تفسير سورة الكهف

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سُورَة الكَهْفٍ
فِيهَا عِشْرُونَ آيَة

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾.
قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ من الرِّزْقِ ﴾ فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إذًا أَبَدًا ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ ﴾ هَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ، وَهُوَ عَقْدُ نِيَابَةٍ أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَقِيَامِ الْمَصْلَحَةِ بِهِ، إذْ يَعْجَزُ كُلُّ أَحَدٍ عَنْ تَنَاوُلِ أُمُورِهِ إلَّا بِمَعُونَةٍ من غَيْرِهِ، أَوْ يَتَرَفَّهُ فَيَسْتَنِيبُ مَنْ يُرِيحُهُ، حَتَّى جَازَ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ ؛ لُطْفًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَرِفْقًا بِضَعَفَةِ الْخَلِيقَةِ، ذَكَرَهَا اللَّهُ كَمَا تَرَوْنَ، وَبَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَهُوَ أَقْوَى آيَةٍ فِي الْغَرَضِ.
وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ من الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ﴾ وَبِقَوْلِهِ :﴿ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا ﴾. وَآيَةُ الْقَمِيصِ ضَعِيفَةٌ، وَآيَةُ الْعَامِلِينَ حَسَنَةٌ. وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ :( أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْت لَهُ : إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ : ائْتِ وَكِيلِي، فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنْ ابْتَغَى مِنْك آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ ).
وَقَدْ وَكَّلَ عُمَرَ بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ عَلَى عَقْدِ نِكَاحِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، وَوَكَّلَ أَبَا رَافِعٍ عَلَى نِكَاحِ مَيْمُونَةَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَوَكَّلَ حَكِيمَ بْنُ حِزَامٍ عَلَى شِرَاءِ شَاةٍ، وَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، تَحْرِيرُهُ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِثَالًا :
الْأَوَّلُ : الطَّهَارَةُ : وَهِيَ عِبَادَةٌ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا فِي صَبِّ الْمَاءِ خَاصَّةً عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَلَا تَجُوزُ عَلَى عَرْكِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَضِّئُ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. الثَّانِي : النَّجَاسَةُ.
الثَّالِثُ : الصَّلَاةُ : وَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا بِحَالٍ بِإِجْمَاعٍ من الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّيهَا الْمُكَلَّفُ، وَلَوْ بِأَشْفَارِ عَيْنَيْهِ إشَارَةً، إلَّا فِي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ.
الرَّابِعُ : الزَّكَاةُ : وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي أَخْذِهَا وَإِعْطَائِهَا.
الْخَامِسُ : الصِّيَامُ : وَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ بِحَالٍ، إلَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجُمْلَةٍ من السَّلَفِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
السَّادِسُ الِاعْتِكَافُ وَهُوَ مِثْلُهُ.
السَّابِعُ : الْحَجُّ.
الثَّامِنُ : الْبَيْعُ : وَهِيَ الْمُعَاوَضَةُ وَأَنْوَاعُهَا.
التَّاسِعُ : الرَّهْنُ.
الْعَاشِرُ : الْحَجْرُ : يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَ الْحَاكِمُ مَنْ يَحْجُرُ وَيُنَفِّذُ سَائِرَ الْأَحْكَامِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ، وَالضَّمَانُ، وَالشَّرِكَةُ، وَالْإِقْرَارُ، وَالصُّلْحُ، وَالْعَارِيَّةُ ؛ فَهَذِهِ سِتَّةَ عَشَرَ مِثَالًا. وَأَمَّا الْغَصْبُ : فَإِنْ وَكَّلَ فِيهِ كَانَ الْغَاصِبُ الْوَكِيلَ دُونَ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُحَرَّمٍ فِعْلُهُ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الشُّفْعَةُ، وَالْقَرْضُ، وَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي اللُّقَطَةِ.
وَأَمَّا قَسْمُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَتَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ. وَالنِّكَاحُ وَأَحْكَامُهُ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، كَالطَّلَاقِ. وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ لَا وَكَالَةَ فِيهِ. وَأَمَّا اللِّعَانُ : فَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ فِيهِ بِحَالٍ.
وَأَمَّا الظِّهَارُ : فَلَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ من الْقَوْلِ وَزُورٌ، وَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ. وَالْخِيَانَاتُ : لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِيهَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ من أَنَّهَا بَاطِلٌ وَظُلْمٌ، وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ عَلَى طَلَبِ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَائِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الدِّيَةِ، وَلَا وَكَالَةَ فِي الْقَسَامَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ. وَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي الزَّكَاةِ، وَفِي الْعِتْقِ وَتَوَابِعِهِ إلَّا فِي الِاسْتِيلَادِ ؛ فَهَذِهِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِثَالًا، تَكُونُ دُسْتُورًا لِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهَا إلَّا يَسِيرُ فَرْعٍ لَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ الْمُشْتَرَكِ وَأَكْلِهِ عَلَى الْإِشَاعَةِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قَالُوهُ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ أَعْطَاهُ وَرِقَهُ مُفْرَدًا، فَلَا يَكُونُ فِيهِ اشْتِرَاكٌ، وَلَا مُعَوِّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا عَلَى حَدِيثَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِقَوْمٍ يَأْكُلُونَ تَمْرًا، فَقَالَ :( نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِقْرَانِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ ).
الثَّانِي : حَدِيثُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَيْشِ الْخَبَطِ ( وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُمْ وَفَقَدُوا الزَّادَ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَجُمِعَتْ، فَكَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا ). وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الظُّهُورِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو عُبَيْدَةَ كَانَ يُعْطِيهِمْ كَفَافًا من ذَلِكَ الْقُوتِ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ عَلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَحَادِيثَ ذَلِكَ وَمَسَائِلَهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ نُكْتَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْوَكَالَةَ فِيهَا إنَّمَا كَانَتْ مَعَ التَّقِيَّةِ وَخَوْفِ أَنْ يَشْعُرَ بِهِمْ أَحَدٌ لَمَّا كَانُوا يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ، وَجَوَازُ تَوْكِيلِ ذِي الْعُذْرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ. وَكَانَ سَحْنُونٌ قَدْ تَلَقَّفَهُ عَنْ أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ، فَحَكَمَ بِهِ أَيَّامَ قَضَائِهِ. وَلَعَلَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِأَهْلِ الظُّلْمِ وَالْجَبَرُوتِ ؛ إنْصَافًا مِنْهُمْ، وَإِرْذَالًا بِهِمْ. وَهُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ مَعُونَةٌ، وَلَا تَكُونُ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي ذَلِكَ قَائِمٌ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ من الْحُقُوقِ الَّتِي تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا، فَجَازَتْ الْوَكَالَةُ عَلَيْهِ ؛ أَصْلُهُ دَفْعُ الدَّيْنِ. وَمُعَوِّلُهُمْ عَلَى أَنَّ الْحُقُوقَ تَخْتَلِفُ، وَالنَّاسُ فِي الْأَخْلَاقِ يَتَفَاوَتُونَ، فَرُبَّمَا أَضَرَّ الْوَكِيلُ بِالْآخَرِ.
قُلْنَا : وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا فَيَنْظُرُ لِنَفْسِهِ فِيمَنْ يُقَاوِمُ خَصْمَهُ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ، فَرَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ جَوَازُ النِّيَابَةِ فِي الْإِطْلَاقِ، وَلِلْوَكَالَةِ مَسَائِلُ يَأْتِي فِي أَبْوَابِهَا ذِكْرُ فُرُوعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ﴾
قِيلَ : أَرَادَ أَكْثَرَ. وَقِيلَ : أَرَادَ أَطْهَرَ، يَعْنِي أَزْكَى وَأَحَلَّ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَبْعِدَ طَلَبَهُ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من بَابِ النَّهَامَةِ، وَإِنَّمَا مَحْمَلُهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ مُرَادًا فَمَعْنَاهُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ رِزْقَهُمْ كَانَ من عَدَدِهِمْ، فَاحْتَاجُوا إلَى وَضْعٍ فِي الْمَطْعُومِ لِيَقُومَ بِهِمْ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ من طَلَبِ الطَّهَارَةِ بَيِّنٌ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ من هَذَا رَشَدًا ﴾
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ : قَالَ أَبُو جَهْلٍ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاَللَّهِ مَا أَرَانَا إلَّا قَدْ أُعْذِرْنَا فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ من بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاَللَّهِ لَئِنْ أَصْبَحْت، ثُمَّ صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي صَلَاتِهِ، لَقَدْ أَخَذْت صَخْرَةً، ثُمَّ رَضَخْت رَأْسَهُ فَاسْتَرَحْنَا مِنْهُ، فَامْنَعُونِي عِنْدَ ذَلِكَ، أَوْ أَسْلِمُونِي. قَالُوا : يَا أَبَا الْحَكَمِ، وَاَللَّهِ لَا نُسْلِمُك أَبَدًا.
فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تِلْكَ اللَّيْلَةِ غَدَا إلَى مُصَلَّاهُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَغَدَا أَبُو جَهْلٍ مَعَهُ حَجَرٌ، وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهِمْ يَنْظُرُونَ مَا يَصْنَعُ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ بِذَلِكَ الْحَجَرِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مُنْهَزِمًا مُنْتَقَعًا لَوْنُهُ، كَادَتْ رُوحُهُ تُفَارِقُهُ، فَقَامَ إلَيْهِ نَفَرٌ من قُرَيْشٍ مِمَّنْ سَمِعَ مَا قَالَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، قَالُوا : يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَالَك ؟ فَوَاَللَّهِ لَقَدْ كُنْت مُجِدًّا فِي أَمْرِك، ثُمَّ رَجَعْت بِأَسْوَإِ هَيْئَةٍ رَجَعَ بِهَا رَجُلٌ، وَمَا رَأَيْنَا دُونَ مُحَمَّدٍ شَيْئًا يَمْنَعُهُ مِنْك. فَقَالَ : وَيْلَكُمْ، وَاَللَّهِ لَعَرَضَ دُونَهُ لِي فَحْلٌ من الْإِبِلِ، مَا رَأَيْت مِثْلَ هَامَتِهِ وَأَنْيَابِهِ وَقَصَرَتِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، يَخْطِرُ دُونَهُ، لَوْ دَنَوْت لَأَكَلَنِي. فَلِمَا قَالَهَا أَبُو جَهْلٍ قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاَللَّهِ لَقَدْ نَزَلَ بِسَاحَتِكُمْ أَمْرٌ مَا أَرَاكُمْ اُبْتُلِيتُمْ بِهِ قَبْلَهُ، قُلْتُمْ لِمُحَمَّدٍ : شَاعِرٌ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ. وَقُلْتُمْ : كَاهِنٌ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ. وَقُلْتُمْ سَاحِرٌ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ. وَقُلْتُمْ : مَجْنُونٌ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ. وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ : أَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً، وَخَيْرَكُمْ جِوَارًا، حَتَّى بَلَغَ من السِّنِّ مَا بَلَغَ، فَأَبْصِرُوا بَصَرَكُمْ، وَانْتَبِهُوا لِأَمْرِكُمْ. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : هَلْ أَنْتَ يَا نَضْرُ خَارِجٌ إلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِيَثْرِبَ، وَنَبْعَثُ مَعَك رَجُلًا ؛ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ نَحْنُ وَمُحَمَّدٌ فِيهِ، تَسْأَلُهُمْ، ثُمَّ تَأْتِينَا عَنْهُمْ بِمَا يَقُولُونَ ؟ قَالَ : نَعَمْ. فَخَرَجُوا، وَبَعَثُوا مَعَهُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، فَقَدِمَا عَلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ، فَوَصَفَا لَهُمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَدْعُوهُمْ إلَيْهِ، وَخِلَافَهُمْ إيَّاهُ، فَقَالُوا لَهُمَا : سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ، نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ : سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ مَضَوْا فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ خَبَرٌ وَنَبَأٌ، وَحَدِيثٌ مُعْجِبٌ، وَأَخْبَرُوهُمْ خَبَرَهُمْ. وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ قَدْ بَلَغَ من الْبِلَادِ مَا لَمْ يَبْلُغْ غَيْرُهُ من مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا يُقَالُ لَهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ، وَأَخْبَرُوهُمْ خَبَرَهُ. وَسَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ مَا هُوَ ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ فَالرَّجُلُ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ كَذَّابٌ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ. فَقَدِمَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ عَلَى قُرَيْشٍ مَكَّةُ، فَقَالَا : قَدْ أَتَيْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، أَمَرَتْنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ ثَلَاثَةٍ أُمُورٍ، فَإِنْ أَخْبَرَنَا بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَالرَّجُلُ كَذَّابٌ. فَمَشَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ؛ أَخْبِرْنَا عَنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ، نَسْأَلُك عَنْهَا، فَإِنْ أَخْبَرْتنَا عَنْهَا فَأَنْتَ نَبِيٌّ. أَخْبِرْنَا عَنْ فِتْيَةٍ مَضَوْا فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ مُعْجِبٌ، وَعَنْ رَجُلٍ طَوَافٍ بَلَغَ من الْبِلَادِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ غَيْرُهُ، وَعَنْ الرُّوحِ مَا هُوَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( غَدًا أُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ )، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَمَكَثَ عَنْهُ جِبْرِيلُ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، مَا يَأْتِيهِ، وَلَا يَرَاهُ حَتَّى أَرْجَفَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، قَالُوا : إنَّ مُحَمَّدًا وَعَدَنَا أَنْ يُخْبِرَنَا عَمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ غَدًا، فَهَذِهِ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، فَكَبُرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُبْثُ جِبْرِيلُ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ بِسُورَةِ الْكَهْفِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَقَدْ احْتَبَسْت عَنِّي يَا جِبْرِيلُ حَتَّى سُؤْت ظَنًّا ) فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ :﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّك ﴾. ثُمَّ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ. فَنَزَلَ فِي أَمْرِ الْفِتْيَةِ :﴿ أَمْ حَسِبْت أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ ﴾ إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. فَقَالَ حِينَ فَرَغَ من وَصْفِهِمْ، وَتَبَيَّنَ لَهُ خَبَرُهُمْ :﴿ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا ﴾. يَقُولُ لَا مُنَازَعَةَ، وَلَا تَبْلُغْ بِهِمْ فِيهَا جَهْدَ الْخُصُومَةِ، وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا، لَا الْيَهُودُ الَّذِينَ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَسْأَلُوك، وَلَا الَّذِينَ سَأَلُوا من قُرَيْشٍ، يَقُولُ : قَدْ قَصَصْنَا عَلَيْك خَبَرَهُمْ عَلَى حَقِّهِ وَصِدْقِهِ. وَنَزَلَ فِي قَوْلِهِ : أُخْبِرُكُمْ بِهِ غَدًا قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ أَيُخْبِرُهُمْ عَمَّا يَسْأَلُونَك عَنْهُ ؟ أَمْ يَتْرُكُهُمْ ؟ ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيت ﴾ الْآيَةَ. وَجَاءَهُ :﴿ وَيَسْأَلُونَك عَنْ الرُّوحِ ﴾ الْآيَةَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ نَادَاهُمْ الرُّوحُ جِبْرِيلُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : وَبَلَغَنَا ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ لَهُ أَحْبَارُ يَهُودَ : بَلَغَنَا يَا مُحَمَّدُ أَنَّ فِيمَا تَلَوْت - حِينَ سَأَلَك قَوْمُك عَنْ الرُّوحِ - وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا، فَإِيَّانَا أَرَدْت بِهَا أَمْ قَوْمَك ؟ فَقَالَ : كُلًّا أُرِيدُكُمْ بِهَا ). قَالُوا : أَوَلَيْسَ فِيمَا تَتْلُو : إنَّا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ فِيهَا بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ ؟ قَالَ :( بَلَى، وَالتَّوْرَاةُ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وَهِيَ عِنْدَكُمْ كَثِيرٌ مُجْزِئٌ ) فَيَذْكُرُونَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلْنَ عِنْدَ ذَلِكَ :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ من شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ ﴾ إلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ من قَبْلُ. وَهُوَ أَصَحُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا تَأْدِيبٌ من اللَّهِ لِرَسُولِهِ، أَمَرَهُ فِيهِ أَنْ يُعَلِّقَ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إذْ من دِينِ الْأُمَّةِ وَمِنْ نَفِيسِ اعْتِقَادِهِمْ " مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ " لَا جَرَمَ فَلَقَدْ تَأَدَّبَ نَبِيُّنَا بِأَدَبِ اللَّهِ حِينَ عَلَّقَ الْمَشِيئَةَ بِالْكَائِنِ لَا مَحَالَةَ، فَقَالَ يَوْمًا وَقَدْ خَرَجَ إلَى الْمَقْبَرَةِ :( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ). وَقَالَ أَيْضًا :( إنِّي وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَالَهُ الْمَرْءُ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي الِاعْتِقَادِ، فَهَلْ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً فِي الْيَمِينِ أَمْ لَا ؟
قَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ : يَكُونُ اسْتِثْنَاءً.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَأُسَامَةُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَالِكٍ. إنَّ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾. إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ وَلَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ دَلِيلًا ؛ لِأَنَّ رَبْطَ الْمَشِيئَةِ، وَذِكْرَهَا قَوْلًا من الْعَبْدِ لِفِعْلِ الْعَبْدِ، فَقَالَ لِعَبْدِهِ : لَا تَقُلْ إنِّي فَاعِلٌ شَيْئًا فِيمَا تَسْتَقْبِلُهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، تَقْدِيرُهُ عِنْدَ قَوْمٍ : إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. وَتَقْدِيرُهُ عِنْد آخَرِينَ : إلَّا أَنْ تَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ، وَهَذَا عَزْمٌ من اللَّهِ لِعَبْدِهِ عَلَى أَنْ يُدْخِلَ قَوْلًا وَعَقْدًا فِي مَشِيئَةِ رَبِّهِ، فَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ؛ وَقَوْلُ ذَلِكَ أَجْدَرُ فِي قَضَاءِ الْأَمْرِ، وَدَرْكِ الْحَاجَةِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي ﴾ الْآيَةَ :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَمْرٌ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَعْنَى التَّبَرُّكِ أَوْ التَّأْدِيبِ.
الثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ من مِيعَادِكُمْ.
فَإِنْ قِيلَ : وَأَيُّ قُرْبٍ، وَقَدْ فَاتَ الْأَجَلُ ؟
قُلْنَا : الْقُرْبُ هُوَ مَا أَرَادَ اللَّهُ وَقْتَهُ وَإِنْ بَعُدَ، وَالْبُعْدُ مَا لَمْ يُرِدْ اللَّهُ وَقْتَهُ وَإِنْ قَرُبَ. الثَّالِثُ : الْمَعْنَى إنَّكُمْ طَلَبْتُمْ مِنِّي آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى نُبُوَّتِي، فَأَخْبَرْتُكُمْ، فَلَمْ تَقْبَلُوا مِنِّي، فَعَسَى أَنْ يُعْطِيَنِي اللَّهُ مَا هُوَ أَقْرَبُ لِإِجَابَتِكُمْ مِمَّا سَأَلْتُمْ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ قَوْمٌ : أَيُّ فَائِدَةٍ لِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ حَقِيقٌ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ، وَكُلُّ أَحَدٍ قَدْ عَلِمَ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ.
قُلْنَا : عَنْهُ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَعَبُّدٌ من اللَّهِ، فَامْتِثَالُهُ وَاجِبٌ، لِالْتِزَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، وَانْقِيَادِهِ إلَيْهِ، وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ.
الثَّانِي : أَنَّ الْمَرْءَ قَدْ اشْتَمَلَ عَقْدُهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ مَا وَعَدَ بِفِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ وَاتَّصَلَ بِكَلَامِهِ فِي ضَمِيرِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِلَ ذَلِكَ من قَوْلِهِ فِي كَلَامِهِ بِلِسَانِهِ، حَتَّى يَنْتَظِمَ اللِّسَانُ وَالْقَلْبُ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ شِعَارُ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَتَعَيَّنَ الْإِجْهَارُ بِهِ، لِيُمَيَّزَ من أَهْلِ الْبِدْعَةِ.
الرَّابِعُ : أَنَّ فِيهِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا يَطْرَأُ فِي الْعَوَاقِبِ بِدَفْعٍ أَوْ تَأَتٍّ، وَرَفْعَ الْإِيهَامِ الْمُتَوَقَّعِ بِقَطْعِ الْعَقْلِ الْمُطْلَقِ فِي الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَهَذِهِ كَانَتْ فَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءِ دَخَلَتْ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ رُخْصَةً، وَبَقِيَتْ سَائِرُ الِالْتِزَامَاتِ عَلَى الْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَهُوَ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ. وَلَوْ قَالَهَا فِي الطَّلَاقِ لَمْ تَلْزَمْ ؛ لِأَنَّهُ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ الْمُلْتَزَمَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَالطَّلَاقِ فَلْيَرْفَعْهُ فِي الْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَتْ رُخْصَةً فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهَا فَلَا يُقَاسُ عَلَى الرُّخَصِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ حُجْزَةٌ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَالْبِدْعَةِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَدَّبَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِرَبْطِ الْأُمُورِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، تَقَدَّسَ تَعَالَى، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ : وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ حَقَّك غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَجَاءَ الْغَدُ وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا أَنَّهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي يَمِينِهِ، وَلَا يَلْحَقُهُ فِيهِ كَذِبٌ، وَالتَّأْخِيرُ مَعْصِيَةٌ من الْغَنِيِّ الْقَادِرِ، وَلَوْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يَشَأْ التَّأْخِيرَ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَهُوَ لَا يَشَاءُ الْمَعَاصِيَ، كَمَا يَقُولُونَ، إذَنْ كَانَ يَكُونُ الْحَالِفُ كَاذِبًا حَانِثًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ حَقَّك إنْ عِشْت غَدًا، فَعَاشَ فَلَمْ يُعْطِهِ كَانَ حَانِثًا كَاذِبًا.
وَعِنْدَ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ لِإِعْطَاءِ هَذَا الْحَالِفِ مَا عَلَيْهِ من الْحَقِّ أَمْرُهُ، وَقَدْ عُلِمَ حُصُولُ أَمْرِهِ بِذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءُ الْحَالِفِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْمَعْلُومِ حُصُولُهُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِثْنَاءِ الْحَالِفِ بِكُلِّ مَعْلُومٍ حُصُولُهُ، وَكَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ حَقَّك إنْ أَمَرَنِي اللَّهُ غَدًا بِذَلِكَ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، بَيْدَ أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ أَرَادَ إعْطَاءَ حَقِّ هَذَا إرَادَةً مُتَقَدِّمَةً لِلْأَمْرِ بِهِ، وَبِذَلِكَ صَارَ الْأَمْرُ أَمْرًا، وَهِيَ مُتَجَدِّدَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالْحَالِفُ كَاذِبٌ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ من أَقْوَالِهِمْ، حَانِثٌ.
وَقَدْ زَعَمَ الْبَغْدَادِيُّونَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ هِيَ تَقِيَّةُ الْعَبْدِ إلَى غَدٍ وَتَأْخِيرُهُ لَهُ، وَرَفْعُ الْعَوَائِقِ عَنْهُ. وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَوَجَبَ إذَا أَصْبَحَ الْحَالِفُ حَيًّا بَاقِيًا سَالِمًا من الْعَوَائِقِ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا حَانِثًا إذَا لَمْ يُعْطِهِ حَقَّهُ. وَقَدْ قَالُوا : إنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحِنْثُ إذَا قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ رُخْصَةً من الشَّرْعِ.
قُلْنَا : حُكَمَ الشَّرْعُ بِسُقُوطِ الْحَرَجِ وَالْحِنْثِ عَنْهُ إذَا قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبَقَائِهِ عَلَيْهِ إذَا قَالَ : إنْ أَبْقَانِي اللَّهُ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بَيِّنٌ مَعْنًى، كَمَا هُوَ بَيِّنٌ لَفْظًا ؛ إذْ لَوْ كَانَ مَعْنًى وَاحِدًا لَمَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إلْجَائِي إلَيْهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَوْ أَلْجَأَهُ إلَيْهِ لَمْ يُتَصَوَّرْ التَّكْلِيفُ فِيهِ بِالْإِلْزَامِ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ عِنْدَهُمْ مُحَالٌ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِمْ بِحَالٍ. وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بِأَعَمَّ من هَذَا التَّفْصِيلِ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ من دُونِهِ من وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ مَالِكٌ : الْكَهْفُ من نَاحِيَةِ الرُّومِ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ غَزْوَةَ الْمَضِيقِ نَحْوَ الرُّومِ، فَمَرَرْنَا بِالْكَهْفِ الَّذِي فِيهِ أَصْحَابُ الْكَهْفِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.
وَاسْمُ الْجَبَلِ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ بنجلوس. وَقَالَ الضَّحَّاكُ : الْكَهْفُ الْغَارُ فِي الْوَادِي، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَقَالَ قَوْمٌ : إنَّ الْكَهْفَ فِي نَاحِيَةِ الشَّامِ عَلَى قُرْبٍ من وَادِي مُوسَى، يَنْزِلُهُ الْحُجَّاجُ إذَا سَارُوا إلَى مَكَّةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ :﴿ أَمْ حَسِبْت أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ﴾. ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ بَابَ " حَدِيثُ الْغَارِ " وَذَكَرَ عَلَيْهِ خَبَرَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَاهُمْ الْمَطَرُ إلَى غَارٍ، وَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا :" وَاَللَّهِ لَا يُنْجِيكُمْ إلَّا الصِّدْقُ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْلِهِ :﴿ قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ﴾
هِيَ الْحُجَّةُ : لِأَنَّ قَوْلَهُ :﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ﴾ من كَلَامِهِمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا قَبْلُ سُكْنَى الْجِبَالِ وَدُخُولَ الْغِيرَانِ لِلْعُزْلَةِ عَنْ الْخَلْقِ وَالِانْفِرَادِ بِالْخَالِقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِيهِ جَوَازُ الْفِرَارِ من الظَّالِمِ : وَهِيَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَحِكْمَةُ اللَّهِ فِي الْخَلِيقَةِ. وَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ إنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْك مَالًا وَوَلَدًا ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الذِّكْرُ مَشْرُوعٌ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى النَّدْبِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ :( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ كُلَّ أَحْيَانِهِ ). وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ :( لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا ).
وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ إذَا دَخَلَ أَحَدُنَا مَنْزِلَهُ أَوْ مَسْجِدَهُ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ اللَّهُ :﴿ وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ﴾ أَيْ مَنْزِلَك قُلْت :﴿ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ﴾. قَالَ أَشْهَبُ : قَالَ مَالِكٌ : يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ لِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ : رَأَيْت عَلَى بَابِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مَكْتُوبًا ﴿ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ﴾.
وَرُوِيَ أَنَّ مَنْ قَالَ أَرْبَعًا أَمِنَ من أَرْبَعٍ، مَنْ قَالَ هَذِهِ أَمِنَ من هَذَا، وَمَنْ قَالَ : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أَمِنَ من كَيْدِ النَّاسِ لَهُ قَالَ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾.
وَمَنْ قَالَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ أَمَّنَهُ اللَّهُ من الْمَكْرِ. قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ الْعَبْدِ الصَّالِحِ أَنَّهُ قَالَ :﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾.
وَمَنْ قَالَ :﴿ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْت من الظَّالِمِينَ ﴾، أَمِنَ من الْغَمِّ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : مَا من أَحَدٍ يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ إلَّا رَضِيَ بِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ - مَا عَدَا اللَّهَ وَصِفَاتِهِ الْعُلَا - لَهُ أَوَّلٌ، فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ، مَا عَدَا نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ لَهُ آخِرٌ، وَكُلُّ مَا لَا آخِرَ لَهُ فَهُوَ الْبَاقِي حَقِيقَةً. وَلَكِنَّ الْبَاقِيَ بِالْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ. فَأَمَّا نَعِيمُ الْجَنَّةِ فَأُصُولٌ مُذْ خُلِقَتْ لَمْ تَفْنَ وَلَا تَفْنَى بِخَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَفُرُوعٌ وَهِيَ النِّعَمُ، هِيَ أَعْرَاضٌ إنَّمَا تُوصَفُ بِالْبَقَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ أَمْثَالَهَا يَتَجَدَّدُ من غَيْرِ انْقِطَاعٍ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَبْلُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ :﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ﴾ فَهَذَا فَنَاءٌ وَتَجْدِيدٌ، فَيَجْعَلُهُ بَقَاءً مَجَازًا بِالْإِضَافَةِ إلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَفْنَى فَلَا يَعُودُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَالْأَعْمَالُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ الْخَلْقِ من حَسَنٍ وَقَبِيحٍ لَا بَقَاءَ لَهَا، وَلَا تَجَدُّدَ بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ، فَهِيَ بَاقِيَاتٌ صَالِحَاتٌ وَطَالِحَاتٌ، حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْأَعْمَالُ أَسْبَابًا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَكَانَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ دَائِمَيْنِ لَا يَنْقَطِعَانِ، وَبَاقِيَيْنِ لَا يَفْنَيَانِ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ، وُصِفَتْ الْأَعْمَالُ بِالْبَقَاءِ، حَمْلًا مَجَازِيًّا عَلَيْهَا، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ من وَجْهِ تَسْمِيَةِ الْمَجَازِ.
وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِسَبَبِهِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ، أَوْ تَسْمِيَتُهُ بِفَائِدَتِهِ الْمَقْصُودَةِ بِهِ، فَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهَا خَيْرُ مَا فِي الدُّنْيَا من أَهْلٍ وَمَالٍ، وَعَمَلٍ وَحَالٍ فِي الْمَآلِ، فَقَالَ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّك ثَوَابًا من الْمَالِ وَالْبَنِينَ، وَخَيْرٌ أَمَلًا فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ إرَادَتَهُ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ بِهَذَا الْعُمُومِ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَهُوَ الَّذِي وَعَدَ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ عَيَّنُوا فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا، وَرَوَوْا فِيهِ أَحَادِيثَ، وَاخْتَارُوا من ذَلِكَ أَنْوَاعًا يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا، وَيَطُولُ إيرَادُهَا، أُمَّهَاتُهَا أَرْبَعَةٌ :
الْأَوَّلُ : رَوَى مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، " أَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ قَوْلُ الْعَبْدِ : اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ".
الثَّانِي : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِثْلَهُ.
الثَّالِثُ : مِثْلُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الرَّابِعُ : أَنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ ؛ وَبِهِ أَقُولُ، وَإِلَيْهِ أَمِيلُ، وَلَيْسَ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَمَّا أَنَّ فَضْلَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالْحَوْقَلَةِ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحِ كَثِيرٌ، وَلَا مِثْلَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي ذَلِكَ بِحِسَابٍ وَلَا تَقْدِيرٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾.
وَهِيَ آيَةٌ سَيَرْتَبِطُ بِهَا غَيْرُهَا ؛ لِأَنَّهُ حَدِيثُ الْخَضِرِ كُلُّهُ، وَذَلِكَ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَرْدِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ بِغَايَةِ الْإِيعَابِ، وَشَرَحْنَا مَسَائِلَهُ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَنَحْنُ الْآنَ هَاهُنَا لَا نَعْدُو مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَاتِ عَلَى التَّقْرِيبِ الْمُوجِزِ الْمُوعِبِ فِيهَا بِعَوْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ.
فَأَمَّا حَدِيثُهُ فَهُوَ مَا رَوَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَيْسَ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ، فَقَالَ : كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، سَمِعْت أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ :( سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَامَ مُوسَى خَطِيبًا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ ؟ فَقَالَ : أَنَا أَعْلَمُ. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا من عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْك. قَالَ مُوسَى : أَيْ رَبِّ، فَكَيْفَ لِي بِهِ ؟ فَقَالَ لَهُ : احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ فَثَمَّ هُوَ، وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَجَعَلَ مُوسَى حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَانْطَلَقَ وَفَتَاهُ يَمْشِيَانِ حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ، فَرَقَدَ مُوسَى وَفَتَاهُ، فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ حَتَّى خَرَجَ من الْمِكْتَلِ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ قَالَ : وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جَرْيَةَ الْمَاءِ، حَتَّى كَانَ مِثْلَ الطَّاقِ، وَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، وَنَسِيَ صَاحِبُ مُوسَى أَنْ يُخْبِرَهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ مُوسَى قَالَ لِفَتَاهُ :﴿ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا من سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾.
قَالَ : وَلَمْ يَنْصَبْ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ.
قَالَ :﴿ قَالَ أَرَأَيْتَ إذْ أَوَيْنَا إلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ﴾. قَالَ : فَكَانَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا. قَالَ سُفْيَانُ : يَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّ تِلْكَ الصَّخْرَةَ عِنْدَهَا عَيْنُ الْحَيَاةِ، وَلَا يُصِيبُ مَاؤُهَا مَيِّتًا إلَّا عَاشَ.
قَالَ : وَكَانَ الْحُوتُ قَدْ أَكَلَ مِنْهُ، فَلَمَّا قَطَرَ عَلَيْهِ الْمَاءُ عَاشَ.
قَالَ : فَقَصَّا آثَارَهُمَا حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ، فَرَأَى رَجُلًا مُسَجًّى عَلَيْهِ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ : إنِّي بِأَرْضِك السَّلَامِ ؟ قَالَ : أَنَا مُوسَى. قَالَ : مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : يَا مُوسَى، إنَّك عَلَى عِلْمٍ من عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ لَا أَعْلَمُهُ، وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ من عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ. فَقَالَ مُوسَى :﴿ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ﴾.
قَالَ لَهُ الْخَضِرُ :﴿ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَك مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ قَالَ : نَعَمْ.
فَانْطَلَقَ الْخَضِرُ وَمُوسَى يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمَاهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ، فَحَمَلُوهَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَعَمَدَ الْخَضِرُ إلَى لَوْحٍ من أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى. قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْت إلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا، لَقَدْ جِئْت شَيْئًا إمْرًا.
قَالَ :﴿ أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي من أَمْرِي عُسْرًا ﴾.
ثُمَّ خَرَجَا من السَّفِينَةِ، فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إذَا بِغُلَامٍ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ، فَقَتَلَهُ. قَالَ لَهُ مُوسَى :﴿ أَقَتَلْت نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ﴾.
قَالَ : وَهَذِهِ أَشَدُّ من الْأُولَى :﴿ إنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ من لَدُنِّي عُذْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاِتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا أَنَّهُ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا من أَخْبَارِهِمَا ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الْأُولَى كَانَتْ من مُوسَى نِسْيَانًا ).
قَالَ : وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، ثُمَّ نَقَرَ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ : مَا عِلْمِي وَعِلْمُك فِي عِلْمِ اللَّهِ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُورُ من الْبَحْرِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ : وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا. وَكَانَ يَقْرَأُ : وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ أُبَيٌّ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا ).
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ ؛ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ﴾
فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ يَخْدُمُهُ.
وَالثَّانِي : أَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهِ وَهُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونِ بْنِ أَفْرَائِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ.
وَإِنَّمَا سَمَّاهُ فَتَاهُ ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْفَتَى، وَهُوَ الْعَبْدُ ؛ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ ﴾ وَقَالَ :﴿ تُرَاوِدُ فَتَاهَا ﴾ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي ).
فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَبْدٌ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. وَفِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَا يُقْطَعُ بِهِ، فَالْوَقْفُ فِيهِ أَسْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِيهِ الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَقَدْ رَحَلَتْ الصَّحَابَةُ فِيهِ وَأُذِنَ لَهُمْ فِي التَّرَحُّلِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَضْلًا عَنْ الدِّينِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ من الْآيَةِ الثَّامِنَةِ :﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ﴾.
جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النِّسْيَانَ سَبَبًا لِلزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسِيرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ كَانَ كَتَبَ لَهُ لِقَاءَهُ، وَكَتَبَ الزِّيَادَةَ فِي السَّيْرِ عَلَى مَوْضِعِ اللِّقَاءِ، فَنَفَذَ الْكُلُّ ؛ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ عَلَى الْخَلْقِ فِي مَعَانِي الدِّينِ، وَهُوَ عَفْوٌ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ من الْآيَةِ التَّاسِعَةِ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا ﴾
بَيَّنَ ذَلِكَ جَوَازَ الِاسْتِخْدَامِ لِلْأَصْحَابِ أَوْ الْعَبِيدِ فِي أُمُورِ الْمَعَاشِ وَحَاجَةِ الْمَنَافِعِ، لِفَضْلِ الْمَنْزِلَةِ، أَوْ لِحَقِّ السَّيِّدِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ من الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا أَنْسَانِيهِ إلَّا الشَّيْطَانُ ﴾ : نَسِيَهُ يُوشَعُ، وَنَسِيَهُ أَيْضًا مُوسَى، وَنِسْبَةُ الْفَتَى نِسْيَانَهُ إلَى الشَّيْطَانِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ. وَلَا يُنْسَبُ نِسْيَانُ الْأَنْبِيَاءِ إلَى الشَّيْطَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا نِسْيَانُهُمْ أُسْوَةٌ لِلْخَلْقِ وَسُنَّةٌ فِيهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ﴾
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَصَارَ الْمَاءُ عَلَى الْحُوتِ مِثْلَ الطَّاقِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِمُوسَى، وَلَوْلَاهُ مَا عَلِمَ أَيْنَ فَقَدَ الْحُوتَ، وَلَا وَجَدَ إلَى لِقَاءِ الْمَطْلُوبِ سَبِيلًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ من الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ ﴾ : وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ تَبَعٌ لِلْعَالِمِ، وَلَوْ تَفَاوَتَتْ الْمَرَاتِبُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ من الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّك لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ﴾. حَكَمَ عَلَيْهِ بِعَادَةِ الْخَلْقِ فِي عَدَمِ الصَّبْرِ عَمَّا يَخْرُجُ من الِاعْتِيَادِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْحُكْمِ بِالْعَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ من الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَك أَمْرًا ﴾.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : اسْتَثْنَى فِي التَّصَبُّرِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَلَا جَرَمَ وَجَّهَ مَا اسْتَثْنَى فِيهِ، فَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرِقَ السَّفِينَةَ أَوْ يَقْتُلَ الْغُلَامَ لَمْ يَقْبِضْ يَدَهُ، وَلَا نَازَعَهُ، وَخَالَفَهُ فِي الْأَمْرِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ من الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ﴾. ذَكَرَ أَنَّ النِّسْيَانَ لَا يَقْتَضِي الْمُؤَاخَذَةَ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ من أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فِي طَلَاقٍ وَلَا غَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ من الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنْ سَأَلْتُك عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ﴾.
فَهَذَا شَرْطٌ، وَهُوَ لَازِمٌ، وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، وَأَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا الْتَزَمَهُ الْأَنْبِيَاءُ، أَوْ اُلْتُزِمَ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَهَذَا أَصْلٌ من الْقَوْلِ بِالشُّرُوطِ وَارْتِبَاطِ الْأَحْكَامِ بِهَا، وَهُوَ يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قَدْ بَلَغْتَ من لَدُنِّي عُذْرًا ﴾ هَذَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الِاعْتِذَارِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مُطْلَقًا، وَبِقِيَامِ الْحُجَّةِ من الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِالْقَطْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : صَبَرَ مُوسَى عَلَى قَتْلِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَهُ الْقَتْلَ، وَلَمْ يَغْتَرَّ لَمَّا كَانَ أَعْلَمَهُ من أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَلَوْ لَا ذَلِكَ مَا صَبَرَ عَلَى حَالٍ ظَاهِرُهَا الْمُحَالُ، وَكَانَ هُوَ أَعْلَمُ بِبَاطِنِهَا فِي الْمَآلِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ من الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ﴾.
وَصَلَا إلَى الْقَرْيَةِ مُحْتَاجَيْنِ إلَى الطَّعَامِ، فَعَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً، فَأَبَوْا عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَهَذَا سُؤَالٌ، وَهُوَ عَلَى مَرَاتِبَ فِي الشَّرْعِ، وَمَنَازِلَ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ.
وَهَذَا السُّؤَالُ من تِلْكَ الْأَقْسَامِ هُوَ سُؤَالُ الضِّيَافَةِ، وَهِيَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ هُنَالِكَ، وَسُؤَالُهَا جَائِزٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُمْ نَزَلُوا بِقَوْمٍ فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُهُمْ، فَسَأَلُوهُمْ : هَلْ من رَاقٍ، فَجَعَلُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ من الْغَنَمِ. . الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ.
وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَوَّزَ الْكُلَّ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى حِينَ سَقَى لِبِنْتَيْ شُعَيْبٍ أَجْوَعَ مِنْهُ حِينَ أَتَى الْقَرْيَةَ مَعَ الْخَضِرِ، وَلَمْ يَسْأَلْ قُوتًا ؛ بَلْ سَقَى ابْتِدَاءً، وَفِي الْقَرْيَةِ سَأَلَا الْقُوتَ، وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ انْفِصَالَاتٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا أَنَّ مُوسَى كَانَ فِي حَدِيثِ مَدْيَنَ مُنْفَرِدًا، وَفِي قِصَّةِ الْقَرْيَةِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ.
وَقِيلَ : كَانَ هَذَا سَفَرَ تَأْدِيبٍ فَوُكِلَ إلَى تَكْلِيفِ الْمَشَقَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَفَرَ هِجْرَةٍ فَوُكِلَ إلَى الْعَوْنِ وَالْقُوَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ من الْآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْت أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾.
فَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، وَفَرَّ من ذَلِكَ قَوْمٌ حَتَّى قَرَءُوهَا لِمَسَّاكِينَ - بِتَشْدِيدِ السِّينِ - من الِاسْتِمْسَاكِ، وَهَذَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا نَسَبَهُمْ إلَى الْمَسْكَنَةِ لِأَجْلِ ضَعْفِ الْقُوَّةِ، بَلْ عَدَمِهَا فِي الْبَحْرِ، وَافْتِقَارِ الْعَبْدِ إلَى الْمَوْلَى كَسْبًا وَخَلْقًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ لِلَّهِ فَلْيَرْكَبْ الْبَحْرَ.
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَك خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ :
الْخَرْجُ : الْجَزَاءُ وَالْأُجْرَةُ، وَكَانَ مَلِكًا يَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ، وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ جَزَاءً فِي أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ مَا يَجِدُونَهُ من عَادِيَةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَعَلَى الْمَلِكِ فَرْضُ أَنْ يَقُومَ بِحِمَايَةِ الْخَلْقِ فِي حِفْظِ بَيْضَتِهِمْ، وَسَدِّ فُرْجَتِهِمْ، وَإِصْلَاحِ ثَغْرِهِمْ من أَمْوَالِهِمْ الَّتِي تَفِيءُ عَلَيْهِمْ، وَحُقُوقِهِمْ الَّتِي يَجْمَعُهَا خَزَنَتُهُمْ تَحْتَ يَدِهِ وَنَظَرِهِ، حَتَّى لَوْ أَكْلَتهَا الْحُقُوقُ، وَأَنْفَدَتْهَا الْمُؤَنُ، وَاسْتَوْفَتْهَا الْعَوَارِضُ، لَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبْرُ ذَلِكَ من أَمْوَالِهِمْ، وَعَلَيْهِ حُسْنُ النَّظَرِ لَهُمْ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ :
الْأَوَّلُ : أَلَّا يَسْتَأْثِرَ بِشَيْءٍ عَلَيْهِمْ.
الثَّانِي : أَنْ يَبْدَأَ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ فَيُعِينُهُمْ.
الثَّالِثُ : أَنْ يُسَوِّيَ فِي الْعَطَاءِ بَيْنَهُمْ عَلَى مِقْدَارِ مَنَازِلِهِمْ، فَإِذَا فَنِيَتْ بَعْدَ هَذَا ذَخَائِرُ الْخِزَانَةِ وَبَقِيَتْ صِفْرًا فَأَطْلَعَتْ الْحَوَادِثُ أَمْرًا بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ قَبْلَ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ فَأَمْوَالُهُمْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَتُصْرَفُ بِأَحْسَنِ تَدْبِيرٍ.
فَهَذَا ذُو الْقَرْنَيْنِ لَمَّا عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَالَ قَالَ : لَسْت أَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَحْتَاجُ إلَيْكُمْ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ، أَيْ اخْدِمُوا بِأَنْفُسِكُمْ مَعِي، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ عِنْدِي وَالرِّجَالَ عِنْدَكُمْ ؛ وَرَأَى أَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تُغْنِي دُونَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إنْ أَخَذُوهَا أُجْرَةً نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَعَادَ عَلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ، فَكَانَ التَّطَوُّعُ بِخِدْمَةِ الْأَبْدَانِ أَوْلَى.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الْفَيْءِ وَالْخَرَاجِ وَالْأَمْوَالِ من شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا شَافِيًا، وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ من الْأَحْكَامِ، وَتَمَامُهُ هُنَالِكَ.
وَضَبْطُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَعْرِضُ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ الْمَالُ جَهْرًا لَا سِرًّا، وَيُنْفَقُ بِالْعَدْلِ لَا بِالِاسْتِئْثَارِ، وَبِرَأْيِ الْجَمَاعَةِ لَا بِالِاسْتِبْدَادِ بِالرَّأْيِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَةٌ : أَجَابَ اللَّهُ عَمَّا وَقَعَ التَّقْرِيرُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾. لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ من الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ، وَأَلْحَقُوا بِهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ، وَيَرْجِعُونَ فِي الْجُمْلَةِ إلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ :
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ : الْكُفَّارُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالتَّكْلِيفِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ زَيَّنَ لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ، إنْفَاذًا لِمَشِيئَتِهِ، وَحُكْمًا بِقَضَائِهِ، وَتَصْدِيقًا لِكَلَامِهِ.
الصِّنْفُ الثَّانِي : أَهْلُ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الدَّلِيلِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ كَأَهْلِ حَرُورَاءَ وَالنَّهْرَوَانِ، وَمَنْ عَمَل بِعَمَلِهِمْ الْيَوْمَ، وَشَغَبَ الْآنَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَشْغِيبَ أُولَئِكَ حِينَئِذٍ، فَهُمْ مِثْلُهُمْ وَشَرٌّ مِنْهُمْ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمًا، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ عَنْ آيَةٍ من كِتَابِ اللَّهِ إلَّا أَخْبَرْته، فَقَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا سَأَلَ عَنْهُ صُبَيْغُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ : مَا الذَّارِيَاتُ ذَرْوًا ؟ قَالَ عَلِيٌّ : الرِّيَاحُ. قَالَ : مَا الْحَامِلَاتُ وِقْرًا ؟ قَالَ : السَّحَابُ. قَالَ : فَمَا الْجَارِيَاتُ يُسْرًا ؟ قَالَ : السُّفُنُ. قَالَ : فَمَا الْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا ؟ قَالَ : الْمَلَائِكَةُ. قَالَ : فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى :﴿ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ﴾ قَالَ : ارْقَ إلَيَّ أُخْبِرْك. قَالَ : فَرَقَى إلَيْهِ دَرَجَتَيْنِ قَالَ : فَتَنَاوَلَهُ بِعَصًا كَانَتْ بِيَدِهِ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِهَا. ثُمَّ قَالَ : أَنْتَ وَأَصْحَابُك. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا نُبْذَةً مِنْهُ، وَتَمَامُهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ : الَّذِينَ أَفْسَدُوا أَعْمَالَهُمْ بِالرِّيَاءِ وَضَيَّعُوا أَحْوَالَهُمْ بِالْإِعْجَابِ، وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ فِي ذَلِكَ من قَبْلُ، وَيَلْحَقُ بِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ كَثِيرٌ، وَهُمْ الَّذِينَ أَفْنَوْا زَمَانَهُمْ النَّفِيسَ فِي طَلَبِ الْخَسِيسِ. كَانَ شَيْخُنَا الطُّوسِيُّ الْأَكْبَرُ يَقُولُ : لَا يَذْهَبُ بِكُمْ الزَّمَانُ فِي مُصَاوَلَةِ الْأَقْرَانِ وَمُوَاصَلَةِ الْإِخْوَانِ. وَقَدْ خَتَمَ الْبَارِي الْبَيَانَ، وَخَتَمَ الْبُرْهَانَ بِقَوْلِهِ :﴿ قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾.
ت ١٠٣
Icon