تفسير سورة المؤمنون

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
ويقال ﴿ سورة المؤمنون ﴾.
فالأول على اعتبار إضافة السورة إلى المؤمنين لافتتاحها بالإخبار عنهم بأنهم أفلحوا. ووردت تسميتها بمثل هذا فيما رواه النسائي :« عن عبد الله بن السائب قال : حضرت رسول الله يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة فخلع نعليه فوضعهما عن يساره فافتتح سورة المؤمنين فلما جاء ذكر موسى أو عيسى أخذته سعلة فركع ».
والثاني على حكاية لفظ ﴿ المؤمنون ﴾ الواقع أولها في قوله تعالى ﴿ قد أفلح المؤمنون ﴾ فجعل ذلك اللفظ تعريفا للسورة.
وقد وردت تسمية هذه السورة ﴿ سورة المؤمنين ﴾ في السنة. روى أبو داود : عن عبد الله بن السائب قال : صلى بنا رسول الله الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر موسى وعيسى أخذت النبي سعلة فحذف فركع.
ومما جرى على الألسنة أن يسموها سورة ﴿ قد أفلح ﴾. ووقع ذلك في كتاب الجامع من العتبية في سماع ابن القاسم. قال ابن القاسم : أخرج لنا مالك مصحفا لجده فتحدثنا أنه كتبه على عهد عثمان بن عفان وغاشيته من كسوة الكعبة فوجدنا.. إلى أن قال.. وفي قد أفلح كلها الثلاث لله أي خلافا لقراءة :﴿ سيقولون الله ﴾. ويسمونها أيضا سورة الفلاح.
وهي مكية بالاتفاق. ولا اعتداد بتوقف من توقف في ذلك بأن الآية التي ذكرت فيها الزكاة وهي قوله ﴿ والذين هم للزكاة فاعلون ﴾ تعين أنها مدنية لأن الزكاة فرضت في المدينة. فالزكاة المذكورة فيها هي الصدقة لا زكاة النصب المعينة في الأموال. وإطلاق الزكاة على الصدقة مشهور في القرآن. قال تعالى ﴿ وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ﴾ وهي من سورة مكية بالاتفاق، وقال ﴿ واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ﴾ ولم تكن زكاة النصب مشروعة في زمن إسماعيل.
وهي السورة السادسة والسبعون في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة ﴿ الطور ﴾ وقبل سورة ﴿ تبارك الذي بيده الملك ﴾.
وآياتها مائة وسبع عشرة في عد الجمهور. وعدها أهل الكوفة مائة وثمان عشرة، فالجمهور عدوا ﴿ أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ﴾ آية، وأهل الكوفة عدوا ﴿ أولئك هم الوارثون ﴾ آية وما بعدها آية أخرى، كما يؤخذ من كلام أبي بكر ابن العربي في العارضة في الحديث الذي سنذكره عقب تفسير قوله تعالى ﴿ أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ﴾.
أغراض السورة
هذه السورة تدور آيها حول محور تحقيق الوحدانية وإبطال الشرك ونقض قواعده، والتنويه بالإيمان وشرائعه.
فكان افتتاحها بالبشارة للمؤمنين بالفلاح العظيم على ما تحلوا به من أصول الفضائل الروحية والعملية التي بها تزكية النفس واستقامة السلوك.
وأعقب ذلك بوصف خلق الإنسان أصله ونسله الدال على تفرد الله تعالى بالإلهية لتفرده بخلق الإنسان ونشأته ليبتدئ الناظر بالاعتبار في تكوين ذاته ثم بعدمه بعد الحياة. ودلالة ذلك الخلق على إثبات البعث بعد الممات وأن الله لم يخلق الخلق سدى ولعبا.
وانتقل إلى الاعتبار بخلق السماوات ودلالته على حكمة الله تعالى.
وإلى الاعتبار والامتنان بمصنوعات الله تعالى التي أصلها الماء الذي به حياة ما في هذا العالم من الحيوان والنبات وما في ذلك من دقائق الصنع، وما في الأنعام من المنافع ومنها الحمل.
ومن تسخير المنافع للناس وما أوتيه الإنسان من آلات الفكر والنظر.
وورد ذكر الحمل على الفلك فكان منه تخلص إلى بعثه نوح وحدث الطوفان. وانتقل إلى التذكير ببعثة الرسل للهدى والإرشاد إلى التوحيد والعمل الصالح، وما تلقاها به أقوامهم من الإعراض والطعن والتفرق، وما كان من عقاب المكذبين، وتلك أمثال لموعظة المعرضين عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فأعقب ذلك بالثناء على الذين آمنوا واتقوا.
وبتنبيه المشركين على أن حالهم مماثل لأحوال الأمم الغابرة وكلمتهم واحدة فهم عرضة لأن يحل بهم ما حل بالأمم الماضية المكذبة.
وقد أراهم الله مخائل العذاب لعلهم يقلعون عن العناد فأصروا على إشراكهم بما ألقى الشيطان في عقولهم.
وذكروا بأنهم يقرون إذا سئلوا بأن الله مفرد بالربوبية ولا يجرون على مقتضى إقرارهم أنهم سيندمون على الكفر عندما يحضرهم الموت وفي يوم القيامة.
وبأنهم عرفوا الرسول وخبروا صدقه وأمانته ونصحه المجرد عن طلب المنفعة لنفسه الإ ثواب الله فلا عذر لهم بحال في إشراكهم وتكذيبهم الرسالة، ولكنهم متبعون أهواءهم معرضون عن الحق.
وما تخلل ذلك من جوامع الكلم.
وختمت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغض عن سوء معاملتهم ويدفعها بالتي هي أحسن، ويسأل المغفرة للمؤمنين، وذلك هو الفلاح الذي ابتدئت به السورة.

وَإِلَى الِاعْتِبَارِ وَالِامْتِنَانِ بِمَصْنُوعَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي أَصْلُهَا الْمَاءُ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ الصُّنْعِ، وَمَا فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَمِنْهَا الْحَمْلُ.
وَمِنْ تَسْخِيرِ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ وَمَا أُوتِيَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ آلَاتِ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ. وَوَرَدَ ذِكْرُ الْحَمْلِ عَلَى الْفُلْكِ فَكَانَ مِنْهُ تَخَلُّصٌ إِلَى بِعْثَةِ نُوحٍ وَحَدَثِ الطُّوفَانِ.
وَانْتَقَلَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ لِلْهُدَى وَالْإِرْشَادِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَا تَلَقَّاهَا بِهِ أَقْوَامُهُمْ مِنَ الْإِعْرَاضِ وَالطَّعْنِ وَالتَّفَرُّقِ، وَمَا كَانَ مِنْ عِقَابِ الْمُكَذِّبِينَ، وَتِلْكَ أَمْثَالٌ لِمَوْعِظَةِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوْا.
وَبِتَنْبِيهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّ حَالَهُمْ مُمَاثِلٌ لِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ وَكَلِمَتَهُمْ وَاحِدَةٌ فَهُمْ عُرْضَةٌ لِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُكَذِّبَةِ. وَقَدْ أَرَاهُمُ اللَّهُ مَخَائِلَ الْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يُقْلِعُونَ عَنِ الْعِنَادِ فَأَصَرُّوا عَلَى إِشْرَاكِهِمْ بِمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي عُقُولِهِمْ.
وَذُكِّرُوا بِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ إِذَا سُئِلُوا بِأَنَّ اللَّهَ مُفْرَدٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَلَا يُجْرُونَ عَلَى مُقْتَضَى إِقْرَارِهِمْ وَأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ على الْكفْر عِنْد مَا يَحْضُرُهُمُ الْمَوْتُ وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَبِأَنَّهُمْ عَرَفُوا الرَّسُولَ وَخَبَرُوا صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَنُصْحَهُ الْمُجَرَّدَ عَنْ طَلَبِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ إِلَّا ثَوَابَ اللَّهِ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ بِحَالٍ فِي إِشْرَاكِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمُ الرِّسَالَةَ، وَلَكِنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنِ الْحَقِّ. وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ.
وَخُتِمَتْ بِأَمْر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغُضَّ عَنْ سُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ وَيَدْفَعَهَا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَيَسْأَلَ الْمَغْفِرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَلَاحُ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَة.
[١]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
7
(١)
افْتِتَاحٌ بَدِيعٌ لِأَنَّهُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَإِنَّ الْفَلَاحَ غَايَةُ كُلِّ سَاعٍ إِلَى عَمَلِهِ، فَالْإِخْبَارُ بِفَلَاحِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ ذِكْرِ مُتَعَلِّقٍ بِفِعْلِ الْفَلَاحِ يَقْتَضِي فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ تَعْمِيمَ مَا بِهِ الْفَلَاحُ الْمَطْلُوبُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فِي كُلِّ مَا رَغِبُوا فِيهِ.
وَلَمَّا كَانَتْ هِمَّةُ الْمُؤْمِنِينَ مُنْصَرِفَةً إِلَى تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ نُفُوسِهِمْ كَانَ ذَلِكَ إِعْلَامًا بِأَنَّهُمْ نَجَحُوا فِيمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ هِمَمُهُمْ مِنْ خَيْرِ الْآخِرَةِ وَلِلْحَقِّ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا، وَيَتَضَمَّنُ بِشَارَةً بِرِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ وَوَعْدًا بِأَنَّ اللَّهَ مُكْمِلٌ لَهُمْ مَا يَتَطَلَّبُونَهُ مِنْ خَيْرٍ.
وَأَكَّدَ هَذَا الْخَبَرَ بِحَرْفِ (قَدْ) الَّذِي إِذَا دَخَلَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي أَفَادَ التَّحْقِيقَ أَيِ التَّوْكِيدَ، فَحَرْفُ (قَدْ) فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ يُفِيدُ مُفَادَ (إِنَّ وَاللَّامِ) فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، أَيْ يُفِيدُ تَوْكِيدًا قَوِيًّا.
وَوَجْهُ التَّوْكِيدِ هُنَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا مُؤْمِلِينَ مِثْلَ هَذِهِ الْبِشَارَةِ فِيمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنْ رَجَاءِ
فَلَاحِهِمْ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الْحَج: ٧٧]، فَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ تَحَقُّقَ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِمَا أَرْضَى رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ أَنْ يَكُونُوا فَرَّطُوا فِي أَسْبَابِهِ وَمَا عَلَّقَ عَلَيْهِ وَعْدَهُ إِيَّاهُمْ، بَلْهَ أَنْ يَعْرِفُوا اقْتِرَابَ ذَلِكَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا بِأَنَّ مَا تَرَجُّوهُ قَدْ حَصَلَ حَقَّقَ لَهُمْ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ وَبِفِعْلِ الْمُضِيِّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي مَعْنَى التَّحَقُّقِ. فَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ تَرَقُّبِهِمْ إِيَّاهُ لِفَرْطِ الرَّغْبَةِ وَالِانْتِظَارِ مَنْزِلَةَ الشَّكِّ فِي حُصُولِهِ، وَلَعَلَّ مِنْهُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، إِشَارَةً إِلَى رَغْبَةِ الْمُصَلِّينَ فِي حُلُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ»
وَشَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ التَّشَوُّقُ إِلَى عِبَادَتِهِمْ كَمَا يُشَاهَدُ فِي تَشَوُّقِ كَثِيرٍ إِلَى قِيَامِ رَمَضَانَ.
وَحَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ أَفْلَحُوا فَلَاحًا كَامِلًا.
وَالْفَلَاحُ: الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ مِنْ عَمَلِ الْعَامِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَنِيطَ الْفَلَاحُ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ السَّبَبُ الْأَعْظَمُ فِي الْفَلَاحِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَصْفٌ جَامِعٌ لِلْكَمَالِ لِتَفَرُّعِ جَمِيعِ الكمالات عَلَيْهِ.
8

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٢]

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢)
إِجْرَاءُ الصِّفَاتِ على الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١] بِالتَّعْرِيفِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ وَبِتَكْرِيرِهِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ فَلَاحِهِمْ وَعِلَّتِهِ، أَيْ أَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مَنْ هَاتِهِ الْخِصَالِ هِيَ مِنْ أَسْبَابِ فَلَاحِهِمْ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّ سَبَبَ فَلَاحِهِمْ مَجْمُوعُ الْخِصَالِ الْمَعْدُودَةِ هُنَا فَإِنَّ الْفَلَاحَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِخِصَالٍ أُخْرَى مِمَّا هُوَ مَرْجِعُ التَّقْوَى، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ كُلُّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِه الْخِصَال تنبىء عَنْ رُسُوخِ الْإِيمَانِ مِنْ صَاحِبِهَا اعْتُبِرَتْ لِذَلِكَ سَبَبًا لِلْفَلَاحِ، كَمَا كَانَتْ أَضْدَادُهَا كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: ٤٢- ٤٦] عَلَى أَنَّ ذِكْرَ عِدَّةِ أَشْيَاءٍ لَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهَا فِي الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ.
وَالْخُشُوعُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٥] وَفِي قَوْلِهِ: وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٩٠]. وَهُوَ خَوْفٌ يُوجِبُ تَعْظِيمَ الْمُخَوَّفِ مِنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخُشُوعَ، أَيِ الْخُشُوعَ لِلَّهِ، يَقْتَضِي التَّقْوَى فَهُوَ سَبَبُ فَلَاحٍ.
وَتَقْيِيدُهُ هُنَا بِكَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ لِقَصْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَبِالْخُشُوعِ
وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْخُشُوعَ لِلَّهِ يَكُونُ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِهَا، إِذِ الْخُشُوعُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ فَلَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَكِنَّهُ يَتَلَبَّسُ بِهِ الْمُصَلِّي فِي حَالَةِ صَلَاتِهِ.
وَذُكِرَ مَعَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَوْلَى الْحَالَاتِ بِإِثَارَةِ الْخُشُوعِ وَقُوَّتِهِ وَلِذَلِكَ قُدِّمَتْ، وَلِأَنَّهُ بِالصَّلَاةِ أَعْلَقُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ خُشُوعٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَخُضُوعٌ لَهُ، وَلِأَنَّ الْخُشُوعَ لَمَّا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ أَوْلَى الْأَحْوَالِ بِهِ حَالُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ فَيُشْعِرُ نَفْسَهُ أَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ فَيَخْشَعُ لَهُ. وَهَذَا مِنْ آدَابِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَالِقِ تَعَالَى وَهِيَ رَأْسُ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَصْدَرُ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا.
وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ قُدِّمَ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى بَقِيَّةِ أَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ وَجُعِلَ مُوَالِيًا لِلْإِيمَانِ فَقَدْ حَصَلَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِوَصْفَيْنِ.
وَتَقْدِيمُ فِي صَلاتِهِمْ عَلَى خاشِعُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِالصَّلَاةِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ لَهُمْ تَعَلُّقًا شَدِيدًا بِالصَّلَاةِ لِأَنَّ شَأْنَ الْإِضَافَةِ أَنْ تُفِيدَ شِدَّةَ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ لِأَنَّهَا عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ. فَلَوْ قِيلَ: الَّذِينَ إِذَا صَلَّوْا خَشَعُوا، فَاتَ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَيْضًا لَمْ يَتَأَتَّ وَصْفُهُمْ بِكَوْنِهِمْ خَاشِعِينَ إِلَّا بِوَاسِطَةِ كَلِمَةٍ أُخْرَى نَحْوَ: كَانُوا خَاشِعِينَ. وَإِلَّا يَفُتْ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مِنْ ثَبَاتِ الْخُشُوعِ لَهُمْ وَدَوَامِهِ، أَيْ كَوْنُ الْخُشُوعِ خُلُقًا لَهُمْ بِخِلَافِ نَحْوِ: الَّذِينَ خَشَعُوا، فَحَصَلَ الْإِيجَازُ، وَلَمْ يفت الإعجاز.
[٣]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٣]
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)
الْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ النَّحْوِ:
إِلَى الْمَلِكِ القرم وَابْن الْهمام وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِ
وَتَكْرِيرُ الصِّفَاتِ تَقْوِيَةٌ لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ.
وَالْقَوْلُ فِي تَرْكِيبِ جُمْلَةِ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ كَالْقَوْلِ فِي هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢]، وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ عَنِ اللَّغْوِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ.
وَإِعَادَةُ اسْمُ الْمَوْصُولِ دُونَ اكْتِفَاءٍ بِعَطْفِ صِلَةٍ عَلَى صِلَةٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ مُوجِبَةٌ لِلْفَلَاحِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ حَتَّى يَجْمَعُوا بَيْنَ مَضَامِينِ الصَّلَاةِ كُلِّهَا، وَلِمَا فِي الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مِنْ زِيَادَةِ تَقْرِيرٍ لِلْخَبَرِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ.
وَاللَّغْوُ: الْكَلَامُ الْبَاطِلُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ فِي الْبَقَرَةِ [٢٢٥]، وَقَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ
10
وَالْإِعْرَاضُ: الصَّدُّ أَيْ عَدَمُ الْإِقْبَالِ عَلَى الشَّيْءِ، مِنَ الْعُرْضِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَهُوَ الْجَانِبُ، لِأَنَّ مَنْ يَتْرُكُ الشَّيْءَ يُوَلِّيهِ جَانِبَهُ وَلَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ فَيَشْمَلُ الْإِعْرَاضُ إِعْرَاضَ السَّمْعِ عَنِ اللَّغْوِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣]، وَقَوْلِهِ:
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٨]، وَأَهَمُّهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ لَغْوِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦] وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان:
٧٢]. وَيَشْمَلُ الْإِعْرَاضَ عَنِ اللَّغْوِ بِالْأَلْسِنَةِ، أَيْ أَنْ يَلْغُوا فِي كَلَامِهِمْ.
وَعَقَّبَ ذِكْرَ الْخُشُوعِ بِذِكْرِ الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَصْلِ الدُّعَاءُ، وَهُوَ مِنَ الْأَقْوَالِ الصَّالِحَةِ، فَكَانَ اللَّغْوُ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ بِجَامِعِ الضِّدِّيَّةِ، فَكَانَ الْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّغْوِ بِمَعْنَيَيِ الْإِعْرَاضِ مِمَّا تَقْتَضِيهِ الصَّلَاةُ وَالْخُشُوعُ لِأَنَّ مَنِ اعْتَادَ الْقَوْلَ الصَّالِحَ تَجَنَّبَ الْقَوْلَ الْبَاطِلَ وَمَنِ اعْتَادَ الْخُشُوعَ لِلَّهِ تَجَنَّبَ قَوْلَ الزُّورِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»
. وَالْإِعْرَاضُ عَنْ جِنْسِ اللَّغْوِ مِنْ خُلُقِ الْجِدِّ وَمَنْ تَخَلَّقَ بالجد فِي شؤونه كَمُلَتْ نَفْسُهُ وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ إِلَّا الْأَعْمَالُ النَّافِعَةُ، فَالْجِدُّ فِي الْأُمُورِ مِنْ خُلُقِ الْإِسْلَامِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ بِذِكْرِ الْإِسْلَامِ:
وَعَادَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ سِوَى الْعَدْلِ شَيْئًا فَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ
وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ يَقْتَضِي بِالْأَوْلَى اجْتِنَابَ قَوْلِ اللَّغْوِ وَيَقْتَضِي تَجَنُّبَ مَجَالِسِ أَهْلِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَدَبٌ عَظِيمٌ مِنْ آدَابِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ بَعْضِ النَّاسِ وَهُمُ الطَّبَقَةُ غَيْرُ الْمُحْتَرَمَةِ لِأَنَّ أَهْلَ اللَّغْوِ لَيْسُوا بِمَرْتَبَةِ التَّوْقِيرِ، فَالْإِعْرَاضُ عَنْ لَغْوِهِمْ رَبْءٌ عَنِ التسفل مَعَهم.
11

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٤]

وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)
أَصْلُ الزَّكَاةِ أَنَّهَا اسْمُ مَصْدَرِ (زَكَّى) الْمُشَدَّدِ، إِذَا طَهَّرَ النَّفْسَ مِنَ الْمَذَمَّاتِ. ثُمَّ
أُطْلِقَتْ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ لِوَجْهِ اللَّهِ مَجَازًا لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيدُ فِي مَالِ الْمُعْطِي. فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَة: ١٠٣]، وَأُطْلِقَتْ عَلَى نَفْسِ الْمَالِ الْمُنْفَقِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِهِ وَهُوَ الْمُتَعَيِّنُ هُنَا بِقَرِينَةِ تَعْلِيقِهِ بِ فاعِلُونَ الْمُقْتَضِي أَنَّ الزَّكَاةَ مَفْعُولٌ. وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ لِفِعْلٍ مِنْ مَادَّةِ (ف. ع. ل) لِأَنَّ صَوْغَ الْفِعْلِ مِنْ مَادَّةِ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ يُغْنِي عَنِ الْإِتْيَانِ بِفِعْلٍ مُبْهَمٍ وَنَصْبِ مَصْدَرِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ. فَلَوْ قَالَ أَحَدٌ: فَعَلْتُ مَشْيًا، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: مَشَيْتُ، كَانَ خَارِجًا عَنْ تَرْكِيبِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ كَانَ مُفِيدًا، وَلَوْ قَالَ أَحَدٌ: فَعَلْتُ مِمَّا تُرِيدُهُ، لَصَحَّ التَّرْكِيبُ قَالَ تَعَالَى: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا [الْأَنْبِيَاء: ٥٩]، أَيْ هَذَا الْمُشَاهَدُ مِنَ الْكَسْرِ وَالْحَطْمِ، أَيْ هَذَا الْحَاصِلُ بِالْمَصْدَرِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَصْدَرَ لِأَنَّهُ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ غَيْبَةِ فَاعِلِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْفِعْلِ هُنَا الْفِعْلُ الْمُنَاسِبُ لِهَذَا الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْإِيتَاءُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [الْمَائِدَة: ٥٥] فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ.
وَإِنَّمَا أُوثِرَ هُنَا الِاسْمُ الْأَعَمُّ وَهُوَ فاعِلُونَ لِأَنَّ مَادَّةَ (ف ع ل) مُشْتَهِرَةٌ فِي إِسْدَاءِ الْمَعْرُوفِ، وَاشْتُقَّ مِنْهَا الْفَعَالُ بِفَتْحِ الْفَاءِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ الْخَارِجِيُّ:
إِنْ تُنْفِقِ الْمَالَ أَوْ تُكَلَّفْ مَسَاعِيَهُ يَشْقُقْ عَلَيْكَ وَتَفْعَلْ دُونَ مَا فُعِلَا
وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ جَاءَ مَا نُسِبَ إِلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
الْمُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي السَّنَةِ الْأَزِ مَةِ وَالْفَاعِلُونَ لِلزَّكَوَاتِ
أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ». وَفِي نَفْسِي مِنْ صِحَّةِ نِسْبَتِهِ تَرَدُّدٌ لِأَنِّي أَحْسَبُ اسْتِعْمَالَ الزَّكَاةِ فِي مَعْنَى الْمَالِ الْمَبْذُولِ لِوَجْهِ اللَّهِ إِلَّا مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ،
فَلَعَلَّ الْبَيْتَ مِمَّا نُحِلَ مِنَ الشِّعْرِ عَلَى أَلْسِنَةِ الشُّعَرَاءِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ «الشِّعْرِ وَالشُّعَرَاءِ» «وَعُلَمَاؤُنَا لَا يَرَوْنَ شِعْرَ أُمَيَّةَ حُجَّةً عَلَى الْكِتَابِ».
وَاللَّامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَامُ التَّقْوِيَةِ لِضَعْفِ الْعَامِلِ بِالْفَرْعِيَّةِ وَبِالتَّأْخِيرِ عَنْ مَعْمُولِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَالرَّاغِبُ: اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ وَجَعَلَا الزَّكَاةَ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ. وَمَعْنَى فاعِلُونَ فَاعِلُونَ الْأَفْعَالَ الصَّالِحَاتِ فَحُذِفَ مَعْمُولُ فاعِلُونَ بِدَلَالَةِ عِلَّتِهِ عَلَيْهِ.
وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ الزَّكَاةَ هُنَا مَصْدَرٌ وَهُوَ فِعْلُ الْمُزَكِّي، أَيْ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ وَهُوَ الَّذِي
يَحْسُنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ فاعِلُونَ لِأَنَّهُ مَا مِنْ مَصْدَرٍ إِلَّا وَيُعَبِّرُ عَنْ مَعْنَاهُ بِمَادَّةِ فَعَلَ فَيُقَالُ لِلضَّارِبِ: فَاعِلُ الضَّرْبِ، وَلِلْقَاتِلِ: فَاعِلُ الْقَتْلِ. وَإِنَّمَا حَاوَلَ بِذَلِكَ إِقَامَةَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَغَلَبَ جَانِبُ الصِّنَاعَةِ اللَّفْظِيَّةِ عَلَى جَانِبِ الْمَعْنَى وَجَوَّزَ الْوَجْهَ الْآخَرَ عَلَى شَرْطِ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ غَيْرُ مُلْتَزَمٍ.
وَعَقَّبَ ذِكْرَ الصَّلَاةِ بِذِكْرِ الزَّكَاةِ لِكَثْرَةِ التَّآخِي بَيْنَهُمَا فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا هُنَا بِالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي سَمِعْتَ آنِفًا.
وَهَذَا مِنْ آدَابِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ طَبَقَةِ أَهْلِ الْخَصَاصَةِ وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى آدَابِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ. وَالْقَوْلُ فِي إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ وَتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ كَمَا تقدم آنِفا.
[٥- ٧]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٥ إِلَى ٧]
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧)
الْحِفْظُ: الصِّيَانَةُ وَالْإِمْسَاكُ. وَحِفْظُ الْفَرْجِ مَعْلُومٌ، أَيْ عَنِ الْوَطْءِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ إِلَخْ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ مُتَعَلِّقَاتِ الْحِفْظِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا حَرْفُ عَلى، أَيْ حَافِظُونَهَا عَلَى كُلِّ مَا يُحْفَظُ عَلَيْهِ إِلَّا الْمُتَعَلَّقَ الَّذِي هُوَ
13
أَزْوَاجُهُمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ، فَضَمَّنَ حافِظُونَ مَعْنَى عَدَمِ الْبَذْلِ، يُقَالُ: احْفَظْ عَلَيَّ عَنَانَ فَرَسِي كَمَا يُقَالُ: أَمْسِكْ عَلَيَّ كَمَا فِي آيَةِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الْأَحْزَاب: ٣٧]. وَالْمُرَادُ حِلُّ الصِّنْفَيْنِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ أَصْنَافِ النِّسَاءِ. وَهَذَا مُجْمَلٌ تُبَيِّنُهُ تَفَاصِيلُ الْأَحْكَامِ فِي عَدَدِ الزَّوْجَاتِ وَمَا يَحِلُّ مِنْهُنَّ بِمُفْرَدِهِ أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ. وَتَفَاصِيلُ الْأَحْوَالِ مِنْ حَالِ حِلِّ الِانْتِفَاعِ أَوْ حَالِ عِدَّةٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَعْلُومٌ لِلْمُخَاطَبِينَ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِمَاءِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْإِمَاءِ بِاسْمِ مَا الْمَوْصُولَةِ الْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا لِغَيْرِ الْعَاقِلِ جَرَى عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى تَأْوِيلٍ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ تَصْرِيحٌ بِزَائِدٍ عَلَى حُكْمِ مَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ كَوْنِ عَدَمِ الْحِفْظِ عَلَى الْأَزْوَاجِ وَالْمَمْلُوكَاتِ لَا يَمْنَعُ الْفَلَاحَ فَأُرِيدَ زِيَادَةُ بَيَانٍ أَنَّهُ أَيْضًا لَا يُوجِبُ اللَّوْمَ الشَّرْعِيَّ، فَيَدُلُّ هَذَا بِالْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْحِفْظِ عَلَى مَنْ سِوَاهُنَّ يُوجِبُ اللَّوْمَ الشَّرْعِيَّ لِيَحْذَرَهُ الْمُؤْمِنُونَ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ تَفْرِيعٌ لِلتَّصْرِيحِ عَلَى مَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي هُوَ
فِي قُوَّةِ الشَّرْطِ فَأَشْبَهَ التَّفْرِيعُ عَلَيْهِ جَوَاب الشَّرْط فقرىء بِالْفَاءِ تَحْقِيقًا لِلِاشْتِرَاطِ.
وَزِيدَ ذَلِكَ التَّحْذِيرُ تَقْرِيرًا بِأَنْ فُرِّعَ عَلَيْهِ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ لِأَنَّ دَاعِيَةَ غَلَبَةِ شَهْوَةِ الْفَرْجِ عَلَى حِفْظِ صَاحِبِهِ إِيَّاهُ غَرِيزَةٌ طَبِيعِيَّةٌ يُخْشَى أَنْ تَتَغَلَّبَ عَلَى حَافِظِهَا، فَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أَيْ وَرَاءَ الْأَزْوَاجِ وَالْمَمْلُوكَاتِ، أَيْ غَيْرَ ذَيْنَكَ الصِّنْفَيْنِ.
وَذُكِرَ حِفْظُ الْفَرْجِ هُنَا عَطْفًا عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ لِأَنَّ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ تَرْكُ اللَّغْوِ بِالْأَحْرَى كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا لِأَنَّ زَلَّةَ الصَّالِحِ قَدْ تَأْتِيهِ مِنَ انْفِلَاتِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ مِنْ جِهَةِ مَا أُودِعَ فِي الْجِبِلَّةِ مِنْ شَهْوَةِ اسْتِعْمَالِهِمَا
14
فَلِذَلِكَ ضَبَطَتِ الشَّرِيعَةُ اسْتِعْمَالَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ فِي الْأُمُورِ الصَّالِحَةِ الَّتِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهَا الدِّيَانَةُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنُ لَهُ الْجَنَّةَ»
. وَاللَّوْمُ: الْإِنْكَارُ عَلَى الْغَيْرِ مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ لَا يَلِيقُ عِنْدَ الْمُلَائِمِ، وَهُوَ مُرَادِفُ الْعَذْلِ وَأَضْعَفُ مِنَ التَّعْنِيفِ.
ووَراءَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَأَصْلُ الْوَرَاءِ اسْمُ الْمَكَانِ الَّذِي فِي جِهَةِ الظَّهْرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ الْخَارِجِ عَنِ الْحَدِّ الْمَحْدُودِ تَشْبِيهًا لِلْمُتَجَاوِزِ الشَّيْءَ بِشَيْءٍ مَوْضُوعٍ خَلْفَ ظَهْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَعْلَاقِ الشَّخْصِ يُجْعَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبِمَرْأَى مِنْهُ وَمَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ يُنْبَذُ وَرَاءَ الظَّهْرِ، وَهَذَا التَّخَيُّلُ شَاعَ عَنْهُ هَذَا الْإِطْلَاقُ بِحَيْثُ يُقَالُ:
هُوَ وَرَاءَ الْحَدِّ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَقْبِلَهُ. ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَصَارَ بِمَعْنَى (غَيْرَ) أَوْ (مَا عَدَا) كَمَا هُنَا، أَيْ فَمَنِ ابْتَغَوْا بِفُرُوجِهِمْ شَيْئًا غَيْرَ الْأَزْوَاجِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ.
وَأُتِيَ لَهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ لِيَكُونَ وَصْفُهُمْ بِالْعُدْوَانِ مَشْهُورًا مُقَرَّرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧]، وَالْعَادِي هُوَ الْمُعْتَدِي، أَيِ الظَّالِمُ لِأَنَّهُ عَدَا عَلَى الْأَمْرِ.
وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ، أَيْ هُمُ الْبَالِغُونَ غَايَةَ الْعُدْوَانِ عَلَى الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَالْقَوْلُ فِي إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ وَتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ كَمَا مرّ.
[٨]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٨]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨)
هَذِهِ صِفَةٌ أُخْرَى مِنْ جَلَائِلِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ تَنْحَلُّ إِلَى فَضِيلَتَيْنِ هُمَا فَضِيلَةُ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ الَّتِي يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهَا وَفَضِيلَةُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ.
15
فَالْأَمَانَةُ تَكُونُ غَالِبًا مِنَ النَّفَائِسِ الَّتِي يَخْشَى صَاحِبُهَا عَلَيْهَا التَّلَفَ فَيَجْعَلُهَا عِنْدَ مَنْ يَظُنُّ فِيهِ حِفْظَهَا، وَفِي الْغَالِبِ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى انْفِرَادٍ بَيْنَ الْمُؤْتَمِنِ وَالْأَمِينِ، فَهِيَ لِنَفَاسَتِهَا قَدْ تُغْرِي الْأَمِينَ عَلَيْهَا بِأَنْ لَا يَرُدَّهَا وَبِأَنْ يَجْحَدَهَا رَبَّهَا، وَلِكَوْنِ دَفْعِهَا فِي الْغَالِبِ عَرِيًّا عَنِ الْإِشْهَادِ تَبْعَثُ مَحَبَّتُهَا الْأَمِينَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَا وَعَدَمِ رَدِّهَا، فَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ رَدَّهَا مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ.
وَقَدْ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ «حَدَّثَنَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ»
وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ»
اهـ.
الْوَكْتُ: سَوَادٌ يَكُونُ فِي قِشْرِ التَّمْرِ. وَالْمَجْلُ: انْتِفَاخٌ فِي الْجِلْدِ الرَّقِيقِ يَكُونُ شِبْهَ قِشْرِ الْعِنَبَةِ يَنْشَأُ مِنْ مَسِّ النَّارِ الْجِلْدَ وَمِنْ كَثْرَةِ الْعَمَلِ بِالْيَدِ وَقَوْلُهُ: «مِثْقَالُ حَبَّةٍ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» هُوَ مَصْدَرُ آمَنَهُ، أَيْ وَمَا فِي قرارة نَفسه شَيْء مِنْ إِيمَانِ النَّاسِ إِيَّاهُ فَلَا يَأْتَمِنُهُ إِلَّا مَغْرُورٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَمَانَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥٨]. وَجَمَعَ الْأَماناتِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَنْوَاعِهَا وَتَعَدُّدِ الْقَائِمِينَ بِالْحِفْظِ تَنْصِيصًا عَلَى الْعُمُومِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِأَماناتِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِأَمَانَتِهِمْ بِالْإِفْرَادِ بِاعْتِبَارِ الْمَصْدَرِ مِثْلَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢].
16
وَالْعَهْدُ: الْتِزَامٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى شَيْءٍ يُعَامِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ الْآخَرَ بِهِ.
وَسمي عهدا لِأَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ بعد اللَّهِ، أَيْ بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ رَقِيبًا عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ لَا يُفِيتُهُمُ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى تَخَلُّفِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٧].
وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مِنْ أَعْظَمِ الْخُلُقِ الْكَرِيمِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى شَرَفِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَيْنِ قَدْ يَلْتَزِمُ كُلُّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ عَمَلًا عَظِيمًا فَيُصَادِفُ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الِالْتِزَامِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَشَّمَ عَمَلًا لِنَفْعِ غَيْرِهِ بِدُونِ مُقَابِلٍ يَنْتَفِعُ بِهِ هُوَ فَتُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ الْخَتْرَ بِالْعَهْدِ شُحًّا أَوْ خَوْرًا فِي الْعَزِيمَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ عَلَامَةً عَلَى عِظَمٍ النَّفْسِ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاء: ٣٤].
وَالرَّعْيُ: مُرَاقَبَةُ شَيْءٍ بِحِفْظِهِ مِنَ التَّلَاشِي وَبِإِصْلَاحِ مَا يَفْسَدُ مِنْهُ، فَمِنْهُ رَعْيُ الْمَاشِيَةِ، وَمِنْهُ رَعْيُ النَّاسِ، وَمِنْهُ أُطْلِقَتِ الْمُرَاعَاةُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ ذُو الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ. وَالْقَائِمُ بِالرَّعْيِ رَاعٍ.
فَرَعْيُ الْأَمَانَةِ: حِفْظُهَا، وَلَمَّا كَانَ الْحِفْظُ مَقْصُودًا لِأَجْلِ صَاحِبِهَا كَانَ رَدُّهَا إِلَيْهِ أَوْلَى مِنْ حِفْظِهَا. وَرَعْيُ الْعَهْدِ مَجَازٌ، أَيْ مُلَاحَظَتُهُ عِنْدَ كُلِّ مُنَاسَبَةٍ.
وَالْقَوْلُ فِي تَقْدِيمٍ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ عَلَى راعُونَ كالقول فِي نظايره السَّابِقَةِ، وَكَذَلِكَ إِعَادَةُ اسْمِ الْمَوْصُولِ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ رَعْيِ الْأَمَانَاتِ وَرَعْيِ الْعَهْدِ لِأَنَّ الْعَهْدَ كَالْأَمَانَةِ لِأَنَّ الَّذِي عَاهَدَكَ قَدِ ائْتَمَنَكَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الْعَهْدُ.
وَذَكَرَهُمَا عَقِبَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ أَمَانَةُ اللَّهِ عِنْدَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالْمَالِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ: حَقَّ اللَّهِ، وَحَقَّ الْمَالِ، وَحقّ الْمِسْكِين.
[٩]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٩]
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ
17
(٩)
ثَنَاءٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، أَيْ بِعَدَمِ إِضَاعَتِهَا أَوْ إِضَاعَةِ بَعْضِهَا، وَالْمُحَافَظَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الْحِفْظِ إِذْ لَيْسَتِ الْمُفَاعَلَةُ هُنَا حَقِيقِيَّةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ [الْبَقَرَة: ٢٣٨] وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْحِفْظِ قَرِيبًا.
وَجِيءَ بِالصَّلَوَاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَعْدَادِهَا كُلِّهَا تَنْصِيصًا عَلَى الْعُمُومِ.
وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢]
لِأَنَّ ذِكْرَ الصَّلَاةِ هُنَالِكَ جَاءَ تَبَعًا لِلْخُشُوعِ فَأُرِيدَ خَتْمُ صِفَاتِ مَدْحِهِمْ بِصِفَةِ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى الصَّلَوَاتِ لِيَكُونَ لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ كَمَالُ الِاسْتِقْرَارِ فِي الذِّهْنِ لِأَنَّهَا آخِرُ مَا قَرَعَ السَّمْعَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ.
وَقَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ تَكْرِيرُ ذِكْرِ الصَّلَاةِ تَنْوِيهًا بِهَا، وَرَدًّا لِلْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ تَحْسِينًا لِلْكَلَامِ الَّذِي ذُكِرَتْ فِيهِ تِلْكَ الصِّفَاتُ لِتَزْدَادَ النَّفْسُ قَبُولًا لِسَمَاعِهَا وَوَعْيِهَا فَتَتَأَسَّى بِهَا.
وَالْقَوْلُ فِي إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ وَتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ وَإِضَافَةِ الصَّلَوَاتِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ مِثْلَ الْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ وَنَظَائِرِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلى صَلَواتِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ عَلَى صَلَاتِهِمْ بِالْإِفْرَادِ.
وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أُصُولَ التَّقْوَى الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّهَا أَتَتْ عَلَى أَعْسَرِ مَا تُرَاضُ لَهُ النَّفْسُ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ.
فَجَاءَتْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ وَهُوَ أَسَاسُ التَّقْوَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: ١٧] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّور: ٣٩].
ثُمَّ ذُكِرَتِ الصَّلَاةُ وَهِيَ عِمَادُ التَّقْوَى وَالَّتِي تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَكَرُّرِ اسْتِحْضَارِ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَمُنَاجَاتِهِ.
18
وَذَكَرَتِ الْخُشُوعَ وَهُوَ تَمَامُ الطَّاعَةِ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَعْمَلُ الطَّاعَةَ لِلْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ غَيْرَ مُسْتَحْضِرٍ خُشُوعًا لِرَبِّهِ الَّذِي كَلَّفَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِذَا تَخَلَّقَ الْمُؤْمِنُ بِالْخُشُوعِ اشْتَدَّتْ مُرَاقَبَتُهُ رَبَّهُ فَامْتَثَلَ وَاجْتَنَبَ. فَهَذَانِ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ.
وَذَكَرَتِ الْإِعْرَاضَ عَنِ اللَّغْوِ، وَاللَّغْوُ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ الْمُتَعَلِّقِ بِاللِّسَانِ الَّذِي يَعْسُرُ إِمْسَاكُهُ فَإِذَا تَخَلَّقَ الْمُؤْمِنُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ فَقَدْ سَهُلَ عَلَيْهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ. وَفِي الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ خُلُقٌ لِلسَّمْعِ أَيْضًا كَمَا عَلِمْتَ.
وَذَكَرَتْ إِعْطَاءَ الصَّدَقَاتِ وَفِي ذَلِكَ مُقَاوَمَةُ دَاءِ الشُّحِّ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن: ١٦].
وَذَكَرَتْ حِفْظَ الْفَرْجِ، وَفِي ذَلِكَ خُلُقُ مُقَاوَمَةِ اطِّرَادِ الشَّهْوَةِ الْغَرِيزِيَّةِ بِتَعْدِيلِهَا وَضَبْطِهَا وَالتَّرَفُّعِ بِهَا عَنْ حَضِيضِ مُشَابَهَةِ الْبَهَائِمِ فَمَنْ تَخَلَّقَ بِذَلِكَ فَقَدْ صَارَ كَبْحُ الشَّهْوَةِ مَلَكَةً لَهُ وَخُلُقًا.
وَذَكَرَتْ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ وَهُوَ مَظْهَرٌ لِلْإِنْصَافِ وَإِعْطَاءِ ذِي الْحَقِّ حَقَّهُ وَمُغَالَبَةِ شَهْوَةِ النَّفْسِ لِأَمْتِعَةِ الدُّنْيَا.
وَذَكَرَتِ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَهُوَ مَظْهَرٌ لِخُلُقِ الْعَدْلِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَالْإِنْصَافِ مِنَ النَّفْسِ بِأَنْ يَبْذُلَ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْوَفَاءِ.
وَذَكَرَتِ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَهُوَ التخلق بالعناية بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الْحُدُودِ وَالْمَوَاقِيتِ وَذَلِكَ يَجْعَلُ انْتِظَامَ أَمْرِ الْحَيَاتَيْنِ مَلَكَةً وَخُلُقًا رَاسِخًا.
وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْخِصَالَ وَجَدْتَهَا تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ مَا مِنْ شَأْنِ النُّفُوسِ إِهْمَالُهُ مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالْخُشُوعِ وَتَرْكِ اللَّغْوِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَحِفْظِ الْعَهْدِ، وَإِلَى بَذْلِ مَا مِنْ شَأْنِ النُّفُوسِ إِمْسَاكُهُ مِثْلَ الصَّدَقَةِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.
فَكَانَ فِي مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَعْمَالُ مَلَكَتَيِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَهُمَا مَنْبَعُ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ لِمَنْ تَتَبَّعَهَا.
19
رَوَى النَّسَائِيُّ: أَنَّ عَائِشَةَ قِيلَ لَهَا: كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. وَقَرَأَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١] حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ. وَقَدْ كَانَ خُلُقُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ هَذَا، فِيمَا عَدَا حِفْظَ الْعَهْدِ غَالِبًا، قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الْأَنْفَال:
٣٥]، وَقَالَ فِي شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكَافِرِينَ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [الْقَصَص: ٥٥]، وَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: ٦، ٧]، وَقَدْ كَانَ الْبِغَاءُ وَالزِّنَى فَاشِيَيْنِ فِي الجاهليّة.
[١٠، ١١]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١١]
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)
جِيءَ لَهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ أَنْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الصِّفَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ لِيُفِيدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ
أَنَّ جَدَارَتَهُمْ بِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ حَصَلَتْ مِنَ اتِّصَافِهِمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] بَعْدَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إِلَى آخِرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢]. وَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ هُمُ الْأَحِقَّاءُ بِأَنْ يَكُونُوا الْوَارِثِينَ بِذَلِكَ.
وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِتَقْوِيَةِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، وَحُذِفَ مَعْمُولُ الْوارِثُونَ لِيَحْصُلَ إِبْهَامٌ وَإِجْمَالٌ فَيَتَرَقَّبُ السَّامِعُ بَيَانَهُ فَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ قَصْدًا لِتَفْخِيمِ هَذِهِ الْوِرَاثَةِ، وَالْإِتْيَانُ فِي الْبَيَانِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلسَّامِعِ بِمَضْمُونِ صِلَتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَعْرِيفَ الْوارِثُونَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ كَأَنَّهُ قِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ هَذَا الْوَصْفِ الْمَعْرُوفُونَ بِهِ.
وَاسْتُعِيرَتِ الْوِرَاثَةُ لِلِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لِأَنَّ الْإِرْثَ أَقْوَى الْأَسْبَابِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: ٧٢].
وَالْفِرْدَوْسُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ فِي مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنْ أَسْمَاءِ أَشْرَفِ جِهَاتِ الْجَنَّاتِ، وَأَصْلُ الْفِرْدَوْسِ: الْبُسْتَانُ الْوَاسِعُ الْجَامِعُ لِأَصْنَافِ الثَّمَرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُمِّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ لَمَّا أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَتَلَهُ، وَقَالَتْ أُمُّهُ: إِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ فَقَالَ لَهَا: «وَيحك أهبلت أَو جنّة وَاحِدَةٌ هِيَ، إِنَّهَا لَجِنَانٍ كَثِيرَةٍ وَإِنَّهُ لَفِي الْفِرْدَوْسِ»
. وَقَدْ
وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِه الْآيَات حَدِيث عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ثُمَّ قَرَأَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١] حَتَّى خَتَمَ عَشْرَ آيَاتٍ
. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ»
: قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هِيَ الْعَاشِرَةُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ.
[١٢- ١٤]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٤]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)
الْوَاوُ عَاطِفَةٌ غَرَضًا عَلَى غَرَضٍ وَيُسَمَّى عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، فَلِلْجُمْلَةِ حُكْمُ الِاسْتِينَافِ لِأَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١] الَّتِي هِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهَذَا شُرُوعٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَبِعَظِيمِ الْقُدْرَةِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَعَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَرْبُوبٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالِاعْتِبَارُ بِمَا فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ
دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ وَمِنْ عَظِيمِ النِّعْمَةِ. فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِبْطَالُ الشِّرْكِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ الْأَصِيلَ فِي ضَلَالِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ،
21
وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ امْتِنَانًا عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مَهَانَةِ الْعَدَمِ إِلَى شَرَفِ الْوُجُودِ وَذَلِكَ كُلُّهُ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَرَوْا فِي إِيمَانِهِمْ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ وَبَيْنَ فَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَلَكُوا طَرِيقًا غَيْرَ بَيِّنَةٍ فَحَادُوا عَنْ مُقْتَضَى الشُّكْرِ بِالشِّرْكِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ مُرَاعًى فِيهِ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ الْمُنَزَّلِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ هَذَا الْخَبَرَ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ الْعِلْمِ.
وَالْخَلْقُ: الْإِنْشَاءُ وَالصُّنْعُ، وَقد تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ فِي آلِ عِمْرَانَ [٤٧]. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ، وَفَسَّرَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ. وَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ.
وَالسُّلَالَةُ: الشَّيْءُ الْمَسْلُولُ، أَيِ الْمُنْتَزَعُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ، يُقَالُ: سَلَلْتُ السَّيْفَ، إِذَا أَخْرَجْتُهُ مِنْ غِمْدِهِ، فَالسُّلَالَةُ خُلَاصَةٌ مِنْ شَيْءٍ، وَوَزْنُ فُعَالَةٌ يُؤْذِنُ بِالْقِلَّةِ مِثْلَ الْقُلَامَةِ وَالصُّبَابَةِ.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ خَلَقْنَاهُ مُنْفَصِلًا وَآتِيًا مِنْ سُلَالَةٍ، فَتَكُونُ السُّلَالَةُ عَلَى هَذَا مَجْمُوعَ مَاءِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الْمَسْلُولِ مِنْ دَمِهِمَا.
وَهَذِهِ السُّلَالَةُ هِيَ مَا يُفْرِزُهُ جِهَازُ الْهَضْمِ مِنَ الْغِذَاءِ حِينَ يَصِيرُ دَمًا فَدَمُ الذَّكَرِ حِينَ يَمُرُّ عَلَى غُدَّتَيِ التَّنَاسُلِ (الْأُنْثَيَيْنِ) تُفْرِزُ مِنْهُ الْأُنْثَيَانِ مَادَّةً دُهْنِيَّةً شَحْمِيَّةً تَحْتَفِظُ بِهَا وَهِيَ الَّتِي تَتَحَوَّلُ إِلَى مَنِيٍّ حِينَ حَرَكَةِ الْجِمَاعِ، فَتِلْكَ السُّلَالَةُ مُخْرَجَةٌ مِنَ الطِّينِ لِأَنَّهَا مِنَ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي أَصْلُهَا مِنَ الْأَرْضِ. وَدَمُ الْمَرْأَةِ إِذَا مَرَّ عَلَى قَنَاةِ فِي الرَّحِمِ تَرَكَ فِيهَا بُوَيْضَاتٍ دَقِيقَةً هِيَ بَذْرُ الْأَجِنَّةِ. وَمِنَ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الْمَادَّةِ الدُّهْنِيَّةِ الَّتِي فِي الْأُنْثَيَيْنِ مَعَ الْبُوَيْضَةِ مِنَ الْبُوَيْضَاتِ الَّتِي فِي قَنَاةِ الرَّحِمِ يَتَكَوَّنُ الْجَنِينُ فَلَا جَرَمَ هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ.
وَقَوْلُهُ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ طَوْرٌ آخَرُ لِلْخَلْقِ وَهُوَ طَوْرُ اخْتِلَاطِ السُّلَالَتَيْنِ فِي الرَّحِمِ. سُمِّيَتْ سُلَالَةُ الذَّكَرَ نُطْفَةً لِأَنَّهَا تُنْطَفُ، أَيْ تُقْطَرُ فِي الرَّحِمِ فِي قَنَاةٍ مَعْرُوفَةٍ وَهُوَ الْقَرَارُ الْمَكِينُ.
22
فَ نُطْفَةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَقَوْلُهُ: فِي قَرارٍ مَكِينٍ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ جَعَلْناهُ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَعْلَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ السُّلَالَةِ. فَضَمِيرُ
جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنَ السُّلَالَةِ، فَالْمَعْنَى: جَعَلْنَا السُّلَالَةَ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، أَيْ وَضَعْنَاهَا فِيهِ حِفْظًا لَهَا، وَلِذَلِكَ غَيَّرَ فِي الْآيَةِ التَّعْبِيرَ عَنْ فِعْلِ الْخَلْقِ إِلَى فِعْلِ الْجَعْلِ الْمُتَعَدِّي بِ (فِي) بِمَعْنَى الْوَضْعِ.
وَالْقَرَارُ فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرُ قَرَّ إِذَا ثَبَتَ فِي مَكَانِهِ، وَقَدْ سُمِّيَ بِهِ هُنَا الْمَكَانُ نَفْسُهُ.
وَالْمَكِينُ: الثَّابِتُ فِي الْمَكَانِ بِحَيْثُ لَا يُقْلِعُ مِنْ مَكَانِهِ، فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُوصَفَ بِالْمَكِينِ الشَّيْءُ الْحَالُّ فِي الْمَكَانِ الثَّابِتُ فِيهِ. وَقَدْ وَقَعَ هُنَا وَصْفًا لِنَفْسِ الْمَكَانِ الَّذِي اسْتَقَرَّتْ فِيهِ النُّطْفَةُ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِلْمُبَالَغَةِ، وَحَقِيقَتُهُ مَكِينٌ حَالُّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٣٧] وَقَوْلُهُ:
فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٥].
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ آدَمُ. وَقَالَ بِذَلِكَ قَتَادَةُ فَتَكُونُ السُّلَالَةُ الطِّينَةُ الْخَاصَّةُ الَّتِي كَوَّنَ اللَّهُ مِنْهَا آدَمَ وَهِيَ الصَّلْصَالُ الَّذِي مَيَّزَهُ مِنَ الطِّينِ فِي مَبْدَأِ الْخَلِيقَةِ، فَتِلْكَ الطِّينَةُ مَسْلُولَةٌ سَلًّا خَاصًّا مِنَ الطِّينِ لِيَتَكَوَّنَ مِنْهَا حَيٌّ، وَعَلَيْهِ فَضَمِيرُ جَعَلْناهُ نُطْفَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ نَسْلًا لِآدَمَ فَيَكُونُ فِي الضَّمِيرِ اسْتِخْدَامٌ، وَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السَّجْدَة: ٧، ٨].
وَحَرْفُ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ إِذْ كَانَ خَلْقُ النُّطْفَةِ عَلَقَةً أَعْجَبَ مِنْ خَلْقِ النُّطْفَة إِذْ قد صَيَّرَ الْمَاءَ السَّائِلَ دَمًا جَامِدًا فَتَغَيَّرَ بِالْكَثَافَةِ وَتَبَدَّلَ اللَّوْنُ مِنْ عَوَامِلَ أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي الرَّحِمِ.
وَمِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيِّ تَسْمِيَةُ هَذَا الْكَائِنِ بِاسْمِ الْعَلَقَةِ فَإِنَّهُ وَضْعٌ بَدِيعٌ لِهَذَا الِاسْمِ إِذْ قَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ أَنَّ هَذَا الْجُزْءَ الَّذِي اسْتَحَالَتْ
23
إِلَيْهِ النُّطْفَةُ هُوَ كَائِنٌ لَهُ قُوَّةُ امْتِصَاصِ الْقُوَّةِ مِنْ دَمِ الْأُمِّ بِسَبَبِ الْتِصَاقِهِ بِعُرُوقٍ فِي الرَّحِمِ تَدْفَعُ إِلَيْهِ قُوَّةَ الدَّمِ، وَالْعَلَقَةُ:
قِطْعَةٌ مِنْ دَمٍ عَاقِدٍ.
وَالْمُضْغَةُ: الْقِطْعَةُ الصَّغِيرَةُ مِنَ اللَّحْمِ مِقْدَارُ اللُّقْمَةِ الَّتِي تُمْضَغُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ كَيْفِيَّةُ تَخَلُّقِ الْجَنِينِ.
وَعَطَفَ جَعْلَ الْعَلَقَةِ مُضْغَةً بِالْفَاءِ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ الْعَلَقَةِ إِلَى الْمُضْغَةِ يُشْبِهُ تَعْقِيبَ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ إِذِ اللَّحْمُ وَالدَّمُ الْجَامِدُ مُتَقَارِبَانِ فَتَطَوُّرُهُمَا قَرِيبٌ وَإِنْ كَانَ مُكْثُ كُلِّ طَوْرٍ
مُدَّةً طَوِيلَةً.
وَخَلْقُ الْمُضْغَةِ عِظَامًا هُوَ تَكْوِينُ الْعِظَامِ فِي دَاخِلِ تِلْكَ الْمُضْغَةِ وَذَلِكَ ابْتِدَاءُ تَكْوِينِ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ عَظْمٍ وَلَحْمٍ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً بِفَاءِ التَّفْرِيعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُرِّرَ فِي عَطْفِ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ بِالْفَاءِ.
فَمَعْنَى فَكَسَوْنَا أَنَّ اللَّحْمَ كَانَ كَالْكِسْوَةِ لِلْعِظَامِ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِظَامَ بَقِيَتْ حِينًا غَيْرَ مَكْسُوَّةٍ،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ»
الْحَدِيثُ، فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَقَدْ تَهَيَّأَ لِلْحَيَاةِ وَالنَّمَاءِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ لِأَنَّ الْخَلْقَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ كَانَ دُونَ حَيَاةٍ ثُمَّ نَشَأَ فِيهِ خَلْقُ الْحَيَاةِ وَهِيَ حَالَةٌ أُخْرَى طَرَأَتْ عَلَيْهِ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْإِنْشَاءِ. وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى التَّفَاوُتِ الرُّتْبِيِّ بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ عَطَفَ هَذَا الْإِنْشَاءَ بِ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ عَلَى أَصْلِ التَّرْتِيبِ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ بِ (ثُمَّ).
وَهَذِهِ الْأَطْوَارُ الَّتِي تَعَرَّضَتْ لَهَا الْآيَةُ سَبْعَةُ أَطْوَارٍ فَإِذَا تَمَّتْ فَقَدْ صَارَ الْمُتَخَلِّقُ حَيًّا،
وَفِي «شَرْحِ الْمُوَطَّأِ» :«تَنَاجَى رَجُلَانِ فِي مَجْلِسِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٌّ حَاضِرٌ فَقَالَ لَهُمَا عُمَرُ: مَا هَذِهِ الْمُنَاجَاةُ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْيَهُودَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَزْلَ هُوَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى
24
تَمُرَّ عَلَيْهَا التَّارَاتُ السَّبْعُ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ الْآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ لِعَلِيٍّ: صَدَقْتَ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ»
. فَقِيلَ: إِنَّ عُمَرَ أَوَّلُ مَنْ دَعَا بِكَلِمَةِ «أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعِظامَ فِيهِمَا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَن عَاصِم عِظاماً.. والْعَظْمُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ.
وَفُرِّعَ عَلَى حِكَايَةِ هَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ إِنْشَاءُ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أَيْ أَحْسَنُ الْمُنْشِئِينَ إِنْشَاءً، لِأَنَّهُ أَنْشَأَ مَا لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ إِنْشَاءَهُ.
وَلَمَّا كَانَتْ دَلَالَةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ أَسْبِقَ إِلَى اعْتِبَارِ الْمُعْتَبِرِ كَانَ الثَّنَاءُ الْمُعَقَّبُ بِهِ ثَنَاءً عَلَى بَدِيعِ قُدْرَةِ الْخَالِقِ مُشْتَقًّا مِنَ الْبَرَكَةِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ.
وَصِيغَةُ تَفَاعَلَ صِيغَةُ مُطَاوَعَةٍ فِي الْأَصْلِ، وَأَصْلُ الْمُطَاوَعَةِ قَبُولُ أَثَرِ الْفِعْلِ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي لَازِمِ ذَلِكَ وَهُوَ التَّلَبُّسُ بِمَعْنَى الْفِعْلِ تَلَبُّسًا مَكِينًا لِأَنَّ شَأْنَ الْمُطَاوَعَةِ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ مُعَالَجَةِ الْفِعْلِ فَتَقْتَضِي ارْتِسَاخَ مَعْنَى الْفِعْلِ فِي الْمَفْعُولِ الْقَابِلِ لَهُ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ الْمَفْعُولُ
فَاعِلًا فَيُقَالُ: كَسَّرْتُهُ فَتَكَسَّرَ، فَلِذَلِكَ كَانَ تَفَاعَلَ إِذَا جَاءَ بِمَعْنَى فَعَلَ دَالًّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّضِيُّ فِي «شَرْحِ الشَّافِيَةِ»، وَلِذَلِكَ تَتَّفِقُ صِيَغُ الْمُطَاوَعَةِ وَصِيَغُ التَّكَلُّفِ غَالِبًا فِي نَحْوِ: تَثَنَّى. وَتَكَبَّرَ، وَتَشَامَخَ، وتقاعس. فَمَعْنَى فَتَبارَكَ اللَّهُ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْعَظَمَةِ فِي الْخَيْرِ، أَيْ عَظَمَةُ مَا يُقَدِّرُهُ مِنْ خَيْرٍ لِلنَّاسِ وَصَلَاحٍ لَهُمْ.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِأَنَّ تَبَارَكَ لَمَّا حُذِفَ مُتَعَلِّقُهُ كَانَ عَامًّا فَيَشْمَلُ عَظَمَةَ الْخَيْرِ فِي الْخَلْقِ وَفِي غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ حَذْفُ مُتَعَلِّقِ الْخالِقِينَ يَعُمُّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَخَلْقَ غَيْرِهِ كالجبال وَالسَّمَاوَات.
[١٥، ١٦]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ
(١٦)
إِدْمَاجٌ فِي أَثْنَاءِ تَعْدَادِ الدَّلَائِلِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ لِقَصْدِ إِبْطَالِ الشِّرْكِ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ أَهَمِّيَّةَ التَّذْكِيرِ بِالْمَوْتِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَقْوَى مِنْ أَهَمِّيَّةِ ذِكْرِ الْخَلْقِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ مَوْتِهِمْ تَوْطِئَةٌ لِلْجُمْلَةِ بَعْدَهُ وَهِيَ قَوْلُهُ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الْملك: ٢]. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَهَا حُكْمُ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٧]. وَلِكَوْنِ ثُمَّ لَمْ تُفِدْ مُهْلَةً فِي الزَّمَانِ هُنَا صَرَّحَ بِالْمُهْلَةِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْخَلْقِ الْمُبَيَّنِ آنِفًا، أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ وَالنَّمَاءِ الْمُحْكَمِ أَنْتُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ تَعْطِيلُ أَثَرِ ذَلِكَ الْإِنْشَاءِ ثُمَّ مَصِيرُهُ إِلَى الْفَسَادِ وَالِاضْمِحْلَالِ. وَأَكَّدَ هَذَا الْخَبَرَ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ مَعَ كَوْنِهِمْ لَا يَرْتَابُونَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَعرضُوا عَن التَّدْبِير فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ.
وَتَوْكِيدُ خَبَرِ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ. وَيَكُونُ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: ١٥]، فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَقْوِيَة التَّأْكِيد بِأَكْثَرِ مِنْ حَرْفِ التَّأْكِيدِ وَإِنْ كَانَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ قَوِيًّا.
وَنُقِلَ الْكَلَامُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَنُكْتَتُهُ هُنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّذْكِيرُ بِالْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيضِ بِالتَّخْوِيفِ وَإِنَّمَا يُنَاسِبه الْخطاب.
[١٧]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ١٧]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧)
انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ لِأَنَّ أَمْرَهَا أَعْجَبُ، وَإِن كَانَ خلق الْإِنْسَان إِلَى نظره أَقْرَبَ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ
26
عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢] وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا عَقِبَ قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٦] لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ مَا خَلَقَهُ إِلَّا لِحِكْمَةٍ، وَأَنَّ الْحَكِيمَ لَا يُهْمِلُ ثَوَابَ الصَّالِحِينَ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ، وَلَا جَزَاءَ الْمُسِيئِينَ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ، وَأَنَّ جَعْلَهُ تِلْكَ الطَّرَائِقَ فَوْقَنَا بِحَيْثُ نَرَاهَا لَيَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ لَهَا صِلَةً بِنَا لِأَنَّ عَالَمَ الْجَزَاءِ كَائِنٌ فِيهَا وَمَخْلُوقَاتِهِ مُسْتَقِرَّةٌ فِيهَا، فَالْإِشَارَةُ بِهَذَا التَّرْتِيبِ مِثْلَ الْإِشَارَةِ بِعَكْسِهِ فِي قَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدُّخان: ٣٨- ٤٠].
وَالطَّرَائِقُ: جَمْعُ طَرِيقَةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِلطَّرِيقِ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا طَرَائِقُ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَهِيَ أَفْلَاكُهَا، أَيِ الْخُطُوطُ الْفَرْضِيَّةُ الَّتِي ضَبَطَ النَّاسُ بِهَا سُمُوتَ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ، وَقَدْ أطلق على الْكَوَاكِب اسْمُ الطَّارِقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ [الطارق: ١] مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِي سَمْتٍ يُسَمَّى طَريقَة فَإِن السائر فِي طَرِيقٍ يُقَالُ لَهُ: طَارِقٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّرَائِقَ تَسْتَلْزِمُ سَائِرَاتٍ فِيهَا، فَكَانَ الْمَعْنَى: خَلَقْنَا سَيَّارَاتٍ وَطَرَائِقَهَا.
وَذُكِرَ فَوْقَكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ فِي أَحْوَالِهَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ لَهَا تَعَالَى فَإِنَّهَا بِحَالَةِ إِمْكَانِ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَالتَّأَمُّلِ فِيهَا.
وَلِأَنَّ كَوْنَهَا فَوْقَ النَّاسِ مِمَّا سَهَّلَ انْتِفَاعَهُمْ بِهَا فِي التَّوْقِيتِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ لُطْفًا بِالْخَلْقِ وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِم فِي شؤون حَيَاتِهِمْ، وَهَذَا امْتِنَانٌ، فَالْوَاوُ فِي جُمْلَةِ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ لِلْحَالِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لِلنَّظَرِ فِي أَنَّ عَالَمَ الْجَزَاءِ كَائِنٌ بِتِلْكَ الْعَوَالِمِ قَالَ تَعَالَى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذاريات: ٢٢].
وَالْخَلْقُ مَفْعُولٌ سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ مَا كُنَّا غَافِلِينَ عَنْ حَاجَةِ مَخْلُوقَاتِنَا يَعْنِي الْبَشَرَ، وَنَفْيُ الْغَفْلَةِ كِنَايَةٌ عَنِ الْعِنَايَةِ وَالْمُلَاحَظَةِ، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ فِي خَلْقِ الطَّرَائِقِ السَّمَاوِيَّةِ لِمَا خُلِقَتْ لَهُ لُطْفًا بِالنَّاسِ أَيْضًا إِذْ كَانَ نِظَامُ خَلْقِهَا صَالِحًا
27
لِانْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِ فِي مَوَاقِيتِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كَمَا قَالَ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَام: ٩٧]. وَأَعْظَمُ تِلْكَ الطَّرَائِقِ طَرِيقَةُ الشَّمْسِ مَعَ مَا زَادَتْ بِهِ مِنَ النَّفْعِ بِالْإِنَارَةِ وَإِصْلَاحِ الْأَرْضِ وَالْأَجْسَادِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ لِحِكْمَةٍ لَا
تَعْلَمُونَهَا وَمَا أَهْمَلْنَا فِي خَلْقِهَا رَعْيَ مصالحكم أَيْضا.
والعدول عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَمَا كُنَّا عَنْكُمْ غَافِلِينَ، لِمَا يُفِيدُهُ الْمُشْتَقُّ مِنْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ مَا كُنَّا عَنْكُمْ غَافِلِينَ لِأَنَّكُمْ مَخْلُوقَاتُنَا فَنَحْنُ نُعَامِلُكُمْ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ الشُّكْرِ وَالْإِقْلَاعِ عَن الْكفْر.
[١٨- ٢٠]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ١٨ إِلَى ٢٠]
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)
مُنَاسَبَةُ عَطْفِ إِنْزَالِ مَاءِ الْمَطَرِ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ [الْمُؤْمِنُونَ:
١٧] أَنَّ مَاءَ الْمَطَرِ يَنْزِلُ مِنْ صَوْبِ السَّمَاءِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ.
وَفِي إِنْزَالِ مَاءِ الْمَطَرِ دَلَالَةٌ عَلَى سِعَةِ الْعِلْمِ وَدَقِيقِ الْقُدْرَةِ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا مِنَّةٌ عَلَى الْخَلْقِ فَالْكَلَامُ اعْتِبَارٌ وَامْتِنَانٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ إِلَى آخِرِهِ. وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ الرَّعْدِ وَسُورَةِ النَّحْلِ.
وَإِنْزَالُ الْمَاءِ هُوَ إِسْقَاطُهُ مِنَ السُّحُبِ مَاءً وَثَلْجًا وَبَرَدًا عَلَى السُّهُولِ وَالْجِبَالِ.
28
وَالْقَدَرُ هُنَا: التَّقْدِيرُ وَالتَّعْيِينُ لِلْمِقْدَارِ فِي الْكَمِّ وَفِي النَّوْبَةِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صَرِيحِهِ، أَيْ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مُنَاسِبٍ لِلْإِنْعَامِ بِهِ لِأَنَّهُ إِذَا أُنْزِلَ كَذَلِكَ حَصَلَ بِهِ الرِّيُّ وَالتَّعَاقُبُ، وَكَذَلِكَ ذَوَبَانُ الثُّلُوجِ النَّازِلَةِ. وَيَصِحُّ أَنْ يُقْصَدَ مَعَ ذَلِكَ الْكِنَايَةُ عَنِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَدَرِ هُنَا الْمَعْنَى الَّذِي
فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَتُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
. وَالْإِسْكَانُ: جَعْلُ الشَّيْءِ فِي مَسْكَنٍ، وَالْمَسْكَنُ: مَحَلُّ الْقَرَارِ، وَهُوَ مَفْعَلٌ اسْمُ مَكَانٍ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّكُونِ.
وَأَطْلَقَ الْإِسْكَانَ عَلَى الْإِقْرَارِ فِي الْأَرْضِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ. وَهَذَا الْإِقْرَارُ عَلَى نَوْعَيْنِ: إِقْرَارٌ قَصِيرٌ مِثْلَ إِقْرَارِ مَاءِ الْمَطَرِ فِي الْقِشْرَةِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْأَرْضِ عَقِبَ نُزُولِ الْأَمْطَارِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ غَزَارَةُ الْمَطَرِ وَرَخَاوَةُ الْأَرْضِ وَشِدَّةُ الْحَرَارَةِ أَوْ شِدَّةُ الْبَرْدِ، وَهُوَ مَا يَنْبُتُ بِهِ النَّبَاتُ فِي الْحَرْثِ وَالْبَقْلُ فِي الرَّبِيعِ وَتَمْتَصُّ مِنْهُ الْأَشْجَارُ بِعُرُوقِهَا فَتُثْمِرُ إِثْمَارَهَا وَتَخْرُجُ بِهِ عُرُوقُ الْأَشْجَارِ وَأُصُولُهَا مِنَ الْبُزُورِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ.
وَنَوْعٌ آخَرُ هُوَ إِقْرَارٌ طَوِيلٌ وَهُوَ إِقْرَارُ الْمِيَاهِ الَّتِي تَنْزِلُ مِنَ الْمَطَرِ وَعَنْ ذَوْبِ الثُّلُوجِ النَّازِلَةِ فَتَتَسَرَّبُ إِلَى دَوَاخِلِ الْأَرْضِ فَتَنْشَأُ مِنْهَا الْعُيُونُ الَّتِي تَنْبُعُ بِنَفْسِهَا أَوْ تُفَجَّرُ بِالْحَفْرِ آبَارًا.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا. وَفِي هَذَا تَذْكِيرٌ بِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى صَالِحَةٌ لِلْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَتَنْكِيرُ ذَهابٍ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ. وَمَعْنَى التَّعْظِيمِ هُنَا تَعَدُّدُ أَحْوَالِ الذَّهَابِ بِهِ مِنْ تَغْوِيرِهِ إِلَى أَعْمَاقِ الْأَرْضِ بِانْشِقَاقِ الْأَرْضِ بِزِلْزَالٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْ تَجْفِيفِهِ بِشِدَّةِ الْحَرَارَةِ، وَمِنْ إِمْسَاكِ إِنْزَالِهِ زَمَنًا طَوِيلًا.
وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الْملك: ٣٠]، وَفِي «الْكَشَّافِ» :«وَهُوَ (أَيْ مَا فِي هَاتِهِ الْآيَةِ) أَبْلَغُ فِي الْإِيعَادِ
29
مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الْملك: ٣٠] اهـ. فَبَيَّنَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» (١) » لِلْأَبْلَغِيَّةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَجْهًا:
الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ وَهَذَا عَلَى الْجَزْمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى تَحْقِيقِ مَا أَوْعَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ.
الثَّانِي: التَّوْكِيدُ بِ (إِنَّ).
الثَّالِثُ: اللَّامُ فِي الْخَبَرِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ فِي مُطْلَقِ الْمَاءِ الْمُنَزَّلِ مِنَ السَّمَاءِ وَتِلْكَ فِي مَاءٍ مُضَافٍ إِلَيْهِمْ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْغَائِرَ قَدْ يَكُونُ بَاقِيًا بِخِلَافِ الذَّاهِبِ.
السَّادِسُ: مَا فِي تَنْكِيرِ ذَهابٍ مِنَ الْمُبَالَغَةِ.
السَّابِعُ: إِسْنَادُهُ هَاهُنَا إِلَى مُذْهِبٍ بِخِلَافِهِ ثَمَّتْ حَيْثُ قيل غَوْراً [الْملك: ٣٠].
الثَّامِنُ: مَا فِي ضَمِيرِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ مِنَ الرَّوْعَةِ.
التَّاسِعُ: مَا فِي لَقادِرُونَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ مِنَ الْقَادِرِ أَبْلَغُ.
الْعَاشِرُ: مَا فِي جَمْعِهِ.
الْحَادِي عَشَرَ: مَا فِي لَفْظِ بِهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا يُمْسِكُهُ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ.
الثَّانِي عَشَرَ: إِخْلَاؤُهُ مِنَ التَّعْقِيبِ بِإِطْمَاعٍ وَهُنَالِكَ ذُكِرَ الْإِتْيَانُ الْمَطْمَعُ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: تَقْدِيم مَا فِيهِ الْإِيعَادِ وَهُوَ الذَّهَابُ عَلَى مَا هُوَ كَالْمُتَعَلِّقِ لَهُ أَوْ مُتَعَلِّقِهِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْكُوفِيِّ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: مَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ مِنَ التَّفَاوُتِ ثَبَاتًا وَغَيْرَهُ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: مَا فِي لفظ أَصْبَحَ [الْملك: ٣٠] مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ وَالصَّيْرُورَةِ.
السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ الْإِذْهَابَ هَاهُنَا مُصَرَّحٌ بِهِ وَهُنَالِكَ مَفْهُومٌ مِنْ سِيَاقِ الِاسْتِفْهَامِ.
_________
(١) هُوَ مُحَمَّد السيرافي القالي الشقار من أهل أَوَاخِر الْقرن السَّابِع.
30
السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ هُنَالِكَ نَفْيُ مَاءٍ خَاصٍّ أَعْنِي الْمَعِينَ بِخِلَافِهِ هَاهُنَا.
الثَّامِنَ عَشَرَ: اعْتِبَارُ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْفِي كُلٌّ مِنْهَا مُؤَكِّدًا.
وَزَادَ الْآلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» فَقَالَ:
التَّاسِعَ عَشَرَ: إِخْبَارُهُ تَعَالَى نَفْسُهُ بِهِ مِنْ دُونِ أَمْرٍ لِلْغَيْرِ هَاهُنَا بِخِلَافِهِ هُنَالِكَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ.
الْعِشْرُونَ: عَدَمُ تَخْصِيصِ مُخَاطَبٍ هَاهُنَا وَتَخْصِيصُ الْكُفَّارِ بِالْخِطَابِ هُنَالِكَ.
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: التَّشْبِيهُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جَعْلِ الْجُمْلَةِ حَالًا فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَحْقِيقَ الْقُدْرَةِ وَلَا تَشْبِيهَ ثَمَّتَ.
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: إِسْنَادُ الْقُدْرَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى مَرَّتَيْنِ.
وَنَقَلَ الْآلُوسِيُّ عَنْ عَصْرِيِّهِ الْمَوْلَى مُحَمَّدٍ الزَّهَاوِيِّ وُجُوهًا وَهِيَ:
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: تَضْمِينُ الْإِيعَادِ هُنَا إِيعَادُهُمْ بِالْإِبْعَادِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ (ذَهَبَ بِهِ) يَسْتَلْزِمُ مُصَاحَبَةَ الْفَاعِلِ الْمَفْعُولَ، وَذَهَابَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ مَعَ الْمَاءِ بِمَعْنَى ذَهَابِ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ وَلَعْنِهِمْ وَطَرْدِهِمْ عَنْهَا وَلَا كَذَلِكَ مَا هُنَاكَ.
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ لَيْسَ الْوَقْتُ لِلذَّهَابِ مُعَيَّنًا هُنَا بِخِلَافِهِ فِي إِنْ أَصْبَحَ [الْملك:
٣٠] فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الصَّيْرُورَةَ فِي الصُّبْحِ عَلَى أَحَدِ اسْتِعْمَالَيْ (أَصْبَحَ) نَاقِصًا.
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ جِهَةَ الذَّهَابِ بِهِ لَيْسَتْ مُعَيَّنَةً بِأَنَّهَا السُّفْلُ (أَيْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ غَوْرًا).
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْإِيعَادَ هُنَا بِمَا لَمْ يُبْتَلُوا بِهِ قطّ بِخِلَافِهِ بِمَا هُنَالِكَ.
السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْمُوعَدَ بِهِ هُنَا إِنْ وَقَعَ فَهُمْ هَالِكُونَ أَلْبَتَّةَ.
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ هُنَا لَهُمْ مُتَشَبِّثٌ وَلَوْ ضَعِيفًا فِي تَأْمِيلِ امْتِنَاعِ الْمَوْعِدِ بِهِ وَهُنَاكَ حَيْثُ أَسْنَدَ الْإِصْبَاحَ غَوْرًا إِلَى الْمَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَاءَ
31
لَا يُصْبِحُ غَوْرًا بِنَفْسِهِ كَمَا هُوَ تَحْقِيقُ مَذْهَبِ الْحَكِيمِ، أَيْضًا احْتُمِلَ أَنْ يُتَوَهَّمَ الشَّرْطِيَّةُ مَعَ صِدْقِهَا مُمْتَنِعَةَ الْمَقْدَمِ فَيَأْمَنُوا وُقُوعَهُ.
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْمُوعَدَ بِهِ هُنَا يحْتَمل فِي بادىء النَّظَرِ وُقُوعُهُ حَالًا بِخِلَافِهِ هُنَاكَ فَإِنَّ الْمُسْتَقْبَلَ مُتَعَيِّنٌ لِوُقُوعِهِ لِمَكَانِ (إِنْ). وَظَاهِرٌ أَنَّ التَّهْدِيدَ بِمُحْتَمَلِ الْوُقُوعِ فِي الْحَالِ أَهْوَلُ، وَمُتَعَيِّنِ الْوُقُوعِ فِي الِاسْتِقْبَالِ أَهْوَنُ.
الثَّلَاثُونَ: أَنَّ مَا هُنَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْإِيعَادِ بِخِلَافِ مَا هُنَاكَ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ وَلَوْ عُلِمَ بُعْدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِامْتِنَانُ بِأَنَّهُ: إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَلَا يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ سِوَى اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَنَا أَقُولُ: عُنِيَ هَؤُلَاءِ النَّحَارِيرُ بِبَيَانِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدُهُمْ لِلْكَشْفِ عَنْ وَجْهِ تَوْفِيرِ الْخَصَائِصِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ الْآيَةِ الْأُخْرَى مِمَّا يُوَازِنُهَا، وَلَيْسَ ذَلِك لخو الْآيَةِ عَنْ نُكَتِ الْإِعْجَازِ وَلَا عَجْزِ النَّاظِرِينَ عَنِ اسْتِخْرَاجِ أَمْثَالِهَا، وَلَكِنْ مَا يُبَيَّنُ مِنَ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ لَيْسَ يُرِيدُ مَنْ يُبَيِّنُهُ أَنَّ مَا لَاحَ لَهُ وَوُفِّقَ إِلَيْهِ هُوَ قُصَارَى مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ مِنَ الْخَصَائِصِ وَالْمَعَانِي وَلَكِنَّهُ مُبَلِّغٌ مَا صَادَفَ لَوْحُهُ لِلنَّاظِرِ الْمُتَدَبِّرِ، وَالْعُلَمَاءُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْكَشْفِ عَنْهُ عَلَى قَدْرِ الْقَرَائِحِ وَالْفُهُومِ فَقَدْ يُفَاضُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ إِدْرَاكِ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ وَلَا يُفَاضُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ أَوْ عَلَى مِثْلِهِ فِي غَيْرِهَا. وَإِنَّمَا يَقْصِدُ أَهْلُ الْمَعَانِي بِإِفَاضَةِ الْقَوْلِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ أَنْ تَكُونَ نَمُوذَجًا لِاسْتِخْرَاجِ أَمْثَالِ تِلْكَ الْخَصَائِصِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَمَا فَعَلَ السَّكَّاكِيُّ فِي بَيَانِ خَصَائِصِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [هود: ٤٤] الْآيَةُ مِنْ مَبْحَثِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ مِنَ «الْمِفْتَاحِ»، وَأَنَّهُ قَالَ فِي مُنْتَهَى كَلَامِهِ «وَلَا تَظُنَّنَّ الْآيَةَ مَقْصُورَةً عَلَى مَا ذَكَرْتُ فَلَعَلَّ مَا تَرَكْتُ أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرْتُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْإِرْشَادُ لِكَيْفِيَّةِ اجْتِنَاءِ ثَمَرَاتِ عِلْمَيِ
الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ»
.
32
وَقَدْ نَقُولُ: إِنَّ آيَةَ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ قُصِدَ مِنْهَا الْإِنْذَارُ وَالتَّهْدِيدُ بِسَلْبِ تِلْكَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْمُلْكِ فَالْقَصْدُ مِنْهَا الِاعْتِبَارُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَلْبِهَا، فَاخْتِلَافُ الْمَقَامَيْنِ لَهُ أَثَرٌ فِي اخْتِلَافِ الْمُقْتَضَيَاتِ فَكَانَتْ آيَةُ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ آثَرَ بِوَفْرَةِ الْخَصَائِصِ الْمُنَاسِبَةِ لِمَقَامِ الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ دُونَ تَعْطِيلٍ لِاسْتِخْرَاجِ خَصَائِصٍ فِيهَا لَعَلَّنَا نُلِمُّ بِهَا حِينَ نَصِلُ إِلَيْهَا.
عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْمُلْكِ نَزَلَتْ عَقِبَ نُزُولِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ يَتَدَاخَلُ نُزُولُ بَعْضِهَا مَعَ نُزُولِ بَعْضِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أُشْبِعَتْ آيَةُ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي اقْتَضَاهَا الْمَقَامُ اكْتُفِيَ عَنْ مِثْلِهَا فِي نَظِيرَتِهَا مِنْ سُورَةِ الْمُلْكِ فَسَلَكَ فِي الثَّانِيَةِ مَسْلَكَ الْإِيجَازِ لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِنَظِيرِهَا.
وَإِنْشَاءُ الْجَنَّاتِ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى أَوَّلُ إِنْبَاتِ الْجَنَّاتِ فِي الْأَرْضِ وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ أُنْبِتَتِ الْجَنَّاتُ بِغَرْسِ الْبَشَرِ وَذَلِكَ أَيْضًا مِنْ صُنْعِ اللَّهِ بِمَا أَوْدَعَ فِي الْعُقُولِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ وَالسَّقْيِ وَتَفْجِيرِ الْمِيَاهِ وَاجْتِلَابِهَا مِنْ بُعْدٍ فَكُلُّ هَذَا الْإِنْشَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْجَنَّةُ: الْمَكَانُ ذُو الشَّجَرِ، وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ نَخْلٌ وَكَرْمٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٥].
وَمَا ذُكِرَ هُنَا مِنْ أَصْنَافِ الشَّجَرِ الثَّلَاثَةِ هُوَ أَكْرَمُ الشَّجَرِ وَأَنْفَعُهُ ثَمَرًا وَهُوَ النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ وَالزَّيْتُونُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَالزَّيْتُونِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٩] وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ [١١].
وَالْفَوَاكِهُ: جَمَعُ فَاكِهَةٍ، وَهِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يُتَفَكَّهُ بِأَكْلِهِ، أَيْ يُتَلَذَّذُ بِطَعْمِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْقُوتِ، فَإِنْ قُصِدَ بِهِ الْقُوتُ قِيلَ لَهُ طَعَامٌ. فَمِنَ الْأَطْعِمَةِ مَا هُوَ فَاكِهَةٌ وَطَعَامٌ كَالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَيَابِسًا، وَمِنْهَا مَا هُوَ فَاكِهَةٌ وَلَيْسَ بِطَعَامٍ كَاللَّوْزِ وَالْكُمَّثْرَى، وَمِنْهَا مَا هُوَ طَعَامٌ غَيْرُ فَاكِهَةٍ كَالزَّيْتُونِ، وَلِذَلِكَ أَخَّرَ ذِكْرَ شَجَرَةِ الزَّيْتُونِ عَنْ ذِكْرِ أَخَوَيْهَا لِأَنَّهُ أُرِيدَ الِامْتِنَانُ بِمَا فِي ثَمَرَتِهِمَا مِنَ التَّفَكُّهِ وَالْقُوتِ فَتَكُونُ مِنَّةً بِالْحَاجِيِّ وَالتَّحْسِينِيِّ.
33
وَوَصَفَ الْفَوَاكِهَ بِ كَثِيرَةٌ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ كَالْبُسْرِ وَالرَّطْبِ وَالتَّمْرِ، وَكَالزَّيْتِ وَالْعِنَبِ الرَّطْبِ، وَأَيْضًا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ إِثْمَارِ هَذَيْنِ الشَّجَرَيْنِ.
وَشَجَرَةً عَطْفٌ عَلَى جَنَّاتٍ أَيْ وَأَخْرَجْنَا لَكُمْ بِهِ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ
وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ، وَجُمْلَةُ تَخْرُجُ صِفَةٌ لِ شَجَرَةً وَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ مَعَ طَيِّ كَوْنِ النَّاسِ مِنْهَا يَأْكُلُونَ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهَا، وَإِيمَاءٌ إِلَى كَثْرَةِ مَنَافِعِهَا لِأَنَّ مِنْ ثَمَرَتِهَا طَعَامًا وَإِصْلَاحًا ومداواة، وَمن أعودها وَقُودٌ وَغَيْرُهُ،
وَفِي الْحَدِيثِ «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ»
. وَطُورُ سَيْنَاءَ: جَبَلٌ فِي صَحْرَاءِ سَيْنَاءَ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ عَقَبَةِ أَيْلَةَ وَبَيْنَ مِصْرِ، وَهِيَ مِنْ بِلَادِ فِلَسْطِينَ فِي الْقَدِيمِ وَفِيهِ نَاجَى مُوسَى رَبَّهُ تَعَالَى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٣] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ اسْمُ الطُّورِ بِدُونِ إِضَافَةٍ، وَطُورُ سَيْنَاءَ أَوْ طُورُ سِينِينَ. وَمَعْنَى الطُّورِ الْجَبَلُ. وَسَيْنَاءُ قِيلَ اسْمُ شَجَرٍ يَكْثُرُ هُنَالِكَ. وَقِيلَ اسْمُ حِجَارَةٍ. وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِذَلِكَ الْمَكَانِ، قِيلَ هُوَ اسْمٌ نَبَطِيٌّ وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ حَبَشِيٌّ وَلَا يَصِحُّ.
وَإِنَّمَا اغْتَرَّ مَنْ قَالَهُ بِمُشَابَهَةِ هَذَا الِاسْمِ لِوَصْفِ الْحُسْنِ فِي اللُّغَةِ الْحَبَشِيَّةِ وَهُوَ كَلِمَةُ سَنَاهُ، وَمِثْلُ هَذَا التَّشَابُهِ قَدْ أَثَارَ أَغْلَاطًا.
وَسُكِّنَتْ يَاءُ سَيْناءَ سُكُونًا مَيِّتًا وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَيَجُوزُ فِيهَا الْفَتْحُ وَسُكُونُ الْيَاءِ سُكُونًا حَيًّا، وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ، وَهُوَ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ مَمْدُودٌ، وَهُوَ فِيهِمَا مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ فَقِيلَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ لِأَنَّ وَزْنَ فَعِلَاءَ إِذَا كَانَ عَيْنُهُ أَصْلًا لَا تَكُونُ أَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ بَلْ لِلْإِلْحَاقِ وَأَلِفُ الْإِلْحَاقِ لَا تَمْنَعُ الصَّرْفَ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ فَمَنْعُهُ لِأَجْلِ أَلِفِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ وَزْنَ فَعَلَاءَ مِنْ أَوْزَانِ أَلِفِ التَّأْنِيثِ.
وَقَوْلُهُ: تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ يَقْتَضِي أَنَّ لَهَا مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِطُورِ سَيْنَاءَ. وَقَدْ غُمِضَ وَجْهُ ذَاكَ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْخُرُوجَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّشْأَةِ
34
وَالتَّخَلُّقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه: ٥٣] وَقَوْلِهِ: يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ [الزمر: ٢١]، وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْخُرُوجِ هُوَ الْبُرُوزُ مِنَ الْمَكَانِ وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ يَبْرُزُ بَعْدَ الْعَدَمِ وَكَانَ الْمَكَانُ لَازِمًا لِكُلِّ حَادِثٍ شَبَّهَ ظُهُورَ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا بِخُرُوجِ الشَّيْءِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ مَحْجُوبًا فِيهِ. وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ فِي الْقُرْآنِ.
فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَوَّلَ شَجَرِ الزَّيْتُونِ فِي طُورِ سَيْنَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَجْنَاسَ وَالْأَنْوَاعَ الْمَوْجُودَةَ عَلَى الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَوَاطِنَ كَانَ فِيهَا ابْتِدَاءُ وَجُودِهَا قَبْلَ وُجُودِهَا فِي غَيْرِهَا لِأَنَّ بَعْضَ الْأَمْكِنَةِ تَكُونُ أَسْعَدَ لِنَشْأَةِ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ بَعْضٍ آخَرَ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ طَبِيعَةِ الْمَكَانِ وَطَبِيعَةِ الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ فِيهِ مِنْ حَرَارَةٍ أَوْ بُرُودَةٍ أَوِ اعْتِدَالٍ،
وَكَذَلِكَ فُصُولُ السَّنَةِ كَالرَّبِيعِ لِبَعْضِ الْحَيَوَانِ وَالشِّتَاءِ لِبَعْضٍ آخَرَ وَالصَّيْفِ لِبَعْضٍ غَيْرِهَا فَاللَّهُ تَعَالَى يُوجِدُ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْأَحْوَالِ الْمُنَاسِبَةِ لَهَا فَالْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ كُلُّهُ جَارٍ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ.
ثُمَّ إِنَّ الْبَشَرَ إِذَا نَقَلُوا حَيَوَانًا أَوْ نَبَاتًا مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ أَوْ أَرَادُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي فَصْلٍ غَيْرِ فَصْلِهِ وَرَأَوْا عَدَمَ صَلَاحِيَةِ الْمَكَانِ أَوِ الزَّمَانِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِمَا يَحْتَالُونَ لَهُ بِمَا يُكْمِلُ نَقْصَهُ مِنْ تَدْفِئَةٍ فِي شِدَّةِ بَرْدٍ أَوْ تَبْرِيدٍ بِسَبْحٍ فِي الْمَاءِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ حَتَّى لَا يَتَعَطَّلَ تَنَاسُلُ ذَلِكَ الْمَنْقُولِ إِلَى غَيْرِ مَكَانِهِ، فَكَمَا أَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانِ أَوِ النَّبَاتِ لَا يَعِيشُ طَوِيلًا فِي بَعْضِ الْمَنَاطِقِ غَيْرِ الْمُلَايِمَةِ لِطِبَاعِهِ كَالْغَزَالِ فِي بِلَادِ الثُّلُوجِ فَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَمَاكِنِ مِنَ الْمِنْطَقَةِ الْمُلَائِمَةِ لِلْحَيَوَانِ أَوِ النَّبَاتِ أَصْلَحَ بِهِ مِنْ بَعْضِ جِهَاتِ تِلْكَ الْمِنْطَقَةِ، فَلَعَلَّ جَوَّ طُورِ سَيْنَاءَ لِتَوَسُّطِهِ بَيْنَ الْمَنَاطِقِ الْمُتَطَرِّفَةِ حَرًّا وَبَرْدًا وَلِتَوَسُّطِ ارْتِفَاعِهِ بَيْنَ النُّجُودِ وَالسُّهُولِ يَكُونُ أَسْعَدَ بِطَبْعِ فَصِيلَةِ الزَّيْتُونِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: ٣٥]، فَاللَّهُ تَعَالَى هَيَّأَ لِتَكْوِينِهَا حِينَ أَرَادَ تَكْوِينَهَا ذَلِكَ الْمَكَانَ كَمَا هَيَّأَ لِتَكْوِينِ آدَمَ طِينَةً خَاصَّةً فَقَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ [الرَّحْمَن: ١٤] ثُمَّ يَكُونُ الزَّيْتُونُ قَدْ نُقِلَ مِنْ أَوَّلِ مَكَانٍ
35
ظَهَرَ فِيهِ إِلَى أَمْكِنَةٍ أُخْرَى نَقَلَهُ إِلَيْهَا سَاكِنُوهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فَنَجَحَ فِي بَعْضِهَا وَلَمْ يَنْجَحْ فِي بَعْضٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الطُّوفَانِ وَبَعْدَهُ. فَفِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ: أَنَّ نُوحًا أَرْسَلَ حَمَامَةً تَبْحَثُ عَنْ مَكَانٍ غِيضَتْ عَنْهُ مِيَاهُ الطُّوفَانِ فَرَجَعَتِ الْحَمَامَةُ عِنْدَ الْمَسَاءِ تَحْمِلُ فِي مِنْقَارِهَا وَرَقَةَ زَيْتُونٍ خَضْرَاءَ فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْمَاءَ أَخَذَ يَغِيضُ عَنِ الْأَرْضِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ابْتِدَاءَ غَيْضِ الْمَاءِ إِنَّمَا يَنْكَشِفُ عَنْ أَعَالِي الْجِبَالِ أَوَّلَ الْأَمْرِ فَلَعَلَّ وَرَقَةَ الزَّيْتُونِ الَّتِي حَمَلَتْهَا الْحَمَامَةُ كَانَتْ مِنْ شَجَرَةٍ فِي طُورِ سَيْنَاءَ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ عَرَفَ نُوحٌ وَرَقَةَ الزَّيْتُونِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ هَذِه الشَّجَرَة من قَبْلَ الطُّوفَانِ. وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُ اسْتِعْمَالِ زَيْتِ الزَّيْتُونِ فِي طَعَامٍ فِي التَّارِيخِ الْقَدِيمِ إِلَّا فِي عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيَّامَ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَ طُورِ سَيْنَاءَ فَقَدِ اسْتُعْمِلَ الزَّيْتُ لِإِنَارَةِ خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ بِوَحْيِ اللَّهِ لِمُوسَى (١)، وَسَكَبَ مُوسَى دُهْنَ الْمَسْحَةِ عَلَى رَأْسِ هَارُونَ أَخِيهِ حِينَ أَقَامَهُ كَاهِنًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٢).
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى تَخْرُجُ تَظْهَرُ وَتُعْرَفُ، فَيَكُونُ أَوَّلُ اهْتِدَاءِ النَّاسِ إِلَى مَنَافِعِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَانْتِقَالِهِمْ إِيَّاهَا كَانَ مِنَ الزَّيْتُونِ الَّذِي بِطُورِ سَيْنَاءَ. وَهَذَا كَمَا نُسَمِّي الدِّيكَ الرُّومِيَّ فِي بَلَدِنَا بِالدِّيكِ الْهِنْدِيِّ لِأَنَّ النَّاسَ عَرَفُوهُ مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ، وَكَمَا تُسَمَّى بَعْضُ السُّيُوفِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ بِالْمَشْرَفِيَّةِ لِأَنَّهَا عُرِفَتْ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ، وَبَعْضُ الرِّمَاحِ الْخَطِّيَّةِ لِأَنَّهَا تَرِدُ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ مِنْ مَرْفَأٍ يُقَالُ لَهُ: الْخَطُّ، وَبَعْضُ السُّيُوفِ بِالْمُهَنَّدِ لِأَنَّهُ يُجْلَبُ مِنَ الْهِنْدِ، وَقَدْ كَانَ الزَّيْتُ يُجْلَبُ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ مِنَ الشَّامِ وَمِنْ فِلَسْطِينِ.
_________
(١) الإصحاح/ ٢٥/ من سفر الْخُرُوج. [.....]
(٢) الإصحاح/ ٩/ من سفر الْخُرُوج.
36
وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْ ذِكْرِ أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ إِلَّا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ مَنْبَتُهَا الْأَصْلِيُّ وَإِلَّا فَإِنَّ الِامْتِنَانَ بِهَا لَمْ يَكُنْ مُوَجَّهًا يَوْمَئِذٍ لِسُكَّانِ طُورِ سَيْنَاءَ، وَمَا كَانَ هَذَا التَّنْبِيهُ إِلَّا لِلتَّنْوِيهِ بِشَرَفِ مَنْبَتِهَا وَكَرَمِ الْمَوْطِنِ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ، وَلَمْ تَزَلْ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ مَشْهُورَةً بِالْبَرَكَةِ بَيْنَ النَّاسِ. وَرَأَيْتُ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» عَنِ الْأَصْمَعِيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ: أَنَّ كُلَّ زيتونة بفلسطين فَهِيَ مِنْ غَرْسِ أُمَمٍ يُقَالُ لَهُمُ الْيُونَانِيُّونَ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ زَيْتُونَ زَمَانِهِمُ الَّذِي أَخْلَفُوا بِهِ أَشْجَارًا قَدِيمَةً بَادَتْ.
وَفِي أَسَاطِيرِ الْيُونَانِ (مِيثُولُوجْيَا) أَنَّ مِنِيرْفَا وَنَبْتُونَ (الرَّبَّيْنِ فِي اعْتِقَادِ الْيُونَانِ) تَنَازَعَا فِي تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا لِيَضَعَ اسْمًا لِمَدِينَةٍ بَنَاهَا (كَكْرَابِيسُ) فَحَكَمَتِ الْأَرْبَابُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ هَذَا الشَّرَفَ لَا يَنَالُهُ إِلَّا مَنْ يَصْنَعُ أَنْفَعَ الْأَشْيَاءِ. فَأَمَّا (نَبْتُونُ) فَأَوْجَدَ فَرَسًا بَحْرِيًّا عَظِيمَ الْقُوَّةِ، وَأَمًّا (مِينِيرْفَا) فَصَنَعَتْ شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ بِثَمَرَتِهَا، فَحَكَمَ الْأَرْبَابُ لَهَا بِأَنَّهَا أَحَقُّ، فَلِذَلِكَ وَضَعُوا لِلْمَدِينَةِ اسْمَ (أَثِينَا) الَّذِي هُوَ اسْمُ مِنِيرْفَا. وَزَعَمُوا أَنَّ (هِيرْكُولْ) لَمَّا رَجَعَ مِنْ بَعْضِ غَزَوَاتِهِ جَاءَ مَعَهُ بِأَغْصَانٍ مِنَ الزَّيْتُونِ فَغَرَسَهَا فِي جَبَلِ (أُولُمْبُوسَ) وَهُوَ مَسْكَنُ آلِهَتِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ.
فَقَدْ كَانَ زَيْتُ الزَّيْتُونِ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْيُونَانِ مِنْ عَهْدِ (هُومِيرُوسَ) إِذْ ذَكَرَ فِي الْإِلْيَاذَةِ أَنَّ (أَخْيُلَ) سَكَبَ زَيْتًا عَلَى شِلْوِ (فِطْرِ قَلْيُوسَ) وَشِلْوِ (هِكْتُورَ).
وَكَانَ الزَّيْتُ نَادِرًا فِي مُعْظَمِ بِلَادِ الْعَرَبِ إِذْ كَانَ يُجْلَبُ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ مِنَ الشَّامِ.
وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ بِزَيْتِ الزَّيْتُونَةِ مَثَلًا لِنُورِهِ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ [النُّور: ٣٥].
37
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الْعَجِيبَةِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي كُوِّنَتْ بِهَا تِلْكَ الشَّجَرَةُ فِي أَوَّلِ تَكْوِينِهَا حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ يُبْصِرُهَا خَارِجَةً
بِالنَّبَاتِ فِي طُورِ سَيْنَاءَ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [الْمَائِدَة: ١١٠]، وَهَذَا أَنْسَبُ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ.
وَمَعْنَى تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أَنَّهَا تَنْبُتُ مُلَابِسَةً لِلدُّهْنِ فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثَالٌ لِبَاءِ الْمُلَابَسَةِ، وَالْمُلَابَسَةُ مَعْنًى وَاسِعٌ، فَمُلَابَسَةُ نَبَاتِ شَجَرَةِ الزَّيْتُونِ لِلدُّهْنِ وَالصِّبْغِ مُلَابَسَةٌ بِوَاسِطَةِ مُلَابَسَةِ ثَمَرَتِهَا لِلدُّهْنِ وَالصِّبْغِ، فَإِنَّ ثَمَرَتَهَا تَشْتَمِلُ عَلَى الزَّيْتِ وَهُوَ يُكَوِّنُ دُهْنًا وَصِبْغًا لِلْآكِلِينَ، فَأَمَّا كَوْنُهُ دُهْنًا، فَهُوَ أَنَّهُ يَدْهِنُ بِهِ النَّاسُ أَجْسَادَهُمْ وَيُرَجِّلُونَ بِهِ شُعُورَهُمْ وَيَجْعَلُونَ فِيهِ عُطُورًا فَيُرَجِّلُونَ بِهِ الشُّعُورَ، وَقَدْ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْهِنُ بِالزَّيْتِ فِي رَأْسِهِ.
وَالدُّهْنُ بِضَمِّ الدَّالِ: اسْمٌ لِمَا يُدْهَنُ بِهِ، أَيْ يُطْلَى بِهِ شَيْءٌ، وَيُطْلَقُ الدُّهْنُ عَلَى الزَّيْتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُطْلَى بِهِ الْجَسَدُ لِلتَّدَاوِي وَالشَّعْرُ لِلتَّرْجِيلِ.
وَالصِّبْغُ، بِكَسْرِ الصَّادِ: مَا يُصْبَغُ بِهِ أَيْ يُغَيَّرُ بِهِ اللَّوْنُ. ثُمَّ تُوُسِّعَ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى كُلِّ مَائِعٍ يُطْلَى بِهِ ظَاهِرُ جِسْمٍ مَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: صِبْغَةَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٣٨]. وَسُمِّيَ الزَّيْتُ صِبْغًا لِأَنَّهُ يُصْبَغُ بِهِ الْخُبْزُ. وَعَطْفُ صِبْغٍ على بِالدُّهْنِ بِاعْتِبَار الْمُغَايرَة فِي مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَادَّةُ اشْتِقَاقِ الْوَصْفِ فَإِنَّ الصِّبْغَ مَا يُصْبَغُ بِهِ وَالدُّهْنَ مَا يُدْهَنُ بِهِ وَالصِّبْغُ أَخَصُّ فَهُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ، وَكَانُوا يَأْدِمُونَ بِهِ الطَّعَامَ وَذَلِكَ صِبْغٌ لِلطَّعَامِ،
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي «سُنَنِهِ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُوا الزَّيْتَ وَادْهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ»
. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَنْبُتُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ وَيَعْقُوبُ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ:
38
أَنْبَتَ بِمَعْنَى نَبَتَ أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ، أَيْ تُنْبِتُ هِيَ ثَمَرَهَا، أَي تخرجه.
[٢١، ٢٢]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٢١ إِلَى ٢٢]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
هَذَا الْعَطْفُ مِثْلَ عَطْفِ جُمْلَةِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٨] فَفِيهِ كَذَلِكَ اسْتِدْلَالٌ وَمِنَّةٌ.
وَالْعِبْرَةُ: الدَّلِيلُ لِأَنَّهُ يُعْبَرُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ إِلَى مَعْرِفَةٍ أُخْرَى. وَالْمَعْنَى: إِنَّ فِي الْأَنْعَامِ
دَلِيلًا عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَتَمَامِ الْقُدْرَةِ وَسِعَةِ الْعِلْمِ. وَالْأَنْعَامُ تَقَدَّمَ أَنَّهَا الْإِبِلُ فِي غَالِبِ عُرْفِ الْعَرَبِ.
وَجُمْلَةُ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا فِي مَوْقِعِ الْمَعْطُوفِ عَطْفَ الْبَيَانِ.
وَالْعِبْرَةُ حَاصِلَةٌ مِنْ تَكْوِينِ مَا فِي بُطُونِهَا مِنَ الْأَلْبَانِ الدَّالِّ عَلَيْهِ نُسْقِيكُمْ. وَأَمَّا نُسْقِيكُمْ بِمُجَرَّدِهِ فَهُوَ مِنَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٦٦].
وَجُمْلَةُ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمَا بَعْدَهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها فَإِنَّ فِيهِ بَقِيَّةَ بَيَانِ الْعِبْرَةِ وَكَذَلِكَ الْجُمَلَ بَعْدَهُ. وَهَذِهِ الْمَنَافِعُ هِيَ الْأَصْوَافُ وَالْأَوْبَارُ وَالْأَشْعَارُ وَالنِّتَاجُ.
وَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْهَا فَهُوَ عِبْرَةٌ أَيْضًا إِذْ أَعَدَّهَا اللَّهُ صَالِحَةً لِتَغْذِيَةِ الْبَشَرِ بِلُحُومِهَا لَذِيذَةِ الطَّعْمِ، وَأَلْهَمَ إِلَى طَرِيقَةِ شَيِّهَا وَصَلْقِهَا وَطَبْخِهَا، وَفِي ذَلِكَ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ ظَاهِرَةٌ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي معنى عَلَيْها
.. حْمَلُونَ
فَإِنَّ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً بِإِعْدَادِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهَا لِذَلِكَ وَفِي ذَلِكَ مِنَّةٌ ظَاهِرَةٌ، وَالْحَمْلُ صَادِقٌ بِالرُّكُوبِ وَبِحَمْلِ الْأَثْقَالِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ النُّونِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ عَدَا أَبَا جَعْفَرٍ- بِضَمِّ النُّونِ- يُقَالُ: سَقَاهُ وَأَسْقَاهُ بِمَعْنًى، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ مَفْتُوحَةً عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْأَنْعَامِ.
وَعَطْفُ عَلَى الْفُلْكِ
إِدْمَاجٌ وَتَهْيِئَةٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى قصَّة نوح.
[٢٣- ٢٥]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٢٣ إِلَى ٢٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥)
لَمَّا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ وَالِامْتِنَانُ اللَّذَانِ تَقَدَّمَا مُوَجَّهَيْنِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كفرُوا بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِرِسَالَةِ بَشَرٍ مِثْلِهِمْ وَسَأَلُوا إِنْزَالَ مَلَائِكَةٍ وَوَسَمُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْجُنُونِ، فَلَمَّا شَابَهُوا بِذَلِكَ قَوْمَ نُوحٍ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ نَاسَبَ
أَنْ يُضْرَبَ لَهُمْ بِقَوْمِ نُوحٍ مَثَلٌ تَحْذِيرًا مِمَّا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَدْ جَرَى فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ ذِكْرُ الْحَمْلِ فِي الْفُلْكِ فَكَانَ ذَلِكَ مُنَاسَبَةً لِلِانْتِقَالِ فَحَصَلَ بِذَلِكَ حُسْنُ التَّخَلُّصِ، فَيُعْتَبَرُ ذِكْرُ قَصَصِ الرُّسُلِ إِمَّا اسْتِطْرَادًا فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَإِمَّا انْتِقَالًا كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [الْمُؤْمِنُونَ:
٧٨].
وَتَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ تَأْكِيدٌ لِلْمَضْمُونِ التَّهْدِيدِيِّ مِنَ الْقِصَّةِ، فَالْمَعْنَى تَأْكِيدُ الْإِرْسَالِ إِلَى نُوحٍ وَمَا عَقَّبَ بِهِ ذَلِكَ.
40
وَعَطْفُ مَقَالَةِ نُوحٍ عَلَى جُمْلَةِ إِرْسَالِهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِإِفَادَةِ أَدَائِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ بِالْفَوْرِ مِنْ أَمْرِهِ وَهُوَ شَأْنُ الِامْتِثَالِ.
وَأَمْرُهُ قَوْمَهُ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ بِأَنْ أَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ (وَدٍّ، وَسُوَاعَ، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرٍ) حَتَّى أَهْمَلُوا عِبَادَةَ اللَّهِ وَنَسُوهَا.
وَكَذَلِكَ حُكِيَتْ دَعْوَةُ نُوحٍ قَوْمَهُ فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ بِصِيغَةِ أَمْرٍ بِأَصْلِ عِبَادَةِ اللَّهِ دُونَ الْأَمْرِ بِقَصْرِ عِبَادَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ وُجُودَ اللَّهِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُمْ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَهُمْ مُثْبِتُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ، فَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَهُوَ تَعْلِيلٌ أَخَصُّ مِنَ الْمُعَلَّلِ، وَهُوَ أَوْقَعُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ لِاقْتِضَائِهِ مَعْنَى: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ. فَالْمَعْنَى: اعْبُدُوا اللَّهَ الَّذِي تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهُ وَهُوَ إِلَهُكُمْ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ الْعِبَادَةَ فَلَا تَعْبُدُوا أَصْنَامَكُمْ مَعَهُ.
وغَيْرُهُ نَعْتٌ لِ إِلهٍ. قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى اعْتِبَارِ مَحَلِّ الْمَنْعُوتِ بِ (غَيْرِ) لِأَنَّ الْمَنْعُوتَ مَجْرُورٌ بِحَرْفِ جَرٍّ زَائِدٍ، وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِالْجَرِّ عَلَى اعْتِبَارِ اللَّفْظِ الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ الزَّائِدِ.
وَفُرِّعَ عَلَى الْأَمْرِ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ عَلَى عَدَمِ اتِّقَائِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ خُولِفَتْ فِي حِكَايَةِ جَوَابِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ الطَّرِيقَةُ الْمَأْلُوفَةُ فِي الْقُرْآنِ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ وَهِيَ تَرْكُ الْعَطْفِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠]. فَعُطِفَ هُنَا جَوَابُ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ بِالْفَاءِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَمْ يُوَجِّهُوا الْكَلَامَ إِلَيْهِ بَلْ تَرَكُوهُ وَأَقْبَلُوا عَلَى قَوْمِهِمْ يُفَنِّدُونَ لَهُمْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ.
وَالثَّانِي: لِيُفَادَ أَنهم أَسْرعُوا بتكذيبه وَتَزْيِيفِ دَعْوَتِهِ قَبْلَ النَّظَرِ. وَوَصْفُ الْمَلَأِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَهُمْ
41
بِهَذَا الرَّدِّ عَلَى نُوحٍ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الرَّدِّ لَا نُهُوضَ لَهُ وَلَكِنَّهُمْ رَوَّجُوا بِهِ كُفْرَهُمْ خَشْيَةً عَلَى زَوَالِ سِيَادَتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ قَوْمِهِ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ.
وَقَوْلُ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ خَاطَبَ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِذِ الْمَلَأُ هُمُ الْقَوْمُ ذَوُو السِّيَادَةِ وَالشَّارَةِ، أَيْ فَقَالَ عُظَمَاءُ الْقَوْمِ لِعَامَّتِهِمْ.
وَإِخْبَارُهُمْ بِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ تَكْذِيبِهِ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ بِدَلِيلٍ مِنْ ذَاتِهِ، أَوْهَمُوهُمْ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ مَانِعَةٌ مِنَ الْوَسَاطَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَهَذَا مِنَ الْأَوْهَامِ الَّتِي أَضَلَّتْ أُمَمًا كَثِيرَةً. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُنْصَرِفٌ إِلَى نُوحٍ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ كَلَامَ الْمَلَأِ وَقَعَ بِحَضْرَةِ نُوحٍ فِي وَقْتِ دَعْوَتِهِ، فَعَدَلُوا مِنَ اسْمِهِ الْعَلَمِ إِلَى الْإِشَارَةِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ تَصْغِيرُ أَمْرِهِ وَتَحْقِيرُهُ لَدَى عَامَّتِهِمْ كَيْلَا يَتَقَبَّلُوا قَوْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَزَادَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِحِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ سَادَةَ الْقَوْمِ ظَنُّوا أَنَّهُ مَا جَاءَ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ إِلَّا حُبًّا فِي أَنْ يُسَوَّدَ عَلَى قَوْمِهِمْ فَخَشُوا أَنْ تَزُولَ سِيَادَتُهُمْ وَهُمْ بِجَهْلِهِمْ لَا يَتَدَبَّرُونَ أَحْوَالَ النُّفُوسِ وَلَا يَنْظُرُونَ مَصَالِحَ النَّاسِ وَلَكِنَّهُمْ يَقِيسُونَ غَيْرَهُمْ عَلَى مِقْيَاسِ أَنْفُسِهِمْ.
فَلَمَّا كَانَتْ مَطَامِحُ أَنْفُسِهِمْ حُبَّ الرِّئَاسَةِ وَالتَّوَسُّلَ إِلَيْهَا بِالِانْتِصَابِ لِخِدْمَةِ الْأَصْنَامِ تَوَهَّمُوا أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِإِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِنَّمَا أَرَادَ مُنَازَعَتَهُمْ سُلْطَانَهُمْ.
وَالتَّفَضُّلُ: تَكَلُّفُ الْفَضْلِ وَطَلَبُهُ، وَالْفَضْلُ أَصْلُهُ الزِّيَادَةُ ثُمَّ شَاعَ فِي زِيَادَةِ الشَّرَفِ والرفعة، أَي يُرِيد أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ النَّاسِ لِأَنَّهُ نَسَبَهُمْ كُلَّهُمْ إِلَى الضَّلَالِ.
وَقَوْلُهُمْ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بَعْدَ أَنْ مَهَّدُوا لَهُ بِأَنَّ الْبَشَرِيَّةَ مَانِعَةٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا رَسُولًا لِلَّهِ، وَحَذْفُ مَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ لِظُهُورِهِ مِنْ جَوَابِ (لَوْ)، أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ إِرْسَالَ
42
رَسُولٍ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً رُسُلًا، وَحَذْفُ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ جَائِزٌ إِذَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، وَذَلِكَ مِنَ الْإِيجَازِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَفْعُولِ الْغَرِيبِ مِثْلَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» : أَلَا تَرَى قَوْلَ الْمَعَرِّي:
وَإِنْ شِئْتَ فَازْعُمْ أَنَّ مَنْ فَوْقَ ظَهْرِهَا عَبِيدُكَ وَاسْتَشْهِدْ إِلَهَكَ يَشْهَدِ
وَهَلْ أَغْرَبُ مِنْ هَذَا الزَّعْمِ لَوْ كَانَتِ الْغَرَابَةُ مُقْتَضِيَةً ذِكْرَ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ. فَلَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مَفْعُولُ جَوَابِ الشَّرْطِ حَسُنَ حَذْفُهُ مِنْ فِعْلِ الشَّرْطِ.
وَجُمْلَةِ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ قَصَدُوا بِهَا تَكْذِيبَ الدَّعْوَةِ بَعْدَ تَكْذِيبِ الدَّاعِي، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِهَا مُسْتَأْنَفَةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِذَاتِهَا وَلَيْسَت تَكْمِلَة لَهَا قَبْلَهَا، بِخِلَافِ أُسْلُوبِ عَطْفِ جُمْلَةِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً إِذْ كَانَ مَضْمُونُهَا مِنْ تَمَامِ غَرَضِ مَا قَبْلَهَا.
فَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى الْكَلَامِ الَّذِي قَالَهُ نُوحٌ، أَيْ مَا سَمِعْنَا بِأَنْ لَيْسَ لَنَا إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ فِي مُدَّةِ أَجْدَادِنَا، فَالْمَقْصُودُ بِالْإِشَارَةِ مَعْنَى الْكَلَامِ لَا نَفْسُهُ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ. وَلَمَّا كَانَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ يَقْتَضِي زَمَنًا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَدْخُولُهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ فِي مُدَّةِ آبَائِنَا لِأَنَّ الْآبَاءَ لَا يَصْلُحُ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَالْآبَاءُ الْأَوَّلُونَ هُمُ الْأَجْدَادُ.
وَلَمَّا كَانَ السَّمَاعُ الْمَنْفِيُّ لَيْسَ سَمَاعًا بِآذَانِهِمْ لِكَلَامٍ فِي زَمَنِ آبَائِهِمْ بَلِ الْمُرَادُ مَا بَلَغَ إِلَيْنَا وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا فِي زَمَنِ آبَائِنَا، عُدِّيَ فِعْلُ سَمِعْنا بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الِاتِّصَالِ.
جَعَلُوا انْتِفَاءَ عِلْمِهِمْ بِالشَّيْءِ حُجَّةً عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهُوَ مجادلة سفسطائيّة إِذْ قَدْ يَكُونُ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ عَنْ تَقْصِيرٍ فِي اكْتِسَابِ الْمَعْلُومَاتِ، وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ وُجُودِ سَبَبٍ يَقْتَضِي حُدُوثَ مِثْلِهِ بِأَنْ كَانَ النَّاسُ عَلَى حَقٍّ فَلَمْ يَكُنْ دَاعٍ إِلَى مُخَاطَبَتِهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ مِنْ زَمَنِ آدَمَ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى حَدَثَ الشِّرْكُ فِي النَّاسِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ نُوحًا فَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ.
43
وَجُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيُّ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا قَالُوهُ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ أَنْ يَتَسَاءَلُوا إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ دَعْوَتِهِ فِي الْبُطْلَانِ وَالزَّيْفِ فَمَاذَا دَعَاهُ إِلَى الْقَوْلِ بِهَا؟ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ أَصَابَهُ خَلَلٌ فِي عَقْلِهِ فَطَلَبَ مَا لَمْ يَكُنْ ليناله مثله من التفضل عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى الضَّلَالِ فَقَدْ طَمِعَ فِيمَا لَا يَطْمَعُ عَاقِلٌ فِي مِثْلِهِ فَدَلَّ طَمَعُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَجْنُونٌ.
وَالتَّنْوِينُ فِي جِنَّةٌ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْجُنُونِ، وَهَذَا اقْتِصَادٌ مِنْهُمْ فِي حَالِهِ حَيْثُ احْتَرَزُوا مِنْ أَنْ يُوَرِّطُوا أَنْفُسَهَمْ فِي وَصْفِهِ بِالْخَبَالِ مَعَ أَنَّ الْمُشَاهَدَ مِنْ حَالِهِ يُنَافِي ذَلِكَ فَأَوْهَمُوا قَوْمَهُمْ أَنَّ بِهِ جُنُونًا خَفِيفا لَا يَبْدُو آثَارُهُ وَاضِحَةً.
وَقَصَرُوهُ عَلَى صِفَةِ الْمَجْنُونِ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَيْسَ بِرَسُولٍ مِنَ اللَّهِ.
وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ أَمْرًا لِقَوْمِهِمْ بِانْتِظَارِ مَا يَنْكَشِفُ عَنْهُ أَمْرُهُ بَعْدَ زَمَانٍ: إِمَّا شِفَاءٌ مِنَ الْجِنَّةِ فَيَرْجِعُ إِلَى الرُّشْدِ، أَوِ ازْدِيَادُ الْجُنُونِ بِهِ فَيَتَّضِحُ أَمْرُهُ فَتَعْلَمُوا أَنْ لَا اعْتِدَادَ بِكَلَامِهِ.
وَالْحِينُ: اسْمٌ لِلزَّمَانِ غَيْرِ الْمَحْدُودِ.
وَالتَّرَبُّصُ: التَّوَقُّفُ عَنْ عَمَلٍ يُرَادُ عَمَلُهُ وَالتَّرَيُّثُ فِيهِ انْتِظَارًا لِمَا قَدْ يُغْنِي عَنِ الْعَمَلِ أَوِ انْتِظَارًا لِفُرْصَةٍ تُمَكِّنُ مِنْ إِيقَاعِهِ عَلَى أَتْقَنِ كَيْفِيَّةٍ لِنَجَاحِهِ، وَهُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِالْبَاءِ الَّتِي هِيَ لِلتَّعْدِيَةِ وَمَعْنَاهَا السَّبَبِيَّةُ، أَيْ كَانَ تَرَبُّصُ الْمُتَرَبِّصِ بِسَبَبِ مَدْخُولِ الْبَاءِ. وَالْمُرَادُ: بِسَبَبِ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالٍ، فَهُوَ عَلَى نِيَّةِ مُضَافٍ حُذِفَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٩٨] فَانْظُرْهُ مَعَ مَا هُنَا.
[٢٦، ٢٧]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٧]
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
44
(٢٧)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا حُكِيَ عَنْ صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ تَصْدِيقِ دَعْوَةِ نُوحٍ وَمَا لَفَّقُوهُ مِنَ الْبُهْتَانِ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْجُنُونِ، مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَمَّاذَا صَنَعَ نُوحٌ حِينَ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ قَالَ: رَبِّ انْصُرْنِي إِلَخْ.
وَدُعَاؤُهُ بِطَلَبِ النَّصْرِ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَدَّ فِعْلَهُمْ مَعَهُ اعْتِدَاءً عَلَيْهِ بِوَصْفِهِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ.
وَالنَّصْرُ: تَغْلِيبُ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُعْتَدِي، فَقَدْ سَأَلَ نُوحٌ نَصْرًا مُجْمَلًا كَمَا حُكِيَ هُنَا، وَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا رَجَاءَ فِي إِيمَانِ قَوْمِهِ إِلَّا مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ هُودٍ، فَلَا رَجَاءَ فِي أَنْ يَكُونَ نَصْرُهُ بِرُجُوعِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ، فَسَأَلَ نوح حينذاك نَصْرًا خَاصًّا وَهُوَ اسْتِئْصَالُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ نُوحٍ [٢٦، ٢٧] وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ
. فَالتَّعْقِيبُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ تَعْقِيبٌ بِتَقْدِيرِ جُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ كَمَا عَلِمْتَ، وَهُوَ
إِيجَازٌ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ إِلَخْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٦٣].
وَالْبَاءُ فِي بِما كَذَّبُونِ سَبَبِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النَّصْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ الدُّعَاءِ، أَيْ نَصْرًا كَائِنًا بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ، فَجَعَلَ حَظَّ نَفْسِهِ فِيمَا اعْتَدَوْا عَلَيْهِ مُلْغًى وَاهْتَمَّ بِحَظِّ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ لِأَنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الرَّسُولِ اسْتِخْفَافٌ بِمَنْ أَرْسَلَهُ.
وَجُمْلَةُ أَنِ اصْنَعِ جُمْلَةٌ مفسره لجملة فَأَوْحَيْنا لِأَنَّ فِعْلَ أَوْحَيْنَا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ جُمْلَةِ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فِي سُورَةِ هُودٍ
45
وَفُرِّعَ عَلَى الْأَمْرِ بِصُنْعِ الْفُلْكِ تَفْصِيلُ مَا يَفْعَلُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْفُلْكِ فَوُقِّتَ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ بِوَقْتِ الِاضْطِرَارِ إِلَى إِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحَيَوَانِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى فارَ التَّنُّورُ وَمَعْنَى زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فِي سُورَةِ هُودٍ [٤٠].
وَالزَّوْجُ: اسْمٌ لِكُلِّ شَيْءٍ لَهُ شَيْءٌ آخَرُ مُتَّصِلٌ بِهِ بِحَيْثُ يَجْعَلُهُ شَفْعًا فِي حَالَةٍ مَا.
وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَإِنَّمَا عُبِّرَ هُنَالِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْنَا احْمِلْ فِيها [هود: ٤٠] وَهُنَا بِقَوْلِهِ: فَاسْلُكْ فِيها لِأَنَّ آيَةَ سُورَةِ هُودٍ حَكَتْ مَا خَاطَبَهُ اللَّهُ بِهِ عِنْدَ حُدُوثِ الطُّوفَانِ وَذَلِكَ وَقْتٌ ضَيِّقٌ فَأُمِرَ بِأَنْ يَحْمِلَ فِي السَّفِينَةِ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ إِبْقَاءَهُمْ، فَأُسْنِدَ الْحَمْلُ إِلَى نُوحٍ تَمْثِيلًا لِلْإِسْرَاعِ بِإِرْكَابِ مَا عُيِّنَ لَهُ فِي السَّفِينَةِ حَتَّى كَأَنَّ حَالَهُ فِي إِدْخَالِهِ إِيَّاهُمْ حَالُ مَنْ يَحْمِلُ شَيْئًا لِيَضَعَهُ فِي مَوْضِعٍ، وَآيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ حَكَتْ مَا خَاطَبَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ قَبْلِ حُدُوثِ الطُّوفَانِ إِنْبَاءً بِمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَ حُدُوثِ الطُّوفَانِ فَأَمَرَهُ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُدْخِلُ فِي السَّفِينَةِ مَنْ عَيَّنَ اللَّهُ إِدْخَالَهُمْ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّة.
وَمعنى فَاسْلُكْ أَدْخِلْ، وَفِعْلُ (سَلَكَ) يَكُونُ قَاصِرًا بِمَعْنَى دَخَلَ وَمُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى أَدْخَلَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: ٤٢]. وَقَوْلُ الْأَعْشَى:
كَمَا سَلَكَ السَّكِّيَّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٣٧].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ بِإِضَافَةِ كُلٍّ إِلَى زَوْجَيْنِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِالتَّنْوِينِ كُلٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ زَوْجَيْنِ مَفْعُولَ فَاسْلُكْ، وَتَنْوِينُ كُلٍّ تَنْوِينُ عِوَضٍ يُشْعِرُ بِمَحْذُوفٍ أُضِيفَ إِلَيْهِ كُلٍّ. وَتَقْدِيرُهُ: مِنْ كُلِّ مَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَحْمِلَهُ فِي السَّفِينَة.
46

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٢٨ إِلَى ٢٩]

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩)
الِاسْتِوَاءُ: الِاعْتِلَاءُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَإِطْلَاقُ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ فِي دَاخِلِ السَّفِينَةِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعِلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ الِاسْتِقْرَارِ فِي الْفُلْكِ أَنَّهُ دُخُولٌ. وَأُتِيَ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ دُونَ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ مَعْنَى الِاعْتِلَاءِ إِيذَانًا بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الْفُلْكِ فَهُوَ تَرْشِيحٌ لِلْمَجَازِ.
وَالتَّنْجِيَةُ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ: الْإِنْجَاءُ مِنْ أَذَاهُمْ وَالْكَوْنِ فِيهِمْ لِأَنَّ فِي الْكَوْنِ بَيْنَهُمْ مُشَاهَدَةَ كُفْرِهِمْ وَمَنَاكِرِهِمْ وَذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ.
وَالظُّلْمُ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الشِّرْكُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان:
١٣]، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ لِأَنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ نُوحًا وَالْمُؤْمِنِينَ بِشَتَّى الْأَذَى بَاطِلًا وَعُدْوَانًا وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ إِنْجَاءً لِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَقَلُّوا بِجَمَاعَتِهِمْ فَسَلِمُوا مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِأَعْدَائِهِمْ.
وَقَدْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ بِالْوَحْيِ أَنْ يَحْمَدَ رَبَّهُ عَلَى مَا سَهَّلَ لَهُ مِنْ سَبِيلِ النَّجَاةِ وَأَنْ يَسْأَلَهُ نُزُولًا فِي مَنْزِلٍ مُبَارَكٍ عَقِبَ ذَلِكَ الترحل، وَالدُّعَاء بذلك يَتَضَمَّنُ سُؤَالَ سَلَامَةٍ مِنْ غَرَقِ السَّفِينَةِ. وَهَذَا كَالْمَحَامِدِ الَّتِي يُعَلِّمُهَا الله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الشَّفَاعَةِ. فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ التَّعْلِيمِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَتَقَبَّلُ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَفِيهَا مَعْنَى تَعْلِيلِ سُؤَالِهِ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُنْزَلًا- بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ- وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ (أَنْزَلَهُ) عَلَى حَذْفِ الْمَجْرُورِ، أَيْ مُنْزَلًا فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ إِنْزَالًا مُبَارَكًا. وَالْمَعْنَيَانِ
مُتَلَازِمَانِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَهُوَ اسْمٌ لمَكَان النُّزُول.
[٣٠]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٣٠]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ الْعَظِيمَةَ أَعْقَبَهَا بِالتَّنْبِيهِ إِلَى مَوْضِعِ الْعِبْرَةِ مِنْهَا لِلْمُسْلِمِينَ فَأَتَى بِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ لِذَلِكَ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ وَمَا فِيهَا. وَالْآيَاتُ: الدَّلَالَاتُ، أَيْ لَآيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا هِيَ دَلَائِلُ عَلَى صِدْقِ رِسَالَةِ نُوحٍ وَهِيَ إِجَابَةُ دَعْوَتِهِ وَتَصْدِيقُ رِسَالَتِهِ وَإِهْلَاكُ مُكَذِّبِيهِ، وَمِنْهَا آيَاتٌ لِأَمْثَالِ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِمْ، وَمِنْهَا آيَاتٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِحْدَاثِ الطُّوفَانِ وَإِنْزَالِ مَنْ فِي السَّفِينَةِ مَنْزِلًا مُبَارَكًا، وَمِنْهَا آيَاتٌ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ إِذْ قَدَّرَ لِتَطْهِيرِ الْأَرْضِ مِنَ الشِّرْكِ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِيصَالِ الْعَامِّ لِأَهْلِهِ. وَإِذْ قَدَّرَ لِإِبْقَاءِ الْأَنْوَاعِ مِثْلَ هَذَا الصُّنْعِ الَّذِي أَنْجَى بِهِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ زَوْجَيْنِ لِيُعَادَ التَّنَاسُلُ.
وَعُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ جُمْلَةُ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ لِأَنَّ مَضْمُونَ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ يُفِيدُ مَعْنَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لِبَلْوَى، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَابْتِلَاءٍ وَكُنَّا مُبْتَلِينَ، أَيْ وَشَأْنُنَا ابْتِلَاءُ أَوْلِيَائِنَا. فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ مِنْ آثَارِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِتَرْتَاضَ بِهِ نُفُوسُ أَوْلِيَائِهِ وَتُظْهِرَ مُغَالَبَتَهَا لِلدَّوَاعِي الشَّيْطَانِيَّةِ فَتَحْمَدُ عَوَاقِبَ الْبَلْوَى، وَلِتَتَخَبَّطَ نُفُوسُ الْمُعَانِدِينَ وَيَنْزَوِي بَعْضُ شَرِّهَا زَمَانًا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ الطُّوفَانِ مِنْ بَعْدِ بَعْثَةِ نُوحٍ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ وَأَذَاهُمْ إِيَّاهُ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ إِنَّمَا كَانَ ابْتِلَاءً مِنَ اللَّهِ لِحِكْمَتِهِ تَعَالَى لِيُمَيِّزَ
اللَّهُ لِلنَّاسِ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَآمَنَ بِنُوحٍ قَوْمُهُ ثُمَّ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَنَصَرَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ وَهَذِهِ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ.
وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ «وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ»، وَفِي الْقُرْآنِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْقَصَص: ٨٣].
وَالِابْتِلَاءُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [الْبَقَرَة: ١٢٤] وَقَوْلِهِ: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٩].
وَفِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ تَسْلِيَةٌ للنبيء مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ مَا يُوَاجِهُونَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بَقَاءَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ بَلْوَى تَزُولُ عَنْهُ وَتَحِلُّ بِهِمْ وَلِكُلٍّ حَظٌّ يُنَاسِبُهُ.
وَلِكَوْنِ هَذَا مِمَّا قَدْ يَغِيبُ عَنِ الْأَلْبَابِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ الْمُتَرَدَّدِ فِيهِ فَأُكِّدَ بِ إِنَّ الْمُخَفَّفَةِ وَبِفِعْلِ كُنَّا.
وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ (إِنَّ) الْمُؤَكِّدَةِ الْمُخَفَّفَةِ عِنْدَ إِهْمَالِ عَمَلِهَا وَبَيْنَ (إِن) النافية.
[٣١، ٣٢]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٣١ إِلَى ٣٢]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢)
تَعْقِيبُ قِصَّةِ نُوحٍ وَقَوْمِهِ بِقِصَّةِ رَسُولٍ آخَرَ، أَيْ أُخْرَى، وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْقَصَصِ يُرَادُ مِنْهُ أَنَّ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ لَهُ لَمْ يَكُنْ صُدْفَةً وَلَكِنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَيِّنِ الْقَرْنَ وَلَا الْقُرُونَ بِأَسْمَائِهِمْ.
وَالْقَرْنُ: الْأُمَّةُ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا ثَمُودُ لِأَنَّهُ الَّذِي يُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ [الْمُؤْمِنُونَ: ٤١]، لِأَنَّ ثَمُودَ أُهْلِكُوا بِالصَّاعِقَةِ
وَلِقَوْلِهِ قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٠] مَعَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٨٣] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَكَانَ هَلَاكُهُمْ فِي الصَّبَاحِ. وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُمْ بِالذِّكْرِ هُنَا دُونَ عَادٍ خِلَافًا لِمَا تَكَرَّرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِحَالِهِمْ أَظْهَرُ لِبَقَاءِ آثَارِ دِيَارِهِمْ بِالْحِجْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات: ١٣٧، ١٣٨].
وَقَوْلُهُ فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا أَيْ جُعِلَ الرَّسُولُ بَيْنَهُمْ وَهُوَ مِنْهُمْ، أَيْ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ.
وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى قَرْناً لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلٍ (النَّاسِ) كَقَوْلِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: ٩].
وعدّي فعل فَأَرْسَلْنا بِ (فِي) دُونَ (إِلَى) لِإِفَادَةِ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ مِنْهُمْ وَنَشَأَ فِيهِمْ لِأَنَّ الْقَرْنَ لَمَّا لَمْ يُعَيَّنْ بِاسْمٍ حَتَّى يُعْرَفَ أَنَّ رَسُولَهُمْ مِنْهُمْ أَوْ وَارِدًا إِلَيْهِمْ مِثْلَ لُوطٍ لِأَهْلِ (سَدُومَ)، وَيُونُسَ لِأَهْلِ (نِينَوَى)، وَمُوسَى لِلْقِبْطِ. وَكَانَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ رَسُولَهُمْ مِنْهُمْ مَقْصُودًا إِتْمَامًا لِلْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَلَامُ رَسُولِهِمْ مِثْلُ كَلَامِ نُوحٍ.
وَ (أَنْ) تَفْسِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ أَرْسَلْنَا مِنْ معنى القَوْل.
[٣٣- ٣٨]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٨]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧)
إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ
50
(٣٨)
عُطِفَتْ حِكَايَةُ قَوْلِ قَوْمِهِ عَلَى حِكَايَةِ قَوْلِهِ وَلَمْ يُؤْتَ بِهَا مَفْصُولَةً كَمَا هُوَ شَأْنُ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ بِ (قَالَ) وَنَحْوِهَا دُونَ عَطْفٍ. وَقَدْ خُولِفَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِلْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَاهُ، وَخُولِفَ أَيْضًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَةِ هُودٍ إِذْ حُكِيَ جَوَابُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ رَسُولِهِمْ بِدُونِ عَطْفٍ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كَلَامَ الْمَلَأِ الْمَحْكِيَّ هُنَا غَيْرُ كَلَامِهِمُ الْمَحْكِيِّ فِي السُّورَتَيْنِ لِأَنَّ مَا هُنَا كَلَامُهُمُ الْمُوَجَّهُ إِلَى خِطَابِ قَوْمِهِمْ إِذْ قَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ إِلَى آخِرِهِ خَشْيَةً مِنْهُمْ أَنْ تُؤَثِّرَ دَعْوَةُ رَسُولِهِمْ فِي عَامَّتِهِمْ، فَرَأَوْا الِاعْتِنَاءَ بِأَنْ يَحُولُوا دُونَ تَأَثُّرِ نُفُوسِ قَوْمِهِمْ بِدَعْوَةِ رَسُولِهِمْ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُجَاوِبُوا رَسُولَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ آنِفًا فِي قِصَّةِ نُوحٍ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الإعجاز فِي الْمَوَاضِع الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي أَوْرَدَ فِيهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» سُؤَالًا وَلَمْ يَكُنْ فِي جَوَابِهِ شَافِيًا وَتَحَيَّرَ شُرَّاحُهُ فَكَانُوا عَلَى خِلَافٍ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَفْ قَوْلُ الْمَلَأِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ كَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ آنِفًا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ وَقْتِ مَقَالَةِ رَسُولِهِمُ الَّتِي هِيَ فَاتِحَةُ دَعْوَتِهِ بِأَنْ يَكُونُوا أَجَابُوا كَلَامَهُ بِالرَّدِّ وَالزَّجْرِ فَلَمَّا اسْتَمَرَّ عَلَى دَعْوَتِهِمْ وَكَرَّرَهَا فِيهِمْ وَجَّهُوا مَقَالَتَهُمُ الْمَحْكِيَّةَ هُنَا إِلَى قَوْمِهِمْ وَمِنْ أَجْلِ هَذَا عُطِفَتْ جُمْلَةُ جَوَابِهِمْ وَلَمْ تَأْتِ عَلَى أُسْلُوبِ الِاسْتِعْمَالِ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُحَاوَرَاتِ.
وَأَيْضًا لِأَنَّ كَلَامَ رَسُولِهِمْ لَمْ يحك بِصِيغَة القَوْل بَلْ حُكِيَ بِ (أَنْ) التَّفْسِيرِيَّةِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مَعْنَى الْإِرْسَالِ فِي قَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٢].
51
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى عَنْ قَوْمِ هُودٍ وَعَنْ قَوْمِ صَالِحٍ أَنَّهُمْ أَجَابُوا دَعْوَةَ رَسُولِهِمْ بِالرَّدِّ وَالزَّجْرِ كَقَوْلِ قَوْمِ هُودٍ قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: ٥٣، ٥٤]، وَقَوْلِ قَوْمِ صَالِحٍ قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ
آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ
[هود: ٦٢].
وَقَوْلُهُ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ كَفَرُوا نَعْتٌ ثَانٍ لِ الْمَلَأُ فَيَكُونُ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٤].
وَإِنَّمَا أَخَّرَ النَّعْتَ هُنَا لِيَتَّصِلَ بِهِ الصِّفَتَانِ الْمَعْطُوفَتَانِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ.
وَاللِّقَاءُ: حُضُورُ أَحَدٍ عِنْدَ آخَرَ. وَالْمُرَادُ لِقَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْحِسَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٣] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا فِي سُورَةِ الْأَنْفَال [٤٥].
وَإِضَافَة بِلِقاءِ إِلَى الْآخِرَةِ عَلَى مَعْنَى (فِي) أَيِ اللِّقَاءُ فِي الْآخِرَةِ.
وَالْإِتْرَافُ: جَعْلُهُمْ أَصْحَابَ تَرَفٍ. وَالتَّرَفُ: النِّعْمَةُ الْوَاسِعَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ:
وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [١٣].
وَفِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمَا الْبَاعِثُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُمْ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ يَنْفِي عَنْهُمْ تَوَقُّعَ الْمُؤَاخَذَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَثَرْوَتُهُمْ وَنِعْمَتُهُمْ تُغْرِيهِمْ بِالْكِبْرِ وَالصَّلَفِ إِذْ أَلِفُوا أَنْ يَكُونُوا سَادَةً لَا تَبَعًا، قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: ١١]، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَقَبَّلُوا مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولُهُمْ مِنَ اتِّقَاءِ عَذَابِ يَوْمِ الْبَعْثِ وَطَلَبِهِمُ النَّجَاةَ بِاتِّبَاعِهِمْ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ.
وَمَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كِنَايَةٌ عَنْ تَكْذِيبِهِ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّ الْبَشَرِيَّةَ تُنَافِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا رَسُولًا مِنَ اللَّهِ فَأَتَوْا بِالْمَلْزُومِ وَأَرَادُوا لَازِمَهُ.
52
وَجُمْلَةُ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلِ لِلْبَشَرِيَّةِ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ مِثْلَهُمْ وَيَشْرَبُ مِثْلَهُمْ وَلَا يَمْتَازُ فِيمَا يَأْكُلُهُ وَمَا يَشْرَبُهُ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَشْرَبُونَ وَهُوَ عَائِدُ الصِّلَةِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِنَظِيرِهِ الَّذِي فِي الصِّلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا.
وَاللَّامُ فِي وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، فَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَأُقْحِمَ حَرْفُ الْجَزَاءِ فِي جَوَابِ
الْقَسَمِ لِمَا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ مِنْ مُشَابَهَةِ الْجَزَاءِ لَا سِيَّمَا مَتَى اقْتَرَنَ الْقَسَمُ بِحَرْفِ شَرْطٍ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ أَيَعِدُكُمْ لِلتَّعَجُّبِ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ تَكْذِيبِهِ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ إِلَى تَكْذِيبِهِ فِي الْمُرْسَلِ بِهِ.
وَقَوْلُهُ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ إِلَى آخِرِهِ مَفْعُولُ يَعِدُكُمْ أَيْ يَعِدُكُمْ إِخْرَاجَ مُخْرَجِ إِيَّاكُمْ.
وَالْمَعْنَى: يَعِدُكُمْ إِخْرَاجَكُمْ مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ مَوْتِكُمْ وَفَنَاءِ أَجْسَامِكُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِعَادَةً لِكَلِمَةِ (أَنَّكُمْ) الْأُولَى اقْتَضَى إِعَادَتَهَا بَعْدَ مَا بَيَّنَهَا وَبَيَّنَ خَبَرَهَا. وَتُفِيدُ إِعَادَتُهَا تَأْكِيدًا لِلْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ اسْتِفْهَامَ اسْتِبْعَادٍ تَأْكِيدًا لِاسْتِبْعَادِهِ. وَهَذَا تَأْوِيلُ الْجَرْمِيِّ وَالْمُبَرِّدِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مُبْتَدَأٌ. وَيَكُونَ قَوْلُهُ: إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً خَبَرًا عَنْهُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ وَتَكُونَ جُمْلَةُ إِذا مِتُّمْ إِلَى قَوْلِهِ مُخْرَجُونَ خَبَرًا عَنْ (أَنَّ) مِنْ قَوْلِهِ أَنَّكُمْ الْأُولَى.
وَجَعَلُوا مُوجَبَ الِاسْتِبْعَادِ هُوَ حُصُولُ أَحْوَالٍ تُنَافِي أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ بِحَسَبِ قُصُورِ عُقُولِهِمْ، وَهِيَ حَالُ الْمَوْتِ الْمُنَافِي لِلْحَيَاةِ، وَحَالُ الْكَوْنِ تُرَابًا وَعِظَامًا الْمُنَافِي لِإِقَامَةِ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَأُرِيدَ بِالْإِخْرَاجِ إِخْرَاجُهُمْ أَحْيَاءً بِهَيْكَلٍ إِنْسَانِيٍّ كَامِلٍ، أَيْ مُخْرَجُونَ لِلْقِيَامَةِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.
53
وَجُمْلَةُ هَيْهاتَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَعِدُكُمْ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ.
وهَيْهاتَ كَلِمَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى فَتْحِ الْآخِرِ وَعَلَى كَسْرِهِ أَيْضًا. وَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِالْفَتْحِ.
وَقَرَأَهَا أَبُو جَعْفَرٍ بِالْكَسْرِ. وَتَدُلُّ عَلَى الْبُعْدِ. وَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ مُكَرَّرَةً مَرَّتَيْنِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ ثَلَاثًا كَمَا جَاءَ فِي شِعْرٍ لِحُمَيْدٍ الْأَرْقَطِ وَجَرِيرٍ يَأْتِيَانِ.
وَاخْتُلِفَ فِيهَا أَهِيَ فِعْلٌ أَمِ اسْمٌ فَجُمْهُورُ النُّحَاةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ (هَيْهَاتَ) اسْمُ فِعْلٍ لِلْمَاضِي مِنَ الْبُعْدِ، فَمَعْنَى هَيْهَاتَ كَذَا: بَعُدَ. فَيَكُونُ مَا يَلِي (هَيْهَاتَ) فَاعِلًا. وَقِيلَ هِيَ اسْمٌ لِلْبُعْدِ، أَيْ فَهِيَ مَصْدَرٌ جَامِدٌ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ فِي «تَفْسِيرِهِ». قَالَ الرَّاغِبُ:
وَقَالَ الْبَعْضُ: غَلِطَ الزَّجَّاجُ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَاسْتَهْوَاهُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ.
وَقِيلَ: هَيْهَاتَ ظَرْفٌ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ. وَنَسَبَهُ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» إِلَى أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. قَالَ: قَالَ ابْنُ جِنِّي: كَانَ أَبُو عَلِيٍّ يَقُولُ فِي هَيْهَاتَ: أَنَا أُفْتِي مَرَّةً بِكَوْنِهَا اسْمًا سُمِّيَ بِهِ الْفِعْلُ مِثْلَ صَهٍ وَمَهْ، وَأُفْتِي مَرَّةً بِكَوْنِهَا ظَرْفًا عَلَى قَدْرِ مَا يَحْضُرُنِي فِي الْحَالِ.
وَفِيهَا لُغَاتٌ كَثِيرَةٌ وَأَفْصَحُهَا أَنَّهَا بِهَاءَيْنِ وَتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فَتْحَةَ بِنَاءٍ، وَأَنَّ تَاءَهَا تَثْبُتُ فِي الْوَقْفِ وَقِيلَ يُوقف عَلَيْهَا هَاء، وَأَنَّهَا لَا تُنَوَّنُ تَنْوِينَ تَنْكِيرٍ.
وَقَدْ وَرَدَ مَا بَعْدَ (هَيْهَاتَ) مَجْرُورًا بِاللَّامِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَوَرَدَ مَرْفُوعًا كَمَا فِي قَوْلِ جَرِيرٍ:
فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الْعَقِيقُ وَأَهْلُهُ وَهَيْهَاتَ خِلٌّ بِالْعَقِيقِ نُحَاوِلُهُ
وَوَرَدَ مَجْرُورًا بِ (مِنْ) فِي قَوْلِ حُمَيْدٍ الْأَرْقَطِ:
هَيْهَاتِ مَنْ مُصَبَّحُهَا هَيْهَاتِ هَيْهَاتِ حَجَرٌ مِنْ صُنَيْبِعَاتِ
فَالَّذِي يَتَّضِحُ فِي اسْتِعْمَالِ (هَيْهَاتَ) أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا بَعْدَهَا أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى تَأْوِيلِ (هَيْهَاتَ) بِمَعْنَى فِعْلٍ مَاضٍ مِنَ الْبُعْدِ كَمَا فِي بَيْتِ جَرِيرٍ،
54
وَأَنَّ الْأَفْصَحَ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مَجْرُورًا بِاللَّامِ فَيَكُونُ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ فَاعِلِ اسْمِ الْفِعْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا يَسْبِقُ (هَيْهَاتَ) مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ غَالِبًا إِلَّا بَعْدَ كَلَامٍ، وَتُجْعَلُ اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ، أَيْ إِيضَاحِ الْمُرَادِ مِنَ الْفَاعِلِ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ إِجْمَالٌ ثُمَّ تَفْصِيلٌ يُفِيدُ تَقْوِيَةَ الْخَبَرِ. وَهَذِهِ اللَّامُ تَرْجِعُ إِلَى لَامِ التَّعْلِيلِ. وَإِذَا وَرَدَ مَا بَعْدَهَا مَجْرُورًا بِ (مِنْ) فَ (مِنْ) بِمَعْنَى (عَنْ) أَيْ بَعُدَ عَنْهُ أَوْ بُعْدًا عَنْهُ.
عَلَى أَنَّهُ يجوز أَن تؤوّل (هَيْهَاتَ) مَرَّةً بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْغَالِبُ وَمَرَّةً بِالْمَصْدَرِ فَتَكُونُ اسْمُ مَصْدَرٍ مَبْنِيًّا جَامِدًا غَيْرَ مُشْتَقٍّ. وَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بِهَا كَالْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي سَلَكَهُ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَيُشِيرُ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ إِلَى اخْتِيَارِهِ.
وَجَاءَ هُنَا فِعْلُ تُوعَدُونَ مِنْ (أَوْعَدَ) وَجَاءَ قَبْلَهُ فِعْلُ أَيَعِدُكُمْ وَهُوَ مِنْ (وَعَدَ) مَعَ أَنَّ الْمَوْعُودَ بِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ: رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ فِي حَالِ وُجُودِهِمْ فَجُعِلَ وَعْدًا، وَالثَّانِي رَاجِعٌ إِلَى حَالَتِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالِانْعِدَامِ فَنَاسَبَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْوَعِيدِ اهـ.
وَأَقُولُ: أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ عَبَّرَ مَرَّةً بِالْوَعْدِ وَمَرَّةً بِالْوَعِيدِ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِبَاكِ، فَإِنَّ
إِعْلَامَهُمْ بِالْبَعْثِ مُشْتَمِلٌ عَلَى وَعْدٍ بِالْخَيْرِ إِنْ صَدَقُوا وَعَلَى وَعِيدٍ إِنْ كَذَبُوا، فَذُكِرَ الْفِعْلَانِ عَلَى التَّوْزِيعِ إِيجَازًا.
وَقَوْلُهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلِاسْتِبْعَادِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ:
هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ وَاسْتِدْلَالًا وَتَعْلِيلًا لَهُ، وَلِكِلَا الْوَجْهَيْنِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَضَمِيرُ هِيَ عَائِدٌ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ فِي الْكَلَامِ بَلْ عَائِدٌ عَلَى مَذْكُورٍ بَعْدَهُ قَصْدًا لِلْإِبْهَامِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِيَتَمَكَّنِ الْمَعْنَى فِي ذِهْنِ السَّامِعِ. وَهَذَا مِنْ مَوَاضِعِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى مَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ مَا بَعْدَهُ بَيَانًا لَهُ، وَلِذَلِكَ يُجْعَلُ
55
الِاسْمُ الَّذِي بَعْدَ الضَّمِيرِ عَطْفَ بَيَانٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» الْمِصْرَاعَ الْأَوَّلِ وَأَثْبَتَهُ الطِّيبِيُّ كَامِلًا:
هِيَ النَّفْسُ مَا حَمَّلْتَهَا تَتَحَمَّلُ وَلِلدَّهْرِ أَيَّامٌ تَجُورُ وَتَعْدِلُ
وَقَوْلُ أبي الْعَلَاء [المعري] :
هُوَ الْهَجْرُ حَتَّى مَا يُلَمَّ خَيَالٌ وَبَعْضُ صُدُودِ الزَّائِرِينَ وِصَالُ
وَمُبَيِّنُ الضَّمِيرِ هُنَا قَوْلُهُ إِلَّا حَياتُنَا فَيَكُونُ الِاسْمُ الَّذِي بَعْدَ (إِلَّا) عَطْفَ بَيَانٍ مِنَ الضَّمِيرِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ حَيَاتُنَا إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا. وَوَصْفُهَا بِالدُّنْيَا وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى الْبَيَانِ فَلَا يُقَدَّرُ مِثْلُهُ فِي الْمُبَيَّنِ.
وَلَيْسَ هَذَا الضَّمِيرُ ضَمِيرَ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ الْمَقَامِ لَهُ. وَلِأَنَّهُ فِي الْآيَةِ مُفَسَّرٌ بِالْمُفْرَدِ لَا بِالْجُمْلَةِ وَكَذَلِكَ فِي بَيْتِ أَبِي الْعَلَاءِ.
وَلِأَنَّ دُخُولَ (لَا) النَّافِيَةِ عَلَيْهِ يَأْبَى مِنْ جَعْلِهِ ضَمِيرَ شَأْنٍ إِذْ لَا مَعْنَى لِأَنْ يُقَالَ: لَا قِصَّةَ إِلَّا حَيَاتُنَا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ (لَا) النَّافِيَةُ لِلْجِنْسِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى اسْمِ جِنْسٍ لِتَبْيِينِهِ بِاسْمِ الْجِنْسِ وَهُوَ حَياتُنَا. فَالْمَعْنَى لَيْسَتِ الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا هَذِهِ، أَيْ لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا.
وَالدُّنْيَا: مُؤَنَّثُ الْأَدْنَى، أَيِ الْقَرِيبَةُ بِمَعْنَى الْحَاضِرَةُ.
وَضَمِيرُ حَياتُنَا مُرَادٌ بِهِ جَمِيعَ الْقَوْمِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ رَسُولُهُمْ. فَقَوْلُهُمْ: نَمُوتُ وَنَحْيا مَعْنَاهُ: يَمُوتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ وَيَحْيَا قَوْمٌ بَعْدَهُمْ. وَمَعْنَى نَحْيا: نُولَدُ، أَيْ يَمُوتُ مَنْ يَمُوتُ وَيُولَدُ مَنْ يُولَدُ، أَوِ الْمُرَادُ: يَمُوتُ مَنْ يَمُوتُ فَلَا يَرْجِعُ وَيَحْيَا مَنْ لَمْ يَمُتْ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. وَالْوَاوُ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبًا بَيْنَ مَعْطُوفِهَا وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَعَقَّبُوهُ بِالْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ:
وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ أَيْ لَا نَحْيَا حَيَاةً بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ نَمُوتُ وَنَحْيا بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهَا عَلَى إِثْبَاتِ حَيَاةٍ عَاجِلَةٍ وَمَوْتٍ، فَإِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مُفِيدٌ لِلِانْحِصَارِ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ مَعَ قَرِينَةِ قَوْلِهِ:
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا. وَأَفَادَ صَوْغُ الْخَبَرِ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ تَقْوِيَةَ مَدْلُولِهِ وَتَحْقِيقَهُ.
56
ثُمَّ جَاءَتْ جُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً نَتِيجَةً عَقِبَ الِاسْتِدْلَالِ، فَجَاءَتْ مُسْتَأْنَفَةً لِأَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَهَا فَهِيَ تَصْرِيحٌ بِمَا كُنِيَ عَنْهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ تَكْذِيبِ دَعْوَتِهِ، فَاسْتَخْلَصُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ حَالَهُ مُنْحَصِرٌ فِي أَنَّهُ كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِرْسَالِ. وَضَمِيرُ إِنْ هُوَ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.
فَجُمْلَةُ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً صِفَةٌ لِ رَجُلٌ وَهِيَ مُنْصَبُّ الْحَصْرِ فَهُوَ مِنْ قَصْرِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ قَصْرَ قَلْبٍ إِضَافِيًّا، أَيْ لَا كَمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ.
وَإِنَّمَا أَجْرَوْا عَلَيْهِ أَنَّهُ رَجُلٌ مُتَابَعَةً لِوَصْفِهِ بِالْبَشَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَقْرِيرًا لِدَلِيلِ الْمُمَاثَلَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلرِّسَالَةِ فِي زَعْمِهِمْ، أَيْ زِيَادَةٌ عَلَى كَوْنِهِ رَجُلًا مَثْلَهُمْ فَهُوَ رَجُلٌ كَاذِبٌ.
وَالِافْتِرَاءُ: الِاخْتِلَاقُ. وَهُوَ الْكَذِبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِلْمُخْبِرِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١٠٣].
وَإِنَّمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مَعَ دَلَالَةِ نِسْبَتِهِ إِلَى الْكَذِبِ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ إِعْلَانًا بِالتَّبَرِّي مِنْ أَنْ يَنْخَدِعُوا لِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى حَالِ خِطَابِ الْعَامَّةِ.
وَالْقَوْلُ فِي إِفَادَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ التَّقْوِيَةَ كَالْقَوْلِ فِي وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ.
[٣٩، ٤٠]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٣٩ إِلَى ٤٠]
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا حُكِيَ مِنْ صَدِّ الْمَلَأِ النَّاسَ عِنْدَ اتِّبَاعِهِ وَإِشَاعَتِهِمْ عَنْهُ أَنَّهُ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ وَتَلْفِيقِهِمُ الْحُجَجَ الْبَاطِلَةَ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَمَّا
كَانَ مِنْ شَأْنِهِ وَشَأْنِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيُجَابُ بِأَنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ بِالدُّعَاءِ بِأَنْ يَنْصُرَهُ عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا فِي قِصَّةِ نُوحٍ.
وَجَاءَ جَوَابُ دُعَاءِ هَذَا الرَّسُولِ غَيْرَ مَعْطُوفٍ لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ حِكَايَةِ
الْمُحَاوَرَاتِ الَّذِي بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْلُهُ: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وعَمَّا قَلِيلٍ أَفَادَ حَرْفُ (عَنْ) الْمُجَاوَزَةَ، أَيْ مُجَاوَزَةَ مَعْنَى مُتَعَلَّقِهَا الِاسْمَ الْمَجْرُورَ بِهَا. وَيَكْثُرُ أَنْ تُفِيدَ مُجَاوَزَةَ مَعْنَى مُتَعَلَّقِهَا الِاسْمَ الْمَجْرُورَ بِهَا فَيَنْشَأُ مِنْهَا مَعْنَى (بَعْدَ) نَحْوَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق: ١٩] فَيُقَالُ: إِنَّهَا تَجِيءُ بِمَعْنَى (بَعْدَ) كَمَا ذَكَرَهُ النُّحَاةُ وَهُمْ جَرَوْا عَلَى الظَّاهِرِ وَتَفْسِيرِ الْمَعْنَى إِذْ لَا يَكُونُ حَرْفٌ بِمَعْنَى اسْمٍ، فَإِنَّ مَعَانِيَ الْحُرُوفِ نَاقِصَةٌ وَمَعَانِيَ الْأَسْمَاءِ تَامَّةٌ. فَمَعْنَى عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ: أَنَّ إِصْبَاحَهُمْ نَادِمِينَ يتَجَاوَز زَمنا قَلِيلا: أَيْ مِنْ زَمَانِ التَّكَلُّمِ وَهُوَ تَجَاوُزٌ مَجَازِيٌّ بِحَرْفِ (عَنْ) مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى (بَعْدَ) اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً. وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ.
وقَلِيلٍ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَوْ فِعْلُ الْإِصْبَاحِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الزَّمَنِ فَوَعَدَ اللَّهُ هَذَا الرَّسُولَ نَصْرًا عَاجِلًا.
وَنَدَمُهُمْ يَكُونُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَبْدَأِ الِاسْتِئْصَالِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ نَدَمُهُمْ بَعْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ.
وَالْإِصْبَاحُ هُنَا مُرَادٌ بِهِ زَمَنُ الصَّبَاحِ لَا مَعْنَى الصَّيْرُورَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٨٣] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ.
[٤١]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٤١]
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
58
(٤١)
تَقْتَضِي الْفَاءُ تَعْجِيلَ إِجَابَةِ دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ.
وَالْأَخْذُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِهْلَاكِ.
وَالصَّيْحَةُ: صَوْتُ الصاعقة، وَهَذَا يرجع أَوْ يُعَيِّنُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْقَرْنُ هُمْ ثَمُودُ قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: ٥] وَقَالَ فِي شَأْنِهِمْ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٨٣] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ.
وَإِسْنَادُ الْأَخْذِ إِلَى الصَّيْحَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ سَبَبُ الْأَخْذِ أَوْ مُقَارَنَةُ سَبَبِهِ فَإِنَّهَا تَحْصُلُ مِنْ تَمَزُّقِ كُرَةِ الْهَوَاءِ عِنْدَ نُزُولِ الصَّاعِقَةِ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَخَذَتْهُمْ أَخْذًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ، أَيْ لَا اعْتِدَاءَ فِيهِ
عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ بِظُلْمِهِمْ.
وَالْغُثَاءُ: مَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مِنَ الْأَعْوَادِ الْيَابِسَةِ وَالْوَرَقِ. وَالْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ لِلْهَيْئَةِ فَهُوَ تَشْبِيهُ حَالَةٍ بِحَالَةٍ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ كَالْغُثَاءِ فِي الْبِلَى وَالتَّكَدُّسِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَهَلَكُوا هَلْكَةً وَاحِدَةً.
وَفُرِّعَ عَلَى حِكَايَةِ تَكْذِيبِهِمْ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْثَالِهِمْ دُعَاءَ شَتْمٍ وَتَحْقِيرٍ بِأَنْ يُبْعَدُوا تَحْقِيرًا لَهُمْ وَكَرَاهِيَةً، وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَةِ الدُّعَاءِ لِأَن هَؤُلَاءِ قد بُعِدُوا بِالْهَلَاكِ.
وانتصب فَبُعْداً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ مِثْلَ: تَبًّا وَسُحْقًا، أَيْ أَتَبَّهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ.
وَعَكْسُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْعَرَبِ لَا تَبْعَدْ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) أَيْ لَا تُفْقَدْ. قَالَ مَالِكُ بْنُ الرَّيْبِ:
يَقُولُونَ لَا تَبْعَدُ وَهُمْ يَدْفِنُونِي وَأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إِلَّا مَكَانِيَا
وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الْكَافِرُونَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣]. وَاخْتِيرَ هَذَا الْوَصْفُ هُنَا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْإِشْرَاكِ وَظَلَمُوا هُودًا لِأَنَّهُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ إِذْ قَالُوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٨].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَشَمَلَهُمْ، وَلِذَلِكَ تَكُونُ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ.
59
وَاللَّامُ فِي لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ لِلتَّبْيِينِ وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَقْصُودِ بِالدُّعَاءِ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: سُحْقًا لَكَ وَتَبًّا لَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: فَبُعْدًا، لَعُلِمَ أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ فَبِزِيَادَةِ اللَّامِ يَزِيدُ بَيَانُ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ مُسْتَأْنف للْبَيَان.
[٤٢، ٤٣]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٤٢ إِلَى ٤٣]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣)
الْقُرُونُ: الْأُمَمُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الْفرْقَان: ٣٨].
وَهُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ لَمْ تُرْسَلْ إِلَيْهِمْ رُسُلٌ وَبَقُوا عَلَى اتِّبَاعِ شَرِيعَةِ نُوحٍ أَوْ شَرِيعَةِ هُودٍ أَوْ شَرِيعَةِ صَالِحٍ، أَوْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِشَرْعٍ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذِكْرِ الْأُمَمِ هُنَا دُونَ ذِكْرِ الرُّسُلِ ثُمَّ ذِكْرُ الرُّسُلِ عقب هَذَا يومىء إِلَى أَنَّ هَذِهِ إِمَّا أُمَمٌ لَمْ تَأْتِهِمْ رُسُلٌ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ تَرْكَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَأَهَّلُوا لِقَبُولِ شَرَائِعَ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى شَرَائِعَ سَابِقَةٍ.
وَجُمْلَةُ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَةِ. وَهِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً مِنْ كَثْرَتِهَا وَلَا يُؤْذِنُ بِهِ وَصْفُهُمْ بِ آخَرِينَ مَنْ جَهْلِ النَّاسِ بِهِمْ، وَلِمَا يُؤْذِنُ بِهِ عَطْفُ جُمْلَةِ ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٤] مِنِ انْقِرَاضِ هَذِهِ الْقُرُونِ بَعْدَ الْأُمَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ قِصَّتُهَا آنِفًا فِي قَوْلِهِ ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ دُونَ أَنْ تَجِيئَهُمْ رُسُلٌ، فَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ مُدَّةِ تَعْمِيرِهِمْ وَوَقْتِ انْقِرَاضِهِمْ. فَيُجَابُ بِالْإِجْمَالِ لِأَنَّ لِكُلِّ قَرْنٍ مِنْهُمْ أَجَلًا عَيَّنَهُ اللَّهُ يَبْقَى إِلَى مِثْلِهِ ثُمَّ يَنْقَرِضُ وَيَخْلُفُهُ قَرْنٌ آخَرُ يَأْتِي بَعْدَهُ، أَوْ يَعْمُرُ بَعْدَهُ قَرْنٌ كَانَ مُعَاصِرًا لَهُ، وَأَنَّ مَا عُيِّنَ لِكُلِّ قَرْنٍ لَا يَتَقَدَّمُهُ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يُونُس: ٤٩].
وَالسَّبْقُ: تَجَاوُزُ السَّائِرِ وَتَرْكُهُ مُسَائِرَهُ خَلْفَهُ، وَعَكْسُهُ التَّأَخُّرُ. وَالْمَعْنَى وَاضِحٌ.
وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي يَسْتَأْخِرُونَ زَائِدَتَانِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ. وَضَمِيرُ يَسْتَأْخِرُونَ عَائِدٌ إِلَى أُمَّةٍ بِاعْتِبَار النَّاس.
[٤٤]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٤٤]
ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ مَا جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (٤٤)
الرُّسُلُ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدُ، أَيْ مِنْ بَعْدِ هَذِهِ الْقُرُونِ مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ وَيُوسُفُ وَشُعَيْبٌ. وَمَنْ أُرْسِلَ قَبْلَ مُوسَى، وَرُسُلٌ لَمْ يَقْصُصْهُمُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ.
وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ اطِّرَادِ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي اسْتِئْصَالِ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُ الْمُعَانِدِينَ فِي آيَاتِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً.
وتَتْرا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِأَلِفٍ فِي آخِرِهِ دُونَ تَنْوِينٍ فَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فَعْلَى مِثْلَ دَعْوَى وَسَلْوَى، وَأَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ مِثْلَ ذِكْرَى، فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ. وَأَصْلُهُ: وَتْرَى بِوَاوٍ فِي أَوَّلِهِ مُشْتَقًّا مِنَ الْوَتْرِ وَهُوَ الْفَرْدُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ اللُّغَوِيِّينَ أَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ، أَيْ فَرْدًا فَرْدًا، أَيْ فَرْدًا بَعْدَ فَرْدٍ فَهُوَ نَظِيرُ مَثْنَى. وَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ تَاءً إِبْدَالًا غَيْرَ قِيَاسِيٍّ كَمَا أُبْدِلَتْ فِي (تِجَاهٍ) لِلْجِهَةِ الْمُوَاجِهَةِ وَفِي (تَوْلَجُ) لِكِنَاسِ الْوَحْشِ (وَتُرَاثٍ) لِلْمَوْرُوثِ.
وَلَا يُقَالُ تَتْرَى إِلَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ تَعَاقُبٌ مَعَ فَتَرَاتٍ وَتَقَطُّعٌ. وَمِنْهُ التَّوَاتُرُ وَهُوَ تَتَابُعُ الْأَشْيَاءِ وَبَيْنَهَا فَجَوَاتٌ. وَالْوَتِيرَةُ: الْفَتْرَةُ عَنِ الْعَمَلِ. وَأَمَّا التَّعَاقُبُ بِدُونِ فَتْرَةٍ فَهُوَ التَّدَارُكُ. يُقَالُ: جَاءُوا مُتَدَارِكِينَ، أَيْ مُتَتَابِعِينَ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ مُنَوَّنًا وَهِيَ لُغَةُ كِنَانَةَ. وَهُوَ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ رُسُلَنا.
61
وَاعْلَمْ أَن كلمة تَتْرا كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا بِصُورَةِ الْأَلِفِ فِي آخِرِهَا عَلَى صُورَةِ الْأَلِفِ الْأَصْلِيَّةِ مَعَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ أَلِفُ تَأْنِيثٍ مَقْصُورَةٍ وَشَأْنُ أَلِفِ التَّأْنِيثِ الْمَقْصُورَةِ أَنْ تُكْتَبَ بِصُورَةِ الْيَاءِ مِثْلَ تَقْوَى وَدَعْوَى، فَلَعَلَّ كُتَّابَ الْمَصَاحِفِ رَاعَوْا كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فَكَتَبُوا الْأَلِفَ بِصُورَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ لِصُلُوحِيَّةِ نُطْقِ الْقَارِئِ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ. عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْأَلِفِ أَنْ تُكْتَبَ بِصُورَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ، وَأَمَّا كِتَابَتُهَا فِي صُورَةِ الْيَاءِ حَيْثُ تُكْتَبُ كَذَلِكَ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَصْلِهَا أَوْ جَوَازِ إِمَالَتِهَا فَخُولِفَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ لِدَفْعِ اللَّبْسِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: ثُمَّ بَعْدَ تِلْكَ الْقُرُونِ أَرْسَلْنَا رُسُلًا، أَيْ أَرْسَلْنَاهُمْ إِلَى أُمَمٍ أُخْرَى، لِأَنَّ إِرْسَالَ الرَّسُولِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ أُمَّةٍ وَقَدْ صُرِّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ كُلَّ مَا جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ.
وَالْمَعْنَى: كَذَّبَهُ جُمْهُورُهُمْ وَرُبَّمَا كَذَّبَهُ جَمِيعُهُمْ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيءَ وَمَعَهُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيءَ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالنَّبِيءَ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ... »
الْحَدِيثُ.
وَإِتْبَاعُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا إِلْحَاقُهُمْ بِهِمْ فِي الْهَلَاكِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ، أَيْ صَيَّرْنَاهُمْ أُحْدُوثَاتٍ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِمَا أَصَابَهُمْ. وَإِنَّمَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِالشَّيْءِ الْغَرِيبِ النَّادِرِ مِثْلُهُ. وَالْأَحَادِيثُ هُنَا جَمْعُ أُحْدُوثَةٍ، وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يَتَلَهَّى النَّاسُ بِالْحَدِيثِ عَنْهُ. وَوَزْنُ الْأُفْعُولَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ الْأُعْجُوبَةِ وَالْأُسْطُورَةِ.
وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِبَادَتِهِمْ، فَالْمَعْنَى: جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ بَائِدِينَ غَيْرَ مُبْصَرِينَ.
وَالْقَوْلُ فِي فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٤١] إِلَّا أَنَّ الدُّعَاءَ نِيطَ هُنَا بِوَصْفِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِيَحْصُلَ مِنْ مَجْمُوعِ الدَّعْوَتَيْنِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَذَمَّةِ الْكُفْرِ وَعَلَى مَذَمَّةِ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ تَعْرِيضًا
62
بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، عَلَى أَنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِرُسُلِ اللَّهِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الدُّعَاءِ تَعُمُّ كَمَا فِي قَوْلِ الْحَرِيرِيِّ: «يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وقيتم ضرا».
[٤٥- ٤٨]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٤٥ إِلَى ٤٨]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨)
الْآيَاتُ: الْمُعْجِزَاتُ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِهَا وَتَعْظِيمِهَا. وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ الَّتِي لَقَّنَهَا اللَّهُ مُوسَى فَانْتَهَضَتْ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ بَعَثْنَاهُ مُلَابِسًا لِلْمُعْجِزَاتِ وَالْحُجَّةِ.
وَمَلَأُ فِرْعَوْنَ: أَهْلُ مَجْلِسِهِ وَعُلَمَاءُ دِينِهِ وَهُمُ السَّحَرَةُ. وَإِنَّمَا جَعَلَ الْإِرْسَالَ إِلَيْهِمْ دُونَ بَقِيَّةِ أُمَّةِ الْقِبْطِ لِأَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى وَأَخِيهِ إِنَّمَا كَانَتْ خِطَابًا لِفِرْعَوْنَ وَأَهْلِ دَوْلَتِهِ الَّذِينَ بِيَدِهِمْ تَصْرِيفُ أُمُورِ الْأُمَّةِ لِتَحْرِيرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنِ اسْتِعْبَادِهِمْ إِيَّاهُمْ قَالَ تَعَالَى: فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ [طه: ٤٧]. وَلَمْ يُرْسَلَا بِشَرِيعَةٍ إِلَى الْقِبْطِ. وَأَمَّا الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ فَمُقَدَّمَةٌ لِإِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ لَهُمْ.
وَعَطْفُ فَاسْتَكْبَرُوا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ يُفِيدُ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَأَمَّلُوا الدَّعْوَةَ وَالْآيَاتِ وَالْحُجَّةَ وَلَكِنَّهُمْ أَفْرَطُوا فِي الْكِبْرِيَاءِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّوْكِيدِ، أَيْ تَكَبَّرُوا كِبْرِيَاءً شَدِيدَةً بِحَيْثُ لَمْ يُعِيرُوا آيَاتِ مُوسَى وَحُجَّتَهُ أُذُنًا صَاغِيَةً.
وَجُمْلَةُ وَكانُوا قَوْماً عالِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فعل فَاسْتَكْبَرُوا وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ فَقالُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، أَيْ فَاسْتَكْبَرُوا بِأَنْ أَعْرَضُوا عَنِ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ مُوسَى وَهَارُونَ وَشَأْنُهُمُ الْكِبْرِيَاءُ وَالْعُلُوُّ، أَيْ كَانَ الْكِبْرُ خُلُقَهُمْ وَسَجِيَّتَهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
63
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] أَنَّ إِجْرَاءَ وَصْفٍ عَلَى لَفْظِ (قَوْمٍ) أَوِ الْإِخْبَارَ بِلَفْظِ (قَوْمٍ) مَتْبُوعٍ بِاسْمِ فَاعِلٍ إِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهُ تَمَكُّنُ ذَلِكَ الْوَصْفِ مِنَ الْمَوْصُوفِ بِلَفْظِ (قَوْمٍ) أَوْ تَمَكُّنُهُ مِنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ. فَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّ اسْتِكْبَارَهُمْ عَلَى تَلَقِّي دَعْوَةِ مُوسَى وَآيَاتِهِ وَحُجَّتِهِ إِنَّمَا نَشَأَ عَنْ سَجِيَّتِهِمْ مِنَ الْكِبْرِ وَتَطَبُّعِهِمْ. فَالْعُلُوُّ بِمَعْنَى التَّكَبُّرِ وَالْجَبَرُوتِ. وَسَيَجِيءُ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٤].
وَبُيِّنَ ذَلِكَ بِالتَّفْرِيعِ بِقَوْلِهِ: فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ فَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى قَوْلِهِ فَاسْتَكْبَرُوا، أَيِ اسْتَكْبَرَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ عَنِ اتِّبَاعِ مُوسَى وَهَارُونَ، فَأَفْصَحُوا عَنْ سَبَبِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ. وَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ وَلَكِنَّهُ قَوْلُ بَعْضِ الْمَلَأِ لِبَعْضٍ، وَلَمَّا كَانُوا قد تراوضوا عَلَيْهِ نُسِبَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَكَانَ مُصْغِيًا لِرَأْيِهِمْ وَمَشُورَتِهِمْ وَكَانَ لَهُ قَوْلٌ
آخَرُ حُكِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَص: ٣٨] فَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مَعْدُودًا فِي دَرَجَةِ الْآلِهَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَشَرًا فِي الصُّورَةِ لَكِنَّهُ اكْتَسَبَ الْإِلَهِيَّةَ بِأَنَّهُ ابْنُ الْآلِهَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنُؤْمِنُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِمَا وَهُمَا مِثْلُنَا فِي الْبَشَرِيَّةِ وَلَيْسَا بِأَهْلٍ لِأَنْ يَكُونَا ابْنَيْنِ لِلْآلِهَةِ لِأَنَّهُمَا جَاءَا بِتَكْذِيبِ إِلَهِيَّةِ الْآلِهَةِ، فَكَانَ مَلَأُ فِرْعَوْنَ لِضَلَالِهِمْ يَتَطَلَّبُونَ لِصِحَّةِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مُبَايِنًا لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانُوا يَتَخَيَّلُونَ آلِهَتَهُمْ أَجْنَاسًا غَرِيبَةً مِثْلَ جَسَدِ آدَمِيٍّ وَرَأْسِ بَقَرَةٍ أَوْ رَأْسِ طَائِرٍ أَوْ رَأْسِ ابْنِ آوَى أَوْ جَسَدِ أَسَدٍ وَرَأْسِ آدَمِيٍّ، وَلَا يُقِيمُونَ وَزْنًا لِتَبَايُنِ مَرَاتِبِ النُّفُوسِ وَالْعُقُولِ وَهِيَ أَجْدَرُ بِظُهُورِ التَّفَاوُتِ لِأَنَّهَا قَرَارَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ هِيَ سَبَب ضلال أَكْثَرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا رُسُلَهُمْ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِبَشَرَيْنِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ نُؤْمِنُ. يُقَالُ لِلَّذِي يُصَدِّقُ الْمُخْبِرَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ: آمَنَ لَهُ، فَيُعَدَّى فِعْلُ (آمَنَ) بِاللَّامِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ
64
صَدَّقَ بِالْخَبَرِ لِأَجْلِ الْمُخْبِرِ، أَيْ لِأَجْلِ ثِقَتِهِ فِي نَفْسِهِ. فَأَصْلُ هَذِهِ اللَّامِ لَامُ الْعِلَّةِ وَالْأَجْلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: ٢٦] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدُّخان: ٢١]. وَأَمَّا تَعْدِيَةُ فِعْلِ الْإِيمَانِ بِالْبَاءِ فَإِنَّهَا إِذَا عُلِّقَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْخَبَرِ تَقُولُ: آمَنْتُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. وَبِهَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ: آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ وَقَوْلِكَ: آمَنْتُ لِمُحَمَّدٍ. فَمَعْنَى الْأَوَّلِ: أَنَّكَ صَدَّقْتَ شَيْئًا.
وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ: آمَنْتُ لِلَّهِ وَإِنَّمَا يُقَالُ: آمَنْتُ بِاللَّهِ. وَتَقُولُ: آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ وَآمَنْتُ لِمُحَمَّدٍ.
وَمَعْنَى الْأَوَّلِ يَتَعَلَّقُ بِذَاتِهِ وَهُوَ الرِّسَالَةُ وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّكَ صَدَّقْتَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ.
ومِثْلِنا وَصْفٌ لِبَشَرَيْنِ وَهُوَ مِمَّا يَصِحُّ الْتِزَامُ إِفْرَادِهِ وَتَذْكِيرِهِ دُونَ نَظَرٍ إِلَى مُخَالَفَةِ صِيغَةٍ مَوْصُوفَهٍ كَمَا هُنَا. وَيَصِحُّ مُطَابَقَتُهُ لِمَوْصُوفِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ [الْأَعْرَاف: ١٩٤].
وَهَذَا طَعْنٌ فِي رِسَالَتِهِمَا مِنْ جَانِبِ حَالِهِمَا الذَّاتِيِّ ثُمَّ أَعَقَبُوهُ بِطَعْنٍ مِنْ جِهَةِ مَنْشَئِهِمَا وَقَبِيلِهِمَا فَقَالُوا: وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ، أَيْ وَهُمْ مِنْ فَرِيقٍ هُمْ عِبَادٌ لَنَا وَأَحَطُّ مِنَّا فَكَيْفَ يَسُودَانِنَا.
وَقَوْلُهُ: عابِدُونَ جَمْعُ عَابِدٍ، أَيْ مُطِيعٌ خَاضِعٌ. وَقَدْ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ خَوَلًا لِلْقِبْطِ وَخَدَمًا لَهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء:
٢٢].
وَتَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِمُ التَّصْمِيمُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمَا الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ فَكَذَّبُوهُما، أَيْ أُرْسِيَ أَمْرُهُمْ عَلَى أَنْ كَذَّبُوهُمَا، ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ أَنْ كَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ إِذْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالْغَرَقِ، أَيْ فَانْتَظَمُوا فِي سِلْكِ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أُهْلِكُوا. وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ:
فَأُهْلِكُوا، كَمَا مَرَّ بِنَا غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالتَّعْقِيبُ هُنَا تَعْقِيبٌ عُرْفِيٌّ لِأَنَّ الْإِغْرَاقَ لَمَّا نَشَأَ عَنِ التَّكْذِيبِ فَالتَّكْذِيبُ مُسْتَمِرٌّ إِلَى حِينِ الْإِهْلَاكِ.
وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ قُرَيْشٍ عَلَى تكذيبهم رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمُهْلَكِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِهْلَاكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ يكذبُون رسله.
65

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٤٩]

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩)
لَمَّا ذُكِرَتْ دَعْوَةُ مُوسَى وَهَارُونَ لِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ مِنْ إِهْلَاكِهِمْ أُكْمِلَتْ قِصَّةُ بَعْثَةِ مُوسَى بِالْمُهِمِّ مِنْهَا الْجَارِي وَمِنْ بَعْثَةِ مَنْ سَلَفَ مِنَ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ وَهُوَ إِيتَاءُ مُوسَى الْكِتَابَ لِهِدَايَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِحُصُولِ اهْتِدَائِهِمْ لِيَبْنِيَ عَلَى ذَلِكَ الِاتِّعَاظَ بِخِلَافِهِمْ عَلَى رُسُلِهِمْ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٣] فَإِنَّ مَوْعِظَةَ الْمُكَذِّبِينَ رَسُولَهُمْ بِذَلِكَ أَوْلَى. وَهُنَا وَقَعَ الْإِعْرَاضُ عَنْ هَارُونَ لِأَنَّ رِسَالَتَهُ قَدِ انْتَهَتْ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ لِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِذْ كَانَتْ مَقَامَ مُحَاجَّةٍ وَاسْتِدْلَالٍ فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ إِشْرَاكَ أَخِيهِ هَارُونَ فِي تَبْلِيغِهَا لِأَنَّهُ أَفْصَحُ مِنْهُ لِسَانًا فِي بَيَانِ الْحُجَّةِ وَالسُّلْطَانِ الْمُبِينِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابَ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ.
وَلِذَلِكَ كَانَ ضَمِيرُ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ظَاهِرَ الْعَوْدِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ بَلْ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمُ الْقَوْمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَانْتِسَاقُ الضَّمَائِرِ ظَاهِرٌ فِي الْمَقَامِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: آتَيْنا مُوسَى بِمَعْنَى: آتَيْنَا قَوْمَ مُوسَى، كَمَا سَلَكَهُ فِي «الْكَشَّافِ».
وَ (لَعَلَّ) لِلرَّجَاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَرَقَّبَ مِنْ إِيتَائِهِ اهْتِدَاءُ النَّاس بِهِ.
[٥٠]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٥٠]
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
لَمَّا كَانَتْ آيَةُ عِيسَى الْعُظْمَى فِي ذَاتِهِ فِي كَيْفِيَّةِ تَكْوِينِهِ كَانَ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِهَا هُنَا، وَلَمْ
تُذْكَرْ رِسَالَتُهُ لِأَنَّ مُعْجِزَةَ تَخْلِيقِهِ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأُمَّهُ فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِتَسْفِيهِ الْيَهُودِ فِيمَا رَمَوْا بِهِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَإِنَّ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ آيَة لَهَا وَلَا بنها جَعَلُوهُ مَطْعَنًا وَمَغْمَزًا فِيهِمَا.
وَتَنْكِيرُ آيَةً لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّهَا آيَةٌ تَحْتَوِي عَلَى آيَاتٍ. وَلَمَّا كَانَ مَجْمُوعُهَا دَالًّا عَلَى صِدْقِ عِيسَى فِي رِسَالَتِهِ جُعِلَ مَجْمُوعُهَا آيَةً عَظِيمَةً عَلَى صِدْقِهِ كَمَا عَلِمْتَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ فَهُوَ تَنْوِيهٌ بِهِمَا إِذْ جَعَلَهُمَا اللَّهُ مَحَلَّ عِنَايَتِهِ وَمَظْهَرَ قُدْرَتِهِ وَلُطْفِهِ.
وَالْإِيوَاءُ: جَعْلُ الْغَيْرِ آوِيًا، أَيْ سَاكِنًا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ فِي سُورَةِ هُودٍ [٨٠] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ فِي سُورَةِ هُودٍ [٤٣].
وَالرُّبْوَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ: الْمُرْتَفَعُ مِنَ الْأَرْضِ. وَيَجُوزُ فِي الرَّاءِ الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ فِي الْبَقَرَةِ [٢٦٥]. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْإِيوَاءِ وَحْيُ اللَّهِ لِمَرْيَمَ أَنْ تَنْفَرِدَ بِرَبْوَةٍ حِينَ اقْتَرَبَ مَخَاضُهَا لِتَلِدَ عِيسَى فِي مُنْعَزَلٍ مِنَ النَّاسِ حِفْظًا لِعِيسَى مِنْ أَذَاهُمْ.
وَالْقَرَارُ: الْمُكْثُ فِي الْمَكَانِ، أَيْ هِيَ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ قَرَارًا، فَأُضِيفَتِ الرَّبْوَةُ إِلَى الْمَعْنَى الْحَاصِلِ فِيهَا لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَذَلِكَ بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ النَّخِيلِ الْمُثْمِرِ فَتَكُونُ فِي ظِلِّهِ وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ قُوَّتِهَا.
وَالْمَعِينُ: الْمَاءُ الظَّاهِرُ الْجَارِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَهُوَ وَصْفٌ جَرَى عَلَى مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ مَاءٌ مَعِينٌ، لِدَلَالَةِ الْوَصْفِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: ١١].
وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٢٤- ٢٦] قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً.
[٥١]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٥١]
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
67
(٥١)
يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ اكْتِفَاءً بِالْمَقُولِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، أَيْ قُلْنَا: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا. وَالْمَحْكِيُّ هُنَا حُكِيَ بِالْمَعْنَى لِأَنَّ الْخِطَابَ الْمَذْكُورَ هُنَا لَمْ يَكُنْ مُوَجَّهًا لِلرُّسُلِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِضَرُورَةِ اخْتِلَافِ عُصُورِهِمْ. فَالتَّقْدِيرُ: قُلْنَا لِكُلِّ رَسُولٍ مِمَّنْ مَضَى ذِكْرُهُمْ
كُلْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلْ صَالِحًا إِنِّي بِمَا تعْمل عَلَيْهِم.
وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّوْزِيعِ لِمَدْلُولِ الْكَلَامِ وَهِيَ شَائِعَةٌ فِي خِطَابِ الْجَمَاعَاتِ. وَمِنْهُ:
رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ.
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا بَيَانُ كَرَامَةِ الرُّسُلِ عِنْدَ اللَّهِ وَنَزَاهَتِهِمْ فِي أُمُورِهِمُ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ، فَالْأَكْلُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ نَزَاهَةٌ جِسْمِيَّةٌ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ نَزَاهَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ.
وَالْمُنَاسَبَةُ لِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ هِيَ قَوْلُهُ: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٠] وَلِيَحْصُلَ مِنْ ذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى اعْتِقَادِ الْأَقْوَامِ الْمُعَلِّلِينَ تَكْذِيبَهُمْ رُسُلَهُمْ بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٣]، وَقَالَ: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: ٧]، وَلِيُبْطِلَ بِذَلِكَ مَا ابْتَدَعَهُ النَّصَارَى مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ. وَهَذِهِ فَوَائِدُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّعْلِيمِ كَانَ لَهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْوَقْعُ الْعَظِيمُ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا لِلْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْلُ أَمْرًا جِبِلِّيًّا لِلْبَشَرِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا لَازِمُهُ وَهُوَ إِعْلَامُ الْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّ الْأَكْلَ لَا يُنَافِي الرِّسَالَةَ وَأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَ الرُّسُلَ أَبَاحَ لَهُمُ الْأَكْلَ.
وَتَعْلِيقُ مِنَ الطَّيِّباتِ بِكَسْبِ الْإِبَاحَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ الْأَمْرِ شَرْطٌ أَنْ يَكُونَ الْمُبَاحُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، أَيْ أَنْ يَكُونَ الْمَأْكُولُ طَيِّبًا. وَيَزِيدُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّ الرُّسُلَ إِنَّمَا يَجْتَنِبُونَ الْخَبَائِثَ وَلَا يَجْتَنِبُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وَالطَّيِّبَاتُ: مَا لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَكْرُوهٍ.
68
وَعُطِفَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ عَلَى الْأَمْرِ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ هِمَّةَ الرُّسُلِ إِنَّمَا تَنْصَرِفُ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْمَائِدَة: ٩٣] المُرَاد بِهِ مَا تَنَاوَلُوهُ مِنَ الْخَمْرِ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا.
وَقَوْلُهُ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تَحْرِيضٌ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ بِالْجَزَاءِ عَنْهَا وَأَنَّهُ لَا يَضِيعُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التحريض.
[٥٢]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٥٢]
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [الْمُؤْمِنُونَ:
٥١] إِلَخْ، فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا قِيلَ لِلرُّسُلِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقُلْنَا لَهُمْ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً الْآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَصَصِ الْإِرْسَالِ الْمَبْدُوءَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٣] لِأَنَّ تِلْكَ الْقَصَصَ إِنَّمَا قُصَّتْ عَلَيْهِمْ لِيَهْتَدُوا بِهَا إِلَى أَنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الرِّسَالَةِ هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ سِيَاقُهَا كَسِيَاقِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٩٢] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً الْآيَةَ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. فَتِلْكَ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَتِهَا بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ). فَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خِطَابًا لِلرُّسُلِ وَأَنْ تَكُونَ خِطَابًا لِلْمَقْصُودِينَ بِالنِّذَارَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَفَتْحُ الْهَمْزَةِ بِتَقْدِيرِ لَامِ كَيْ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُونِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى وُجُودَ الْفَاءِ فِيهِ مَانِعًا مِنْ تَقْدِيمِ مَعْمُولِهِ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فَاتَّقُونِ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ عَلَى الْعَامِلِ الْمُقْتَرِنِ بِالْفَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فِي سُورَة النَّحْل
69
وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: وَلِكَوْنِ دِينِكُمْ دِينًا وَاحِدًا لَا يَتَعَدَّدُ فِيهِ الْمَعْبُودُ. وَكَوْنِي رَبَّكُمْ فَاتَّقُونِ وَلَا تُشْرِكُوا بِي غَيْرِي، خِطَابًا لِلرُّسُلِ وَالْمُرَادُ أُمَمُهُمْ. أَوْ خِطَابًا لِمَنْ خَاطَبَهُمُ الْقُرْآنُ.
وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيٌّ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) وَتَشْدِيدِ النُّونِ، فَكَسْرُ هَمْزَةِ (إِنَّ) إِمَّا لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي. وَالْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ وَخَبَرُهَا الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا. وَمَعْنَاهُ كَمَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ سَوَاءً.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُرَادٌ بِهِ شَرِيعَةُ كُلٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ (إِنَّ) عَلَى الْقِرَاءَاتِ كُلِّهَا لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أُمَمِ الرُّسُلِ أَوِ الْمُشْرِكِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، إِلَّا أَنَّ الْوَاقِعَ هُنَا فَاتَّقُونِ وَهُنَاكَ
فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاء: ٩٢] فَيَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَبِالتَّقْوَى وَلَكِنْ حَكَى فِي كُلِّ سُورَةٍ أَمْرًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ وَقَعَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ، فَاقْتُصِرَ عَلَى بَعْضِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَذُكِرَ مُعْظَمُهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْحِكَايَةِ فِي كِلْتَا السُّورَتَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَمْرٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ وَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى. قَدْ وَقَعَ فِي خِطَابٍ مُسْتَقِلٍّ تَمَاثَلَ بَعْضُهُ وَزَادَ الْآخَرُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْخِطَابِ مِنْ قَصْدِ إِبْلَاغِهِ لِلْأُمَمِ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ مِنْ قَصْدِ اخْتِصَاصِ الرُّسُلِ كَمَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَيُرَجِّحُ هَذَا أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ خِطَابُ الرُّسُلِ بِالصَّرَاحَةِ.
وَأَيًّا مَا كَانَ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ فَوُجِّهَ ذَلِكَ أَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تُذْكَرْ فِيهَا رِسَالَاتُ الرُّسُلِ إِلَى أَقْوَامِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ عَدَا رِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: ٥١]
70
ثُمَّ جَاءَ ذِكْرُ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ مَعَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَطَالَ الْبُعْدُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي اتُّحِدَتْ فِيهِ الْأَدْيَانُ. أَوْلَى هُنَالِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى أَقْوَامِهِمْ، فَكَانَ ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ أَوْلَى بِالْمَقَامِ فِي تِلْكَ السُّورَةِ لِأَنَّهُ الَّذِي حَظُّ الْأُمَمِ مِنْهُ أَكْثَرُ. إِذِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ لَمْ يَكُونُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ قَطُّ فَلَا يُقْصَدُ أَمْرُ الْأَنْبِيَاءِ بِذَلِكَ إِذْ يَصِيرُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرُ بِالدَّوَامِ.
وَأَمَّا آيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ فَقَدْ جَاءَتْ بَعْدَ ذِكْرِ مَا أُرْسِلَ بِهِ الرُّسُلُ إِلَى أَقْوَامِهِمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ فَكَانَ حَظُّ الرُّسُلِ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ كَمَا يَقْتَضِيهِ افْتِتَاحُ الْخِطَابِ بِ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥١] فَكَانَ ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى هُنَا أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ لِأَنَّ التَّقْوَى لَا حَدَّ لَهَا، فَالرُّسُلُ مَأْمُورُونَ بِهَا وَبِالِازْدِيَادِ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّهِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: ١- ٤] ثُمَّ قَالَ فِي حق الْأمة فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: ٢٠] الْآيَةَ. وَقَدْ مَضَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ شَيْءٌ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى هَذَا وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا أَبْسَطُ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَعَوَّلَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ فَاتَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٩٢] أَنْ نُبَيِّنَ عَرَبِيَّةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً فَوَجَبَ أَنْ نُشْبِعَ الْقَوْلَ فِيهِ هُنَا. فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هذِهِ إِلَى أَمْرٍ مُسْتَحْضَرٍ فِي الذِّهْنِ بَيَّنَهُ الْخَبَرُ وَالْحَالُ وَلِذَلِكَ أُنِّثَ اسْمُ الْإِشَارَةِ، أَيْ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هِيَ شَرِيعَتُكَ. وَمَعْنَى هَذَا الْإِخْبَارِ أَنَّكَ تَلْتَزِمُهَا وَلَا تُنْقِصُ مِنْهَا وَلَا تُغَيِّرُ مِنْهَا شَيْئًا. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمُرَادِ جُعِلَ الْخَبَرُ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ بَيَانُ اسْمِ الْإِشَارَةِ
بَلْ قُصِدَ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِفَادَةِ الِاتِّحَادِ بَيْنَ مَدْلُولَيِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَخَبَرِهِ فَيُفِيدُ أَنَّهُ هُوَ هُوَ لَا يُغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ مِنْ لَطِيفِ النَّحْوِ وَغَامِضِهِ إِذْ لَا تَجُوزُ إِلَّا حَيْثُ يُعْرَفُ الْخَبَرُ. فَفِي قَوْلِكَ: هَذَا زَيْدٌ قَائِمًا، لَا يُقَالُ إِلَّا لِمَنْ يَعْرِفُهُ
71
فَيُفِيدُهُ قِيَامَهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونُ زَيْدًا عِنْدَ عَدَمِ الْقِيَامِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَبِهَذَا يعلم أَن لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ حَقِيقَتَهُ بَلِ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي مَعْنَى التَّحْرِيضِ وَالْمُلَازَمَةِ، وَهُوَ يُشْبِهُ لَازِمَ الْفَائِدَةِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي أَمْثِلَتِهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: ٧٢] فَإِنَّ سَارَةَ قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَرِفُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَعْلُهَا إِذْ قَدْ بَشَّرُوهَا بِإِسْحَاقَ. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: وَهَذَا الَّذِي تَرَوْنَهُ هُوَ بَعْلِي الَّذِي يُتَرَقَّبُ مِنْهُ النَّسْلُ الْمُبَشَّرُ بِهِ، أَيْ حَالُهُ يُنَافِي الْبِشَارَةَ، وَلِذَلِكَ يُتْبَعُ مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ بِحَالٍ تُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِخْبَارِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ لَطِيفَةٍ فِي تِلْكَ الْآيَة.
[٥٣]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٥٣]
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣)
جِيءَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْأُمَمَ لَمْ يَتَرَيَّثُوا عَقِبَ تَبْلِيغِ الرُّسُلِ إِيَّاهُمْ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٢] أَنْ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ فَاتَّخَذُوا آلِهَةً كَثِيرَةً فَصَارَ دِينُهُمْ مُتَقَطِّعًا قِطَعًا لِكُلِّ فَرِيقٍ صَنَمٌ وَعِبَادَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ. فضمير فَتَقَطَّعُوا عَائِدٌ إِلَى الْأُمَمِ الْمَفْهُومُ مِنَ السِّيَاقِ الَّذِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٢]. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى أُمَمِ الرُّسُلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ.
فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ الذَّمِّ. وَلِذَلِكَ قَدْ تُفِيدُ الْفَاءُ مَعَ التَّعْقِيبِ مَعْنَى التَّفْرِيعِ، أَيْ فَتَفَرَّعَ عَلَى مَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِعَكْسِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُمْ فَيُفِيدُ الْكَلَامُ زِيَادَةً عَلَى الذَّمِّ تَعْجِيبًا مِنْ حَالِهِمْ. وَمِمَّا يُزِيدُ مَعْنَى الذَّمِّ تَذْيِيلُهُ بِقَوْلِهِ كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أَيْ وَهُمْ لَيْسُوا بِحَالِ مَنْ يَفْرَحُ.
وَالتَّقَطُّعُ أَصْلُهُ مُطَاوِعُ قَطَّعَ. وَاسْتُعْمِلَ فِعْلًا مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى قَطَّعَ بِقَصْدِ إِفَادَةِ الشِّدَّةِ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ، وَنَظِيرُهُ تَخَوَّفَهُ السَّيْرُ، أَيْ تَنَقَّصَهُ، وَتَجَهَّمَهُ اللَّيْلُ وَتَعَرَّفَهُ الزَّمَنُ. فَالْمَعْنَى:
قَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ قِطَعًا كَثِيرَةً، أَيْ تَفَرَّقُوا عَلَى
72
نِحَلٍ كَثِيرَةٍ فَجَعَلَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ دِينًا. وَيَجُوزُ أَن يَجْعَل فَتَقَطَّعُوا قَاصِرًا أُسْنِدَ التَّقَطُّعُ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ ثُمَّ مُيِّزَ بِقَوْلِهِ أَمْرَهُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: تَقَطَّعُوا أَمْرًا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ يُجَوِّزُونَ كَوْنَ التَّمْيِيزِ مَعْرِفَةً.
وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي معنى تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٩٣].
وَالْأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَالْحَالِ وَمَا صَدَقُهُ أُمُورُ دِينِهِمْ.
وَالزُّبُرُ بِضَمِّ الزَّايِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ كَمَا قَرَأَ بِهِ الْجُمْهُورُ جَمْعُ زَبُورٍ وَهُوَ الْكِتَابُ.
اسْتُعِيرَ اسْمُ الْكِتَابِ لِلدِّينِ لِأَنَّ شَأْنَ الدِّينِ أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِهِ كِتَابٌ، فَيَظْهَرُ أَنَّهَا اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ فَرِيقٍ كِتَابٌ وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَدْيَانًا وَعَقَائِدَ لَوْ سُجِّلَتْ لَكَانَتْ زُبُرًا.
وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُ زُبُراً بِضَمِّ الزَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ جَمْعُ زُبْرَةٍ بِمَعْنَى قِطْعَةٍ.
وَجُمْلَةُ كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ لِأَنَّ التَّقَطُّعَ يَقْتَضِي التَّحَزُّبَ فَذُيِّلَ بِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فَرِحٌ بِدِينِهِ، فَفِي الْكَلَامِ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ لِ حِزْبٍ، أَيْ كُلُّ حِزْبٍ مِنْهُمْ، بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ.
وَالْفَرَحُ: شِدَّةُ الْمَسَرَّةِ، أَيْ رَاضُونَ جَذِلُونَ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا طَرِيقَتَهُمْ فِي الدِّينِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فَرِحُونَ بِدِينِهِمْ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا تَبَصُّرٍ بَلْ لِمُجَرَّدِ الْعُكُوفِ عَلَى الْمُعْتَاد.
وَذَلِكَ يومىء إِلَيْهِ لَدَيْهِمْ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ مُتَقَرِّرٌ بَيْنَهُمْ مِنْ قَبْلُ، أَيْ بِالدِّينِ الَّذِي هُوَ لَدَيْهِمْ فَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ وَيُعَادُونَهُ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّفْرِيقِ وَالتَّخَاذُلِ بَيْنَ الْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ وَهُوَ خِلَافُ مُرَادِ اللَّهِ وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِهِ قَوْلُهُ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [الْمُؤْمِنُونَ:
٥٢]. وَقَدِيمًا كَانَ التَّحَزُّبُ مُسَبِّبًا لِسُقُوطِ الْأَدْيَانِ وَالْأُمَمِ وَهُوَ مِنْ دَعْوَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي يُلْبِسُ فِيهَا الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ.
وَالْحِزْبُ: الْجَمَاعَةُ الْمُجْتَمِعُونَ عَلَى أَمْرٍ مِنَ اعْتِقَادٍ أَوْ عَمَلٍ، أَوِ المتفقون عَلَيْهِ.
73

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٥٤]

فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤)
انْتِقَالٌ بِالْكَلَامِ إِلَى خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى مَعْرُوفٍ مِنَ السِّيَاقِ وَهُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْزَابِ الَّذِينَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا، أَوْ هُمْ عَيْنُهُمْ: فَمِنْهُمْ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ الْعُزَّى. وَمِنْهُمْ مَنِ اتَّخَذَ مَنَاةَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اتَّخَذَ ذَا الْخَلَصَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْكَلَامُ ظَاهِرُهُ الْمُتَارَكَةُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِمْلَاءُ لَهُمْ وَإِنْذَارُهُمْ بِمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ مِنْ سُوءِ
الْعَاقِبَةِ فِي وَقْتٍ مَا. وَلِذَلِكَ نُكِّرَ لَفْظُ حِينٍ الْمَجْعُولُ غَايَةً لِاسْتِدْرَاجِهِمْ، أَيْ زَمَنٌ مُبْهَمٌ، كَقَوْلِهِ: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَاف: ١٨٧].
وَالْغَمْرَةُ حَقِيقَتُهَا: الْمَاءُ الَّذِي يَغْمُرُ قَامَةَ الْإِنْسَانِ بِحَيْثُ يُغْرِقُهُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٣]. وَإِضَافَتُهَا إِلَى ضَمِيرِهِمْ بِاعْتِبَارِ مُلَازَمَتِهَا إِيَّاهُمْ حَتَّى قَدْ عُرِفَتْ بِهِمْ، وَذَلِكَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ اشْتِغَالِهِمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الِازْدِهَارِ وَتَرَفِ الْعَيْشِ عَنِ التَّدَبُّرِ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ لِيُنَجِّيهِمْ مِنَ الْعِقَابِ بِحَالِ قَوْمٍ غَمَرَهُمُ الْمَاءُ فَأَوْشَكُوا عَلَى الْغَرَقِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنهم يسبحون.
[٥٥، ٥٦]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٥٥ إِلَى ٥٦]
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦)
الْأَشْبَهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٤] بِاعْتِبَارِ أَنَّ جُمْلَةَ فَذَرْهُمْ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي أَلْهَتْهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَغَرَّتْهُمْ بِأَنَّهُمْ بِمَحَلِّ الْكَرَامَةِ عَلَى اللَّهِ بِمَا خَوَّلَهُمْ مِنَ الْعِزَّةِ وَالتَّرَفِ، وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ التَّوَعُّدِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ نِهَايَةٌ يَنْتَهُونَ إِلَيْهَا وَأَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ مَا هُمْ فِيهِ زَمَنَ النِّعْمَةِ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: ١١]
74
وَقَوْلُهُ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: ١٩٦، ١٩٧].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَيَحْسَبُونَ إِنْكَارِيٌّ وَتَوْبِيخٌ عَلَى هَذَا الْحُسْبَانِ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْحُسْبَانُ حَاصِلًا لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ أَمْ غَيْرُ حَاصِلٍ لِبَعْضٍ، لِأَنَّ حَالَهُمْ حَالُ مَنْ هُوَ مَظِنَّةُ هَذَا الْحُسْبَانِ فَيُنْكَرُ عَلَيْهِ هَذَا الْحُسْبَانُ لِإِزَالَتِهِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ لِدَفْعِ حُصُولِهِ فِيهَا.
وأَنَّما هُنَا كَلِمَتَانِ (أَنَّ) الْمُؤَكِّدَةُ (وَمَا) الْمَوْصُولَةُ وَكُتِبَتَا فِي الْمُصْحَفِ مُتَّصِلَتَيْنِ كَمَا تُكْتَبُ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةُ الَّتِي هِيَ أَدَاةُ حَصْرٍ لِأَنَّ الرَّسْمَ الْقَدِيمَ لَمْ يَكُنْ مُنْضَبِطًا كُلَّ الضَّبْطِ وَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً.
وَالْإِمْدَادُ: إِعْطَاءُ الْمَدَدِ وَهُوَ الْعَطَاءُ. ومِنْ مالٍ وَبَنِينَ بَيَانٌ لِ (مَا) الْمَوْصُولَةِ.
وَالْمُسَارَعَةُ: التَّعْجِيلُ، وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِتَوَخِّي الْمَرْغُوبِ وَالْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِهِ.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ» أَيْ يُعْطِيكَ مَا
تُحِبُّهُ لِأَنَّ الرَّاغِبَ فِي إِرْضَاءِ شَخْصٍ يَكُونُ مُتَسَارِعًا فِي إِعْطَائِهِ مَرْغُوبَهِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَجْرِي فِي حُظُوظِكَ. وَمُتَعَلِّقُ نُسارِعُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: نُسَارِعُ لَهُمْ بِهِ، أَيْ بِمَا نَمُدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ نُمِدُّهُمْ بِهِ عَلَيْهِ.
وَظَرْفِيَّةُ (فِي) مَجَازِيَّةٌ. جُعِلَتِ الْخَيْراتِ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ يَقَعُ فِيهِ الْمُسَارَعَةُ بِالْمَشْيِ فَتَكُونُ (فِي) قَرِينَةٌ مَكْنِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الْمَائِدَة: ٤١] وَقَوْلِهِ: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ [الْمَائِدَة: ٥٢] كِلَاهُمَا فِي سُورَةِ الْعُقُودِ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٩٠].
وَالْخَيْرَاتُ: جَمْعُ خَيْرٍ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَهُوَ من الْمَجْمُوع النَّادِرَةِ مِثْلَ سُرَادِقَاتٍ.
75
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٨٨]، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٧٣- ٩٠].
وَ (بَلْ) إِضْرَابٌ عَنِ الْمَظْنُونِ لَا عَلَى الظَّنِّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ بِالْقَرِينَةِ، أَيْ لَسْنَا نُسَارِعُ لَهُمْ بِالْخَيْرَاتِ كَمَا ظَنُّوا بَلْ لَا يَشْعُرُونَ بِحِكْمَةِ ذَلِكَ الْإِمْدَادِ وَأَنَّهَا لِاسْتِدْرَاجِهِمْ وَفَضْحِهِمْ بِإِقَامَةِ الْحجَّة عَلَيْهِم.
[٥٧- ٦١]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٥٧ إِلَى ٦١]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)
هَذَا الْكَلَامُ مُقَابِلُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْغَمْرَةُ مِنْ قَوْلِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٤] مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَعَنِ التَّصْدِيقِ بِآيَاتِهِ، وَمِنْ إِشْرَاكِهِمْ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ، وَمِنْ شُحِّهِمْ عَنِ الضُّعَفَاءِ وَإِنْفَاقِ مَالِهِمْ فِي اللَّذَّاتِ، وَمِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ. كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا شَمِلَتْهُ الْغَمْرَةُ فَجِيءَ فِي مُقَابِلِهَا بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٣].
فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالتَّفْصِيلِ لِإِجْمَالِ الْغَمْرَةِ مَعَ إِفَادَةِ الْمُقَابَلَةِ بِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَاخْتِيرَ أَنْ يَكُونَ التَّفْصِيلُ بِذِكْرِ الْمُقَابِلِ لِحُسْنِ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَقُبْحِ أَضْدَادِهَا تَنْزِيهًا لِلذِّكْرِ عَنْ تَعْدَادِ رَذَائِلِهِمْ، فَحَصَلَ بِهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَطِبَاقٌ مِنْ أَلْطَفِ الْبَدِيعِ، وَصَوْنٌ لِلْفَصَاحَةِ مِنْ كَرَاهَةِ الْوَصْفِ الشَّنِيعِ.
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولَاتِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيُسَابِقُونَ إِلَيْهَا وَتَكْرِيرُ
76
أَسْمَاءِ الْمَوصُولَاتِ لِلِاهْتِمَامِ بِكُلِّ صِلَةٍ مِنْ صِلَاتِهَا فَلَا تُذْكَرُ تَبَعًا بِالْعَطْفِ. وَالْمَقْصُودُ الْفَرِيقُ الَّذِينَ اتُّصِفُوا بِصِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ لِلتَّعْلِيلِ.
وَالْإِشْفَاقُ: تَوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٢٨]. وَقَدْ حُذِفَ الْمُتَوَقَّعُ مِنْهُ لِظُهُورِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ الْإِشْفَاقُ بِسَبَبِ خَشْيَتِهِ، أَيْ يَتَوَقَّعُونَ غَضَبَهُ وَعِقَابَهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الدَّلَائِلُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ وَمِنْهَا إِعْجَازُ الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِخَشْيَةِ رَبِّهِمْ يَخَافُونَ عِقَابَهُ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُشْفِقُونَ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى عَوَامِلِهَا لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَوَاصِلِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهَا.
وَمَعْنَى: يُؤْتُونَ مَا آتَوْا يُعْطُونَ الْأَمْوَالَ صَدَقَاتٍ وَصِلَاتٍ وَنَفَقَاتٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
قَالَ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى [الْبَقَرَة: ١٧٧] الْآيَةَ وَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: ٦، ٧]. وَاسْتِعْمَالُ الْإِيتَاءِ فِي إِعْطَاءِ الْمَالِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ مُتَعَيِّنٌ أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا.
وَإِنَّمَا عُبِّرَ بِ مَا آتَوْا دُونَ الصَّدَقَاتِ أَوِ الْأَمْوَالِ لِيَعُمَّ كُلَّ أَصْنَافِ الْعَطَاءِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا وَلِيَعُمَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْمَالِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ يُعْطِي مِمَّا يَكْسِبُ.
وَجُمْلَةُ وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَحَقُّ الْحَالِ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ أَنْ تَعُودَ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ يَفْعَلُونَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِقُلُوبِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَهُمْ مُضْمِرُونَ وَجَلًا وَخَوْفًا مِنْ رَبِّهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ فَلَا يَجِدُونَهُ رَاضِيًا عَنْهُمْ، أَوْ لَا يَجِدُونَ مَا يَجِدُهُ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَفُوتُهُمْ فِي الصَّالِحَاتِ، فَهُمْ لِذَلِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيُكْثِرُونَ مِنْهَا مَا اسْتَطَاعُوا وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ.
وَفِي الْحَدِيثِ «أَنْ أَهْلَ
77
الصُّفَّةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالهم. قَالَ: أَو لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ بِهِ، إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٍ
بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةً، وَنَهْيٍ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةً»
. وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ: لَمَّا أمرنَا بِالصَّدَقَةِ كَمَا نُحَامِلُ فَيُصِيبُ أَحَدُنَا الْمُدَّ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ. وَمِمَّا يُشِيرُ إِلَى مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الْإِنْسَان: ٨- ١٠] الْآيَاتِ.
وَخَبَرُ إِنَّ جُمْلَةُ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ.
وَافْتُتِحَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ لِلسَّامِعِينَ لِأَنَّ مِثْلَهُمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ يُعْرَفُوا.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ آنِفًا.
وَمَعْنَى وَهُمْ لَها سابِقُونَ أَنَّهُمْ يَتَنَافَسُونَ فِي الْإِكْثَارِ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، فَالسَّبْقُ تَمْثِيلٌ لِلتَّنَافُسِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الْإِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرَاتِ بِحَالِ السَّابِقِ إِلَى الْغَايَةِ، أَوِ الْمَعْنَى وَهُمْ مُحْرِزُونَ لِمَا حَرَصُوا عَلَيْهِمْ، فَالسَّبْقُ مُجَازٌ لِإِحْرَازِ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ مِنْ لَوَازِمِ السَّبْقِ.
وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَاللَّامُ بِمَعْنَى (إِلَى). وَقَدْ قِيلَ إِنَّ فِعْلَ السَّبْقِ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ كَمَا يَتَعَدَّى بِ (إِلَى). وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ ولرعاية الفاصلة.
[٦٢]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٦٢]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٢)
تَذْيِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. لِأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ مَا اقْتَضَى مُخَالَفَةَ الْمُشْرِكِينَ لِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ الدِّينِ، وَذُكِرَ بَعْدَهُ مَا دَلَّ
78
عَلَى تَقْوَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَشْيَةِ وَصِحَّةِ الْإِيمَانِ وَالْبَذْلِ وَمُسَارَعَتِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ، ذُيِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَا طَلَبَ مِنَ الَّذِينَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ إِلَّا تَكْلِيفًا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَبِأَنَّ اللَّهَ عَذَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَمْ يَبْلُغُوا مَبْلَغَ مَنْ يَفُوتُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ عُذْرًا يَقْتَضِي اعْتِبَارَ أَجْرِهِمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ إِذَا بَذَلُوا غَايَةَ وُسْعِهِمْ. قَالَ تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التَّوْبَة: ٩١].
فَقَوْلُهُ: وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها خَبَرٌ مُرَادٌ مِنْهُ لَازِمُهُ وَهُوَ تَسْجِيلُ التَّقْصِيرِ عَلَى الَّذِينَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ. وَقَطْعُ مَعْذِرَتِهِمْ، وَتَيْسِيرُ الِاعْتِذَارِ عَلَى الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ جَبْرِ
الْخَوَاطِرِ الْمُنْكَسِرَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا غَيْرَهُمْ لِعَجْزٍ أَوْ خَصَاصَةٍ.
وَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْمَعْنَى عُطِفَ قَوْلُهُ: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُوَ مَعْنَى إِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهِمْ وَنَوَايَاهُمْ. فَالْكِتَابُ هُنَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْجِيلُ الْأَعْمَالِ مِنْ حَسَنَاتٍ وَسَيِّئَاتٍ وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ عَلَيْهِ لِإِحَاطَتِهِ. وَفِي قَوْلِهِ لَدَيْنا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَحْفُوظٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ تَغْيِيرَهُ بِزِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَالنُّطْقُ مُسْتَعَارٌ لِلدَّلَالَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُطْقُ الْكِتَابِ حَقِيقَةً بِأَنْ تَكُونَ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ فِيهِ ذَاتَ أَصْوَاتٍ وَقُدْرَةُ اللَّهِ لَا تُحَدُّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مَسُوقًا لِمُؤَاخَذَةِ الْمُفَرِّطِينَ وَالْمُعْرِضِينَ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٣] وَأَشْبَاهُهُ مِنَ الضَّمَائِرِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى قَرِينَةِ السِّيَاقِ، وَقَوْلُهُ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٣] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الضَّمَائِرِ.
79
وَالظُّلْمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ حِرْمَانُ الْحَقِّ وَالِاعْتِدَاءُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى عُمُومِ الْأَنْفُسِ فِي قَوْلِهِ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ مِنْ بَقِيَّةِ التَّذْيِيلِ، وَالظُّلْمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّقْصِ مِنَ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْف:
٣٣] فَيَكُونُ وَعِيدًا لِفَرِيقٍ وَوَعْدًا لِفَرِيقٍ. وَهَذَا أَلْيَقُ الْوَجْهَيْنِ بالإعجاز.
[٦٣]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٦٣]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣)
إِضْرَابُ انْتِقَالٍ إِلَى مَا هُوَ أَغْرَبُ مِمَّا سَبَقَ وَهُوَ وَصْفُ غَمْرَةٍ أُخْرَى انْغَمَسَ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ فَهُمْ فِي غَمْرَةٍ غَمَرَتْ قُلُوبَهُمْ وَأَبْعَدَتْهَا عَنْ أَنْ تَتَخَلَّقَ بِخُلُقِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ كَيْفَ وأعمالهم على الضِّدِّ مِنْ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ تُنَاسِبُ كُفْرَهُمْ، فَكُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ.
فَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ هَذَا يُوهِمُ الْبَدَلِيَّةَ، أَيْ فِي غَمْرَةِ تَبَاعُدِهِمْ عَنْ هَذَا.
وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى مَا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُمْ لَها سابِقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٧- ٦١].
ودُونِ تَدُلُّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ لِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلتَّحَلِّي بِمِثْلِ تِلْكَ الْمَكَارِمِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ يُبَيِّنُ (هَذَا)، أَيْ وَأَعْمَالُهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَيُذَكِّرُنِي هَذَا قَوْلَ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ الْخَارِجِيِّ فِي مَدْحِ عُرْوَةَ بْنِ زَيْدِ الْخَيْلِ:
يَا أَيُّهَا الْمُتَمَنِّي أَنْ يَكُونَ فَتًى مِثْلَ ابْنِ زَيْدٍ لَقَدْ أَخْلَى لَكَ السُّبُلَا
أَعْدِدْ فَضَائِلَ أَخْلَاقٍ عُدِدْنَ لَهُ هَلْ سَبَّ مِنْ أَحَدٍ أَوْ سُبَّ أَوْ بَخِلَا
وَلَامُ لَهُمْ أَعْمالٌ لِلِاخْتِصَاصِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِهَا عَلَى الْمَبْدَأِ لِقَصْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ، أَيْ لَهُمْ أَعْمَالٌ لَا يَعْمَلُونَ غَيْرَهَا مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرَاتِ.
وَوَصْفُ أَعْمالٌ بِجُمْلَةِ هُمْ لَها عامِلُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَيْهَا لَا يُقْلِعُونَ عَنْهَا لِأَنَّهُمْ ضُرُّوا بِهَا لِكَثْرَةِ انْغِمَاسِهِمْ فِيهَا.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِإِفَادَةِ الدَّوَامِ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَثَبَاتِهِمْ عَلَيْهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ لَها عَلَى عامِلُونَ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ لِقَصْرِ الْقَلْبِ، أَيْ لَا يَعْمَلُونَ غَيْرَهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي دُعُوا إِلَيْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ لِأَنَّ الْقَصْرَ قَدْ أُفِيدَ بِتَقْدِيمِ الْمسند إِلَيْهِ.
[٦٤- ٦٧]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٦٤ إِلَى ٦٧]
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧)
حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الْأَنْبِيَاء: ٩٦].
وَ (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةُ. يَكُونُ مَا بَعْدَهَا ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، فَلَيْسَ الدَّالُّ عَلَى الْغَايَةِ لَفْظًا مُفْرَدًا كَمَا هُوَ الشَّأْنُ مَعَ (حَتَّى) الْجَارَّةِ وَ (حَتَّى) الْعَاطِفَةِ، بَلْ هِيَ غَايَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ وَالْأَكْثَرُ أَنْ تَكُونَ فِي مَعْنَى التَّفْرِيعِ.
وَبِهَذِهِ الْغَايَةِ صَارَ الْكَلَامُ تَهْدِيدًا لَهُمْ بِعَذَابٍ سَيَحِلُّ بِهِمْ يَجْأَرُونَ مِنْهُ وَلَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ
لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ
[الْمُؤْمِنُونَ: ٧٥].
81
وَ (إِذا) الْأُولَى ظَرْفِيَّةٌ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ فِيهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى ظَرْفٍ مُسْتَقْبَلٍ. وإِذا الثَّانِيَةُ فُجَائِيَّةٌ دَاخِلَةٌ عَلَى جَوَابِ شَرْطِ (إِذَا).
وَالْمُتْرَفُونَ: الْمُعْطُونَ تَرَفًا وَهُوَ الرَّفَاهِيَةُ، أَيِ الْمُنَعَّمُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: ١١] فَالْمُتْرَفُونَ مِنْهُمْ هُمْ سَادَتُهُمْ وَأَكَابِرُهُمْ وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ أَصْحَابِ الْغَمْرَةِ.
وَإِنَّمَا جُعِلَ الْأَخْذُ وَاقِعًا عَلَى الْمُتْرَفِينَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَضَلُّوا عَامَّةَ قَوْمِهِمْ وَلَوْلَا نُفُوذُ كَلِمَتِهِمْ على قَومهمْ لَا تبِعت الدَّهْمَاءُ الْحَقَّ لِأَنَّ الْعَامَّةَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْصَافِ إِذَا فَهِمُوا الْحَقَّ بِسَبَبِ سَلَامَتِهِمْ مِنْ جُلِّ دَوَاعِي الْمُكَابَرَةِ مِنْ تَوَقُّعِ تَقَلُّصِ سُؤْدُدٍ وَزَوَالِ نَعِيمٍ. وَكَذَلِكَ حَقٌّ عَلَى قَادَةِ الْأُمَمِ أَنْ يُؤَاخَذُوا بِالتَّبِعَاتِ اللَّاحِقَةِ لِلْعَامَّةِ مِنْ جَرَّاءِ أَخْطَائِهِمْ وَمُغَامَرَتِهِمْ عَنْ تَضْلِيلٍ أَوْ سُوءِ تَدَبُّرٍ، وَأَنْ يُسْأَلُوا عَنِ الْخَيْبَةِ أَنْ أَلْقَوْا بِالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي مَهْوَاةِ الْخَطَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الْأَحْزَاب: ٦٧، ٦٨]، وَقَالَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ [النَّحْل: ٢٥].
وَتَخْصِيصُ الْمُتْرَفِينَ بِالتَّعْذِيبِ مَعَ أَنَّ شَأْنَ الْعَذَابِ الْإِلَهِيِّ إِنْ كَانَ دُنْيَوِيًّا أَنْ يَعُمَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمُتْرَفِينَ هُمْ سَبَبُ نُزُولِ الْعَذَابِ بِالْعَامَّةِ، وَلِأَنَّ الْمُتْرَفِينَ هُمْ أَشَدُّ إِحْسَاسًا بِالْعَذَابِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَادُوا مَسَّ الضَّرَّاءِ وَالْآلَامِ. وَقَدْ عُلِمَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْعَذَابَ يَعُمُّ جَمِيعَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ فَإِنَّ الضَّمِيرَيْنِ فِي إِذا هُمْ ويَجْأَرُونَ عَائِدَانِ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ مُتْرَفِيهِمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عَمَلِ جَمِيعِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُتْرَفِينَ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً وَيَكُونَ ذِكْرُ الْمُتْرَفِينَ تَهْوِيلًا فِي التَّهْدِيدِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ الْعَذَابَ
82
يُزِيلُ عَنْهُمْ تَرَفَهُمْ فَقَدْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي تَرَفٍ وَدَعَةٍ إِذْ كَانُوا سَالِمِينَ مِنْ غَارَاتِ الْأَقْوَامِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ الْآمِنِ وَكَانُوا تُجْبَى إِلَيْهِمْ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ وَكَانُوا مُكَرَّمِينَ لَدَى جَمِيعِ الْقَبَائِلِ، قَالَ الْأَخْطَلُ:
إِنْ تُنْفِقِ الْمَالَ أَوْ تَكْلَفْ مَسَاعِيَهُ يُشْفِقْ عَلَيْكَ وَتَفْعَلْ دُونَ مَا فُعِلَا
فَأَمَّا النَّاسُ مَا حَاشَا قُرَيْشًا فَإِنَّا نَحْنُ أَفْضَلُهُمْ فِعَالَا
وَكَانَتْ أَرْزَاقُهُمْ تَأْتِيهِمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ
مِنْ خَوْفٍ
[قُرَيْش: ٤]، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَاهُمْ وَهُمْ فِي تَرَفِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: ١١].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُلُولَ الْعَذَابِ بِالْمُتْرَفِينَ خَاصَّةً، أَيْ بِسَادَتِهِمْ وَصَنَادِيدِهِمْ وَهُوَ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ كُبَرَاءُ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ. قَالَ شَدَّادُ ابْن الْأَسْوَدِ:
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ مِنَ الشِّيزَى تُزَيَّنُ بِالسَّنَامِ
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ مِنَ الْقَيْنَاتِ وَالشَّرْبِ الْكِرَامِ
يَعْنِي مَا ضُمِّنَهُ الْقَلِيبُ مِنْ رِجَالٍ كَانَتْ سَجَايَاهُمُ الْإِطْعَامَ وَالطَّرَبَ وَاللَّذَّاتِ.
وَضَمِيرُ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ الْمُتْرَفِينَ لِأَنَّ الْمُتْرَفِينَ قَدْ هَلَكُوا فَالْبَقِيَّةُ يَجْأَرُونَ مِنَ التَّلَهُّفِ عَلَى مَا أَصَابَ قَوْمَهُمْ وَالْإِشْفَاقِ أَنْ يَسْتَمِرَّ الْقَتْلُ فِي سَائِرِهِمْ فَهُمْ يَجْأَرُونَ كُلَّمَا صُرِعَ وَاحِدٌ مِنْ سَادَتِهِمْ وَلِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ عَجِبُوا مِنْ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ وَرَثُوا أَمْوَاتَهُمْ بِالْمَرَاثِي وَالنِّيَاحَاتِ.
ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ عَذَابٌ يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ مَكِّيَّةٌ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ هَذَا عَذَابٌ مَسْبُوقٌ بِعَذَابٍ حَلَّ بِهِمْ قَبْلَهُ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْله تَعَالَى بعد وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٦] الْآيَةَ.
وَلِذَا فَالْعَذَابُ الْمَذْكُورُ هُنَا عَذَابٌ هُدِّدُوا بِهِ، وَهُوَ إِمَّا عَذَابُ الْجُوعِ الثَّانِي الَّذِي أَصَابَ أَهْلَ مَكَّةَ بدعوة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ. ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيُّ عَقِبَ سَرِيَّةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي كَلْبٍِِ
83
الَّتِي أَخَذَ فِيهَا ثُمَامَةَ أَسِيرًا وَأَسْلَمَ فَمَنَعَ صُدُورَ الْمِيرَةِ مِنْ أَرْضِ قَوْمِهِ بِالْيَمَامَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَكَانَتِ الْيَمَامَةُ مَصْدَرَ أَقْوَاتِهِمْ حَتَّى سُمِّيَتْ رِيفَ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَصَابَهُمْ جُوعٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِلْهِزَ (١) وَالْجِيَفَ سَبْعَ سِنِينَ، وَإِمَّا عَذَابُ السَّيْفِ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الْعَذَابَ عَذَابٌ وَقَعَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ وَتَعَيَّنَ أَنَّهُ عَذَابُ الْجُوعِ الَّذِي أَصَابَهُمْ أَيَّامَ مقَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ ثُمَّ كَشَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِبَرَكَةِ نبيه وسلامة للْمُؤْمِنين، وَذَلِكَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [١٢] رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ.
وَقِيلَ الْعَذَابُ عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَيُبْعِدُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّهُ سَيُذْكَرُ عَذَابُ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ... الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩- ١١٤] كَمَا سَتَعْلَمُهُ.
وَتَجِيءُ مِنْهُ وُجُوهٌ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَا يَخْفَى تَقْرِيرُهَا.
وَمَعْنَى يَجْأَرُونَ يَصْرُخُونَ وَمَصْدَرُهُ الْجَأْرُ. وَالِاسْمُ الْجُؤَارُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ أَلَمِ الْعَذَابِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُونَ صَبْرًا عَلَيْهِ فَيَصْدُرُ مِنْهُمْ صُرَاخُ التَّأَوُّهِ وَالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ.
وَجُمْلَةُ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٨] وَهِيَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ تَقُولُ لَهُمْ: لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ.
وَهَذَا الْقَوْلُ كَلَامٌ نَفْسِيٌّ أَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ لِتَخْوِيفِهِمْ مِنْ عَذَابٍ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ حِينَ حُلُولِهِ جُؤَارٌ إِذْ لَا مُجِيبَ لِجُؤَارِهِمْ وَلَا مُغِيثَ لَهُمْ مِنْهُ إِذْ هُوَ عَذَابٌ خَارِجٌ عَنْ مَقْدُورِ النَّاسِ لَا يَطْمَعُ أَحَدٌ فِي تَوَلِّي كَشْفِهِ. وَهَذَا تَأْيِيسٌ لَهُمْ مِنَ
_________
(١) بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَكسر الْهَاء آخِره زَاي: هُوَ الدَّم المجمّد يخلط بالوبر ويشوى على النَّار
84
النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي هُدِّدُوا بِهِ. وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ عَذَابَ الْآخِرَةِ فَالْقَوْلُ لَفْظِيٌّ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَطْعُ طَمَاعِيَتِهِمْ فِي النَّجَاةِ.
وَالنَّهْيُ عَنِ الْجُؤَارِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ. وَوُرُودُ النَّهْيِ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ مَقِيسٌ عَلَى وُرُودِ الْأَمْرِ فِي التَّسْوِيَةِ. وَعَثَرْتُ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ [الطّور: ١٦].
وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّسْوِيَةِ، أَيْ لَا تَجْأَرُوا إِذْ لَا جَدْوَى لِجُؤَارِكُمْ إِذْ لَا يَقْدِرُ مُجِيرٌ أَنْ يُجِيرَكُمْ مِنْ عَذَابِنَا، فَمَوْقِعُ (إِنَّ) إِفَادَةُ التَّعْلِيلِ لِأَنَّهَا تُغْنِي غِنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ.
وَضُمِّنَ تُنْصَرُونَ مَعْنَى النَّجَاةِ فَعُدِّيَ الْفِعْلُ بِ (مِنْ)، أَيْ لَا تَنْجُونَ مِنْ عَذَابِنَا. فَثَمَّ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ بَعْدَ (مِنْ)، وَحَذْفُ الْمُضَافِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ شَائِعٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ.
وَقَوْلُهُ: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ اسْتِئْنَافٌ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْدِيمِ وَالتَّلْهِيفِ. وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ لِقَصْدِ إِفَادَةِ مَعْنَى بِهَا غَيْرِ التَّعْلِيلِ إِذْ لَا كَبِيرَ فَائِدَةٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ عِلَّتَيْنِ.
وَالْآيَاتُ هُنَا هِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ بِقَرِينَةِ تُتْلى إِذِ التِّلَاوَةُ الْقِرَاءَةُ.
وَالنُّكُوصُ: الرُّجُوعُ مِنْ حَيْثُ أَتَى، وَهُوَ الْفِرَارُ. وَالْأَعْقَابُ: مُؤَخَّرُ الْأَرْجُلِ.
وَالنُّكُوصُ هُنَا تَمْثِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ وَذِكْرُ الْأَعْقَابِ تَرْشِيحٌ لِلتَّمْثِيلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٤٨].
وَذُكِرَ فِعْلُ (كُنْتُمْ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ. وَذُكِرَ الْمُضَارِعُ لِلدَّلَالَةِ على التكرر فَلذَلِك خُلُقٌ مِنْهُمْ مُعَادٌ مَكْرُورٌ.
وَضَمِيرُ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الْآيَاتِ لِأَنَّهَا فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَيَكُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِمَعْنَى مُعْرِضِينَ اسْتِكْبَارًا وَيَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى (عَنْ)، أَوْ ضُمِّنَ مُسْتَكْبِرِينَ مَعْنَى سَاخِرِينَ فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَضْمِينِهِ.
85
وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْبَيْتِ أَوِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ لِأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْأَذْهَانِ فَلَا يُسْمَعُ ضَمِيرٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مَعَادٌ إِلَّا وَيُعْلَمُ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذُكِرَتْ تِلَاوَةُ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِذْ هُوَ مُجْتَمَعُهُمْ. فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَفِيهِ إِنْحَاءٌ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِكْبَارِهِمْ.
وَفِي كَوْنِ اسْتِكْبَارِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مَظْهَرًا لِلتَّوَاضُعِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَالِاسْتِكْبَارُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي شَأْنُ الْقَائِمِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا أَشْنَعُ اسْتِكْبَارٍ.
وَعَنْ مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ قَاضِي قُرْطُبَةٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ بِهِ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبَاءُ حِينَئِذٍ لِلتَّعْدِيَةِ، وَتَضْمِينُ مُسْتَكْبِرِينَ مَعْنَى مُكَذِّبِينَ لِأَنَّ اسْتِكْبَارَهُمْ هُوَ سَبَبُ التَّكْذِيبِ.
وسامِراً حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ حَالَ كَوْنِكُمْ سَامِرِينَ. وَالسَّامِرُ:
اسْمٌ لِجَمْعِ السَّامِرِينَ، أَيِ الْمُتَحَدِّثِينَ فِي سَمَرِ اللَّيْلِ وَهُوَ ظُلْمَتُهُ، أَوْ ضَوْءُ قَمَرِهِ. وَأُطْلِقَ السَّمَرُ عَلَى الْكَلَامِ فِي اللَّيْلِ، فَالسَّامِرُ كَالْحَاجِّ وَالْحَاضِرِ وَالْجَامِلِ بِمَعْنَى الْحُجَّاجُ وَالْحَاضِرِينَ وَجَمَاعَةُ الْجُمَّالِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سامِراً مُرَادًا مِنْهُ مَجْلِسُ السَّمَرِ حَيْثُ يَجْتَمِعُونَ لِلْحَدِيثِ لَيْلًا وَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ فِي سَامِرِكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: ٢٩].
وتَهْجُرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ مُضَارِعُ أَهْجَرَ: إِذَا
قَالَ الْهُجْرُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَهُوَ اللَّغْوُ والسب وَالْكَلَام السيء. وَقَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ هَجَرَ إِذَا لَغَا. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ سامِراً، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ مُتَحَدِّثِينَ هَجْرًا وَكَانَ كُبَرَاءُ قُرَيْشٍ يَسْمُرُونَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ يَتَحَدَّثُونَ بِالطَّعْنِ فِي الدِّينِ وَتَكْذيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
86

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٦٨ إِلَى ٧٠]

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ وَهُوَ قَوْلُهُ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا إِلَى قَوْلِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٣- ٦٧]. وَهَذَا التَّفْرِيعُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَجُمْلَةِ وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٥].
وَالْمُفَرَّعُ اسْتِفْهَامَاتٌ عَنْ سَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ وَاسْتِمْرَارِ قُلُوبِهِمْ فِي غَمْرَةٍ إِلَى أَنْ يَحِلَّ بهم الْعَذَاب الْمَوْعُود لَهُ.
وَهَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التخطئة على طَريقَة الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ اتِّضَاحَ الْخَطَأِ يَسْتَلْزِمُ الشَّكَّ فِي صُدُورِهِ عَنِ الْعُقَلَاءِ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ الشَّكُّ السُّؤَالَ عَنْ وُقُوعِهِ مِنَ الْعُقَلَاءِ.
وَمَآلُ مَعَانِي هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتِ أَنَّهَا إِحْصَاءٌ لِمَثَارِ ضَلَالِهِمْ وَخَطَئِهِمْ وَلذَلِك خُصَّتْ بِذِكْرِ أُمُورٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَكَذَلِكَ احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ وَقَطْعٌ لِمَعْذِرَتِهِمْ وَإِيقَاظٌ لَهُمْ بِأَنَّ صِفَاتِ الرَّسُولِ كُلَّهَا دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِهِ.
فَالِاسْتِفْهَامُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَوْلِ أَيِ الْكَلَامُ، قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النِّسَاء: ٨٢]. وَالتَّدَبُّرُ: إِعْمَالُ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ فِي دَلَالَاتِ الدَّلَائِلِ عَلَى مَا نُصِبَتْ لَهُ. وَأَصْلُهُ أَنَّهُ مِنَ النَّظَرِ فِي دُبُرِ الْأَمْرِ، أَيْ فِيمَا لَا يَظْهَرُ مِنْهُ للمتأمل بادىء ذِي بَدْءٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ
87
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَوْ تَدَبَّرُوا قَوْلَ الْقُرْآنِ لَعَلِمُوا أَنَّهُ الْحَقُّ بِدَلَالَةِ إِعْجَازِهِ وَبِصِحَّةِ
أَغْرَاضِهِ، فَمَا كَانَ اسْتِمْرَارُ عِنَادِهِمْ إِلَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ. وَهَذَا أَحَدُ الْعِلَلِ الَّتِي غَمَرَتْ بِهِمْ فِي الْكُفْرِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ الثَّانِي: هُوَ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) وَقَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ. فَ (أَمْ) حَرْفُ إِضْرَابٍ انْتِقَالِيٍّ مِنَ اسْتِفْهَامٍ إِلَى غَيْرِهِ وَهِيَ (أَمْ) الْمُنْقَطِعَةُ بِمَعْنَى (بَلْ) وَيَلْزَمُهَا تَقْدِيرُ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا لَا مَحَالَةَ. فَقَوْلُهُ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ تَقْدِيرُهُ: بَلْ أَجَاءَهُمْ.
وَالْمَجِيءُ مَجَازٌ فِي الْإِخْبَارِ وَالتَّبْلِيغِ، وَكَذَلِكَ الْإِتْيَانُ.
وَ (مَا) الْمَوْصُولَةُ صَادِقَةٌ عَلَى دِينٍ. وَالْمَعْنَى: أَجَاءَهُمْ دِينٌ لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ وَهُوَ الدِّينُ الدَّاعِي إِلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢]. وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الزخرف: ٢٣، ٢٤].
ثُمَّ إِنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ ظَاهِرَ مَعْنَى الصِّلَةِ وَهِيَ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي جَاءَهُمْ لَا عَهْدَ لَهُمْ بِهِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ إِذْ قَدْ أَنْكَرُوا دِينًا جَاءَهُمْ وَلَمْ يَسْبِقْ مَجِيئُهُ لَآبَاءِهُمْ. وَوَجْهُ التَّهَكُّمِ أَنَّ شَأْنَ كُلِّ رَسُولٍ جَاءَ بِدِينٍ أَنْ يَكُونَ دِينُهُ أُنُفًا وَلَوْ كَانَ لِلْقَوْمِ مِثْلُهُ لَكَانَ مَجِيئُهُ تَحْصِيلَ حَاصِلٍ.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الصِّلَةِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى: لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ، كَانَ الْكَلَامُ مُجَرَّدَ تَغْلِيطٍ، أَيْ لَا اتِّجَاهَ لِكُفْرِهِمْ بِهِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ إِذْ لَا يَكُونُ الدِّينُ إِلَّا مُخَالِفًا لِلضَّلَالَةِ وَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢١، ٢٢].
88
وَأَمَّا الِاسْتِفْهَامُ الثَّالِثُ: الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِمُ الرَّسُولَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ هُوَ أَحَدُ احْتِمَالَيْنِ فِي شَأْنِهِمْ إِذْ لَا يَخْلُونَ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَأَمَّا كَوْنُهُمْ يَعْرِفُونَهُ فَهُوَ الْمَظْنُونُ بِهِمْ فَكَانَ الْأَجْدَرُ بِالِاسْتِفْهَامِ هُوَ عَدَمُ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ إِذْ تُفْرَضُ كَمَا يُفْرَضُ الشَّيْءُ الْمَرْجُوحُ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاسْتِغْرَابِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلتَّغْلِيطِ فَإِنَّ رَمْيَهُمُ الرَّسُولَ بِالْكَذِبِ وَبِالسِّحْرِ وَالشِّعْرِ يُنَاسِبُ أَنْ لَا يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ مِنْ قَبْلُ، إِذِ الْعَارِفُ بِالْمَرْءِ لَا يَصِفُهُ بِمَا هُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ، وَلِذَلِكَ تَفَرَّعَ عَلَى عَدَمِ
مَعْرِفَتِهِمْ إِنْكَارُهُمْ إِيَّاهُ، أَيْ إِنْكَارُهُمْ صِفَاتِهِ الْكَامِلَةَ.
فَتَعْلِيقُ ضَمِيرِ ذَاتِ الرَّسُولِ بِ مُنْكِرُونَ هُوَ مِنْ بَابِ إِسْنَادِ الْحُكْمِ إِلَى الذَّاتِ وَالْمُرَادُ صِفَاتُهَا مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣]. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ الصِّدْقُ وَالنَّزَاهَةُ عَنِ السِّحْرِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي عِدَادِ الشُّعَرَاءِ.
وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ:
لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٌ لَدَيْنَا وَلَا يُعْزَى لِقَوْلِ الْأَبَاطِلِ
وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولَهُ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ (أَيِ الْقُرْآنُ) أَفَلا تَعْقِلُونَ [يُونُس: ١٦].
وَلَمَّا كَانَ الْبَشَرُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَسْلُبُ خِصَالَهُ وَهُوَ اخْتِلَالُ عَقْلِهِ عُطِفَ عَلَى أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ قَوْلُهُ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ، وَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ الرَّابِعُ، أَيْ أَلَعَلَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ رَسُولَهُمُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ قَدْ أُصِيبَ بِجُنُونٍ فَانْقَلَبَ صِدْقُهُ كَذِبًا.
وَالْجِنَّةُ: الْجُنُونُ، وَهُوَ الْخَلَلُ الْعَقْلِيُّ الَّذِي يُصِيبُ الْإِنْسَانَ، كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مِنْ مَسِّ الْجِنِّ.
وَالْجِنَّةُ يُطْلَقُ عَلَى الْجِنِّ وَهُوَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُسْتَتِرَةُ عَنْ أَبْصَارِنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [النَّاس: ٦]. وَيُطْلَقُ الْجِنَّةُ عَلَى الدَّاءِ اللَّاحِقِ مِنْ إِصَابَةِ الْجِنِّ وَصَاحِبُهُ مَجْنُونٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِدَلِيلِ بَاءِ الْمُلَابَسَةِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ
89
تَعَالَى أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٤]. وَهُمْ لَمْ يَظُنُّوا بِهِ الْجُنُونَ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ بُهْتَانًا. وَلَيْسَ الْقَوْلُ بِأَلْسِنَتِهِمْ هُوَ مَصَبُّ الِاسْتِفْهَامِ. ثُمَّ قَدْ نُقِضَ مَا تَسَبَّبَ عَلَى مَا اخْتَلَقُوهُ فَجِيءَ بِحَرْفِ الْإِضْرَابِ فِي الْخَبَرِ فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ وَهُوَ (بَلْ).
وَالْحَقُّ: الثَّابِتُ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، يَكُونُ فِي الذَّوَاتِ وَأَوْصَافِهَا. وَفِي الْأَجْنَاسِ، وَفِي الْمَعَانِي، وَفِي الْأَخْبَارِ. فَهُوَ ضِدُّ الْكَذِبِ وَضِدُّ السِّحْرِ وَضِدُّ الشِّعْرِ، فَمَا جَاءَهُمْ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي كُلُّهُ مَلَابِسٌ لِلْحَقِّ، فَبَطَلَ بِهَذَا مَا قَالُوهُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَقَالَةُ مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ وَمَنْ لَمْ يُرَاعُوا إِلَّا مُوَافَقَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفُوا حَالَ رَسُولِهِمُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَقَالَةُ مَنْ يَرْمِي بِالْبُهْتَانِ فَنَسَبُوا الصَّادِقَ إِلَى التَّلْبِيسِ وَالتَّغْلِيطِ.
فَالْحَقُّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ النَّبِيءُ أَوَّلُهُ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَمَا يَتْبَعُ
ذَلِكَ مِنَ الشَّرَائِعِ النَّازِلَةِ بِمَكَّةَ، كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالِاعْتِرَافِ لِلْفَاضِلِ بِفَضْلِهِ. وَزَجْرِ الْخَبِيثِ عَنْ خُبْثِهِ، وَأُخُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِّ. وَمَنْعِ الْفَوَاحِشِ مِنَ الزِّنَى وَقَتْلِ الْأَنْفُسِ وَوَأْدِ الْبَنَاتِ وَالِاعْتِدَاءِ وَأَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ وَإِهَانَةِ الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ إِبْطَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْعُدْوَانِ. والخلافة الَّتِي نشأوا عَلَيْهَا مِنْ عَهْدٍ قَدِيمٍ. فَكُلُّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ يَوْمَئِذٍ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمُقْتَضَى نِظَامِ الْعُمْرَانِ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعَالَمَ فَهُوَ الْحَقُّ كَمَا قَالَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخان: ٣٩]. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْكَاذِبِ وَقَوْلُ الْمَجْنُونِ الْمُخْتَصِّ بِهَذَا الَّذِي لَا يُشَارِكُهُمَا فِيهِ الْعُقَلَاءُ وَالصَّادِقُونَ غَيْرَ جَارِيَيْنِ عَلَى هَذَا الْحَقِّ كَانَ إِثْبَاتُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول حَقٌّ نَقْضًا لِإِنْكَارِهِمْ صِدْقَهُ. وَلِقَوْلِهِمْ هُوَ مَجْنُونٌ كَانَ مَا بَعْدَ (بَلْ) نَقْضًا لِقَوْلِهِمْ.
وَظَاهِرُ تَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ يَقْتَضِي أَنَّ ضَمِيرَ أَكْثَرُهُمْ يَعُودُ إِلَى الْقَوْمِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٤] فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَكْثَرُ
90
الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ كَارِهُونَ لِلْحَقِّ. وَهَذَا تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ طِبَاعَهُمْ تَأْنَفُ الْحَقَّ الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُمْ لِمَا تَخَلَّقُوا بِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَإِتْيَانِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْكِبْرِ وَالْغَصْبِ وَأَفَانِينِ الْفَسَادِ، بَلْهَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ بِالْإِشْرَاكِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٣]، فَلَا جَرَمَ كَانُوا بِذَلِكَ يَكْرَهُونَ الْحَقَّ لِأَنَّ جِنْسَ الْحَقِّ يُجَافِي هَذِهِ الطِّبَاعَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَبُو جَهْلٍ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَام: ٥٢، ٥٣].
وَإِنَّمَا أُسْنِدَتْ كَرَاهِيَةُ الْحَقِّ إِلَى أَكْثَرِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ إِنْصَافًا لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَحْلَامِ الرَّاجِحَةِ الَّذِينَ عَلِمُوا بُطْلَانَ الشِّرْكِ وَكَانُوا يَجْنَحُونَ إِلَى الْحَقِّ وَلَكِنَّهُمْ يُشَايِعُونَ طُغَاةَ قَوْمِهِمْ مُصَانَعَةً لَهُمْ وَاسْتِبْقَاءً عَلَى حُرْمَةِ أَنْفُسِهِمْ بِعِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ إِنْ صَدَعُوا بِالْحَقِّ لَقُوا مِنْ طُغَاتِهِمُ الْأَذَى وَالِانْتِقَاصَ، وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَبُو طَالِبٍ وَالْعَبَّاسُ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ.
فَكَانَ الْمَعْنَى: بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ فَكَفَرُوا بِهِ كُلُّهُمْ، فَأَمَّا أَكْثَرُهُمْ فَكَرَاهِيَةً لِلْحَقِّ، وَأَمَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ مُصَانَعَةً لِسَائِرِهِمْ وَقَدْ شَمِلَ الْكفْر جَمِيعهم.
وَتقدم الْمَعْمُولِ فِي قَوْلِهِ لِلْحَقِّ كارِهُونَ اهْتِمَامٌ بِذِكْرِ الْحَقِّ حَتَّى يَسْتَوْعِيَ السَّامِعُ مَا بَعْدَهُ فَيَقَعُ مِنْ نَفْسِهِ حُسْنُ سَمَاعِهِ مَوْقِعَ الْعَجَبِ مِنْ كَارِهِيهِ، وَلَمَّا ضُعِّفَ الْعَامِلُ فِيهِ بِالتَّأْخِيرِ قُرِنَ الْمَعْمُولُ بِلَامِ التَّقْوِيَةِ.
[٧١]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٧١]
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ.
عُطِفَ هَذَا الشَّرْطُ الِامْتِنَاعِيُّ عَلَى جُمْلَةِ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٠] زِيَادَةً فِي التَّشْنِيعِ عَلَى أَهْوَائِهِمْ فَإِنَّهَا مُفْضِيَةٌ إِلَى فَسَادِ الْعَالَمِ وَمَنْ فِيهِ وَكَفَى بِذَلِكَ فَظَاعَةً وَشَنَاعَةً.
91
وَالْحَقُّ هُنَا هُوَ الْحَقُّ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٠] وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُوَافِقُ لِلْوُجُودِ الْوَاقِعِيِّ وَلِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ. وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ أَنَّ كَرَاهَةَ أَكْثَرِهِمْ لِلْحَقِّ نَاشِئَةٌ عَنْ كَوْنِ الْحَقِّ مُخَالِفًا أَهْوَاءَهُمْ فَسُجِّلَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ هَوًى وَالْهَوَى شَهْوَةٌ وَمَحَبَّةٌ لِمَا يُلَائِمُ غَرَضَ صَاحِبِهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَإِنَّمَا يَجْرِي الْهَوَى عَلَى شَهْوَةِ دَوَاعِي النُّفُوسِ أَعْنِي شَهَوَاتِ الْأَفْعَالِ غَيْرَ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْجِبِلَّةُ، فَشَهْوَةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْجِبِلَّةُ لَيْسَتْ مِنَ الْهَوَى وَإِنَّمَا الْهَوَى شَهْوَةُ مَا لَا تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ كَشَهْوَةِ الظُّلْمِ وَإِهَانَةِ النَّاسِ، أَوْ شَهْوَةِ مَا تَقْتَضِيهِ الْجِبِلَّةُ لَكِنْ يُشْتَهَى عَلَى كَيْفِيَّةٍ وَحَالَةٍ لَا تَقْتَضِيهَا الْجِبِلَّةُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ فَسَادٍ وَضُرٍّ مِثْلَ شَهْوَةِ الطَّعَامِ الْمَغْصُوبِ وَشَهْوَةِ الزِّنَا، فَمَرْجِعُ مَعْنَى الْهَوَى إِلَى الْمُشْتَهَى الَّذِي لَا تَقْتَضِيهِ الْجِبِلَّةُ.
وَالِاتِّبَاعُ: مَجَازٌ شَائِعٌ فِي الْمُوَافَقَةِ، أَيْ لَوْ وَافَقَ الْحَقُّ مَا يَشْتَهُونَهُ.
وَمَعْنَى مُوَافَقَةِ الْحَقِّ الْأَهْوَاءَ أَنْ تَكُونَ مَاهِيَةُ الْحَقِّ مُوَافِقَةً لِأَهْوَاءِ النُّفُوسِ. فَإِنَّ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ لَهَا تَقَرُّرٌ فِي الْخَارِجِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِمَا يَشْتَهِيهِ النَّاسُ أَمْ لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لَهُ فَمِنْهَا الْحَقَائِقُ الْوُجُودِيَّةُ وَهِيَ الْأَصْلُ فَهِيَ مُتَقَرِّرَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِثْلَ كَوْنِ الْإِلَهِ وَاحِدًا، وَكَوْنِهِ لَا يَلِدُ، وَكَوْنِ الْبَعْثِ وَاقِعًا لِلْجَزَاءِ، فَكَوْنُهَا حَقًّا هُوَ عَيْنُ تَقَرُّرِهَا فِي الْخَارِجِ.
وَمِنْهَا الْحَقَائِق المعنوية وَهِي الْمَوْجُودَةُ فِي الِاعْتِبَارِ فَهِيَ مُتَقَرِّرَةٌ فِي الِاعْتِبَارَاتِ.
وَكَوْنُهَا حَقًّا هُوَ كَوْنُهَا جَارِيَةً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نِظَامُ الْعَالَمِ مِثْلَ كَوْنِ الْوَأْدِ ظُلْمًا، وَكَوْنِ الْقَتْلِ عُدْوَانًا، وَكَوْنِ الْقِمَارِ أَخْذَ مَالٍ بِلَا حَقٍّ لِآخِذِهِ فِي أَخْذِهِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي أَضْدَادِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَفَسَدَ مَنْ فِيهِنَّ، أَيْ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ النَّاسِ.
وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ فَسَادِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفَسَادِ النَّاسِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْحَقِّ جَارِيًا عَلَى أَهْوَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَقَائِقِ هُوَ أَنَّ أَهْوَاءَهُمْ شَتَّى فَمِنْهَا
92
الْمُتَّفِقُ، وَأَكْثَرُهَا مُخْتَلِفٌ، وَأَكْثَرُ اتِّفَاقِ أَهْوَائِهِمْ حَاصِلٌ بِالشِّرْكِ، فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي الْوَاقِعِ مُوَافِقًا لِمَزَاعِمِهِمْ لَاخْتَلَّتْ أُصُولُ انْتِظَامِ الْعَوَالِمِ.
فَإِنَّ مَبْدَأَ الْحَقَائِقِ هُوَ حَقِيقَةُ الْخَالِقِ تَعَالَى، فَلَوْ كَانَتِ الْحَقِيقَةُ هِيَ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ لَفَسَدَتِ الْعَوَالِمُ بِحُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: ٢٢] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَذَلِكَ أَصْلُ الْحَقِّ وَقِوَامُهُ وَانْتِقَاضُهُ انْتِقَاض لنظام السَّمَوَات وَالْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩١] الْآيَةَ، فَمِنْ هَوَاهُمُ الْبَاطِلِ أَنْ جَعَلُوا مِنْ كَمَالِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ.
ثُمَّ نَنْتَقِلُ بِالْبَحْثِ إِلَى بَقِيَّةِ حَقَائِقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحَقِّ لَوْ فُرِضَ أَنْ يَكُونَ الثَّابِتُ نَقِيضَ ذَلِكَ لَتَسَرَّبَ الْفساد إِلَى السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ. فَلَوْ فُرِضَ عَدَمُ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ لَكَانَ الثَّابِتُ أَنْ لَا جَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ فَلَمْ يَعْمَلْ أَحَدٌ خَيْرًا إِذْ لَا رَجَاءَ فِي ثَوَابٍ. وَلَمْ يَتْرُكْ أحد شرا إِلَّا إِذْ لَا خَوْفَ مِنْ عِقَابٍ فَيَغْمُرُ الشَّرُّ الْخَيْرَ وَالْبَاطِلُ الْحَقَّ وَذَلِكَ فَسَادٌ لمن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥].
وَكَذَا لَوْ كَانَ الْحَقُّ حُسْنَ الِاعْتِدَاءِ وَالْبَاطِلُ قُبْحَ الْعَدْلِ لَارْتَمَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْإِهْلَاكِ جُهْدَ الْمُسْتَطَاعِ فَهَلَكَ الضَّرْعُ وَالزَّرْعُ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: ٢٠٥]، وَهَكَذَا الْحَالُ فِي أَهْوَائِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ. وَيَزِيدُ أَمْرُهَا فَسَادًا بِأَنْ يَتَّبِعَ الْحَقُّ كُلَّ سَاعَةٍ هَوًى مُخَالِفًا لِلْهَوَى الَّذِي اتَّبَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَسْتَقِرُّ نِظَامٌ وَلَا قَانُونٌ.
وَهَذَا الْمَعْنَى نَاظِرٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الدُّخان: ٣٨، ٣٩].
93
وَالظَّاهِرُ أَنَّ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ فِيهِنَّ صَادِقَةٌ عَلَى الْعُقَلَاءِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ.
فَفَسَادُ الْبَشَرِ عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى أَهْوَاءِ الْمُشْرِكِينَ ظَاهِرٌ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ.
وَأَمَّا فَسَادُ الْمَلَائِكَةِ فَلِأَنَّ مِنْ أَهْوَاءِ الْمُشْرِكِينَ زَعْمَهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ فَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَلَائِكَةِ بُنُوَّةُ اللَّهِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى أَنهم ءالهة لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ جِنْسٍ يَجِبُ
أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِمَا تَوَلَّدَ هُوَ مِنْهُ إِذِ الْوَلَدُ نُسْخَةٌ مِنْ أَبِيهِ فَلَزِمَ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُ عَلَى الْقَوْلِ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فُصُولِ حَقِيقَةِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ مُسَخَّرُونَ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ لَفَسَدَتْ حَقَائِقُهُمْ فَأَفْسَدُوا مَا يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِإِصْلَاحِهِ وَبِالْعَكْسِ فَتَنْتَقِضُ الْمَصَالِحُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ صَادِقًا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيبِ فِي اسْتِعْمَالِ (مَنْ). وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ يَنْتَظِمُ بِالْأَصَالَةِ مَعَ وَجْهِ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَبَيْنَ فَسَادِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ يسري إِلَى اختلال مَوَاهِي الْمَوْجُودَاتِ فَتُصْبِحُ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِمَا خُلِقَتْ عَلَيْهِ، فَيَفْسَدُ الْعَالَمُ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَرَضَ بَحْثًا فِي إِمْكَانِ فَنَاءِ الْعَالَمِ وَفَرَضَ أَسْبَابًا إِنْ وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَعَدَّ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ تَحْدُثَ حَوَادِثُ جَوِّيَّةٌ تُفْسِدُ عُقُولَ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ فَيَتَأَلَّبُونَ عَلَى إِهْلَاكِ الْعَالَمِ فَلَوْ أَجْرَى اللَّهُ النِّظَامَ عَلَى مُقْتَضَى الْأَهْوَاءِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا يَشْتَهُونَ لَعَادَ ذَلِكَ بِالْفَسَادِ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ فَكَانُوا مَشْمُولِينَ لِذَلِكَ الْفَسَادِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَنَاهِيكَ بِأَفْنِ آرَاءٍ لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّافِعِ لِأَنْفُسِهِمَا. وَكَفَى بِذَلِكَ شَنَاعَةً لِكَرَاهِيَتِهِمُ الْحَقَّ وَإِبْطَالًا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ تَصَرُّفَاتُ مَجْنُونٍ.
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ.
إِبْطَالٌ لِمَا اقْتَضَاهُ الْفَرْضُ فِي قَوْلِهِ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ أَيْ بَلْ لَمْ يَتَّبِعِ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ فَأَبْلَغْنَا إِلَيْهِمُ الْحَقَّ عَلَى وَجْهِهِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ ذِكْرٌ لَهُمْ
94
يُوقِظُ عُقُولَهُمْ مِنْ سُبَاتِهَا. كَأَنَّهُ يُذَكِّرُ عُقُولَهُمُ الْحَقَّ الَّذِي نَسِيَتْهُ بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ عَلَى ضَلَالَاتِ آبَائِهِمُ الَّتِي سَنُّوهَا لَهُمْ فَصَارَتْ أَهْوَاءً لَهُمْ أَلِفُوهَا فَلَمْ يَقْبَلُوا انْزِيَاحًا عَنْهَا وَأَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ بِأَنَّهُ خَالَفَهَا، فَجُعِلَ إِبْلَاغُ الْحَقِّ لَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ تَذْكِيرِ النَّاسِي شَيْئًا طَالَ عَهْدُهُ بِهِ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ «فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ» قَالَ تَعَالَى وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يُونُس: ٨٢].
وَعُدِّيَ فِعْلُ أَتَيْنَاهُمْ بِالْبَاءِ لِأَنَّهُ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْإِرْسَالِ وَالتَّوْجِيهِ.
وَالذِّكْرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْكَلَامِ الَّذِي يذكر سامعه بِمَا غُفِلَ عَنْهُ وَهُوَ شَأْنُ الْكُتُبِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَإِضَافَةُ الذِّكْرِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لَفْظِيَّةٌ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى مَفْعُولِ الْمَصْدَرِ.
وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ إِعْرَاضِهِمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالذِّكْرِ إِلَيْهِمْ، أَيْ فَتَفَرَّعَ عَلَى الْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ
بِالذِّكْرِ إِعْرَاضُهُمْ عَنْهُ. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ الْقُرْآنَ لِيُذَكِّرَهُمْ.
وَقِيلَ: إِضَافَةُ الذِّكْرِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ مَعْنَوِيَّةٌ، أَيِ الذِّكْرُ الَّذِي سَأَلُوهُ حِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: ١٦٨، ١٦٩] فَيَكُونُ الذِّكْرُ عَلَى هَذَا مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَيْ مَا يَتَذَكَّرُونَ بِهِ. وَالْفَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَاءٌ فَصِيحَةٌ، أَيْ فَهَا قَدْ أَعْطَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَأَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِهِمُ الَّذِي سَأَلُوهُ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: «لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (أَيْ مِنْ رُسُلٍ قبل مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ»
، وَقَوْلُ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ:
قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [الْمَائِدَة: ١٩].
وَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ إِعْرَاضِهِمْ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِمْ لِيَكُونَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْهُ مَحل عجب.
95

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٧٢]

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
(أَمْ) عَاطِفَةٌ عَلَى أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٠] وَهِيَ لِلِانْتِقَالِ إِلَى اسْتِفْهَامٍ آخَرَ عَنْ دَوَاعِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الرَّسُولِ وَاسْتِمْرَارِ قُلُوبِهِمْ فِي غَمْرَةٍ.
وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ هُنَا إِنْكَارِيٌّ، أَيْ مَا تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَيَعْتَذِرُوا بِالْإِعْرَاضِ عَنْكَ لِأَجَلِهِ شُحًّا بِأَمْوَالِهِمْ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ: ٤٧] عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُ سَأَلْتُكُمْ أَجْرًا فَقَدْ رَدَدْتُهُ عَلَيْكُمْ فَمَاذَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ اتِّبَاعِي. وَقَوله: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [الْقَلَم: ٤٦] كُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى التَّهَكُّمِ. وَأَصْرَحُ مِنْهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣].
وَهَذَا الِانْتِقَالُ كَانَ إِلَى غَرَضِ نَفْيِ أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ جَائِيًا مِنْ قِبَلِهِ وَتَسَبُّبِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الِاسْتِفْهَامَاتُ السَّابِقَةُ الثَّلَاثَةُ مُتَعَلِّقَةً بِمُوجِبَاتِ الْإِعْرَاضِ الْجَائِيَةِ مِنْ قِبَلِهِمْ، فَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً إِنْكَارِيٌّ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ عَنِ الرَّسُولِ مَا يُوجِبُ إِعْرَاضَ الْمُخَاطَبِينَ عَنْ دَعْوَتِهِ فَانْحَصَرَتْ تَبِعَةُ الْإِعْرَاضِ
فِيهِمْ.
وَالْخَرْجُ: الْعَطَاءُ الْمُعَيَّنُ عَلَى الذَّوَاتِ أَوْ عَلَى الْأَرَضِينَ كَالْإِتَاوَةِ، وَأَمَّا الْخَرَاجُ فَقِيلَ هُوَ مُرَادِفُ الْخَرْجِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ جُمْهُورِ اللُّغَوِيِّينَ. وَعَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْخَرْجَ الْإِتَاوَةُ عَلَى الذَّوَاتِ وَالْخَرَاجَ الْإِتَاوَةُ عَلَى الْأَرَضِينَ.
وَقِيلَ الْخَرْجُ: مَا تَبَرَّعَ بِهِ الْمُعْطِي وَالْخَرَاجُ: مَا لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : وَالْوَجْهُ أَنَّ الْخَرْجَ أَخَصُّ مِنَ الْخَرَاجِ (يُرِيدُ أَنَّ الْخَرْجَ أَعَمُّ كَمَا أَصْلَحَ عِبَارَتَهُ صَاحِبُ «الْفَرَائِدِ» فِي نَقْلِ الطِّيبِيِّ) كَقَوْلِكَ خَرَاجُ الْقَرْيَةِ وَخَرْجُ الْكُرْدَةِ (١)
_________
(١) الكردة- بِضَم الْكَاف وَسُكُون الرَّاء-: الأَرْض ذَات الزَّرْع.
قَالَ الهمذاني فِي «حَاشِيَته» : لَا تعرفها الْعَرَب وَإِنَّمَا هِيَ من كَلَام الكرد.
96
زِيَادَةُ اللَّفْظِ لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ حَسُنَتْ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ يَعْنِي أَمْ تَسْأَلُهُمْ عَلَى هِدَايَتِكَ لَهُمْ قَلِيلًا مِنْ عَطَاءِ الْخَلْقِ فَالْكَثِيرُ مِنْ عَطَاءِ الْخَالِقِ خَيْرٌ» اهـ.
وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي اللُّغَةِ عَدَمُ التَّرَادُفِ.
هَذَا وَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ خَرْجًا فَخَرْجُ رَبِّكَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخلف أم تسئلهم خَرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَتَوْجِيهُهَا عَلَى اعْتِبَارِ تَرَادُفِ الْكَلِمَتَيْنِ أَنَّهَا جَرَتْ عَلَى التَّفَنُّنِ فِي الْكَلَامِ تَجَنُّبًا لِإِعَادَةِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ الْمَقَامِ الْمُقْتَضِي إِعَادَةَ اللَّفْظَيْنِ مَعَ قُرْبِ اللَّفْظَيْنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ: ٤٧] فَإِنَّ لَفْظَ أَجْرٍ أُعِيدَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ.
وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرْقِ الَّذِي اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَتَوْجِيهُهَا بِاشْتِمَالِهَا عَلَى التَّفَنُّنِ وَعَلَى مُحَسِّنِ الْمُبَالَغَةِ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَخَلَفٍ فَتَوْجِيهُهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَادُفِ أَنَّهُمَا وَرَدَتَا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الِاسْتِعْمَال مَعَ محسن الْمُزَاوَجَةِ بِتَمَاثُلِ اللَّفْظَيْنِ. وَلَا تُوَجَّهَانِ عَلَى طَرِيقَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ.
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَلْزَمَهُمُ اللَّهُ الْحُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ (أَيْ قَوْلُهُ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٨] إِلَى هُنَا) وَقَطَعَ مَعَاذِيرَهُمْ وَعِلَلَهُمْ بِأَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ مَعْرُوفٌ أَمْرُهُ وَحَالُهُ، مَخْبُورٌ سِرُّهُ وَعَلَنُهُ، خَلِيقٌ بِأَنْ يُجْتَبَى مِثْلُهُ لِلرِّسَالَةِ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانِيهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ
يُعْرَضْ (١) لَهُ حَتَّى يَدَّعِي بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى الْعَظِيمَةِ بِبَاطِلٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ سُلَّمًا إِلَى النَّيْلِ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَاسْتِعْطَاءِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَّا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ مَعَ إِبْرَازِ الْمَكْنُونِ
_________
(١) فعل مُلْتَزم بِنَاؤُه للنائب. وَمَعْنَاهُ لم يكن مَجْنُونا.
97
مِنْ أَدْوَائِهِمْ وَهُوَ إِخْلَالُهُمْ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ. وَاسْتِهْتَارُهُمْ بِدِينِ الْآبَاءِ الضُّلَّالِ مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ، وَتَعَلُّلُهُمْ بِأَنَّهُ مَجْنُونٌ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ وَثَبَاتِ التَّصْدِيقِ مِنَ اللَّهِ بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْآيَاتِ النَّيِّرَةِ، وَكَرَاهَتُهُمْ لِلْحَقِّ وَإِعْرَاضُهُمْ عَمَّا فِيهِ حَظُّهُمْ مِنَ الذِّكْرِ» اهـ.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ مُعْتَرِضَةٌ تَكْمِيلًا لِلْغَرَضِ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّعْرِيفِ بِسِعَةِ فَضْلِهِ. وَيُفِيدُ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ.
[٧٣، ٧٤]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٧٣ إِلَى ٧٤]
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤)
أُعْقِبَ تَنْزِيهُ الرَّسُولِ عَمَّا افْتَرُوهُ عَلَيْهِ بِتَنْزِيهِ الْإِسْلَامِ عَمَّا وسموه بِهِ مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَالتَّنْزِيهِ بِإِثْبَاتِ ضِدِّ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ طَرِيقٌ لَا الْتِوَاءَ فِيهِ وَلَا عَقَبَاتٍ، فَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينِ اعْتَقَدُوا خِلَافَ ذَلِكَ. وَإِطْلَاقُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُوصِّلٌ إِلَى مَا يَتَطَلَّبُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مِنَ النَّجَاةِ وَحُصُولِ الْخَيْرِ، فَكَمَا أَنَّ السَّائِرَ إِلَى طَلْبَتِهِ لَا يَبْلُغُهَا إِلَّا بِطَرِيقٍ، وَلَا يَكُونُ بُلُوغُهُ مَضْمُونًا مَيْسُورًا إِلَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مُسْتَقِيمًا فالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ دَعَاهُمْ إِلَى السَّيْرِ فِي طَرِيقٍ مُوصِلٍ بِلَا عَنَاءٍ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَسُوقٌ لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُنْكِرِينَ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَذَلِكَ التَّوْكِيدُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ.
وَالتَّعْبِيرُ فِيهِ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتُهُ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ حَيْثُ عُدِلَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: وَإِنَّهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ مَا تنبىء بِهِ الصِّلَةُ مِنْ سَبَبِ تَنَكُّبِهِمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَنَّ سَبَبَهُ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ
وَالتَّعْرِيفُ فِي الصِّرَاط للْجِنْس، أَيْ هُمْ نَاكِبُونَ عَنِ الصِّرَاطِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَيْثُ لَمْ يَتَطَلَّبُوا طَرِيقَ نَجَاةٍ فَهُمْ نَاكِبُونَ عَنِ الطَّرِيقِ بَلْهَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ التَّعْرِيفُ
فِي قَوْلِهِ عَنِ الصِّراطِ لِلْعَهْدِ بِالصِّرَاطِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ أَتَمُّ فِي نِسْبَتِهِمْ إِلَى الضَّلَالِ بِقَرِينَةِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْعَامِلِ مِنْ عَمَلِهِ فَهُمْ إِذَنْ نَاكِبُونَ عَنْ كُلِّ صِرَاطٍ مُوصِلٍ إِذْ لَا هِمَّةَ لَهُمْ فِي الْوُصُولِ.
وَالنَّاكِبُ: الْعَادِلُ عَنْ شَيْءٍ، الْمُعْرِضُ عَنْهُ، وَفِعْلُهُ كَنَصَرَ وَفَرِحَ. وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَنْكَبِ وَهُوَ جَانِبُ الْكَتِفِ لِأَنَّ الْعَادِلَ عَنْ شَيْءٍ يُوَلِّي وَجْهَهُ عَنهُ بجانبه.
[٧٥]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٧٥]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٤] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضَاتٌ بِاسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِمْ وَتَنْدِيمٍ وَقَطْعٍ لِمَعَاذِيرِهِمْ، أَيْ لَيْسُوا بِحَيْثُ لَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ جُؤَارَهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَكَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ لَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْغَمْرَةِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ لِأَنَّهَا صَارَتْ سَجِيَّةً لَهُمْ لَا تَتَخَلَّفُ عَنْهُمْ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: ١٥].
ولَوْ هُنَا دَاخِلَةٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي الْمُرَادِ مِنْهُ الِاسْتِقْبَالُ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ إِذِ الْمَقَامُ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّأْيِيسِ مِنَ الْإِغَاثَةِ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَلَيْسَ مَقَامَ اعْتِذَارٍ مِنَ اللَّهِ عَنْ عَدَمِ اسْتِجَابَتِهِ لَهُمْ أَوْ عَنْ إِمْسَاكِ رَحْمَتِهِ عَنْهُمْ لِظُهُورِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ. وَأَمَّا مَجِيءُ هَذَا الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ فَذَلِكَ مُرَاعَاةً لِمَا شَاعَ فِي الْكَلَامِ مِنْ مُقَارَنَةِ (لَوْ) لِصِيغَةِ الْحَاضِرِ لِأَنَّ أَصْلَهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِي الْمَاضِي وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ جَزْمِ الْفِعْلِ بَعْدَهَا.
وَاللَّجَاجُ بِفَتْحِ اللَّامِ: الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْخِصَامِ وَعَدَمُ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ. يُقَالُ: لَجَّ يَلِجُّ وَيَلَجُّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ عَلَى اخْتِلَافِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي.
وَالطُّغْيَانُ: أَشَدُّ الْكِبْرِ. وَالْعَمَهُ: التَّرَدُّدُ فِي الضَّلَالَةِ. وفِي طُغْيانِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَعْمَهُونَ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ، وَلِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الْمُرَادُ مِنْهَا مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٥].
[٧٦، ٧٧]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٧٦ إِلَى ٧٧]
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
اسْتِدْلَالٌ عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ
[الْمُؤْمِنُونَ: ٧٥] بِسَابِقِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ وَعَدَمِ الِاتِّعَاظِ بِأَنَّ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ جَزَاءُ شِرْكِهِمْ.
وَالْجُمْلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ خطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَعْلَمُ صِدْقَهُ فَلَمْ يَكُنْ بِحَاجَةٍ إِلَى الِاسْتِظْهَارِ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّهُ لَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمُشْرِكِينَ وَكَانَ بِحَيْثُ يَبْلُغُ أَسْمَاعَهُمْ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ كَلَامُ مَنْ لَا شَكَّ فِي صِدْقِهِ، كَانَ الْمَقَامُ مَحْفُوفًا بِمَا يَقْتَضِي الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِمْ بِشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِمْ فِيمَا مَضَى وَلِذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَهُ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٤]، وَوَقَعَ بَعْدَهُ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٤].
وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ بِالْعَذابِ لِلْعَهْدِ، أَيْ بِالْعَذَابِ الْمَذْكُورِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٤] إِلَخْ. وَمَصَبُّ الْحَالِ هُوَ مَا عُطِفَ عَلَى جُمْلَتِهَا مِنْ قَوْلِهِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ، فَلَا تَتَوَهَّمَنَّ أَنَّ إِعَادَةَ ذِكْرِ
100
الْعَذَابِ هُنَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَذَابٌ آخَرُ غَيْرُ الْمَذْكُورِ آنِفًا مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّ إِعَادَةَ ذِكْرِ الْأَوَّلِ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [١٣- ١٥] أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ إِلَى قَوْله إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ. وَالْمَعْنَى فَلَمْ يَكُنْ حَظُّهُمْ حِينَ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ إِلَّا العويل والجؤار دُونَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ.
وَقِيلَ: هَذَا عَذَابٌ آخَرُ سَابِقٌ لِلْعَذَابِ الْمَذْكُورِ آنِفًا فَيَتَرَكَّبُ هَذَا عَلَى التَّفَاسِيرِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ عَذَابُ الْجُوعِ الْأَوَّلِ أَوْ عَذَابُ الْجُوعِ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ لِعَذَابِ يَوْمِ بَدْرٍ.
وَالِاسْتِكَانَةُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْخُضُوعِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّكُونِ لِأَنَّ الَّذِي يَخْضَعُ يَقْطَعُ الْحَرَكَةَ أَمَامَ مَنْ خَضَعَ لَهُ، فَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ السُّكُونِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ السُّكُونِ وَقُوَّتِهِ.
وَأَلِفُهُ أَلِفُ الِافْتِعَالِ مِثْلُ الِاضْطِرَابِ، وَالتَّاءُ زَائِدَةٌ كَزِيَادَتِهَا فِي اسْتِعَاذَةٍ.
وَقِيلَ الْأَلِفُ لِلْإِشْبَاعِ، أَيْ زِيدَتْ فِي الِاشْتِقَاقِ فَلَازَمَتِ الْكَلِمَةَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْإِشْبَاعِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ الْمُسْتَعْمِلُونَ شُذُوذًا كَقَوْلِ طَرَفَةَ:
يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَيْ غَضُوبٍ جَسْرَةٍ أَيْ يَنْبُعُ. وَأَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى الِاسْتِشْهَادِ عَلَى الْإِشْبَاعِ فِي نَحْوِهِ إِلَى قَوْلِ ابْنِ هَرْمَةَ:
وَأَنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى وَمِنْ ذَمِّ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ
أَرَادَ: بِمُنْتَزَحٍ فَأَشْبَعَ الْفَتْحَةَ.
وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ اسْتَكانُوا اسْتِفْعَالًا مِنَ الْكَوْنِ مِنْ جِهَتَيْنِ: جِهَةِ مَادَّتِهِ فَإِنَّ مَعْنَى الْكَوْنِ فِيهِ غَيْرُ وَجِيهٍ وَجِهَةِ صِيغَتِهِ لِأَنَّ حَمْلَ السِّينِ وَالتَّاءِ فِيهِ عَلَى مَعْنَى الطَّلَبِ غَيْرُ وَاضِحٍ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي يَتَضَرَّعُونَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَجَدُّدِ انْتِفَاءِ تَضَرُّعِهِمْ. وَالتَّضَرُّعُ:
الدُّعَاءُ بِتَذَلُّلٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فِي سُورَةِ
101
الْأَنْعَامِ [٤٢]. وَالْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا كَالْقَوْلِ فِي حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٤].
وَ (إِذَا) مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِثْلُ (إِذَا) الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِلَخْ.
وَفَتْحُ الْبَابِ تَمْثِيلٌ لِمُفَاجَأَتِهِمْ بِالْعَذَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَحْجُوزًا عَنْهُ حَسَبَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: ٣٣]. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها [الْأَحْزَاب: ١٤].
شُبِّهَتْ هَيْئَةُ إِصَابَتِهِمْ بِالْعَذَابِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي سَلَامَةٍ وَعَافِيَةٍ بِهَيْئَةِ نَاسٍ فِي بَيْتٍ مُغْلَقٍ عَلَيْهِمْ فَفُتِحَ عَلَيْهِمْ بَابُ الْبَيْتِ مِنْ عَدُوٍّ مَكْرُوهٍ، أَوْ تَقُولُ: شُبِّهَتْ هَيْئَةُ تَسْلِيطِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ بِهَيْئَةِ فَتْحِ بَابٍ اخْتُزِنَ فِيهِ الْعَذَابُ فَلَمَّا فُتِحَ الْبَابُ انْهَالَ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا كَمَا مُثِّلَ بِقَوْلِهِ: وَفارَ التَّنُّورُ [هود: ٤٠] وَقَوْلِهِمْ: طَفَحَتِ الْكَأْسُ بِأَعْمَالِ فُلَانٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ [الذاريات: ٥٩] وَقَوْلِ عَلْقَمَةَ:
فَحَقٌّ لِشَاسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُتَّابِ: فُتِحَ بَابُ كَذَا عَلَى مِصْرَاعَيْهِ، تَمْثِيلًا لِكَثْرَةِ ذَلِكَ وَأَفَاضَ عَلَيْهِ سِجِلًّا مِنَ الْإِحْسَانِ، وَقَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ:
مِنْ شَاعِرٍ وَقَفَ الْكَلَامُ بِبَابِهِ وَاكْتَنَّ فِي كَنَفَيْ ذَرَاهُ الْمَنْطِقُ
وَوَصَفَ بَابًا بِكَوْنِهِ ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ دُونَ أَنْ يُضَافَ بَابٌ إِلَى عَذَابٍ فَيُقَالُ:
بَابُ عَذَابٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ [الْفجْر: ١٣] لِأَنَّ ذَا عَذابٍ يُفِيدُ مِنْ شِدَّةِ انْتِسَابِ الْعَذَابِ إِلَى الْبَابِ مَا لَا تُفِيدُهُ إِضَافَةُ بَابٍ إِلَى عَذَابٍ، وَلِيَتَأَتَّى بِذَلِكَ وَصْفُ (عَذَابٍ) بِ (شَدِيدٍ) بِخِلَافِ قَوْلِهِ سَوْطَ عَذابٍ فَقَدِ اسْتُغْنِيَ عَنْ وَصْفِهِ بِ (شَدِيدٍ) بِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِفِعْلِ (صَبَّ) الدَّالِّ عَلَى الْوَفْرَةِ.
102
وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَذَابٌ مُسْتَقْبَلٌ. وَالْأَرْجَحُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ عَذَابُ الْجُوعِ.
وَقِيلَ: عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَابُ حَقِيقَةً وَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧١].
وَالْإِبْلَاسُ: شِدَّةُ الْيَأْسِ مِنَ النَّجَاةِ. يُقَالُ: أَبْلَسَ، إِذَا ذَلَّ وَيَئِسَ مِنَ التَّخَلُّصِ، وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلْهَمْزَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا لَهُ فِعْلًا مُجَرَّدًا. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَلَاسِ كَسَحَابٍ وَهُوَ الْمِسْحُ، وَأَنَّ أَصْلَ أَبْلَسَ صَارَ ذَا بَلَاسٍ. وَكَانَ شِعَارَ مَنْ زَهِدُوا فِي النَّعِيمِ. يُقَالُ: لَبِسَ الْمُسُوحَ، إِذَا تَرَهَّبَ.
وَهُنَا انْتَهَتِ الْجُمَلُ الْمُعْتَرِضَةُ الْمُبْتَدَأَةُ بِجُمْلَةِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْمُؤْمِنُونَ:
٢٣] وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٤] إِلَى قَوْلِهِ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [٧٨]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٧٨]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (٧٨)
هَذَا رُجُوعٌ إِلَى غَرَضِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالِامْتِنَانِ بِمَا مَنَحَ النَّاسَ مِنْ نِعْمَةٍ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ بِتَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ قَدِ انْتَقَلَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
[الْمُؤْمِنُونَ: ٢٢] فَانْتَقَلَ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِآيَةِ فُلْكِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأُتْبِعَ بِالِاعْتِبَارِ بِقَصَصِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
[الْمُؤْمِنُونَ: ٢٢] فَالْجُمْلَةُ إِمَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً [الْمُؤْمِنُونَ: ٢١] وَالْغَرَضُ وَاحِدٌ وَمَا بَيْنَهُمَا انْتِقَالَاتٌ.
وَإِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ رُجُوعًا إِلَى غَرَضِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٣].
وَفِي هَذَا الِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى الْغَرَضِ تَجْدِيدٌ لِنَشَاطِ الذِّهْنِ وَتَحْرِيكٌ لِلْإِصْغَاءِ إِلَى الْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِ كَلَامِ
الْعَرَبِ فِي خُطَبِهِمْ وَطِوَالِهِمْ.
وَسَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ: قِرَى الْأَرْوَاحِ. وَجَعَلَهُ مِنْ آثَارِ كَرَمِ الْعَرَبِ.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ تَذْكِيرٌ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ مُسْنَدًا وَاسْمُ الْمَوْصُولِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ
مُنْشِئًا أَنْشَأَ لَهُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ، فَصَاحِبُ الصِّلَةِ هُوَ الْأَوْلَى بِأَنْ يُعْتَبَرَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ وَهُمْ لَمَّا عَبَدُوا غَيْرَهُ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ جَهِلَ أَنَّهُ الَّذِي أَنْشَأَ لَهُمُ السَّمْعَ فَأَتَى لَهُمْ بِكَلَامٍ مُفِيدٍ لِقَصْرِ الْقَلْبِ أَوِ الْإِفْرَادِ، أَيِ اللَّهُ الَّذِي أَنْشَأَ ذَلِكَ دُونَ أَصْنَامِكِمْ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، أَوْ لِجَمِيعِ النَّاسِ، أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ.
وَالْإِنْشَاءُ: الْإِحْدَاثُ، أَيِ الْإِيجَادُ.
وَجَمَعَ الْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَصْحَابِهَا. وَأَمَّا إِفْرَادُ السَّمْعِ فَجَرَى عَلَى الْأَصْلِ فِي إِفْرَادِ الْمَصْدَرِ لِأَنَّ أَصْلَ السَّمْعِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَقِيلَ: الْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ الْمُتَعَلِّقَاتِ فَلَمَّا كَانَ الْبَصَرُ يَتَعَلَّقُ بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَكَانَتِ الْعُقُولُ تُدْرِكُ أَجْنَاسًا وَأَنْوَاعًا جُمِعَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَأُفْرِدَ السَّمْعُ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِنَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَصْوَاتُ.
وَانْتُصِبَ قَلِيلًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمُ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فِي حَالِ كَوْنِكُمْ قَلِيلًا شُكْرُكُمْ. فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ فَالشُّكْرُ مُرَادٌ بِهِ التَّوْحِيدُ، أَيْ فَالشُّكْرُ الصَّادِرُ مِنْكُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَشْرِيكِكُمْ غَيْرَهُ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَالشُّكْرُ عَامٌّ فِي كُلِّ شُكْرِ نِعْمَةٍ وَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِقِلَّةِ عَدَدِ الشَّاكِرِينَ، لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ مُشْرِكُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الْأَعْرَاف: ١٧]. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ فَالشُّكْرُ عَامٌّ وَتَقْلِيلُهُ تَحْرِيضٌ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنْهُ ونبذ الشّرك.
[٧٩]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٧٩]
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
(٧٩)
هُوَ عَلَى شَاكِلَةِ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٨].
وَالذَّرْءُ: الْبَثُّ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٦]. وَهَذَا امْتِنَانٌ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَالْحَيَاةِ وَتَيْسِيرِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَرْضِ وَإِكْثَارِ النَّوْعِ لِأَنَّ الذَّرْءَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ إِذْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ أَصْنَافًا هُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَا تَخْلُقُ شَيْئًا. وَهُوَ أَيْضًا اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْبَعْثِ لِأَنَّ الَّذِي أَحْيَا النَّاسَ عَنْ عَدَمٍ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ تَقَطُّعِ أَوْصَالِهِمْ.
وَقُوبِلَ الذَّرْءُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْحَشْرُ وَالْجَمْعُ، فَإِنَّ الْحَشْرَ يَجْمَعُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْبَشَرِ. وَفِيهِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ الرَّدُّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ بِأَنَّهُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ يجازيهم.
[٨٠]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٨٠]
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠)
هُوَ مِنْ أُسْلُوبِ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٨] وَأُعْقِبَ ذِكْرُ الْحَشْرِ بِذِكْرِ الْإِحْيَاءِ لِأَنَّ الْبَعْثَ إِحْيَاءٌ إِدْمَاجًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عُمُومِ التَّصَرُّفِ فِي الْعَالَمِ.
وَأَمَّا ذِكْرُ الْإِمَاتَةِ فَلِمُنَاسَبَةِ التَّضَادِّ، وَلِأَنَّ فِيهَا دَلَالَةً عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ. وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْإِحْيَاءِ خَلْقُ الْإِيقَاظِ وَمِنَ الْإِمَاتَةِ خَلْقُ النَّوْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: ٤٢] الْآيَةَ عُطِفَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بِقُدْرَتِهِ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِتِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ، وَلِأَنَّ فِي تَصْرِيفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ دَلَالَةً عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَالْعِلْمُ دَلَالَةٌ عَلَى الِانْفِرَادِ بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَعَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الْأَعْرَاف: ٢٩].
وَاللَّامُ فِي لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لِلْمِلْكِ، أَيْ بِقُدْرَتِهِ تَصْرِيفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَالنَّهَارُ يُنَاسِبُ الْحَيَاةَ وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْهُبُوبُ فِي النَّهَارِ بَعْثًا، وَاللَّيْلُ يُنَاسِبُ الْمَوْتَ وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ النَّوْمَ وَفَاةً فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [الْأَنْعَام: ٦٠].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلْقَصْرِ، أَيْ لَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَا لِغَيْرِهِ، أَيْ فَغَيْرُهُ لَا تَحِقُّ لَهُ الْإِلَهِيَّةُ.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ تُفِيدُ مَنْ نَظَرَ فِيهَا عِلْمًا بِأَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْبَعْثَ وَاقِعٌ وَكَانَ الْمَقْصُودُونَ بِالْخِطَابِ قَدْ أَشْرَكُوا بِهِ وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ جُعِلُوا بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ فَأُنْكِرَ عَلَيْهِمْ عَدَمُ الْعَقْلِ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الْمُفَرَّعِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
وَهَذَا تَذْيِيلٌ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٩] وَمَا بعده.
[٨١- ٨٣]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٨١ إِلَى ٨٣]
بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)
هَذَا إِدْمَاجٌ لِذِكْرِ أَصْلٍ آخَرَ مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ وَهُوَ إِحَالَةُ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَ (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ إِبْطَالًا لِكَوْنِهِمْ يَعْقِلُونَ. وَإِثْبَاتٌ لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ مَعَ بَيَانِ مَا بَعَثَهُمْ عَلَى إِنْكَارِهِ وَهُوَ تَقْلِيد الْآبَاء. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ الْأَدِلَّةَ لَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَقْوَالَ آبَائِهِمْ.
وَالْكَلَامُ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ انْتُقِلَ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّهْدِيدِ إِلَى حِكَايَةِ ضَلَالِهِمْ فَنَاسَبَ هَذَا الِانْتِقَالَ مَقَامُ الْغَيْبَةِ لِمَا فِي الْغَيْبَةِ مِنَ الْإِبْعَادِ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ.
106
وَالْقَوْلُ هُنَا مُرَادٌ بِهِ مَا طَابَقَ الِاعْتِقَادَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ مُطَابَقَةُ اعْتِقَادِ قَائِلِهِ، فَالْمَعْنَى: بَلْ ظَنُّوا مِثْلَ مَا ظَنَّ الْأَوَّلُونَ.
وَالْأَوَّلُونَ: أَسْلَافُهُمْ فِي النَّسَبِ أَوْ أَسْلَافُهُمْ فِي الدِّينِ مِنَ الْأُمَمِ الْمُشْرِكِينَ.
وَجُمْلَةُ قالُوا أَإِذا مِتْنا إِلَخْ بَدَلٌ مُطَابِقٌ مِنْ جُمْلَةِ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ تَفْصِيلٌ لِإِجْمَالِ الْمُمَاثَلَةِ، فَالضَّمِيرُ الَّذِي مَعَ قالُوا الثَّانِي عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ قالُوا الْأَوَّلُ وَلَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْأَوَّلُونَ. وَيَجُوزُ جَعْلُ قالُوا الثَّانِي استئنافا بَيَانا لِبَيَانِ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْأَوَّلُونَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِعَادَةُ فِعْلِ (قَالُوا) مِنْ قَبِيلِ إِعَادَةِ الَّذِي عُمِلَ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَنُكْتَتُهُ هُنَا التَّعْجِيبُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَإِذا مِتْنا بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الشَّرْطِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى صُورَةِ الْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ فِي جُمْلَةِ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى تَأْكِيدِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْأُولَى بِإِدْخَالِ مِثْلِهَا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِدُونِ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ وَوُجُودُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ دَاخِلَةً عَلَى الشَّرْطِ كَافٍ فِي إِفَادَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ جَوَابِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وإِذا ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ لَمَبْعُوثُونَ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَالْكَوْنِ تُرَابًا وَعِظَامًا لِقَصْدِ تَقْوِيَةِ الْإِنْكَارِ بِتَفْظِيعِ إِخْبَارِ الْقُرْآنِ بِوُقُوعِ الْبَعْثِ، أَيِ الْإِحْيَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّلَاشِي الْقَوِيِّ.
وَأَمَّا ذِكْرُ حَرْفِ (إِنَّ) فِي قَوْلهم أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ حِكَايَةُ دَعْوَى الْبَعْثِ
بِأَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي يَدَّعِيهَا بِتَحْقِيقٍ وَتَوْكِيدٍ مَعَ كَوْنِهَا شَدِيدَةَ الِاسْتِحَالَةِ، فَفِي حِكَايَةِ تَوْكِيدِ مُدَّعِيهَا زِيَادَةٌ فِي تَفْظِيعِ الدَّعْوَى فِي وَهْمِهِمْ.
وَجُمْلَةُ لَقَدْ وُعِدْنا إِلَخْ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ وَتَقْوِيَةٌ لَهُ. وَقَدْ جَعَلُوا مُسْتَنَدَ تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ أَنَّهُ تَكَرَّرَ الْوَعْدُ بِهِ فِي أَزْمَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَلَمْ يَقَعْ وَلَمْ يُبْعَثْ وَاحِدٌ مِنْ آبَائِهِمْ.
107
وَوَجْهُ ذِكْرِ الْآبَاءِ دَفْعُ مَا عَسَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ قَائِلٌ: إِنَّكُمْ تُبْعَثُونَ قَبْلَ أَنْ تَصِيرُوا تُرَابًا وَعِظَامًا، فَأَعَدُّوا الْجَوَابَ بِأَنَّ الْوَعْدَ بِالْبَعْثِ لَمْ يَكُنْ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِمْ فَيَقَعُوا فِي شَكٍّ بِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِ بِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَقَبْلَ فَنَاءِ أَجْسَامِهِمْ بَلْ ذَلِكَ وَعْدٌ قَدِيمٌ وُعِدَ بِهِ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ وَقَدْ مَضَتْ أَزْمَانٌ وَشُوهِدَتْ رفاتهم فِي أجدائهم وَمَا بُعِثَ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهِيَ مستأنفة استئنافا بَيَانا لِجَوَابِ سُؤَالٍ يُثِيرُهُ قَوْلُهُمْ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا مِنْ قَبْلُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ سَائِلٌ:
فَكَيْفَ تَمَالَأَ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى الْعَدَدُ مِنَ الدُّعَاةِ فِي عُصُورٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ عَدَمَ وُقُوعِهِ، فَيُجِيبُونَ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ تَلَقَّفُوهُ عَنْ بَعْضِ الْأَوَّلِينَ فَتَنَاقَلُوهُ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِمْ أَإِذا مِتْنا إِلَى آخِرِهِ، أَيْ هَذَا الْمَذْكُورُ مِنَ الْكَلَامِ. وَكَذَلِكَ اسْمُ الْإِشَارَةِ الثَّانِي إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وَصِيغَةُ الْقَصْرِ بِمَعْنَى: هَذَا مُنْحَصِرٌ فِي كَوْنِهِ مِنْ حِكَايَاتِ الْأَوَّلِينَ. وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لَا يَعْدُو كَوْنَهُ مِنَ الْأَسَاطِيرِ إِلَى كَوْنِهِ وَاقِعًا كَمَا زَعَمَ الْمُدَّعُونَ.
وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ الثَّانِي لِقَصْدِ زِيَادَةِ تَمْيِيزِهِ تَشْهِيرًا بِخَطَئِهِ فِي زَعْمِهِمْ.
وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ وَهِيَ الْخَبَرُ الْكَاذِبُ الَّذِي يُكْسَى صِفَةَ الْوَاقِعِ مِثْلُ الْخُرَافَاتِ وَالرِّوَايَاتِ الْوَهْمِيَّةِ لِقَصْدِ التَّلَهِّي بِهَا. وَبِنَاءُ الْأُفْعُولَةِ يَغْلِبُ فِيمَا يُرَادُ بِهِ التَّلَهِّي مِثْلُ: الْأُعْجُوبَةِ وَالْأُضْحُوكَةِ وَالْأُرْجُوحَةِ وَالْأُحْدُوثَةِ وَقَدْ مضى قَرِيبا.
[٨٤، ٨٥]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٨٤ إِلَى ٨٥]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ
(٨٥)
اسْتِئْنَافُ اسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِمْ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَادَ بِهِ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ:
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٠].
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، أَيْ أَجِيبُوا عَنْ هَذَا، وَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الْجَوَابُ بِأَنَّهَا لِلَّهِ.
وَالْمَقْصُودُ: إِثْبَاتُ لَازِمِ جَوَابِهِمْ وَهُوَ انْفِرَادُهُ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ.
وإِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَرْطٌ حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: فَأَجِيبُونِي عَنِ السُّؤَالِ. وَفِي هَذَا الشَّرْطِ تَوْجِيهٌ لِعُقُولِهِمْ أَنْ يَتَأَمَّلُوا فَيَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَأَنَّ مَنْ فِيهَا لِلَّهِ فَإِنَّ كَوْنَ جَمِيعِ ذَلِكَ لِلَّهِ قَدْ يَخْفَى لِأَنَّ النَّاسَ اعْتَادُوا نِسْبَةَ الْمُسَبَّبَاتِ إِلَى أَسْبَابِهَا الْمُقَارِنَةِ وَالتَّصَرُّفَاتِ إِلَى مُبَاشِرِيهَا فَنُبِّهُوا بِقَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِلَى التَّأَمُّلِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ بِقَوْلِهِ: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ، أَيْ يُجِيبُونَ عَقِبَ التَّأَمُّلِ جَوَابًا غَيْرَ بَطِيءٍ. وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢].
وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ جَوَابًا لِإِقْرَارِهِمْ وَاعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهَا لِلَّهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ إِنْكَار لعدم تذكرهم بِذَلِكَ، أَيْ تَفْطِنُ عُقُولُهُمْ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ. وَخُصَّ بِالتَّذَكُّرِ لِمَا فِي بَعْضِهِ مِنْ خَفَاءِ الدَّلَالَةِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَى النّظر.
[٨٦، ٨٧]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٨٦ إِلَى ٨٧]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧)
تَكْرِيرُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقُولُ مُخْتَلِفًا دُونَ أَنْ تُعْطَفَ جُمْلَةُ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ التَّعْدَادِ فَنَاسَبَ أَنْ يُعَادَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ دُونَ الِاسْتِغْنَاءِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ. وَالْمَقْصُودُ وُقُوعُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ مُتَتَابِعَةً دَفْعًا
109
لَهُمْ بِالْحُجَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعَدْ فِي السُّؤَالَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ جُمْلَةُ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٤] اكْتِفَاءً بِالِافْتِتَاحِ بِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ بِلَامٍ جَارَّةٍ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ حِكَايَةٌ لِجَوَابِهِمُ الْمُتَوَقَّعِ بِمَعْنَاهُ لَا بِلَفْظِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا سُئِلُوا بِ (مَنْ) الَّتِي هِيَ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ تَعْيِينِ ذَاتِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ كَانَ مُقْتَضَى الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ بِذِكْرِ اسْمِ ذَاتِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَكَانَ الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ كَوْنِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْعَرْشِ مَمْلُوكَةً لِلَّهِ عُدُولًا إِلَى جَانِبِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ مُرَاعَاةً لِكَوْنِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ لُوحِظَ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةُ تَقْتَضِي الْمُلْكَ. وَنَظِيرُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مَا أَنْشَدَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَصَاحِبُ «الْمَطْلَعِ» (١) :
إِذَا قِيلَ مَنْ رَبُّ الْمَزَالِفِ وَالْقُرَى وَرَبُّ الْجِيَادِ الْجُرْدِ؟ قُلْتُ لَخَالِدُ
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ سَبَقَهُمَا بِذِكْرِ هَذَا الْبَيْتِ وَلَعَلَّهُمَا أَخَذَاهُ مِنْ «تَفْسِيرِ الزَّجَّاجِ» وَلَمْ يَعْزُوَاهُ إِلَى قَائِلٍ وَلَعَلَّ قَائِلَهُ حَذَا بِهِ حَذْوَ اسْتِعْمَالِ الْآيَةِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْأَجْدَرَ أَنْ نُبَيِّنَ وَجْهَ صَوْغِ الْآيَةِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ فَأَرَى أَنَّ ذَلِكَ لِقَصْدِ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ يَحْتَرِزُونَ عَنْ أَنْ يَقُولُوا: رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ اللَّهُ، لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مَعَ اللَّهِ أَرْبَابًا فِي السَّمَاوَاتِ إِذْ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ فَهُمْ عَدَلُوا عَمَّا فِيهِ نَفْيُ الرُّبُوبِيَّةِ عَنْ مَعْبُودَاتِهِمْ وَاقْتَصَرُوا عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ السَّمَاوَاتِ مِلْكٌ لِلَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ أَوْهَامَ شِرْكِهِمْ مِنْ أَصْلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي التَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ». فَفِي حِكَايَةِ جَوَابِهِمْ بِهَذَا اللَّفْظِ تَوَرُّكٌ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ ذَيَّلَ حِكَايَةَ جَوَابِهِمْ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمُ انْتِفَاءَ اتِّقَائِهِمُ اللَّهَ تَعَالَى.
_________
(١) «المطلع» تَفْسِير لِلْقُرْآنِ اسْمه «مطلع الْمعَانِي ومنبع المباني» لحسام الَّذين مُحَمَّد بن عُثْمَان الْعليا بَادِي السَّمرقَنْدِي كَانَ حيّا سنة/ ٦٢٨/ هـ.
110
وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ سَيَقُولُونَ اللَّهُ بِدُونِ لَامِ الْجَرِّ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ الْبَصْرَةِ وَبِذَلِكَ كَانَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
وَلَمْ يُؤْتَ مَعَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ بِشَرْطِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٤] وَنَحْوِهِ كَمَا جَاءَ فِي سَابِقِهِ لِأَنَّ انْفِرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِالرُّبُوبِيَّةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْعَرْشِ لَا يَشُكُّ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَزْعُمُوا إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِهِمْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ.
وَخُصَّ وَعْظُهُمْ عَقِبَ جَوَابِهِمْ بِالْحَثِّ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُمْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ اللَّهَ مَالِكُ الْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا وَعُقِّبَتْ تِلْكَ الْآيَة بحظهم عَلَى التَّذَكُّرِ لِيَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ لَا عِبَادُ الْأَصْنَامِ. وَتَبَيَّنَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَهِيَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَرْضِ وَأَنَّهُمْ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِذَلِكَ نَاسَبَ حَثَّهُمْ عَلَى تَقْوَاهُ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الطَّاعَةَ لَهُ وَحْدَهُ وَأَنْ يُطِيعُوا رَسُولَهُ فَإِنَّ التَّقْوَى تَتَضَمَّنُ طَاعَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ تَتَّقُونَ لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْقَاصِرِ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ وَهُوَ التَّقْوَى الشَّامِلَةُ لِامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتنَاب المنهيات.
[٨٨، ٨٩]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٨٨ إِلَى ٨٩]
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)
قَدْ عَرَفْتَ آنِفًا نُكْتَةَ تَكْرِيرِ الْقَوْلِ.
وَالْمَلَكُوتُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمُلْكِ بِضَمِّ الْمِيمِ. فَالْمَلَكُوتُ: الْمُلْكُ الْمُقْتَرِنُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مُخْتَلَفِ الْأَنْوَاعِ وَالْعَوَالِمِ لِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ كُلِّ شَيْءٍ.
وَالْيَدُ: الْقُدْرَةُ. وَمَعْنَى يُجِيرُ يُغِيثُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْأَذَى. وَمَصْدَرُهُ الْإِجَارَةُ فَيُفِيدُ مَعْنَى الْغَلَبَةِ، وَإِذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ أَفَادَ أَنَّ الْمَجْرُورَ
مَغْلُوبٌ عَلَى أَنْ لَا يُنَالَ الْمُجَارُ بِأَذًى فَمَعْنَى لَا يُجارُ عَلَيْهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ عِقَابِهِ. فَيُفِيدُ مَعْنَى الْعِزَّةِ التَّامَّةِ.
وَبُنِيَ فِعْلُ يُجارُ عَلَيْهِ لِلْمَجْهُولِ لِقَصْدِ انْتِفَاءِ الْفِعْلِ عَنْ كُلِّ فَاعِلٍ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ مَعَ الِاخْتِصَارِ.
وَلَمَّا كَانَ تَصَرُّفُ اللَّهِ هَذَا خَفِيًّا يَحْتَاجُ إِلَى تَدَبُّرِ الْعَقْلِ لِإِدْرَاكِهِ عُقِّبَ الِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ:
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ كَمَا عُقِّبَ الِاسْتِفْهَامُ الْأَوَّلُ بِمِثْلِهِ حَثًّا لَهُمْ عَلَى عِلْمِهِ وَالِاهْتِدَاءِ إِلَيْهِ.
ثُمَّ عُقِّبَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا تَدَبَّرُوا عَلِمُوا فَقِيلَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ بِلَامِ الْجَرِّ دَاخِلَةً عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِثْلِ سَالِفِهِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِدُونِ لَامٍ وَقَدْ عَلِمْتَ ذَلِكَ فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ.
(وَأَنَّى) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (مِنْ أَيْنَ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٣٧] قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبِيٌّ. وَالسِّحْرُ مُسْتَعَارٌ لِتَرْوِيجِ الْبَاطِلِ بِجَامِعِ تَخَيُّلِ مَا لَيْسَ بِوَاقِعٍ وَاقِعًا. وَالْمَعْنَى: فَمِنْ أَيْنَ اخْتَلَّ شُعُورُكُمْ فَرَاجَ عَلَيْكُمُ الْبَاطِلُ. فَالْمُرَادُ بِالسِّحْرِ تَرْوِيجُ أَيِمَّةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمُ الْبَاطِلَ حَتَّى جعلوهم كالمسحورين.
[٩٠]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٩٠]
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠)
إِضْرَابٌ لِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونُوا مَسْحُورِينَ، أَيْ بَلْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا خُيِّلَ إِلَيْهِمْ. فَالَّذِي أَتَيْنَاهُمْ بِهِ الْحَقُّ يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَمَا يُقَالُ: ذَهَبَ بِهِ أَيْ أَذْهَبَهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ آنِفًا بَلْ آتَيْنَاهُم بذكرهم [الْمُؤْمِنُونَ: ٧١].
وَالْعُدُولُ عَنِ الْخِطَابِ مِنْ قَوْلِهِ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٩] إِلَى الْغَيْبَةِ الْتِفَاتٌ لِأَنَّهُمُ الْمُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَالْحَقُّ هُنَا: الصِّدْقُ فَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى الْكَذِبِ فِيمَا رموا بِهِ القرءان مِنْ قَوْلِهِمْ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٣] وَفِي
مُقَابَلَةِ الْحق ب لَكاذِبُونَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَتَأْكِيدُ نِسْبَتِهِمْ إِلَى الْكَذِبِ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ.
وَقَدْ سُلِكَتْ فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ طَرِيقَةُ التَّرَقِّي فَابْتُدِئَ بِالسُّؤَالِ عَنْ مَالِكِ الْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْعَوَالِمِ لِإِدْرَاكِ الْمُخَاطَبِينَ، ثُمَّ ارْتُقِيَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِرُبُوبِيَّةِ السَّمَاوَاتِ وَالْعَرْشِ، ثُمَّ ارْتُقِيَ إِلَى مَا هُوَ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ وَهُوَ تَصَرُّفُهُ الْمُطْلَقُ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَتْ فِيهِ أَدَاةُ الْعُمُومِ وَهِي (كل).
[٩١، ٩٢]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٩١ إِلَى ٩٢]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)
أُتْبِعَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْتِفَاءِ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَقُدِّمَتِ النَّتِيجَةُ عَلَى الْقِيَاسِ لِتُجْعَلَ هِيَ الْمَطْلُوبَ فَإِنَّ النَّتِيجَةَ وَالْمَطْلُوبَ مُتَّحِدَانِ فِي الْمَعْنَى مُخْتَلِفَانِ بِالِاعْتِبَارِ، فَهِيَ بِاعْتِبَارِ حُصُولِهَا عَقِبَ الْقِيَاسِ تُسَمَّى نَتِيجَةً، وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا دَعْوَى مُقَامٌ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ وَهُوَ الْقِيَاسُ تُسَمَّى مَطْلُوبًا كَمَا فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ. وَلِتَقْدِيمِهَا نُكْتَةٌ أَنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ وَاضِحُ النُّهُوضِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ إِلَّا لِزِيَادَةِ الِاطْمِئْنَانِ فَقَوْلُهُ: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ هُوَ الْمَطْلُوبُ وَقَوْلُهُ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ هُوَ الدَّلِيلُ. وَتَقْدِيمُ هَذَا الْمَطْلُوبِ عَلَى الدَّلِيلِ أَغْنَى عَنِ التَّصْرِيحِ بِالنَّتِيجَةِ عَقِبَ الدَّلِيلِ. وَذُكِرَ نَفْيُ الْوَلَدِ اسْتِقْصَاءً لِلرَّدِّ عَلَى مُخْتَلَفِ عَقَائِدِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنَ الْعَرَبِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ ارْتَقَى عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَعَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَقَالُوا: هُمْ بَنَاتُ اللَّهِ.
وَإِنَّمَا قُدِّمَ نَفْيُ الْوَلَدِ عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةُ أَصْنَامٍ لَا عَبَدَةُ الْمَلَائِكَةِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ شُبْهَةَ عَبَدَةِ الْمَلَائِكَةِ أَقْوَى مِنْ شُبْهَةِ عَبَدَةِ
113
الْأَصْنَامِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ غَيْرُ مُشَاهَدِينَ فَلَيْسَتْ دَلَائِلُ الْحُدُوثِ بَادِيَةً عَلَيْهِمْ كَالْأَصْنَامِ، وَلِأَنَّ الَّذِينَ زَعَمُوهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ أَقْرَبُ لِلتَّمْوِيهِ مِنَ الَّذِينَ زَعَمُوا الْحِجَارَة شُرَكَاء الله، وَقد أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٦] الْآيَةَ.
وَ (إِذَنْ) حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ لِكَلَامٍ قَبْلَهَا مَلْفُوظٍ أَوْ مُقَدَّرٍ. وَالْكَلَامُ الْمُجَابُ هُنَا هُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ فَالْجَوَابُ ضِدُّ ذَلِكَ النَّفْيِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا الضِّدُّ أَمْرًا مُسْتَحِيلَ الْوُقُوعِ تَعَيَّنَ أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ شَرْطٌ عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، وَالْحَرْفُ الْمُعَدُّ
لِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ (لَوْ) الِامْتِنَاعِيَّةُ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ.
وَبَقَاءُ اللَّامِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ الْوَاقِعِ بَعْدَ (إِذَنْ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ شَرْطُ (لَوْ) لِأَنَّ اللَّامَ تَلْزَمُ جَوَابَ (لَوْ) وَلِأَنَّ غَالِبَ مَوَاقِعِ (إِذَنْ) أَنْ تَكُونَ جَوَابَ (لَوْ) فَلِذَلِكَ جَازَ حَذْفُ الشَّرْطِ هُنَا لِظُهُورِ تَقْدِيرِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٤٠].
فَقَوْلُهُ: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُسْتَدَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَتَّخِذَ اللَّهُ وَلَدًا لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى مَا بَعْدَهُ مُغْنٍ عَنْهُ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ أَعَمُّ مِنْهُ وَانْتِفَاءُ الْأَعَمِّ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْأَخَصِّ فَإِنَّهُ لَو كَانَ الله وَلَدٌ لَكَانَ الْأَوْلَادُ آلِهَةً لِأَنَّ وَلَدَ كُلِّ مَوْجُودٍ إِنَّمَا يَتَكَوَّنُ عَلَى مِثْلِ مَاهِيَّةِ أَصْلِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: ٨١] أَيْ لَهُ.
وَالذِّهَابُ فِي قَوْلِهِ لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ مُسْتَعَارٌ لِلِاسْتِقْلَالِ بِالْمَذْهُوبِ بِهِ وَعَدَمِ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِيهِ. وَبَيَانُ انْتِظَامِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ الله ءالهة لَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْآلِهَةُ سَوَاءً فِي صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَتِلْكَ الصِّفَاتُ كَمَالَاتٌ
114
تَامَّةٌ فَكَانَ كُلُّ إِلَهٍ خَالِقًا لِمَخْلُوقَاتٍ لِثُبُوتِ الْمَوْجُودَاتِ الْحَادِثَةِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، فَلَا جَائِزَ أَنْ تَتَوَارَدَ الْآلِهَةُ عَلَى مَخْلُوقٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ: إِمَّا لِعَجْزٍ عَنِ الِانْفِرَادِ بِخَلْقِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا لَا يُنَافِي الْإِلَهِيَّةَ، وَإِمَّا تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ إِلَهٍ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَلْنَفْرِضَ أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَاتُ كُلِّ إِلَهٍ مُسَاوِيَةً لِمَخْلُوقَاتِ غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي مِقْدَارًا مُعَيَّنًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يَعْلَمُهَا الْإِلَهُ الْخَالِقُ لَهَا فَتَعَيَّنَ أَنْ لَا تَكُونَ لِلْإِلَهِ الَّذِي لَمْ يَخْلُقْ طَائِفَةً مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ رُبُوبِيَّةً عَلَى مَا لَمْ يَخْلُقْهُ وَهَذَا يُفْضِي إِلَى نَقْصٍ فِي كُلٍّ مِنَ الْآلِهَةِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْمُحَالَ لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي الْكَمَالَ لَا النَّقْصَ. وَلَا جَرَمَ أَنَّ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ سَتَكُونُ بَعْدَ خَلْقِهَا مُعَرَّضَةً لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ بِحَسَبِ مَا يَحُفُّ بِهَا عَنْ عَوَارِضِ الْوُجُودِ الَّتِي لَا تَخْلُو عَنْهَا الْمَخْلُوقَاتُ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاحِدِ. وَلَا مَنَاصَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ خَالِقَ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْدَعَ فِيهَا خَصَائِصَ مُلَازِمَةً لَهَا كَمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، فَتِلْكَ الْمَخْلُوقَاتُ مَظَاهِرٌ لِخَصَائِصِهَا لَا مَحَالَةَ فَلَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَفَوُّقَ مَخْلُوقَاتِ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى مَخْلُوقَاتِ بَعْضٍ آخَرَ بِعَوَارِضَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَالْمُقَارَنَاتِ لَازِمَةً لِذَلِكَ، لَا جَرَمَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كُلُّهُ لَازِمَيْنِ بَاطِلَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كُلُّ إِلَهٍ مُخْتَصًّا بِمَخْلُوقَاتِهِ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَلَا يَتَصَرَّفُ هُوَ فِي مَخْلُوقَاتِ غَيْرِهِ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ إِلَهٍ مِنَ الْآلِهَةِ عَاجِزٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مَخْلُوقَاتِ غَيْرِهِ. وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْمُحَالَ لِأَنَّ الْعَجْزَ نَقْصٌ وَالنَّقْص يُنَافِي حَقِيقَة الْإِلَهِيَّةِ. وَهَذَا دَلِيلٌ بُرْهَانِيٌّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ لِأَنَّهُ أَدَّى إِلَى اسْتِحَالَةِ ضِدِّهَا. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ.
وَثَانِي: اللَّازِمَيْنِ أَنْ تَصِيرَ مَخْلُوقَاتُ بَعْضِ الْآلِهَةِ أَوْفَرَ أَوْ أَقْوَى مِنْ مَخْلُوقَاتِ إِلَهٍ آخَرَ بِعَوَارِضَ تَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الْأَعْمَالِ النَّفْسَانِيَّةِ وَآثَارِ الْأَقْطَارِ وَالْحَوَادِثِ كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاحِدِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى اعْتِزَازِ الْإِلَهِ الَّذِي تَفَوَّقَتْ مَخْلُوقَاتُهُ عَلَى الْإِلَهِ
115
الَّذِي تَنْحَطُّ مَخْلُوقَاتُهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَصِيرَ بَعْضُ تِلْكَ الْآلِهَةِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَهُوَ مُنَافٍ لِلْمُسَاوَاةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ.
وَهَذَا الثَّانِي بِنَاءً عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ لَوَازِمِ الْإِلَهِيَّةِ فِي أَنْظَارِ الْمُفَكِّرِينَ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ اتِّفَاقُ الْآلِهَةِ عَلَى أَنْ لَا يَخْلُقُوا مَخْلُوقَاتٍ قَابِلَةٍ لِلتَّفَاوُتِ بِأَنْ لَا يَخْلُقُوا إِلَّا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا مَثَلًا إِلَّا أَنَّ هَذَا يُنَافِي الْوَاقِعَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ.
وَيَجُوزُ اتِّفَاقُ الْآلِهَةِ أَيْضًا عَلَى أَنْ لَا يَعْتَزَّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِسَبَبِ تَفَاوُتِ مَلَكُوتِ كُلٍّ عَلَى مَلَكُوتِ الْآخَرِ بِنَاءً عَلَى مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الْحِكْمَةِ الْمُتَمَاثِلَةِ الَّتِي تَعْصِمُهُمْ عَنْ صُدُورِ مَا يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَالِ الْمَجْدِ الْإِلَهِيِّ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْلُو مِنَ الْمُصَانَعَةِ وَهِيَ مُشْعِرَةٌ بِضَعْفِ الْمَقْدِرَةِ. فَبِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ بُرْهَانِيًّا، وَهُوَ مِثْلُ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: ٢٢] إِلَّا أَنَّ هَذَا بُنِيَ عَلَى بَعْضِ لُزُومِ النَّقْصِ فِي ذَاتِ الْآلِهَةِ وَهُوَ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ، وَالْآخَرُ بُنِيَ عَلَى لُزُومِ اخْتِلَالِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ وَهُوَ مَا تُبْطِلُهُ الْمُشَاهَدَةُ.
أَمَّا الدَّلِيلُ الْبُرْهَانِيُّ الْخَالِصُ عَلَى اسْتِحَالَةِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ بِالذَّاتِ فَلَهُ مُقَدِّمَاتٌ أُخْرَى قَدْ وَفَّى أَيِمَّةُ عِلْمِ الْكَلَامِ بَسْطَهَا بِمَا لَا رَوَاجَ بَعْدَهُ لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى طَرِيقَةٍ مِنْهَا الْمُحَقِّقُ عُمَرُ الْقَزْوِينِيُّ (١) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ «حَاشِيَتِهِ» عَلَى «الْكَشَّافِ» وَلَكِنَّهُ انْفَرد بادعاء أَنه مَأْخُوذٍ مِنَ الْآيَةِ وَلَيْسَ كَمَا ادَّعَى. وَقَدْ سَاقَهُ الشِّهَابُ الْآلُوسِيُّ فَإِنْ شِئْتَ فَتَأَمَّلْهُ.
وَلَمَّا اقْتَضَى هَذَا الدَّلِيلُ بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ عُقِّبَ الدَّلِيلُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ نَتِيجَةِ
_________
(١) هُوَ عمر بن عبد الرَّحْمَن الْقزْوِينِي الْفَارِسِي المتوفي/ ٧٤٥/ هـ. لَهُ حَاشِيَة على «الْكَشَّاف» تدعى بَين أهل الْعلم باسم «الْكَشْف». وَلم يسمهَا مؤلفها بِهَذَا الِاسْم. أَخذ عَن شرف الدَّين الطَّيِّبِيّ.
116
الدَّلِيلِ. وَمَا يَصِفُونَهُ بِهِ هُوَ مَا اخْتَصُّوا بِوَصْفِهِمُ اللَّهَ بِهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَمِنْ تَعَذُّرِ الْبَعْثِ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي جَرَى فِيهِ غَرَضُ الْكَلَامِ.
وَإِنَّمَا أَتْبَعَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى انْتِفَاءِ الشَّرِيكِ بِقَوْلِهِ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْمُرَادِ بِهِ عُمُومَ الْعِلْمِ وَإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ كَمَا أَفَادَتْهُ لَامُ التَّعْرِيفِ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ عَالِمُ كُلِّ مَغِيبٍ وَكُلِّ ظَاهِرٍ، لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اسْتِقْلَالَ كُلِّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ قَدْ لَا يُفْضِي إِلَى عُلُوِّ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى بَعْضٍ، لِجَوَازِ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَحَدٌ مِنَ الْآلِهَةِ بِمِقْدَارِ تَفَاوُتِ مَلَكُوتِهِ عَلَى مَلَكُوتِ الْآخَرِ فَلَا يَحْصُلُ عُلُوُّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِاشْتِغَالِ كُلِّ إِلَهٍ بِمَلَكُوتِهِ. وَوَجْهُ الدَّفْعِ أَنَّ الْإِلَهَ إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ خَالِقٍ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا غَيْرُهُ لِئَلَّا تَتَدَاخَلَ الْقُدَرُ فِي مَقْدُورَاتٍ وَاحِدَةٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا خَلَقَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ صِفَاتِ الْعِلْمِ لَا تَتَدَاخَلُ، فَإِذَا عَلِمَ أَحَدُ الْآلِهَةِ مِقْدَارَ مَلَكُوتِ شُرَكَائِهِ فَالْعَالِمُ بِأَشَدِّيَّةِ مَلَكُوتِهِ يَعْلُو عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَلَكُوتِ. فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ مِنْ تَمَامِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْتِفَاءِ الشُّرَكَاءِ، وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَنْهُ بِالْفَاءِ قَوْلُهُ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ عالِمِ الْغَيْبِ بِرَفْعِ عالِمِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ مِنَ الْحَذْفِ الشَّائِعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِذَا أُرِيدَ الْإِخْبَارُ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَ أَنْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَخْبَارٌ أَوْ صِفَاتٌ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ بِجَرِّ عالِمِ عَلَى الْوَصْفِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ.
وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى فَتَعَالَى عَنْ إِشْرَاكِهِمْ، أَيْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ مُشَارِكًا فِي وَصْفِهِ الْعَظِيمِ، أَيْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَن ذَلِك.
[٩٣- ٩٥]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٩٣ إِلَى ٩٥]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ
117
(٩٥)
آذَنَتِ الْأَيَاتُ السَّابِقَةُ بِأَقْصَى ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ وَانْتِفَاءِ عُذْرِهِمْ فِيمَا دَانُوا بِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَبِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَعَ الْأُمَمِ الَّتِي عَجَّلَ اللَّهُ لَهَا الْعَذَابَ فِي
الدُّنْيَا وَادَّخَرَ لَهَا عَذَابًا آخَرَ فِي الْآخِرَةِ، فَكَانَ ذَلِك نذراة لَهُمْ بِمِثْلِهِ وَتَهْدِيدًا بِمَا سَيَقُولُونَهُ وَكَانَ مَثَارًا لخشية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحِلَّ الْعَذَابُ بِقَوْمِهِ فِي حَيَاتِهِ وَالْخَوْف من هؤله فلقن الله نبيئه أَنْ يَسْأَلَ النَّجَاةَ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ. وَفِي هَذَا التَّلْقِينِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ اللَّهَ مُنَجِّيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ بِحِكْمَتِهِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الله يري نبيئه حُلُولَ الْعَذَابِ بِمُكَذِّبِيهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ تَلْقِينِ الدُّعَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَة: ٢٨٦] الْآيَةَ.
فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَمَّا يَخْتَلِجُ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِيمَا حَلَّ بِالْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ. فَالْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ هُنَا وَعِيدٌ بِعِقَابٍ فِي الدُّنْيَا كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
وَذُكِرَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ لَفْظُ (رَبِّ) مُكَرَّرًا تَمْهِيدًا لِلْإِجَابَةِ لِأَنَّ وَصْفَ الرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي الرَّأْفَةَ بِالْمَرْبُوبِ.
وَأُدْخِلَ بَعْدَ حَرْفِ الشَّرْطِ (مَا) الزَّائِدَةُ لِلتَّوْكِيدِ فَاقْتَرَنَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ رَبْطِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ.
وَنَظِيرُهُ فِي تَكْرِيرِ الْمُؤَكَّدَاتِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ قَوْلُ الْأَعْشَى:
إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا إِنَّا كَذَلِكَ مَا نَحْفَى وَنَنْتَعِلُ
أَيْ فَاعْلَمِي حَقًّا أَنَّا نَحْفَى تَارَةً وَنَنْتَعِلُ أُخْرَى لِأَجْلِ ذَلِكَ، أَيْ لِأَجْلِ إِخْفَاءِ الخطى لَا للأجل وِجْدَانِ نَعْلٍ مَرَّةً وَفُقْدَانِهَا أُخْرَى كَحَالِ أَهْلِ الْخَصَاصَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ [٢٠٠].
وَالْمَعْنَى: إِذَا كَانَ مَا يُوعَدُونَ حَاصِلًا فِي حَيَاتِي فَأَنَا أَدْعُوكُمْ أَنْ لَا تَجْعَلُونِي فِيهِمْ حِينَئِذٍ.
118
وَاسْتِعْمَالُ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَسْأَلَ الْكَوْنَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ مَوْضِعِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا حَقِيقِيَّةٌ، أَيْ بَيْنَهُمْ.
وَالْخَبَرُ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِيجَادِ الرَّجَاءِ بِحُصُولِ وَعِيدِ الْمُكَذِّبِينَ فِي حَيَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعْلَامِ الرَّسُولِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِي قَوْلِهِ: أَنْ نُرِيَكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ فِي مَنْجَاةٍ مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ مَا يُوعَدُونَ بِهِ وَأَنَّهُ
سَيَرَاهُ مَرْأَى عَيْنٍ دُونَ كَوْنٍ فِيهِ. وَقَدْ يَبْدُو أَنَّ هَذَا وَعْدٌ غَرِيبٌ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ سَمَاوِيًّا فَإِذَا نَجَّى اللَّهُ مِنْهُ بَعْضَ رُسُلِهِ مِثْلَ لُوطٍ فَإِنَّهُ يُبْعِدُهُ عَنْ مَوْضِعِ الْعَذَابِ وَلَكِنْ كَانَ عَذَابُ هَؤُلَاءِ غَيْرَ سَمَاوِيٍّ فَتَحَقَّقَ فِي مَصْرَعِ صَنَادِيدِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِمَرْأَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ وَنَادَاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا وَقَالَ لَهُمْ «لَقَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا»
. وَبِهَذَا الْقَصْد يظْهر موقع حَرْفَيِ التَّأْكِيدِ (إِنَّ) وَاللَّامِ مِنْ إِصَابَةِ محزّ الإعجاز.
[٩٦]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٩٦]
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦)
لَمَّا أَنْبَأَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا يُلْمِحُ لَهُ بِأَنَّهُ مُنْجِزٌ وَعِيدَهُ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ فَعَلِمَ الرَّسُولُ وَالْمُسْلِمُونَ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُمُ النَّصْرَ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَدْفَعَ مُكَذِّبِيهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَأَنْ لَا يَضِيقَ بتكذيبهم صَدره فَذَلِك دَفَعَ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ كَمَا هُوَ أَدَبُ الْإِسْلَامِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٣٤] عِنْدَ قَوْلِهِ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
وَقَوْلِهِ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ اللَّهِ يُعَامِلُ أَصْحَابَ الْإِسَاءَةِ لِرَسُولِهِ بِمَا هُمْ أَحِقَّاءُ بِهِ مِنَ الْعِقَابِ لِأَنَّ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ يَجْرِي عَمَلُهُ عَلَى مُنَاسِبِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِالْعَدْلِ وَفِي هَذَا تَطْمِينٌ لنَفس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَصِفُونَ وَتَقْدِيرُهُ: بِمَا يَصِفُونَكَ، أَيْ مِمَّا يَضِيقُ بِهِ صَدْرُكَ. وَذَلِكَ تَعَهُّدٌ بِأَنَّهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى مَا يعلم مِنْهُم قرب أَحَدٌ يَبْدُو مِنْهُ السُّوءُ يَنْطَوِي ضَمِيرُهُ عَلَى بَعْضِ الْخَيْرِ فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَحْدُبُ عَلَى النَّبِيءِ فِي نَفْسِهِ، وَرُبَّ أَحَدٌ هُوَ بِعَكْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [الْبَقَرَة: ٢٠٤].
وبِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مُرَادٌ بِهَا الْحَسَنَةُ الْكَامِلَةُ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ [يُوسُف: ٣٣].
وَالتَّخَلُّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفَوِّضَ أَمْرَ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ يَتَوَلَّى الِانْتِصَارَ لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ إِنْ قَابَلَ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ كَانَ انْتِصَارُ اللَّهِ أَشَفَى لِصَدْرِهِ وَأَرْسَخَ فِي نَصْرِهِ، وَمَاذَا تَبْلُغُ قُدْرَةُ الْمَخْلُوقِ تِجَاهَ قُدْرَةِ الْخَالِقِ، وَهُوَ الَّذِي هَزَمَ الْأَحْزَابَ بِلَا جُيُوشٍ وَلَا فَيَالِقَ.
وَهَكَذَا كَانَ خلق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ وَكَانَ يَدْعُو رَبَّهُ. وَذُكِرَ فِي
«الْمَدَارِكِ» فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَانِمٍ: أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ ابْنُ زُرْعَةَ كَانَ لَهُ جَاهٌ وَرِئَاسَةٌ وَكَانَ ابْنُ غَانِمٍ حَكَمَ عَلَيْهِ بِوَجْهِ حَقٍّ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ، فَلَقِيَ ابْنَ غَانِمٍ فِي مَوْضِعٍ خَالٍ فَشَتَمَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ابْنُ غَانِمٍ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَقِيَهُ بِالطَّرِيقِ فَسَلَّمَ ابْنُ زُرْعَةَ عَلَى ابْنِ غَانِمٍ فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ غَانِمٍ وَرَحَّبَ بِهِ وَمَضَى مَعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَعَمِلَ لَهُ طَعَامًا فَلَمَّا أَرَادَ مُفَارَقَتَهُ قَالَ لِابْنِ غَانِمٍ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ اغْفِرْ لِي وَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ مِمَّا كَانَ مِنْ خِطَابِي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ غَانِمٍ: أَمَّا هَذَا فَلَسْتُ أَفْعَلُهُ حَتَّى أُوقِفَكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا أَنْ يَنَالَكَ مِنِّي فِي الدُّنْيَا مَكْرُوهٌ أَوْ عُقُوبَة فَلَا.
[٩٧، ٩٨]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٩٧ إِلَى ٩٨]
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ
120
(٩٨)
الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ مُوَالِيًا لِلْمَعْطُوفِ هُوَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٦] فَلَمَّا أَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفَوِّضَ جَزَاءَهُمْ إِلَى رَبِّهِ أَمَرَهُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ حَيْلُولَةِ الشَّيَاطِينِ دُونَ الدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَيِ التَّعَوُّذُ مِنْ تَحْرِيكِ الشَّيْطَانِ دَاعِيَةَ الْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ فِي نفس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ الشَّياطِينِ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ:
تَصَرُّفَاتِهِمْ بِتَحْرِيكِ الْقُوَى الَّتِي فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ (أَيْ فِي غَيْرِ أُمُورِ التَّبْلِيغِ) مِثْلَ تَحْرِيكِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ كَمَا تَأَوَّلَ الْغَزَالِيُّ
فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ «وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ»
. وَيَكُونُ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ مُقْتَضِيًا تَكَفُّلَ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاسْتِجَابَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [الْبَقَرَة: ٢٨٦]، أَوْ يَكُونَ أَمْرُهُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ مُرَادًا بِهِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى السَّلَامَةِ مِنْهُمْ. قَالَ فِي «الشِّفَاءِ» : الْأُمَّةُ مُجْتَمِعَةٌ (أَيْ مُجَمَّعَةٌ) عَلَى عصمَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّيْطَانِ لَا فِي جِسْمِهِ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى، وَلَا عَلَى خَاطِرِهِ بِالْوَسَاوِسِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٣] بِأَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَلْجَأَ إِلَيْهِ بِطَلَبِ الْوِقَايَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَذَاهُمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نبيء عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَام: ١١٢] وَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [النَّاس: ١- ٦] فَيَكُونُ الْمُرَادُ: أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَوْ مِنْ
هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ مِنْهُمْ.
وَالْهَمْزُ حَقِيقَتُهُ: الضَّغْطُ بِالْيَدِ وَالطَّعْنُ بِالْإِصْبَعِ وَنَحْوُهُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى الْأَذَى بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [الْقَلَم: ١١] وَقَوْلُهُ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الْهمزَة: ١].
121
وَمَحْمَلُهُ هُنَا عِنْدِي عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الشَّيَاطِينِ.
وَهَمْزُ شَيَاطِينِ الْجِنِّ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا هَمْزُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ فَقَدْ كَانَ مِنْ أَذَى الْمُشْركين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْزِهِ وَالتَّغَامُزِ عَلَيْهِ وَالْكَيْدِ لَهُ.
وَمَعْنَى التَّعَوُّذِ مِنْ هَمْزِهِمْ: التَّعَوُّذُ مِنْ آثَارِ ذَلِكَ. فَإِنَّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَغْمِزُوا بَعْضَ سُفَهَائِهِمْ إِغْرَاءً لَهُمْ بِأَذَاهُ، كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ إِغْرَائِهِمْ مَنْ أَتَى بِسَلَا جَزُورٍ فَأَلْقَاهُ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ. وَهَذَا الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الشَّيَاطِينِ هُوَ الْأَلْيَقُ بِالْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩] كَمَا سَيَأْتِي.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ فَهُوَ تَعَوُّذٌ مِنْ قُرْبِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا اقْتَرَبُوا مِنْهُ لحقه أذاهم.
[٩٩، ١٠٠]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٩٩ إِلَى ١٠٠]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)
حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَقَدْ عَلِمْتَ مُفَادَهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَتَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَلَا تُفِيدُ أَنَّ مَضْمُونَ مَا قَبْلَهَا مُغَيًّا بِهَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَعْلِيقِ (حَتَّى) ب يَصِفُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩١].
وَالْوَجْهُ أَنَّ (حَتَّى) مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٥].
فَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى وَصْفِ مَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ عَذَابُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ هُنَا حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ وَصْفًا أُنُفًا لِعَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَهُوَ الَّذِي رَجَّحْنَا بِهِ أَنْ يَكُونَ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ الْعَذَابِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا لَا فِي الْآخِرَةِ.
فَإِنْ حَمَلْتَ الْعَذَابَ السَّابِقَ الذِّكْرِ عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ كَانَ ذَلِكَ إِجْمَالًا وَكَانَ قَوْلُهُ
122
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ إِلَى آخِرِهِ تَفْصِيلًا لَهُ.
وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ عَائِدَةٌ إِلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ السَّابِقَةُ مِنْ قَوْلِهِ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٢] إِلَى مَا هُنَا وَلَيْسَتْ عَايِدَةً إِلَى الشَّيَاطِينِ.
وَلِقَصْدِ إِدْمَاجِ التَّهْدِيدِ بِمَا سَيُشَاهِدُونَ مِنْ عَذَابٍ أُعِدَّ لَهُمْ فَيَنْدَمُونَ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِمْ.
وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي ارْجِعُونِ تَعْظِيمٌ لِلْمُخَاطَبِ. وَالْخِطَابُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ، وَهُوَ يَلْزَمُ صِيغَةَ التَّذْكِيرِ فَيُقَالُ فِي خِطَابِ الْمَرْأَةِ إِذَا قُصِدَ تَعْظِيمُهَا:
أَنْتُمْ. وَلَا يُقَالُ: أَنْتُنَّ. قَالَ الْعَرَجِيُّ:
فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدَا
فَقَالَ: سِوَاكُمْ، وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ عُلْبَةَ الْحَارِثِيُّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:
فَلَا تَحْسَبِي أَنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكُمْ لِشَيْءٍ وَلَا أَنِّي مِنَ الْمَوْتِ أَفْرَقُ
فَقَالَ: بَعْدَكُمْ، وَقَدْ حَصَلَ لِي هَذَا بِاسْتِقْرَاءِ كَلَامِهِمْ وَلَمْ أَرَ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ التَّرَجِّي فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِمَضْمُونِ ارْجِعُونِ.
وَالتَّرْكُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَهُوَ مَعْنَى التَّخْلِيَةِ وَالْمُفَارَقَةِ. وَمَا صدق فِيما تَرَكْتُ عَالَمُ الدُّنْيَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّرْكِ مَعْنَاهُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ وَالرَّفْضُ، عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا صَدَقَ الْمَوْصُولُ الْأَيْمَانَ بِاللَّهِ وَتَصْدِيقَ رَسُولِهِ، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي رَفَضَهُ كُلُّ مَنْ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ، فَالْمَعْنَى: لَعَلِّي أُسْلِمُ وَأَعْمَلُ صَالِحًا فِي حَالَةِ إِسْلَامِي الَّذِي كُنْتُ رَفَضْتُهُ، فَاشْتَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى وَعْدٍ بِالِامْتِثَالِ وَاعْتِرَافٍ بِالْخَطَأِ فِيمَا سَلَفَ. وَرُكِّبَ بِهَذَا النَّظْمِ الْمُوجَزِ قَضَاءً لِحَقِّ الْبَلَاغَةِ.
وكَلَّا رَدْعٌ لِلسَّامِعِ لِيَعْلَمَ إِبْطَالَ طِلْبَةِ الْكَافِرِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها تَرْكِيبٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ وَهُوَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ.
وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ: أَنَّ قَوْلَ الْمُشْرِكِ رَبِّ ارْجِعُونِ إِلَخْ لَا يَتَجَاوَزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا صَدَرَ مِنْ لِسَانِهِ لَا جَدْوَى لَهُ فِيهِ، أَيْ لَا يُسْتَجَابُ طَلَبُهُ بِهِ.
123
فَجُمْلَةُ هُوَ قائِلُها وَصْفٌ لِ كَلِمَةٌ، أَيْ هِيَ كَلِمَةٌ هَذَا وَصْفُهَا. وَإِذْ كَانَ مِنَ الْمُحَقَّقِ أَنَّهُ قَائِلُهَا لَمْ يَكُنْ فِي وَصْفِ كَلِمَةٌ بِهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى أَنَّهُ لَا وَصْفَ لِكَلِمَتِهِ غَيْرُ كَوْنِهَا صَدَرَتْ مِنْ فِي صَاحِبِهَا.
وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُعْمِلَ لَهُ الْوَصْفُ.
وَالْكَلِمَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَلَامِ
كَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ
لَبِيدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ»

وَكَمَا فِي قَوْلِهِمْ: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ وَكَلِمَةُ الْإِسْلَامِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٧٤].
وَالْوَرَاءُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يُصِيبُ الْمَرْءَ لَا مَحَالَةَ وَيَنَالُهُ وَهُوَ لَا يَظُنُّهُ يُصِيبُهُ.
شُبِّهَ ذَلِكَ بِالَّذِي يُرِيدُ اللِّحَاقَ بِالسَّائِرِ فَهُوَ لَاحِقُهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج: ٢٠] وَقَوْلِهِ ومِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية: ١٠] وَقَوْلِهِ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [إِبْرَاهِيم: ١٧]. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف:
٧٩].
وَقَالَ لَبِيدٌ:
أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي لُزُومُ الْعَصَا تُحْنِي عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ
وَالْبَرْزَخُ: الْحَاجِزُ بَيْنَ مَكَانَيْنِ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقَبْرُ، وَقِيلَ: هُوَ بَقَاءُ مُدَّةِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: هُوَ عَالَمٌ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَسْتَقِرُّ فِيهِ الْأَرْوَاحُ فَتُكَاشَفُ عَلَى مَقَرِّهَا الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الصُّوفِيَّةُ. وَقَالَ السَّيِّدُ فِي «التَّعْرِيفَاتِ» : الْبَرْزَخُ الْعَالَمُ الْمَشْهُودُ بَيْنَ عَالَمِ الْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةِ وَعَالَمِ الْأَجْسَامِ الْمَادِّيَّةِ، أَعْنِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ عَالم الْمِثَال اهـ، أَيْ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ الْقُدَمَاءِ.
وَمَعْنَى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أَنَّهُمْ غَيْرُ رَاجِعِينَ إِلَى الْحَيَاةِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ. فَهِيَ إِقْنَاطٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ الَّذِي وُعِدُوهُ لَا رُجُوعَ بَعْدَهُ
124
إِلَى الدُّنْيَا فَالَّذِي قَالَ لَهُمْ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ هُوَ الَّذِي أَعْلَمَهُمْ بِمَا هُوَ الْبَعْث.
[١٠١- ١٠٤]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ١٠١ إِلَى ١٠٤]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠] فَإِنَّ زَمَنَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ هُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ فَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ يَبْعَثُونَ، وَلَكِنْ عُدِلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ تَصْوِيرٌ لِحَالَةِ يَوْمِ الْبَعْثِ.
وَالصُّورُ: الْبُوقُ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ النَّافِخُ لِلتَّجَمُّعِ وَالنَّفِيرِ، وَهُوَ مِمَّا يُنَادَى بِهِ لِلْحَرْبِ وَيُنَادَى بِهِ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ الْيَهُودِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْأَذَانِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ». وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الصُّورِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٣].
وَأُسْنِدَ نُفِخَ إِلَى الْمَجْهُول لِأَنَّ الْمُعْتَنَى بِهِ هُوَ حُدُوثُ النَّفْخِ لَا تَعْيِينُ النَّافِخِ. وَإِنَّمَا يُنْفَخُ فِيهِ بِأَمْرِ تَكْوِينٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَنْفُخُ فِيهِ أَحَدُ الْمَلَائِكَةِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ الْمَلَكُ إِسْرَافِيلُ.
وَالْمَقْصُودُ التَّفْرِيعُ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّهُ مَنَاطُ بَيَانِ الرَّدِّ عَلَى قَوْلِ قَائِلِهِمْ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩، ١٠٠] الْمَرْدُودِ إِجْمَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠] فَقُدِّمَ عَلَيْهِ مَا هُوَ كَالتَّمْهِيدِ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ إِلَى آخِرِهِ مُبَادَرَةً بِتَأْيِيسِهِمْ مِنْ أَنْ تَنْفَعَهُمْ أَنْسَابُهُمْ أَوِ اسْتِنْجَادُهُمْ.
125
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جَوَابَ (إِذَا) هُوَ قَوْلُهُ الْآتِي قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٢] كَمَا سَيَأْتِي وَمَا بَيْنَهُمَا كُلُّهُ اعْتِرَاضٌ نَشَأَ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ.
وَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ قَبْلَهُ وَهِيَ عَائِدَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَمَعْنَى نَفْيِ الْأَنْسَابِ نَفْيُ آثَارِهَا مِنَ النَّجْدَةِ وَالنَّصْرِ وَالشَّفَاعَةِ لِأَنَّ تِلْكَ فِي عُرْفِهِمْ مِنْ لَوَازِمِ الْقَرَابَةِ. فَقَوْلُهُ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ النَّصِيرِ.
وَالتَّسَاؤُلُ: سُؤَالُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَالْمَعْنِيُّ بِهِ التَّسَاؤُلُ الْمُنَاسِبُ لِحُلُولِ يَوْمِ الْهَوْلِ، وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا الْمَعُونَةَ وَالنَّجْدَةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج: ١٠].
وَأَمَّا إِثْبَاتُ التَّسَاؤُلِ يَوْمَئِذٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الصافات: ٢٧- ٣٣] فَذَلِك بَعُدَ يَأْسُهُمْ مِنْ وُجُودِ نَصِيرٍ أَوْ شَفِيعٍ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ رَجُلًا (هُوَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ الْخَارِجِيُّ) قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ قَالَ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ وَقَالَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى
بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ
[الصافات: ٢٧] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا قَوْلُهُ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ فَهُوَ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ اهـ. يُرِيدُ اخْتِلَافَ الزَّمَانِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قُلْنَاهُ.
وَذُكِرَ مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَتَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَجِدُونَ فِي مَوَازِينِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ شَيْئًا، قَالَ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفرْقَان: ٢٣]. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ
126
وَالْخَسَارَةُ: نُقْصَانُ مَالِ التِّجَارَةِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢]، وَقَوْلِهِ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَعْرَافِ [٩]. وَهِيَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ خَيْبَتِهِمْ فِيمَا كَانُوا يَأْمَلُونَهُ مِنْ شَفَاعَةِ أَصْنَامِهِمْ وَأَنَّ لَهُمُ النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ أَوْ مِنْ أَنَّهُمْ غَيْرُ صَائِرِينَ إِلَى الْبَعْثِ، فَكَذَّبُوا بِمَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَعَدُّوا لِأَنْفُسِهِمُ الْخَيْرَ فَوَجَدُوا ضِدَّهُ فَكَانَتْ نُفُوسُهُمْ مَخْسُورَةً كَأَنَّهَا تَلِفَتْ مِنْهُمْ. وَلِذَلِكَ نُصِبَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِ خَسِرُوا. وَاسْمَا الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ الْفَرِيقَيْنِ بِصِفَاتِهِمْ.
وَجُمْلَةُ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَمَعْنَى تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ تَحْرِقُ. وَاللَّفْحُ: شِدَّةُ إِصَابَةِ النَّارِ.
وَالْكَالِحُ: الَّذِي بِهِ الْكُلُوحُ وَهُوَ تَقَلُّصُ الشَّفَتَيْنِ وَظُهُورُ الْأَسْنَانِ مِنْ أَثَرِ تَقَطُّبِ أَعْصَابِ الْوَجْهِ عِنْدَ شدَّة الْأَلَم.
[١٠٥- ١٠٧]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ١٠٥ إِلَى ١٠٧]
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧)
جُمْلَةُ أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ. وَهَذَا تَعَرُّضٌ لِبَعْضِ مَا يَجْرِي يَوْمَئِذٍ. وَالْآيَاتُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تُتْلى عَلَيْكُمْ وَقَوْلِهِ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ حَمْلًا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ.
وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي الْبَقَرَةِ [١٠٢]، وَقَوْلِهِ: إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً فِي سُورَةِ
الْأَنْفَالِ [٢]. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ.
وَالْغَلْبُ حَقِيقَتُهُ: الِاسْتِيلَاءُ وَالْقَهْرُ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى التَّلَبُّسِ بِالشِّقْوَةِ دُونَ التَّلَبُّسِ بِالسَّعَادَةِ. وَمَفْعُولُ غَلَبَتْ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ شِقْوَتُنا لِأَنَّ الشِّقْوَةَ
تُقَابِلُهَا السَّعَادَةُ، أَيْ غَلَبَتْ شِقْوَتُنَا السَّعَادَةَ. وَالْمَجْرُورُ بِ (عَلَى) بَعْدَ مَادَّةِ الْغَلْبِ هُوَ الشَّيْءُ الْمُتَغَالَبُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «قَالَ النِّسَاءُ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ». مُثِّلَتْ حَالَةُ اخْتِيَارِهِمْ لِأَسْبَابِ الشِّقْوَةِ بَدَلَ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ بِحَالَةٍ غَائِرَةٍ بَيْنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ عَلَى نُفُوسِهِمْ. وَإِضَافَةُ الشِّقْوَةِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِاخْتِصَاصِهَا بِهِمْ حِينَ صَارَتْ غَالِبَةً عَلَيْهِمْ.
وَالشِّقْوَةُ بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَهِيَ زِنَةُ الْهَيْئَةِ مِنَ الشَّقَاءِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ شَقَاوَتُنَا بِفَتْحِ الشِّينِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْقَافِ وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى صِيغَةِ الْفَعَالَةِ مِثْلَ الْجَزَالَةِ وَالسَّذَاجَةِ. وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ قَوْماً عَلَى أَنَّ الضَّلَالَةَ مِنْ شِيمَتِهِمْ وَبِهَا قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] وَعِنْدَ قَوْلِهِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آخِرِ سُورَةِ يُونُسَ [١٠١].
وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِنْ أُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ رَجَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَالْتَزَمُوا لِلَّهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَعُودُونَ إِلَى الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ عُدْنا لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ إِذْ كَانَ إِلْقَاؤُهُمْ فِي النَّارِ لِأَجْلِ الْإِشْرَاكِ وَالتَّكْذِيبِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ.
وَالظُّلْمُ فِي فَإِنَّا ظالِمُونَ هُوَ تَجَاوُزُ الْعَدْلِ، وَالْمُرَادُ ظُلْمٌ آخَرُ بَعْدَ ظُلْمِهِمُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي يَنْقَطِعُ عِنْدَهُ سُؤال الْعَفو.
[١٠٨- ١١١]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ١٠٨ إِلَى ١١١]
قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ
128
(١١١)
(اخْسَئُوا) زَجْرٌ وَشَتْمٌ بِأَنَّهُمْ خَاسِئُونَ، وَمَعْنَاهُ عَدَمُ اسْتِجَابَةِ طَلَبِهِمْ. وَفِعْلُ خَسَأَ مِنْ بَابِ مَنَعَ وَمَعْنَاهُ ذَلَّ. وَنُهُوا عَنْ خِطَابِ اللَّهِ وَالْمَقْصُودُ تَأَيِيسُهُمْ مِنَ النَّجَاةِ مِمَّا هُمْ فِيهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ مِنْهُ إِغَاظَتُهُمْ بِمُقَابَلَةِ حَالِهِمْ يَوْمَ الْعَذَابِ بِحَالِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَتَحْسِيرُهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يُعَامِلُونَ بِهِ
الْمُسْلِمِينَ.
وَالْإِخْبَارُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي إِلَى قَوْلِهِ: سِخْرِيًّا مُسْتَعْمَلٌ فِي كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ عَالِمًا بِمَضْمُونِ الْخَبَرِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ يَعْلَمُ أَحْوَالَ نَفْسِهِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) وَضَمِيرِ الشَّأْنِ لِلتَّعْجِيلِ بِإِرْهَابِهِمْ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ خَبَرُ (إِنَّ) الْأُولَى لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٣٠].
وَالسُّخْرِيُّ بِضَمِّ السِّينِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَخَلَفٍ، وَبِكَسْرِ السِّينِ فِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ، وَهُمَا وَجْهَانِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْمَكْسُورَ مَأْخُوذًا مِنْ سَخِرَ بِمَعْنَى هَزَأَ، وَالْمَضْمُومُ مَأْخُوذًا مِنَ السُّخْرَةِ بِضَمِّ السِّينِ وَهِيَ الِاسْتِخْدَامُ بِلَا أَجْرِ. فَلَمَّا قُصِدَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي حُصُولِ الْمَصْدَرِ أُدْخِلَتْ يَاءُ النِّسْبَةِ كَمَا يُقَالُ: الْخُصُوصِيَّةُ لِمَصْدَرِ الْخُصُوصِ.
وَسُلِّطَ الِاتِّخَاذُ عَلَى الْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا يُوصَفُ بِالْمَصْدَرِ. وَالْمَعْنَى: اتَّخَذْتُمُوهُمْ مَسْخُورًا بِهِمْ، فَنَصَبَ سِخْرِيًّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَان ل فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَمَعْنَى (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةِ مَعْنَى فَاءِ السَّبَبِيَّةِ فَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. شُبِّهَ التَّسَبُّبُ الْقَوِيُّ بِالْغَايَةِ فَاسْتُعْمِلَتْ فِيهِ (حَتَّى). وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَهَوْتُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ، لِأَنَّهُمْ سَخِرُوا مِنْهُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فَقَدْ سَخِرُوا مِنَ الدِّينِ الَّذِي كَانَ اتِّبَاعُهُمْ إِيَّاهُ سَبَبَ السُّخْرِيَةِ بِهِمْ فَكَيْفَ
129
يُرْجَى مِنْ هَؤُلَاءِ التَّذَكُّرُ بِذَلِكَ الذِّكْرِ وَهُوَ مِنْ دَوَاعِي السُّخْرِيَةِ بِأَهْلِهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فِعْلِ (سَخِرَ) عِنْدَ قَوْلِهِ: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠] وَقَوْلِهِ: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٧٩].
فَإِسْنَادُ الْإِنْسَاءِ إِلَى الْفَرِيقِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُمْ سَبَبُهُ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ بِتَقْدِيرِ:
حَتَّى أَنْسَاكُمُ السُّخْرِيُّ بِهِمْ ذِكْرِي. وَالْقَرِينَةُ عَلَى الْأَوَّلِ مَعْنَوِيَّةٌ وَعَلَى الثَّانِي لَفْظِيَّةٌ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ وَالتَّأْكِيدِ، أَيْ جَزَيْتُهُمْ بِأَنَّهُمْ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) عَلَى التَّأْكِيدِ فَقَطْ فَتَكُونُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِلْجَزَاءِ.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ هُمُ الْفَائِزُونَ لَا أَنْتُمْ.
وَقَوْلُهُ: بِما صَبَرُوا إِدْمَاجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالصَّبْرِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ سُخْرِيَّتَهُمْ بِهِمْ كَانَتْ سَبَبًا فِي صَبْرِهِمُ الَّذِي أَكْسَبَهُمُ الْجَزَاءَ. وَفِي ذَلِكَ زِيَادَةُ تَلْهِيفٍ لِلْمُخَاطَبِينَ بِأَنْ كَانُوا هُمُ السَّبَبُ فِي ضُرِّ أَنْفُسِهِمْ وَنَفْعِ مَنْ كَانُوا يعدّونهم أعداءهم.
[١١٢- ١١٤]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ١١٢ إِلَى ١١٤]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقَعُ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ وَحَيَاةِ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ جَوَابَ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠١]. وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ اللَّهُ لَهُمْ إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ. كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضَاتٌ نَشَأَتْ بِالتَّفْرِيعِ وَالْعَطْفِ وَالْحَالِ وَالْمُقَاوَلَاتِ الْعَارِضَةِ فِي خِلَالِ ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتَهُ
130
مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيِ. وَلَيْسَ مِنَ الْمُنَاسِبِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ حَاصِلًا بَعْدَ دُخُولِ الْكَافِرِينَ النَّارَ، وَالْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى ذَلِكَ تَكَلَّفُوا مَا لَا يُنَاسِبُ انْتِظَامَ الْمَعَانِي.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قُلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. وَالْخِطَابُ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِإِحْيَاءِ الْأَمْوَات.
وَجُمْلَة: فَسْئَلِ الْعادِّينَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَرَدُّدِهِمْ فِي تَقْدِيرِ مُدَّةِ لَبْثِهِمْ فِي الْأَرْضِ. وَأَرَى فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ جَاءُوا فِي كَلَامِهِمْ بِمَا كَانَ مُعْتَادُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَدَمِ ضَبْطِ حِسَابِ السِّنِينَ إِذْ كَانَ عِلْمُ مُوَافَقَةِ السِّنِينَ الْقَمَرِيَّةِ لِلسِّنِينَ الشَّمْسِيَّةِ تَقُومُ بِهِ بَنُو كِنَانَةَ الَّذِينَ بِيَدِهِمُ النَّسِيءُ وَيُلَقَّبُونَ بِالنَّسَأَةِ، قَالَ الْكِنَانِيُّ:
وَنَحْنُ النَّاسِئُونَ عَلَى مَعَدٍّ شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا
وَالْمُفَسِّرُونَ جَعَلُوا الْمُرَادَ مِنَ الْعَادِّينَ الْمَلَائِكَةَ أَوِ النَّاسَ الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ حِسَابَ مُدَّةِ الْمُكْثِ. وَلَكِنَّ الْقُرْطُبِيَّ قَالَ: أَيْ سَلِ الْحُسَّابَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَسِينَاهُ.
وَقَوْلُهُ: قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا قَرَأَهُ الْجُمْهُور كَمَا قرأوا الَّذِي قَبْلَهُ فَهُوَ حِكَايَةٌ لِلْمُحَاوَرَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطَفْ فِعْلُ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا وَهِيَ طَرِيقَةُ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠]. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ كَالَّذِي قَبْلَهُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ عَدَدِ سَنَوَاتِ الْمُكْثِ فِي الْأَرْضِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ لِيَظْهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِذَا دُفِنُوا فِي الْأَرْضِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا.
وَانْتُصِبَ عَدَدَ سِنِينَ عَلَى التَّمْيِيزِ لِ كَمْ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَالتَّمْيِيزُ إِنَّمَا هُوَ سِنِينَ.
وَإِضَافَةُ لَفْظِ عَدَدَ إِلَيْهِ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ (كَمْ) لِأَنَّ (كَمْ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْعَدَدِ فَذِكْرُ لَفْظِ عَدَدَ مَعَهَا تَأْكِيدٌ لِبَعْضِ مَدْلُولِهَا.
131
وَجَوَابُهُمْ يَقْتَضِي أَنهم تحققوا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَذَكَّرُوا طُولَ مُدَّةِ مُكْثِهِمْ عَلَى تَفَاوُتٍ فِيهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَنَّهُمْ قَدَّرُوا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ بِنَحْوِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْهُودَةِ لَدَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ [٥٥] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ.
وَلَمْ يَعُرِّجِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى تَبْيِينِ الْمَقْصِدِ مِنْ سُؤَالِهِمْ وَإِجَابَتِهِمْ عَنْهُ وَتَعْقِيبِهِ بِمَا يُقَرِّرُهُ فِي الظَّاهِرِ. وَالَّذِي لَاحَ لِي فِي ذَلِكَ أَنَّ إِيقَافَهُمْ عَلَى ضَلَالِ اعْتِقَادِهِمُ الْمَاضِي جِيءَ بِهِ فِي قَالَبِ السُّؤَالِ عَنْ مُدَّةِ مُكْثِهِمْ فِي الْأَرْضِ كِنَايَةً عَنْ ثُبُوتِ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ أَحْيَاءً وَهُوَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ، وَكِنَايَةً عَنْ خَطَأِ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى إِبْطَالِ الْبَعْثِ بِاسْتِحَالَةِ رُجُوعِ الْحَيَاةِ إِلَى عِظَامٍ وَرُفَاتٍ. وَهِيَ حَالَةٌ لَا تَقْتَضِي مُدَّةَ قَرْنٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ وَقَدْ أُعِيدَتْ إِلَيْهِمْ الْحَيَاةِ بَعْدَ أَنْ بَقَوْا قُرُونًا كَثِيرَةً، فَذَلِكَ أَدَلُّ وَأُظْهَرُ فِي سِعَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَدْخَلُ فِي إِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهَا فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا قَدَّرُوهُ مِنْ عِلَّةِ اسْتِحَالَةِ عَوْدِ الْحَيَاةِ إِلَيْهِمْ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] وَقَدْ أَلْجَأَهُمُ اللَّهُ إِلَى إِظْهَارِ اعْتِقَادِهِمْ قِصَرَ الْمُدَّةِ الَّتِي بَقَوْهَا زِيَادَةً فِي تَشْوِيه خطإهم فَإِنَّهُمْ لمّا أحسوا من أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ صَارُوا أَحْيَاءً كَحَيَاتِهِمُ الْأُولَى وَعَادَ لَهُمْ تَفْكِيرُهُمُ الْقَدِيمُ الَّذِي مَاتُوا عَلَيْهِ، وَكَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُمْ إِذَا فَنِيَتْ أَجْسَادُهُمْ لَا تَعُودُ إِلَيْهِمُ الْحَيَاةُ أَوْهَمَهُمْ كَمَالُ أَجْسَادِهِمْ أَنَّهُمْ مَا مَكَثُوا فِي الْأَرْضِ إِلَّا زَمَنًا يَسِيرًا لَا يَتَغَيَّرُ فِي مِثْلِهِ الْهَيْكَلُ الْجُثْمَانِيُّ فَبَنَوْا عَلَى أَصْلِ شُبْهَتِهِمُ الْخَاطِئَةِ خَطَأً آخَرَ.
وَأما قَوْلهم: فَسْئَلِ الْعادِّينَ فَهُوَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَضْبُطُوا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فَأَحَالُوا السَّائِلَ عَلَى مَنْ يَضْبُطُ ذَلِكَ مِنَ الَّذِينَ يَظُنُّونَهُمْ لَمْ يَزَالُوا أَحْيَاءً لِأَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنَّهُمْ بُعِثُوا وَالدُّنْيَا بَاقِيَةٌ وَحَسِبُوا أَنَّ السُّؤَالَ على ظَاهره فتبرأوا مِنْ عُهْدَةِ عَدَمِ ضَبْطِ الْجَوَابِ.
132
وَأَمَّا رَدُّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا فَهُوَ يُؤْذِنُ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ عَلَى طَرِيقَةِ
دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ لَبِثُوا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بِكَثِيرٍ فَكَيْفَ يُجْعَلُ قَلِيلًا، فَتعين أَن قَوْله: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِكَلَامِهِمْ إِلَّا بِتَقْدِيرِ: قَالَ بَلْ لَبِثْتُمْ قُرُونًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ [الْبَقَرَة: ٢٥٩]. وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: قَالَ بَلْ لَبِثْتُمْ قُرُونًا، وَإِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الْحَج: ٤٧].
وَقَرِينَةُ ذَلِكَ مَا تُفِيدُهُ (لَوْ) مِنَ الِامْتِنَاعِ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَعَلِمْتُمْ أَنَّكُمْ مَا لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا، فَيَقْتَضِي الِامْتِنَاعُ أَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَبِثُوا قَلِيلًا مَعَ أَنَّ صَرِيحَ جَوَابِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ عَلِمُوا لَبْثًا قَلِيلًا، فَالْجَمْعُ بَيْنَ تَعَارُضِ مُقْتَضَى جَوَابِهِمْ وَمُقْتَضَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِاخْتِلَافِ النِّسْبَةِ فِي قِلَّةِ مُدَّةِ الْمُكْثِ إِذَا نُسِبَتْ إِلَى مَا يُرَاعَى فِيهَا، فَهِيَ إِذَا نُسِبَتْ إِلَى شُبْهَتِهِمْ فِي إِحَالَةِ الْبَعْثِ كَانَتْ طَوِيلَةً وَقَدْ وَقَعَ الْبَعْثُ بَعْدَهَا فَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُمْ، وَهِيَ إِذَا نُسِبَتْ إِلَى مَا يَتَرَقَّبُهُمْ مِنْ مُدَّةِ الْعَذَابِ كَانَتْ مُدَّةً قَلِيلَةً وَهَذَا إرهاب لَهُم.
[١١٥]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ١١٥]
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥)
هَذَا مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ المحكي فِي قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٢] مُفَرَّعٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. فُرِّعَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ حُسْبَانِهِمْ أَنَّ الْخَلْقَ لِأَجْلِ الْعَبَثِ عَلَى إِظْهَارِ بُطْلَانِ مَا زَعَمُوهُ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ لِأَنَّ لَازِمَ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ النَّاسِ مُشْتَمِلًا عَلَى عَبَثٍ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ حَسِبَ ذَلِكَ فَقَرَّرُوا وَوَبَّخُوا أَخْذًا لَهُمْ بِلَازِمِ اعْتِقَادِهِمْ.
وَأُدْخِلَتْ أَدَاةُ الْحَصْرِ بَعْدَ (حَسِبَ) فَجَعَلَتِ الْفِعْلَ غَيْرَ نَاصِبٍ إِلَّا مَفْعُولًا وَاحِدًا وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمُسْتَخْلَصُ مِنْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ
133
وَالتَّقْدِيرُ: أَفَحَسِبْتُمْ خَلْقَنَا أَيَّاكُمْ لِأَجْلِ الْعَبَثِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَفْعَالَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ نَصَبَتْ مَفْعُولَيْنِ غَالِبًا لِأَنَّ أَصْلَ مَفْعُولَيْهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَيِ اسْمُ ذَاتٍ وَاسْمُ صِفَةٍ فَاحْتِيَاجُهَا إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي مِنْ بَابِ احْتِيَاجِ الْمُبْتَدَأِ إِلَى الْخَبَرِ لِئَلَّا تَنْعَدِمَ الْفَائِدَةُ فِي الْمُبْتَدَأِ مُجَرَّدًا عَنْ خَبَرِهِ، وَبِذَلِكَ فَارَقَتْ بَقِيَّةَ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ بِاحْتِيَاجِهَا إِلَى مَنْصُوبَيْنِ لِأَنَّ مَعْنَاهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ فَقَوْلِكَ: ظَنَنْتُ زَيْدًا قَائِمًا، إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ: ظَنَنْتُ قِيَامَ زَيْدٍ، فَمَفْعُولُهَا هُوَ الْمَصْدَرُ وَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ
مُبْتَدَئِهِ كَمَا قَالَ الرَّضِيُّ: يَعْنِي أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلُوهَا بِمَفْعُولَيْنِ كَرَاهِيَةً لِجَعْلِ الْمَصْدَرِ مَفْعُولًا بِهِ كَأَنَّهُمْ تَجَنَّبُوا اللَّبْسَ بَيْنَ الْمَفْعُولِ بِهِ وَالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَهَذَا كَمَا اسْتَعْمَلُوا أَفْعَالَ الْكَوْنِ مُسْنَدَةً إِلَى اسْمِ الذَّوَاتِ ثُمَّ أَتَوْا بَعْدَ اسْمِ الذَّاتِ بِاسْمِ وَصْفِهَا وَلَمْ يَأْتُوا بِاسْمِ الْوَصْفِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلِذَلِكَ إِذَا أَوْقَعُوا بَعْدَهَا حَرْفَ الْمَصْدَرِ اكْتَفَوْا بِهِ عَنِ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ نَصَبُوا بِهَا مَصْدَرًا صَرِيحًا. فَإِذَا وَقَعَ مَفْعُولُ أَفْعَالِ الظَّنِّ اسْمَ مَعْنًى وَهُوَ الْمَصْدَرُ الصَّرِيحُ أَوِ الْمُنْسَبِكُ وَحَذَفَ الْفَائِدَةَ فَاجْتَزَأَتْ بِالْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة: ٢٠].
وَحَيْثُ كَانَتْ (أَنَّمَا) مُرَكَّبَةً مِنْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ وَمِنْ (مَا) الْكَافَّةِ فَوُقُوعُهَا بَعْدَ فِعْلِ الْحِسَابِ بِمَنْزِلَةِ وُقُوعِ الْمَصْدَرِ، وَلَوْلَا (أَنَّ) لَكَانَ الْكَلَامُ: أَحَسِبْتُمُونَا خَالِقِينَكُمْ عَبَثًا.
وَانْتَصَبَ عَبَثاً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضمير الْجَلالَة مؤولا بِاسْمِ الْفَاعِلِ. وَالْعَبَثُ:
الْعَمَلُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَكُلَّمَا تَضَاءَلَتِ الْفَائِدَةُ كَانَ لَهَا حُكْمُ الْعَدَمِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلْقُ الْبَشَرِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ مُجَازَاةُ الْفَاعِلِينَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ لَكَانَ خَالِقُهُ قَدْ أَتَى فِي فِعْلِهِ بِشَيْءٍ عَدِيمِ الْفَائِدَةِ فَكَانَ فِيهِ حَظٌّ مِنَ الْعَبَثِ.
وَبَيَانُ كَوْنِهِ عَبَثًا أَنَّهُ لَوْ خُلِقَ الْخَلْقُ فَأَحْسَنَ الْمُحْسِنُ وَأَسَاءَ الْمُسِيءُ وَلَمْ يَلْقَ كُلٌّ جَزَاءَهُ لَكَانَ ذَلِكَ إِضَاعَةً لِحَقِّ الْمُحْسِنِ وَإِغْضَاءً عَمَّا حَصَلَ مِنْ فَسَادِ الْمُسِيءِ فَكَانَ ذَلِكَ تَسْلِيطًا لِلْعَبَثِ. وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَالِ أَنْ يَكُونَ عَامِلُهَا غَيْرَ مُفَارِقٍ لِمَدْلُولِهَا بَلْ يَكْفِي حُصُولُ مَعْنَاهَا فِي بَعْضِ أَكْوَانِ عَامِلِهَا.
134
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فَهُمْ قَدْ حَسِبُوا ذَلِكَ حَقِيقَةً بِلَا تَنْزِيلٍ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِنْكَارِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُرْجَعُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُرْجِعُهُمْ قَهْرًا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ يَرْجِعُونَ طَوْعًا أَو كرها.
[١١٦]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ١١٦]
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
تَفَرَّعَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ ظُهُورُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَلِكُ الَّذِي لَيْسَ فِي اتِّصَافِهِ بِالْمُلْكِ شَائِبَةٌ مِنْ مَعْنَى الْمُلْكِ. فَمُلْكُهُ الْمُلْكُ الْكَامِلُ فِي حَقِيقَتِهِ. الشَّامِلُ فِي نَفَاذِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَلِكُ لِلْجِنْسِ.
وَالْحَقُّ: مَا قَابَلَ الْبَاطِلَ، وَمَفْهُومُ الصِّفَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مُلْكَ غَيْرِهِ بَاطِلٌ، أَيْ فِيهِ شَائِبَةُ الْبَاطِلِ لَا مِنْ جِهَة الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مُلْكٌ لَا جَوْرَ فِيهِ وَلَا ظُلْمٌ كَمُلْكِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُلْكٌ غَيْرُ مُسْتَكْمِلٍ حَقِيقَةَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمُلْكُ عَدَا اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَالِكٌ مِنْ جِهَةٍ وَمَمْلُوكٌ مِنْ جِهَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْصٍ وَاحْتِيَاجٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِمَا يَتَطَلَّبُهُ مِنْ تَسْدِيدِ نَقْصِهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَمِنَ اسْتِعَانَةٍ بِالْغَيْرِ لِجَبْرِ احْتِيَاجِهِ فَذَلِكَ مُلْكٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ادِّعَاءُ مُلْكٍ غَيْرِ تَامّ.
وَجُمْلَة: فَتَعالَى يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا قُصِدَ مِنْهُ التَّذْكِيرُ وَالِاسْتِنْتَاجُ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَعْنَى تَعَالِيهِ وَأَنْ تَكُونَ إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَيْهِ بِالْعُلُوِّ.
وَالتَّعَالِي: مُبَالَغَةٌ فِي الْعُلُوِّ. وَأُتْبِعَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَهُوَ انْفِرَادُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَذَلِكَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ، وَبِأَنَّهُ مَالِكُ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْنِي الْعَرْشَ وَذَلِكَ دَلِيلُ عَظَمَةِ الْقُدْرَةِ.
وَ (الْكَرِيمِ) بِالْجَرِّ صِفَةُ الْعَرْشِ. وَكَرَمُ الْجِنْسِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيًا فَضَائِلَ جِنْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَة النَّمْل [٢٩].
[١١٧]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ١١٧]
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧)
لَمَّا كَانَ أَعْظَمُ مَا دَعَا اللَّهُ إِلَيْهِ تَوْحِيدَهُ وَكَانَ أصل ضلال الْمُشْرِكِينَ إِشْرَاكَهُمْ أُعْقِبَ وَصْفُ اللَّهِ بِالْعُلُوِّ الْعَظِيمِ وَالْقُدْرَةِ الْوَاسِعَةِ بِبَيَانِ أَنَّ الْحِسَابَ الْوَاقِعَ بَعْدَ الْبَعْثِ يَنَالُ الَّذِينَ دَعَوْا مَعَ اللَّهِ آلِهَةً دَعْوَى لَا عُذْرَ لَهُمْ فِيهَا لِأَنَّهَا عَرِيَّةٌ عَنِ الْبُرْهَانِ أَيِ الدَّلِيلِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ الْمُلْكَ الْكَامِلَ إِذْ أَشْرَكُوا مَعَهُ آلِهَةً وَلَمْ يُثْبِتُوا مَا يَقْتَضِي لَهُ عَظِيمَ التَّصَرُّفِ إِذْ أَشْرَكُوا مَعَهُ تَصَرُّفَ آلِهَةٍ. فَقَوْلُهُ: لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ حَالٌ مِنْ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ لِأَنَّ دَعْوَى الْإِلَهِ مَعَ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا عَرِيَّةً عَنِ الْبُرْهَانِ وَنَظِيرُ هَذَا الْحَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص: ٥٠].
وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ. وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْحِسَابِ وَأَنَّهُ لله وَحده مُبَالغَة فِي تَخْطِئَتِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْرُ إِضَافِيًّا تطمينا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُهُ بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى
الْكُفْرِ كَقَوْلِهِ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: ٤٨] وَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣] وَهَذَا أسعد بقوله بعده وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٨].
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَذْيِيلُهُ بِجُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ. وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ إِذِ افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١] وَخُتِمَتْ بِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ وَهُوَ نَفْيُ الْفَلَاحِ عَنِ الْكَافِرِينَ ضد الْمُؤمنِينَ.
[١١٨]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ١١٨]
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ
136
(١١٨)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٧] إِلَخْ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ:
فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجُمْلَةِ خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَفِي حَذْفِ مُتَعَلِّقِ اغْفِرْ وَارْحَمْ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى اللَّهِ فِي تَعْيِينِ الْمَغْفُورِ لَهُمْ وَالْمَرْحُومِينَ، وَالْمُرَادُ مَنْ كَانُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ.
وَأَمْرُهُ بِأَنْ يَدْعُوَ بِذَلِكَ يَتَضَمَّنُ وَعْدًا بِالْإِجَابَةِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ مُؤْذِنٌ بِانْتِهَاءِ السُّورَةِ فَهُوَ مِنْ بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ.
137

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٢٤- سُورَةُ النُّورِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ «سُورَةَ النُّورِ» مِنْ عهد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «عَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ»
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى إِسْنَادِهِ. وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرَ: «كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ تَعَلَّمُوا سُورَةَ النِّسَاءِ وَالْأَحْزَابِ وَالنُّورِ». وَهَذِهِ تَسْمِيَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ آخَرُ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّ فِيهَا آيَةَ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّور: ٣٥].
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يُعْرَفُ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسَخِ «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النُّور: ٥٨] الْآيَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ كَلِمَةُ «وَهِيَ مَكِّيَّةٌ» يَعْنِي الْآيَةَ. فَنَسَبَ الْخَفَاجِيُّ فِي «حَاشِيَتِهِ» عَلَى «تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ» وَتَبِعَهُ الْآلُوسِيُّ، إِلَى الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ مَعَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ «مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ». وَلَعَلَّ تَحْرِيفًا طَرَأَ عَلَى النُّسَخِ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ وَأَنَّ صَوَابَ الْكَلِمَةِ «وَهِيَ مُحْكَمَةٌ» أَيْ غَيْرُ مَنْسُوخٍ حُكْمُهَا فَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ «وَهِيَ مُحْكَمَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَرَكَهَا النَّاسُ». وَسَيَأْتِي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النُّور: ٣] الْآيَةَ قَضِيَّةُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ مَعَ عَنَاقَ.
وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ اسْتُشْهِدَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ لِلْهِجْرَةِ فِي غَزْوَةِ الرَّجِيعِ، فَيَكُونُ أَوَائِلُ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَ قَبْلَ سَنَةِ ثَلَاثٍ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ الْأُولَى أَوْ أَوَائِلِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَيَّامَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَلَاحَقُونَ لِلْهِجْرَةِ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ جَعَلُوهُمْ كَالْأَسْرَى.
139
وَمِنْ آيَاتِهَا آيَاتُ قِصَّةِ الْإِفْكِ وَهِيَ نَازِلَةٌ عَقِبَ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّ غَزْوَةَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ فَإِنَّهَا قَبْلَ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ.
وَمِنْ آيَاتِهَا وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ [النُّور: ٦] الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَتَكُونُ تِلْكَ الْآيَاتِ مِمَّا نَزَلَ بَعْدَ نُزُولِ أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ مُنَجَّمَةً مُتَفَرِّقَةً فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَأُلْحِقَ بَعْضُ آيَاتِهَا بِبَعْضٍ.
وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْمِائَةَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْحَجِّ، أَيْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ سُورَةَ الْحَجِّ مَدَنِيَّةٌ.
وَآيُهَا اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ فِي عَدِّ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَأَرْبَعٌ وَسِتُّونَ فِي عَدِّ الْبَقِيَّةِ.
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةُ
شَمِلَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ مُعَاشَرَةِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ. وَمِنْ آدَابِ الْخِلْطَةِ وَالزِّيَارَةِ.
- وَأَوَّلُ مَا نَزَلَتْ بِسَبَبِهِ قَضِيَّةُ التَّزَوُّجِ بِامْرَأَةٍ اشْتَهَرَتْ بِالزِّنَى وَصُدِّرَ ذَلِكَ بِبَيَانِ حَدِّ الزِّنَى.
- وَعِقَابِ الَّذِينَ يَقْذِفُونَ الْمُحْصَنَاتِ.
- وَحُكْمِ اللِّعَانِ.
- وَالتَّعَرُّضِ إِلَى بَرَاءَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِمَّا أَرْجَفَهُ عَلَيْهَا أَهْلُ النِّفَاقِ، وَعِقَابِهِمْ، وَالَّذِينَ شَارَكُوهُمْ فِي التَّحَدُّثِ بِهِ.
- وَالزَّجْرِ عَنْ حُبِّ إِشَاعَةِ الْفَوَاحِشِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
- وَالْأَمْرِ بِالصَّفْحِ عَنِ الْأَذَى مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى قَضِيَّةِ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ.
- وَأَحْكَامِ الِاسْتِئْذَانِ فِي الدُّخُولِ إِلَى بُيُوتِ النَّاسِ الْمَسْكُونَةِ، وَدُخُولِ الْبُيُوتِ غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ.
140
Icon