تفسير سورة الفرقان

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ تَبَارَكَ ﴾؛ أي عَظُمَتْ وكَثُرَتْ بركاتُ اللهِ. والبَرَكَةُ: هي الخيرُ الكثيرُ. وَقِيْلَ: معناهُ: تَبَارَكَ: أي تَعَالَى، قولهُ: ﴿ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ ﴾؛ أي الذي نَزَّلَ جبريلَ بالفُرْقَانِ.
﴿ عَلَىٰ عَبْدِهِ ﴾، مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ ﴿ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾؛ أي مُعْلِماً بموضع المخافةِ. والفُرْقَانُ: البيانُ الذي يُفَرِّقُ بهِ بين الحقِّ والباطلِ، ويَزْجُرُ عن القبائحِ، ويدعُو إلى الْمَحاسنِ، ويعني بالعالمينَ: الْجِنَّ والإنسَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ أي للهِ خزائنُ السَّماواتِ والأرض والقدرةُ على أهلِها.
﴿ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ﴾؛ كما قال اليهودُ والنصارى والمشركونَ.
﴿ وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ ﴾؛ فيعاونهُ على مُلكِهِ.
﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾؛ أي قَدَّرَ طُولَهُ وعَرْضَهُ ولونَهُ ورزقَهُ وأجَلَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾؛ فمعناه: واتخذ كفارُ مكَّة من دونِ الله آلِهَةً يعبدونَها؛ هي الأصنامُ لا يقدرونَ أن يخلِقُوا شيئاً وهم يُخلقون، ما مِن شيء يكون منها من ذهبٍ أو فضَّةٍ أو صفر أو خشبٍ إلاّ واللهُ خالِقُها.
﴿ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ﴾؛ أي لا يَملكون الأصنامَ لأنفُسِها دفعَ ضُرٍّ ولا جَرَّ نفعٍ؛ لأنَّها جَمَادٌ لا قدرةَ لَها.
﴿ وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً ﴾؛ أي لا يَملِكُ أن يَموتَ أحدٌ ولا يحيي أحد، ولا تَملِكُ بعثاً للأمواتِ، فكيفَ يعبدُ هؤلاء مَن لا يقدرُ على أن يفعلَ شيئاً مِن هذا؟ ويتركونَ عبادةَ ربهم الذي يَملِكُ ذلك كلَّه. يقالُ: أنْشَرَ اللهُ الأمواتَ فَنَشَرُواْ؛ أي أحيَاهُم فحَيُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ﴾؛ أي قال الذينَ كفروا: ما هذا القُرْآنٌ إلاّ كذبٌ اختلقَهُ مُحَمَّدٌ مِن تلقاءِ نفسه وأعَانَهُ عَلَيْهِ قومٌ آخرون مِن أهل الكتاب، يعنونَ (جَبْراً) مولَى لقريشٍ، ويسارَ أبا فُكَيهَةَ مولَى لبنِي الحضرميِّ، وعَدَّاساً مولَى لحويطبَ بنِ عبد العزَّى، كان هؤلاء يقرأونَ التوراةَ قبل أن يُسْلِمُوا، فلما أسلَمُوا رأوا التوراةَ تشبهُ القُرْآنَ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ بهم ويتعاهَدُهم، فمِن ذلك قال الكفارُ: وَأعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً ﴾؛ أي قال الكفارُ هذه المقالةَ شِرْكاً وكَذِباً، زعَمُوا أن القُرْآنَ ليس مِنَ اللهِ، والمعنى: فقد جاءُوا بظُلْمٍ وزوراً فيما قالُوا، فلمَّا سقطَتِ الباءُ أفضَى إليه الفعلُ فنصَبهُ. والزُّورُ: وضعُ الباطلِ في موضعِ الحقِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾؛ أي قالَ النَّضرُ بن الحارث وأصحابهُ: هذا القُرْآنُ أحاديثُ الأوَّلين في دَهْرِهم كما كنتُ أحدِّثُكم عن الأعاجمِ.
﴿ ٱكْتَتَبَهَا ﴾؛ مُحَمَّدٌ أي أنسَخَها من عداسٍ وجبرٍ ويسار.
﴿ فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ ﴾؛ فهي تُقْرَأُ عليه.
﴿ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾؛ أي أمَرَ أن يَكْتُبَ له فهي تقرأ عليه غدوةً وعشيَّة ليحفظَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ أَنزَلَهُ ﴾؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ: أنْزَلَ القُرْآنَ ﴿ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾، لا يخفَى عليه شيءٌ فيهما.
﴿ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً ﴾؛ لِمَن تابَ وآمنَ.
﴿ رَّحِيماً ﴾؛ لِمن ماتَ على التوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ ﴾؛ أي قال المشركون على وجهِ الذمِّ والتَّعيير للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ما لِهذا الرسولِ يأكلُ مِما يأكلُ الناس، ويَمشي في الطُّرُقِ كما نَمشي لطلب المعيشة. والمعنى: أنه ليسَ بمَلَكٍ لأن الملائكةَ لا تأكلُ ولا تشرب، والملوك لا يسبقون.
﴿ لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ﴾؛ يكون معهُ شريكاً في النبوَّة.
﴿ أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ ﴾؛ ينتفعُ به.
﴿ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ﴾؛ مِن ثَمرها، يعني بُستاناً يأكلُ من ثَمره، ومعنى قولهِ تعالى ﴿ أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ ﴾ أي يَنْزِلُ عليه مالٌ ينفعهُ ولا يحتاجُ إلى طلب المعاش. وقولهُ تعالى ﴿ يَأْكُلُ مِنْهَا ﴾ قرأ حمزةُ والكسائيُّ وخلَفُ بالنُّون؛ أي نَأْكُلُ من جنَّتهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ﴾؛ أي قالَ المشركون للمؤمنينَ: ما تَتَّبعُونَ إلاّ رَجُلاً مَخدُوعاً مغلوباً على عقلهِ قد سُحِرَ وأُزيلَ عنه الاستواءُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱنظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ فَضَلُّواْ ﴾؛ معناهُ: انْظُرْ يا مُحَمَّدُ كيفَ ضرَبُوا لكَ الأمثالَ، يعني: مَثَّلُوهُ بالمسحورِ وبالْمُحتاجِ. وَقِيْلَ: معناهُ: انظُرْ كيفَ وصَفُوا لكَ الأشياءَ: إنكَ ساحرٌ وكاهن وكذابٌ وشاعر ومجنونٌ، فَضَلُّوا عن الصواب والْهُدَى وأخطاؤا النسبةَ.
﴿ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ﴾؛ أي فلا يَجِدُونَ طريقاً إلى إلزامِ الحجَّةِ ولا مَخْرَجاً لأنفُسِهم بإثباتِ العُذْر في تركِ الإيْمَانِ به، وذلك أنَّهم جعَلُوا معذرَتَهم في ذلكَ أشياءَ ليست بعُذرٍ. أما أكلُ الطَّعامِ فإنه كان في الرُّسُلِ قبلَهُ، فلم يكن ذلك عُذْراً في تركِ الإيْمَانِ به، ولو أنْزَلَ مَلَكاً لكان يحتاجُ إلى أن يَنْزِلَ من السَّماءِ ويتردَّدُ في الأرضِ لتبليغِ الرسالةِ، كما قالَ تعالى﴿ وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً ﴾[الأنعام: ٩] ولو جُعِلَ الْمَلَكُ شَريكاً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم مُعاوناً له في الإنذارِ، أدَّى ذلك إلى استِصْغَارِ كلِّ واحد منهما في أنهُ لا يكون كلُّ واحد منهما قائماً بنفسهِ في أداءِ الرسالة. وأما الكَنْزُ فإنه قد وَجَدَ كثيرٌ مِن الفراعنةِ ولَم يوجِبْ ذلك اتباعَهم، وعُدِمَ مع كثير من الأنبياء الذين أقرَّ الخلقُ برسالَتِهم، وكذلكَ الحياةُ؛ ولأن الأنبياءَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ إنَّما يُبعثون لتزهيدِ الناس في الكنُوز والحياة، وترغيبهم في الآخرةِ، فكيف يجوزُ أن يَمنَعُوا الناسَ عنه ويشتَغِلوا به هُم؟
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَبَارَكَ ٱلَّذِيۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس:" وَذلِكَ أنَّ مَلَكاً أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللهِ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أنْ يُعْطِيْكَ خَزَائِنَ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَفَاتِيْحَ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يُعْطَهَا أحَدٌ قَبْلَكَ، وَلَمْ يُعْطَهَا أحَدٌ بَعْدَكَ مِنْ غَيْرِ أنْ يُنْقِصَكَ شَيْئاً مِمَّا ادَّخَرَ لَكَ فِي الآخِرةِ، وَبَيْنَ أنْ يَجْمَعَهَا لَكَ فِي الآخِرَةِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " بَلْ يَجْمَعُهَا لِي فِي الآخِرَةِ " ". وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" خَيَّرَنِي جِبْرِيْلُ بَيْنَ أنْ أكُونَ نَبيّاً مَلِكاً وَبَيْنَ أنْ أكُونَ نَبيّاً عَبْداً، فَاخْتَرْتُ أنْ أكُونَ نَبيّاً عَبْداً؛ أشْبَعُ يَوْماً وَأجُوعُ يَوْماً، أحْمَدُ اللهَ إذا شَبعْتُ، وَأتَضَرَّعُ إلَيْهِ إذا جِعْتُ "." وكان صلى الله عليه وسلم يَأكُلُ عَلَى الأَرْضِ، وَيَجْلِسُ جَلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَخْصِفُ النَّعْلَ، وَيُرَقِّعُ الثَّوْبَ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَاري، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ ذِكْرُ الدُّنْيَا عَنْ نَفْسِهِ، وَيَقُولُ: (وَا عَجَباً كُلَّ الْعَجَب لِلْمُعْتَرِفِ بدَارِ الْخُلُودِ وَهُوَ يَعْمَلُ لِدَارِ الْغُرُور) ". ومعنى الآية: تَبَارَكَ وتعالى إنْ شاءَ يجعلُ لكَ خيراً مما قالوهُ في الدُّنيا من جناتٍ وقصُورٍ، وإنْ شاءَ يجعل لكَ قصُوراً في الدُّنيا؛ أي لو شاءَ جعلَ لك أفضلَ من الكنْزِ والبستان الذي ذكَرُوا، ويجعل لكَ جناتٍ تجري من تحتِها الأنْهارُ يعني في الدُّنيا؛ لأنه قد شاءَ أن يعطيَهُ في الآخرةِ. وقولهُ تعالى ﴿ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ﴾ مَن قرأ بالجزمِ، كان المعنى إن شاءَ جَعَلَ لكَ الجناتِ ويجعل لك قصُوراً في الدُّنيا، لأنه قد شاءَ، وإنَّما لَم يجعلِ الحكمةَ التي أوجبت لك. قرأ ابنُ كثير وابن عامر وعاصمُ: (وَيَجْعَلُ) بالرفعِ على الاستئناف بمعنى: وسيجعلُ لكَ قصُوراً في الجنَّةِ في الآخرةِ. والقُصُورُ: هي البيوتُ المشيَّدَةُ، سُمِّي القَصْرُ قَصْراً؛ لأنه قُصِرَ ومُنِعَ مِن الوُصولِ إليه. وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ:" لَمَّا عَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالْفَاقَةِ فَقَالُواْ: مَا لِهَذا الرَّسُولِ يَأَكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ، وَيَمْشِي فِي الْمَعَاشِ، تَعِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذلِكَ، فَنَزَلَ جِبْرِيْلُ عليه السلام مُعَزِّياً لَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ رَبُّكَ يُقْرِؤُكَ السَّلاَمَ وَيَقُولُ: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ ﴾ لِطَلَب الْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا. فَبَيْنَمَا جِبْرِيْلُ وَالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَدَّثَانِ إذْ أقْبَلَ رضْوَانُ خَازِنُ الْجِنَانِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ سِفْطٌ مِنْ نُورٍ يَتَلأْلأُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ رَبُّكَ يُقْرِؤُكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ لَكَ: هَذِهِ مَفَاتِِيْحُ خَزَائِنِ الدُّنْيَا مَعَ أنَّهُ لاَ يُنْقَصُ حَظُّكَ فِي الآخِرَةِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، فَنَظَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى جِبْرِيْلَ مُشِيْراً، ثُمَّ قَالَ: " يَا رضْوَانُ؛ لاَ حَاجَةَ لِي فِيْهَا، الْعَفْوُ أحَبُّ إلَيَّ وَأنْ أكُونَ عَبْداً صَابراً شَكُوراً حَامِداً مِنَ السَّمَاءِ " فَرَفَعَ جِبْرِيْلُ رَأسَهُ، فَإذا السَّمَاوَاتُ قَدْ فُتِحَتْ أبْوَابُهَا إلَى الْعَرْشِ، فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ أنْ تُدْلِي أغْصَانَهَا، فَإذا غُرْفَةٌ مِنْ زُبُرْجُدَةٍ خَضَرَاءَ لَهَا سَبْعُونَ ألْفَ بَابٍ مِنْ ياقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، فَقَالَ جِبْرِيْلُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ بَصَرَكَ، فَرَفَعَ فَرَأى مَنَازِلَ الأَنْبيَاءِ قَدْ فَصَلَ بهَا مِنْ دُونِهِمْ، وَإذا بمُنَادٍ: أرَضِيْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " قَدْ رَضِيْتُ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيراً ﴾؛ معناهُ: لا يستطيعونَ سَبيلاً إلى إلزامِ الْحجَّةِ وإثباتِ المعذرةِ، ولكن كَذبُوا بالسَّاعةِ، وأعْتَدْنَا لِمَنْ كذبَ بقيامِ السَّاعة ناراً مُسَعَّرَةً.
﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾؛ من مسيرةِ خَمسمائةِ عامٍ.
﴿ سَمِعُواْ لَهَا ﴾؛ للنارِ غَلَيَاناً.
﴿ تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾؛ كَتَغَيُّظِ بَنِي آدمَ، وصَوْتاً كالزَّفيرِ عند شدَّةِ التهَابها واضطِرَابها، وإنَّما قال ﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ ﴾ وهم يرونَها على معنى: كأنَّها تراهُم رؤيةَ الغَضْبَانِ الذي يَزْفِرُ غَيْظاً. قِيْلَ: إنَّها لَتَزْفِرُ زَفْرَةً لا يبقَى مَلَكٌ مُقَرِّبٌ ولا نبيٌّ مُرْسَلٌ إلاّ خرَّ لوجههِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (يُطْبقُ عَلَيْهِمْ كَمَا يُطْبقُ الزَّجُّ فِي الرُّمْحِ، قال صلى الله عليه وسلم:" وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ؛ إنَّهُمْ يُسْتَكْرَهُونَ كَمَا يُسْتَكْرَهُ الْوَتَدُ فِي الْحَائِطِ "والمعنَى: إذا طُرِحُوا في مكانٍ ضَيِّقٍ من النَّارِ مُقَرَّنِيْنَ؛ أي مَغْلُولِيْنَ قد قُرِّنَتْ أيدِيهم من الجنِّ والإنسِ يقُولُونَ: وَا ثُبُورَاهُ، وَاهلاكاهُ. وفي الخبرِ: أنَّهم إذا أُلْقُوا على باب جهنَّمَ، وتضايقَ عليهم كتضايُقِ الزَّجِّ في الرُّمحِ، فيزدَحِمونَ في تلكَ الأبواب الضيِّقة، يرفَعُهم اللَّهَبُ وتخضِعُهم مقامعُ ملائكةِ العذاب، فعند ذلك يَدْعُونَ بالويلِ والثُّبُورِ، ويقالُ لَهم: ﴿ لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ﴾؛ فإنَّ سببَ الثّبُور دائمٌ لا ينقطعُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ أَذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ﴾؛ أي قُلْ أذلكَ العذابُ والسَّعيرُ خيرٌ أم جَنَّةُ الْخُلْدِ التي وُعِدَ الْمُتَقُونَ، وهذا على طريقِ التعجُّب والتبعيدِ لا على طريقِ الاستفهام؛ لأنه ليس في السعير خيرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً ﴾؛ أي كانت الجنَّةُ للمتقينَ جزاءً ومرْجِعاً في الآخرةِ.
﴿ لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ ﴾؛ أي لَهم في جنَّةِ الْخُلْدِ ما يشاؤُون.
﴿ كَانَ ﴾؛ ذلك الْخُلْدُ.
﴿ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً ﴾؛ وذلكَ أن المؤمنين سأَلُوا ربَّهم في الدُّنيا حين قالوا﴿ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ ﴾[آل عمران: ١٩٤] فقالَ اللهُ تعالى: كان إعطاءُ اللهِ للمؤمنين جنَّةَ الْخُلْدِ وَعْداً وَاجِباً، وذلكَ أمِ المسؤولُ واجبٌ، وإن لَم يُسأَلْ كالدَّين، ونظيرهُ قولُ العرب: أعطيتُكَ ألْفاً وَعْداً مسؤُولاً، يعني أنه واجبٌ لكَ فَسْأَلْهُ. وَقِيْلَ: معنى الوعدِ المسؤولِ: أنَّ الملائكةَ تسألُ لَهم ذلكَ، يقولون﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدْتَّهُمْ ﴾[غافر: ٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾؛ يعني كفارَ مكَّةَ وسائرَ المشركين مِمَّن كان يعبدُ غيرَ اللهِ، يعني: الذين يعبدونَ الملائكةَ وعُزيراً وعيسى والأصنامَ، فيقولُ اللهُ تعالى للكفارِ: لِماذا عبدتُم غَيرِي؟ فيقولونَ: لأنَّهم أمَرُونا بعبادَتِهم.
﴿ فَيَقُولُ ﴾ اللهُ تعالى للملائكة ولعيسى ولعُزَير على وجه التَّنكيتِ والتقريع للكفارِ: ﴿ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ ﴾؛ حتى عَبَدُوكم وأنتم أمَرْتُموهم بعبادتِكم.
﴿ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ ﴾؛ وأخطَأوُا الطريقَ بهوَى أنفُسِهم؟ ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾[المائدة: ١١٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ ﴾؛ أي قالُوا تَنْزِيهاً لكَ مِن أن نعبدَ غيرَك، وما ينبغِي لنَا ولعابدنا أن نَتَّخِذ مِن دونِكَ من أولياءَ، فكيفَ جازَ لنا أن نأْمُرَهم يعبدونَنا دونكَ.
﴿ وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ ﴾؛ ولكن طَوَّلْتَ أعمارَهم ووسَّعتَ لَهم في الرِّزقِ وأمهَلْتَهم في الكُفرِ حتى غيَّروا بذلكَ وتركوا التوحيدَ والطاعة، ونَسُوا القُرْآنَ.
﴿ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً ﴾؛ أي هَلْكَى فَاسِدِي القلوب. والبُوَارُ هو الهلاكُ، والبَائِرُ الفاسدُ، والأرضُ البَائِرُ هي التي عُطِّلَتْ عن الزراعةِ. وَقِيْلَ: معناهُ ﴿ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً ﴾: أي هَالِكين فاسِدين قد غَلَبَ عليهم الشَّقاءُ والْخُذْلاَنُ، ومنه بَوَارُ السِّلعةِ، والإثم إذا كَسَدَ فَسَدَ. قرأ أبو جعفرٍ وابنُ كثيرٍ ويعقوب: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) بالياء، وقولهُ تعالى (ومَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أنْ نَتَّخِذ)، قرأ الحسنُ وأبو جعفرٍ (نُتَّخَذ) بضمِّ النون وفتحِ الخاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ﴾؛ أي كذبَكم المعبودُ بقولِكم: إنَّها آلِهَةٌ شركاءُ اللهِ، ومَن قرأ (بمَا يَقُولُونَ) بالياء؛ فالمعنى: كذبُوهم بقولِهم﴿ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ ﴾[الفرقان: ١٨].
قال عكرمةُ والضحَّاك والكلبيُّ: (يَأْذنُ اللهُ لِلأَصْنَامِ فِي الْكَلاَمِ وَيُخَاطِبُهَا فَيَقُولُ: أنْتُمْ أضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أمْ أمَرْتُمُوهُمْ بعِبَادَتِهِمْ إيَّاكُمْ؟ أمْ هُمْ ضَلُّواْ السَّبيْلَ؟ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أنْ نَتَّخِذ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِيَاءَ، وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ؛ أي أطَلْتَ أعْمَارَهُمْ وَوَسَّعْتَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ؛ أي ترَكُوا القُرْآنَ فَلَمْ يَعْمَلُواْ بمَا فِيْهِ). وَقِيْلَ: نَسُوا الإيْمَانَ والتوحيدَ، وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً، فيقول اللهُ للمشركينَ: ﴿ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً ﴾؛ أي لا يقدِرُون على صَرْفِ العذاب عن أنفُسِهم ولا على نَصْرِ أنفسهم، ودفعِ العذاب والبلاءِ الذي هم فيه، ولا أن ينتَصِرُوا مِن مَعبُودِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً ﴾؛ أرادَ بالظُّلْمِ الشركَ، ومَن يُشْرِكْ باللهِ نُذِقَهُ فِي الآخرةِ عَذاباً شَديداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ ﴾؛ أي يأكلونَ كما تأكلُ أنتَ، ويَمشونَ في الأسواقِ، وهذا احتجاجٌ عليهم في قولِهم﴿ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ ﴾[الفرقان: ٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ﴾؛ أي بَلِيْهِ ابتلاءُ الشريفِ بالوضِيع، والعربيِّ بالمولَى، فإذا أراد الشريفُ أن يُسْلِمَ ورأى الوضيعَ قد أسْلَمَ قَبْلَهُ أبَى وقال: أُسْلِمُ بَعْدَهُ فيكونُ له عليَّ السابقةُ والفضلُ! فيقيمُ على كُفْرِهِ. ويَمتنعُ من الإسلام، فذلكَ افْتِتَانُ بعضِهم ببعضٍ، وهذا قولُ الكلبيِّ. وَقِيْلَ: الفتنةُ ها هنا هي العداوةُ التي كانت بينَهم في الدِّين، وما كان المؤمنونَ يَلْقَوْنَ من أذى الكُفَّارِ.
﴿ أَتَصْبِرُونَ ﴾؛ أيُّها المؤمنونَ على أذاهُم حتى تَصِلُوا إلى ثواب الصابرين، فإنَّ بعضَهم لبعضٍ فتنةٌ، يقولُ الفقيرُ: لو شاءَ اللهُ أغْنَانِي مثلَ فُلانٍ، ويقولُ السَّقيمُ: لو شاءَ اللهُ أصحَّني مِثْلَ فُلانٍ، ويقولُ الأعمَى: لو شاءَ اللهُ أبْصَرَنِي مثلَ فُلانٍ.
﴿ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ﴾؛ بالأغنياءِ والفُقراءِ وغيرِهم، أغنَى مَن أوجبَتِ الحكمةُ غِنَاهُ، وأفْقَرَ مَن أوجبَتِ الحكمةُ فَقْرَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا ﴾؛ أي قال الَّذينَ لا يَخَافُونَ البعثَ بعدَ الموتِ: هَلاَّ أُنْزِلَ عَلَينَا الملائكةُ رُسُلاً أو نَرَى رَبَّنَا فيُخبرَنا بذلك، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ ﴾؛ أي لقد تَعَظَّمُواْ في أنفُسِهم حيثُ سأَلُوا مِن الآياتِ ما لَمْ يَسْأَلْهُ أحدٌ قطُّ.
﴿ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ﴾؛ حين قَالُوا ﴿ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا ﴾.
والعُتُّوُ: مُجَاوَزَةُ الحدِّ في الظُّلمِ، وَقِيْلَ: العُتُوُّ: أشدُّ الكفرِ. والمعنى: وجَاوَزُوا الحدَّ مجاوزةً شديدةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾؛ أعْلَمَ اللهُ تعالى أنَّ الوقتَ الذي يَرَوْنَ فيه الملائكةَ هو يومُ القيامةِ، وأنَّ اللهَ حَرَمَهُمُ البُشْرَى في ذلكَ اليومِ، فقال ﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ ﴾ يعني يومَ القيامةِ، لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ للمشركينَ؛ أي لا بشَارَةَ لَهم بالجنَّةَ والثوابَ.
﴿ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً ﴾؛ أي يقولُ الملائكةُ: حَرَاماً مُحَرَّماً أنْ يدخلَ الجنَّة إلاَّ مَن قالَ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ. وَقِيْلَ: يقولُ الملائكة للمجرمينَ: ﴿ حِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ أي حَرَاماً مُحَرَّماً عليكم البُشْرَى. وَقِيْلَ: حرامٌ عليكم الجنَّةُ. وَقِيْلَ: تقولُ الملائكةُ: حُرِّمَ عليكم سَمَاعُ البُشْرَى حَرَاماً مُحَرَّماً، وكانتِ العربُ إذا أرادَ الرجلُ منهم أن يُحَرِّمَ شيئاً يُطْلَبُ منهُ؛ قال: حِجْراً مَحْجُوراً؛ لِيُعْلِمَ السائلَ بذلك أنهُ لا يريدُ أن يفعلَ. والْحَجْرُ في اللغة: هو الْمَنْعُ، ومنهُ الْحَجْرُ على الصبيِّ، ويجوزُ أن يكون مَحْجُوراً مِن قول الكفَّارِ للملائكةِ؛ أي قالُوا للملائكةِ بُعْداً بَيْنَنَا وبينَكُم. قال مجاهدُ: (يَعْنِي عَوْذاً مَعَاذاً يَسْتَعِيذُونَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾؛ أي عَمَدْنَا إلى أعمَالِهم التي عمَلُوها في الدُّنيا التي كانوا يعتَقِدونَها طاعةً، فجعلناها في الآخرةِ بمنْزِلة الْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ وهو ما يقعُ في الكُوَّةِ مِن شُعاعِ الشَّمسِ، فيقبضُ القابضُ عليه فلا يحصلُ على شيءٍ. وَقِيْلَ: هو الترابُ الذي يصعدُ من حوافرِ الدَّواب، يُرَى ولكن لا يُقْدَرُ عليهِ. وقال ابنُ شُمَيْلٍ: (الْهَبَاءُ الْمَنْثُورُ الَّذِي تُطَيِّرُهُ الرِّيَاحُ كَأنَّهُ دُخَانٌ)، فالمعنَى: فجعلناهُ بَاطِلاً لا ثوابَ لهُ؛ لأنَّهم لَم يعملوهُ للهِ، وإنَّما عِملوهُ للشَّيطانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾؛ أي أصحابُ الجنَّةِ يومئذٍ خيرٌ مُسْتَقَرّاً من هؤلاءِ المشركينَ المتكبرينَ المفتَخِرين بأعمالِهم، وأحْسَنُ مَوْضِعاً عندَ القَيْلُولَةِ من منازلِ الكفَّار. قال ابنُ مسعودٍ: (لاَ يَنْتَصِفُ النَّهَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقْبلَ هَؤُلاَءِ فِي الْجَنَّةِ وَهَؤُلاَءِ فِي النَّارِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ ﴾؛ قرأ أبو عمرٍو والكوفيُّون بالتشديدِ فيهما على معنى تَتَشَقَّقُ السماءُ عن الغمامِ و(الباء) و(عن) يتعاقَبانِ، يقال: رميتُ بالقَوسِ وعَنِ القوسِ، ومعنى الآيةِ: ويَوْمَ تَصَّدَّعُ السَّماءُ لنُزولِ الملائكةِ في الغمامِ بأمرِ الله كما تقدَّمَ ذِكْرُهُ في قولهِ تعالى﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾[البقرة: ٢١٠] وهو غَمَامٌ أبيضُ رقيقٌ مثل الضُّبَابَةِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً ﴾؛ أي نُزِّلَ أهلُ كلِّ سَماءٍ على حِدَةٍ منها إلى الأرضِ لإكرام المؤمنينَ وإهانةِ الكفَّار، وأهوالِ ذلك اليومِ. ويقالُ: إن الغمامَ سحابٌ أبيض فوقَ السَّماوات السَّبعِ، كما رُوي أنَّ دعوةَ المظلومِ تُرفَعُ فوقَ الغَمامِ، فعلى هذا يكونُ المعنى: ويوم تَشَقَّقُ السماواتُ السَّبعُ ويظهرُ الغَمامُ. قرأ ابنُ كثير: (وَنُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ) بنُونَين ونصب الملائكة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ ﴾؛ أي الْمُلْكُ الذي هو الْمُلْكُ حقّاً مُلْكُ الرَّحْمَنِ يومَ القيامةِ.
﴿ وَكَانَ يَوْماً عَلَى ٱلْكَافِرِينَ عَسِيراً ﴾؛ أي عَسُرَ ذلك اليومُ لشدَّتهِ ومشقَّتهِ، ويَهُونُ على المؤمنينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ ﴾؛ نزلت في عُقْبَةَ بْنِ أبي مُعِيْطٍ كان إذا أرادَ أن يُؤْمِنَ فقالَ لهُ أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ وكان صَديقاً لهُ: صَبَأْتَ يَا عُقْبَةُ! لَئِنْ آمَنْتَ لَمْ أُكَلِّمْكَ أبَداً، فامتنعَ عن الإيْمانِ حتى قُتِلَ يومَ بدرٍ كافراً، وقَتَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُبَيَّ بنَ خَلَفٍ يومَ أُحُدٍ. وَقِيْلَ:" إنَّ عُقْبَةَ بنَ أبي مُعِيْطٍ كان لا يقْدُمُ من سَفَرٍ إلاّ صَنَعَ طَعَاماً فَدَعَا عَلَيْهِ أشْرَافَ قَوْمِهِ، وَكَانَ يُكْثِرُ مُجَالَسَةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدِمَ ذاتَ يَوْمٍ مِنْ سَفَرٍ، فَصَنَعَ طَعَاماً فَدَعَا عَلَيْهِ النَّاسَ، وَدَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَرُبَ الطَّعَامُ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَا نَأْكُلُ مِنْ طَعَامِكَ يَا عُقْبَةُ حَتَّى تَشْهَدَ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنِّي رَسُولُ اللهِ " فَقَالَ عُقْبَةُ: أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَكَانَ أُبّيُّ بْنُ خَلَفٍ غَائِباً، فَلَمَّا أُخْبرَ بإسْلاَمِ عُقْبَةَ وَكَانَ صَدِيْقَهُ، قَالَ لَهُ: أصَبَوْتَ يَا عُقْبَةُ؟! فَقَالَ: لاَ؛ وَاللهِ مَا صَبَوْتُ وَإنَّ أخَاكَ كَمَا تَعْلَمُ، وَلَكِنِّي صَنَعْتُ طَعَاماً فَأَبَى أنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِي إلاَّ أنْ أشْهَدَ، فَاسْتَحْيَيْتُ أنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِي وَلَمْ يَطْعَمْ، فَشَهِدْتُ لَهُ وَلَيْسَ فِي نَفِسِي ذلِكَ، فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ: يَا عُقْبَةُ! مَا أنَا بالَّذِي أرْضَى مِنْكَ أبَداً حَتَّى تَأْتِيَهُ فَتَبْزُقَ فِي وَجْهِهِ! فَفَعَلَ عُقْبَةُ ذلِكَ ". قال الضحَّاكُ: (لَمَّا بَزَقَ عُقْبَةُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَادَ بُزَاقُهُ فِي وَجْهِهِ وَلَسَعَهُ لَسْعَةً فَأَحْرَقَ خَدَّيْهِ، وَكَانَ أثَرُ ذلِكَ فِيْهِ حَتَّى الْمَوْتِ). وعن عطاءٍ عن ابنِ عبَّاس قال: (كَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ يُجَالِسُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَسْمَعُ كَلاَمَهُ مِنْ غَيْرِ أنْ يُؤْمِنَ بهِ، فَلَمَّا أرَادَ عُقْبَةُ بْنُ أبي مُعِيْطٍ أنْ يُؤْمِنَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَكَانَ خَلِيْلاً لَهُ، فَقَالَ لَهُ: وَجْهِي مِنْ وَجْهِكَ حَرَامٌ إنْ بَايَعْتَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم. فَلَمْ يُؤْمِنْ وَاتَّبَعَ رضَى أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ ﴾ يعني عقبةَ بن أبي مُعيطٍ، يعضُّ على يديه تَنَدُّماً وتَحَسُّراً وأسَفاً على ما فَرَّطَ في جنب الله. قال عطاءُ: (يَأْكُلُ يَدَيْهِ حَتَّى يَذْهَبَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ يَنْبُتَانِ، فَلاَ يَزَالُ هَكَذا دَأبُهُ، كُلَّمَا نَبَتَتْ يَدُهُ أكَلَهَا نَدَامَةً عَلَى مَا فَعَلَ، وَذلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُم ﴿ يَقُولُ ﴾، على وجه التحسر: ﴿ يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً ﴾؛ أي لَيْتَنِي اتبعتُ الرسولَ وسلكتُ طريقته فإنَّها طريقُ الهدى.
﴿ يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً ﴾؛ يعني أُبَيَّ بنَ خلفٍ.
﴿ لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي ﴾؛ أي لقد صَرَفَنِي عن القُرْآنِ بعد إذ دعانِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً ﴾؛ ابتداءُ كلامٍ؛ أي كان الشيطانُ للإنسان كثيرَ الْخُذلانِ يتبرَّأُ منه في الآخرةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ) قراءةُ أبي عمرٍو بفتحِ الياء من (يَا لَيْتَنِيَ اتَّخَذْتُ)، وقُتِلَ عقبةُ يومَ بدرٍ صَبراً كافراً. وحُكم هذه الآية في كلٌ صاحبَين اجتمعا على معصيةِ الله. وقد رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ:" جَلِيْسُ السُّوءِ كَمَثَلِ الْكِيْرِ، إنْ لَمْ يُحْرِقْ ثِيَابَكَ عَلِقَ بكَ ريْحُهُ وَدُخَّانُهُ "، وانشدَ بعضُهم في ذلكَ: تَجَنَّبْ قَرِيْنَ السُّوءِ وَاصْرِمْ حِبَالَهُ   وَإنْ لَمْ تَجِدْ عَنْهُ مَحِيْصاً فَدَارهِوَأحْببْ حَبيْبَ الصِّدْقِ وَاحْذرْ مِرَاءَهُ   تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لَمْ تُمَارهِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلرَّسُولُ ﴾؛ أي ويقولُ الرسولُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: ﴿ يٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِي ﴾؛ يعنِي قُريشاً.
﴿ ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ مَهْجُوراً ﴾؛ هَجَرُوا تلاوتَهُ والعملَ به، قالوا فيه غيرَ الحقِّ، وزعَمُوا أنه سِحْرٌ وشِعرٌ، وقالوا هو أساطيرُ الأوَّلين، وتركُوا الإيْمانَ به. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ، وَعَلَّقَ مُصْحَفاً وَلَمْ يَتَعَاهَدْهُ وَلَمْ يَنْظُرْ فِيْهِ، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقاً بهِ، يَقُولُ: يَا رَبَّ الْعَالَمِيْنَ؛ عَبْدُكَ هَذا اتَّخَذنِي مَهْجُوراً، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ".
وقولهُ تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾؛ أي كما جعلنَا لكَ يا مُحَمَّدُ أعداءً من مشركِي قومِكَ كَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ؛ أي من كفَّارِ قومهِ، فلا يَكْبُرَنَّ عليك ذلكَ ولا يشقُّ عليك، فإن الأنبياءَ قبلكَ قد كُذِّبوا.
﴿ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ﴾؛ لكَ وللخلق وناصراً لك على أعدائِكَ. وانتصبَ قولهُ (هَادياً) على الحالِ أو على التمييز.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾؛ وذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَحدَّاهم بالْقُرْآنِ وأمرَهم أن يأتُوا بسورةٍ من مثلهِ، فعجَزُوا عن ذلكَ ولزِمَتهم الحجةُ فجعلوا يطلبون الحجَّة بالشُّبهةِ، فقالوا: لو كانَ نبيّاً لأُنزِلَ عليه القُرْآنُ جملةً واحدةً، كما أُنزِلَتِ التوراةُ والإنجيل والزَّبورُ. والمعنى: أن الكفارَ قالوا: هَلاَّ أُنزِلَ عليه القُرْآنُ جملةً واحدة في وقتٍ واحد، كما أنزِلت التوراةُ على موسى؛ والإنجيلُ على عيسَى؛ والزبورَ على داودِ، فبيَّنَ اللهُ أن ذلك ليس بشبهةٍ، فقال: ﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾؛ أي كذلكَ أنزلناهُ إليكَ متفرِّقاً لنقوِّي به قلبَكَ، فتزدادُ به بصيرةً ويسهلُ عليك ضبطهُ وحِفظهُ، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأُ ولا يكتبُ، بخلافِ موسى وعيسى. ويقالُ: كأنَّ الله تعالى يعلمُ أن القومَ يسألونَهُ عن أشياء ويؤْذُونه، فأنزَلَ الجوابَ عَقِبَ السُّؤالِ ليكون أحسنَ موقِعاً وأدعَى إلى الانقيادِ وأبلغَ في إلزام الحجَّة. وقولهُ تعالى: ﴿ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾؛ أي فرَّقناهُ تفْريقاً، فقال لو رتل إذا كان متفرِّقاً غيرَ منظومٍ، وأسنانٌ مرتَّلةٌ: اذا كانت مفلَّجَة، ومنهُ قوله﴿ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾[المزمل: ٤] أي فَرِّق الحروفَ بعضها ببعض. قال ابنُ عباس: (مَعْنَاهُ: وَبَيَّنَّاهُ تَبْييْناً)، وقال السديُّ: (فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيْلاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾؛ أي لا يأتوكَ بشُبهةٍ للاحتجاجِ بها في إبطالِ أمرِكَ إلاّ جئناكَ بالذي هو الحقُّ، والذي هو أحسنُ تفسيراً من مثَلِهم. والمعنى: (لاَ يَأْتُونَكَ) يعني المشركين (بمَثَلٍ) ضربوهُ لكَ في إبطالِ أمرِك ومخاصمتِكَ (إلاَّ جِئْنَاكَ) (بـ) الذي هو (الْحَقِّ) لترُدَّ به خصومتَهم وتُبطِلَ به كيدَهم، (وَأحْسَنَ تَفْسِيراً) بما أتَوا به من المثلِ. والتفسيرُ: كشفُ المعنى المغطَّى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ ﴾؛ فقاتل كفار مكة، وذلك أنَّهم كانوا قالُوا: إن مُحَمَّداً وأصحابَهُ شرُّ خلقِ الله، فقالَ اللهُ تعالى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾؛ أي منْزِلاً ومَصيراً وأضلُّ طريقاً من المؤمنين، وقولهُ تعالى ﴿ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ ﴾ أي يُسْحَبُونَ على وجوهِهم في النارِ. وعن أنسٍ:" أنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ قَالَ: " إنَّ الَّذِي أمْشَاهُ عَلَى رجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا قَادِرٌ عَلَى أنْ يُمْشِيْهِ عَلَى وَجَهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " "وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلاَثةِ أصْنَافٍ: صِنْفٌ عَلَى الدَّوَاب، وَصِنْفٌ عَلَى أقْدَامِهِمْ، وَصِنْفٌ عَلَى وُجُوهِهِمْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً ﴾؛ أي آتَينا موسَى التوراةَ وجعلنا معهُ أخاهُ هارونَ مُعِيناً يُعِينهُ على تبليغِ الوحي، والوَزيْرُ في اللغة: هُوَ الَّذِي يُرْجَعُ إلى رَأيهِ، وَالْوِزْرُ: ما يُلْتَجَأُ إليهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَقُلْنَا ٱذْهَبَآ إِلَى ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾؛ يعني فرعونَ وقومَهُ فادعُوهم إلى الإيْمانِ، فَفَعَلاَ ذلك فلَمْ يُجِيبُوا أمرَهم.
﴿ فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً ﴾؛ أي أهلكنَاهم إهلاكاً بما كان فيهِ عِبْرةٌ لِمنِ اعتبرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ﴾؛ أي واذكُرْ قومَ نُوحٍ حين كذبُوا نُوحاً ومَن قبلَهُ من الرُّسل فأغرَقناهم بالطُّوفانِ، وجعلنا إهلاكَهم للناسِ عِظَةً وعبرةً ودلالةً على قُدرَتِنا.
﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ ﴾؛ أي الكافرينَ.
﴿ عَذَاباً أَلِيماً ﴾؛ في الآخرةِ سِوَى عذابهم في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ ٱلرَّسِّ ﴾؛ أي أهلَكْنا عَاداً وثَموداً وأصحابَ الرَّسِّ. قال قتادةُ: (الرَّسُّ بئْرٌ بالْيَمَامَةِ)، قال السديُّ: (بَأَنْطَاكِيَّةَ وَنَبيُّهُمْ حَنْظَلَةُ)، وإنَّما سُمُّوا أصحابَ الرَّسِّ؛ لأنَّهم قَتلُوا نَبيَّهُمْ ورَسُّوهُ في تلكَ البئرِ، والرَّسُّ واحدٌ. وقال مقاتلُ والسدي: (هُمْ أصْحَابُ الرَّسِّ، وَالرَّسُّ بئْرٌ، فَقَتَلُوا فِيْهَا حَبيْبَ النَّجَّارِ فَنَسَبَهُمْ إلَيْهَا، وَهُمُ الَّذِيْنَ ذكَرَهُمْ فِي سُورَةِ يس). وَقِيْلَ: هم أصحابُ الأُخْدُودِ الذين حفروهُ. وقال عكرمةُ: (هُمْ قَوْمٌ رَسُّوا لِنَبيِّهِمْ) أي دَسُّوهُ في البئرِ. رُوي أن رَجُلاً سألَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ رضي الله عنه فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ أخبرْنِي عن أصحاب الرَّسِّ، أينَ كانت منازلُهم، وبماذا أُهلِكُوا، ومَن نبيُّهم، فإنِّي أجدُ في كتاب الله ذِكْرَهم، ولا أجدُ خَبَرَهم؟ فقال عليُّ رضي الله عنه: (لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ حَدِيْثٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أحَدٌ قَبْلَكَ، وَلاَ يُحَدِّثُكَ بهِ أحَدٌ بَعْدِي، وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِمْ أنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً يَعْبُدُونَ شَجَرَةَ صُنَوْبَرٍ، كَانَ غَرَسَهَا يَافِثُ بْنُ نُوحٍ عَلَى شَفِيْرِ عَيْنٍ جَاريَةٍ، وَإنَّمَا سُمَّواْ أصْحَابَ الرَّسِّ؛ لأنَّهُمْ رَسُّوا نَبيَّهُمْ فِي الأَرْضِ، وَذلِكَ أنَّهُ قِيْلَ لِسُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد، وَكَانُوا إثْنَا عَشَرَ قَرْيَةً عَلَى شَاطِئ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ الرَّسُّ مِنْ بلاَدِ الْمَشْرِقِ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ يُسَمَّى تَرْكُولُ بْنُ عَامُورَ بْنِ يَاويْسَ بْنِ شَارب بْنِ نَمْرُودَ بْنِ كَنْعَانَ، وَكَانَ أعْظَمُ مَدَائِنِهِمْ سِنْدِبَادُ بهَا الْعَيْنُ، وَالصُّنَوبَرَةُ وهِيَ شَجَرَةٌ عَظِيْمَةٌ. وَكَانُوا قَدْ حَرَّمُوا مَاءَ الْعَيْنِ وَهِيَ غَزِيْرَةُ الْمَاءِ، فَلاَ يَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَلاَ يَسْقُونَ أنْعَامَهُمْ، وَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، وَيَقُولُونَ: هِيَ حَيَاةُ آلِهَتِنَا! فَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أنْ يَنْقُصَ مِنْ حَيَاتِهَا. وَقَدْ جَعَلُواْ فِي كُلِّ شَهْرٍ عِيْداً يَجْتَمِعُ إلَيْهِ أهْلُ كُلِّ قَرْيَةٍ، وَيَضْرِبُونَ عَلَى الشَّجَرَةِ ثِيَاباً مِنْ حَرِيْرٍ فِيْهَا مِنْ أنْوَاعِ الصُّوَرِ، ثُمَّ يَأْتُوا بشِيَاهٍ وَبَقَرٍ فَيَذْبَحُونَهَا قُرْبَاناً لِلشَّجَرَةِ، ثُمَّ يُوقِدُونَ النَّارَ وَيَشْوُونَ اللَّحْمَ، فَإذا انْقَطَعَ الدُّخَّانُ وَالنَّارُ خَرُّوا سُجَّداً لِلشَّجَرَةِ يَبْكُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ إلَيْهَا أنْ تَرْضَى عَنْهُمْ. وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَجِيْءُ فَيُحَرِّكَ أغْصَانَهَا وَيَصِيْحُ فِي سَاقِهَا: إنِّي قَدْ رَضِيْتُ عَنْكُمْ عِبَادِي، فَطِيْبُوا نَفَساً وَقَرُّوا عَيْناً، فَعِنْدَ ذلِكَ يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ مِنَ السُّجُودِ وَيَضْرِبُونَ الدُّفُوفَ وَيَشْرَبُونَ الْخُمُورَ. فَلَمَّا طَالَ كُفْرُهُمْ بَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولاً، فَلَبثَ فِيْهِمْ زَمَاناً طَوِيْلاً يَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، فَلَمَّا رَأى تَمَادِيْهِمْ فِي الْغَيِّ والضَّلاَلِ قَالَ: يَا رَب إنَّ عِبَادَكَ أبَوا وَكَذبُواْ وَعَبَدُواْ شَجَرَةً لاَ تَنْفَعُ وَلاَ تَضُرُّ، فَأَيْبسْ شَجَرَتَهُمْ يَا رَب، فَأَصْبَحواْ وَقَدْ يَبسَتْ شَجَرَتَهُمْ فَهَالَهُمْ ذلِكَ، وَقَالُواْ: إنَّ هَذا أيْبَسَ شَجَرَتَكُمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ غَضِبَتْ آلِهَتُكُمْ حِيْنَ رَأتْ هَذا الرَّجُلَ يَعِيبَهَا وَيَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ غَيْرِهَا، فَحَيَتْ وَغَضِبَتْ لِكَيْ تَغْضَبُواْ لِغَضَبهَا وَتَنْصُرُونَهَا. فَاجْتَمَعَ رَأيُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ، فَطَرَحُوهُ فِي بئْرٍ ضَيِّقَةِ الْمَدْخَلِ عَمِيْقَةِ الْقَعْرِ، وَجَعَلُواْ عَلَى رَأسِهَا صَخْرَةً عَظِيْمَةَ، وَقَالُواْ: إنَّمَا غَرَضُنَا أنْ تَرْضَى بنَا آلِهَتُنَا إذا رَأتْ أنْ قَدْ قَتَلْنَا مَنْ كَانَ يَعِيْبُهَا وَدَفَنَّاهُ بحُكْمِ كَسْرِهُا، فَتَعُودُ لَهَا نَضَارَتُهَا وَنُورُهَا وَخُضْرَتُهَا كَمَا كَانَتْ. فَبَقَواْ عَامَّةَ يَوْمِهِمْ يَسْمَعُونَ أنِيْنَ نَبيِّهِمْ عليه السلام وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَب؛ قَدْ تَرَى ضِيْقَ مَكَانِي وَشِدَّةَ كَرْبي، فَارْحَمْ ضَعْفِي وَقِلَّةَ حِيْلَتِي وَعَجِّلْ قَبْضَ رُوحِي، وَلاَ تُؤَخِّرْ إجَابَةَ دَعْوَتِي. فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ. فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا جِبْرِيْلُ؛ إنَّ عِبَادِي هَؤُلاَءِ غَرَّهُمْ حِلْمِي، وَأمِنُواْ مَكْرِي وَعَبَدُواْ غَيْرِي، وَقَتَلُواْ رَسُولِي، وَأنَا الْمُنْتَقِمُ مِمَّنْ عَصَانِي، وَإنِّي حَلَفْتُ لأَجْعَلَنَّهُمْ عِبْرَةً وَنَكَالاً. فَأَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ريْحاً حَمْرَاءَ عَاصِفاً تَتَوَقَّدُ، فَفَزِعُواْ مِنْهَا وَانْضَمَّ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ حَتَّى صَارُواْ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ حَرُّهَا، وَبَعَثَ اللهُ سُبْحَانَهُ سَحَابَةً سَوْدَاءَ فَأَلْقَتْ عَلَيْهِمْ كَالْقُبَّةِ " الْحَمْرَاءِ " تَلْهَبُ، فَذابَتْ أبْدَانُهُمْ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ فِي النَّارِ، نَعُوذُ باللهِ مِنْ غَضَبهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً ﴾؛ أي وأهلَكْنا قُروناً كثيرةً بين عادٍ إلى أصحاب الرسِّ من لَم نسَمِّه لكَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ ٱلأَمْثَالَ ﴾؛ أي وكلٌّ مِن هؤلاءِ بَيَّنَّا لَهم مِما يحتاجون إليه في أمرِ دِينهم فلم يُجيبوا.
﴿ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً ﴾؛ أي وأهلكناهُم بالعذاب إهلاكاً، والتَّبَارُ: هو الْهَلاَكُ، وكلُّ شيء كَسَرْتَهُ فقد تَبرْتَهُ، يقال للمكسَّرِ من الذهب والفضة والزُّجاج: تِبْرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِيۤ أُمْطِرَتْ مَطَرَ ٱلسَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا ﴾؛ حين فَرُّوا في آثارِهم فيخافُوا ويعتبروا.
﴿ بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً ﴾؛ أي كانوا لا يخافونَ البعثَ والنُّشورَ. أخبرَ اللهُ تعالى أن الذي جرَّأهم على التكذيب أنَّهم لا يصدِّقون بالبعثِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً ﴾؛ أي واذا رَأوْكَ كفارُ مكَّة أبو جهلٍ وأصحابهُ ما يتَّخِذُونَكَ إلاّ هُزُواً؛ أي مَهْزُوءً يستهزِؤنَ بكَ ويقولون على وجهِ الاستهزاء: ﴿ أَهَـٰذَا ٱلَّذِي بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً ﴾؛ إلينا.
﴿ إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا ﴾؛ أي لقد كادَ يصرِفُنا عن عبادةِ آلِهتنا.
﴿ لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا ﴾؛ على عبادتِها. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ يومَ القيامةِ.
﴿ حِينَ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾؛ أي من أخطأُ طَريقاً عن الْهُدَى والدِّين والحجَّة هم أمِ المؤمنونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ ﴾؛ أي أرأيتَ مَن عَبَدَ الأصنامَ بهوَى نفسهِ، عَجَّبَ اللهُ تعالى نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم من نِهاية جهلِهم حين عبَدُوا ما دعاهم إليه الْهَوَى، فقال: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ ﴾.
قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: أرَأيْتَ مَنْ تَرَكَ عِبَادَةَ إلَهِهِ وَخَالَفَهُ، ثُمَّ هَوَى حَجَراً يَعْبُدُهُ مَا حَالُهُ عِنْدِي)، قال مقاتلُ: (وذَلِكَ أنَّ الْحُرَيْثَ بْنَ قَيْسٍ السَّهْمِيَّ هَوَى شَيْئاً فَعَبَدَهُ)، وقال سعيدُ بن جبيرٍ: (كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ الْحَجَرَ، فَإذا رَأوْا أحْسَنَ مِنْهُ أخَذُوهُ وَتَرَكُوا الْحَجَرَ الأَوَّلَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ﴾؛ أي كَفِيلاً حافظاً تحفظهُ من اتِّباعِ هواهُ وعبادةِ ما يهوَى، أي لستَ كذلكَ، إنَّما بُعِثْتَ دَاعياً لا حَافِظاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ﴾؛ أي أتَظُنُّ يا مُحَمَّدُ أنَّ أكثرَهم يسمعون سَماع تَدْبيْرٍ وتَفَكُّرٍ، ويعقلونَ ما يُعَاينُونَ من الْحُجَجِ.
﴿ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ ﴾؛ يسمعونَ الصوتَ ولا يعقلون حقيقتَهُ، وهذا مِثْلُ قولهِ﴿ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً ﴾[البقرة: ١٧١] وقولهُ تعالى: ﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾؛ أي بل هُمْ أضلُّ من الأنعامِ؛ لأن الأنعامَ إذا زُجِرَتْ انزَجَرَتْ وهم لا يَنْزَجِرُونَ، ولأن الأنعامَ تفهمُ بعضَ ما تسمعُ؛ لأنَّها تُنَادَى على صفةٍ فتقِفُ وتنادى على صفةٍ فتسيرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ﴾؛ معناه: ألَم تَرَ إلى صُنْعِ ربكَ كيف بَسَطَ الظلَّ من وقتِ غُروب الشَّمسِ إلى وقتِ طُلوعِها من المشرقِ إلى المغرب. وَقِيْلَ: مِن طلوعِ الفجر إلى طلوعِ الشمس، ولو شاءَ لجعلَ الظلَّ سَاكناً؛ أي دائِماً لا يزولُ على أن لا تطلعَ الشمسُ.
﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ﴾؛ على الظلِّ بمعنى أنهُ لولاَ الشمسُ لَمَا عُرِفَ الظلُّ؛ لأن الظلَّ يتبعُ الشمسَ في طولهِ وقِصَرِهِ، فإذا ارتفعَتِ الشمسُ في أعلى ارتفاعِها قَصُرَ الظلُّ، وذلك وقتَ صلاةِ الضُّحى إلى أن تبلُغَ الشمسُ في الارتفاعِ مبلَغاً يزولُ عنده الظلُّ، ولا ينقصُ الظلُّ بعد ذلك، بل يأخذُ في الزيادةِ فيكون الوقتُ وقتَ صلاةِ العصر، فما دامَتِ الشمسُ تنحطُّ يصير الظلُّ طويلاً تحتَ ذلك الانحطاطِ. والظلُّ تابعٌ للشمس التي هي دليلهُ، ويقالُ: معنى الآية: جعلنا الشمسَ مع الظلِّ دليلاً على توحيدِ الله وكمَالِ قدرتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ﴾؛ إذا طلعَتِ الشمسُ قَبَضَ اللهُ الظلَّ قبضاً يَسيراً خَفِيّاً؛ أي سَلَّطْنَا الشمسَ عليه حتى تَنْسَخَهُ شيئاً فشيئاً وتنقصَهُ نقصاً خفِيّاً لا يستدرَكُ بالمشاهدةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِبَاساً ﴾؛ أي يَسْتُرُ كلَّ شيء تطلبهُ كاللِّباس الذي يسترُ البدنَ.
﴿ وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً ﴾؛ أي راحةٌ لأبدانِكم، يقالُ: سَبَتَ إذا تمدَّدَ فاستراحَ، ومن ذلك يومُ السَّبتِ؛ لأن اليهودَ كانوا يستَرِيحون فيه بقطعِ أعمال الدُّنيا، والسُّبَاتُ قطعُ العملِ.
﴿ وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً ﴾؛ أي تَنْشُرُونَ فيه لِمعاشِكم وحوائجِكم، والنُّشور ها هنا بمعنى التفرُّق والانبساطِ في التصرُّف.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾؛ أي أرسلَ الرِّياحَ ينشرُ بها الغيمَ، ويبسطُ في السَّماء قُدَّامَ المطرِ. وإنَّما قِيْلَ في الرحمةِ: رياحٌ؛ لأنَّها الجمعُ: الجنوبُ والشَّمالُ والصَّبا، وَقِيْلَ في العذاب: ريْحٌ؛ لأنَّها واحدٌ وهي الدَّبُّورُ وهو عقيمٌ لا يلقح. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً ﴾؛ وهو الْمَطَرُ، وهو طاهرٌ ومُطَهِّرٌ من الأنجاسِ والأحْدَاثِ.
﴿ لِّنُحْيِـيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾؛ أي لنُحْيي بالمطرِ بلدةً ليس فيها أشجارٌ ولا أثْمَارٌ ولا مرعًى.
﴿ وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً ﴾؛ أي نسقِي بذلك الماءَ كثيراً من خلْقِنا من الأنعامِ. والأنَاسِيٌّ: جمعُ إنْسِيٍّ مثل كُرْسِي وكَرَاسِي، ويقال: جمعُ إنْسَانٍ، وأصلهُ أنَاسِيْن، كما يقالُ: بستانٌ وبساتين وسَرْحَانٌ وسراحين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ ﴾؛ أي صرَّفنا المطرَ فقسَّمناهُ بينَهم على ما توجِّهُ الحكمةُ لتذكُرُوا أنْعُمَ اللهِ فتشكرُوها.
﴿ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ﴾؛ أي جُحُوداً به كلَّما أنزلَ المطرَ، يقولون: مُطِرْنَا بنَوْءِ كَذا. وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ: (مَا عَامٌ بأَمْطَرَ مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللهَ يُقَسِّمُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، قال صلى الله عليه وسلم:" مَا سَنَةٌ بأَمْطَرَ مِنْ أُخْرَى، وَلَكِنْ إذا عَمِلَ قَوْمٌ بالْمَعَاصِي حَوَّلَ اللهُ ذلِكَ إلَى غَيْرِهِمْ، فَإذا عَصَوا جَمِيْعاً صَرَفَ اللهُ ذلِكَ إلَى الْفَيَافِي وَالْبحَار ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً ﴾؛ أي لو شِئنا لبعَثنا في كلِّ قريةٍ نَذيراً ينذِرُهم، ولكن بعثناكَ يا مُحْمَّدُ إلى القُرَى رَسُولاً لعِظَمِ كرامَتِك علينا، وليكون كلُّ الثواب والكرامة لك خاصَّةً.
﴿ فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾؛ فِيما يطلبونَ منكَ أن تعبُدَ آلِهَتهم، ومداهنَتَهم.
﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ﴾؛ أي بالقُرْآنِ.
﴿ جِهَاداً كَبيراً ﴾؛ شَديداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾؛ أي وهو الذي أرسلَ البَحْرَيْنِ في مجارَيهما، يقالُ: مَرَجْتُ الدَّابَّةَ؛ أي أرسَلْتُها في الْمَرْجِ ترعَى. وأرادَ بقوله ﴿ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ ﴾ النيلُ والأنْهارُ العِظَامُ، والفراتُ ما يكون في غايَةِ العذُوبَةِ، وأرادَ بالملحِ الأُجَاجِ الذي يكون ماؤُها في غايةِ المرارة، ويقالُ: في غاية الحرارةِ، من قولِهم: أجَّجْتَ النارَ إذا وَقَدْتَها، وتأجَّجَتِ النارُ إذا توقَّدَت، ويقالُ: ماءُ مِلْحٌ ولا يقال: مالِحٌ إلاّ لِمَا يُلْقَى فيه الملحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً ﴾؛ أي حَاجِزاً يَمنَعُ كلَّ واحدٍ منهما من تغييرِ الآخر، وهو ما بين العَذْب والملحِ من الأرض. ويقال: أصلُ الْمَرْجِ الْخَلْطُ، وَمِنْ ذلِكَ الْمَرْجُ؛ لأنه يكون فيه أخلاطٌ من النباتِ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴾[ق: ٥] أي مُختَلِطٍ بالملحِ والعَذْب في مرأى العينِ مختلِطَان، وفي قدرةِ الله منفَصِلان، لا يغيِّرُ أحدُهما طَعْمَ الآخرِ. ﴿ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً ﴾ أي حَاجِزاً من قدرةِ الله تعالى، و ﴿ حِجْراً ﴾ أي مانعاً يَمْنعُ من اختلاطِهما، وفسادِ أحدهما بالآخرِ، ومعنى قولهِ تعالى ﴿ وَحِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ أي حَرَاماً مُحَرَّماً أن يُفْسِدَ الملحُ العذبَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ﴾؛ أي خَلَقَ من النُّطفةِ إنساناً وخَلْقاً كثيراً، فجعلَ مِن هؤلاء البَشَرِ أنسَاباً وأصهاراً.
﴿ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ﴾؛ على ما أرادَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ ﴾؛ إن عَبَدُوهُ.
﴿ وَلاَ يَضُرُّهُمْ ﴾؛ إنْ ترَكُوا عبادتَهُ، وتركُوا عبادةَ اللهِ الذي خلَقَهم ورزَقَهم.
﴿ وَكَانَ ٱلْكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِ ظَهِيراً ﴾؛ أي وكان الكافرُ عَوْناً للشَّيطانِ على رَبهِ بالمعاصِي؛ لأنه تابعُ الشيطان ويعاونهُ على معصيةِ الله، لأنَّ عبادتَهم للأصنامِ معلومةٌ للشَّيطان. والظَّهِيرُ هو الْمُعِيْنُ. قال المفسِّرون: أرادَ بالكافرِ أبا جَهْلٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾؛ أي مُبَشِّراً بالجنَّة ونذيراً من النَّارِ.
﴿ قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾؛ أي على القُرْآن وتبليغِ الوَحيِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَن شَآءَ ﴾؛ أي لكن مَن شَاءَ.
﴿ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾؛ إنفاقَ مالهِ فعلُ ذلكَ، والمعنى: لا أسألُكم لنفسِي أجراً، ولكن لا أمنعُ من إنفاقِ المال في طلب مرضَاةِ الله وجنَّتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ ﴾؛ أي فَوِّضْ أمورَكَ إليه.
﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ﴾؛ أي احْمَدْهُ مُنَزَّهاً عن ما لا يجوزُ في صفاتهِ، وذلك نحوَ أن يقولَ: الحمدُ للهِ رب العالَمين، والحمدُ للهِ حَمداً يُوافِي نِعَمَهُ ويكافئُ مزيدَهُ، ويجوز أن يكون: صَلِّ بأمرهِ هو المحمودُ في توفيقهِ إياكَ، كما يقالُ: افْعَلْ هذا بحمدِ الله.
﴿ وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ﴾؛ فهو أولَى مَن يراقِبُ غيرَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾؛ أي فاسأَلْ لسُؤالِكَ إياهُ خَبيراً، والخبيرُ ها هنا هو اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، ويقالُ: معناهُ: فاسألِ الخبيرَ بذلك، يعني: ما ذُكِرَ من خَلْقِ السَّماواتِ والأرض والاستواءِ على العرش. وَقِيْلَ في معناهُ: فاسأَلْ عالِماً بمَ تسألهُ عنه، ولا تسأَلْ غيرَهُ، وإذا سألتَ حاجتَكَ؛ فاسأَل عالِماً بما يصلحُكَ، وإنك إذا سألتَهُ أخبركَ بالحقِّ في صفاتهِ، وفي كلِّ ما سألتَ عنهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ﴾؛ أي إذا قِيْلَ لكفَّارِ مكَّة: ﴿ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾؛ قالُوا: ما نعرفُ إلاّ رَحْمَانَ اليَمَامَةِ؛ يعنونَ مُسَيْلَمَةَ. وقولهُ تعالى: ﴿ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً ﴾؛ استفهامُ إنكارٍ؛ أي لا نسجدُ للرَّحمنِ تَباعداً من الإيْمانِ، كما قالَ تعالى في قصَّة نوحٍ:﴿ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً ﴾[نوح: ٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً ﴾؛ البُرُوجُ: منازلُ الكواكب السَّبعةِ: الشَّمسُ؛ والقمَرُ؛ والمشتَرِي؛ فالْمرِّيخُ؛ وزُحَلُ؛ وعُطَارِدُ؛ والزُّهرَةُ، وهي اثنى عشرَ بُرجاً؛ فالْحَمَلُ والعَقْرَبُ بَيْتَا المرِّيخِ، والثَّورُ والميزانُ بيتا الزُّهرةِ، والْجَوزَاءُ والسُّنبلة بيتَا عُطَاردَ، والْجَدْيُ والدَّلْوُ بيتا زُحَلٍ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً ﴾؛ يعني الشَّمسَ.
﴿ وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾.
وقرأ حمزة (سُرُجاً) أراد الشَّمسَ والكواكبَ معها. والمعنى: وجعلَ في السَّماء شَمساً تضيءُ بالنهارِ. ويقطعُ كلَّ شهر بُرجاً من البروج الاثني عشرَ، وجعلَ فيها قمراً يضيءُ بالليل، ويقطع كلَّ بُرج في يومٍ وثُلُثٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ﴾؛ أي يخلفُ كلُّ واحدٍ منهما صاحبَهُ، يذهبُ أحدُهما ويجيءُ الآخر، فهو عِظَةٌ لِمَن اتَّعَظَ، وأرادَ أن يشكُرَ أنعَامَ اللهِ. قال أبو عُبيدة: (الْخِلْفَةُ كُلُّ شَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ: اللَّيْلُ خِلْفَةٌ لِلنَّهَارِ، وَالنَّهَارُ خِلْفَةٌ لِلَّيْلِ؛ لأنَّ أحَدَهُمَا يَخْلُفُ الآخَرَ وَيَأْتِي بَعْدَهُ). وقال مجاهدُ: (جَعَلَ النَّهَارَ خِلْفَةً مِنَ اللَّيْلِ لِمَنْ نَامَ باللَّيْلِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ خِلْفَةً لِمَنِ اشْتَغَلَ بالنَّهَارِ) فَمَنْ فَاتَهُ الْعَمَلُ باللَّيْلِ قَضَاهُ بالنَّهَارِ، وَمَنْ فَاتَهُ بِالنَّهَارِ قَضَاهُ باللَّيْلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾؛ أي عبادهُ الذين رَضِيَهم وأثنَى عليهم هم الذين يَمْشُونَ على السَّكينةِ والوَقَارِ الْهُوَيْنَا، متواضِعين من مخافةِ الله، حُلَمَاءَ عُقلاءَ لا يجهَلُون وإنْ جُهِلَ عليهم، وإن كَلَّمَهم الكفارُ والفُسَّاقُ بالسَّفَهِ والفُحْشِ؛ قالُوا سَدادً مِن القولِ. وَقِيْلَ: يقولون في جواب السَّفيهِ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ. وقال قتادةُ: (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾؛ أيْ كَانُوا لاَ يَجْهَلُونَ عَلَى أهْلِ الْجَهْلِ). وقال مقاتلُ: (قَالُوا سَلاَماً؛ أيْ قَوْلاً يَسْلَمُونَ فِيْهِ مِنَ الإثمِ). قال الحسنُ: (هَذِهِ صِفَةُ نَهَارهِمْ إذا انْتَشَرُواْ فِي النَّاسِ، وَلَيْلُهُمْ خَيْرُ لَيْلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ﴾؛ أي يصَلُّون باللَّيلِ طَلباً للثواب). وعن ابنِ عبَّاس قَالَ: (مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ أوْ أكْثَرَ فَقَدْ بَاتَ للهِ سَاجِداَ أوْ قَائِماً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ﴾؛ لاَزماَ دَائماً. والغَرَمُ: اللُّزُومُ، يقالُ لصاحب الدَّين: غَرِيْمٌ؛ لأنَّهُ يلازمُ الْمَدْيُونَ، ويقالُ للمَدْيُونِ: الغَرِيْمُ؛ لأنَّ اللُّزُومَ يثبتُ عليهِ، والْمُغْرَمُ بالنِّساءِ الْمُلاَزمُ لَهُنَّ. قال الزجَّاجُ: (إنَّ عَذابَهَا كَانَ غَرَاماً، الْغَرَامُ أشَدُّ الْعَذاب). ﴿ إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾؛ أي إنَّ جهنَّم بئسَ موضعٍ قَرَاراً وإقامةً هي. قال الحسنُ: (كُلُّ غَرِيْمٍ يُفَارقُ غَرِيْمَهُ إلاَّ غَرِيْمَ جَهَنَّمَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾؛ الإسْرَافُ: هو الإنفاقُ في معاصِي اللهِ تعالى، والْمُقَتِّرُ: مَانِعُ حقِّ اللهِ تعالى، والقَوَامُ: هو الوسطُ بين الإسرافِ والتَّقتيرِ. قرأ أهلُ المدينةِ والشام بضمِّ الياءِ وكسر التاء، وقرأ الكوفيُّون (يُقَتَّرُواْ) بفتح التاء وضم الياء، وقرأ الباقون (يَقْتِرُواْ) بفتح الياء وكسر التَّاء، وكلُّها لغاتٌ صحيحة. فالإسرافُ: نفقةٌ في معصيةِ الله تعالى وإنْ قَلَّتْ، والإقْتَارُ: منعُ حقِّ الله. وعن الحسنِ أنَّ مَعناهُ: (لَمْ يُنْفِقُواْ فِي مَعَاصِي اللهِ، وَلَمْ يُمْسِكُواْ عَنْ فَرَائِضِ اللهِ). وَقِيْلَ: معناهُ: لَم يضَيِّقُوا في الإنفاقِ، وكان إنفاقُهم بين الإسرافِ والإقتَارِ، لا إسْرَافاً يدخلُ به في حدِّ التبذيرِ، ولا تضيْيقاً يضرُّ به في حدِّ المانع لِمَا يجبُ، وهذا هو الْمَحمودُ مِن النفقةِ. وعن عمرَ رضي الله عنه: (مِنَ الإسْرَافِ أنْ لاَ يَشْتَهِيَ الرَّجُلُ شَيْئاً إلاَّ أكَلَهُ) وقال: (كَفَى بالْمَرْءِ سَرَفاً أنْ يَأْكُلَ كُلَّ مَا يَشْتَهِي). وقال قتادةُ: (الإسْرَافُ: النَّفَقَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَالإقَتَارُ: الإمْسَاكُ عَنْ حَقِّ اللهِ، وَالْقَوَامُ مِنَ الْعَيْشِ: مَا أقَامَكَ وَأغْنَاكَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ ﴾؛ قِيْلَ:" إنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أيُّ الذنْب أكْبَرُ؟ قَالَ: " أنْ تَجْعَلَ للهِ نَدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ " قَالَ: ثُمَّ أيُّ؟ قَالَ: " أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ " قَالَ: ثُمَّ أيُّ؟ قَالَ: " أنْ تَزْنِي بحَلِيْلَةِ جَارِكَ " "فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هذِهِ الآيةَ تَصْدِيقاً لذلكَ: ﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ ﴾؛ في الحديثِ" لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلاَّ بأَحَدِ ثَلاَثِ مَعَانٍ: زَنَى بَعْدَ إحْصَانٍ، وَكُفْرٌ بَعْدَ إيْمَانٍ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بغَيْرٍ حَقٍّ "﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ﴾؛ أي مَن يفعلُ شيئاً ممَّا تقدَّم ذِكره ﴿ يَلْقَ أَثَاماً ﴾ أي يَلْقَ عقوبةَ فعلهِ، ويقالُ: الآثَامُ وادٍ في جهنَّم من دمٍ وَقَيْحٍ. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:" " لَوْ أنَّ صَخْرَةً عَسْرَاءَ قُذِفَ بهَا فِي جَهَنَّمَ مَا بَلَغَتْ قَعْرَهَا سَبْعِيْنَ خَرِيْفاً، ثُمَّ يَنْتَهِي إلَى غَيٍّ وَأثَامٍ " قِيْلَ: وَمَا غَيٌّ وَأثَامٌ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " بئْرَانِ يَسِيْلُ فِيْهِمَا صَدِيْدُ أهْلِ النَّارِ، وَهُمَا اللَّتَانِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً ﴾ "ورُوي أنَّ أثَاماً وادٍ في جهنَّم فيه حيَّاتٌ وعقاربُ في فَقَار إحداهنَّ مقدار ستِّين قُلَّةً من السُّمِّ، كلُّ عقرب منهنَّ مثل البغلةِ الموكفة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُضَاعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ﴾؛ تفسيرُ الغيِّ الأثَامُ بقولهِ ﴿ يُضَاعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ ﴾ الآيةُ، ومَن رفعَ (يُضَاعَفْ، وَيَخْلُدْ) وهو ابنُ عامر فهو على الاستئنافِ والقطع عما قبله.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾؛ قال ابن عباس: (نزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بمَكَّةَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَالُواْ: مَا يُغْنِي عَنَّا الإسْلاَمُ وَقَدْ عَدَلْنَا باللهِ وَقَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ وَأتَيْنَا الْفَوَاحِشَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ). ومعناها: إلاّ مَن تَابَ عن الكفرِ والمعصية وآمَنَ باللهِ وَعَمِلَ عَمَلاً صالحاً بعدَ الإيْمَانِ والتوبةِ، فأُولَئِكَ يَمحُو اللهُ سيِّئاتِهم بالتوبةِ ويُثْبتُ لَهم مكانَها حسناتٍ، وهذا هو معنى التَّبديلِ، لا تصيرُ السَّيئةُ بعينها حسنةً. وعن ابنِ عباس أنهُ قال: (قَرَأنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ ﴾ الآيَةُ ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ﴾ الآيَةُ، فَمَا رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرِحَ بشَيْءٍ مِثْلَ فَرَحِهِ بهَا وَبقَوْلِهِ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾[الفتح: ١]). قال قتادةُ: (وَمَعْنَاهَا: إلاَّ مَنْ تَابَ مِنْ ذنْبهِ وَآمَنَ برَبهِ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فِيْمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبهِ). وَقال أيضاً في معنى قوله ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾: (التَّبْدِيْلُ فِي الدُّنْيَا طَاعَتُهُ بَعْدَ عِصْيَانِهِ، وَذِكْرُ اللهِ بَعْدَ نِسْيَانِهِ). وقال الحسنُ: (أبْدَلَهُمْ اللهُ بالْعَمَلِ إلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ بالشِّرْكِ إخلاَصاً وَإسْلاَماً، وَبالْفُجُورِ إحْصَاناً، وَبقَتْلِ الْمُؤْمِنِيْنَ قَتْلَ الْمُشْرِكِيْنَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتاباً ﴾؛ أي مَن تاب من الشِّرك وعَمِلَ صالحاً، ولَم يكن من القبيلِ الذين قَتَلُوا وزَنَوا، فإنهُ يتوبُ اللهُ؛ أي يعودُ عليه بعد الموتِ مَتَاباً حَسَناً يفضَّلُ على غيرهِ بمن قَتَلَ وزَنَى، فالتوبةُ الأُولى رجوعٌ عن الشِّرك، والثانيةُ رجوعٌ إلى اللهِ للجزاءِ والمكافأة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ ﴾؛ قال أكثرُ المفسِّرين: الزُّورُ ها هنا بمعنى الشِّركِ. قال الزجَّاجُ: (الزُّورُ فِي اللُّغَةِ الْكَذِبُ، وَلاَ كَذِبَ فَوْقَ الشِّرْكِ باللهِ). وقال قتادةُ: (وَلا يَشْهَدُونَ الزُّورَ، لاَ يُسَاعِدُونَ أهْلَ الْبَاطِلِ عَلَى بَاطِلِهِمْ). وقال محمَّدُ بنُ الحنفيَّة: (لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ: اللَّهْوَ وَالْغِنَاءَ وَاللَّعِبَ وَأعْيَادَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ). وقال عليُّ بن أبي طلحةَ: (شَهَادَةُ الزُّورِ). وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه (يَجْلِدُ شَاهِدَ الزُّورِ أرْبَعِيْنَ جَلْدَةَ ويُسَخِّمُ وَجْهَهُ وَيَطُوفُ بهِ فِي الأَسْوَاقِ). وعن عمرَ بن المنكدرِ أنه قالَ: بَلَغَنِي (أنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أيْنَ الَّذِيْنَ كَانُواْ يُنَزِّهُونَ أنْفُسَهُمْ عَنْ سَمَاعِ اللَّهْوِ وَمَزَامِيْرِ الشَّيْطَانِ؟ أدْخِلُوهُمْ ريَاضَ الْمِسْكِ. ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ: اسْمِعُوا عَبيْدِي تَحْمِيْدِي وَثَنَائِي وَتَمْجِيْدِي، وَأعْلِمُوهُمْ أنْ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾؛ أي إذا مَرُّوا بالقولِ والفعل الذي لا فائدةَ منه مرُّوا مُكرِمين صَائِنين أنفسَهم عن الخوضِ في ذلك، آمِرِين بالمعروفِ ناهين عن المنكرِ بما قَدِرُوا عليه من قولٍ إذا عَجِزُوا عن الفعلِ، ومِن إظهار كرامةِ وتَعْبيْسٍ وجهٍ إذا عَجِزُوا عن القولِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ﴾؛ معناهُ: والذين إذا وُعِظُوا بآياتِ ربهم؛ أي بالقُرْآنِ؛ لَم يعامِلُوا فيها معاملةَ الأصَمِّ الذي لا يسمعُ، والأعمَى الذي لا يُبْصِرُ، ولكنَّهم سَمعوا وبَصروا وانتفعوا بها وخَرُّوا ساجدينَ سامعين باكينَ مبصرين فيما أُمِرُوا به ونُهُوا عنهُ. والْخَرُّ هو السُّقوطُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾؛ الذُّرِّيَّةُ تكونُ واحداً وجَمعاً، فكونُها الواحد: قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾[آل عمران: ٣٨]، وكونُها للجمعِ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً ﴾[النساء: ٩].
وقوله تعالى ﴿ قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾: يَقُولُونَ: ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا ﴾ أرادَ أتقياءَ. وقال مقاتلُ: (مَعْنَاهُ: اجْعَلْهُمْ صَالِحِيْنَ فَنُقَرُّ أعْيُناً بذلِكَ). وقال الحسنُ: (مَا مِنْ شَيْءٍ أقَرَّ لِعَيْنِ الْمُسْلِمِ مِنْ أنْ يَرَى وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ مُطِيْعِيْنَ للهِ). وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾؛ أي يُقتدَى بنا في الخيرِ، والمعنى: اجعلنَا صالِحين نأتَمُّ بمن قَبْلَنَا من المسلمينِ حتى يأتَمَّ بنا مَن بعدَنا. قال الفرَّاءُ: (إنَّمَا قَالَ (إمَاماً) وَلَمْ يَقُلْ: أئِمَّةً كَمَا قَالَ:﴿ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾[الشعراء: ١٦] لِلاثَنَيْنِ، يَعْنِي: إنَّهُ مِنَ الْوَاحِدِ الَّذِي يُرِيْدُ بهِ الْجَمِيْعَ). وفي الحديثِ:" مَنْ رُزقَ إيْمَاناً وَحُسْنَ خُلُقٍ فَذاكَ إمَامُ الْمُتَّقِيْنَ "
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ ﴾؛ أي أهلُ هذه الخِصَالِ همُ الذين يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ في الجنَّة بصَبْرِهم على الطاعةِ وعن المعصيةِ وعلى مَكَارِهِ الزَّمان ومِحَنِ الدُّنيا. والغُرْفَةُ هي البناءُ العالِي المرتفعُ، قال مقاتلُ: (يَعْنِي غُرَفَ الْجَنَّةِ). وقال مقاتلُ: (هِيَ غُرْفَةٌ مِنَ الزُّبُرْجَدِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً ﴾؛ أي وتتلقَّاهمُ الملائكة في تلك الغُرَفِ بالتحيَّة والسَّلامِ مِن اللهِ تعالى. قرأ أهلُ الكوفة (يَلْقَوْنَ) بفتح الياءِ والتخفيف. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾؛ أي حَسُنَتْ تلك الغُرَفُ في المستقرِّ والْمُقَامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ ﴾؛ أي قُلْ لَهم: ما يصنعُ بكُمْ ربي وهو لا يحتاجُ إليكم لولا دعاؤهُ إيَّاكم إلى الإسلامِ وإلى الطاعةِ لتنتَفِعُوا أنتم بذلكَ. وَقِيْلَ: معناهُ: أيُّ وَزْنٍ وقَدْرٍ لكم عند ربي لولا دعاؤُكم وعبادتُكم إياه. وَقِيْلَ: معناهُ: ما يفعلُ بكم يا أهلَ مكَّة لولا عبادتُكم غيرَ اللهِ.
﴿ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ﴾؛ يا أهلَ مكة.
﴿ فَسَوْفَ يَكُونُ ﴾؛ جزاءُ تكذيبهم.
﴿ لِزَاماً ﴾؛ أي أُسِروا وأُخِذُوا بالأيدِي. وَقِيْلَ: أراد به يومَ بدرٍ. واللَّزَامُ بنصب اللام مصدراً أيضاً. والخطابُ بقوله ﴿ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ﴾ يا أهلَ مكَّة؛ أي إنَّ الله دعَاكم بالرَّسُولِ إلى توحيده وعبادتهِ، فقد كَذبْتُمُ الرسولَ، ولَم تُجيبوا دعوتَهُ، فسوفَ يكون تكذيبُكم لِزَاماً يلزمكم فلا تعطونَ التَّوبةَ، فقُتِلُوا يومَ بدرٍ واتَّصَلَ بهم عذابُ الآخرةِ.
Icon