ﰡ
مكية إلا الآيات ٦٨ و ٦٩ و ٧٠ فمدنية وآياتها ٧٧ نزلت بعد يس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الفرقان) تَبارَكَ من البركة وهو فعل مختص بالله تعالى لم ينطق له بالمضارع عَلى عَبْدِهِ يعني محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وذلك على وجه التشريف له والاختصاص لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً الضمير لمحمد ﷺ أو للقرآن، والأول أظهر وقوله «للعالمين» عموم يشمل الجن والإنس ممن كان في عصره، ومن يأتي بعده إلى يوم القيامة، وتضمن صدر هذه السورة إثبات النبوة والتوحيد، والردّ على من خالف في ذلك فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً الخلق عبارة عن الإيجاد بعد العدم، والتقدير: عبارة عن إتقان الصنعة، وتخصيص كل مخلوق بمقداره، وصفته وزمانه ومكانه، ومصلحته، وأجله، وغير ذلك وَاتَّخَذُوا الضمير لقريش وغيرهم ممن أشرك بالله تعالى وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ يعنون قوما من اليهود منهم: عداس ويسار وأبو فكيهة الرومي فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً أي ظلموا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما نسبوا إليه وكذبوا في ذلك عليه.
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما سطره الأولون في كتبهم، وكان الذي يقول هذه المقالة النضر بن الحارث اكْتَتَبَها أي كتبها له كاتب، ثم صارت تملى عليه ليحفظها، وهذا حكاية كلام الكفار، وقال الحسن: إنها من قول الله على وجه الردّ عليهم، ولو كان ذلك لقال أكتتبها بفتح الهمزة لمعنى الإنكار، وقد يجوز حذف الهمزة في مثل هذا، وينبغي على قول الحسن أن يوقف على أساطير الأولين
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ ردّ على الكفار في قولهم ويعني بالسر: ما أسرّه الكفار من أقوالهم، أو يكون ذلك على وجه التنصل والبراءة مما نسبه الكفار إليه من الافتراء، أي أن الله يعلم سري فهو العالم بأني ما
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ الآية: قال هذا الكلام [بعض] قريش طعنا على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ردّ الله عليهم بقوله وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: ٢٠] وقولهم: لِهذَا الرَّسُولِ على وجه التهكم كقول فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ [الفرقان: ٢٧] أو يعنون الرسول بزعمه، ثم ذكر ما اقترحوا من الأمور في قولهم: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام: ٨] وما بعده، ثم وصفهم بالظلم، وقد ذكرنا معنى مَسْحُوراً في [الإسراء: ٤٧] ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي قالوا فيك تلك الأقوال فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي لا يقدرون على الوصول إلى الحق لبعدهم عنه وإفراط جهلهم خَيْراً مِنْ ذلِكَ الإشارة إلى ما ذكره الكفار من الكنز والجنة في الدنيا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني جنات الآخرة وقصورها وقيل: يعني جنات، وقصورا في الدنيا، ولذلك قال: إن شاء إِذا رَأَتْهُمْ أي إذا رأتهم جهنم وهذه الرؤية يحتمل أن تكون حقيقة أو مجازا بمعنى: صارت منهم بقدر ما يرى على البعد سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً التغيظ لا يسمع وإنما المسموع أصوات دالة عليه، ففي لفظه تجوّز، والزفير أول صوت الحمار مَكاناً ضَيِّقاً تضيق عليهم زيادة في عذابهم مُقَرَّنِينَ أي مربوط بعضهم إلى بعض، وروي أن ذلك بسلاسل من النار دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً الثبور:
الويل وقيل: الهلاك، ومعنى دعائهم ثبورا: أنهم يقولون يا ثبوراه كقول القائل: وا حسرتاه وا أسفاه لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً تقديره: يقال لهم ذلك أو يكون حالهم يقتضي ذلك، وإن لم يكن ثم قول، وإنما دعوا ثبورا كثيرا لأن عذابهم دائم، فالثبور يتجدد عليهم في كل حين قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ إنما جاز هنا التفضيل بين الجنة والنار، لأن الكلام سؤال وتوبيخ، وإنما يمنع التفضيل بين شيئين، ليس بينهما اشتراك في المعنى إذا كان الكلام خبرا وَعْداً مَسْؤُلًا أي سأله المؤمنين أو الملائكة في قولهم: وأدخلهم جنات
فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ القائل لذلك هو الله عز وجل، والمخاطب هم المعبودون مع الله على العموم، وقيل: الأصنام خاصة، والأول أرجح لقوله: ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: ٤٠] وقوله: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: ١١٩] أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أم هنا معادلة لما قبلها، والمعنى أن الله يقول يوم القيامة للمعبودين: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا من تلقاء أنفسهم باختيارهم ولم تضلوهم أنتم؟ ولأجل ذلك بين هذا المعنى بقوله: «هم» ليتحقق إسناد الضلال إليهم، فإنما سألهم الله هذا السؤال مع علمه بالأمور ليوبخ الكفار الذين عبدوهم قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ [سبأ: ٤١] القائلون لهذا هم المعبودون: قالوه على وجه التبري ممن عبدهم كقولهم:
أنت ولينا من دونهم، والمراد بذلك توبيخ الكفار يومئذ، وإقامة الحجة عليهم وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ معناه أن إمتاعهم بالنعم في الدنيا كان سبب نسيانهم لذكر الله وعبادته قَوْماً بُوراً أي هالكين، وهو من البوار وهو الهلاك، واختلف هل هو جمع بائر؟ أو مصدر وصف به ولذلك يقع على الواحد والجماعة فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ هذا خطاب خاطب الله به المشركين يوم القيامة أي: قد كذبكم آلهتكم التي عبدتم من دون الله، وتبرؤوا منكم.
وقيل: هو خطاب للمعبودين: أي كذبوكم في هذه المقالة لما عبدوكم في الدنيا، وقيل: هو خطاب للمسلمين: أي قد كذبكم الكفار فيما تقولونه من التوحيد والشريعة، وقرئ بما يقولون «١» بالياء من أسفل، والباء في قوله بما تقولون على القراءة بالتاء بدل من الضمير في كذبوكم، وعلى القراءة بالياء كقولك: كتبت بالقلم، أو كذبوكم بقولهم فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً قرئ فما تستطيعون بالتاء فوق، ويحتمل على هذا أن يكون الخطاب للمشركين أو للمعبودين والصرف على هذين الوجهين صرف العذاب عنهم، أو يكون الخطاب للمسلمين والصرف على هذا رد التكذيب، وقرئ بالياء وهو مسند إلى المعبودين أو إلى المشركين والصرف صرف العذاب وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ خطاب للكفار وقيل: للمؤمنين وقيل: على العموم
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ تقديره: وما أرسلنا رسلا أو رجالا قبلك، وعلى هذا المفعول المحذوف يعود الضمير في قوله: إلا أنهم ليأكلون الطعام، وهذه الآية ردّ على الكفار في استبعادهم بعث رسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا أي قصدنا إلى أفعالهم فلفظ القدوم مجاز، وقيل: هو قدوم الملائكة أسنده الله إلى نفسه لأنه عن أمره فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً عبارة عن عدم قبول ما عملوا من الحسنات كإطعام المساكين وصلة الأرحام وغير ذلك، وأنها لا تنفعهم لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال، والهباء هي الأجرام الدقيقة من الغبار التي لا تظهر إلا حين تدخل الشمس على موضع ضيق كالكوة، والمنثور المتفرّق خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا جاء هنا التفضيل بين الجنة والنار، لأن هذا مستقرّ وهذا مستقرّ وَأَحْسَنُ مَقِيلًا هو مفعل من النوم في القائلة وإن كانت الجنة لا نوم فيها، ولكن جاء على ما تتعارفه العرب من الاستراحة وقت القائلة في الأمكنة الباردة، وقيل: إن حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ هو يوم القيامة وانشقاق السماء: انفطارها ومعنى بالغمام أي يخرج منها الغمام، وهو السحاب الرقيق الأبيض، وحينئذ تنزل الملائكة إلى الأرض وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ عض اليدين كناية عن الندم والحسرة، والظالم هنا عقبة بن أبي معيط، وقيل: كل ظالم والظلم هنا الكفر مَعَ الرَّسُولِ هو محمد صلى الله
لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا روي أن عقبة جنح إلى الإسلام فنهاه أبيّ بن خلف وأمية بن خلف فهو فلان، وقيل: إن عقبة نهى أبيّ بن خلف عن الإسلام، فالظالم على هذا أبيّ وفلان عقبة، وإن كان الظالم على العموم ففلانا على العموم أي خليل كل كافر وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا يحتمل أن يكون هذا من قول الظالم، أو ابتداء إخبار من قول الله تعالى، ويحتمل أن يريد بالشيطان إبليس أو الخليل المذكور وَقالَ الرَّسُولُ قيل: إن هذا حكاية قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الدنيا، وقيل: في الآخرة مَهْجُوراً من الهجر بمعنى البعد والترك وقيل: من الهجر بضم الهاء، أي قالوا فيه الهجر حين قالوا: إنه شعر وسحر والأول أظهر.
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا العدو هنا جمع، والمراد تسلية النبي ﷺ بالتأسي بغيره من الأنبياء وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً وعد لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالهدى والنصرة وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً هذا من اعتراضات قريش لأنهم قالوا لو كان القرآن من عند الله لنزل جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ هذا جواب لهم تقديره: أنزلناه كذلك مفرقا لنثبت به فؤاد محمد ﷺ لحفظه: ولو نزل جملة واحدة لتعذر عليه حفظه لأنه أمي لا يقرأ، فحفظ المفرق عليه أسهل، وأيضا فإنه نزل بأسباب مختلفة تقتضي أن ينزل كل جزء منه عند حدوث سببه، وأيضا منه ناسخ ومنسوخ، ولا يتأتى ذلك فيما ينزل جملة واحدة وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أي فرقناه تفريقا فإنه نزل بطول عشرين سنة. وهذا الفعل معطوف على الفعل المقدر، الذي يتعلق به كذلك وبه يتعلق لنثبت وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ الآية معناه لا يوردون عليك سؤالا أو اعتراضا، إلا أتيناك في جوابه بالحق، والتفسير الحسن الذي يذهب اعتراضهم ويبطل شبهتهم الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ يعني الكفار، وحشرهم على وجوههم حقيقة لأنه جاء في الحديث قيل يا رسول الله: كيف يحشر الكافر على وجهه: قال أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادرا على أن يمشيه في الآخرة على وجهه «١» شَرٌّ مَكاناً يحتمل أن يريد بالمكان المنزلة والشرف أو الدار والمسكن في الآخرة وَزِيراً معينا
إِلَى الْقَوْمِ يعني فرعون وقومه،
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ أي إلى صنع ربك وقدرته مَدَّ الظِّلَّ قيل: مدّة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لأن الظل حينئذ على الأرض كلها، واعترضه ابن عطية لأن ذلك الوقت من الليل، ولا يقال ظل بالليل، واختار أن مدّ الظل من الإسفار إلى طلوع الشمس وبعد مغيبها بيسير، وقيل: معنى مد الظل أي جعله يمتدّ وينبسط وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي ثابتا غير زائل لكنه جعله يزول بالشمس، وقيل: معنى ساكن غير منبسط على الأرض، بل يلتصق بأصل الحائط والشجرة ونحوها ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا قيل:
معناه أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها، في سيرها على الظل متى يتسع ومتى ينقبض،
ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً قبضه نسخه وإزالته بالشمس ومعنى يسيرا شيئا بعد شيء لا دفعة واحدة، فإن قيل: ما معنى ثم في هذه المواضع الثلاثة؟ فالجواب أنه يحتمل أن تكون للترتيب في الزمان أي جعل الله هذه الأحوال حالا بعد حال، أو تكون لبيان التفاضل بين هذه الأحوال الثلاثة. وأن الثاني أعظم من الأول، والثالث أعظم من الثاني اللَّيْلَ لِباساً شبّه ظلام الليل باللباس، لأنه يستر كل شيء كاللباس وَالنَّوْمَ سُباتاً قيل: راحة وقيل موتا لقوله: يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر: ٤٢] ويدل عليه مقابلته بالنشور الرِّياحَ بُشْراً ذكر في [الأعراف: ٥٧] ماءً طَهُوراً مبالغة في طاهر وقيل: معناه مطهر للناس في الوضوء وغيره. وبهذا المعنى يقول الفقهاء: ماء طهورا، أي مطهرا، وكل مطهر طاهر، وليس كل طاهر مطهر أَناسِيَّ قيل: جمع إنسي، وقيل: جمع إنسان، والأول أصح وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ الضمير للقرآن، وقيل: للمطر وهو بعيد وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أي لو شئنا لخففنا عنك أثقال الرسالة ببعث جماعة من الرسل، ولكنا خصصناك بها كرامة لك فاصبر وَجاهِدْهُمْ بِهِ الضمير للقرآن أو لما دل عليه الكلام المتقدم.
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ «١» اضطرب الناس في هذه الآية لأنه لا يعلم في الدنيا بحر ملح وبحر عذب، وإنما البحار المعروفة ماؤها ملح، قال ابن عباس: أراد بالبحر الملح الأجاج بحر الأرض، والبحر العذب الفرات بحر السحاب، وقيل: البحر الملح البحر المعروف، والبحر العذب مياه الأرض، وقيل: البحر الملح جميع الماء الملح من الآبار وغيرها، والبحر العذب هو مياه الأرض من الأنهار والعيون، ومعنى العذب: البالغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة، والأجاج نقيضه، واختلف في معنى مرجهما، فقيل: جعلهما متجاورين متلاصقين، وقيل أسال أحدهما في الآخر وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً أي فاصلا يفصل بينهما وهو ما بينهما من الأرض بحيث لا يختلطان، وقيل:
البرزخ يعلمه الله ولا يراه البشر.
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ قرأ هذه الآية بعض السلف فقال: لا ينبغي لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق فإنه يموت وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي قل سبحان الله وبحمده، والتسبيح التنزيه عن كل ما لا يليق به، ومعنى بحمده أي: بحمده أقول ذلك، ويحتمل أن يكون المعنى سبحه متلبسا بحمده، فهو أمر بأن يجمع بين التسبيح والحمد وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً يحتمل أن يكون المراد بهذا بيان حلمه وعفوه عن عباده مع علمه بذنوبهم، أو يكون المراد تهديد العباد لعلم الله بذنوبهم اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ذكر في [الأعراف: ٥٣] الرَّحْمنُ خبر ابتداء مضمر، أو بدل من الضمير في استوى فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً فيه معنيان: أحدهما وهو الأظهر: أن المراد اسأل عنه من هو خبير عارف به، وانتصب خبيرا على المفعولية، وهذا الخبير المسؤول هو جبريل عليه السلام والعلماء، وأهل الكتاب، والباء في قوله به: يحتمل أن تتعلق بخبيرا، أو تتعلق بالسؤال، ويكون معناها على هذا معنى عن، والمعنى الثاني: أن المراد اسأل بسؤاله خبيرا أي إن سألته تعالى تجده خبيرا بكل شيء، فانتصب خبيرا على الحال، وهو كقولك: لو رأيت فلانا رأيت به أسدا: أي رأيت برؤيته أسدا
قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ لما ذكر الرحمن في القرآن أنكرته قريش، وقالوا:
لا نعرف الرحمن، وكان مسيلمة الكذاب قد تسمى بالرحمن، فقالوا على وجه المغالطة:
إنما الرحمن الرجل الذي باليمامة أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا تقديره لما تأمرنا أن نسجد له
وَعِبادُ الرَّحْمنِ أي عباده المرضيون عنده، فالعبودية هنا للتشريف والكرامة، وعباد مبتدأ وخبره الذين يمشون، أو قوله في آخر السورة: أولئك يجزون الغرفة الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي رفقا ولينا بحلم ووقار، ويحتمل أن يكون ذلك وصف مشيهم على الأرض أو وصف أخلاقهم في جميع أحوالهم، وعبر بالمشي على الأرض عن جميع تصرفهم مدة حياتهم قالُوا سَلاماً أي: قالوا قولا سديدا ليدفع الجاهل برفق، وقيل: معناه قالوا للجاهل: سلاما أي هذا اللفظ بعينه بمعنى: سلمنا منكم قال بعضهم هذه الآية منسوخة بالسيف، وإنما يصح النسخ في حق الكفار، أما الإغضاء عن السفهاء والحلم عنهم فمستحسن غير منسوخ إِنَّ عَذابَها وما بعده يحتمل أن يكون من كلامهم أو من كلام الله عز وجل كانَ غَراماً أي هلاكا وخسرانا، وقيل ملازما وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا «٢» الإقتار هو التضييق في النفقة والشح وضده الإسراف، فنهى عن الطرفين، وأمر بالتوسط بينهما وهو القوام، وذلك في الانفاق في المباحات وفي الطاعات، وأما الانفاق في المعاصي فهو إسراف، وإن قل وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً أي عقابا، وقيل: الأثام الإثم فمعناه يلق جزاء أثام وقيل الأثام: واد في جهنم، والإشارة بقوله ذلك إلى ما ذكر من الشرك بالله وقتل النفس بغير حق والزنا
وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً قيل: نزلت في الكفار لأنهم المخلدون في النار بإجماع، فكأنه قال: الذين يجمعون بين الشرك والقتل والزنا، وقيل: نزلت في المؤمنين الذين يقتلون النفس ويزنون، فأما على مذهب المعتزلة
(٢). قرأ نافع يقتروا. وقرأ أهل الكوفة: يقتروا.
قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية، وفي معنى الدعاء هنا ثلاثة أقوال: الأول: أن المعنى إن الله لا يبالي بكم لولا عبادتكم له، فالدعاء بمعنى العبادة وهذا قريب من معنى قوله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] الثاني: أن الدعاء بمعنى الاستغاثة والسؤال، والمعنى لا يبالي الله بكم، ولكن يرحمكم إذا استغثتم به ودعوتموه ويكون على هذين القولين خطابا لجميع الناس من المؤمنين والكافرين، لأن فيهم من يعبد الله ويدعوه، أو خطابا للمؤمنين خاصة، لأنهم هم الذين يدعون الله ويعبدونه، ولكن يضعف هذا بقوله «فقد كذبتم» الثالث: أنه خطاب للكفار خاصة والمعنى على هذا: ما يعبأ بكم ربي لولا أن يدعوكم إلى دينه، والدعاء على هذا بمعنى الأمر بالدخول في الدين، وهو مصدر مضاف إلى المفعول، وأما على القول الأول والثاني فهو مصدر مضاف إلى الفاعل فَقَدْ كَذَّبْتُمْ هذا خطاب لقريش وغيرهم من الكفار دون المؤمنين فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أي سوف يكون العذاب لزاما ثابتا وأضمر العذاب وهو اسم كان لأنه جزاء التكذيب المتقدم، واختلف هل يراد بالعذاب هنا القتل يوم بدر، أو عذاب الآخرة؟