تفسير سورة إبراهيم

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

١٤- سورة إبراهيم
سميت به لاشتمالها على دعوات لإبراهيم عليه السلام، تمت بهذه الملة. كالحج وجعل الكعبة قبلة الصلاة، مع الدلالة على عظمتها، بحيث صارت من المطالب المهمة للمتفق على غاية كمال إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وعلى نبوة نبينا عليه أكمل التحيات وأفضل التسليمات مع غاية كماله، وهذا من أعظم مقاصد القرآن ! أفاده المهايمي.
وهي مكية النزول، قيل : إلا قوله تعالى١ :﴿ ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمت الله كفرا... ﴾ الآيتين. وهي اثنتان وخمسون آية.
١ [١٤/ إبراهيم / ٢٨]..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)
الر كِتابٌ خبر ل (الر) على كونه مبتدأ. أو خبر لمحذوف على كونه خبرا لمضمر، أو مسرودا على نمط التعديد. وقوله تعالى: أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ صفة له لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي: من الضلال إلى الهدى بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي:
أمره. وقوله تعالى: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بدل من قوله: إِلَى النُّورِ بتكرير العامل. أو مستأنف، كأنه قيل: إلى أي نور؟ فقيل: إِلى صِراطِ... إلخ والْعَزِيزِ الذي لا يغالب ولا يمانع بل هو القاهر القادر. والْحَمِيدِ المحمود في أمره ونهيه لإنعامه فيهما بأعظم النعم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢]
اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢)
اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قرئ لفظ الجلالة بالرفع على الابتداء وخبره ما بعده. أو على الخبرية لمحذوف. وقرئ بالجر، عطف بيان ل الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ أي: بما أنزلناه إليك مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ يوم القيامة وهو عذاب النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٣]
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أي: يؤثرونها عليها وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ
بتعويق الناس عن الإيمان وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب، أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة، أو يبغون لها اعوجاجا، أي يطلبون أن يروا فيها عوجا قادحا، على الحذف والإيصال أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي: ضلّوا عن طريق الحق ووقفوا دونه بمراحل، والبعد في الحقيقة للضال نفسه، وصف به فعله للمبالغة، بجعل الضلال نفسه ضالا. وفي إيثار الظرف على (أولئك ضالّون ضلالا بعيدا) دلالة على تمكّنهم فيه، باشتماله عليهم اشتمال المحيط على المحاط، مبالغة في إثبات وصف الضلال. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أي: ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا: لم نفهم ما خوطبنا به كما قال: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ [فصلت: ٤٤]. (فإن قلت) : لم يبعث رسول الله ﷺ إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى الناس جميعا قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: ١٥٨]، بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة. فإن لم تكن للعرب حجة، فلغيرهم الحجة. وإن لم تكن لغيرهم حجة، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة أيضا. (قلت) : لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل فبقي أن ينزل بلسان واحد فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم أقرب إليه. فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلّم لفظه وتعلّم معانيه، وما يتشعّب من ذلك من جلائل الفوائد، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل وأسلم من التنازع والاختلاف، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع اختلافها وكثرتها، وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها، وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها، كما كلم أمته التي هو منها يتلوه عليهم معجزا- لكان ذلك
أمرا قريبا من الإلجاء. ومعنى بِلِسانِ قَوْمِهِ بلغة قومه- كذا في (الكشاف).
وقال بعض المحققين: يقول قائل: ألا تدل هذه الآية على أن بعثة النبيّ ﷺ كانت للعرب خاصة؟ نقول: لا. لأنه جرت سنة الله أن يختار أمة واحدة ويعدّها لتهذيب الأمم الأخرى. كما يعد فردا واحدا منها لتهذيب سائر أفرادها. ولما كانت الأمة العربية هي المختارة لتهذيب الأمم وتعديل عوجها وإقامة منار العدل في ذلك العالم المظلم- فقد وجب أن التهذيب الإلهي ينزل بلغتها خاصة حتى تستعد وتتهيّأ لأداء وظيفتها. وقد أتم الله نعمته عليها، فقامت بما عهد إليها بما أدهش العالم أجمع، ولله في خلقه شؤون.
تنبيه:
استدل بالآية من ذهب إلى أن اللغات اصطلاحية. قال: لأنها لو كانت توقيفيّة لم تعلم إلّا بعد مجيء الرسول، والآية صريحة في علمها قبله.
وقوله تعالى: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ أي لمباشرته أسبابه المؤدية إليه، أو يخذله ولا يلطف به لعلمه أنه لا ينجع فيه الإلطاف. وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق. و (الفاء) فصيحة، كأنه قيل: فبيّنوه، فأضلّ الله من شاء إضلاله وهدى من شاء. والحذف للإيذان بأن مسارعة كلّ رسول إلى ما أمر به، وجريان كل من أهل الخذلان والهداية على سنته، أمر محقق غني عن الذكر والبيان وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي: فلا يغالب، ولا يقضي إلا بما فيه الحكمة.
ثم أشير إلى تفصيل ما أجمل في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أي: أنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم، كقوم نوح ولوط. ومنه: أيام العرب، لحروبها وملاحمها، لأنها تعظم بها الأيام. وقيل: أيامه نعماؤه عليهم، فتكون الآية بعدها تفصيلا لها. وقيل: هي أعمّ من النعماء والبلاء. والوجه الأول أولى، فيما أراه لاختصاص كل آية بمقام، والتأسيس خير من التأكيد. وفي الالتفات
من التكلم إلى الغيبة، بالإضافة إلى الاسم الجليل، إيذان بفخامة شأنها. قال أبو بكر ابن العربيّ: هذه الآية أصل في الوعظ المرقق للقلوب.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في التذكير بها لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي: يصبر على بلائه ويشكر نعماءه. فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم، أو أفاض عليهم من النعم، تنبّه على ما يجب عليه من الصبر والشكر. وقيل: أراد (لكلّ مؤمن) لأن الشكر والصبر عنوان المؤمن. وتقديم (الصبّار) على (الشكور) لتقدم متعلق الصبر- أعني الإيمان على متعلق الشكر- أعني النعماء- وكون الشكر عاقبة الصبر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٦]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي: يبغونكم إياه وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ أي: المولودين صغارا وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي: يبقونهن في الحياة وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ الإشارة إلى فعل آل فرعون.. ونسبته إليه تعالى للخلق أو الإقدار والتمكين. قيل:
كون قتل الأبناء، ابتلاء ظاهر. وأما استحياء النساء، وهن البنات أي استبقاؤهن، فلأنهم كانوا يستخدمونهن ويفرقون بينهن وبين الأزواج، أو لأن بقاءهن دون البنين رزية في نفسه كما قيل:
ومن أعظم الرّزء فيما أرى بقاء البنات وموت البنينا
ويجوز أن تكون الإشارة إلا الإنجاء من ذلك. و (البلاء) الابتلاء بالنعمة، وهو بلاء عظيم.
قال الزمخشري: البلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعا. قال تعالى:
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: ٣٥]، وقال زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
ولذا جوّز أن تكون الإشارة إلى جميع ما مرّ، الشامل للنعمة والنقمة.
لطيفة:
أشار أهل المعاني إلى نكتة مجيء وَيُذَبِّحُونَ هنا بالواو، وفي سورة البقرة
يُذَبِّحُونَ [البقرة: ٤٩]، وفي الأعراف: يَقْتُلُونَ [الأعراف: ١٤١]، بدونها.
والقصة واحدة- بأنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه، فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال. وحيث عطف- كما هنا- لم يقصد ذلك. والعذاب، إن كان المراد منه الجنس، فالتذبيح، لكونه أشدّ أنواعه، عطف عليه عطف جبريل على الملائكة، تنبيها على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس. وإن كان المراد به غيره، كاسترقاقهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة، فهما متغايران والمحلّ محلّ العطف.
وجوّز أيضا كون العطف هنا للتفسير وكأن التفسير وكأن التفسير- لكونه أوفى بالمراد وأظهر- بمنزلة المغاير فلذا عطف.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٧]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ أي: آذن وأعلم إعلاما بليغا- من جملة ما قال موسى لقومه لَئِنْ شَكَرْتُمْ أي: نعمه، بصرفها إلى ما خلقت له. كالعقل إلى تصحيح الاعتقاد فيه واستعمال سائر النعم بمقتضاه لَأَزِيدَنَّكُمْ أي: من النعم وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ فيصيبكم منه ما يسلب تلك النعم ويحل أشدّ النقم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٨]
وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)
وَقالَ مُوسى أي: لقومه إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ أي: غني عن شكر عباده، المحمود بأجلّ المحامد. وإن كفره من كفره.
وهو تعليل لما حذف من جواب (إن) أي: إن تكفروا لم يرجع وباله إلّا عليكم. فإن الله لغنيّ عن شكر الشاكرين.
وفي (صحيح مسلم) «١» عن أبي ذرّ، عن رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربه عزّ
(١) أخرجه مسلم في: البرّ والصلة والآداب، ١٥- باب تحريم الظلم، حديث رقم ٥٥ من حديث طويل عظيم جدّا فاقرأه.
وجلّ: أنه قال: «يا عبادي! لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي! لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلّا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» فسبحانه من غني حميد
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٩]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ أي: في مؤاخذة من كفر نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ أي:
مع كثرتهم وَعادٍ أي مع غاية قوتهم وَثَمُودَ مع كثرة تحصنهم وصنائعهم وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ.
قال ابن جرير: هذا من تمام قول موسى لقومه، يعني: وتذكاره إياهم بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل.
قال ابن كثير: وفيما قال ابن جرير نظر والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة فإنه قد قيل: إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه لقصّه عليهم، ولا شك حينئذ أن تكون هاتان القصتان في التوراة والله أعلم.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضا، أو عطف (الذين) على قوم نوح، ولا يَعْلَمُهُمْ.. إلخ اعتراض، ومعنى الاعتراض، على الثاني: ألم يأتكم أنباء الجمّ الغفير الذي لا يحصى كثرة فتعتبروا بها؟ إنّ في ذلك لمعتبرا. وعلى الأول. فهو ترق ومعناه: ألم يأتكم نبأ هؤلاء ومن لا يحصى بعدهم؟ كأنه يقول: دع التفصيل فإنه لا مطمع فيه، وفيه لطف لإيهام الجمع بين الإجمال والتفصيل.
302
وقوله تعالى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ يحتمل الأيدي والأفواه أن يكونا الجارحتين المعروفتين. وأن يكونا من مجاز الكلام. وفي الأول وجوه:
أي: ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل، كقوله: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران: ١١٩]، أو وضعوها على أفواههم ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك. أو وضعوها على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء: أن يكفّوا ويسكتوا. أو أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل أن:
اسكتوا. و (في) بمعنى (إلى) أو وضعوا أيديهم على أفواه الرسل منعا لهم من الكلام أو أنهم أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليقطعوا كلامهم. ومن بالغ في منع غيره من الكلام فقد يفعل به ذلك. أو أشاروا بأيديهم إلى جوابهم وهو قولهم إِنَّا كَفَرْنا أي: هذا جوابنا الذي نقوله بأفواهنا، والمراد إشارتهم إلى كلامهم كما يقع في كلام المتخاطبين، أنهم يشيرون إلى أن هذا هو الجواب ثم يقرّرونه، أو يقررون ثم يشيرون بأيديهم إلى أن هذا هو الجواب. قيل: وهو أقوى الوجوه المتقدمة. لأنهم لما حاولوا الإنكار على الرسل كل الإنكار، جمعوا في الإنكار بين الفعل والقول. ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يمهلوا، بل عقبوا دعوتهم بالتكذيب. وفي تصديرهم الجملة ب (أن) ومواجهة الرسل بضمائر الخطاب وإعادة ذلك، مبالغة في التأكيد.
وفي الثاني- أعني المعنى المجازيّ- وجوه:
قال أبو مسلم الأصفهانيّ: المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج، وذلك لأن إسماع الحجة إنعام عظيم، والإنعام يسمى يدا، يقال لفلان عندي يد إذا أولاه معروفا وقد يذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: ١٠]. فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعم وأياد، وأيضا العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أياد وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي، وفي العدد الكثير الأيادي. فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي.
وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت ونظير قوله تعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور: ١٥]، فلما كان القبول تلقيا بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردا في الأفواه. انتهى.
303
وفي (الرازيّ) تتمة الأوجه فانظرها إن شئت.
قال في (العناية) : فإن قلت: قولهم إِنَّا كَفَرْنا جزم بالكفر لا سيما وقد أكّد ب (إن)، فقولهم وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ ينافيه، قلت: أجيب بأن الواو بمعنى أو، أي أحد الأمرين لازم وهو: إنا كفرنا جزما فإن لم نجزم فلا أقل من أن نكون شاكين فيه. وأيّا ما كان، فلا سبيل إلى الإقرار. وقيل: إن الكفر عدم الإيمان عمن هو من شأنه، فكفرنا بمعنى لم نصدق، وذلك لا ينافي الشك، أو متعلق الكفر الكتب والشرائع، ومتعلق الشك ما يدعونهم إليه من التوحيد مثلا. انتهى.
أي: فلا ينافي شكّهم في ذلك كفرهم القطعيّ بالأول.
وقوله تعالى: مُرِيبٍ بمعنى موقع في الريبة، من (أرابه) أوقعه فيها أو ذي ريبة، من (أراب) : صار ذا ريبة وهي صفة مؤكدة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ١٠]
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠)
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: وهو ممّا لا مجال للشك فيه لغاية ظهوره.
قال ابن كثير: هذا يحتمل معنيين: أحدهما: أفي وجوده شك؟ فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به. فإن الاعتراف به ضروريّ في الفطر السليمة، ولكن قد يعرض لبعض الفطر شك واضطراب فيحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه فاطر السموات والأرض- أي الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق- فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما. فلا بدّ لهما من صانع وهو الله لا إله إلّا هو خالق كل شيء وإلهه ومليكه. والمعنى الثاني: أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له، شك؟
وهو الخالق لجميع الموجودات ولا يستحق العبادة إلّا هو وحده لا شريك له، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقرّبهم من الله زلفى. انتهى.
وسبق لنا في سورة الأعراف البحث في أن معرفته تعالى ضرورية أو نظرية فارجع إليه.
وفي إدخال همزة الإنكار على الظرف إيذان بأن مدار الإنكار ليس نفس الشك بل وقوعه فيما لا يكاد يتوهم فيه الشك أصلا، وفي العدول عن تطبيق الجواب على كلام الكفرة بأن يقولوا: (أأنتم في شكّ مريب من الله) مبالغة في تنزيه ساحة جلاله عن شائبة الشك وتسجيل عليهم بسخافة العقول.
وقوله تعالى: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي: يدعوكم إلى الإيمان بإرساله إيانا، لا أنّا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسنا كما يوهمه قولكم: (مما تدعوننا إليه). ولام (ليغفر) متعلقة ب (يدعو) أي: لأجل المغفرة لا لفائدته، تعالى وتقدّس، أو للتعدية أي: يدعوكم إلى المغفرة: كقولك: دعوتك لزيد. و (من) إمّا تبعيضيّة أي: بعض ذنوبكم وهو ما بينهم وبين الله تعالى دون المظالم، أو صلة، على مذهب الأخفش وغيره، من زيادتها في الإيجاب، أو للبدل أي: بدل عقوبة ذنوبكم، أو على تضمين (يغفر) معنى (يخلص).
وادعى الزمخشريّ مجيئه ب (من) هكذا في خطاب الكافرين دون المؤمنين في جميع القرآن. قال: وكان ذلك للتفرقة بين خطابين، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد.
قال في (الكشف) : وللتخصيص فائدة أخرى وهي التفرقة بين الخطابين بالتصريح بمغفرة الكل وإبقاء البعض في حق الكفرة مسكوتا عنه لئلا يتكلوا على الإيمان.
وقوله تعالى: وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي: يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي: آية مما نقترحه تدل على فضلكم علينا بالنبوّة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ١١]
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي: بالرسالة والنبوة وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بأمره وإرادته،
وهو لم يرد ذلك، لقوله: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء: ٥٩].
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قال الزمخشري: أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به كأنهم قالوا: ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم وما يجري علينا منكم. ألا ترى إلى قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ١٢]
وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)
وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ومعناه: وأيّ عذر لنا في أن لا نتوكل عليه وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا أي: أرشد كلّا منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له، وأوجب عليه سلوكه في الدين. وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح في التوكل، قالوا على سبيل التوكيد القسميّ، مظهرين لكمال العزيمة: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا أي: من الكلام السّيئ والأفعال السخيفة. وقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ فيه اهتمام بالتوكل عليه سبحانه، لأن مقام الدعوة يقتضيه. ولذا أعيد ذكره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا، فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ.
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ، ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ يخبر تعالى عما توعد به الكافرون رسلهم، لما رأوهم صابرين متوكلين، لا يهمهم شأنهم من الإخراج من الأرض، والنفي من بين أظهرهم، أو العود في ملتهم. والمعنى: ليكونن أحد الأمرين.
والسبب في هذا التوعد- كما قال الرازيّ- أن أهل الحقّ في كل زمان يكونون قليلين، وأهل الباطل يكونون كثيرين. والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين. فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة. فإن قيل: يتوهم من لفظ (العود) أنهم كانوا في ملة الكفر قبل. أجيب: بأن (عاد) بمعنى صار. وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى، أو الكلام على ظنهم وزعمهم أنهم كانوا من أهل ملتهم قبل إظهار الدعوة. أو الخطاب للرسل ولقومهم، فغلبوا عليهم في نسبة العود إليهم.
وقوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ... إلخ وعد صادق للرسل، وبشارة حقة. كما قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات: ١٧١- ١٧٣]، وقال تعالى:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا [الأعراف:
١٣٧]، والآيات في ذلك كثيرة. والإشارة في (ذلك) إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين. وقوله لِمَنْ خافَ... إلخ، أي: للمتقين لأنهم الموصوفون بما ذكر كقوله: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: ١٢٨]. و (المقام) إما موقف الحساب، فهو اسم مكان، وإضافته إليه سبحانه لكونه بين يديه، أو مصدر ميميّ، بمعنى: حفظي وقيامي لأعمالهم ليجازوا عليها. أو مقحم للتفخيم والتعظيم كما يقال: المقام العالي. وياء المتكلم في (وعيد) محذوفة للاكتفاء بالكسرة عنها في غير الوقف.
قال السمين: أثبت الياء- هنا وفي (ق) في (ق) في موضعين: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق: ١٤]، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: ٤٥]، وصلا، وحذفها وقفا- ورش عن نافع. وحذفها الباقون وصلا ووقفا.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ١٥]
وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥)
وَاسْتَفْتَحُوا أي: سألوا من الله الفتح على أعدائهم، أو القضاء بينهم وبين أعدائهم. من (الفتاحة) وهي الحكومة كقوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف: ٨٩]، فالضمير: للرسل، وقيل: للكفرة، وقيل: للفريقين فإنهم سألوا أن ينصر المحقّ ويهلك المبطل. وقوله: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي: فنصروا عند
استفتاحهم وأفلحوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وهم قومهم. أو استفتح الكفار على الرسل وخابوا ولم يفلحوا. وإنما قيل: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ذمّا لهم وتسجيلا عليهم بالتجبّر والعناد. أو استفتحوا جميعا فنصر الرسل وأنجز لهم الوعد، وخاب أعداؤهم. و (الجبار) المتكبر على طاعة الله تعالى وعبادته و (العنيد) المعاند للحقّ، كخليط بمعنى مخالط.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ١٦]
مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦)
مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ جملة في محل جر صفة ل (جبار) كناية عن تطلبها له وترصدها إياه، ومن تطلب شيئا وترصده أدركه لا محالة. وقيل: على تقدير مضاف، أي: من وراء حياته وانقضاء عمره. وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ وهو ما يسيل من جوف أهل النار، قد خالط القيح والدم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ١٧]
يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
يَتَجَرَّعُهُ أي: يتكلف تجرعه لقهره عليه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ولخبثه وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ أي: تحيط به أسبابه من الأهوال، وما هو بمستريح مما نزل به وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ
أي: شديد متصل لا ينقطع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ١٨]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ، ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ المثل مستعار للصفة التي فيها غرابة. شبه تعالى أعمالهم اللاتي كانوا يعملونها لأوثانهم أو يراءون بها- كإنفاق الأموال وعقر الإبل للضيفان، في حبوطها- لكونها على غير تقوى وإيمان- برماد
طيرته الريح العاصف. وقوله تعالى: لا يَقْدِرُونَ... إلخ، مستأنف فذلك للتمثيل بمعنى المقصود منه ومحصل وجهه، أي: لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء منها، أي لا يرون له أثرا من ثواب، كما لا يقدر، من الرماد المطير في الريح، على شيء.
قال أبو السعود: الاكتفاء ببيان عدم رؤية الأثر لأعمالهم للأصنام، مع أن لها عقوبات هائلة، للتصريح ببطلان اعتقادهم وزعمهم أنها شفعاء لهم عند الله تعالى.
وفيه تهكم بهم. وفي توصيف الضلال بالبعد، إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب.
(واشتد به) من (شدّ) بمعنى عدا والباء للتعدية أو ملابسة. أو من (الشدة) بمعنى القوة أي: قويت بملابسة حمله. و (العصف) قوة هبوب الريح. وصف به زمانها على الإسناد المجازيّ ك (نهاره صائم) وخبر (مثل) محذوف أي: فيما يتلى عليكم. وجملة (أعمالهم كرماد) مستأنفة جوابا لسؤال: كيف مثلهم؟ أو (أعمالهم) بدل من (مثل) و (كرماد) الخبر.
وهذه الآية كقوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: ٢٣]، وقوله تعالى: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ، وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[آل عمران: ١١٧]. وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً، لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [البقرة: ٢٦٤].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ الخطاب للرسول صلوات الله عليه، والمراد به أمته. أو لكل أحد من الكفرة لقوله (يذهبكم) والرؤية رؤية القلب.
وفي الآية وجهان من التأويل: أحدهما أنها سيقت لبيان قدرته تعالى على معاد الأبدان يوم القيامة، بأنه خلق السموات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس. أي أفليس الذي قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها وعظمتها وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات والآيات الباهرات وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد وبراري وقفار وبحار وأشجار ونبات وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: ٣٣].
وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ، بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. [يس: ٧٧- ٨١].
الوجه الثاني: ترهيب المشركين بأنهم غير معجزين، أي: إن يشأ يهلككم إذا خالفتم أمره، ويخلق قوما خيرا منكم كقوله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: ٣٨]، وقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ، وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً [النساء: ١٣٣].
وقوله تعالى: بِالْحَقِّ أي: بالحكمة المنزهة عن العبث كقوله: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران: ١٩١]، وقوله: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: ٢٧]، وقوله: ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يونس: ٥]، وذلك ليتفكر في خلقها ويستدل بها على وجود بارئها وقدرته ووحدته.
ثم أخبر تعالى عن تخاصم المجرمين في المحشر وتبرئهم من بعضهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢١]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً أي: اجتمعوا لحسابه وقضائه يوم القيامة في براز من
الأرض. وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحدا، أو برزوا من قبورهم أي: ظهروا لذلك فَقالَ الضُّعَفاءُ وهم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي: على الرسل وهم قادتهم- توبيخا لهم إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أي: تابعين، مهما أمرتمونا ائتمرنا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي: بعض الإغناء قالُوا أي: المستكبرون لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ إحالة، لضلالهم وإضلالهم، على مقامه سبحانه، أو لو هدانا باهتدائنا، ولكن زغنا فأزاغنا كما قال تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: ٥]، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ
أي: منجى ومهرب من العذاب ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ: ٣١].
واستظهر ابن كثير هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها لآية: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ [غافر: ٤٧].
ولا يخفى أن الآية في هذه السورة تصدق بالتخاصم في الموقف وفي النار، لإفادتها أن ذلك أثر بروزهم، وهو صادق بما ذكرنا، فلا قرينة فيها لكون ذلك في النار فقط، كما ادّعاه. وربما كان قوله وَبَرَزُوا يدل للموقف بمعناه المتقدم. ثم إن هذا التخاصم يجوز أن يكون متعدد المواطن لظاهر قوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ وقوله:
فِي النَّارِ ويجوز أن يكون مرة واحدة. والمراد ب (النّار) العذاب. ووقوفهم عند ربهم، واليأس محيط بهم، وجهنم ترقبهم، عذاب وأيّ عذاب!.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢٢]
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ وهو الحكم بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ أي: على ألسنة رسله بأن في اتباعهم النجاة والسلامة، أي: فوفى به وأنجز وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ أي: ووعدتكم وعد الباطل، وهو أن لا
311
بعث ولا جزاء. ولئن كان، فالأصنام شفعاؤكم. ولم يصرح ببطلانه لدلالة قوله:
فَأَخْلَفْتُكُمْ عليه. والإخلاف مستعار لعدم تحقق ما أخبر به وكذبه، أو مشاكلة.
وفي الآية من الإيجاز البليغ شبه الاحتباك. حيث حذف أولا (فوفى به) لدلالة قوله بعد فَأَخْلَفْتُكُمْ عليه لأنه مقابله، وحذف ثانيا (وعد الباطل) لدلالة وَعْدَ الْحَقِّ.
وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي حجة وبرهان إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أي: أسرعتم لطاعتي بمجرد ذلك، أي وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه فَلا تَلُومُونِي أي: بوعدي إياكم، إذ لم يكن بطرق القسر وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ أي: حيث استجبتم لي باختياركم، حين دعوتكم بلا حجة ولا دليل. ولم تستجيبوا ربكم، إذ دعاكم دعوة الحق المقرونة بالبراهين والحجج.
قال القاشاني: لما ظهر سلطان الحق على شيطان الوهم وتنوّر بنوره، أسلم وأطاع وصار محقّا عالما بأن الحجة لله في دعوته للخلق إلى الحق، لا له. ودعوته إلى الباطل بتسويل الحطام وتزيين الحياة الدنيا عليهم- واهية فارغة من الحجة. وأقرّ بأن وعده تعالى بالبقاء بعد خراب البدن والثواب والعقاب عند البعث، حقّ قد وفي به.
ووعدي بأن ليس إلّا الحياة الدنيا باطل اختلقته. فاستحقاق اللوم ليس إلّا لمن قبل الدعوة الخالية عن الحجة فاستجاب لها. وأعرض عن الدعوة المقرونة بالبرهان فلم يستجب لها. انتهى.
وحكي في (الإكليل) عن ابن الفرس: أن بعضهم انتزع من هذا إبطال التقليد في الاعتقاد. قال: وهو انتزاع حسن. لأنهم اتبعوا الشيطان بمجرد دعواه، ولم يطلبوا منه برهانا. فحكى الله تقبيحا لذلك الفعل منهم. انتهى.
ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ أي: بمغيثكم ومنجيكم من العذاب وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ أي: مما أنا فيه. قال ابن الأعرابي: الصارخ: المستغيث، والمصرخ:
المغيث، يقال: صرخ فلان إذا استغاث وقال: وا غوثاه! وأصرخته أغثته. فالهمزة للسلب. يعني أزلت صراخه، وهو مدّ الصوت. إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ أي: كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم- أي في الدنيا- يعني: جحدت أن أكون شريكا لله عز وجلّ، وتبرأت منه ومنكم فلم يبق بيني وبينكم علاقة كقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: ١٤]، وقوله: وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ
312
كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ
[الأحقاف: ٦]، وقوله: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: ٨٢]. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ابتداء كلام منه تعالى، أو تتمة كلام الشيطان.
قال الزمخشري: وإنما حكى الله عزّ وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت، ليكون لطفا للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجّيهم.
ولما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال، عطف بمآل السعداء بقوله سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢٣]
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا أي بالله ورسوله وكتابه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي:
الطاعات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي: من تحت مساكنها وشجرها، أنهار الخمر والماء والعسل واللبن خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلق ب (أدخل) أي:
أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ متعلق ب (أدخل) أي:
أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي: تحييهم وتكرمهم الملائكة بالسلام عليهم، كقوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الزمر: ٧٣]، وقوله: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: ٢٣- ٢٤].
ولما بيّن تعالى ما أعدّ للمشركين والمؤمنين من المآل الأخرويّ، ضرب مثلا للشرك والإيمان- بأن مآل الثاني الثبات والاستقرار لأنه الذي ينفع الناس، ومآل الأول إلى الدمار والاندحار- فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ يعني في
الأرض ضارب بعروقه فيها وَفَرْعُها أي أعلاها ورأسها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها أي ثمرها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها أي بإرادته وتكوينه وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: لأن فيها زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني المعقولة بالصور المحسوسة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢٦]
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦)
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ أي: استؤصلت وأخذت جثتها بالكلية مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ أي: لأن عروقها قريبة منه ما لَها مِنْ قَرارٍ أي: استقرار.
تنبيه:
لحظ في الممثل به- أعني الشجرة- أوصاف جليلة لتلحظ في جانب الممثل له. فمنها: كونها طيبة. أعم من طيب المنظر والصورة والشكل ومن طيب الريح.
وطيب الثمرة وطيب المنفعة. وكون أصلها ثابتا أي: راسخا باقيا في أمن من الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء ليعظم الفرح به والسرور. وكون فرعها في السماء فدل على كمال حال تلك الشجرة من جهة ارتفاع أغصانها وقوتها في التصاعد، ممّا يبرهن على ثبات الأصل ورسوخ العروق، وجهة بعدها عن العفونات والأقذار فتكون ثمرتها نقية طاهرة طيبة عن جميع الشوائب وكون ثمرتها تجتنى كلّ حين فلا تنقطع بركاتها وخيراتها. ولا ريب أن وجود هذه الأوصاف مما يدل على فخامة الموصوف وإنافة فضله. ولا تخفى مطابقة هذا الممثّل به للممثل له- أعني الحق- وهو الإسلام الذي جاء به خاتم الأنبياء عليهم السلام.
ولمّا كان المثل مضروبا للحق والباطل في الثبات وعدمه، والقصد أهلهما، صرح بهما فذلك له، فقال في أهل المثل الأول:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢٧]
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ القول الثابت هو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة وهو الحق. و (بالقول) جوّزوا تعلقه ب (يثبت) و (آمنوا). والمعنى على الأول: ثبتهم بالبقاء على ذلك، أو ثبتهم في سؤال
القبر به، وعلى الثاني فالباء سببية والمعنى: آمنوا بالتوحيد الخالص فوحدوه ونزهوه عمّا لا يليق بجنابه. و (في الحياة) متعلق ب (يثبت أو بالثابت) كما قاله أبو البقاء.
واقتصر الزمخشري وأتباعه على الأول حيث قال:
القول الثابت الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه فاعتقده واطمأنت إليه نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا، أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلّوا. كما ثبت أصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم لم يتلعثموا ولم يبهتوا ولم تحيّرهم أهوال الحشر. وقيل: معناه الثبات عند سؤال القبر.
فعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» قال: فذلك قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ.. رواه الشيخان «١» وأهل السنن.
وعليه، فتفسير الآخرة بالقبر، لكون الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا.
وقال في أصحاب المثل الثاني:
وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ أي: يخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبّت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم، ووصفهم بالظلم لوضعهم الشيء في غير موضعه، أو لظلمهم أنفسهم حيث بدلوا فطرة الله التي فطر الناس عليها وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ أي: من التثبيت والإضلال حسبما تقتضيه حكمته البالغة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً يعني كفار مكة، أتتهم نعمة الله وهو التوحيد والإيمان والهداية ببعثة رسول من أنفسهم، فبدلوا شكرها كفرا عظيما وغمصا لها وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ أي: ممن أضلوه وصدوه عن الهدى فتابعهم
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير ١٤- سورة إبراهيم، ٢- باب يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، حديث ٧٢٥.
وأخرجه مسلم في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم ٧٣.
دارَ الْبَوارِ أي: الهلاك جَهَنَّمَ عطف بيان لها يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي من الأوثان فعبدوها لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أي: عن عبادته وحده قُلْ أي: تهديدا لأولئك الضالّين المضلين تَمَتَّعُوا أي: بشهوات الحياة الدنيا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٣١]
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١)
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ وهو يوم القيامة لا بَيْعٌ فِيهِ أي: ليتدارك به التقصير، أو يفتدى به وَلا خِلالٌ أي: مخالّة. مصدر بمعنى المصاحبة أي لا مفاداة فيه ولا خلة أحد بمغنية شيئا من شفاعة أو مسامحة بمال يفتدي به، كما قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.
[البقرة: ١٢٣].
قال الزمخشريّ: فإن قلت كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال؟ قلت: من قبل أن الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات فيعطون بدلا ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجرّوا بهداياهم أمثالها أو خيرا منها وأما الإنفاق لوجه الله خالصا، فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في اليوم لا بيع فيه ولا خلال. أي: لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالّة ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله. انتهى.
قال أبو السعود: والظاهر أن (من) متعلقة ب (أنفقوا) وتذكير إتيان ذلك اليوم لتأكيد مضمونه، من حيث أن كلّا من فقدان الشفاعة وما يتدارك به التقصير، معاوضة وتبرعا، وانقطاع آثار البيع والخلال الواقعين في الدنيا وعدم الانتفاع بهما- من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الإنفاق في سبيله تعالى. أو من حيث إن ادخار المال وترك إنفاقه، إنما يقع غالبا للتجارات والمهاداة.
فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة، فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت. وتخصيص التأكيد بذلك لميل الطباع إلى المال، وكونها مجبولة على حبّه والفتنة به. ولا يبعد
أن يكون تأكيدا لمضمون الأمر بإقامة الصلاة أيضا، من حيث إن تركها، كثيرا ما يكون بالاشتغال بالبيوع والمخالات. كما في قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: ١١]، ولما ذكر أحوال الكافرين لنعم الله تعالى، وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكرا لنعمه، شرع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام، حثا للمؤمنين عليها وتقريعا للكفرة المخلين بها، الواضعين موضعها الكفر والمعاصي، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٣٢]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي المزن ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ أي تعيشون به وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ أي السفن لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ أي بإرادته وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ أي فتجري حيث تشاؤون من شرب وسقي وسواهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٣٣]
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ أي يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي يتعاقبان خلفه، لمعاشكم وسباتكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٣٤]
وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي ما تحتاجون إليه مما تصلح أحوالكم ومعايشكم به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال.
وقال القاشاني: مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ بألسنة استعداداتكم، فإن كل شيء
يسأله بلسان استعداده. كما لا يفيض عليه مع السؤال بلا تخلف وتراخ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها لعدم تناهيها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ أي بوضع نور الاستعداد ومادة البقاء في ظلمة الطبيعة ومحل الفناء وصرفه فيها. أو بنقص حق الله أو حق نفسه بإبطال الاستعداد كَفَّارٌ أي بتلك النعم التي لا تحصى، باستعمالها في غير ما ينبغي أن يستعمل، وغفلته عن المنعم عليه به، واحتجابه بها عنه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٣٥]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ أي اذكر وقت قوله صلوات الله عليه.
قال أبو السعود: والمقصود من تذكيره، تذكير ما وقع فيه من مقالاته عليه السلام على نهج التفصيل. والمراد به تأكيد ما سلف من تعجبه عليه السلام ببيان فن آخر من جناياتهم، حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم، بعد ما كفروا بالنعم العامة.
وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام حيث أسكنهم بمكة، شرّفها الله تعالى، لإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى. وسأله تعالى أن يجعله بلدا آمنا ويرزقهم من الثمرات. وتهوي قلوب الناس إليهم من كل أوب سحيق.
فاستجاب الله دعاءه وجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء. فكفروا بتلك النعم العظام. واستبدلوا بالبلد الحرام دار البوار. وجعلوا لله أندادا وفعلوا ما فعلوا.
رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ يعني البلد الحرام، مكة المكرمة آمِناً أي ذا أمن. أو آمنا أهله. وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أي بعدني وإياهم أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٣٦]
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦)
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أي كنّ سببا في إضلالهم. كما يقال:
فتنتهم الدنيا وغرّتهم. إشارة إلى أنه افتتن بالأصنام خلائق لا تحصى. والجملة تعليل لدعائه. وإنما صدره بالنداء إظهارا لاعتنائه به، ورغبته في استجابته فَمَنْ تَبِعَنِي أي على ملتي وكان حنيفا مسلما مثلي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي أي فخالف ملتي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي فإنك ذو الأسماء الحسنى، والمجد الأسمى، الغنيّ عن الناس أجمعين. وتخصيص الاسمين إشارة إلى سبق الرحمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٣٧]
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي بعض أولادي. وهم إسماعيل ومن ولد منه بِوادٍ هو وادي مكة غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي لا يكون فيه زرع عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ أي الذي حرمت التعرض له والتهاون به رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي لكي يأتوا بعبادتك مقوّمة في ذلك الوضع. وهو متعلق ب أَسْكَنْتُ أي ما أسكنتهم هذا الوادي إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وحدك.
وتكرير النداء وتوسيطه لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة.
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقا.
فيأنسوا ويتعارفوا فيتآلفوا ويعودوا على بعضهم بالمنافع وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ أي فتجلبها إليهم التجار لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ أي: نعمة إقامتهم عند بيتك المحرم بالصلاة فيها، على كمال الإخلاص والتوحيد، مع فراغ القلب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٣٨]
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨)
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ لأن الكل خلقه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك: ١٤].
قال الزمخشري: المعنى: إنك أعلم، بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا، منا.
وأنت أرحم بنا منا بأنفسنا ولها. فلا حاجة إلى الدعاء والطلب. وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك، وتخشعا لعظمتك وتذللا لعزتك، وافتقارا إلى ما عندك، واستعجالا لنيل أياديك، وولها إلى رحمتك. وكما يتملق العبد بين يدي سيده رغبة في إصابة معروفه، مع توفر السيد على حسن الملكة.
وعن بعضهم: أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح. فأراد أن يذكّره فقال: مثلك لا يذكر استقصارا ولا توهما للغفلة عن حوائج السائلين. ولكنّ ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها. انتهى.
وجوّز في قوله تعالى: وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إلخ، أن يكون من كلامه تعالى، تصديقا لإبراهيم، أو من كلامه عليه السلام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٣٩]
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ أي ليقوما مقامي في الدعوة إليه تعالى وبث الحنيفية وإقامة الصلاة بعد ذهابي إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي مجيبه.
قال الزمخشري: وإنما ذكر حال الكبر، لأن المنّة بهبة الولد فيها أعظم، من حيث إنها حال وقوع اليأس من الولادة. والظفر بالحاجة، على عقب اليأس، من أجلّ النعم وأحلاها في نفس الظافر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤٠]
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ أي عبادتي، كذا في (التنوير).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤١]
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي مجازاة العباد على أعمالهم. قرئ وَلِوالِدَيَّ. بالإفراد وكأنّ هذا قبل تبين أمره له عليه السلام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤٢]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢)
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ يعني مشركي أهل مكة. أي لا تحسبه، إذا أنظرهم وأجّلهم، أنه غافل عنهم، مهمل لهم، لا يعاقبهم على عملهم، بل هو يحصيه عليهم ويعدّه عليهم عدا. وفيه تسلية للرسول صلوات الله عليه، ووعد له أكيد، ووعيد للكفرة وسائر الظالمين شديد.
إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ أي بإمهالهم متمتعين بشهواتهم، ولا يعجل عقوبتهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي ترتفع فيه أبصار أهل الموقف، لهول ما يرون. فلا تقرّ أعينهم في أماكنها ولا تطرف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤٣]
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣)
مُهْطِعِينَ أي مسرعين إلى الداعي الذي يدعوهم إلى المحشر. وهذا بيان لكيفية قيامهم من قبورهم، وعجلتهم إلى المحشر كقوله تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [القمر: ٨]، وقوله: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [المعارج: ٤٣].
مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعيها إلى السماء لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي لا يطرفون. ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أي لا قوة فيها ولا ثبات، لشدة الفزع.
قال الزمخشري: الهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، فوصف به. فقيل: قلب فلان هواء، إذا كان جبانا لا قوة في قلبه ولا جراءة. ويقال للأحمق أيضا: قلبه هواء.
والمعنى: أن القلوب يومئذ زائلة عن أماكنها. والأبصار شاخصة. والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته وخوف ما يقع فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤٤]
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤)
قوله: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ يعني يوم القيامة فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا أي ردّنا إلى الدنيا وأمهلنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي أمد من الزمان قريب نُجِبْ دَعْوَتَكَ أي إلى الإقرار بتوحيدك وأسمائك الحسنى. وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أي فيما دعونا إليه من الشرائع.
أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ على إضمار القول. أي فيقال لهم توبيخا وتبكيتا-:
أو لم تكونوا تحلفون مِنْ قَبْلُ يعني في الدنيا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ أي من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء. كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: ٣٨].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤٥]
وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ كعاد وثمود وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ أي بما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم وما تواتر عندكم من أخبارهم وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم. أي ومع ذلك فلم يكن لكم فيهم معتبر ولا مزدجر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤٦]
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦)
وَقَدْ مَكَرُوا أي بالنبيّ صلوات الله عليه مَكْرَهُمْ أي العظيم أي الذي استفرغوا فيه جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي جزاء مكرهم إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ أي في العظم والشدة لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ أي مسوّى ومعدّا لإزالة الجبال عن مقارّها، لتناهي شدته.
وجوّز في (إن) كونها نافية واللام مؤكدة له. والمعنى: ومحال أن تزول الجبال بمكرهم. على أن الجبال مثل (أي استعارة تمثيلية) لآيات الله وشرائعه. لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتا وتمكنا. وينصره قراءة ابن مسعود: (وما كان مكرهم) وقرئ لِتَزُولَ بلام الابتداء أي هو من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤٧]
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ أي من نصرهم المبين في قوله تعالى:
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر: ٥١]، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:
٢١]، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور: ٥٥] الآية.
واستظهر أبو السعود: أن المعنى بالوعد هنا عذابهم الأخروي المتقدم في قوله تعالى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ إلخ [إبراهيم: ٢٢]، ولا يخفى أن الوعد قد بين في مثل الآية الأخيرة والأوليين، في معناها. والبيان يرفع اللبس وإنما أوثر تقديم المفعول الثاني، أعني (وعده)، على الأول وهو (رسله) للإيذان بالعناية به،. فإن الآية في سياق الإنذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله به على ألسنة الرسل. فالمهمّ في التهديد ذكر الوعيد. كذا في (الانتصاف).
وفي (الكشف) تقديمه للاعتناء به وكونه المقصود بالإفادة. وما ذكره ممن وقع الوعد على لسانه، إنما ذكر بطريق التبع للإيضاح، والتفصيل بعد الإجمال. وهو من أسلوب الترقي كما في قوله: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه: ٢٥]. وإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي غالب لا يماكر ذُو انتِقامٍ من أعدائه، نصرا لأوليائه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤٨]
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وذلك أنه تسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوّى، فلا يرى فيها عوج ولا أمت. وتبدل السموات بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبوابا و (يوم) بدل من (يوم يأتيهم) أو ظرف للانتقام أو مقدر ب (اذكر) أو (لا يخلف وعده).
وَبَرَزُوا أي الخلائق أو الظالمون من أجداثهم لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي لحسابه وجزائه.
قال أبو السعود: والتعرض للوصفين لتهويل الخطب وتربية المهابة وإظهار بطلان الشرك وتحقيق الانتقام في ذلك اليوم على تقدير كونه ظرفا له. وتحقيق إتيان العذاب الموعود على تقدير كونه بدلا من (يوم يأتيهم العذاب) فإن الأمر إذا كان لواحد غلّاب، كان في غاية الشدة والصعوبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤٩]
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ جمع (مقرّن) وهو من جمع في قرن (بفتحتين) الوثاق الذي يربط به. أي قرن بعضهم مع بعض حسب اقترانهم في
الجرائم والفساد. فيجمع بين النظراء والأشكال منهم، كل صنف إلى صنف. كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: ٢٢]. وقال: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير: ٧]، أو: قرنوا مع الشياطين، لقوله تعالى: لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ [مريم: ٦٨]، أو قرنت أيدهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. وقوله تعالى: فِي الْأَصْفادِ أي القيود أو الأغلال جمع صفد (بفتحتين) بمعنى القيد أو الغل. والقيد هو الذي يوضع في الرجل. والغل (بالضم) ما في اليد والعنق وما يضم به اليد والرجل إلى العنق. والجارّ متعلق ب مُقَرَّنِينَ أو حال من ضميره أي مصفدين وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٥٠]
سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠)
سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ تشبيه لهم بأكره ما يوجد منظرا عند العرب. وهو الإبل الجربى التي تطلى بالقطران. وإعلام بأن لهم أعظم ما ينال الجلد داء وهو تقرحه بالجرب. وأخبث ما يكون دواء لقبحه لونا وريحا، وهو القطران. فإنه أسود منتن الريح.
قال الزمخشري: تطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص لتجتمع عليهم الأربع: لذع القطران، وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين.
وكل ما وعده الله وأوعد به في الآخرة فبينه وبين ما نشاهده من جنسه ما لا يقادر قدره. وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي. والمسميات ثمة. فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه. ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه. انتهى.
ويؤيد ما بيناه من أن في الآية إشارة إلى ابتلائهم بجرب جهنم: ما
رواه الإمام أحمد «١» ومسلم «٢» عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر بالأحساب. والطعن في الأنساب.
والاستسقاء بالنجوم. والنياحة على الميت. والنائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب.
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٥/ ٣٤٢.
(٢) أخرجه مسلم في: صحيحه في: الجنائز، حديث ٢٩.
324
وقد وقفت على رسالة لشمس البلغاء الخوارزمي أنفذها لمن شكا إليه داء الجرب. جاء منها قوله: الجرب حكة مادتها يبوسة وحرارة ووقود والتهاب. وعسكر من عساكر البلاء تمده القذارة. كما تزيد فيه اليبوسة والحرارة. وعلة تدل على تضييع واجب النفس من التعهد. وعلى التفريط في العلاج والتفقد. تنطق بأن صاحبها ضعيف المنّة في التوفي. أسير في يد الحرص والتشهّي. غاشّ لنفسه. قليل البقيا على روحه. وهذه العلة تكسب صاحبها خزيا وحياء. وتورثه خجلا واسترخاء ينظر إلى الناس بعين المريب. ويتستر عنهم كتستر المعيب. تنفر عنه الطباع، وتستقذره النفوس. وتنبو عن مواكلته العيون. وأقل ما يصيبه أنه يحرم آلة المطاعم وهي يداه. وآلة اللقاء والزيارة وهي رجلاه. ولو لم يكن من دقائق آفاتها. ومن عجيب هباتها. إلا أنها تشيخ الفتيان. وتمسخ الإنسان. وتجعله أمّيا بعد أن كان غير أمّي.
وأعجميّا وليس بأعجميّ. تنفر عن نفسه نفسه. وتهرب من فراشه عرسه. ويتباعد عنه أقرب الناس منه. ثم هي ربع من أرباع الخذلان وقسم من أقسام الحرمان. قال الشاعر:
أعاذك الله من أشياء أربعة:... الموت والعشق والإفلاس والجرب
وما الظن بداء قد سارت به الأمثال وقيلت فيه، دون سائر الأدواء، الأقوال.
قال أبو تمام:
لما رأت أختها بالأمس قد خربت... كان الخراب لها أعدى من الجرب
وقال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فجعله رأس الأدواء. ووصفه بأنه غاية البلاء. انتهى. وقوله تعالى:
وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تعلوها وتحيط بها النار التي تمسّ جسدهم المسربل بالقطران. وتخصيص الوجوه لكونها أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه.
كالقلب في باطنه ولذلك قال: تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: ٧]، ولكونها مجمع الحواس التي خلقت لإدراك الحق. وقد أعرضوا عنه، ولم يستعملوها في تدبره. كما أن الفؤاد أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة، قد ملؤوها بالجهالات. أفاده الزمخشري وأبو السعود.
325
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٥١]
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ الجار متعلق بمحذوف. أي يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي إلخ. و (النفس) مخصوصة بالنفس المجرمة بقرينة المقام. أو عام للبرة والفاجرة. وعليه فيجوز تعلقه بقوله وَبَرَزُوا وما بينهما اعتراض أو ب (ترى) إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي محاسبة الخلائق يوم القيامة. لأنه لا يشغله شأن عن شأن. وجميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم. كقوله:
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: ٢٨]، أو المعنى سريع حسابه أي مجيئه كقوله: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: ١]، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة إبراهيم (١٤) : آية ٥٢]
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)
هذا إشارة إلى القرآن أو السورة وقوله بَلاغٌ لِلنَّاسِ أي كفاية لهم لما فيه من العظة والتذكير. وقوله وَلِيُنْذَرُوا بِهِ أي ليخوّفوا وليوعظوا به عن الجرائم التي أخذ بها الأولون وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي يستدلوا بما فيه من الحجج والدلائل على أنه لا إله إلا هو. وإنما قدم إنذارهم لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به، دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد. لأن الخشية أم الخير كله. أفاده الزمخشريّ: وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي ليتعظ به ذوو العقول، فيقبلوا على ما فيه نجاتهم وسعادتهم.
326
بسم الرحمن الرحيم
سورة الحجر
سميت بها لاشتمالها على قوله تعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ [الحجر: ٨٠]، إلى قوله: ما كانُوا يَكْسِبُونَ الدال على مؤاخذتهم لمجرد تكذيب الرسل والإعراض عن آيات الله، بأدنى وجوه المؤاخذة، مع غاية تحصنهم. ففيه غاية تعظيم الرسل والآيات. وهو من أعظم مقاصد القرآن: أفاده المهايميّ. وهي مكية وآياتها تسع وتسعون.
327
Icon