما علم كل تأويل الرؤي، ولكن علم بعضه، وذلك من تواضع العلماء، أمام العلم العام.
ثم ندى ربه بانه خالق الكون كله وانتقل من نعمته عليه الى نعمته على الكون كله فقال ( فاطر السموات والارض ) اى مبدعها على غير مثال مسبق فهو بديع السموات والارض ثم أعطاه الولاية كلها، أو اعتراف بالولاية كلها، فقال :﴿ أنت وليي في الدنيا والآخرة ﴾، أي أنت ناصري ومتولي أمري في الدنيا والآخرة، توليتني بحمايتك ورحمتك في الدنيا، فتلوني بها في الآخرة، ثم قال ضارعا لربه، ﴿ توفني مسلما وألحقني بالصالحين ﴾، توفني إليك مخلصا الدين لك أنت وحدك، واجعلني في الصالحين من الصديقين والشهداء ومن ارتضيتهم يا رب العالمين.
الاعتبار والاستدلال
قال تعالى :
هذه قصة نبي الله يوسف على السلام كان القطب الذي دارت عليه القصة تلك الشخصية العالية، التي تغلبت عليها، وقد بينا أنها ليست قصة غرام، كما توهم ذلك بعض الذين خرجوا عن الإسلام بهذا الوهم الذي توهموا وبنوا عليه ما كفروا به، فقد حققنا أن ما يتعلق بغرام امرأة العزيز به عليه السلام، واستعصامه بأمر الله ونهيه لا يتجاوز ثماني آيات، كانت فيها المفاضلة بين الفضيلة والرذيلة، وإذا أضيف إليها إقرارها بأنها راودته عن نفسه تكون تسع آيات من إحدى عشرة آية.
وإن القصة- كما رأيت- صورت لك الغلام ينتقل من عز الأبوة الحرة الكريمة إلى الرق، ثم من الرق والسجن ينتقل تحت عين الله تعالى وبصره إلى ملك مصر الذي كان يملكه فرعون وأصلح يوسف في الأرض، ونمي الخير، ودبر به أمر البلاد، ولم يقل أنا ربكم الأعلى، بل قال أنا عبد الله، ولم يقل مفاخرا أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي، بل قال شاكرا﴿ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا و الآخرة ﴾ أنت لطيف لما تشاء، وإذا كانت مصر قد اشتهرت بحكم الفراعنة والاستبداد، فقد جاء حكم يوسف حكما صالحا، ليثبت الله أن الإصلاح زرع طيب يربي النفوس، ويقوي العزائم حتى في أرض فرعون الذي طغى وبغي وأكثر فيها الفساد.
والصورة فوق ذلك تصور كثرة أسباب الرق وفوضاه، وتصور أسباب السجن ومظالمه، وتصور الحال الاقتصادية في مصر، والبلاد التي تجاورها، وكيف كانت مصدر الرفد لمن حولها، وغير ذلك مما ذكرناه في تفسير قوله تعالى :﴿ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين٧ ﴾، الذين يبحثون عن حقائق الأمور ومآلاتها.
يقول تعالى :﴿ ذلك من أنباء الغيب ﴾ الإشارة إلى ما ذكر من أنباء كان يوسف قطبها، والخطاب فيه للرسول ليكون ذلك المذكور من نبأ يوسف تسلية لابن عمه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، يتسلى به إذ يرجو النصر، وإن كان الشرك هو الظاهر، فهذا غلام ملقى في الجب، ثم يباع ويشترى، وتنكشف الأمور بعد سجنه عن ملك عادل يسوس أخصب أرض الشرق نماء وثروة، إن من يحكم الأمور بتدبيرها ليس ببعيد عليه أن يخرجك من وسط بأساء قومك، إلى عز الله تعالى :
﴿ من أنباء الغيب نوحيه إليك ﴾، الأنباء جمع نبأ، وهو الخبر الخطير ذو الشأن، و﴿ الغيب ﴾ أي متلبسا الغيب ؛ لأنه غائب عنك، وعن قومك، وما كان ليعلمه أحد من قومك، لأن أحداثه ليست في بلاد العرب، وما كانت في أرض مجاورة لبلاد العرب، بل في أرض غير مقاربة، ولا في إقليم كالعرب، بل في إقليم له تقاليد فرعونية طاغية، يقول حاكمها ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، فهو حاكم يفني الشعب في شخصه، ولا يفني في شعبه، يظلم ويسيطر، ولا يعدل ولا يشاور.
وإذا كانت غيبا بعيدا عنك وعن العرب فهو وحي من الله﴿ نوحيه إليك ﴾، وقد أكد سبحانه أنه غيب عليه بقوله تعالى :﴿ وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ﴾ وهذا فيه أمران : فيه استدلال على أنه بوحي من الله تعالى، وفيه تصوير لحالهم، وهم يمكرون ليغتصبوا أخاهم من أبيهم، ﴿ وما كنت لديهم ﴾، أي ما كنت عندهم حتى تعلم حالهم إذ تكون مختلطا بهم متعرفا أمرهم، ﴿ إذ أجمعوا ﴾، أي إذا عزموا أمرهم على رميه في غيابة الجب، ويقال : أجمع أمره، إذا اعتزم الأمر جازما من غير فكاك، وهم يدبرون بمكر سيء على أخيهم، وعلى أبيهم.
هذا أمر فيه عبرة، وفيه بيان أن هذا القرآن ليس من عند محمد صلى الله تعالى وسلم : بل هو من عند الله علام الغيوب وكان عليهم أن يصدقوا به، ولكن لا يرجى تصديقهم، ولكن يرجى الغلب عليهم، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، ولذا قال تعالى :
( الواو ) واصلة هذه الجملة بسابقتها، وهي تشير إلى أنه مع كثرة الأدلة التي توجب الإيمان وتضافرها فإن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين، وما المراد بالناس، هم كل من يشملهم اسم الناس من العرب وعجم، وبيض وسود، وصفر وحمر ؟ أم المراد أهل مكة، ومن يشبههم من المشركين.
وعلى أن المراد بالناس أهل مكة، وما أكثر الناس ولو حرصت على إيمانهم بمؤمنين لك ومسلمين بهذه الأدلة، إلى حين، حتى تصير كلمة الله هي العليا، فإنه بعد مكة صار أكثر الناس مؤمنين، وكان منهم أبطال الجهاد والإمرة في الجيوش، فكان منهم أمثال خالد بن الوليد، وعكرمة ابن أبي جهل، فيكون النفي، وإن كان ظاهره العموم فإنه مقيد بالزمان، فإن شمل عموم المكان لا يشمل عموم الأزمان.
وإن أردنا الناس جميعا عربا عجما، فإن الحقائق الواقعية أن أكثر الناس لا يؤمنون، فالنصارى المثلثون والبوذيون غير الموحدين، والبراهمة الكافرون، أضعاف المسلمين، فالآية صادقة.
ونحن نرى أن الناس هم مشركو مكة، لقوله تعالى :﴿ ولو حرصت ﴾ فإن هذا يدل على أن الناس هم الذين كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يعاصرهم، ويرجو إيمانهم، ويحرص عليه، حتى قال الله تعالى :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.... ٥٦ ﴾ ( القصص ).
وقوله تعالى :﴿ ولو حرصت ﴾ تدل على رغبة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال الله تعالى :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ٣ ﴾( الشعراء ).
وقوله﴿ بمؤمنين ﴾ الباء لتأكيد النفي، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عنهم وصف الإيمان الذي يوجب عليهم الخضوع والتسليم ؛ وذلك لأن النفوس قسمان نفس تؤمن بالحق وتذعن له إذا جاءها دليله، وهي التي خلصت من أدران الفساد، ومطامع الشيطان، وقليل ما هم، ونفس درنت بالفساد، والعناد، وجمحت بها الأهواء والشهوات، فتحكم فيها الشيطان، وهذه لا تؤمن، ولا يقنعها إلا مقامع من حديد، والحديد فيه بأس شديد ومنافع الناس، وهؤلاء تكون حربهم لتمكين غيرهم من حرية الرأي ثم الإيمان، كأمثال أبي لهب وأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وغيرهم من لهاميم١ قريش الذين كانو يؤذون المؤمنين، ويفتنونهم عن دينهم الذي ارتضوا، ويسخرون منهم، سخر الله منهم.
وإن هذه الدعوة إلى الله التي يقوم بها محمد صلى الله تعالى عليه وسلم هي تبليغ من الله لا يريد بها ملكا، ولا سلطانا، ولا رياسة، ولا مالا، ولا أي أجر من الأجور التي اعتاد الناس أخذها في دعاياتهم، ولذا قال تعالى :
الضمير في ﴿ عليه ﴾، يعود إلى أنباء الغيب والقرآن، والتبليغ بهذا الدين، وما تسألهم على هذا التبليغ بهذه الأنباء وبالوحدانية، لا تسألهم أي أجر، ف﴿ من ﴾ لبيان عموم النفي لا تسألهم أي أجر من أنواع الأجور، لا تسألهم رياسة، ولا إمرة ولا شيئا من هذه الأمور الدنيوية، ولقد عرضوا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الأمر والسيادة، وقالوا إن أردت سودناك، وعرضوا عليه الأموال، ورضوا بأن يعطوه كل جاه ومال، وأن يتركهم وما يعبدون، ولكنه حقر ما يعرضون بجوار ما يدعوهم إليه من التوحيد، وعدم الشرك.
بل قال الله تعالى في رد ما يعرضون ﴿ إن هو إلا ذكر للعالمين ﴾، ﴿ إن ﴾ هي النافية والضمير يعود إلى التبليغ وما يتضمنه من القرآن الكريم، وقصصه الحق الموحى به، ليس هذا إلا تذكير للعالمين، لأهل العقل في هذه الدنيا.
ثم بين سبحانه وتعالى أن آيات الله الدالة على وحدانيته كثيرة، فقال تعالى :
﴿ وكأين ﴾ بمعنى كم الدالة على كثرة العدد، وعن سيبويه أن( كأين ) هي( أي ) بالتنوين، ودخلت كاف التشبيه وبنيت معها، فصارت في الكلام في معنى ( كم )، ولا يهمنا أصلها النحوي، إنما يهمنا أنها للكثرة في العدد، والآية هي الأمر الدال على قدرة الله تعالى في الكون في السماء والأرض، وعلى قدرته على العصاة، وأماكن هلاكهم بما عثوا وأفسدوا، ورسومهم دالة على هلاكهم، وأن الله بدل بهم غيرهم، ولم يضروه شيئا.
وأنهم ليمرون على هذه الآيات، وهم عنها معرضون غير ملتفتين إلى ما فيها من عبر، فالكون كتاب فيه الدلائل على الوحدانية، والأرض كذلك، وفيها عبر من آثار العصاة.
وقال ابن كثير في هذا :" عبر تعالى عن غفلة الناس عن التفكر في آيات الله، ودلائل التوحيد بما خلقه في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت، وسيارات وأفلاك دائرات، والجميع مسخرات، وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات، وكم من أحياء وأموات، وحيوان ونبات، وثمرات متشابهة، ومختلفات في الطعوم والراوئح والألوان والصفات، فسبحان الواحد الأحد خالق أنواع المخلوقات، المتفرد بالبقاء والصمدية للأسماء والصفات"١.
نقلنا هذه الكلمة مع طولها وسجعها المتكلف لعموم ماتشير اليه من ايات الله تعالى في السماء والارض وان العرب كان فيهم إيمان بالله، كانوا يؤمنون بأنه الخالق لمن في السموات والأرض، وأنه هو المغيث، وأنه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته، ولكنهم مع هذا الإيمان بخلق الله تعالى يشركون معه الأوثان في العبادة، ولذاقال تعالى :
﴿ أكثرهم ﴾، أي أكثر الناس، وما المراد بالناس هنا ؟ أراد بهم العرب قبل ظهور الإسلام أم الناس أجمعون ؟ لا مانع من إرادة أحد العرضين أو إرادتهما معنى شمول الكلمة لكل ما تدل عليه من ناس عرب وعجم.
على الفرض الأول يكون في هذا النص السامي بيان حقيقة تاريخية تومئ إلى حكمة بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في العرب ابتداء، وعموم دعوته من بين صفوفهم من بعد﴿.... الله أعلم حيث يجعل رسالته.... ١٢٤ ﴾( الأنعام ) ذلك أن العرب من شعوب الأرض كانوا يعلمون الله، ويؤمنون بأنه الخالق لكل شيء وأنه واحد في ذاته وصفاته، ولكنهم مع ذلك يعبدون الأوثان مع الله سبحانه وتعالى، وكانوا في تلبيتهم في الحج، يجمعون بين الإيمان بالله الواحد الأحد وإشراك غيره معه، ففي الصحيحين : أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك١، وفي صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلمن كان سمعهم قالوا لبيك اللهم لبيك، قال عليه الصلاة والسلام :" قد قد"، أي حسب حسب لا يزيدون على هذا٢.
وإنهم كانوا في الشدة لا يستغيثون إلا بالله لعلمهم بأنه وحده الخالق المغيث، ولكنهم يشركون به غيره في العبادة، ولقد كانوا بهذا أقرب إلى التوحيد من غيرهم، فليس على الداعي إلى الوحدانية إلا بطلان عبادتهم للأوثان وقولهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فالله قريب من عباده ﴿.... ادعوني أستجب لكم... ٦٠ ﴾ ( غافر ) وما لهم عنده من شفعاء.
هذا على منطق أن الناس المراد بهم عرب الجاهلية، وعلى الفرض الثاني والثالث يكون المعنى أن أكثر الناس تعتريهم حال إشراك مهما أخلصوا التوحيد لله تعالى، فالأوهام تسيطر على الناس وقد تأدت بالوثنيين إلى عبادة الأوثان، ولكنها بالنسبة لمن جاء بعدهم تأدت بهم إلى أوهام حول الأشخاص، لم يعبدوها ولكن اعتقدوا فيهم قوى خفية، وإن آمنوا بأنهم مخلوقات، وأنهم بشر.
وإن أظهر ما يكون ذلك في الرقي، روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خبر روته امرأته زينب قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى باب تنحنح كراهة أن يهجم على أمر يكرهه، وإنه جاء ذات يوم، فتنحنح، وعندي عجوز ترقيني، فأخلتها تحت السرير، فدخل فجلس إلى جانبي، فرأى في عنقي خيطا، فقال : ما هذا الخيط ؟، قلت : خيط رقي لي فيه، فقال : ان آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال :" إن الرقي والتمائم شرك"٣.
ولقد كانت رقية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الخالية من الشرك :" اذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشاف، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما "٤.
وروى أن رقية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كانت بالمعوذتين : قل أعوذ برب الفلق إلى آخرها وقل أعوذ برب الناس إله الناس إلى آخرها٥.
وفي الحق أن الأوهام التي تسيطر على الناس من ناحية الغيب دفعت النصارى إلى التثليث، وهو شرك، ودفعت المشركين من العرب إلى عبادة الأوثان.
والآية الكريمة تدعو المؤمنين إلى الحرص على التوحيد، وتفويض الأمر إلى الله تعالى، وأن يبعدوا عن الأوهام المضلة، فلا يعتقدون في مخلوق أن فيه قوة تشفى، أو تنفع، فإن الأوهام أدت إلى الشرك في جاهلية العرب وأدت النصارى إلى التثليث، ولا تزال الأوهام تسيطر عليهم حتى تأدت بهم الى عبادة الأحجار والصور والتماثل.
سبيل الله
قال تعالى :
٢ لا توجد إحالة..
٣ انظر ما رواه أحمد: مسند المكثرين من الصحابة – مسند عبد الله بن مسعود (٣٤٣٣)، وبنحوه ابن ماجه: الطب- تعليق التمائم(٣٥٢١)، وأبو داود: الطب – في تعليق التمائم (٣٣٨٥)..
٤ رواه الترمذي: الدعوات- دعاء المريض (٣٤٨٨) قال أبو عيسى هذا حديث حسن. وانظر السابق..
٥ انظر ما رواه الإمام أحمد: باقي مسند الأنصار- مسند عبد الله بن فضالة (٢٢٨٣٢)، ومسلم: السلام- رقية المريض بالمعوذات والنفث(٤٠٦٥)..
إن من يخدعه الشيطان يكون في لهو عن مستقبله يستغرقه حاضره اللاعب اللاهي، ولا يتخذ من الماضي لغيره أو له عبرة يتعرف بها المستقبل، بل هو ساه في لهو لا يفكر في أمر مستقبله، كأنه أمنه واستقر على ما يجيء به، ولذا قال تعالى في المشركين الذين استغرقهم حاضرهم وما هم فيه :﴿ أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله ﴾( الفاء ) مقدمة عن تأخير ؛ لأن الاستفهام له الصدارة دائما، أو الهمزة داخلة على فعل مناسب محذوف دل عليه ما بعده، ألهوا وأشركوا وعبثوا﴿ أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله ﴾، أي أي غاشية من الغواشي التي تكون من عذاب، فتعمهم من فوقهم ومن أسفل منهم، وكأنها ثياب تغشاهم وتعمهم، وتكون سابغة عليهم، ولهم في ذلك العبر من الأمم العربية التي كفروا بأنعم الله فجاءتها ريح صرصر عاتية، أو جعل الله تعالى عاليها سافلها أو دمر الله عليهم، كما قال تعالى فيهم :﴿ أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ٤٥ أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين ٤٦ أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم ٤٧ ﴾( النحل ).
﴿ أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون ﴾، إما أن تأتيهم نقمة تخصهم لكفرهم وغيهم وفسادهم في الأرض، وإما أن تأتيهم القاضية، وهي ساعة القيامة، وسمي يوم القيامة ساعة، لأنه يتم بعد غمضة عين وانتباهتها، وفي هذا إشارة إلى أن أعمال الكافرين أعمال من يظن الحياة الدنيا دائمة، ولا يترقب يوم القيامة وما وراءه، وقوله تعالى :﴿ وهم لا يشعرون ﴾ بإقبالها، وقوله :﴿ بغتة ﴾ ‘إشارة إلى أنها تفجؤهم من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون، بل هم في غيهم مستمرون.
وإن الله تعالى أمر نبيه بأن يدعوهم إلى الحق غير مبال بإنكارهم وعنادهم، وإنه مستمر في دعوته لا يني عنها أبدا.
أمر الله تعالى نبيه بأن يبلغهم أمره فقال :﴿ قل هذه سبيلي ﴾ الإشارة هنا إلى ما يدعوهم إليه من التوحيد في العبادة، وألا يشركوا بالله شيئا، وأن يؤمنوا بالبعث والنشور، وأنهم يموتون كما ينامون، ويحيون كما يصحون، ومن ذلك تكون الجنة أبدا أو النار أبدا، فهذه الدعوة "هي سبيلي" التي أسلكها، لا أحيد، وماض فيها، وأدعو إليها، أنا مستمر في الدعوة إلى أن يقبضني الله تعالى﴿ ومن اتبعني ﴾ يحملون عبء التكليف بهذه الدعوة والسير في سبيلها غير وانين ولا مقصرين.
وهذا يدل على أن الدعوة إلى الله فرض على المؤمنين كل يقوم بواجبه فيها، الدولة الإسلامية تهيئ دعاة إلى الحق، ويختلف الوجوب علوا ودرجات باختلاف الجماعات والآحاد من حيث العلم والثقافة والقدرة على القيام بحق الدعوة، وقوله تعالى :﴿ على بصيرة ﴾، أي على علم بالحق وحجته ودليله، وهذا يدل على وجوب علم الداعي، وأن يكون له بصيرة نافذة يدرك الحق ويعلم نفوس الناس، وما يجب اتباعه لدعوتها.
ويقول :﴿ وسبحان الله ﴾أنزهه عن الشريك، وأسبح له خاضعا خاشعا، أرجوا رحمته وأخاف عذابه، وكل من في الوجود يسبح له :﴿ تسبح له السموات والسبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهوم تسبيحهم... ٤٤ ﴾ ( الإسراء )وقوله تعالى :﴿ سبحان الله ﴾ تنزيه مطلق، وخضوع لله تعالى من الرسول، ومن الوجود كله، ثم أيأسهم من أن يكون مثلهم أمره بأن يقول :﴿ وما أنا من المشركين ﴾ إن استمررتم على شرككم فأنا بريء منكم، وإن هذه السبيل هي سبيل النبيين أجمعين بعثوا بها في أقوامهم، ودعوهم إليها، وإن النصر من الله لهم : لأنهم أصحاب دعوة الحق ؛ ولذا قال تعالى :
هذه الآية بعد قوله تعالى :﴿ قل هذه سبيلي ﴾ تدل على أن التوحيد، وتنزيه الله تعالى رسالة النبيين أجمعين، فهي تدل على ذلك، وتدل ثانيا، على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن بدعا من الرسل، بل سبقه بهذه الدعوة أنبياء سابقون. وتدل ثالثا على أن رسالة الله إلى خلقه تكون برجال يدعون بها، لا بملائكة، وذلك رد على قولهم :﴿.... ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق... ٧ ﴾ ( الفرقان ) وعلى طلبهم أن ينزل عليهم ملك يخاطب برسالة الله، وقد قال تعالى في رد عليهم﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون٩ ﴾( الأنعام ).
وقال تعالى :﴿ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.... ٢٠ ﴾( الفرقان )وقال تعالى :﴿ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ٨ ﴾( الأنبياء ).
وهكذا كانت هذه الآيات الكريمات وغيرها تحمل الدلالات القاطعة التي ترد إنكارهم.
وقوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ﴾ ليس من أرسلناهم من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم أي أنهم ليسوا ملائكة، ولكن اتصالهم بالله تعالى بطريق الوحي يوحي إليهم سبحانه وتعالى بأوامره ونواهيه، وبعبادته وحده لا شريك له، وقوله تعالى :﴿ من أهل القرى ﴾أي أن هؤلاء الرسل من أهل القرى، والقرى هي المدن العظيمة، وفي هذا بيان أمرين أحدهما : أن الرسول يكون من أهل المدن العظيمة، وثانيهما أنه يكون من قومه، عرفوه من أوسطهم، وأكثرهم أمانة وصدقا، كما قال تعالى في شأن النبي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ١٢٨ ﴾( التوبة ).
وكان رسل الله من أهل المدن يبعثون فيها، ليكون الرسول على علم بأحوال الناس، وليكون معروفا بينهم مشهورا غير مغمور، يكون ذا مكانة من غير غطرسة فيهم، قبل النبوة، فتكون شهادة له بالصدق بعدها.
وقد بين الله تعالى هذه الحقيقة، وهي أن الرسل من الناس، وليسوا ملائكة، وأنها معروفة بالعيان لمن سار في الأرض، وتعرف ديار الذين كفروا بالرسل، فقال تعالى :﴿ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ﴾ هذا النص السامي فيه برهان أن الرسل كانوا رجالا، وفيه إنذار لمشركي العرب بالمآل الذي يئولون إليه إذا استمروا على غيهم، وإنه إنذار يحمل في نفسه دليله، وبرهانه من الآثار والرسوم للذين هلكوا بسبب إنكارهم وكفرهم، وانتحالهم التعلات للعناد والإنكار.
وقوله تعالى :﴿ أفلم يسيروا ﴾ ( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي مؤخرة عن تقديم للاستفهام ؛ لأن الاستفهام له الصدارة في البيان، والاستفهام للنفي، ونفي النفي إثبات، والمعنى لم تسيروا، وفيه تحريض على السير في الأرض ليروا عاقبة الذين من قبلهم، وأنكروا ولجوا في الإنكار، وعاندوا مثلهم، فليعرفوا حالهم مما آل إليه أمر من سبقوهم.
مآلهم بعد ذلك في الآخرة أشد وأنكى وأدوم، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك ببيان عاقبة الذين من قبلهم، فقال تعالت كلماته :﴿ ولدار الآخرة خير للذين اتقوا ﴾ أي أنه سيصيبكم ما أصاب الذين من قبلكم، والذين اتقوا ينجون من العذاب الساحق الذي ينزل بالكافرين، وليست النجاة وحدها جزاءهم فذلك جزاء سلبي، والجزاء الإيجابي في الآخرة، ولذا قال مؤكدا﴿ ولدار الآخرة خير للذين اتقوا ﴾، أي اتقوا غضب الله، واتقوا الشرك، واتقوا العذاب، وغلبت عليهم في ذات أنفسهم التقوى والإيمان والإذعان للحق.
ودعاهم سبحانه وتعالى إلى التفكير، واستعمالهم عقولهم، فقال :﴿ أفلا تعقلون ﴾ ( الفاء ) كما ذكرنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن ما قبلها من أحوال الأمم، وما يكون يوم القيامة للأبرار يدعوهم إلى التعقل والتفكير، والهمزة للاستفهام الإنكاري الباعث على العقل والفكر، فإنه إنكار للدعوة إلى إعمال العقل، وتدبير مآلهم، والله بكل شيء عليم.
وقد بين سبحانه وتعالى سنته في أعمال الرسول، ومآل الأمر حال يأسهم، فقال تعالت حكته.
هنا كلام مقدر بما جاء بعد، و﴿ حتى ﴾ غايته، والمعنى أن الرسل جاءوا ودعوا وكذبوا وحوربوا، وقل المؤمنون بجوار الكافرين وكانوا يسخرون من الذين آمنوا﴿ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم كذبوا جاءهم نصرنا ﴾.
استيئس الرسل اعتراهم اليأس الشديد، واستولى على نفوسهم كأنهم طلبوه وما طلبوه، وصارت حالهم يأسا، وصور صورة من يأسهم، فقال، ﴿ وظنوا أنهم قد كذبوا ﴾ جال في روعهم أنهم كذبوا، ولم يعد مجال للإيمان أو النصر، وهنا قراءتان في﴿ كذبوا ﴾ القراءة الأولى بالتخفيف والبناء للمجهول، وهي قراءة الأكثرين، والثانية بتشديد( الذال ) للناء المجهول أيضا، وهي قراءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وطائفة من القراء بعدها ١.
والمعنى على قراءة التخفيف كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني علموا أنهم تلقوا من جهة الذين أرسلوا إليهم بالكذب، أي ظنوا أن الذين تلقوا عنهم أخبار الإنذار يظنون الكذب فيهم، وإليك نص عبارة الراغب رضي الله عنه : قوله تعالى :﴿ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ﴾ أي علموا أنهم تلقوا من جهة الذين أرسلوا إليهم بالكذب، فكذبوا نحو فسقوا، وزنوا- إذا نسبوا إلى شيء من ذلك، والمعنى على هذا ظنوا أنه وقع في نفوس من يخاطبون كذب ما أنذروا.
أي أنه قد طال الأمد الذي أجلوه، حتى توهم الرسل أن الذين يخاطبونهم من المشركين قد وقع في نفوسهم كذب الرسل، واتخذوا من المطاولة في الزمن، أنهم كاذبون في إنذارهم، واتخذوا من طول الزمن دليلا على كذبهم.
وعلى قراءة التشديد يكون المعنى أن الرسل قد استيئسوا حتى ظنوا أي علموا أنهم كذبوا فيئسوا من إيمان غير من آمنوا، كما قال الله تعالى :﴿... لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن.... ٣٦ ﴾ ( هود ).
والظن هنا بمعنى العلم، أو بمعنى ما يعرض للبشر عند اليأس من خواطر تجعلهم يظنون في أمر المبعوث إليهم، ولننقل لك كلام الزمخشري في هذا، فهو يدل على نفاذ بصيرة في معاني العبارتين ومراميها من غير تهجم، ولا تقحم على المعاني قال :﴿ وظنوا أنهم قد كذبوا ﴾ أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم عنهم بأنهم ينصرون، والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله، قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القنوط، وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، وظنوا حين ضعفوا أو غلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر. وقال : كانوا بشرا، وتلا قوله تعالى :﴿.... وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله.... ٢١٤ ﴾ ( البقرة )، فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشر، وأما الظن وهو ترجيح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم، وإنه متعال عن خلف الميعاد، منزه عن كل قبح، وقيل : وظن المرسل إليهم بأنهم كذبوا من جهة الرسل، أي كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم.
وإنه بعد هذا التحليل نقول : إن أم المؤمنين عائشة ردت قول ابن عباس رضي الله عنهما وقالت : إن الرسل لا يظنون بالله خلف الوعد.
وخلاصة القول أن نقول : إن معنى وظنوا أنهم كذبوا، على التخفيف والبناء للمجهول أن يظنوا أنه ألقي في نفوس المرسلين إليهم أنهم كذبوا في إيقاع العذاب بهم، وإن ذلك النطق نوع من هواجس الفكر البشري، وهي تتلاقى مع قوله تعالى :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب٢١٤ ﴾( البقرة ).
وقوله تعالى :﴿ جاءهم نصرنا ﴾، أي بغتة من حيث لا يحتسبون، ﴿ فنجي من نشاء ﴾، وهم الذين استقاموا على الطريقة واتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات، ﴿ ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ﴾ الذين اجتمعوا على الإجرام واتفقوا عليه، حتى كانوا قوما من شأنهم الإجرام واجتمعوا عليه.
خاتمة
قال تعالى : في ختام هذه السورة التي بلغت أقصى غاية القصص بلاغة وبيانا، وعلما نفسيا وخلقيا، وبيانا للإرادة القوية، وكيف تصبر في مواطن الهجوم عليها بالأهواء الجامحة، والشهوات المنحرفة، والوفاء، والمحبة، والرفق في المعاملة، وعلاج الأمور بالحكمة، والتدبير، ولطف المواتاة للخير.
قال تعالى في ختام هذه السورة :
القصص بالفتح : الإخبار عن الماضين، والقصص بالكسر جمع قصة، كقطع جمع قطعة، وغير ذلك، وقوله تعالى :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ﴾، قصر بعض المفسرين القصص على قصة يوسف عليه السلام، وبعضهم عممه على قصص الأنبياء جميعا، وعلى ذلك يكون الضمير في قصصهم يعود إلى الأنبياء الذين ذكرت أخبارهم في القرآن الكريم كنوح وإدريس وإبراهيم وموسى وعيسى، ولوط، ويوسف، ويعقوب، وعلى الرأي الأول يكون الضمير يعود إلى يوسف وأبيه وإخوته.
وقد رجح الزمخشري الثاني يعود الضمير إلى الأنبياء، وذلك لقراءة كسر القاف، ، إذ إنها تكون قصصا، وليست قصة واحدة، وقصة يوسف واحدة، وليست قصصا متعددة.
ومهما يكن فإن قصة يوسف واحدة، اختص بها يوسف عليه السلام، وهي أخبار متنوعة قطبها يوسف عليه السلام، وفيها عبر مختلفة، فيها بيان لحال النفوس، وما يعروها من منازع، وما تعترك به من أهواء، وما في النفس من قوة إرادة وصبر للمهتدين، ونزوع فاسد للضعفاء الذين يناسقون، وما فيها ما يحمي البيوت من آفات، وما يعروها من انحرافات، وفيها بيان لتدبير الجماعة، وتنظيم لاقتصادها، وإحكام، وإخلاص، وعدل، وبيان لما يجب من الادخار من سني الرخاء لسنى الشدة، كما قال تعالى :﴿.... فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون٤٧ ﴾.
وفي سورة يوسف صورة للحاكم العادل، تراها في أوصاف يوسف عليه السلام.
وأولى هذه الصفات البارزة قوة الإرادة، ومظهرها الصبر عندما تعتلج النفس بأسباب الشهوات.
وثانيها : الأناة، وأن يضبط نفسه عند الغضب، ولا ينساق وراءه، فالحاكم الذي يسير وراء الغضب يشط، ويظلم، وقد رماه إخوته بالسرقة كاذبين عليه، مغرضين عليه.
وثالثها : العناية بذوي الحاجات، ولو كانوا مؤذين له، أو سبق لهم منه الأذى كما عامل إخوته.
ورابعها : الثقة بالنفس، وطلب الأمر إن كان يصلحه، كما قال يوسف ﴿ اجعلني على خزائن الأرض ﴾ فلم يفر من تحمل التبعة عن بينة وجدارة واستحقاق، مع ذاكرة قوية مدركة، يعلم ما مضى وما حضر.
وخامسها : الإخلاص لله تعالى، وعبادته وحده، فلا يشرك، فتدين الحاكم يجعله خاضعا لله.
وسادسها : أن يكون رفيقا في معاملة الناس شفيقا بهم، فهو كالوالي على اليتيم، يعطيهم من رفقه ورفده ما يدنيهم إليه، وهكذا كان يوسف حتى وهو في سجنه، فقد كان يناديهم، وهو في سجنه مع المسجونين بأنهم أحبابه وأصحابه، وإن من الشفقة والرفق العفو عندما توجد أسباب يداوي به الحسد والعداوة، فلا يجتث شيء الحسد والأحقاد كالعفو والمحبة وإدناء البعيد، وتقريب العشير، وكل ذلك كان في يوسف.
وسابعها : التأني للأمور، وقد رأينا كيف أخذ الثقة في لين، ومن غير إعنات من العزيز ظهر ذلك فيمن هو أعلى منصبا منه، وظهر في صغائر الأمور، كما رأيت في استبقائه أخاه من غير اقتتال، بل بوضعه السقاية في رحل أخيه من غير اتهام لشخصه، ثم أخذ الحكم من ألسنتهم، ونفذه بقولهم.
ثم من بعد ذلك أخذ الأمور بالتأني، حتى التقى بأبيه على مائدة الرحمة والمودة والإيثار، وقد قتل الحقد بالعفو، والغيرة بالمحبة، والضلال بالهداية.
وفي السورة عبر كثيرة، وقد ذكرنا بعضها منها في أول السورة في معاني قوله تعالى :﴿ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين٧ ﴾.
وقلنا : إن قوله تعالى :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ﴾ الضمير يعود إلى الأنبياء، وخصصنا نحن قصة يوسف ببعض ما يلوح منها من عبر، والعبرة والاعتبار الحال التي يعرف فيها، ما يجب عمله في الحاضر بالأخذ مما كان في الماضي بأن يتفكر ويتدبر ما كان في الماضي من وقائع، ويعلم أنه نور يضيء للحاضر، فالإنسان ابن الإنسان يتشابه في آثامه، ويتشابه في عواقبها ونهايتها، فذكر هذه الآثام لجماعة أو قبيل، وبيان العواقب بيان للعواقب في كل جيل لمن يقع فيها من أهل هذا الجيل الذي خلف الأول، ولذا كان في قصص الرسل إنذار للمشركين وتسلية للنبي والمؤمنين بأن نصر الله آت، وكل آت قريب مهما يتأخر الزمان.
ويقيد سبحانه وتعالى المعتبرين بأن يكونوا من ذوي الألباب أي العقول التي تذهب في إدراكها إلى لب الأمور وحقائقها، ويتدبرون مباديها، ونهاياتها.
ويبين الله سبحانه أنه لم يكن حديثا يفترى ويخترع كأساطير الأولين ﴿ ما كان حديثا مفترى ﴾ كما قال الأفاكون أنها﴿.... أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا٥ ﴾( الفرقان ) والتنكير في –حديثا- لعموم النفي أي ما كان ﴿ حديثا ﴾ أي حديث يفترى ويخترع اختراعا لمجرد التسلية وتزجيه الفراغ، والتسلي المجرد، بالأحاديث، بل كان أخبارا جاءت بها الكتب السماوية من قبل، ولذا قال تعالى :﴿ ولكن تصديق الذي بين يديه ﴾ أي أنه كلام فيه تصديق لما بين يديه من الكتب السماوية التي نزلت من قبله كالتوراة الصادقة، وقوله :﴿ تصديق الذي بين يديه ﴾ فيه إثبات صدقه فيما أخبر، وصدقها فيما أخبرت به ؛ لأن الصدر فيها واحد، ويعبر بكلمة﴿ بين يديه ﴾ في القرآن بما سبقه، وكأنه بعلمه حاضر بين يديه.
لقد ذكرها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال إنها من القرآن، وهي موافقة للصادق من الكتب عند اليهود والنصارى ومبينة للزائف منها، وكان ذلك على لسان رجل لا يقرأ ولا يكتب، وفي قوم أميين ليس عندهم علم ولا معاهد للعلم، وما كان كثير النجعة والارتحال، بل لم يعرف له إلا رحلتان إلى الشام، إحداهما في الثانية عشر، والثانية في الخامسة والعشرين من عمره.
والضمير المستتر في قوله تعالى :﴿ ما كان حديثا مفترى ﴾ عائد إلى القصص، وهو مصدق لما جاء في الكتب السابقة، ودليل على صدق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفيه هداية ورحمة لقوم من شأنهم الإيمان بالحق إذا جاءهم فالقصص فيه هداية لأن فيه دعوة النبيين وعاقبة المكذبين، وفيه رحمة لتجنيب المؤمنين عاقبة الكفر.
ويصح أن يكون الضمير عائد إلى القرآن الكريم المشتمل على القصص فهو في ذاته هدى، لأنه من عند الله، وهو رحمة، لأن الهداية رحمة، وخص ذلك بالذين يؤمنون ويذعنون للحق إذا جاءهم، ﴿ ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾أما من لا يذعنون ولا يؤمنون فهم قوم بور.