تفسير سورة الرحمن

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

الإنسان لينكشف له ذاته سبحانه وكمالات أسمائه وصفاته الرَّحْمنِ عليه بترجمان اللسان والبيان المعرب عما في قلبه ليرشد غيره بما هو عنده ويسترشد به ما ليس عنده الرَّحِيمِ المنزل عليه القرآن المبين له طريق التوحيد والعرفان
[الآيات]
الرَّحْمنُ اى الذات المحيطة بعموم الرحمة الواسعة المتسعة بمقتضى سعة رحمته ووفور لطفه ورأفته قد
عَلَّمَ الْقُرْآنَ لنوع الإنسان حيث نزله على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ليكون مبينا لهم سبيل الكشف والعيان ومنهج التوحيد والعرفان مع انه سبحانه ما
خَلَقَ الْإِنْسانَ الا لأجل هذا الشأن البديع البرهان وايضا لهذه الحكمة العلية والمصلحة السنية بعينها قد
عَلَّمَهُ الْبَيانَ اى التنطق والتكلم بلغات شتى وعبارات لا تحصى ليستفيد من منطوقات الألفاظ ما هو معناها ويتفطن منها الى ما هو مغزاها ومرماها وغاية قصواها ألا وهي المعارف والحقائق والحكم والأسرار الإلهية المودعة المكنونة في مطاوى المصاحف المشتملة على الكلمات المركبة من الحروف الحاصلة من مقاطع الأصوات المتكونة من النفسات الصورية التي هي من لوازم الحيوانية الحقيقية المترتبة على النفسات الرحمانية والنفثات اللاهوتية للوجود المطلق حسب تجليات الذات الإلهية وعلى مقتضى الأسماء والصفات الكامنة فيها المتجلية عليها بمقتضى شئون الكمالات المتجددة الغير المتكررة الى ما لا يتناهى ازلا وابدا ليظهر الإنسان من سر الظهور والبطون والغيب والشهادة الواردة على الوحدة الذاتية الإلهية ولهذه الحكمة والمصلحة ايضا قد ظهر في العلويات
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ اى يجريان ويدوران بحساب مقدر من عنده سبحانه معلوم في حضرة علمه مكتوب في لوح قضائه ليكونا دليلين شاهدين على ظهور مرتبتي النبوة والولاية المتفرعة على العدالة الذاتية الإلهية
وَايضا قد ظهر في السفليات لتلك المصلحة السنية النَّجْمُ اى النبات الذي لا ساق له وَالشَّجَرُ وهو الذي له ساق يَسْجُدانِ يخضعان ويتذللان له سبحانه دائما من كمال الإطاعة والانقياد
وَبالجملة السَّماءَ اى عالم الأسباب والأقدار رَفَعَها في أعلى المكان والمكانة وَوَضَعَ فيها الْمِيزانَ المعتدل المنبئ عن القسطاس المستقيم الإلهي الواقع بين الأسماء والصفات الذاتية وبين المقادير والآجال المقدرة لجريها ورتبها على دوراتها وانقلاباتها الواقعة فيها على وفق الحكمة المترتبة على العدالة الإلهية وانما رتبها على مقتضى الحكمة والعدالة كذلك
أَلَّا تَطْغَوْا اى ان لا تعتدوا ولا تتجاوزوا ايها المجبولون لمصلحة التكليف والعرفان عن مقتضى الوضع الإلهي المترتب على الحكمة البالغة المتقنة فِي الْمِيزانِ الموضوع بمقتضاها في الأرض ألا وهي الشرع الشريف المصطفى
وَبعد ما سمعتم حال العلويات والسفليات وما فيهما من الموازين المعتدلة الموضوعة بالوضع الإلهي أَقِيمُوا ايها المكلفون فيما بينكم الْوَزْنَ الموضوع بالوضع الإلهي واعتدلوه بِالْقِسْطِ والإنصاف وَلا تُخْسِرُوا ولا تنقصوا الْمِيزانَ إذ هو موضوع على العدل السوى
وَاعلموا ان الْأَرْضَ انما وَضَعَها ومهدها سبحانه لِلْأَنامِ ليعتدلوا عليها ويستقيموا في عموم أخلاقهم وأطوارهم فيها حتى يستعدوا لان يفيض عليهم طلائع سلطان الكشف والشهود فيفوزوا بمقر التوحيد ويتمكنوا في مقعد صدق التفريد والتجريد لذلك أعدلهم تفضلا عليهم وتكريما
فِيها اى في الأرض فاكِهَةٌ كثيرة يتفكهون بها من انواع الفواكه الصورية والمعنوية تقويما لأمزجتهم وتقوية لها وَلا سيما النَّخْلُ التي هي ذاتُ الْأَكْمامِ والاوعية المشتملة على التفكه والتقوت وسائر الأغراض الحاصلة منها
وَالْحَبُّ
(٥) اى وكذا أعدلهم سبحانه فيها جنس الحبوب التي تقوت بها نوع الإنسان ذُو الْعَصْفِ اى التبن والقشور إذ هو محفوظ فيها مربى معها الى ان يستوي وينضج فيتقوت به الإنسان ويعصفه المواشي وَكذا اظهر لهم فيها بمقتضى جوده سبحانه الرَّيْحانُ اى جنس الرياحين المشمومة المقوية لدماغ الإنسان المصفية عن الروائح الخبيثة والنفحات الكريهة. ثم لما عد سبحانه نبذا من نعمه الشاملة على عموم البرايا خاطب المكلفين منهم على سبيل الامتنان وهما الثقلان المجبولان على فطرة التوحيد واستعداد الايمان والعرفان فقال
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما ونعماء موجدكما ومربيكما تُكَذِّبانِ ايها المغموران في نعمه المستغرقان في بحار جوده وكرمه وكيف يسع لكما الكفران لنعم الله والطغيان عليه سبحانه مع انه سبحانه قد
خَلَقَ الْإِنْسانَ مصورا بصورة الرحمن قد خلقه أولا مع غاية كرامته ونجابته مِنْ صَلْصالٍ طين يابس له صلصلة وصوت كَالْفَخَّارِ اى كالخزف المتخذ من التراب الموقد بالنار ومع دناءة منشائه وخباثة مادته قد رفعه الحق ورباه الى حيث جعله خليفة لذاته نائبا عنه ومرآة مجلوة قابلة لفيضان كمالات أسمائه وصفاته
وَخَلَقَ الْجَانَّ اى الجن وقدر وجوده أولا مِنْ مارِجٍ دخان صاف حاصل مِنْ نارٍ موقدة ملتهبة مشتعلة على وجه الحركة والاضطراب ومع رداءة مادتها وكثافتها جعله شبها بالملإ الأعلى متصلا بهم في كمال اللطافة والصفاء بحيث لا يرى أشباحهم أمثالهم وإذا كان شأن الحق معكما هكذا
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وتنكران ايها الثقلان وكيف يليق بشأنه سبحانه الإنكار والتكذيب مع انه سبحانه
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ اى مشرقى الظهور والبروز من عماء العالم اللاهوتى نحو فضاء الأسماء والصفات الإلهي المسمى بالغيب الإضافي والأعيان الثابتة ثم منها الى عالم الشهادة في السير الهابط وَكذا رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ اى مغربي الخفاء والبطون عن عالم الناسوت الى برزخ الأعيان الثابتة ثم عنها الى عالم اللاهوت في السير الصاعد إذ يتوارد دائما على شمس الحقيقة الذاتية باعتبار تجلياتها حسب أسمائها وصفاتها شروق وافول وطلوع وغروب وبالجملة
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المظهران الكاملان المجبولان على فطرة الشعور والعرفان ومن أين يتأتى لكما التكذيب في شأنه سبحانه إذ هو بمقتضى قدرته قد
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ اى أرسل واطلق بحرى الوجود والعدم بحيث يَلْتَقِيانِ يتمازجان ويختلطان على وجه لا يتمايزان عند المحجوب الفاقد عين الكشف والشهود ويبقى
بَيْنَهُما عناية منه سبحانه وفضلا بَرْزَخٌ هو الإنسان الكامل المتميز المتكيف بكيفية انبساط بحر الوجود العذب على بحر العدم المالح وامتداده عليه وانطباق سطوحهما بحيث لا يتمايزان في بادى الرأى سيما عند المحجوب الفاقد عين العبرة وبصر البصيرة ثم جعل سبحانه برزخ الإنسان الكامل بمقتضى الحكمة المتقنة المعتدلة على وجه لا يَبْغِيانِ اى لا يبغى ولا يغلب كل من بحرى الوجود والعدم على صاحبه في مرتبته ونشأته حتى يتكمل حكمة الظهور والبطون والجلاء والخفأ والألوهية والعبودية وسائر المتقابلات المترتبة على الشئون الإلهية المتفرعة على الأسماء الذاتية
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المكلفان المعتبران وكيف لا تعتبران ولا تشكران نعمه مع انه
يَخْرُجُ حسب عنايته الازلية مِنْهُمَا اى من البحرين المذكورين اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ اى يخرج لكما ايها الثقلان المجبولان على فطرة العرفان من امتزاج البحرين المذكورين لآلى المعارف والحقائق ومرجان الشهود والإيقان
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها الممنونان المغموران المستغرقان في موائد كرمه وجوده
وَلَهُ سبحانه تفضلا
على عباده وامتنانا لهم الْجَوارِ اى سفن الملل والأديان المنزلة من عنده سبحانه على عموم الرسل والأنبياء ليرشدوا بها أممهم الى طريق التوحيد والعرفان الْمُنْشَآتُ المصنوعات المستحدثات فِي الْبَحْرِ اى بحر الوجود كَالْأَعْلامِ اى كالرواسى العظام التي يعلم ويشاربها للتائهين في بيداء الوجود الضالين في صحراء الجحود الى جادة اليقين والعرفان
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المكلفان وبالجملة
كُلُّ مَنْ عَلَيْها اى على ارض القوابل والهيولى من التعينات المستتبعة لانواع الإضافات الحاصلة من موجات بحر الوجود وتجلياته بمقتضى الكرم والجود انما هو فانٍ لا وجود ولا تحقق لها في ذواتها أصلا سوى انها قد انبسط عليها اظلال الأسماء والصفات الإلهية
وَبعد فناء نقوش الأمواج والاظلال بأسرها يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ يا أكمل الرسل بمقتضى صرافة وحدته مستغنيا في ذاته عن عموم مظاهره ومخلوقاته إذ هو سبحانه ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ في حد ذاته لا يشارك في وجوده ولا ينازع في سلطانه فمآل الكل اليه كما ان مبدأه منه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وإذا كان شأنه سبحانه هذا وهكذا
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها الاظلال والعكوس الهلكى وبالجملة
يَسْئَلُهُ ويستمد منه في كل زمان وآن ويستظل تحت ظل وجوده وجوده كل مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من فواعل المظاهر وقوابلها إذ كُلَّ يَوْمٍ وآن هُوَ سبحانه فِي شَأْنٍ لا يسبقه شأن ولا يلحقه شأن مثله فكل من المظاهر الإلهية في كل آن وطرفة في نزع صورة ولبس اخرى حسب شئون الحق وسرعة نفوذ قضائه
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المجبولان على فطرة الدراية والشعور. ثم لما عد سبحانه على عموم المكلفين نبذا من نعمه العظام على سبيل التنبيه والامتنان أراد أن يشير إليهم وينبه عليهم بالقيام على أداء حقوقها ومواظبة شكرها لئلا ينفعلوا من الله ولا يستحيوا عند العرض والحساب في يوم الحشر والجزاء فقال
سَنَفْرُغُ لَكُمْ اى نتجرد ونخلو لحساب أعمالكم وتنفيذ جزائكم عليها بمقتضيها أَيُّهَ الثَّقَلانِ المثقلان بشكر نعمتنا وأداء حقوق كرمنا ومتى سألنا كما عن اعمالكما
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وتنكران مع انا ما خفى علينا شيء من أعمالكم مطلقا لا من كفركم وكفرانكم ولا من شكركم وايمانكم. ثم قال سبحانه مناديا لهم على وجه التوبيخ والتهديد
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ المجبولين على فطرة التكليف المثمرة لثمرة المعرفة واليقين عليكم ان تنقادوا وتطيعوا بعموم ما كلفتم به بمقتضى الحكمة البالغة والا إِنِ اسْتَطَعْتُمْ وقدرتم أَنْ تَنْفُذُوا وتخرجوا فارين عن مقتضيات قهرنا وغضبنا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى من جهات العلويات والسفليات وانحائهما فَانْفُذُوا واخرجوا مع انكم لا تَنْفُذُونَ ولا تقدرون على الخروج ان وقع إِلَّا بِسُلْطانٍ منا اى بقدرة وأقدار موهوبة لكم من قبل ربكم إذ لا يصدر منكم مطلق الأفعال والحركات الا باقداره وتمكينه سبحانه
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وكيف تنفذون وتفرون من حيطة قهره وجلاله إذ
يُرْسَلُ عَلَيْكُما في النشأة الاخرى جزاء لأعمالكم شُواظٌ لهب مشتعل مِنْ نارٍ موقدة مسعرة وَنُحاسٌ اى دخان مظلم حاصل منهما وبالجملة فَلا تَنْتَصِرانِ وتمتنعان عنهما بحولكما وقوتكما الا بعناية ناشئة من الله وفضل يدرككم من لدنه
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فعليكم ان تشكروا آلاء الله وتواظبوا على أداء حقوق نعمائه قبل حلول يوم الجزاء
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ واندكت الأرض من خشية الله ورهبته فَكانَتْ السماء من الغضب الإلهي وَرْدَةً حمراء
مذابة كَالدِّهانِ اى تذوب كالدهن المذاب من شدة الخشية الإلهية فلا يمكنكم حينئذ التدارك والتلافي
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حيث يخبركم بالتهيئة والتدارك قبل حلول الساعة بل
فَيَوْمَئِذٍ اى حين انشقاق السماء في يوم الجزاء لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ لا يسئل حينئذ لا عن ذنب الانس ولا عن ذنب الجان ولا يلتفت الى أعمالهما وافعالهما مطلقا بل يبعثون من قبورهم حيارى ويساقون نحو المحشر سكارى تائهين للحساب والجزاء فاعتنى سبحانه بشأنكم ونبهكم على اعداد الزاد لذلك اليوم قبل حلوله
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وكيف لا تعتدون ولا تتزودون ليومكم هذا إذ
يُعْرَفُ ويعلم يومئذ الْمُجْرِمُونَ المهملون لأمر الزاد المتصفون بالجرائم المستلزمة للانتقام بِسِيماهُمْ إذ يظهر حينئذ آثار الحزن والكآبة على وجوههم فَيُؤْخَذُ بعد الخطاب والعتاب على الحساب بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ اى تشد أعناقهم مع أرجلهم بالسلاسل ثم يطرحون في النار بأنواع الهوان والصغار فيخبركم ربكم ايها المكلفون ويعلمكم طريق الخلاص عنها قبل حلول أوانها
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فيقال لهم حين القائهم إليها مشدودين مهانين زجرا لهم وتوبيخا
هذِهِ النار التي أنتم تصلون فيها الآن جَهَنَّمُ الموعودة المعدة الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ وقت اخبار الله إياهم على ألسنة رسله وكتبه فالآن
يَطُوفُونَ ويترددون بَيْنَها اى بين النار وَبَيْنَ حَمِيمٍ ماء حار آنٍ متناه في الحرارة بحيث يغلب إحراقه وحرارته على النار المسعرة فأراد سبحانه انقاذكم منها فيما مضى بإرسال الرسل وإنزال الكتب
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المجبولان على الكفران والنسيان. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه من تعقيب الوعيد بالوعد
وَلِمَنْ خافَ من كلا الفريقين من مكلفى الجن والانس في النشأة الاولى مَقامَ رَبِّهِ اى خاف عن قيامه بين يدي ربه في النشأة الاخرى للعرض والجزاء واشتغل في هذه النشأة لاعداد ذلك اليوم وهيأ أسبابه من اكتساب الحسنات واجتناب السيئات من الأخلاق والاعتقادات وصوالح الأعمال والعبادات وسائر الطاعات المقبولة يومئذ عند الله على مقتضى ما أمرهم الحق ونهاهم عنه بإرسال الرسل وإنزال الكتب جَنَّتانِ معدتان لكل خائف عند ربه جنة جسمانية يتلذذ فيها بدل ما ترك من اللذات الدنياوية وشهواتها الفانية اتقاء عن الله وجنة روحانية عناية من الله وفضلا مما لا عين رأت ولا اذن سمعت الحديث وبالجملة
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ والجنتان المذكورتان
ذَواتا أَفْنانٍ انواع واصناف من الأثمار البهية والفواكه الشهية وانواع الحدائق من الحقائق والمعارف المثمرة للحالات العلية والمقامات السنية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
فِيهِما اى في تينك الجنتين عَيْنانِ منتشئتان ومترشحتان من بحر الحيات الإلهية متفرعتان على أسمائه وأوصافه الجمالية والجلالية تَجْرِيانِ بين يدي الخائف الملتجئ الى الله على مقتضى تجلياته الحبية
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
فِيهِما اى في تينك الجنتين مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان من المعارف والحقائق على مقتضى تربية ماء العينين المذكورتين
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المسخران تحت لطفه وقهره وجلاله وجماله ثم انهم اى اهل الجنتين يتنعمون بما ذكر من النعم العظام حال كونهم
مُتَّكِئِينَ متمكنين راسخين عَلى فُرُشٍ من الاعتقادات الراسخة بَطائِنُها اى وجوهها التي تلى قلوبهم وأرواحهم مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وهو الغليظ الصلب من الديباج بحيث لا تخلخل فيها ولا فرج فيها ألا وهو المثال لليقين الحقي الذي
لا يطرأ عليه التردد والتذبذب مطلقا وَبالجملة جَنَى الْجَنَّتَيْنِ اى ما أخذ منهما والتلذذ والتنعم بثمارهما دانٍ قريب إذ لا ترقب ولا انتظار في اليقين الحقي بل هو اقرب الى العارف المحقق من نفسه بعد ما وصل اليه وحصل دونه
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
فِيهِنَّ اى في الجنان المعدة لأرباب العناية والامتنان مخدرات المعارف والحقائق الواردة على قلوبهم حسب استعداداتهم المتفاوتة قاصِراتُ الطَّرْفِ اى كل منهن منحصرة الطرف مقصورة النظر على كل من ترد عليه بحيث لا تتعدى الى غيره لاختلاف قابلياتهم حسب الفطرة الاصلية بمقتضى اختلاف تجليات الحق وشئونه بحيث لَمْ يَطْمِثْهُنَّ ولم يتلذذ معهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ ولا بعدهم وَلا جَانٌّ كذلك إذ مراتب الشهود بمقتضى تجليات الوجود وتطوراته فكما لا تكرر ولا اتحاد بين اثنين في التجليات الإلهية كذلك في مراتب ارباب الشهود القابلين لها المستعدين إليها
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
كَأَنَّهُنَّ اى تلك المعارف والحالات من كمال الصفاء والنزاهة والجلاء الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ الساران لأرباب النظر والعيان
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وبالجملة
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ في الأعمال والأحوال وعموم الشيم والأخلاق إِلَّا الْإِحْسانُ من الله والرضوان منه سبحانه على سبيل التفضل والامتنان
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وهاتان الجنتان المذكورتان مع ما فيهما من المقامات العلية والدرجات السنية للخائفين من الله ومن سطوة قهره وجلاله في عموم أحوالهم وأطوارهم المفوضين المتوكلين عليه سبحانه في مطلق شئونهم وتقلباتهم الراجين منه سبحانه رضاه عنهم بمقتضى لطفه وجماله
وَمِنْ دُونِهِما اى من دون الجنتين المذكورتين أدون منهما وانزل رتبة جَنَّتانِ أخريان ايضا المعدتان للأبرار المحسنين بالأخلاق والأعمال المتشبثين بأذيال الأماني والآمال حسب الحوائج والأغراض
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهاتان الجنتان وان لم تكونا مثل تينك الجنتين المذكورتين في الأثمار والأشجار والمعارف والأسرار الا انهما
مُدْهامَّتانِ خضراوان نضارتان بمياه الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة الصادرة من الأبرار الأخيار المحسنين المتمسكين بشعائر الشرع ومعالم الدين المستبين
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
هِما
اى في هاتين الجنتين المعدتين للأبراريْنانِ
منتشئتان من الاعتقاد الصادق والايمان الكامل ضَّاخَتانِ
فوارتان منتهيتان الى بحر الحكمة المتقنة الإلهية
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
فِيهِما ايضا فاكِهَةٌ كثيرة يتفكه بها أهلهما وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عطفهما على الفاكهة من قبيل عطف الخاص على العام لمجرد الاعتناء والاهتمام
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
فِيهِنَّ اى في جنات هؤلاء الأبرار ايضا خَيْراتٌ اى ازواج خيرات مصورة من مثوبات الأعمال والطاعات حِسانٌ اى لا قبح معهن بوجه من الوجوه
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ومثوبات اعمال الأبرار وأخلاقهم وما يترتب عليها وان لم تكن في الصفاء واللطافة كمخدرات الخائفين الا انهم
حُورٌ حسنة الوجوه مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ اى مقصور كل منهن على كل من اتى بالأعمال الصالحة والأخلاق المرضية بحيث لا يتعدى الى الغير إذ كل نفس رهينة بما كسبت خيرا كان او شرا
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها الممنونان المكلفان وهؤلاء ايضا
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ إذ كل منهن مقصورة منحصرة على اعمال كل منهم بلا شركة
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المعتبران المستبصران. ثم انهم اى الأبرار يتنعمون بما أعد لهم من النعم العظام
مُتَّكِئِينَ متقررين عَلى رَفْرَفٍ وسائد وبسط خُضْرٍ مخضرة بمياه ايمانهم الخالص
واعتقادهم الصادق وَعَبْقَرِيٍّ عجيب معجب يتعجبون من ترتبها على أعمالهم وحسناتهم حِسانٍ بحيث لا يتبعها قبح وخذلان
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فعليك يا أكمل الرسل ان لا تستبعد من الله القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام افاضة أمثال هذه الكرامات العلية على ارباب العناية والغفران وتلك الدركات الهوية على اصحاب الغفلة والكفران إذ
تَبارَكَ اى جل وتعاظم وتعالى اسْمُ رَبِّكَ اى عموم اسماء مربيك الذي رباك يا أكمل الرسل محيطا بعموم المراتب الفعالة ومقتضياتها ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ اى ذي العظمة والكبرياء الغالب المقتدر على عموم الانتقام وذي الجمال القادر المقتدر على وجوه الإكرام والانعام
خاتمة سورة الرحمن
عليك ايها العارف المتحقق بعظمة الحق وجلاله المتعطش بزلال الوصال والجمال ان لا تعزم ولا تقصد في عموم احوالك الى الكذب والإنكار سيما بالنسبة الى الله ولا تنسب الحوادث الجارية الحادثة في عموم الأنحاء والأقطار الا الى الله الملك الجبار العزيز الغفار ذي العظمة وكمال الاقتدار لأصناف الانعام والإفضال وانواع العذاب والنكال فلك ان تلازم على شكر نعمه وأداء حقوق لطفه وكرمه في عموم الأحوال وإياك إياك الغفلة عن الله والاشتغال الى ما سواه وكن في عموم أوقاتك وحالاتك بين يدي الله مترددا بين الخوف والرجاء ولا تيأس من روح الله انه لا ييأس من روح الله الا القوم الخاسرون جعلنا الله من زمرة الخائفين من بطشه
[سورة الواقعة]
فاتحة سورة الواقعة
لا يخفى على ارباب الوصول الى المبدأ الحقيقي من المنكشفين بوحدة الحق الحقيق بالحقية والتحقق ان مراتب عموم العباد في الرجوع نحو المبدأ والمعاد وان كانت على الأنحاء المختلفة وطرق شتى لكن لا تخلو عن ثلاثة فرق بعضهم محجوبون بالحجب الظلمانية الامكانية المعبر عنها بالدنيا مغمورون مستغرقون بلذاتها وشهواتها محرومون عن لذة الوصول والحضور مطلقا ألا وهم اصحاب الشمال والشآمة الازلية الابدية وبعضهم محجوبون بالحجب النورانية المسماة بالآخرة وما فيها من انواع النعم واصناف الكرم من اللذات الروحانية والجسمانية الموعودة لهم فيها تفضلا وتكريما وهم اصحاب اليمين ذو اليمين والبركة والكرامة السرمدية والسعادة الازلية الابدية وبعضهم منجذبون نحو الحق بالكلية منخلعون عن جلباب هوياتهم الناسوتية مطلقا فانون في الهوية الحقية اللاهوتية باقون ببقائه مستغرقون بمطالعة لقائه ألا وهم الشطار السابقون الى الله السائرون نحوه المتجردون عن جلباب بشريتهم بالمرة بلا التفات منهم الى مقتضيات تعيناتهم لا باللذات الدنيوية ولا باللذات الاخروية والى هذه الفرق الثلاث أشار سبحانه في هذه السورة واخبر بها حبيبه عليه الصلاة والسلام ليكون على ذكر منهم ويبلغها على من تبعه من اهل المعرفة والايمان إرشادا لهم وتنبيها. ثم لما كان امتياز هذه الفرق انما يظهر ويلوح في يوم القيامة والطامة الكبرى أشار سبحانه أولا الى تحقق وقوعها بعد ما تيمن باسمه الكريم الأعلى فقال سبحانه بِسْمِ اللَّهِ القادر المقتدر على إبداء عموم ما ابدأ في النشأة الاولى الرَّحْمنِ بعموم ما ظهر وبطن بإظهاره من كتم العدم برش انواره ومد اظلاله الرَّحِيمِ بإعادته في النشأة الاخرى بقبض اظلال أسمائه وصفاته نحو ذاته اذكر يا أكمل الرسل
Icon