تفسير سورة الكهف

التبيان في إعراب القرآن
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب التبيان في إعراب القرآن .
لمؤلفه أبو البقاء العكبري . المتوفي سنة 616 هـ

سُورَةُ الْكَهْفِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ تَعَالَى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَيِّمًا) : فِيهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هُوَ حَالٌ مِنَ الْكِتَابِ، وَهُوَ مُؤَخَّرٌ عَنْ مَوْضِعِهِ ; أَيْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ قَيِّمًا ; قَالُوا: وَفِيهِ ضَعْفٌ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ بَعْضِ الصِّلَةِ وَبَعْضٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَمْ) : مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْزَلَ. وَقِيلَ: «قَيِّمًا» حَالٌ، «وَلَمْ يَجْعَلْ» حَالٌ أُخْرَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «قَيِّمًا» مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ ; تَقْدِيرُهُ: جَعَلَهُ قَيِّمًا ; فَهُوَ حَالٌ أَيْضًا. وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ أَيْضًا مِنَ الْهَاءِ فِي «وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ» وَالْحَالُ مُؤَكِّدَةٌ، وَقِيلَ: مُنْتَقِلَةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيُنْذِرَ) : أَيْ لِيُنْذِرَ الْعِبَادَ، أَوْ لِيُنْذِرَكُمْ. (مِنْ لَدُنْهُ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الدَّالِ وَسُكُونِ النُّونِ وَهِيَ لُغَةٌ. وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الدَّالِ وَكَسْرِ النُّونِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَلِسُ ضَمَّةَ الدَّالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَلِسُ كَسْرَةَ النُّونِ.
قَالَ تَعَالَى: (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَاكِثِينَ) : حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورِ فِي «لَهُمْ» وَالْعَامِلُ فِيهَا الِاسْتِقْرَارُ. وَقِيلَ: هُوَ صِفَةٌ لِأَجْرٍ، وَالْعَائِدُ: الْهَاءُ فِي «فِيهِ».
قَالَ تَعَالَى: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَبُرَتْ) : الْجُمْهُورُ عَلَى ضَمِّ الْبَاءِ، وَقَدْ أُسْكِنَتْ تَخْفِيفًا.
وَ (كَلِمَةً) : تَمْيِيزٌ وَالْفَاعِلُ مُضْمَرٌ ; أَيْ كَبُرَتْ مَقَالَتُهُمْ.
وَفِي (تَخْرُجُ) : وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ صِفَةٍ لِكَلِمَةٍ. وَالثَّانِي: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ ; تَقْدِيرُهُ: كَلِمَةٌ تَخْرُجُ ; لِأَنَّ كَبُرَ بِمَعْنَى بِئْسَ ; فَالْمَحْذُوفُ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ. وَ (كَذِبًا) : مَفْعُولُ «يَقُولُونَ» أَوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ قَوْلًا كَذِبًا.
وَ (أَسَفًا) : مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «بَاخِعٌ». وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ لَهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى «إِنْ لَمْ» بِالْكَسْرِ عَلَى الشَّرْطِ ; وَيُقْرَأُ بِالْفَتْحِ ; أَيْ لِأَنْ لَا يُؤْمِنُوا.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (زِينَةً) : مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى أَنَّ «جَعَلَ» بِمَعْنَى صَيَّرَ، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ، أَوْ حَالٌ عَلَى أَنَّ «جَعَلَ» بِمَعْنَى خَلَقَ.
قَالَ تَعَالَى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (١٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَمْ حَسِبْتَ) : تَقْدِيرُهُ: بَلْ أَحَسِبْتَ. (وَالرَّقِيمِ) : بِمَعْنَى الْمَرْقُومِ، عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ كِتَابًا.
وَ «عَجَبًا» خَبَرُ كَانَ. وَ (مِنْ آيَاتِنَا) : حَالٌ مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «عَجَبًا» حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْجَارِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ) : ظَرْفٌ لِـ «عَجَبًا». وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: اذْكُرْ إِذْ.
قَالَ تَعَالَى: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (١١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سِنِينَ) : ظَرْفٌ لِضَرَبْنَا، وَهُوَ بِمَعْنَى أَنَمْنَاهُمْ.
وَ (عَدَدًا) : صِفَةٌ لِسِنِينَ ; أَيْ مَعْدُودَةً ; أَوْ ذَوَاتِ عَدَدٍ. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ ; أَيْ تُعَدُّ عَدَدًا.
قَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (١٢))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) : مُبْتَدَأٌ. وَ «أَحْصَى» الْخَبَرُ، وَمَوْضِعُ الْجُمْلَةِ نَصْبٌ بِنَعْلَمَ، وَفِي «أَحْصَى» وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هُوَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَ «أَمَدًا» مَفْعُولُهُ، وَلِمَا لَبِثُوا: نَعْتٌ لَهُ قُدِّمَ عَلَيْهِ فَصَارَ حَالًا، أَوْ مَفْعُولًا لَهُ ; أَيْ لِأَجْلِ لُبْثِهِمْ. وَقِيلَ: اللَّامُ زَائِدَةٌ، وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَ «أَمَدًا» مَفْعُولُ لَبِثُوا، وَهُوَ خَطَأٌ. وَإِنَّمَا الْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا ; وَالتَّقْدِيرُ: لِمَا لَبِثُوهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ اسْمٌ، وَ «أَمَدًا» مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ ; وَجَاءَ «أَحْصَى» عَلَى حَذْفِ الزِّيَادَةِ، كَمَا جَاءَ: هُوَ أَعْطَى لِلْمَالِ، وَأَوْلَى بِالْخَيْرِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (١٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى (شَطَطًا) : مَفْعُولٌ بِهِ، أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: قَوْلًا شَطَطًا.
قَالَ تَعَالَى: (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (١٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَؤُلَاءِ) : مُبْتَدَأٌ، وَ (قَوْمُنَا) عَطْفُ بَيَانٍ، وَ «اتَّخَذُوا» : الْخَبَرُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (١٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) :«إِذْ» ظَرْفٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ... (وَمَا يَعْبُدُونَ) : فِي «مَا» ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ; أَحَدُهَا: هِيَ اسْمٌ بِمَعْنَى الَّذِي ; وَ «إِلَّا اللَّهَ» مُسْتَثْنًى مِنْ «مَا» أَوْ مِنَ الْعَائِدِ الْمَحْذُوفِ. وَالثَّانِي: هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ إِلَّا عِبَادَةَ اللَّهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا حَرْفُ نَفْيٍ، فَيَخْرُجُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هُوَ مُنْقَطِعٌ. وَالثَّانِي: هُوَ مُتَّصِلٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ إِلَّا عِبَادَةَ اللَّهِ، أَوْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ; فَقَدْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ مَعَ الْأَصْنَامِ، أَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ.
(مِرفَقًا) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ لِأَنَّهُ يُرْتَفَقُ بِهِ ; فَهُوَ كَالْمَنْقُولِ الْمُسْتَعْمَلِ مِثْلَ الْمِبْرَدِ وَالْمُنْخُلِ.
وَيُقْرَأُ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ ; أَيِ ارْتِفَاقًا.
وَفِيهِ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ فَتْحُهُمَا، وَهُوَ مَصْدَرٌ أَيْضًا مِثْلَ الْمَضْرَبِ وَالْمَنْزَعِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (١٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَزَاوَرُ) : يُقْرَأُ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ، وَأَصْلُهُ تَتَزَاوَرُ، فَقُلِبَتِ الثَّانِيَةُ زَايًا وَأُدْغِمَتْ.
وَيُقْرَأُ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى حَذْفِ الثَّانِيَةِ. وَيُقْرَأُ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِثْلَ تَحْمَرُّ، وَيُقْرَأُ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْوَاوِ، مِثْلَ تَحْمَارُّ. وَيُقْرَأُ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَيْنَ الْوَاوِ وَالرَّاءِ، مِثْلَ تَطْمَئِنُّ.
وَ (ذَاتَ الْيَمِينِ) : ظَرْفٌ لِتَزَاوَرُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (١٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنُقَلِّبُهُمْ) : الْمَشْهُورُ أَنَّهُ فِعْلٌ مَنْسُوبٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَيُقْرَأُ بِتَاءٍ وَضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ ; أَيْ وَنَرَى تَقَلُّبَهُمْ.
وَ (بَاسِطٌ) : خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَ «ذِرَاعَيْهِ» مَنْصُوبٌ بِهِ، وَإِنَّمَا عَمِلَ اسْمُ الْفَاعِلِ هُنَا وَإِنْ كَانَ لِلْمَاضِي لِأَنَّهُ حَالٌ مَحْكِيَّةٌ.
(لَوِ اطَّلَعْتَ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ عَلَى الْأَصْلِ، وَبِالضَّمِّ لِيَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْوَاوِ.
(فِرَارًا) : مَصْدَرٌ، لِأَنَّ وَلَّيْتَ بِمَعْنَى فَرَرْتَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ.
(لَمُلِئْتَ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ.
وَ (رُعْبًا) : مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَقِيلَ: تَمْيِيزٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (١٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ; أَيْ وَبَعَثْنَاهُمْ كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ.
وَ (كَمْ) : ظَرْفٌ، وَ «بِوَرِقِكُمْ» فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ; وَالْأَصْلُ فَتْحُ الْوَاوِ وَكَسْرُ الرَّاءِ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِ وَبِإِظْهَارِ الْقَافِ عَلَى الْأَصْلِ، وَبِإِدْغَامِهَا لِقُرْبِ مَخْرَجِهَا مِنَ الْكَافِ ; وَاخْتِيرَ الْإِدْغَامُ لِكَثْرَةِ الْحَرَكَاتِ وَالْكَسْرَةِ.
وَيُقْرَأُ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَبِإِسْكَانِهَا وَكَسْرِ الْوَاوِ عَلَى نَقْلِ الْكَسْرَةِ إِلَيْهَا، كَمَا يُقَالُ: فَخْذٌ وَفَخِذٌ.
(أَيُّهَا أَزْكَى) : الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْفِعْلُ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي اللَّفْظِ.
وَ (طَعَامًا) : تَمْيِيزٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (٢١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ يَتَنَازَعُونَ) :«إِذْ» ظَرْفٌ لِيَعْلَمُوا، أَوْ لِأَعْثَرْنَا، وَيَضْعُفُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ الْوَعْدُ ; لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَعْنَى «حَقٍّ».
(بُنْيَانًا) : مَفْعُولٌ، وَهُوَ جَمْعُ بُنْيَانَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ.
قَالَ تَعَالَى: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٢٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثَلَاثَةٌ) : يُقْرَأُ شَاذًّا بِتَشْدِيدِ التَّاءِ عَلَى أَنَّهُ سَكَّنَ الثَّاءَ وَقَلَبَهَا تَاءً وَأَدْغَمَهَا فِي تَاءِ التَّأْنِيثِ، كَمَا تَقُولُ: ابْعَتْ تِلْكَ.
(وَرَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) :«رَابِعُهُمْ» مُبْتَدَأٌ وَ «كَلْبُهُمْ» خَبَرُهُ. وَلَا يَعْمَلُ اسْمُ الْفَاعِلِ هُنَا ;
لِأَنَّهُ مَاضٍ. وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِثَلَاثَةٍ، وَلَيْسَتْ حَالًا ; إِذْ لَا عَامِلَ لَهَا ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: هُمْ ثَلَاثَةٌ، وَ «هُمْ» لَا يَعْمَلُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَدَّرَ هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ، وَلَمْ يُشِيرُوا إِلَى حَاضِرٍ. وَلَوْ كَانَتِ الْوَاوُ هُنَا وَفِي الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا لَجَازَ، كَمَا جَازَ فِي الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ ; لِأَنَّ الْجُمْلَةَ إِذَا وَقَعَتْ صِفَةً لِنَكِرَةٍ جَازَ أَنْ تَدْخُلَهَا الْوَاوُ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي إِدْخَالِ الْوَاوِ فِي «ثَامِنِهِمْ».
وَقِيلَ: دَخَلَتْ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُسْتَأْنَفٌ حَقٌّ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَقُولِ بِرَجْمِ الظُّنُونِ.
وَقَدْ قِيلَ فِيهَا غَيْرُ هَذَا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَ (رَجْمًا) : مَصْدَرٌ ; أَيْ يَرْجُمُونَ رَجْمًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (٢٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) : فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ; أَحَدُهَا: هُوَ مِنَ النَّهْيِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَقُولَنَّ: أَفْعَلُ غَدًا، إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكَ فِي الْقَوْلِ. وَالثَّانِي: هُوَ مِنْ فَاعِلٍ ; أَيْ لَا تَقُولَنَّ: إِنِّي فَاعِلٌ غَدًا، حَتَّى تَقْرِنَ بِهِ قَوْلَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ.
وَمَوْضِعُ «أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ» نَصْبٌ عَلَى وَجْهَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَقُولَنَّ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ، إِلَّا وَقْتَ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ; أَيْ يَأْذَنَ ; فَحَذَفَ الْوَقْتَ، وَهُوَ مُرَادٌ.
وَالثَّانِي: هُوَ حَالٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَقُولَنَّ أَفْعَلُ غَدًا، إِلَّا قَائِلًا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَحَذَفَ الْقَوْلَ. وَهُوَ كَثِيرٌ.
وَجَعَلَ قَوْلَهُ «أَنْ يَشَاءَ» فِي مَعْنَى إِنْ شَاءَ ; وَهُوَ مِمَّا حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: إِلَّا بِأَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ; أَيْ مُتَلَّبِسًا بِقَوْلِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَمِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (٢٦))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِائَةٍ سِنِينَ) : يُقْرَأُ بِتَنْوِينِ مِائَةٍ. وَ «سِنِينَ» عَلَى هَذَا: بَدَلٌ مِنْ ثَلَاثٍ.
وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ مِائَةٍ ; لِأَنَّ مِائَةً فِي مَعْنَى مِئَاتٍ.
وَيُقْرَأُ بِالْإِضَافَةِ ; وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ ; لِأَنَّ مِائَةً تُضَافُ إِلَى الْمُفْرَدِ، وَلَكِنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى الْأَصْلِ ; إِذِ الْأَصْلُ إِضَافَةُ الْعَدَدِ إِلَى الْجَمْعِ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ عَلَامَةَ الْجَمْعِ هَنَا جَبْرٌ لِمَا دَخَلَ السَّنَةَ مِنَ الْحَذْفِ ; فَكَأَنَّهَا تَتِمَّةُ الْوَاحِدِ.
(تِسْعًا) : مَفْعُولُ «ازْدَادُوا» وَزَادَ مُتَعَدٍّ إِلَى اثْنَيْنِ، فَإِذَا بُنِيَ عَلَى افْتَعَلَ تَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ.
(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) : الْهَاءُ تَعُودُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَوْضِعُهَا رَفْعٌ ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: أَبْصَرَ اللَّهُ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَهَكَذَا فِي فِعْلِ التَّعَجُّبِ الَّذِي هُوَ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَاعِلُ مُضْمَرٌ ; وَالتَّقْدِيرُ: أَوْقِعْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ إِبْصَارًا بِأَمْرِ الْكَهْفِ، فَهُوَ أَمْرُ حَقِيقَةٍ.
(وَلَا يُشْرِكُ) : يُقْرَأُ بِالْيَاءِ وَضَمِّ الْكَافِ عَلَى الْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ. وَبِالتَّاءِ عَلَى النَّهْيِ ; أَيْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاصْبِرْ) : هُوَ مُتَعَدٍّ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ: احْبِسْ، وَ «بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ» : قَدْ ذُكِرُوا فِي الْأَنْعَامِ.
(وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ) : الْجُمْهُورُ عَلَى نِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْعَيْنَيْنِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تُعَدِّ عَيْنَيْكَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ ; أَيْ لَا تَصْرِفْهَا.
(أَغْفَلْنَا) : الْجُمْهُورُ عَلَى إِسْكَانِ اللَّامِ، وَ «قَلْبَهُ» بِالنَّصْبِ ; أَيْ أَغْفَلْنَاهُ عُقُوبَةً لَهُ، أَوْ وَجَدْنَاهُ غَافِلًا.
وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ اللَّامِ، «وَقَلْبُهُ» بِالرَّفْعِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: وَجَدَنَا قَلْبُهُ مُعْرِضِينَ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَهْمَلَ أَمْرَنَا عَنْ تَذَكُّرِنَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (٢٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَشْوِي الْوُجُوهَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَاءٍ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُهْلِ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي «الْكَافِ» أَوْ فِي الْجَارِّ.
وَ (سَاءَتْ) : أَيْ سَاءَتِ النَّارُ.
(مُرْتَفَقًا) : أَيْ مُتَّكَأً، أَوْ مَعْنَاهُ: الْمَنْزِلُ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (٣٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) : فِي خَبَرِ إِنَّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ; أَحَدُهَا: «أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ» وَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضٌ مُسَدَّدٌ. وَالثَّانِي: تَقْدِيرُهُ: لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا مِنْهُمْ، فَحَذَفَ الْعَائِدَ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (مَنْ أَحْسَنَ) : عَامٌّ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ، وَيُغْنِي ذَلِكَ عَنْ ضَمِيرٍ كَمَا أَغْنَى دُخُولُ زَيْدٍ تَحْتَ الرَّجُلِ فِي بَابِ نِعْمَ عَنْ ضَمِيرٍ - يَعُودُ عَلَيْهِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ قَدْ جُعِلَ خَبَرُ «إِنَّ» الْجُمْلَةَ الَّتِي فِيهَا إِنَّ.
قَالَ تَعَالَى: (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (٣١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ أَسَاوِرَ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مِنْ» زَائِدَةً عَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ) [الْإِنْسَانِ: ٢١].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ زَائِدَةٍ ; أَيْ شَيْئًا مِنْ أَسَاوِرَ ; فَتَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَوْ لِلتَّبْعِيضِ.
وَ (مِنْ ذَهَبٍ) :«مِنْ» فِيهِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَوْ لِلتَّبْعِيضِ ; وَمَوْضِعُهَا جَرٌّ نَعْتًا لِأَسَاوِرَ ; وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِيُحَلَّوْنَ.
وَأَسَاوِرُ: جَمْعُ أَسْوِرَةٍ، وَأَسْوِرَةٌ جَمْعُ سِوَارٍ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ أُسْوَارٍ.
(مُتَّكِئِينَ) : حَالٌ إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَحْتِهِمْ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُحَلَّوْنَ، أَوْ يَلْبَسُونَ.
وَالسُّنْدُسُ: جَمْعُ سُنْدُسَةٍ. وَإِسْتَبْرَقٌ: جَمْعُ إِسْتَبْرَقَةٍ، وَقِيلَ: هُمَا جِنْسَانِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (٣٣) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (٣٤))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَثَلًا رَجُلَيْنِ) : التَّقْدِيرُ: مَثَلًا مِثْلَ رَجُلَيْنِ.
وَ (جَعَلْنَا) : تَفْسِيرُ الْمَثَلِ، فَلَا مَوْضِعَ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ نَصْبًا نَعْتًا لِرَجُلَيْنِ ; كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِرَجُلَيْنِ جُعِلَ لِأَحَدِهِمَا جَنَّةٌ. (
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ) : مُبْتَدَأٌ، وَ (آتَتْ) خَبَرُهُ، وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ كِلْتَا. وَ (فَجَّرْنَا) : بِالتَّخْفِيفِ، وَالتَّشْدِيدِ وَ (خِلَالَهُمَا) : ظَرْفٌ.
وَالثُّمُرُ - بِضَمَّتَيْنِ: جَمْعُ ثِمَارٍ، فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ، مِثْلَ كِتَابٍ وَكُتُبٍ. وَيَجُوزُ تَسْكِينُ الْمِيمِ تَخْفِيفًا. وَيُقْرَأُ (ثَمَرٌ) : جَمْعُ ثَمَرَةٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (٣٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) : إِنَّمَا أَفْرَدَ وَلَمْ يَقُلْ: جَنَّتَيْهِ ; لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُهُ ; فَصَارَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ.
وَقِيلَ: اكْتِفَاءً بِالْوَاحِدَةِ عَنِ الثِّنْتَيْنِ ; كَمَا يُكْتَفَى بِالْوَاحِدِ عَنِ الْجَمْعِ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْهُذَلِيِّ:
وَالْعَيْنُ بَعْدَهُمُ كَأَنَّ حِدَاقَهَا سُمِلَتْ بِشَوْكٍ فَهِيَ عُورٌ تَدْمَعُ
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (٣٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَيْرًا مِنْهَا) : يُقْرَأُ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالضَّمِيرُ لِجَنَّتِهِ. وَعَلَى التَّثْنِيَةِ، وَالضَّمِيرُ لِلْجَنَّتَيْنِ.
قَالَ تَعَالَى: (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (٣٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَكِنَّا) : الْأَصْلُ: لَكِنْ أَنَا، فَأُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ عَلَى النُّونِ، وَقِيلَ: حُذِفَتْ حَذْفًا، وَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي النُّونِ. وَالْجَيِّدُ حَذْفُ الْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ
وَإِثْبَاتُهَا فِي الْوَقْفِ ; لِأَنَّ أَنَا كَذَلِكَ، وَالْأَلِفُ فِيهِ زَائِدَةٌ لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ.
وَيُقْرَأُ بِإِثْبَاتِهَا فِي الْحَالَيْنِ. وَ «أَنَا» مُبْتَدَأٌ، وَ «هُوَ» مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَ «اللَّهُ» : مُبْتَدَأٌ ثَالِثٌ ; وَ «رَبِّي» الْخَبَرُ، وَالْيَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَكِنَّ الْمُشَدَّدَةَ الْعَامِلَةَ نَصْبًا ; إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقَعْ بَعْدَهَا هُوَ، لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ اللَّهِ بَدَلًا مِنْ هُوَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (٣٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا شَاءَ اللَّهُ) : فِي «مَا» وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ ; أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيِ الْأَمْرُ مَا شَاءَ اللَّهُ. وَالثَّانِي: هِيَ شَرْطِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ «يَشَاءُ» وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ.
(إِلَّا بِاللَّهِ) : فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِهِ.
(أَنَا) : فِيهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هِيَ فَاصِلَةٌ بَيْنَ الْمَفْعُولَيْنِ. وَالثَّانِي: هُوَ تَوْكِيدٌ لِلْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ، فَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ.
وَيُقْرَأُ: (أَقَلُّ) - بِالرَّفْعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ «أَنَا» مُبْتَدَأً، وَأَقَلُّ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي.
قَالَ تَعَالَى: (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (٤١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (حُسْبَانًا) : هُوَ جَمْعُ حُسْبَانَةٍ.
وَ (غَوْرًا) : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ ; أَيْ غَائِرًا.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: ذَا غَوْرٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (٤٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) : هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَيُقْرَأُ «تَقَلَّبُ» أَيْ تَتَقَلَّبُ كَفَّاهُ بِالرَّفْعِ.
(عَلَى مَا أَنْفَقَ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِيُقَلِّبُ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا ; أَيْ مُتَحَسِّرًا عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا ; أَيْ فِي عِمَارَتِهَا.
وَ (يَقُولُ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي «يُقَلِّبُ» وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى يُقَلِّبُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (٤٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ) : يُقْرَأُ بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ، وَهُمَا ظَاهِرَانِ.
(يَنْصُرُونَهُ) : مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الْفِئَةَ نَاسٌ، وَلَوْ كَانَ «تَنْصُرُهُ» لَكَانَ عَلَى اللَّفْظِ.
قَالَ تَعَالَى ﴿هُنَالك الْولَايَة لله الْحق هُوَ خير ثَوابًا وَخير عقبا﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُنَالِكَ) : فِيهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هُوَ ظَرْفٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ فِي «لِلَّهِ»، وَ «الْوَلَايَةُ» مُبْتَدَأٌ، وَ «لِلَّهِ» الْخَبَرُ. وَالثَّانِي: «هُنَالِكَ» خَبَرُ الْوَلَايَةِ، وَ «الْوَلَايَةُ» مَرْفُوعَةٌ بِهِ، وَ «لِلَّهِ» يَتَعَلَّقُ بِالظَّرْفِ، أَوْ بِالْعَامِلِ فِي الظَّرْفِ، أَوْ بِالْوَلَايَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْوَلَايَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.
وَ (الْوَلَايَةُ) : بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ: لُغَتَانِ. وَقِيلَ: الْكَسْرُ فِي الْإِمَارَةِ، وَالْفَتْحُ فِي النُّصْرَةِ.
وَ (الْحَقُّ) بِالرَّفْعِ: صِفَةُ الْوَلَايَةِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ هِيَ الْحَقُّ، أَوْ هُوَ الْحَقُّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَ «هُوَ خَيْرٌ» خَبَرُهُ.
وَيُقْرَأُ بِالْجَرِّ نَعْتًا لِلَّهِ تَعَالَى.
قَالَ تَعَالَى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) : يَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ «اضْرِبْ» بِمَعْنَى اذْكُرْ، فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ ; فَعَلَى هَذَا يَكُونُ «كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ» خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ هُوَ كَمَاءٍ.
وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، فَيَكُونُ «كَمَاءٍ» مَفْعُولًا ثَانِيًا.
(فَاخْتَلَطَ بِهِ) : قَدْ ذُكِرَ فِي يُونُسَ.
(تَذْرُوهُ) : هُوَ مِنْ ذَرَتِ الرِّيحُ تَذْرُوهُ ذَرْوًا ; أَيْ فَرَّقَتْ.
وَيُقَالُ: ذَرَتْ تَذْرِي، وَقَدْ قُرِئَ بِهِ. وَيُقَالُ: أَذْرَتْ تُذْرِي، كَقَوْلِكَ: أَذْرَيْتُهُ عَنْ فَرَسِهِ ; إِذَا أَلْقَيْتَهُ عَنْهَا، وَقُرِئَ بِهِ أَيْضًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٤٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) : أَيْ وَاذْكُرْ يَوْمَ.
وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «عِنْدِ رَبِّكَ» أَيِ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَخَيْرٌ يَوْمَ نُسَيِّرُ. وَفِي «نُسَيِّرُ» قِرَاءَاتٌ كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ.
(وَتَرَى) : الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: لِكُلِّ إِنْسَانٍ.
وَ (بَارِزَةً) : حَالٌ.
(وَحَشَرْنَاهُمْ) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَ «قَدْ» مُرَادَةٌ ; أَيْ وَقَدْ حَشَرْنَاهُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (٤٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (صَفًّا) : حَالٌ بِمَعْنَى مُصْطَفِّينَ ; أَيْ مَصْفُوفِينَ. وَالتَّقْدِيرُ: يُقَالُ لَهُمْ: «لَقَدْ جِئْتُمُونَا» أَوْ مَفْعُولًا لَهُمْ ; فَيَكُونُ حَالًا أَيْضًا.
وَ (بَلْ) : هَاهُنَا لِلْخُرُوجِ مِنْ قِصَّةٍ إِلَى قِصَّةٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يُغَادِرُ) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْكِتَابِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (٥٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا) : أَيْ وَاذْكُرْ.
(إِلَّا إِبْلِيسَ) : اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَقِيلَ: مِنَ الْجِنْسِ.
وَ (كَانَ مِنَ الْجِنِّ) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَ «قَدْ» مَعَهُ مُرَادَةٌ.
(فَفَسَقَ) : إِنَّمَا أَدْخَلَ الْفَاءَ لِأَنَّ الْمَعْنَى إِلَّا إِبْلِيسَ امْتَنَعَ فَفَسَقَ.
(بِئْسَ) : اسْمُهَا مُضْمَرٌ فِيهَا. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ ; أَيْ بِئْسَ الْبَدَلُ هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ.
وَ (لِلظَّالِمِينَ) : حَالٌ مِنْ «بَدَلًا» وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِبِئْسَ.
قَالَ تَعَالَى: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (٥١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ) : أَيْ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ. وَيُقْرَأُ (أَشْهَدْنَاهُمْ).
(عَضُدًا) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الضَّادِ، وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا مَعَ سُكُونِ الضَّادِ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي تَخْفِيفٌ، وَفِي الثَّالِثِ نَقْلٌ. وَلَمْ يُجْمَعْ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي حُكْمِ الْوَاحِدِ ; إِذْ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ جَمِيعَ الْمُضِلِّينَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَنْزِلُوا فِي الِاعْتِضَادِ بِهِمْ مَنْزِلَةَ الْوَاحِدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اكْتَفَى بِالْوَاحِدِ عَنِ الْجَمْعِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (٥٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ يَقُولُ) : أَيْ وَاذْكُرْ يَوْمَ يَقُولُ. وَيُقْرَأُ بِالنُّونِ وَالْيَاءِ.
وَ (بَيْنَهُمْ) : ظَرْفٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ ; أَيْ وَصَيَّرْنَا وَصْلَهُمْ إِهْلَاكًا لَهُمْ.
وَ (الْمَوْبِقُ) : مَكَانٌ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ مَصْدَرًا ; يُقَالُ: وَبَقَ يَبِقُ وُبُوقًا وَمَوْبِقًا، وَوَبَقَ يَوْبَقُ وَبْقًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (٥٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَصْرِفًا) : أَيِ انْصِرَافًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَكَانًا ; أَيْ لَمْ يَجِدُوا مَكَانًا يُنْصَرَفُ إِلَيْهِ عَنْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (٥٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) : أَيْ ضَرَبْنَا لَهُمْ مَثَلًا مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنَ الْأَمْثَالِ ; وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ ; أَوْ يُخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ أَنْ تَكُونَ مِنْ زَائِدَةً.
(أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) : فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ شَيْئًا هُنَا فِي مَعْنَى مُجَادِلٍ ; لِأَنَّ أَفْعَلَ يُضَافُ إِلَى مَا هُوَ بَعْضٌ لَهُ، وَتَمْيِيزُهُ بِجَدَلًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَكْثَرُ مُجَادِلًا، وَهَذَا مِنْ وَضْعِ الْعَامِّ مَوْضِعَ الْخَاصِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ: وَكَانَ جِدَالُ الْإِنْسَانِ أَكْثَرَ شَيْءٍ، ثُمَّ مَيَّزَهُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (٥٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ يُؤْمِنُوا) : مَفْعُولُ مَنَعَ، وَ «أَنْ تَأْتِيَهُمْ» فَاعِلُهُ ; وَفِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ ; أَيْ إِلَّا طَلَبَ أَوِ انْتِظَارَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (٥٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا أُنْذِرُوا) :«مَا» بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَ «هُزُوًا» : مَفْعُولٌ ثَانٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مَا» مَصْدَرِيَّةً.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ يَفْقَهُوهُ) : أَيْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (٥٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ) : مُضَارِعٌ مَحْكِيٌّ بِهِ الْحَالُ ; وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْمَاضِي. وَالْمَوْعِدُ هُنَا يَصْلُحُ لِلْمَكَانِ وَالْمَصْدَرِ.
وَ «الْمَوْئِلُ» : مَفْعِلٌ، مِنْ وَأَلَ يَئِلُ إِذَا لَجَأَ، وَيَصْلُحُ لَهُمَا أَيْضًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (٥٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتِلْكَ) : مُبْتَدَأٌ، وَ «أَهْلَكْنَاهُمْ» الْخَبَرُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «تِلْكَ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يُفَسِّرُهُ الْمَذْكُورُ. وَ (لِمَهْلِكِهِمْ) : مَفْعِلٌ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ اللَّامِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ، مِثْلَ الْمُدْخَلِ. وَالثَّانِي: هُوَ مَفْعُولٌ ; أَيْ لِمَنْ أُهْلِكَ، أَوْ لِمَا أُهْلِكَ مِنْهَا.
وَيُقْرَأُ بِفَتْحِهِمَا ; وَهُوَ مَصْدَرُ هَلَكَ يَهْلِكُ.
وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ أَيْضًا ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَمَانًا ; وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَى الْمَفْعُولِ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: هَلَكْتُهُ أُهْلِكُهُ، وَالْمَوْعِدُ زَمَانٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (٦٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ) : أَيْ وَاذْكُرْ. (لَا أَبْرَحُ) : فِيهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هِيَ النَّاقِصَةُ، وَفِي اسْمِهَا وَخَبَرِهَا وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: خَبَرُهَا مَحْذُوفٌ ; أَيْ لَا أَبْرَحُ أَسِيرُ. وَالثَّانِي: الْخَبَرُ «حَتَّى أَبْلَغَ» وَالتَّقْدِيرُ: لَا أَبْرَحُ سَيْرِي ; ثُمَّ حَذَفَ الِاسْمَ، وَجَعَلَ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ عِوَضًا مِنْهُ، فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: هِيَ التَّامَّةُ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ لَا أُفَارِقُ السَّيْرَ حَتَّى أَبْلُغَ كَقَوْلِكَ: لَا أَبْرَحُ الْمَكَانَ ; أَيْ لَا أُفَارِقُهُ.
(أَوْ أَمْضِيَ) : فِي «أَوْ» وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: هِيَ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ ; أَيْ أَسِيرُ حَتَّى يَقَعَ إِمَّا بُلُوغُ الْمَجْمَعِ، أَوْ مُضِيُّ الْحُقُبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى إِلَّا أَنْ ; أَيْ إِلَّا أَنْ أَمْضِيَ زَمَانًا أَتَيَقَّنُ مَعَهُ فَوَاتَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. وَالْمَجْمَعُ: ظَرْفٌ. وَيُقْرَأُ بِكَسْرِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ حَمْلًا عَلَى الْمَغْرِبِ وَالْمَطْلِعِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (٦١))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَبِيلَهُ) : الْهَاءُ تَعُودُ عَلَى الْحُوتِ.
وَ (فِي الْبَحْرِ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِاتَّخَذَ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ السَّبِيلِ، أَوْ مِنْ «سَرَبًا».
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (٦٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ أَذْكُرَهُ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ فِي أَنْسَانِيهِ ; أَيْ مَا أَنْسَانِي ذِكْرَهُ، وَكَسْرُ الْهَاءِ وَضَمُّهَا جَائِزَانِ. وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا.
(عَجَبًا) : مَفْعُولٌ ثَانٍ لِاتَّخَذَ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ ; أَيْ قَالَ مُوسَى: عَجَبًا ; فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِاتَّخَذَ: «فِي الْبَحْرِ».
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (٦).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَبْغِي) : الْجَيِّدُ إِثْبَاتُ الْيَاءِ، وَقَدْ قُرِئَ بِحَذْفِهَا عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْفَوَاصِلِ ; وَسَهَّلَ ذَلِكَ أَنَّ الْيَاءَ لَا تُضَمُّ هَاهُنَا.
(قَصَصًا) : مَصْدَرُ «فَارْتَدَّا» عَلَى الْمَعْنَى. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ يَقُصَّانِ قَصَصًا. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ; أَيْ مُقْتَصِّينَ، وَ «عِلْمًا» : مَفْعُولٌ بِهِ، وَلَوْ كَانَ مَصْدَرًا لَكَانَ تَعْلِيمًا.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي) : هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ; أَيْ أَتَّبِعُكَ بِإِذْلَالِي، وَالْكَافُ صَاحِبُ الْحَالِ.
وَ (رَشَدًا) : مَفْعُولُ تُعَلِّمَنِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ «عُلِّمْتَ» لِأَنَّهُ لَا عَائِدَ إِذَنْ عَلَى الَّذِي ; وَلَيْسَ بِحَالٍ مِنَ الْعَائِدِ الْمَحْذُوفِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ يَبْعُدُ.
وَالرُّشْدُ وَالرَّشَدُ لُغَتَانِ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (خُبْرًا) : مَصْدَرٌ ; لِأَنَّ تُحِيطُ بِمَعْنَى تُخْبِرُ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (٧٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَسْأَلْنِي) : يُقْرَأُ بِسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَإِثْبَاتِ الْيَاءِ. وَبِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَنُونُ الْوِقَايَةِ مَحْذُوفَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ النُّونُ الْخَفِيفَةُ دَخَلَتْ عَلَى نُونِ الْوِقَايَةِ. وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِهَا.
قَالَ تَعَالَى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (٧١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) : يُقْرَأُ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا، وَبِالْيَاءِ وَتَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (٧٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عُسْرًا) هُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتُرْهِقْ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا تُولِنِي أَوْ تُغْشِنِي.
قَالَ تَعَالَى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (٧٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِغَيْرِ نَفْسٍ) : الْبَاءُ تَتَعَلَّقُ بِقَتَلْتَ ; أَيْ قَتَلْتَهُ بِلَا سَبَبٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ ; أَيْ قَتْلًا بِغَيْرِ نَفْسٍ. وَأَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ; أَيْ قَتَلْتَهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا.
وَالنُّكْرُ وَالنُّكُرُ لُغَتَانِ قَدْ قُرِئَ بِهِمَا. وَ (شَيْئًا) : مَفْعُولٌ ; أَيْ أَتَيْتَ شَيْئًا مُنْكَرًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا ; أَيْ مَجِيئًا مُنْكَرًا.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (٧٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ لَدُنِّي) : يُقْرَأُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَالِاسْمُ لَدُنْ، وَالنُّونُ الثَّانِيَةُ وِقَايَةٌ. وَبِتَخْفِيفِهَا، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ نُونَ الْوِقَايَةِ، كَمَا قَالُوا: قَدْنِي وَقَدِي. وَالثَّانِي أَصْلُهُ لَدُ، وَهِيَ لُغَةٌ فِيهَا، وَالنُّونُ لِلْوِقَايَةِ.
وَ (عُذْرًا) : مَفْعُولٌ بِهِ، كَقَوْلِكَ: بَلَغْتَ الْغَرَضَ.
قَالَ تَعَالَى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (٧٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) : هُوَ جَوَابُ إِذَا، وَأَعَادَ ذِكْرَ الْأَهْلِ تَوْكِيدًا.
(أَنْ يَنْقَضَّ) : بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ ; وَهُوَ مِنَ السُّقُوطِ، شُبِّهَ بِانْقِضَاضِ الطَّائِرِ.
وَيَقْرَأُ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مِنَ النَّقْضِ.
وَيُقْرَأُ بِالْأَلِفِ وَالتَّشْدِيدِ مِثْلَ يَحْمَارُّ.
وَيُقْرَأُ كَذَلِكَ بِغَيْرِ تَشْدِيدٍ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: انْقَاضَ الْبِنَاءُ ; إِذَا تَهَدَّمَ ; وَهُوَ يَنْفَعِلُ.
وَيُقْرَأُ بِالضَّادِ مُشَدَّدَةً مِنْ قَوْلِكَ: انْقَاضَّتِ السِّنُّ، إِذَا انْكَسَرَتْ..
(لَاتَّخَذْتَ) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ الْخَاءِ مُخَفَّفَةً، وَهُوَ مِنْ تَخِذَ يَتَّخِذُ، إِذَا عَمِلَ شَيْئًا.
وَيُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ وَفَتْحِ الْخَاءِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هُوَ افْتَعَلَ مِنْ تَخِذَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْأَخْذِ وَأَصْلُهُ ايْتَخَذَ، فَأُبْدِلَتِ الْيَاءُ تَاءً وَأُدْغِمَتْ، وَأَصْلُ الْيَاءِ الْهَمْزَةُ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِرَاقُ بَيْنِي) : الْجُمْهُورُ عَلَى الْإِضَافَةِ ; أَيْ تَفْرِيقُ وَصْلِنَا.
وَيُقْرَأُ بِالتَّنْوِينِ، وَ «بَيْنَ» مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ.
قَالَ تَعَالَى: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (٧٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (غَصْبًا) : مَفْعُولٌ لَهُ، أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ مَصْدَرٌ أُخِذَ مِنْ مَعْنَاهُ.
قَالَ تَعَالَى ﴿وَأما الْغُلَام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمنين فَخَشِينَا أَن يرهقهما طغيانا وَكفرا﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُؤْمِنَيْنِ) : خَبَرُ كَانَ. وَيُقْرَأُ شَاذًّا بِالْأَلِفِ، عَلَى أَنَّ فِي كَانَ ضَمِيرَ الْغُلَامِ أَوِ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا خَبَرُهَا.
قَالَ تَعَالَى: (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (٨١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (زَكَاةً) : تَمْيِيزٌ، وَالْعَامِلُ «خَيْرًا مِنْهُ».
وَ (رُحْمًا) : كَذَلِكَ. وَالتَّسْكِينُ وَالضَّمُّ لُغَتَانِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٨٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) : مَفْعُولٌ لَهُ، أَوْ مَوْضِعُ الْحَالِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (٨٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْهُ ذِكْرًا) : أَيْ مِنْ أَخْبَارِهِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (٨٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَكَّنَّا لَهُ) : الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ أَمْرَهُ.
قَالَ تَعَالَى: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَتْبَعَ) : يُرْوَى بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَالتَّشْدِيدِ، وَ «سَبَبًا» : مَفْعُولُهُ. وَيُقْرَأُ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى اثْنَيْنِ ; أَيْ أَتْبَعَ سَبَبًا سَبَبًا.
قَالَ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (٧٨٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَمِئَةٍ) : يُقْرَأُ بِالْهَمْزِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَهُوَ مِنْ: حَمِئَتِ الْبِئْرُ تَحْمَأُ إِذَا صَارَتْ فِيهَا حَمْأَةٌ، وَهُوَ الطِّينُ الْأَسْوَدُ ; وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ.
وَيُقْرَأُ بِالْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَهُوَ مُخَفَّفٌ مِنَ الْمَهْمُوزِ أَيْضًا ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَمِيَ الْمَاءُ إِذَا اشْتَدَّ حَرُّهُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (نَارًا حَامِيَةً) [الْغَاشِيَةِ: ٤].
(إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) :«أَنْ» فِي مَوْضِعِ رَفْعِ الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ إِمَّا الْعَذَابُ وَاقِعٌ مِنْكَ بِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ ; أَيْ إِمَّا هُوَ أَنْ تُعَذِّبَ.
أَوْ إِمَّا الْخَبَرُ أَنْ تُعَذِّبَ. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ; أَيْ إِمَّا تُوقِعُ أَنْ تُعَذِّبَ، أَوْ تَفْعَلَ.
(حَسَنًا) : أَيْ أَمْرًا ذَا حُسْنٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (٨٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَزَاءً الْحُسْنَى) : يُقْرَأُ بِالرَّفْعِ وَالْإِضَافَةِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، أَوْ مَرْفُوعٌ بِالظَّرْفِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَهُ جَزَاءُ الْخَصْلَةِ الْحُسْنَى.
وَيُقْرَأُ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، وَالْحُسْنَى بَدَلٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
وَيُقْرَأُ بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ ; أَيْ فَلَهُ الْحُسْنَى جَزَاءً ; فَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ; أَيْ مَجْزِيًّا بِهَا. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ عَلَى الْمَعْنَى ; أَيْ يُجْزَى بِهَا جَزَاءً. وَقِيلَ: تَمْيِيزٌ.
وَيُقْرَأُ بِالنَّصْبِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ ; وَهُوَ مِثْلَ الْمَنُونِ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ التَّنْوِينَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
(مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) : أَيْ شَيْئًا ذَا يُسْرٍ.
قَالَ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (٩٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَطْلِعَ الشَّمْسِ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَكَانًا، وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ مَكَانَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
قَالَ تَعَالَى: (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (٩١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَلِكَ) : أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ.
قَالَ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (٩٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَيْنَ السَّدَّيْنِ) :«بَيْنَ» هَاهُنَا: مَفْعُولٌ بِهِ.
وَالسَّدُّ - بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ سَدَّ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَسْدُودِ. وَبِالضَّمِّ اسْمٌ لِلْمَسْدُودِ. وَقِيلَ: الْمَضْمُومُ مَا كَانَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ ; وَالْمَفْتُوحُ مَا كَانَ مِنْ صَنْعَةِ الْآدَمِيِّ. وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ; وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا.
قَالَ تَعَالَى: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) : هُمَا اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ لَمْ يَنْصَرِفَا لِلْعُجْمَةِ وَالتَّعَرُّفِ ; وَيَجُوزُ هَمْزُهُمَا وَتَرْكُ هَمْزِهِمَا. وَقِيلَ: هُمَا عَرَبِيَّانِ، فَيَأْجُوجُ يَفْعُولُ مِثْلَ يَرْبُوعٍ، وَمَأْجُوجُ مَفْعُولٌ مِثْلَ مَعْقُولٍ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَجَّ الظَّلِيمُ أَسْرَعَ، أَوْ مِنْ أَجَّتِ النَّارُ إِذَا الْتَهَبَتْ، وَلَمْ يَنْصَرِفَا لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّأْنِيثِ. وَالْخَرْجُ: يُقْرَأُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، مَصْدَرُ خَرَجَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَجْرُ.
وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى مُخْرَجٍ. وَالْخَرَاجُ - بِالْأَلِفِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَجْرِ أَيْضًا.
وَقِيلَ: هُوَ الْمَالُ الْمَضْرُوبُ عَلَى الْأَرْضِ أَوِ الرِّقَابِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ) : يُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الْإِدْغَامِ، وَبِالْإِظْهَارِ عَلَى الْأَصْلِ. وَ «مَا» بِمَعْنَى الَّذِي، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَ «خَيْرٌ» : خَبَرُهُ.
(بِقُوَّةٍ) : أَيْ بِرِجَالٍ ذِي - أَوْ ذَوِي - قُوَّةٍ، أَوْ بِمُتَقَوًّى بِهِ. وَالرَّدْمُ بِمَعْنَى الْمَرْدُومِ بِهِ، أَوِ الرَّادِمِ. (آتُونِي) : يُقْرَأُ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَالْمَدِّ ; أَيْ أَعْطُونِي. وَبِوَصْلِهَا ; أَيْ جِئُونِي. وَالتَّقْدِيرُ: بِزُبَرِ الْحَدِيدِ. أَوْ هُوَ بِمَعْنَى أَحْضِرُوا ; لِأَنَّ جَاءَ وَحَضَرَ مُتَقَارِبَانِ
وَ (الصَّدَفَيْنِ) : يُقْرَأُ بِضَمَّتَيْنِ، وَبِضَمِّ الْأَوَّلِ وَإِسْكَانِ الثَّانِي، وَبِفَتْحَتَيْنِ، وَبِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَإِسْكَانِ الثَّانِي، وَبِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَضَمِّ الثَّانِي ; وَكُلُّهَا لُغَاتٌ، وَالصَّدَفُ: جَانِبُ الْجَبَلِ. (قِطْرًا) : مَفْعُولُ «آتُونِي»، وَمَفْعُولُ «أُفْرِغْ» مَحْذُوفٌ ; أَيْ أُفْرِغْهُ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مَفْعُولُ «أُفْرِغْ»، وَمَفْعُولُ الْأَوَّلِ مَحْذُوفٌ.
قَالَ تَعَالَى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَا اسْطَاعُوا) : يُقْرَأُ بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ، أَيِ اسْتَطَاعُوا، وَحَذَفَ التَّاءَ تَخْفِيفًا.
وَيُقْرَأُ بِتَشْدِيدِهَا وَهُوَ بَعِيدٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ السَّاكِنِينَ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (دَكَّاءَ)، وَدَكًّا: قَدْ ذُكِرَ فِي الْأَعْرَافِ.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (١٠١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ كَانَتْ) : فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لِلْكَافِرِينَ، أَوْ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، أَوْ رَفْعٍ بِإِضْمَارِ هُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (١٠٢))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَحَسِبَ) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ السِّينِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ.
(أَنْ يَتَّخِذُوا) : سَدَّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ.
وَيُقْرَأُ بِسُكُونِ السِّينِ وَرَفْعِ الْبَاءِ عَلَى الِابْتِدَاءِ ; وَالْخَبَرُ أَنْ يَتَّخِذُوا.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) : يُقْرَأُ بِالْإِظْهَارِ عَلَى الْأَصْلِ، وَبِالْإِدْغَامِ لِقُرْبِ مَخْرَجِ الْحَرْفَيْنِ.
(أَعْمَالًا) : تَمْيِيزٌ، وَجَازَ جَمْعُهُ لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ.
قَالَ تَعَالَى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٠٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ) : يُقْرَأُ بِالنُّونِ وَالْيَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَيُقْرَأُ «يُقَوِّمُ» وَالْفَاعِلُ مُضْمَرٌ ; أَيْ فَلَا يُقَوِّمُ عَمَلَهُمْ، أَوْ سَعْيَهُمْ، أَوْ صَنِيعَهُمْ.
وَ (وَزْنًا) : تَمْيِيزٌ، أَوْ حَالٌ.
قَالَ تَعَالَى: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (١٠٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَلِكَ) : أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ، وَمَا بَعْدَهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «ذَلِكَ» مُبْتَدَأً، وَ «جَزَاؤُهُمْ» مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَ «جَهَنَّمُ» خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْأَوَّلِ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ جَزَاؤُهُمْ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «ذَلِكَ» مُبْتَدَأً، وَ «جَزَاؤُهُمْ» بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، وَ «جَهَنَّمُ» الْخَبَرَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَهَنَّمُ بَدَلًا مِنْ جَزَاءٍ، أَوْ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ هُوَ جَهَنَّمُ.
وَ (بِمَا كَفَرُوا) : خَبَرُ «ذَلِكَ» ; وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْبَاءُ بِجَزَاؤُهُمِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِجَهَنَّمَ.
وَ (اتَّخَذُوا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كَفَرُوا، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (١٠٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نُزُلًا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ جَنَّاتٍ. وَ «لَهُمْ» الْخَبَرُ. وَأَنْ يَكُونَ «نُزُلًا» خَبَرَ كَانَ. وَ «لَهُمْ» يَتَعَلَّقُ بِكَانَ، أَوْ بِالْخَبَرِ، أَوْ عَلَى التَّبْيِينِ.
قَالَ تَعَالَى: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (١٠٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَبْغُونَ) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «خَالِدِينَ». وَالْحِوَلُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّحَوُّلِ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَدَدًا) : هُوَ تَمْيِيزٌ، وَمِدَادًا - بِالْأَلِفِ - مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ) : أَنَّ هَاهُنَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ دُخُولُ «مَا» الْكَافَّةِ عَلَيْهَا. وَ (بِعِبَادَةِ رَبِّهِ) : أَيْ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى بَابِهَا ; أَيْ بِسَبَبِ عِبَادَةِ رَبِّهِ ; وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
Icon