تفسير سورة الزمر

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿زلفى﴾ قربى ومنه ﴿وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الشعراء: ٩٠] أي قرّبت لهم ﴿يُكَوِّرُ﴾ التكوير: اللَّفُ والليُّ يقال: كوَّر العمامة أي لفَّها ﴿خَوَّلَهُ﴾ أعطاه وملَّكه ﴿قَانِتٌ﴾ مطيع خاضع عابد {
63
أَندَاداً} أوثاناً وأصناماً ﴿ظُلَلٌ﴾ جمع ظُلَّة وهي ما يُظل الإِنسان من سقف ونحوه ﴿الطاغوت﴾ من الطغيان وهو مجاوزة الحدِّ والمراد بالطاغوت كل ما عُبد من دون الله من وثن أو بشر أو حجر ﴿أنابوا﴾ رجعوا ﴿غُرَفٌ﴾ منازل رفيعة عالية في الجنة، والغرفة: المنزلة والمكانة السامية ومنه ﴿أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ﴾ [الفرقان: ٧٥].
التفسِير: ﴿تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم﴾ أي هذا القرآن تنزيلٌ من الله جل وعلا ﴿العزيز﴾ أي القادر الذي لا يُغلب ﴿الحكيم﴾ أي الذي يفعل كل شيء بحكمةٍ وتقدير وتدبير ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق﴾ أي نحن أنزلنا عليك يا محمد القرآن العظيم متضمناً الحق الذي لا مرية فيه، والصدق الذي لا يشوبه باطل أو هزل ﴿فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين﴾ أي فاعبد الله وحده مخلصاً له في عبادتك، ولا تقصد بعملك ونيتك غير ربك ﴿أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص﴾ أي ألا فانتبهوا أيها الناس: إن الله تعالى لا يقبل إلا مكان خالصاً لوجهه الكريم لأنه المتفرد بصفات الألوهية، المطَّلع على السرائر الضمائر، ومعنى «الخالص» الصافي من شوائب الشرك والرياء ﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾ أي وهؤلاء المشركون الذين عبدوا من دونه الأوثان يقولون ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ أي ما نعبد هذه الآلهة والأصنام إلا ليقربونا إلى الله قربى ويشفعوا لنا عنده قال الصاوي: كان المشركون إذا قيل لهم: من خلقكم؟ ومن خلق السمواتِ والأرض؟ من ربكم ورب آبائكم الأولين؟
فيقولون: الله، فيقال لهم: فما معنى عبادتكم الأصنام؟ فيقولون: لتقربنا إلى الله زلفى وتشفع لنا عنده ﴿إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أي يحكم بين الخلائق يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، فيدخل المؤمنين الجنة، والكافرين النار ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ أي لا يوفق للهدى، ولا يرشد للدين الحق من كان كاذباً على ربه، مبالغاً في كفره، وفي الآية إشارة إلى كذبهم في تلك الدعوى ﴿لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾ أي لو شاء الله اتخاذ ولد على سبيل الفرض والتقدير ﴿لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ أي لاختارمن مخلوقاته ما يشاء ولداً على سبيل التبني إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بطريق التولد المعروف ولكنه لم يشأ ذلك لقوله ﴿وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾ [مريم: ٩٢] وقوله ﴿مِمَّا يَخْلُقُ﴾ أي من المخلوقات التي أنشأها واخترعها ﴿سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار﴾ أي تنزه جل وعلا وتقدس عن الشريك والولد، لأنه هو الإِله الواحد الأحد، المنزَّه عن النظير والمثيل، القاهر لعباده بعظمته وجلاله قال في التسهيل: نزَّه تعالى نفسه من اتخاذ الولد، ثم وصف نفسه بالواحد لأن الوحدانية تنافي اتخاذ الولد، لأنه لو كان له ولدٌ لكان من جنسه ولا جنس له لأنه واحد، ووصف نفسه بالقهار ليدل على نفي الشركاء والأنداد، لأن كل شيء مقهور تحت قهره تعالى، فكيف يكون شريكاً له؟ ثم ذكر تعالى دلائل قدرته وحدانيته وعظمته، فقال: ﴿خَلَقَ السماوات والأرض بالحق﴾ أي خلقهما على أكمل الوجوه وأبدع الصفات، بالحق الواضح والبراهن الساطع ﴿يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل﴾ أي يغشي الليل على النهار، ويغشي النهار على الليل، وكأنه يلفُّ عليه لفَّ اللباس على
64
اللابس قال القرطبي: وتكويرُ الليل على النهار تغشيتُه أياه حتى يُذهب ضوءه، ويغشي النهار على الليل فيذهب ظلمته وهذا منقول عن قتادة وهو معنى قوله تعالى: يُغشي الليلَ النهار يطلبه حيثياً ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر﴾ أي ذلَّلهما لمصالح العباد ﴿كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي كلٌ منهما يسير إلى مدة معلومة عند الله تعالى، ثم ينقضي يوم القيامة حين تكور الشمس وتنكدر النجوم ﴿أَلا هُوَ العزيز الغفار﴾ أي هو جل وعلا كامل القدرة لا يغلبه شيء، عظيم الرحمة والمغفرة والإِحسان قال الصاوي: صُدِّرت الجملة بحرف التنبيه «ألا» للدلالة على كمال الاعتناء بمضمونها كأنه قال: تنبهوا يا عبادي فإني أنا الغالب على أمري، والستَّار لذنوب خلقي فأخلصوا عبادتكم ولا تشركوا بي أحداً.
﴿خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أي خلقكم أيها الناس من نفسٍ واحدة هي آدم، وهذا من جملة أدلة وحدانيته، وانفراده بالعزة والقره، وجمع صفات الألوهية ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي ثم خلق من آدم وحواء ليحصل التجانس والتناسل قال الطربي: المعنى: ﴿خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ يعني آدم (ثم خلق منها زوجها) يعني حواء خلقها من ضلعٍ من أضلاعه ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ أي وأوجد لكم من الأنعام المأكولة وهي الإِبل، والبقر، والغنم، والمعز، ثمانية أزواج من كل نوعٍ ذكراً وأنثى قال قتادة: من الإِبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، كلُّ واحدٍ زوج، وسميت أزواجاً لأن الذكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر قال المفسرون: والإِنزالُ عبارةٌ عن نزول أمره وقضائه ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ﴾ أي يخلقكم في بطون أمهاتكم أطواراً، فإِن الإِنسان يكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة إلى أن يتم خلقه، ثم ينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر ﴿فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ﴾ هي البطن، والرحم، والمشيمة، وهو الكيس الذي يغلفُ الجنين ﴿ذلكم الله رَبُّكُمْ﴾ أي ذلكم الخالق المبدع المصوّر هو الله ربُّ العالمين، ربكم وربُّ آبائكم الأولين ﴿لَهُ الملك﴾ أي له الملك والتصرف التام، في الإِيجاد والإِعدام ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا معبود بحقٍ إلا الله ولا ربَّ لكم سواه ﴿فأنى تُصْرَفُونَ﴾ ؟ أي فيكف تنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟ ثم بعد أن ذكَّرهم بآياته ونعمه، حذَّرهم من الكفر والجحود لفضله وإحسانه فقال ﴿إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ﴾ أي إن تكفروا أيها الناس بعدما شاهدتم من آثار قدرته وفنون نعمائه، فإِن الله مستغنٍ عنكم وعن إيمانكم وشكركم وعبادتكم ﴿وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر﴾ أي لا يرضى الكفر لأحدٍ من البشر قال الرازي: أشار تعالى إلى أنه وإِن كان لا ينفعه إيمان، ولا يضره كفران، إلا أنه لا يرضى بالكفر بمعنى أنه لا يمدح صاحبه ولا يثيبه عليه وإن كان واقعاً بمشيئته وقضائه {
65
وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} أي وإن تشكروا ربكم يرضى هذا الشكر منكم، لأجلكم ومنفعتكم لا لانتفاعه بطاعتكم قال أبو السعود: عدم رضائه بكفر عباده لأجل منفعتهم ودفع مضرَّتهم، رحمة بهم لا لتضرره تعالى بذلك، ورضاه بشكرهم لأجلهم ومنفعتهم لأنه سبب فوزهم بسعادة الدارين، ولهذا فرَّق بين اللفظين فقال «ولا يرضى لعباده الكفر» وقال هنا «يرضه لكم» لأن المراد بالأول تعميم الحكم ثم تعليله بكونهم عباده ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ أي ولا تحمل نفسٌ ذنب نفسٍ أخرى، بل كلٌ يؤاخذ بذنبه ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ﴾ أي ثم مرجعكم ومصيركم إليه تعالى ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي فيحاسبكم ويجازيكم على أعمالكم ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي يعلم ما تكنه السرائر وتخفيه الضمائر، وفيه تهديدٌ وبشارة للمطيع ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ﴾ أي وإذا أصاب الإِنسان الكافر شدة من فقر ومرضٍ وبلاء ﴿دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ﴾ أي تضرع إلى ربه في إزالة تلك الشدة، مقبلاً غليه مخبتاً مطيعاً ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ﴾ أي ثم إذا أعطاه نعمةً منه وفرَّج عنه كربته ﴿نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ﴾ أي نسي الضرب الذي كان يدعو ربه لكشفه وتمرَّد وطغى ﴿وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ﴾ أي وجعل لله شركاء في العبادة ليصد عن دين الله وطاعته ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً﴾ أمرٌ للتهديد أي تمتع بهذه الحياة الدنيا الفانية، وتلذَّذ فيها وأنت على كفرك، عمراً قيلاً وزمناً يسيراً ﴿إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار﴾ أي فمصيرك إلى نار جهنم، وأنت من المخلدين فيها ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً﴾ استفهام حذف جوابه لدلالة الكلام عليه أي أم من هو مطيع عابد في ساعات الليل يتعبد ربه في صلاته ساجداً وقائماً كمن أشرك بالله وجعل له أنداداً؟ قال القرطبي: بيَّن تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره ﴿يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ أي حال كونه خائفاً من عذاب الآخرة، راجياً رحمة ربه وهي الجنة، هل يستوي هذا المؤمن التقي مع ذلك الكافر الفاجر؟ لا يستون عند الله، ثم ضرب مثلاُ فقال ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ؟ أي هل يتساوى العالم والجاهل؟ فكما لا يتسوي هذان كذلك لا يستوي المطيع والعاصي ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب﴾ أي إنما يعتبر ويتعظ أصحاب العقول السليمة قال الإِمام الفخر: واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة، فأولها أنه بدأ فيها بذكر العمل، وختم فيها بذكر العلم، أما العمل فهو القنوت، والسجود، والقيام، وأما العلم ففي قوله ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ؟ وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصورٌ في هذين المقصودين، فالعمل هو البداية، والعلم والمكاشفة هو النهاية، وفي الكلام حذف تقديره أمَّن هو قانتٌ كغيره؟ وإنما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر، ثم مثَّل بالذين يعلمون، وفيه تنبيه عظيم على فضيلة العلم ﴿قُلْ ياعباد الذين آمَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ﴾ أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين يجمعوا بين الإِيمان وتقوى الله وهي البعدُ عن محارم الله قال المفسرون: نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزوا على الهجرة إلى أرض الحبشة والغرضُ منها التأنيس لهم والتنشيط إلى
66
الهجرة ومعنى التقوى: امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وكأن العبد بذلك يجعل بينه وبين النار وقاية ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ﴾ أي لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة عظيمة في الآخرة وهي الجنة دار الأبرار ﴿وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ﴾ أي وأرض الله فسيحة فهاجروا من دار الكفر إلى دار الإِيمان، ولا تقيموا في أرضٍ لا تتمكنون فيها من إقامة شعائر الله ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي إنما يعطى الصابرون جزاءهم بغير حصر، وبدون عدد أو وزن قال الأوزاعي: ليس يوزن لهم ولا يكال إنما يغرف غرفاً ﴿قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين﴾ أي قل يا محمد أُمرت بإِخلاص العبادة لله وحده لا شريك له قال المفسرون: وإنما خص الله تعالى الرسول بهذا الأمر لينبه على أنَّ غير بذلك أحق فهو كالترغيب للغير ﴿وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين﴾ أي وأُمرت أيضاً بأن أكون أولَ المسلمين من هذه الأمة قال القرطبي: وكذلك كان، فإِنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحكمها، وأسلم وجهه لله وآمن به ودعا إليه ﴿قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي وأخاف إن عصيبت أمره أن يعذبني يوم القيامة بنار جهنم قال الصاوي: والمقصود منها زجر الغير عن المعاصي، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا كان خائفاً مع كمال طهارته وعصمته فغيره أولى، وذلك سنة الأنبياء والصالحين حيث يخبرون غيرهم بما اتصفوا به ليكونوا مثلهم ﴿قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي﴾ أي قل لهم يا محمد لا أعبد إلا الله وحده، مخلصاً له طاعتي وعبادتي من كل شائبة، وليس هذا بتكرار لأن الأول إخبار بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مأمور بالعبادة، والثاني إخبار بخوفه من عذاب الله إن عصى أمره، والثالث إخبار بامتثاله الأمر مع إفادة الحصر كأنه يقول: أعبد الله ولا أعبد أحداً سواه ﴿فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ﴾ صيغة أمر على جهة التهديد والوعيد أي اعبدوا ما شئتم من دون الله من الأوثان والأصنام فسوف ترون عاقبة كفركم كقوله
﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] ﴿قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي حقيقة الخسران الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، حيث صاروا إلى نار مؤبدة يصلون سعيرها يوم القيامة، فهؤلاء هم الخاسون كل الخسران قال ابن عباس: إنَّ لكل رجلٍ منزلاً وأهلاً وخدماً في الجنة، فإن أطاع اللهَ أُعطي ذلك، وإن كان من أهل النار حُرم ذلك، فخسر نفسه وأهله ومنزله ﴿أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين﴾ أي ألا فانتبهوا أيها القوم ذلك هو الخسرانُ الواضح الذي ليس بعده خسرانٌ! قال أبو حيان: بالغ في بيان الخسران بأداة التنبيه «ألاَ» وبالإِشارة إليه «ذلك» وتأكيده بأداة الحصر «هو» وتعريفه بأل ووصفه بأنه بيّن ﴿الخسران المبين﴾ أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل، ثم ذلك خسرانهم في الدنيا ذكر حالهم ومآلهم في الآخرة فقال ﴿لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ أي تغاشهم نار جنهم من فوقهم ومن تحتهم، وتحيط بهم من جميع جوانبهم، ومعنى الظللٍ أطباقٌ من نار جنهم، وتسميتها ظُللاً تهكمٌ بهم، لأنها محرقة والظلةُ تقي من الحر ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ﴾ أي ذلك العذاب الشديد الفظيع، إنما يقصه
67
تعالى ليخوف به عباده، لينزجروا عن المحارم والمآثم ﴿ياعباد فاتقون﴾ أي يا أوليائي خافوا عذابي ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي، قال الزمخشي: وهذه عظة من الله تعالى لعباده ونصيحة بالغة.. والحكمة من ذكر أحوال النار تخويف المؤمنين منها ليتقوها بطاعة ربهم ﴿والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا﴾ لما ذكر وعيد عبده الأوثان، ذكر وعد أهل الفضل والإِحسان، ممن احترز عن الشرك والعصيان، ليكون الوعد مقروناً بالوعيد، فيحصل كمال الترغيب والترهيب والمعنى: والذين انتهوا عن عبادة الأوثان وطاعة الشيطان، وتباعدوا عنها كل البعد قال أبو السعود: «الطاغوت» البالغ أقصى غاية الطغيان كالرحموت والعظموت، والمراد به الشيطان وصف به للمبالغة ﴿وأنابوا إِلَى الله﴾ أي رجعوا إلى طاعة الله وعبادته ﴿لَهُمُ البشرى﴾ أي له البشرى السارة من الله تعالى بالفوز العظيم بجنات النعيم ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ أي فبشِّر عبادي المتقين الذين يستمعون الحديث والكلام فيتبعون أحسن ما فيه قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح، فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به.
. وهذا ثناء من الله تعالى عليهم بنفوذ بصائرهم، وتمييزهم الأحسن من الكلام، فإذا سمعوا قولاً تبصَّروه وعملوا بما فيه، وأحسنُ الكلام كلام الله وخير الهدي هديُ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما وضع الظاهر ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ بدل الضمير (فبشرهم) تشريفاً لهم وتكريماً بالإِضافة إليه سبحانه ﴿أولئك الذين هَدَاهُمُ الله﴾ أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة هم الذين هداهم الله لما يرضاه، ووفقهم لنيل رضاه ﴿وأولئك هُمْ أُوْلُواْ الألباب﴾ أي أولئك هم أصحاب العقول السليمة، والفطر المستقيمة ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب﴾ أي أفمن وجبت له الشقاوة من الله تعالى، وجوابه محذوفٌ دلَّ عليه ما بعده أي هل تقدر على هدايته؟ لا ثم قال تعالى ﴿أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار﴾ ؟ أي هل تستطيع يا محمد أن تنقذ من هو في الضلال والهلاك؟ قال القرطبي: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحرص على إِيمان قومه وقد سبقت لهم من الله الشقاوة فنزلت الآية، وقال بان عباس: يريد «أبا لهب» وولده ومن تخلَّف من عشيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الإِيمان، وكرر الاستفهام «أفأنت» تأكيداً لطول الكلام والمعنى: أفمن حقَّ عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه؟ ﴿لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ﴾ أي لكنْ المؤمنين الأبرار، المتقون للهِ في الدنيا، المتمسكون بشريعته وطاعته ﴿لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ﴾ أي لهم في الجنة درجات عالية وقصورٌ شاهقة بعضها فوق بعض مبنية من زبرجدٍ وياقوت ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي تجري من تحت قصورها وأشجارها أنهار الجنة من غير أخدود ﴿وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد﴾ أي وعدهم الله بذلك وعداً مؤكداً لا يمكن أن يتخلف لأنه وعد العزيز التقدير.
تنبيه: قال الزمخشري: أفاد قوله تعالى ﴿يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ أن المؤمنين
68
ينبغي أن يكونوا نُقَّاداً في الدين، يميزن بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها دليلاً، وأبينها أمارة، وألا يكونوا في مذهبهم كما قال القائل «ولا تكن مثل عيرٍ قيد فانقادا».
69
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أحوال المشركين وضلالاتهم في عبادة غير الله، أردفه بذكر دلائل الوحدانية، ثم ذكر القرآن العظيم أشرف الكتب السماوية المنزَّلة، ومع إقرارهم بفصاحته وإِعجازه كذَّب به المكذبون، ثم ضرب للمشرك والموحّد مثلاً في غاية الوضوح.
اللغَة: ﴿سَلَكَهُ﴾ أدخله ﴿يَنَابِيعَ﴾ جمع ينبوعٍ وهو عين الماء من الأرض ﴿يَهِيجُ﴾ ييبس قال الأصمعي: هاجت الأرض هيج إذا أدبر نبتُها وولى وقال الجوهري: هاج النَّبْت هياجاً إذا يبس، وأرضُ هائجة إذا يبس بقلُها أو اصفرَّ ﴿حُطَاماً﴾ فُتاتاً وهشيماً، من تحطَّم العود إذا تفتَّت من لا يرقُّ ولا يلين ﴿مَّثَانِيَ﴾ مكرراً فيه الحكم والمواعظ والأمثال ﴿تَقْشَعِرُّ﴾ تضطرب وتتحرك من الخوف ﴿الخزي﴾ الذل والهوا ﴿مُتَشَاكِسُونَ﴾ متنازعون ومختلفون، ورجلٌ شكس: شرس الخُلق والطباع.
69
التفسِير: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ أي ألم تر أيها الإِنسان العاقل أنَّ الله بقدرته أنزل المطر من السحاب ﴿فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض﴾ أي أدخله مسالك وعيوناً في الأرض وأجراه فيها قال المفسرون: وهذا دليلٌ على أن ماء العيون من المطر، تحبسه الأرض ثم ينبغ شيئاً فشيئاً قال ابن عباس: ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء، ولكنْ عروق الأرض تغيِّره ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ﴾ أي ثم يُخرج بهذا الماء النازل من السماء والنابع من الأرض أنواع الزروع، المختلفة الأشكال والألوان، من أحمر وأبيض وأصفر، والمختلفة الأصناف من قمح وأرز وعدس وغير ذلك قال البيضاوي: ﴿مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ﴾ أي أصنافه من بر وشعير وغيرهما، أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً﴾ أي ثم ييبس فتراه بعد خضرته مصفراً ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً﴾ أي ثم يصبح فتاتاً وهشيماً متكسراً ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب﴾ أي إنَّ فيما ذُكر لعظة وعبرة، ودلالةً على قدرة الله ووحدانيته لذوي العقول المستنيرة.. والآية فيها تمثيلٌ لحياة الإِنسان بالحياة الدنيا، فمهما طال عمر الإِنسان فلا بدَّ من الانتهاء، إلى أن يصير مصفر اللون، متحطم الأعضاء، متكسراً كالزرق بعد نضرته، ثم تكون عاقبته الموت قال ابن كثير: هكذا الدنيا تكون خضرة ناضرة حسناء، ثم تعود عجوزاً شوهاء، وكذلك الشاب يعود شيخاً هرماً، كبيراً ضعيفاً، وبعد ذلك كله الموت، فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير ﴿أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ أي وسَّع صدره للإِسلام، واستضاء قلبه بنوره حتى ثبت ورسخ فيه ﴿فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي فهو على بصيرة ويقين من أمر دينه، وعلى هدىً من ربه بتنوير الحق في قلبه، وفي الآية محذوفٌ دلَّ عليه سياق الكلام تقديره كمن هو أعمى القلب، معرضٌ عن الإِسلام؟ قال الطبري: وتُرك الجوابُ اجتزاءً بمعرفة السامعين وبدلالة ما بعده وتقديره: كمن أقسى اللهُ قلبه وأخلاه من ذكره حتى ضاق عن استماع الحق، واتباع الهدى ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله﴾ أي فويلٌ للذين لا تلين قلوبهم ولا تخشع عند ذكر الله، ب «ذكر الله» القرآن الذي أنزله الله تذكرة لعباده ﴿أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي أولئك الذين قست قلوبهم في بعدٍ عن الحق ظاهر.
. ولما بيَّن تعالى ذلك أردفه بما يدل على أنَّ القرآن سبب لحصول النور والهداية والشفاء فقال ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث﴾ أي اللهُ نزَّل القرآن العظيم أحسن الكلام قال أبو حيان: والابتداءُ باسم «اللهُ» وإسناد «نزَّل» لضميره، فيه تفخيمٌ للمُنزل، ورفعٌ من قدره كما تقول: الملكُ أكرم فلاناً، فإِنه أفخم من أكرم الملك فلاناً، وحكمةُ ذلك البداءةُ بالأشرف ﴿كِتَاباً مُّتَشَابِهاً﴾ أي قرآناً متشابهاً يشبه بعضه بعضاً في الفصاحة، والبلاغة، والتناسب، بدون تعارضٍ ولا تناقض ﴿مَّثَانِيَ﴾ أي تُثنَّى وتكرر فيه المواعظ والأحكام، والحلال والحرام، وتُردَّد فيه القصص والأخبار دون سأم أو ملل قال الطبري: تُثنَّى أي تكرر فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ أي تعتري هؤلاء المؤمنين خشيةٌ،
70
وتأخذهم قشعريرة عند تلاوة آيات القرآنُ، هيبةً من الرحمن وإجلالاً لكلامه ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله﴾ أي تطمئن وتسكن قلوبهم وجلودهم إلى ذكر الله قال المفسرون: إنهم عند سماع آيات الرحمة والإِحسان تلين جلودهم وقلوبهم وقال العارفون: إِذا نظروا إلى علم الجلال طاشوا، وإن لاح لهم أثرُ من عالم الجمال عشاوا قال ابن كثير: هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار، إِذا قرءوا آيات الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر جلودهم من الخشية والخوف وإِذا قرءوا آيات الرحمة لانت جلودهم وقلوبهم، لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه ﴿ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي ذلك القرآن الذي تلك صفتُه هو هدى الله يهدي به من شاء من خلقه ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ أي ومن يخذلْه اللهُ فيجعل قلبه قاسياً مظلماً، فليس له مرشدٌ ولا هاد بعد الله ﴿أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة﴾ أي فمن يجعل وجهه وقاية من عذاب جهنم الشديد، وخبره محذوف تقديره كمن هو آمنٌ من العذاب؟ قال المفسرون: الوجه أشرف الأعضاء فإِذا وقع الإِنسان في شيء من المخاوف فإِنه يجعل يده وقاية لوجهه، وأيدي الكفار مغلولة يوم القيامة، فإِذا ألقوا في النار لم يجدوا شيئاً يتقونها به إلا وجوههم ﴿وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ أي وتقول خزنة جهنم للكافرين: ذوقوا وبال ما كنت تكسبونه في الدنيا من الكفر والمعاصي ﴿كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أي كذَّب من قبلهم من الأمم السالفة فأتاهم العذاب من جهةٍ لا تخطر ببالهم ﴿فَأَذَاقَهُمُ الله الخزي فِي الحياة الدنيا﴾ أي فأذاقهم الله الذُلَّ والصغار والهوان في الدنيا ﴿وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ﴾ أي ولعذاب الآخرة الذي أُعدَّ لهم أعظم بكثير من عذاب الدنيا ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ أي لو كان عندهم علمٌ وفهم ما كذبوا ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ أي ولقد بينا ووضحنا للناس في هذا القرآن من كل الأمثال النافعة، والأخبار الواضحة ما يحتاجون إليه ﴿لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي لعلهم يتعظون ويعتبرون بتلك الأمثال والزواجر ﴿قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ أي حال كونه قرآناً عربياً لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، ولا تعارض ولا تناقض ﴿لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي لكي يتقوا الله ويجتنبوا محارمه.
. ثم ذكر تعالى مثلاً لمن يشرك بالله ولمن يوحِّده فقال ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾ أي ضرب الله لكم أيها الناس هذا المثل: رجلٌ من المماليك اشترك فيه ملاكٌ سيئو الأخلاق، بينهم اختلاف وتنازع، يتجاذبونه في حوائجهم، هذا يأمره بأمرٍ وذاك يأمره بمخالفته، وهو متحيِّر موزّع القلب، لا يدري لمن يرضي؟ ﴿وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ﴾ هذا من تتم المثل أي رجلاً آخر لا يملكه إلا شخص واحد، حسن الأخلاق، فهو عبد مملوك لسيد واحد، يخدمه بإِخلاص ويتفانى في خدمته، ولا يلقى من سيده إلا إحساناً ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً﴾ أي هل يستوي هذا وهذا في حسن الحال، وراحة البال؟ فكذلك لا يتساوى المؤمن الموحِّد مع المشرك الذي يعبد آلهة شتى. قال ابن عباس: هذه الآية ضربت مثلاً للمشرك والمخلص وقال الرازي: وهذا مثلٌ ضُرب في غاية الحُسن في تقبيح
71
الشرك، وتحسين التوحيد ﴿الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ لما كان المثل بيناً واضحاً في غاية الجلاء والوضوح ختم به الآية والمعنى: الحمد لله على إقامة الحجة عليهم بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعملون الحق فهم لفرط جهلهم يشركون بالله ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ أي إنك يا محمد ستموت كما يموت هؤلاء، ولا يخلَّد أحد في هذه الدار ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ أي ثم تجتمعون عند الله في الدار الآخرة، وتختصمون فيما بينكم من المظالم وأمر الدنيا والدين ويفصل بينكم أحكم الحاكمين.
72
المنَاسَبَة: لما ذكر أن الخلق صائرون إلى الموت، وأن المؤمنين والكافرين سيختصمون عند ربهم في أمر التوحيد والشرك، وأنه تعالى يفصل بينهم، ذكر هنا جزاء كلٍ من الفريقين، ثم أتبعه بذكر قبائح المشركين واعتدادهم بشفاعة الأوثان والأصنام.
اللغَة: ﴿مَثْوًى﴾ مأوى ومقام، مشتقٌ من ثَوى بالمكان إِذا أقام به ﴿يُخْزِيهِ﴾ يُهينه ويُذله ﴿اشمأزت﴾ نفرتْ وانقبضتْ ﴿فَاطِرَ﴾ خالق ومبدع ﴿يَحْتَسِبُونَ﴾ يظنون ويؤملون يقال: جاءه الأمر من حيث لا يحتسب أي من حيث لا يظن ﴿حَاقَ﴾ نزل وأحاط بهم من كل جانب ﴿خَوَّلْنَاهُ﴾ منحناه وأعطيناه تفضلاً وكرماً ﴿مُعْجِزِينَ﴾ فائتين من العذاب ﴿يَقْدِرُ﴾ يضيق ويُقتِّر.
التفسِير: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله﴾ الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله بنسبة الشريك له والولد ﴿وَكَذَّبَ بالصدق إِذْ جَآءَهُ﴾ أي وكذَّب بالقرآن والشريعة وقت مجيئه من غير تدبر ولا تأمل؟ أي لا أحد أظلم ممن حاله ذلك، فإِنه أظلم من كل ظامل ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ﴾ ؟ أي أليس في جهنم مقام ومأوى لهؤلاء الكافرين المكذبين؟ والاستفهام هنا تقريري أي بلى لهم مأوى ومكان ﴿والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ﴾ أي وأما الذين جاءوا بالصدق وهم الأنبياء، والذين صدَّقوا به وهم المؤمنون أتباعُ الرسل ﴿أولئك هُمُ المتقون﴾ أي فأؤلئك الموصوفون بالصفات الحميدة هم أهل التقوى والصلاح الذي يستحقون كل إحسان وإكرام ﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي لهم كل ما يشتهون في الجنة من الحور، والقصور، والملاذِّ، والنعيم ﴿ذَلِكَ جَزَآءُ المحسنين﴾ أي ذلك الذي ينالونه هو ثواب كل محسن، أحسن في هذه الحياة قال بعض المفسرين: «الذي جاء بالصدق» هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «وصدَّق به» هو أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، والاختيارُ أن يكون على العموم حتى يشترك في هذه الصفة كل الرسل الكرام، وكل من دعا إلى هذا الصدق عن عقيدة وإِيمان من أتباعٍ الرسل، ونيدل عليه ﴿أولئك هُمُ المتقون﴾ بصيغة الجمع، وهذا اختيار ابن عطية ﴿لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ﴾ أي هؤلاء الذين صدَّقوا الأنبياء سيغفر الله لهم ما أسلفوا من الأعمال السيئة فلا يعاقبهم بها ﴿وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ويثيبهم على طاعاتهم في الدنيا بحساب الأحسن الذي عملوه فضلاً منه وكرماً قال المفسرون: العدلُ أن تُحسب الحسنات وتُحسب السيئات، ثم يكون الجزاء، والفضلُ هو الذي يتجلى به الله على عباده المتقين، فيكفر عنهم أسوأ أعمالهم، فلا يبقى لها حساب في ميزانهم، وأن يجزيهم أجرهم بحساب أحسن الأعمال، فتزيد حسناتُهم وتعلو وترجّح كفة الميزان، وهذا من زيادة
73
الكرم والإِحسان ﴿أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ ؟ الهمزة للتقرير أي أليس الله كافياً عبده ورسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من شر من يريده بسوء؟ قال أبو السعود: تسليةٌ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عما قالت له قريش: لتكفنَّ عن شتم آلهتنا، أو ليصيبنَّك منها خبل أو جنون وقال أبو حيان: قالت قريش: لئن لم ينته محمد عن سبِّ آلهتنا وتعييبنا لنسلِّطنها عليه فتصيبه بخبَل وتعتريه بسوء، فأنزل الله ﴿أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ أي هو كافٍ عبده، وإضافته إليه تشريفٌ عظيمٌ لنبيّه ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ﴾ أي ويخوفونك يا محمد بهذه الأوثان التي لا تضر ولا تنفع ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ أي ومن أشقاه الله وأضلَّه فلن يهديه أحدٌ كائناً من كان ﴿وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ﴾ أي ومن أراد الله سعادته فهداه إلى الحق، ووفقه لسلوك طريق المهتدين، فلن يقدر أحدٌ على إضلاله ﴿أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انتقام﴾ ؟ أي هو تعالى منيع الجناب لا يُضام من لجأ إلى بابه، وهو القادر على أن ينتقم من أعدائه لأوليائه، لأنه غالب لا يُغلب، ذو انتقام من أعدائه، وفي الآية وعيدٌ للمشركين، ووعدٌ للمؤمنين ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ هذه الآية إقامة برهان على تزييف طريقة عبدة الأوثان أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين عمَّن خلق السموات والأرضَ ليقولُنَّ اللهُ خالقهما، لوضوح الدليل على تفرده تعالى بالخالقية قال الرازي: إنَّ العلم بوجود الإِله القادر الحكيم، لا نزاع فيه بين جمهور الخلائق، وفطرة العقل شاهدةٌ بصحة هذا العالم، فإِنَّ من تأمل في عجائب أحوال السموات والأرض، وفي عجائب أحوال النبات والحيوان، وفي عجائب بدن الإِنسان وما فيه من أنواع الحِكَم الغريبة، والمصالح العجيبة، علم أنه لا بدَّ من الاعتراف بالإِله القادر الحيكم الرحيم، ولهذا أقر المشركون بوجود الله ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي قل لهم يا محمد توبيخاً وتبكيتاً: أخبروني بعد أن تحققتم أن خالق العالم هو الله عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله ﴿إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ ؟ أخبروني لو أراد الله أن يصيبني بشدة أو بلاء، هل تستطيع هذه الأصنام أن تدفع عني ذلك السوء والضُّرَّ؟ ﴿أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾ ؟ أي ولو أراد الله نفعاً من نعمة ورخاء هل تستطعي أن تمنع عني هذه الرحمة؟ والجواب محذوفٌ لدلالة الكلام عليه يعني فسيقولون: لا، لا تكشف السوء، ولا تمنع الرحمة ﴿قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون﴾ أي الله كافيني فلا ألتفت إلى غيره، عليه وحده يعتمد المعتمدون، والغرضُ الاحتجاجُ على المشركين في عبادة ما لا يضرُّ ولا ينفع، وإقامة البرهان على الوحدانية ﴿قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾ أي اعملوا على طريقتكم من المكر والكيد والخداع ﴿إِنِّي عَامِلٌ﴾ أي إني عاملٌ على طريقتي، من الدعوة إلى الله وإظهار دينه ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ أي فسوف تعلمون لمن سيكون العذاب الذي يذل ويخزي الإِنسان ﴿وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ أي وينزل عليه عذاب دائمٌ لا ينقطع وهو عذاب النار، هل هذا العذاب سيصيبني
74
أو يصيبكم؟ والغرض التهديد والتخويف قال أبو السعود: وفي الآية مبالغة في الوعيد، وإشعارٌ بأن حاله عليه السلام لا تزال تزداد قوةً بنصر الله وتأييده، وفي خزي أعدائه دليل غلبته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وقد عذبهم الله وأخزاهم يوم بدر ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ بالحق﴾ أي نحن أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن المعجز في بيانه، الساطع في برهانه، لجميع الخلق، بالحقِّ الواضح الذي لا يلتبس به الباطل ﴿فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ أين فمن اهتدى فنفعه يعود عليه، ومن ضلَّ فضرر ضلاله لا يعود إلا عليه ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ أي لستَ بموكَّل عليهم حتى تجبرهم على الإِيمان قال الصاوي: وفي هذا تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى: ليس هداهم بيدك حتى تقهرهم وتجبرهم عليه، وإنما هو بيدنا، فإِن شئنا هديناهم وإن شئنا أبقيناهم على ما هم عليه من الضلال ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا﴾ أي يقبضها من الأبدان عند فناء آجالها وهي الوفاة الكبرى ﴿والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها وهي الوفاة الصغرى قال في التسهيل: هذه الآية للاعتبار ومعناها أن الله يتوفى النفوس على وجهين: أحدهما: وفاة كاملة حقيقة وهي الموت، والآخر: وفاة النوم لأن النائم كالميت، في كونه لا يُبصر ولا يسمع، ومنه قوله تعالى
﴿وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل﴾ [الأنعام: ٦٠] وفي الآية عطف والتقدير: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها وقال ابن كثير: أخبر تعالى بأنه المتصرف في الوجود كما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى، بما يرسل من الحفظة الملائكة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام ﴿فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت﴾ أي فيمسك الروح التي قضى على صاحبها الموتَ فلا يردها إلى البدن ﴿وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي ويرسل الأنفس النائمة إلى بدنها عند اليقظة إلى وقت محدود، هو أجل موتها الحقيق قال ابن عباس: إنَّ أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فتتعارف ما شاء الله لها، فإِذا أرادت الرجوع إلى أجسادها، أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها قال القرطبي: وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته تعالى، وانفراده بالألوهية، وأنه يحيي ويميت، ويفعل ما يشاء، لا يقدر على ذلك سواه، ولهذا قال ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي إن في هذه الأفعال العجيبة لعلامات واضحة قاطعة، على كمال قدرة الله وعلمه، لقومٍ يجيلون أفكارهم فيها فيعتبرون ﴿أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله شُفَعَآءَ﴾ أمْ للإِضراب أي لم يتفكروا بل اتخذوا لهم شفعشاء من الأوثان والأصنام، فانظر إلى فرط جهالتهم حيث اتخذوا من لا يملك شيئاً أصلاً شفعاء لهم عند الله قال ابن كثير: هذا ذمٌ للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله وهي الأصنام والأوثان التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم، بلا دليل ولا برهان، وهي لا تملك شيئاً من الأمر، وليس لها عقل تعقل به، ولا سمعٌ تسمع به، ولا بصرٌ تبصر به، بل هي جمادات أسوأ حالاً بكثير من الحيوانات ﴿قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ﴾ الاستفهام
75
توبيخي أي قل لهم يا محمد: أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا على هذه الصفة جمادات لا تقدر على شيء، ولا عقل لها ولا شعور؟ ﴿قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً﴾ أي قل لهم: الشفاعةُ للهِ وحده، لا يملكها أحدٌ إلا الله تعالى، ولا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذنه ﴿لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي هو المتصرف في المُلك والملكوت قال البيضاوي: أي هو تعالى مالك المُلكِ كله، لا يملك أحدٌ أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي ثم مصيركم إليه يوم القيامة، فيحكم بينكم بعدله، ويجازي كلاً بعمله.
. ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من أفعالهم القبيحة فقال ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ﴾ أي وإِذا أفرد الله بالذكر، ولم يذكر معه آلهتهم وقيل أمام المشركين: لا إله إلا اللهُ ﴿اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾ أي نفرت وانقبضت من شدة الكراهة قلوب هؤلاء المشركين ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أي وإِذا ذكرت الأوثان والأصنام إِذا هم يفرحون ويُسرون قال الإِمام الفخر: هذا نوع آخر من قبائح المشركين، فإِنك إذا ذكرتَ الأصنام وقلت: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ظهرتْ آثار النفرة من وجوههم وقلوبهم، وإذا ذكرتَ الأصنام والأوثان ظهرت آثار الفرح والبشارة في قلوبهم وصدورهم، وذلك يدل على الجهل والحماقة، لأن ذكر الله رأس السعادات وعنوان الخيرات، وذكر الأصنام الجمادات رأسُ الجهالات والحماقات، فنفرتُهم عن ذك رالله، واستبشارهم بذكر الأصنام، من أقوى الدلائل على الجهل الغليظ، والحُمق الشديد ﴿قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض﴾ أي قل يا الله يا خالق ومبدع السموات والأرض ﴿عَالِمَ الغيب والشهادة﴾ أي يا عالم السرِّ والعلانية، يا من لا تخفى عليه خافية، مما هو غائب عن الأعين أو مشاهد بالأبصار ﴿أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أي أنت تفصل بين الخلائق بعدلك وقضائك، فافصل بين وبين هؤلاء المشركين قال في البحر: لما أخبر عن سخافة عقولهم باشمئزازهم من ذكر الله، واستبشارهم بذكر الأصنام أمر رسوله أن يدعوه بأسمائه العظمى من القدرة والعلم ليفصل بينه وبين أعدائه، وفي ذلك وعيد للمشركين وتسلية للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقال الصاوي: أي التجىءْ إلى ربك بالدعاء والتضرع فإنه القادر على كل شيء ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ أي ولو أنَّ لهؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب القرآن والرسول ﴿مَا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾ أي لو ملكوا كل ما في الأرض من أموال، وملكوا مثل ذلك معه ﴿لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سواء العذاب يَوْمَ القيامة﴾ أي لجعلوا كل ما لديهم من أموال وذخائر، فديةً لأنفسهم من ذلك العقاب الشديد يوم القيامة ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ﴾ أي وظهر له من أنواع العقوبات ما لم يكن في حسابهم قال أبو السعود: وهذه غايةً من الوعيد لا غاية وراءها، ونظيرها في الوعد
﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧] ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾ أي وظهر لهم في ذلك اليوم المفزع سيئات أعمالهم التي اكتسبوها ﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي وأحاط ونزل بهم من كل الجوانب جزاء ما كنوا يستهزئون به قال ابن كثير: أي
76
أحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدنيا ﴿فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا﴾ أي فإذا أصاب هذا الإنسان الكافر شيءٌ من الشدة والبلاء، تضرَّع إلى الله وأناب إليه ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا﴾ اي ثم إذا أعطيناه نعمة منا تفضلا عليه وكرماً ﴿قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ﴾ أي قال ذلك الإنسان الكافر الجاحد إِنما أعطيته على علمٍ مني بوجوه المكاسب والمتاجر ﴿بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ﴾ أي ليس الأمر كما زعم بل هي اختبارٌ وامتحانٌ له، لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي؟ ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون أن إعطاءهم المال اختبار وابتلاء فلذلك يبطرون ﴿قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي قال تلك الكلمة والمقالة الكفار قبلهم كقارون وغيره حيث قال ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي﴾ [القصص: ٧٨] ﴿فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي فما نفعهم ما جمعوه من الأموال، ولا ما كسبوه من الحُطام ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾ أي فنالهم جزاء أعمالهم السيئة ﴿والذين ظَلَمُواْ مِنْ هؤلاء﴾ أي والذين ظلموا من هؤلاء المشركين كفار قريش ﴿سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾ أي سينالهم جزاء أعمالهم القبيحة كما أصاب أولئك قال البيضاوي: وقد أصابهم ذلك فإنهم قد قُحطوا سبع سنين حتى أكلوا الجيف وقُتل ببدرٍ صناديدهم ﴿وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أي وليسوا بفائتين من عذابنا، لا يعجزوننا هرباً ولا يفوتوننا طلباً.. ثم ردَّ عليهم زعمهم فيما أوتوا من المال وسعة الحال فقال ﴿أَوَلَمْ يعلموا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ﴾ ؟ أي أولم يعلم هؤلاء المشركون أن الله يوسِّع الرزق على قوم، ويضيّقه على آخرين؟ فليس أمر الرزق تابعاً لذكاء الإِنسان أو غبائه، إنما هو تابعٌ للقسمة والحكمة ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي إِن في الذي ذكر لعبراً وحججاً لقوم يصدِّقون بآيات الله قال القرطبي: وخصَّ المؤمن بالذكر، لأنه هو الذي يتدبر الآيات وينتفع بها، ويعلم أن سعة الرزق قد يكون استدراجاً، وأن تقتيره قد يكون إعظاماً.
77
المنَاسَبة: لما ذكر تعالى أحوال الفجرة المشركين، وذكر ما يكونون عليه في الآخرة من الذل والهوان، دعا المؤمنين إلى الإِنابة والتوبة قبل فوات الأوان، وختم السورة بذكر عظمة الله وجلاله يوم الحشر الأكبر، حيث يكون العدل الإِلهي والقسطاسُ المستقيم، ويساق السعداء إلى الجنة زمراً، والأشقياء إلى النار زمراً ﴿وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً..﴾ الآية.
اللغَة: ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة ﴿مَثْوَى﴾ مكان إقامة يقال: ثوى بالمكان أقام فيه ﴿مَقَالِيدُ﴾ خزائن ومفاتيح ﴿زُمَراً﴾ جماعات جماعات جمع زُمرة وهي الجماعة ﴿خَزَنَتُهَا﴾ حُرَّاسها الموكلون عليها ﴿نَتَبَوَّأُ﴾ تبوأ المكانَ حلَّ ونزل فيه ﴿حَآفِّينَ﴾ محيطين به من أطرافه وجهاته.
التفسِير: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ أخبر يا محمد عبادي المؤمنين الذين أفرطوا في الجناية على أنفسهم بالمعاصي والآثام ﴿لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله﴾ أي لا تيأسوا من مغفرة الله ورحمته ﴿إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ أي إنه تعالى يعفو عن جميع الذنوب لمن شاء، وإن كانت مثل زبد البحر ﴿إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾ أي عظيم المغفرة واسع الرحمة، وظاهر الآية أنها دعوة للمؤمنين إلى عدم اليأس من رحمة الله لقوله ﴿ياعبادي﴾ وقال ابن كثير: هي دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإِنابة، وإِخبارٌ بأن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها مهما كثرت ﴿وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ﴾ أي ارجعوا إلى الله واستسلموا له
78
بالطاعة والخضوع والعمل الصالح ﴿مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب﴾ من قبل حلول نقمته تعالى بكم ﴿ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾ أي ثم لا تجدون من يمنعكم من عذابه ﴿واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي اتبعوا القرآن العظيم، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والزموا أحسن كتاب أنزل إليكم فيه سعادتكم وفلاحكم ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ أي من قبل أن ينزل بكم العذاب فجأة وأنتم غافلون، لا تدرون بمجيئه لتتداركوا وتتأهبوا ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ﴾ أي لئلا تقول بعض النفوس التي أسرفت في العصيان ﴿ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله﴾ أي يا حسرتي وندامتي على تفريطي وتقصيري في طاعة الله وفي حقه قال مجاهد: يا حسرتا على ماضيعت من أمر الله ﴿وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين﴾ أي وإِنَّ الحال والشأن أنني كنت من المستهزئين بشريعة الله ودينه قال قتادة: لم يكفه أن ضيَّع طاعة الله حتى سخر من أهلها ﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المتقين﴾ «أو» للتنويع أي يقول الكافر والفاجر هذا أو هذا والمعنى لو أن الله هداني لاهتديت إلى الحق، وأطعت الله، وكنت من عباده الصالحين قال ابن كثير: يتحسر المجرم ويودُّ لو كان من المحسنين المخلصين، المطيعين لله عزَّ وجل ﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين﴾ أي أو تقول تلك النفس الفاجرة حين مشاهدتها العذاب لو أنَّ لي رجعةً إلى الدنيا لأعمل بطاعة الله، وأُحسن سيرتي وعملي ﴿بلى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي﴾ هو جواب قوله ﴿لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي﴾ والمعنى بلى قد جاءك الهدى من الله بإرساله الرسل، وإنزاله الكتب ﴿فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين﴾ أي فكذبت بالآيات، وتكبرت عن الإِيمان، وكنت من الجاحدين قال الصاوي: إن الكافر أولاً يتسحر، ثم يحتج بحجج واهية، ثم يتمنى الرجوع إلى الدنيا، ولو رُدَّ لعاد إلى ضلاله كما قال تعالى
﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨] ﴿وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾ أي ويوم القيامة ترى أيها المخاطب الذين كذبوا على الله بنسبة الشريك له والولد وجوههم سوداء مظلمة بكذبهم وافترائهم ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ استفهام تقريري أي أليس في جهنم مقام ومأوى للمستكبرين عن الإِيمان، وعن طاعة الرحمن؟ بلى إنَّ لهم منزلاً ومأوى في دار الجحيم.. ولما ذكر حال الكاذبين على الله، ذكر حال المتقين لله فقال ﴿وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ﴾ أي وينجي الله المتقين بسبب سعادتهم وفوزهم بمطلوبهم وهو الجنة دار الأبرار ﴿لاَ يَمَسُّهُمُ السواء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي لا ينالهم هلعٌ ولا جزع، ولا هم يحزنون في الآخرة، بل هم آمنون ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر: ٥٥] ثم عاد إلى دلائل الألوهية والتوحيد، بعد أن أفاض في الوعند والوعيد فقال ﴿الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي الله جل وعلا خالق جميع الأشياء وموجد المخلوقات، والمتصرف فيها كيف يشاء، لا إله غيره ولا ربَّ سواه ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ أي هو القائم بتدبير كل شيء {لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات
79
والأرض} أي بيده جل وعلا مفاتيح خزائن كل الأشياء، لا يملك أمرها ولا يتصرف فيها غيره قال ابن عباس: «مقاليد» مفاتيح، وقال السدي: خزائن السمواتِ والأرض بيده ﴿والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله أولئك هُمُ الخاسرون﴾ أي والذين كذَّبوا بآيات القرآن الظاهرة، والمعجزات الباهرة، أولئك هم الخاسرون أشدَّ الخسران ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون﴾ ؟ أي قل يا محمد أتأمرونني أن أعبد غير الله بعد سطوع الآيات والدلائل على وحدانيته يا أيها الجاهلون؟ قال ابن كثير: إن المشركين من جهلهم دعو رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى عبادة آلهتهم، ويعبدوا معه إلهَه فنزلت الآية ﴿وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ﴾ اللام موطئة للقسم أي واللهِ لقد أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ أي لئن أشركت يا محمد ليبطلنَّ ويفسدنَّ عملك الصالح ﴿وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾ أي ولتكونَنَّ في الآخرة من جملة الخاسرين بسبب ذلك.
. وهذا على سبيل الفرض والتقدير، وإلاّ فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد عصمه الله، وحاشا له أن يشرك بالله، وهو الذي جاء لإقامة صرح الإِيمان والتوحيد قال أبو السعود: والكلام ورادٌ على طريقة الفرض لتهييج الرسل، وإقناط الكفرة، والإِيذان بغاية شناعة الإِشراك وقبحه ﴿بَلِ الله فاعبد﴾ أي أخلص العبادة لله وحده، ولا تعبد أحداً سواه. ﴿وَكُن مِّنَ الشاكرين﴾ أي وكن من الشاكرين لإِنعام ربك ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ أي وما عرفوا الله حق معرفته، إذ أشركوا معه غيره، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة.. ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه فقال ﴿والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة﴾ الجملة حالية والمعنى ما عظَّموه حقَّ تعظيمه والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة، التي هي غاية العظمة والجلال، فالأرضُ مع سعتها وبسطتها يوم القيامة تحت قبضته وسلطانه ﴿والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ أي والسموات مضموات ومجموعات بقدرته تعالى قال الزمخشري: والغرضُ من هذا الكلام تصويرُ عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهابٍ بالقبضة واليمين إلى جهة وفي الحديث «يقبضُ اللهُ تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملكُ أين ملوكُ الأرض؟» ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تنزَّه الله وتقدس عما يصفه به المشركومن من صفاتِ العجز والنقص، ثم ذكر تعالى أهوال الآخرة فقال ﴿وَنُفِخَ فِي الصور﴾ هو قرنٌ ينفخ فيه إسرافيل علهي السلام بأمر الله، والمراد بالنفخة هنا «نفخة الصَّعق» التي تكون بعد نفخة الفزع قال ابن كثير: وهي النفخة الثانية التي يموت بها الأحياء من أهل السمواتِ والأرض ﴿فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض﴾ أي فخَّر ميتاً كل من في السموات والأرض ﴿إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾ أي إلاَّ من شاء الله بقاءه كحملة العرض، والحور العين والولدان ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى﴾ أي نُفخ فيه نفخةٌ أخرى وهي نفخةُ الإِحياء ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ أي فإِذا جمع الخلائق الأموات يقومون من
80
القبور ينظرون ماذا يُؤمرون ﴿وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا﴾ أي وأضاءت أرض المحشر بنور الله يوم القيامة، حين تجلى الباري جلا وعلا لفصل القضاء بين العباد ﴿وَوُضِعَ الكتاب﴾ أي أحضرت صحائف أعمال الخلائق للحساب ﴿وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء﴾ أي وجيء بالأنبياء ليسألهم رب العزة عما أجابتهم به أممهم، وبالشهداء وهم الحفظة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، وقال السدي: هم الذين استشهدوا في سبيل الله ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق﴾ أي وقَضي بين العباد جميعاً بالقسط والعدل ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ أي وهم في الآخرة لا يظلمون شيئاً من أعمالهم، لا بنقص ثواب، ولا بزيادة عقاب قال ابن جبير: لا يُنقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ أي جوزي كل إنسان بما عمل من خير أو شر ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ أي هو تعالى أعلم بما عمل كل إنسان، ولا حاجة به إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك تشهد الكتب إلزاماً للحجة.
. ثم فصَّل تعالى مآلٍ من الأشقياء والسعداء فقال ﴿وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً﴾ أي وسيق الكفرة المجرمون إلى نار جهنم جماعاتٍ جماعات، كما يساق الأشقياء في الدنيا إلى السجون ﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ أي حتى إذا وصلوا إليها فتحت أبواب جهنم فجأة لتستقبلهم ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ﴾ ؟ أي وقال لهم خزنة جهنم تقريعاً وتوبيخاً: ألم يأتكم رسلٌ من البشر يتلون عليكم الكتب المنزلة من السماء؟ ﴿وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا﴾ ؟ أي ويخوفونكم من شر هذا اليوم العصيب؟ ﴿قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين﴾ أي قالوا بلى قد جاءونا وأنذرونا، وأقاموا علينا الحجج والبراهين، ولكننا كذبناهم وخالفانهم لما سبق لنا من الشقاوة قال القرطبي: وهذا اعتراف منهم بقيام الحجة عليهم، والمراد بكلمة العذاب قوله تعالى ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٩] ﴿قِيلَ ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي قيل لهم ادخلوا جهنَّم لتصلوا سعيرها ماكثين فيها أبداً، بلا زوال ولا انتقال ﴿فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾ أي فبئس المقام والمأوى جهنم للمتكبرين عن الإِيمان بالله وتصديق رسله ﴿وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً﴾ أي وسيق الأبرار المتقون لله إلى الجنة جماعاتٍ جماعات راكبين على النجائب قال القرطبي: سوقُ أهل النار طردُهم إليها بالخزي والهوان، كما يفعل بالمجرمين الخارجين على السلطان، وسوقُ أهل الجنان سوقُ مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان، لأنه لا يُذبهم بهم إلا راكبين، كما يفعل بالوافدين على الملوك، فشتَّان ما بين السوقين ﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ أي حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابُها كقوله تعالى ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب﴾ [ص: ٥٠] قال الصاوي: والحكمةُ في زيادة الواو هنا «فُتحت» دون التي قبلها، أن أبواب السجون تكون مغلقة إلى أن يجيئها أصحاب الجرائم، فتفتح لهم ثم تُغلق عليهم، بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها فناسب دخول الواو هنا دون التي قبلها ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ﴾ أي وقال لهم
81
حراس الجنة: سلامٌ عليكم أيها المتقون الأبرار ﴿طِبْتُمْ﴾ أي طهرتم من دنس المعاصي والذنوب، فادخلوا الجنة دار الخلود، قال البيضاوي: وجواب «إذا» محذوف، للدلالة على أنَّ لهم من الكرامة والتعظيم، ما لا يحيط به الوصف والبيان قال ابن كثير: وتقديره إِذا كان هذا سُعِدوا، وطابوا، وسُرّوا وفرحوا بقدر ما يكون لهم من النعيم ﴿وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ أي وقالوا عند دخولهم الجنة واستقرارهم فيها: الحمد لله الذي حقَّق لنا ما وعدنا به من دخول الجنة قال المفسرون: والإِشارة إلى وعده تعالى لهم بقوله
﴿تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً﴾ [مريم: ٦٣] ﴿وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ﴾ أي وملَّكنا أرض الجنة نتصرف فيها تصرف المالك في ملكه وننزل فيها حيث نشاء، ولا ينازعنا فيها أحد ﴿فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾ أي فنعم أجر العاملين بطاعة الله الجنة ﴿وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش﴾ أي وترى يا محمج الملائكة محيطين بعرش الرحمن، محدقين به من كل جانب ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ أي يسبحون الله ويمجدونه تلذذاً لا تعبداً ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق﴾ أي وقُضي بين العباد بالعدل ﴿وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾ أي وقيل الحمد لله على عدله وقضائه قال المفسرون: القائل هم المؤمنون والكافرون، المؤمنون يحمدون الله على فضله، والكافرون يحمدونه على عدله قال ابن كثير: نطق الكون أجمعه، ناطقه وبهيمه، لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله، ولهذا لم يسند القول إلى قائل، بل أطلقه فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين (تكفروا.. تَشْكُرُواْ) وبين ﴿يَرْجُواْ.. ويَحْذَرُ﴾ وبين ﴿فَوْقِهِمْ.. وتَحْتِهِمْ﴾ وبين ﴿ضُرٍّ.. ورَحْمَةٍ﴾ وبين ﴿الغيب.. والشهادة﴾ وبين ﴿يَبْسُطُ.. وَيَقْدِرُ﴾ وبين ﴿اهتدى.. وضَلَّ﴾ الخ.
٢ - جناس الاشتقاق ﴿يَتَوَكَّلُ المتوكلون﴾ [الزمر: ٣٨] وكذلك في قوله ﴿أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ﴾ [الزمر: ١٠].
٣ - الأسلوب التهكمي ﴿لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار﴾ [الزمر: ١٦] إطلاق الظلة عليها تهكم لأنها محرقة، ولظلة تقي من الحر.
٤ - المقابلة الرائعة ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة..﴾ [الزمر: ٤٥] الآية فقد قابل بين الله والأصنام، وبين السرور والاشمئزاز، وكذلك توجد مقابلة بين آيتي السعداء والأشقياء ﴿وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً﴾ وقابل ذلك بقوله ﴿وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً..﴾ والمقابلةُ أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يُؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب وهو من المحسنات البديعية.
٥ - الإِيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه ﴿أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [الزمر: ٢٢] ؟ حذف خبره
82
وتقديره كمن طبع الله على قلبه؟ ومثله ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل﴾ [الزمر: ٩] ؟ أي كمن هو كافرٌ جاحداً لربه؟
٦ - الأمر الذي يراد منه التهديد ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ﴾ [الزمر: ٨] ومثله ﴿اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾ [الزمر: ٣٩] للمبالغة في الوعيد.
٧ - المجاز المرسل ﴿أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار﴾ [الزمر: ١٩] ؟ أطلق المسبب وأراد السبب، لأن الضلال سبب لدخول النار.
٨ - الاستعارة ﴿لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض﴾ أي مفاتيح خيراتهما، ومعادن بركاتها فشبَّه الخيرات والبركات بخزائن واستعار لها لفظ المقاليد، بمعنى المفاتيح، ومعنى الآية خزائن رحمته وفضله بيده تعالى.
٩ - الاستعارة التمثيلية ﴿والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ مثَّل لعظمته وكما قدرته، وحقارة الأجرام العظام التي تتحير فيها الأوهام بالنسبة لقدرته تعالى بمن قبض شيئاً عظيماً بكفه، وطوى السموات بيمينه بطريق الاستعارة التمثيلية، قال في تلخيص البيان: وفي الآية استعارة ومعنى ذلك أن الأرض في مقدوره كالذي يقبض عليه القابض، فتستولي عليه كفه، ويحوزه ملكه، ولا يشاركه غيره، والسموات مجموعات في ملكه ومضموات بقدرته وقال الزمخشري: والآية لتصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله، من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة، لأن الغرض الدلالة على القدرة الباهرة، ولا ترى باباً في علم البيان أدق ولا أرقَّ ولا ألطف من هذا الباب.
١٠ - الكناية ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله﴾ جنبُ الله كنايةٌ عن حقِّ الله وطاعته، وهذا من لطيف الكنايات.
١١ - الالتفات من التكلم إلى الغيبة ﴿لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله﴾ والأصل: لا تقطنوا من رحمتي قال علماء البيان: وفي الآية الكريمة ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ الآية من أنواع المعاني والبيان أمور حسان: منها إقباله تعالى على خلقه ونداؤه لهم، ومنها إضافة الرحمة للفظ الجلالة الجامع لجميع الأسماء والصفات، ومنها الإِتيان بالجملة المعرَّفة الطرفين المؤكدة بإِن وضمير الفصل ﴿إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾.
١٢ - توافق الفواصل في الحرف الأخير، وهو نهاية في الروعة والجمال اقرأ مثلاً قوله تعالى ﴿وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ ألا تأخذك روعة هذا البيان، برونقه، وجماله، وأدائه، فينطلق لسانك بذكر الرحمن؟!
83
Icon