تفسير سورة العنكبوت

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ ﴾ الاستفهام يصح أن يكون للتقرير، وحينئذ فيكون المعنى: يجب على الناس أن يعترفوا بأنهم لا يتركون سدى، بل يمتحنون ويبتلون، لأن الدنيا دار بلاء وامتحان، أو التوبيخ، وعليه فالمعنى لا يليق منهم هذا الحسبان، أي الظن والتخمين، بل الواجب عليهم علمهم بأنهم لا يتركون، وحسب فعل ماض، و ﴿ ٱلنَّاسُ ﴾ فاعله، و ﴿ أَن ﴾ وما دخلت عليه في تأويل مصدر سدت مسد مفعولي حسب، و ﴿ أَن يَقُولُوۤاْ ﴾ علة للحسبان، وقوله: ﴿ وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ﴾ الجملة حالية مقيدة لقوله: ﴿ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ ﴾ ويكون المعنى: أحسب الناس أن يتركوا من غير افتتان بمجرد نطقهم بالشهادتين، أو من أجل نطقهم بالشهادتين، بل لا بد من امتحانهم بعد النطق بالشهادتين، ليتميز الراسخ من غيره. قوله: (بما يتبين به حقيقة إيمانهم) أي من المشاق كالهجرة والجهاد، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال. قوله: (نزل في جماعة) أي كعمار بن ياسر، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وكانوا يعذبون بمكة، والمقصود من الآية تسلية هؤلاء، وتعليم من يأتي بعدهم.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ الخ، إما حال من الناس، وحينئذ فالمعنى أحسبوا ذلك، والحال أنهم علموا أن ذلك ليس سنة الله﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾[الأحزاب: ٦٢] أو من فاعل يفتنون، والمعنى أحسنوا أن لا يكونوا كغيرهم، ولا يسلكوا بهم مسالك الأمم السابقة، روى البخاري عن خباب بن الأرت قال:" شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقال: ألا تستنصر، ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل يحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم كنتم تستعجلون ". قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ ﴾ الخ، عبر في جانب الصدق بالفعل الماضي، وفي جانب الكذب باسم الفاعل، إشارة إلى أن الكاذبين وصفهم مستمر، لم يظهر منهم إلا ما كان مخبأ، وأما الصادقون فقد زال وصف الكذب عنهم، وتجدد لهم الصدق، فناسبه التعبير بالفعل. قوله: (علم مشاهدة) جواب عما يقال: إن علم الله لا تجدد فيه، والجواب أن المراد ليظهر متعلق علم الله للناس ببيان الصادق من الكتاب. قوله: ﴿ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ﴾ الخ، انتقال من توبيخ إلى توبيخ، فالأول توبيخ للناس على ظنهم بلوغ الدرجات بمجرد الإيمان، من غير مشقة ولا تعب، والثاني أشد منه، وهو توبيخهم على ظنه أنهم يفوتون عذاب الله ويفرون منه، مع دوامهم على الكفر. قوله: (الذي) (يَحْكُمُونَـ) (ـه) الخ، أشار بذلك إلى أن ﴿ مَا ﴾ اسم موصول فاعل ﴿ سَآءَ ﴾ و ﴿ يَحْكُمُونَ ﴾ صلته، والعائد محذوف، بالذم محذوف قدره بقوله: (حكمهم) وهذا يصح أن تكون ﴿ مَا ﴾ مميزاً، والفاعل ضمير مفسر بما قال ابن مالك: وما مميز وقيل فاعل   في نحو نعم ما يقول الفاضل
قوله: ﴿ مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ ٱللَّهِ ﴾ أي يعتقد ويجزم بأنه يلاقي الله، فيرجو رحمته، ويخاف عقابه، وهذا التفسير أتم مما قاله المفسر، لأن المؤمن المصدق بلقاء الله، لا بد له من الرجاء والخوف معاً، ويؤيد ما قلناه جواب الشرط الذي قدره بقوله: (فليستعد له) أي يتهيأ ويستحضر للرحمة والنجاة من العذاب. قوله: ﴿ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ ﴾ ليس هذا هو جواب الشرط، وإلا لزم أن من لا يرجو لقاء الله، لا يكون أجل الله آتياً له، بل الجواب ما قدره المفسر. قوله: (بأفعالهم) أي وعقائدهم قوله: (جهاد حرب) أي وهو الجهاد الأصغر، وقوله: (أو نفس) أي وهو الجهاد الأكبر، وذلك أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم والنفس أخته، ولا تغيب عن الإنسان أبداً، وهي خفية تظهر المحبة لصاحبها، بخلاف العدو من الكفار، وأيضاً إذا قتله الكافر كان شهيداً، وأما إذا قتلته نفسه، فإما عاص أو كافر، فلا شك أن جهاد النفس، أكبر من جهاد الكفر، ولذا ورد في الحديث أنه قال بعد رجوعه من الجهاد:" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " قيل: يا رسول الله، وأي جهاد أكبر من هذا؟ قال: " جهاد النفس والشيطان ". قوله: ﴿ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ﴾ أي فلا تمنوا بطاعتكم وخدمتكم على ربكم فالفضل له في توفيقكم لعبادته، فالحصر إضافي فلا ينافي أنه ينتفع غيره بجهاده، كما ينتفع الآباء بصلاح الأولاد، فالمقصود نفي النفع عن الله لاستحالته عليه. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ أي فلا يصل منهم نفع ولا ضر لما في الحديث القدسي:" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك من ملكي شيئاً ". قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ، مبتدأ خبره الجملة القسمية، وهذا وعد حسن للمتصفين بالإيمان. قوله: ﴿ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ أي لا نؤاخذهم بها، وهذا ظاهر في غير المعصومين، وأما المعصومون فلا سيئات لهم، فما معنى تكفيرها؟ أجيب: بأن الكلام على الفرض والتقدير، يعني لو وجدت منهم سيئات تكفر، أو المراد بالسيئات خلاف الأولى على حسب مقامهم، ومن هنا قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، قوله: (بمعنى حسن) أي فاسم التفضيل ليس على بابه، لأنه يوهم أنهم يجازون على الأحسن لا على الحسن، وقد يقال: المراد بالأحسن الثواب الواقع في مقابلة الأعمال الصالحة، فالمعنى عليه حينئذ تضاعف لهم الثواب في نظير أعمالهم الصالحة فتأمل.
قوله: ﴿ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ﴾ سبب نزولها هي وآية لقمان والأحقاف، أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أحد العشرة المبشرين بالجنة، والسابقين إلى الإسلام، لما أسلم آلت أمه حمنة بنت أبي سفيان، أن لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل بسقف، حتى تموت أو يكفر سعد بمحمد، فأبى سعد أن يطيعها، فصبرت ثلاثة أيام، لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل، حتى غشي عليها، فأتاها وقال لها: والله لو كان لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفساً، ما كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت، فنزلت الآية بالوصية عليها، وإنما أمر الله الاولاد ببر والديهم دون العكس، لأن الأولاد جبلوا على القسوة وعدم طاعة الوالدين، فكلفهم الله يما يخالف طبعهم، والآباء مجبولون على الرحمة والشفقة بالأولاد، فوكلهم لما جبلوا عليه. قوله: (أي إيصاء ذا حسن) أشار بذلك إلى أن حسناً صفة لمصدر محذوف على حذف مضاف، ويصح أن يبقى مصدريته مبالغة على حد: زيد عدل قوله: (بأن يبرهما) أي يحسن إليهما، وأوجه البر كثيرة جداً منها: لين الجانب والخدمة وبذل المال لهما وطاعتهما في غير معاصي الله وغير ذلك. قوله: ﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي ﴾ أتى هنا باللام، وفي لقمان بعلى حيث قال:﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي ﴾[لقمان: ١٥] لأن ما هنا موفق لما قبله في قوله:﴿ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ﴾[العنكبوت: ٦] وما في لقمان ضمن ﴿ جَاهَدَاكَ ﴾ معنى حملاك. قوله: ﴿ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ ﴿ مَا ﴾ مفعول تشرك، أي إلهاً لا علم لك به. قوله: (موافقة للواقع) علة لمحذوف تقديره ذكر هذا القيد موافقة للواقع، أي أن الواقع أن الإله واحد، فليس إله لك به علم، وإله لا علم لك به، وأما الأصنام فإشراكها مع الله في العباة هزؤ وسخافة عقل، إذ لو تأمل الكافر أدنى تأمل، ما علم إلهاً غير الله ولا ظنه ولا توهمه. قوله: ﴿ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾ فيه وعد حسن لمن بر بوالديه واتبع الهدى، ووعيد لمن عق والديه واتبع سبيل الردى. قوله: ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي بالصالح والسيئ، فيترتب على كل جزاؤه. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ.
﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ اسم موصول مبتدأ، و ﴿ آمَنُواْ ﴾ صلته، وقوله: ﴿ لَنُدْخِلَنَّهُمْ ﴾ الخ، خبره. قوله: (بأن نحشرهم معهم) أي يوم القيامة، بل ويجتمعون بهم في البرزخ، فإذا مات المؤمن الصالح، اجتمعت روحه بمن أحب من الأنبياء والأولياء حتى تقوم القيامة، فحينئذ يكون موافقاً لهم في الدرجات العالية، قال تعالى:﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً ﴾[النساء: ٣١].
قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ ﴾ الخ، لما بين حال المؤمنين والكافرين فيما تقدم، بيّن هنا حال المنافقين وهم من أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر، و ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ مَن يِقُولُ ﴾ مبتدأ مؤخر، وقوله: ﴿ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ ﴾ الخ، مقول القول. قوله: ﴿ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ ﴾ أي آذاه الكفار على إظهار الإيمان. قوله: ﴿ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ ﴾ أي لم يصبر على الأذى، بل ترك الدين الحق، والتشبيه من حيث إن عذاب الله مانع للمؤمنين من الكفر، فكذلك المنافقون جعلوا أذاهم مانعاً من الإيمان، وكان يمكنهم الصبر على الأذى إلى حد الإكراه، وتكون قلوبهم مطمئنة بالإيمان. قوله: (فيطيعهم) أي ظاهراً وباطناً، وأما المكره فقط أطاع ظاهراً لا باطناً، والمؤاخذة مرجعها للقلب، قوله: (والواو) الخ، عطف على نون الرفع مسلط عليه قوله: (حذف منه). قوله: (لالتقاء الساكنين) أي ولوجود الضمة دليلاً عليها. قوله: ﴿ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾ (في الإيمان) أي وإن الذي وقع منا، إنما هو على سبيل الإكراه. قوله: (أي بعالم) أشار بذلك إلى أن التفضيل في صفات الله وأسمائه ليس مراداً. قوله: ﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ، أي ليظهر متعلق علمه للناس، فيفتضح المنافق، ويظهر شرف المؤمنين الخالص. قوله: (إن كانت) أي فرض حصولها، وإلا فهم ليسوا مسلمين أن في أتباعهم خطايا. قوله: (والأمر بمعنى الخبر) أي فالمعنى ليكن منكم الاتباع ومنا الحمل. قوله: ﴿ وَأَثْقَالاً ﴾ أي لأن الدال على الشركين كفاعله، من غير أن ينقص من وزر الاتباع شيء قوله: ﴿ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي يختلفون من الأباطيل التي من جملتها قوله: (اتبعوا سبيلنا) الخ.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً ﴾ الخ، لما قدم سبحانه وتعالى تكاليف هذه الأمة، وبين أن من أطاع فله الجنة، ومن عصى فله النار، بين هنا أن هذه التكاليف ليست مختصة بهذه الأمة، بل من قبلهم كانوا كذلك، وتقدم أن نوحاً اسمه عبد الغفار، وقيل يشكر، وكان يسمى السكن، لأن الناس بعد آدم سكنوا اليه فهو أبوهم، ولقب بنوح لكثرة نوحه على قومه، وقل على خطيئته لما روي أنه مر بكلب فقال في نفسه ما أقبحه، فأوحى الله اليه أعبتني أم أعبت الكلب؟ اخلق أنت أحسن منه، ونوح وهو ابن لمك بن متوشلخ ابن إدريس بن برد من أهاليل بن قينان بن نوش بن شيث بن آدم عليه السلام. قوله: (وعمره أربعون سنة أو أكثر) تقدم أنه اختلف في الأكثر، فقيل بعث على رأس خمسين، وقيل مائتين وخمسين، وقيل مائة سنة، وقيل غير ذلك. قوله: ﴿ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ الخ، الحكمة في ذكر لبثه هذه المدة، تسليته صلى الله عليه وسلم على عدم دخول الكفار في الإسلام، فكأن الله يقول لنبيه: لا تحزن فإن نوحاً لبث هذا العدد الكثير، ولم يؤمن من قومه إلى القليل، فصير وما ضجر، فأنت أولى بالصبر، لقلة مدة مكثك وكثرة من آمن من قومك، والحكمة في المغايرة بين العام والسنة التفنن، وخص لفظ العام بالخمسين، إشارة إلى أن نوحاً لما غرقوا استراح وبقي في زمن حسن، والعرب تعبر عن الخصب بالعام، وعن الجدب بالسنة. قوله: (طاف بهم وعلاهم) أي أحاط بهم وارتفع فوق أعلى جبل أربعين ذراعاً. قوله: (الذين كانوا معه فيها) قيل كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة، وقيل تسعة أولاده الثلاثة وستة من غيرهم وقيل غير ذلك. قوله: (ستين أو أكثر) قيل عاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة. قوله: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ ﴾ قرأ العامة بالنصب عطف على ﴿ نُوحاً ﴾ أو معمول المحذوف، كما درج عليه المفسر حيث قدر (اذكر) وقرئ شذوذاً بالرف على أنه مبتدأ، والخبر محذوف تقديره ومن المرسلين ابراهيم. قوله: ﴿ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي امتثلوا ما يأمركم به على لسان نبيكم. قوله ﴿ وَٱتَّقُوهُ ﴾ أي اجتنبوا نواهيه. قوله: ﴿ ذٰلِكُمْ ﴾ أي ما ذكر من العبادة والتقوى. قوله: ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ (ما أنتم عليه) الخ، أي في زعمكم أن فيه خيراً، والأحسن أن يقال: ذلكم خير لكم من جميع الحظوظات المعجلة. قوله: (الخير) أي وهو عبادة الله، وقوله: (من غيره) أي وهو عبادة غيره. قوله: ﴿ أَوْثَاناً ﴾ جمع وثن، وهو ما يصنع من حجر وغيره ليتخذ معبوداً. قوله: ﴿ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ﴾ إي تختلقونه وتخترعونه. قوله: ﴿ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ﴾ أي لا يستطيعون ذلك، لعجزهم وعدم قدرتهم عليه. قوله: (فاطلبوه منه) أي ولا تطلبوه من غيره، لأنه تكفل لكل دابة برزقها، قال تعالى:﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا ﴾[هو: ٦].
قوله: ﴿ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ ﴾ أي لأن بالشكر تزداد النعم، قال تعالى:﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾[ابراهيم: ٧].
قوله: ﴿ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي تردون فيثيب الطائع ويعذب العاصي. قوله: ﴿ وَإِن تُكَذِّبُواْ ﴾ شرط حذف جوابه تقديره: فلا يضرني تكذيبكم، وإنما تضرون أنفسكم، وقوله: ﴿ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ﴾ دليل الجواب، ومن هنا قوله:﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ﴾[العنكبوت: ٢٤] جمل معترضة كلام إبراهيم، وجواب قومه له، إشارة إلى أن المقصود بالخطاب أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: (من قبلي) ﴿ مِن ﴾ اسم موصول مفعول كذب، والمعنى فلم يضر الرسل تكذيب قومهم لهم. قوله: (في هاتين القصتين) أي قصة نوح وإبراهيم. قوله: (وقد قال تعالى) أي رداً على منكري البعث. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان.
قوله: ﴿ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ﴾ لما تقدم ذكر التوحيد والرسالة ذكر الحشر، وهذه الأصول الثلاثة يجب الإيمان بها، ولا ينفك بعضها عن بعض. قوله: (وقرئ بفتحة) أي شذوذاً. قوله: (من بدأ وأبدأ) لف ونشر مشوش. قوله: ﴿ ثُمَّ ﴾ (هو) ﴿ يُعِيدُهُ ﴾ قدر الضمير إشارة إلى أن الجملة ليست معطوفة على ما قبلها، بل هي مستأنفة. قوله: ﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أمر من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن يقول لمنكري البعث ما ذكر، ليشاهدوا كيف أنشأ الله جميع الكائنات، ومن قدر على إنشائها بدءاً يقدر على إعادتها. قوله: (مع سكون الشين) راجع للقصر، والقراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ﴾ أي في الدنيا والآخرة، وقوله: ﴿ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ ﴾ أي فيهما فلا يسأل عما يفعل. قوله: (لو كنتم فيها) أشار بذلك إلى أن المراد بالأرض والسماء حقيقتهما، ويصح أن يراد بهما جهة السفل والعلو. قوله: (أي القرآن والبعث) لف ونشر مرتب، فالأول راجع للآيات، والثاني للفاء. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي ﴾ أي يوم القيامة، وعبر بالماضي لتحقيق وقوعه.
قوله: ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ ﴾ الخ، أي لم يكن جواب قوم إبراهيم له، حين أمرهم بعبادة الله، وترك ما هم عليه من عبادة الأوثان، جزاء لما صدر منه من النصيحة إلا ذلك، فإن النفس الخبيثة أبت أن لا تخرج من الدنيا حتى تسيء إلى من أحسن إليها، وهذا الكلام واقع من كبارهم لصغارهم، لأن الشأن أن الأمر بالقتل أو التحريق يكون من الكبار، والذي يتولى ذلك الصغار، وإنما أجابوا بذلك عناداً بعد ظهور الحجة منه. قوله: ﴿ أَوْ حَرِّقُوهُ ﴾ أتى هنا بالترديد، واقتصر في الأنبياء على أحد الأمرين، وهو الذي فعلوه، إلى أن ما هنا حكاية عن أصل تشاورهم، وما في الأنبياء عن عزمهم وتصميمهم على ما فعلوه، قوله: ﴿ فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ ﴾ في الكلام حذف، والتقدير فقذفوه في النار فأنجاه الله الخ، وإلى هذا أشار المفسر بقوله: (التي قذفوه فيها). قوله: (هي) اي الآيات. قوله: (وإخمادها) أي سكون لهبها مع بقاء جمرها، وأما الأهماد فهو طفء النار بالمرة. قوله: (في زمن يسير) أي مقدار طرفة عين. قوله: (لأنهم المنتفعون) علة لمحذوف، والتقدير خصوا بالذكر لأنهم الخ. قوله: ﴿ وَقَالَ ﴾ (إبراهيم) عطف على قوله: ﴿ فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ ﴾.
قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً ﴾ إن حرف توكيد ونصب، وما مصدرية، و ﴿ ٱتَّخَذْتُمْ ﴾ صلتها مسبوكة بمصدر اسم إن، و ﴿ أَوْثَاناً ﴾ مفعول أول، والمفعول الثاني محذوف قدره المفسر بقوله: (تعبدونها) و ﴿ مَّوَدَّةَ ﴾ خبر إن، و ﴿ مِّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ حال من ﴿ أَوْثَاناً ﴾ وهذا على قراءة الرفع، وقوله: (وعلى قراءة النصب) مفعول (وما كافة) أي سواء قرى بتنوين ﴿ مَّوَدَّةَ ﴾ ونصب ﴿ بَيْنِكُمْ ﴾ أو بعدم التنوين، وخفض بينكم واتخذ إما متعد لواحد أو لاثنين، والثاني هو قوله: ﴿ مِّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ ويصح أن تكون ما اسماً موصولاً، و ﴿ ٱتَّخَذْتُمْ ﴾ صلته والعائد محذوف، والتقدير إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثاناً تعبدونها لأجل المودة بينكم، ونقل عن عاصم أنه رفع مودة غير منونة ونصب بينكم، وخرجت على إضافة مودة للظرف، وبنى لاضافته لغير متمكن كقراءة:﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾[الأنعام: ٩٤] بالفتح إذا جعل بينكم فاعلاً، فتحصل أن القراءات أربع: الرفع مع جر بين وفتحها، والنصب مع جر بين وفتحها، وكلها سبعي. قوله: (المعنى) أي الحاصل من تلك القراءات. قوله: (يتبرأ القادة) أي ينكرونهم ويقولون لهم لا نعرفكم. قوله: (صدق إبراهيم) أي نبوته وإن كان مؤمناً قبل ذلك، ويجب الوقف على لوط لأن قوله: ﴿ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ ﴾ من كلام إبراهيم، فلو وصل لتوهم أنه من كلام لوط. قوله: (أي إلى حيث أمرني ربي) دفع بذلك ما يتوهم من ظاهر اللفظ إثبات الجهة له سبحانه وتعالى. قوله: (وهاجر من سواد العراق) أي فنزل بحران هو وزوجته سارة ولوط ابن أخيه، ثم انتقل منها فنزل بفلسطين ونزل لوط بسذوم، وكان عمر إبراهيم إذ ذاك خمساً وسبعين سنة.
قوله: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ ﴾ أي بعد هجرته. قوله: (بعد إسماعيل) أي بأربع عشرة سنة. قوله: ﴿ فِي ذُرِّيَّتِهِ ﴾ أي إبراهيم. قوله: (فكل الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته) أي لانحصار الأنبياء في إسماعيل وإسحاق ومدين جد شعيب. قوله: (وهو الثناء الحسن في كل أهل الأديان) أي فجميع أهل الأديان يحبونه ويذكرونه بخير وينتمون إليه. قوله: ﴿ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ أي الكاملين في الصلاح قوله: ﴿ وَلُوطاً ﴾ معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله: (اذكر). قوله: ﴿ لِقَوْمِهِ ﴾ أي أهل سذوم وتوابعها. قوله: (وإدخال ألف بينهما) أي وعدمه، فالقراءات أربع سبعيات. قوله: (الإنس والجن) أي من عهد آدم إلى قوم لوط. قوله: (بفعلكم الفاحشة بمن يمر بكم) قيل إنهم كانوا يجسلون في مجالسهم، وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصاً، فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه، فأيهم أصابه كان أولى به، فيأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثة دراهم، ولهم قاض بذلك. قوله: (فعل الفاحشة) أي والضراط وكشف العورات وغير ذلك من القبائح. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتِنَا ﴾ الخ، أي على سبيل الاستهزاء. قوله: (بإتيان الرجال) أي وفعل بقية الفواحش. قوله: (فاستجاب الله دعاءه) أي فأمر الملائكة بإهلاكهم، وأرسلهم مبشرين ومنذرين، فبشروا إبراهيم بالذرية الطيبة، وانذروا قوم لوط بالعذاب. قوله: (بإسحاق ويعقوب) أي وبهلاك قوم لوط. قوله: ﴿ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً ﴾ هذا بعد المجادلة التي تقدمت في قوله:﴿ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ﴾[هود: ٧٤] حيث قال لهم: أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن قالوا: لا، إلى أن قال: أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد قالوا: لا.
﴿ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ﴾.
قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (الباقين في العذاب) أي لم يخلصوا منه، لأن الدال على الشر كفاعله، وهي قد دلت القوم على أضياف لوط، فصارت واحدة منهم بسبب ذلك.
قوله: ﴿ وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ ﴾ ﴿ أَن ﴾ زائدة للتوكيد. قوله: (حزن بسببهم) أشار بذلك إلى أن الباء في بهم سببية. قوله: ﴿ ذَرْعاً ﴾ تمييز محول عن الفاعل أي ضاق ذرعه، وقوله: (صدراً) تفسير لحاصل المعنى، وإلا فالذرع معناه الطاقة والقوة. قوله: (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (على محف الكاف) أي وهو النصب على أنها مفعول منجو. قوله: (عذاباً) قيل هو حجارة، وقيل نار، وقيل خسف، وعليه فالمراد بكونه من السماء أن الحكم به من السماء. قوله: (هي آثار خرابها) وقيل هي الحجارة التي أهلكوا بها، أبقاها الله عز وجل حتى أدركتها أوائل هذه الأمة، وقيل هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض. قوله: ﴿ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ متعلق بتركنا أو بينة، وخصهم لأنهم المنتفعون بالاتعاظ بها. قوله: ﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ ﴾ متعلق بمحذوف معطوف على (أرسلنا) في قصة نوح. قوله: ﴿ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ﴾ أي لأنه من ذرية مدين بن إبراهيم الذي هو أبو القبيلة، فكما هو منسوب لمدين هم كذلك. قوله: ﴿ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي وحدوه. قوله: ﴿ وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ﴾ يصح أن يبقى الرجاء على معناه، ويكون المعنى ارجوا رحمة الله في اليوم الآخر، ويصح أن يكون بمعنى خافوا، والمعنى خافوا عقاب الله في اليوم الآخر، واليه يشير المفسر بقوله: (اخشوه). قوله: (من عثي بكسر المثلثة) أي من باب تعب، ويصح أن يكون من باب قال. قوله: ﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾.
إن قلت: مقتضى الظاهر أن يقال: فلم يمتثلوا أوامره، لأن التكذيب إنما يكون في الإخبار. أجيب: بأن ما ذكره من الأمر والنهي متضمن للخبر، كأنه قيل: الله واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرم فاجتنبوه، فالتكذيب راجع إلى الإخبار. قوله: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ ﴾ أي الزلزلة التي نشأت من صيحة جبريل عليهم، وتقدم في هود:﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ ﴾[الحجر: ٧٣] ولا منافاة بين الموضعين، فإن سبب الرجفة الصيحة، والرجفة سبب في هلاكهم، فتارة يضاف الأخذ للسبب، وتارة لسبب السبب.
قوله: (بالصرف وتركه) راجع لثمود فقط، وقوله: (بمعنى الحي والقبيلة) لف ونشر مرتب، لكونه بمعنى الحي يكون اسم جنس، لم يتوجد فيه العلمية التي هي إحدى علتي منع الصرف، وكونه بمعنى القبيلة يكون علم شخص على أبي القبيلة، فقد وجدت فيه العلتان. قوله: (إهلاكهم) أشار بذلك إلى أن فاعل تبين، ضمير عائد على الإهلاك. قوله: (بالحجر) راجع لثمود، وهو واد بين الشام والمدينة، وقوله: (واليمن) راجع لعاد. قوله: ﴿ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ ﴾ أي بواسطة الرسل، فلم يكن لهم عذر في ذلك، لأن الرسل بينوا طريق الحق بالحجج الواضحة له. قوله: (ذوي بصائر) أي عقلاء متمكنين من النظر والاستبصار، لكنهم لم يفعلوا تكبراً وعناداً. قوله: ﴿ وَقَارُونَ ﴾ قدمه على ﴿ فِرْعَوْنَ ﴾ لشرفه عليه وكونه ابن عم موسى. قول: ﴿ وَهَامَانَ ﴾ هو وزير فرعون. قوله: ﴿ فَٱسْتَكْبَرُواْ ﴾ أي تكبروا عن عبادة الله. قوله: ﴿ بِذَنبِهِ ﴾ الباء سببية أي بسبب ذنبه. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾ أي يعاملهم معاملة ملك ظالم في رعيته، وعلى فرض لو عذبهم بغير ذنب لا يكون ظالماً، لأنه الخالق المتصرف في ملكه على ما يريد.
قوله: (يرجون نفعها) هذا هو وجه الشبه، أي فمثل الذين اتخذوا من دون الله أصناماً يعبدنها، في اعتمادهم عليها ورجائهم نفعاً، كمثل العنكبوت في اتخاذها بيتاً، لا يغني عنها في حر ولا برد ولا مطر ولا أذى، وحمل المفسر الأولياء على الأصنام مخرج للأولياء بمعنى المتولين في خدمة ربهم، فإن اتخاذهم بمعنى التبرك بهم والالتجاء لهم والتعلق بأذيالهم مأمور به، وهم أسباب عادية تنزل الرحمات والبركات عندهم لا بهم، خلافاً لمن جهل وعاند وزعم أن التبرك بهم شرك. قوله: ﴿ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ﴾ هو حيوان معروف، له ثمانية أرجل وستة أعين، يقال إنه أقنع الحيوانات، جعل الله رزقه أحرص الحيوان وهو الذباب والبق، ونونه أصلية، والواو والتاء زائدتان، بدليل قولهم في الجمع عناكب، وفي التصغير عنيكيب. قوله: ﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ ﴾ الجملة حالية. قوله: (كذلك الأصنام لا تنفع عابديها) أي فمن التجأ لغير الله فلا ينفعه شيء، ومن التجأ لله وقاه بغير سبب وبسبب ضعيف، ومن هنا وقاية رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار حين نزل الغار، بالعنكبوت وبيض الحمام، مع كونهما أضعف الأشياء. قوله: (ما عبدوها) قدره إشارة إلى أن جواب لو محذوف. قوله: (بمعنى الذي) أشار بذلك إلى أن ﴿ مَا ﴾ اسم موصول، وجملة ﴿ يَدْعُونَ ﴾ صلتها، والموصول وصلته معمول ليعلم. قوله: (أي يفهمها) أي يفهم صحتها وفائدتها. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ ﴾ خصهم لأنهم المنتفعون بذلك، وأما الكافرون فيزدادون طغياناً وعتواً. قوله: (محقّاً) أشار بذلك إلى أن الباء في ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ للملابسة، والجار والمجرور حال. قوله: (خصوا بالذكر) جواب عما يقال إن في خلق السماوات والأرض آية لكل عاقل.
قوله: ﴿ ٱتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ ﴾ أي ما أوحاه الله أليك بنزول جبريل، والمعنى تقرب إلى الله بتلاوته وترداده أنت وأمتك، لأن فيه محاسن الآداب ومكارم الأخلاق. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ بيان لما. قوله: ﴿ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ ﴾ أي دم على إقامتها، بأركانها وشروطها وآدابها، فإنها عماد الدين، من أقامها أقام الدين، ومن هدمها هدم الدين، والخطاب للنبي والمراد هو وأمته، بدليل مدحهم في آية:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴾[فاطر: ٢٩] الآية. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ ﴾ أي المواظبة عليها، تكون سبباً في تطهيره عن الفحشاء والمنكر، إذا استوفيت شروطها وآدابها، لأن الواجب حين الاقبال على الصلاة، التطهير من الحدث الحسي والمعنوي وتجديد التوبة، فإذا وقف بين يدي الله، وخشع وتذكر أنه واقف بين يدي مولاه، وأنه مطلع عليه يراه، فحيئنذ يظهر على جوارحه هيئتها، وقوله: (ما دام المرء فيها) هذا أحد قولين، والقول الصحيح أنها تنهى عنها في سائر الأوقات، لما روي" أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا يدع شيئاً من الفواحش إلا ارتكبه، فوصف للنبي صلى الله عليه وسلم حاله فقال: إن صلاته ستنهاه، فلم يلبث أن تاب وحسن حاله ". وروي عن بعض السلف، أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه، فكلم في ذلك فقال: إني واقف بين يدي الله تعالى، وحق لي هذا مع ملوك الدنيا، فكيف مع ملك الملوك، وأما من صلاته بخلاف ذلك، بأن كانت لا خشوع فيها ولا تذكر، فإنها لا تكون سبباً في نيهه عن الفحشاء والمنكر، بل يستمر على ما هو عليه من البعد، لما ورد:" من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم تزده من الله إلا بعداً ". قوله: ﴿ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ ﴾ بسائر أنواعه أكبر، أي أفضل الطاعات على الإطلاق، لما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله ". وروي" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيراً، قالوا: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ فقال: لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكرون الله كثيراً أفضل منه درجة "فالذكر أفضل الأعمال، وهو المقصود من تلاوة القرآن ومن الصلاة، ولذا ورد عن الجنيد أنه كان يأيته العصاة يريدون التوبة على يديه، فيلقنهم الذكر ويأمرهم بالإكثار منه فتنور قلوبهم. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ أي من خير وشر فيجازيكم. عليه. قوله: ﴿ وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ أي لا تدعوهم إلى دين الله إلا بالكلام اللين المعروف والإحسان لعلهم يهتدون، وقوله: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ أي فادعوهم إلى دين الله بالإغلاظ والشدة، وقاتلوا حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فهذه الآية بمعنى قوله تعالى:﴿ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾[التوبة: ٢٩] الآية، وعلى هذا التقدير فالآية محكمة وهو التحقيق. قوله: (بأن حاربوا) الخ، أشار بذلك إلى أن المراد بالظلم الامتناع مما يلزمهم شرعاً فلا يقال إن الكل ظالمون لأنهم كفار. قوله: (أو يعطوا الجزية) أي يلزموا بإعطائها. قوله: ﴿ وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ﴾ أي لما روي أنه كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ﴿ وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ﴾ الآية "وفي رواية:" وقولوا آمنا بالله وبكتبه وبرسله فإذا قالوا باطلاً لم تصدقوهم وإن قالوا حقاً لم تكذبوهم ". ومحل ذلك ما لم يتعرضوا لأمور توجب نقض عهدهم، كأن يظهروا أن شرعهم غير منسوخ، وأن نبينا غير صادق فيما جاء به، وغير ذلك، فحينئذ نقاتلهم، ومحله أيضاً ما لم يخبرونا بخبر موافق لما في كتابنا، وإلا فيجب تصديقهم من حيث إن الله أخبرنا به. قوله: ﴿ فَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾ أي نفعناهم به، بأن أعطيناهم نوره، وظهرت ثمرته عليهم، وهم الذين يؤمنون به، وإلا فجميع علمائهم أوتوا الكتاب، ولم يسلم منهم إلا القليل، ويصح أن يكون المراد: (ففريق من أهل الكتاب) الخ. قوله: ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ ﴾ أي ينكرها بعد معرفتها. قوله: (أي اليهود) لا مفهوم له بل النصارى والمشركون، كذلك فالمناسب أن يقول: إلا الكافرون كاليهود.
قوله: ﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ﴾ شروع في إثبات الدليل على أن القرآن من عند الله وأنه معجز للشر، كأن الله يقول لأهل الكتاب: أنتم لا عذر لكم في إنكار القرآن، ولا في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، لأن من جملة صفاته في كتبهم، أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، ووجد بهذه الصفة، فلو فرض أنه كان يكتب أو يقرأ، لحصل لكم الشك في نبوته، وفي القرآن، لوجوده على خلاف الصفة التي في كتبهم. قوله: ﴿ مِن كِتَابٍ ﴾ مفعول ﴿ تَتْلُواْ ﴾ و ﴿ مِن ﴾ زائدة. قوله: (أي لو كنت قارئاً كاتباً) لف ونشر مرتب. قوله: (اليهود) لا مفهوم له. قول: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾ إضراب عما تقدم من الارتياب. قوله: (أي المؤمنين يحفظونه) أي لفظاً ومعنى لما ورد:" وجعلت من أمتك أقواماً قلوبهم أناجيلهم أي كالأناجيل "والمعنى أن القرآن محفوظ في صدروهم وثابت فيها، كما كان كتاب النصارى ثابتاً في أناجيلهم. قوله: ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ ﴾ أي القرآن. قوله: (اليهود) تقدم ما فيه. قوله: (وفي قراءة آيات) أي وهما سبعيتان. قوله: (ينزلها كيف يشاء) أعلى على ما يريد، ولا دخل لأحد في ذلك لأن المعجزة أمر خارق للعادة يأتي بفضل الله. قوله: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والواو عاطفة عليه، التقدير أجهلوا ولم يكفهم الخ، والاستفهام للتوبيخ. قوله: ﴿ أَنَّآ أَنزَلْنَا ﴾ أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر فاعل يكف، والتقدير أولم يكفهم إنزالنا. قوله: (مستمرة لا انقضاء لها) أخذ ذلك من قوله: ﴿ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ﴾.
قوله: (بخلاف ما ذكر من الآيات) أي فانقضت بموت الرسل. قوله: ﴿ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ خصوا بالذكر لأنهم هم المنتفعون بذلك. قوله: (ومنه حالي وحالكم) أي من جملة ما في السماوات والأرض. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْبَاطِلِ ﴾ أي خضعوا له وعبدوه. قوله: (حيث اشتروا الكفر بالإيمان) أي أخذوا الكفر وتركوا الإيمان.
قوله: ﴿ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى ﴾ (له) أي للعذاب. قوله: ﴿ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً ﴾ أي كوقعة بدر، فإنها أتتهم على حين غفلة. قوله: ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ أي لا يظنون أن العذاب يأتيهم أصلا. قوله: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ ﴾ تعجب من قلة فطنتهم ومن تعنتهم، والمعنى: كيف يستعجلون العذاب، والحال أن جهنم محيطة بهم يوم القيامة لا مفر لهم منها؟ قوله: ﴿ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ ﴾ ظرف لقوله محيطة، والمعنى على الاستقبال، أي ستحيط بهم في ذلك اليوم. قوله: ﴿ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ تفسير للاحاطة وهو بمعنى قوله تعالى:﴿ لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾[الأعراف: ٤١].
قوله: (أي نأمر بالقول) إنما أوله جمعاً بين ما هنا، وبين قوله في الأخرى﴿ لاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾[البقرة: ١٧٤].
قوله: (أي جزاءه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾ خطاب لفقراء الصحابة الذين كانوا يخافون من إظهار الإسلام في مكة كما قال المفسر، والإضافة لتشريف المضاف. قوله: ﴿ فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ ﴾ إياي منصوب بفعل محذوف دل عليه المذكور. قوله: (كانوا في ضيق) الخ، أي فوسع الله لهم الأمر، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن تعسرت عليه العبادة في بلده، فعليه أن يهاجر منها للبلد تتيسر له فيها لقوله تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾[الذاريات: ٥٦] فالمهم العبادة أي مكان تيسر، ولا يعول على مكان في الدنيا، لأنها دار ممر لا مقر. في طريق لا يعول على مسكن ولا قرار في طريقه. قوله: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ﴾ أي لاتقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت فإن ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ﴾ فالحكمة في تخويفهم من الموت، كون مفارقة الأوطان تهون عليهم، فإن من أيقن بالموت هان عليه كل شيء في الدنيا.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ لما ذكر أحوال الكفار، وما آل اليه أمرهم، أتبعه بذكر أحوال المؤمنين، وما آل إليه أمرهم. قوله: (وفي قراءة بالمثلثة) أي الساكنة بعد النون، وبعدها واو مكسورة ثم ياء مفتوحة، و(غرفاً) على هذه القراءة، إما منصوب بنزع الخافض كما قال المفسر، أو مفعول به بتضمين مثوى معنى نزل فيتعدى لاثنين، قوله: ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ﴾ أي الغرف. قوله: (مقدرين الخلود) ﴿ فِيهَا ﴾ أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ حال مقدرة، أي أنهم حين الدخول يقدرون الخلود لأنه أتم في النعيم، لسماعهم النداء من قبل الله: يا أهل الجنة خلود بلا موت. قوله: (هذا الأجر) أشار بذلك إلى أن المخصوص بالمدح محذوف. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ﴾ نعت للعالمين، أو خبر لمحذوف كما قال المفسر. قوله: (لإظهار الدين) متعلق بالهجرة. قوله: ﴿ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ﴾ سبب نزولها: أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر المؤمنين بالهجرة قالوا: كيف نخرج إلى المدينة، وليس بها دار ولا مال، فمن يطعمنا بها ويسقينا. وقوله: ﴿ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ﴾ أي لا تدخره لغد كالبهائم الطير، قال سفيان بين عيينة: ليس شيء من الخلق يخبأ إلا الإنسان والفأرة والنملة. قوله: ﴿ ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ أي فلا فرق بين الحريص والمتوكل والضعيف والقوي في أمر الرزق، بل ذلك بتقدير الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى:﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾[هود: ٦] فينبغي للإنسان أن يفوض أمر الرزق له تعالى، ولا ينافي هذا أخذه في الأسباب، لأن الله تعالى أوجد الأشياء عند أسبابها لا بها، فالأسباب لا تنكر، ومن أنكرها فقد ضل وخسر. قوله: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ ﴾ أي كفار مكة. قوله: ﴿ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ﴾ الخ، أتى في جانب السماوات والأرض بالخلق، وفي جانب الشمس والقمر بالتسخير، إشارة إلى أن الحكمة في خلقهما التسخير الذي ينشأ عنه الليل والنهار، اللذان بهما قوام العالم بخلاف السماوات الارض، فالنفع في مجرد خلقهما. قوله: ﴿ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾ الاستفهام للتوبيخ. قوله: ﴿ ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ﴾ أي فلا تركن لغيره، فليس مالكاً لضر ولا نفع. قوله: ﴿ فَأَحْيَا بِهِ ﴾ أي النبات الناشئ عن الماء. قوله: ﴿ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا ﴾ أي جدبها وقحط أهلها. قوله: (فكيف يشركون به) أي بعد إقرارهم. قوله: ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ أي والأقل يعقل، ومن عقل منهم اهتدى وآمن.
قوله: ﴿ وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ ﴾ أشار بذلك إلى أن الدنيا حقيرة لا تزن جناح بعوضة، فينبغي للعاقل التجافي عنها، ويأخذ منها بقدر ما يوصله للآخرة، قال بعض العارفين: تأمل في الوجود بعين فكر   ترى الدنيا الدنية كالخيالومن فيها جميعاً سوف يفنى   ويبقى وجه ربك ذو الجلالقوله: ﴿ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ اللهو الاشتغال بما فيه نفع عاجل، واللعب الاشتغال بما لا نفع فيه أصلاً. قوله: (وأما القرب) أي كالتوحيد والذكر والعبادة. قوله: (بمعنى الحياة) أي الدائمة الخالدة الي لا زوال فيها. قوله: (ما آثروا الدنيا عليها) جواب لو، أي ما قدموا لذة الدنيا على الآخرة. قوله: ﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ ﴾ الخ. أي وذلك لأن الكفار كانوا إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتدت الريح، ألقوها في البحر وقالوا: يا رب يا رب، ودعوا الله مخلصين حالة الكرب. قوله: ﴿ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ جواب لما، والمعنى عادوا إلى شركهم لأجل كفرهم بما أعطاهم الله، وتلذذهم بأعراض الدنيا، فلم يقابلوا النعم بالشكر بخلاف المؤمنين. قوله: ﴿ لِيَكْفُرُواْ ﴾ اللام لام العاقبة والصيرورة، وقوله: ﴿ وَلِيَتَمَتَّعُواْ ﴾ عطف عليه. قوله: (وفي قراءة بسكون اللام) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أمر تهديد) أي في الفعلين، بدليل الوعيد المرتب عليهما بقوله: ﴿ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ ﴾ فالحاصل أنه إذا سكت اللام في الثاني، تعين كونها للأمر في الفعلين، وإن لم تسكن كانت في الفعلين للعاقبة والصيرورة. قوله: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والواو عاطفة عليه، والتقدير أعموا ولم يروا، الخ. قوله: ﴿ وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ ﴾ الجملة حالية على تقدير المبتدأ، أي وهم يتخطف، الخ. قوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ قال المفسرون: إن هذه الآية نزلت قبل الأمر بالجهاد لكونها مكية، وحينئذ فالمراد بالجهاد فيها جهاد النفس، قال الحسن: الجهاد مخالفة الهوى، وقال الفضيل بن عياض: والذين جاهدوا في طلب العلم، لنهدينهم سبل العمل به، وقال سهل بن عبد الله: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا. وقيل: الذين جاهدوا فيما علموا، لنهدينّهم إلى ما لم يعلموا، لما في الحديث:" من عمل بما علم علمه الله علم ما لم يعلم "وقوله: ﴿ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ أي طرق الوصول إلى مرضاتنا، فالطريق هي العمل بالأحكام الشرعية، وثمرتها الحقيقة، وهي العلوم والمعارف المشار اليها بقوله تعالى:﴿ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً ﴾[الجن: ١٦].
قوله: ﴿ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ فيه إقامة الظاهر مقام المضمر، لإظهار شرفهم بوصف الإحسان، والمعنى وإن الله لمعهم بالعون والنصر والمحبة، فهي معية خاصة، واليها الاشارة بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي:" فإذا أجبته كنت سمعه الذي يسمع به "الحديث.
Icon