تفسير سورة الحشر

الماوردي
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب ﴾ يعني يهود بني النضير.
﴿ من ديارهم ﴾ يعني من منازلهم.
﴿ لأول الحشر ﴾ أجلاهم رسول الله ﷺ بعد رجوعه من أُحد إلى أذرعات الشام، وأعطى كل ثلاثة بعيراً يحملون عليه ما استقل إلا السلاح، وكان النبي ﷺ قد عاهدهم حين هاجر إلى المدينة أن لا يقاتلوا معه ولا عليه، فكفوا يوم بدر لظهور المسلمين، وأعانوا المشركين يوم أحد حين رأوا ظهورهم على المسلمين، فقتل رئيسهم كعب بن الأشرف، قتله محمد بن مسلمة غيلة. ثم سار إليهم رسول الله ﷺ فحاصرهم ثلاثاً وعشرين ليلة محارباً حتى أجلاهم عن المدينة.
في قوله :﴿ لأول الحشر ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : لأنهم أول من أجلاه النبي ﷺ من اليهود، قاله ابن حبان.
الثاني : لأنه اول حشرهم، لأنهم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر في القيامة، قاله الحسن. وروي عن النبي ﷺ أنه لما أجلى بني النضير قال لهم « امضوا فهذا أول الحشر وأنا على الأثر. »
الثالث : أنه أول حشرهم لما ذكره قتادة أنه يأتي عليهم بعد ذلك من مشرق الشمس نار تحشرهم إلى مغربها تبيت معهم إذ باتوا [ وتقيل معهم حيث قالوا ] وتأكل منهم من تخلف.
﴿ ما ظننتم أن يخرجوا ﴾ يعني من ديارهم لقوتهم وامتناعهم.
﴿ وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ﴾ أي من أمر الله.
﴿ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لم يحتسبوا بأمر الله.
الثاني : قاله ابن جبير والسدي : من حيث لم يحتسبوا بقتل ابن الأشرف.
﴿ وقذف في قلوبهم الرعب ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لخوفهم من رسول الله.
الثاني : بقتل كعب بن الأشرف.
﴿ يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ﴾ فيه خمسة أوجه :
أحدها : بأيديهم بنقض الموادعة، وأيدي المؤمنين بالمقاتلة، قاله الزهري.
الثاني : بأيديهم في تركها، وأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها، قاله أبو عمرو ابن العلاء.
الثالث : بأيديهم في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذها المسلمون، وبأيدي المؤمنين في إخراب ظواهرها ليصلوا بذلك إليهم.
قال عكرمة : كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها فخربوها من داخل، وخربها المسلمون من خارج.
الرابع : معناه : أنهم كانوا كلما هدم المسلمون عليهم من حصونهم شيئاً نقضوا من بيوتهم ما يبنون به من حصونهم، قاله الضحاك.
الخامس : أن تخريبهم بيوتهم أنهم لما صولحوا على حمل ما أقلته إبلهم جعلوا ينقضون ما أعجبهم من بيوتهم حتى الأوتار ليحملوها على إبلهم، قاله عروة بن الزبير، وابن زيد.
وفي قوله :﴿ يخربون ﴾ قراءتان : بالتخفيف، وبالتشديد، وفيهما وجهان :
أحدهما : أن معناهما واحد وليس بينهما فرق.
251
الثاني : أن معناهما مختلف.
وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بأفعالهم، ومن قرأ بالتخفيف أراد إخرابها بفعل غيرهم قاله أبو عمرو.
الثاني : أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بهدمهم لها. وبالتخفيف أراد فراغها بخروجهم عنها، قاله الفراء.
ولمن تعمق بغوامض المعاني في تأويل ذلك وجهان :
أحدهما : يخربون بيوتهم أي يبطلون أعمالهم بأيديهم، يعني باتباع البدع، وأيدي المؤمنين في مخالفتهم.
﴿ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني بالجلاء الفناء ﴿ لعذبهم في الدنيا ﴾ بالسبي.
والثاني : يعني بالجلاء الإخراج عن منازلهم ﴿ لعذبهم في الدنيا ﴾ يعني بالقتل، قاله عروة.
والفرق بين الجلاء والإخراج - وإن كان معناهما في الإبعاد واحد - من وجهين :
أحدهما : أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
الثاني : أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لجماعة ولواحد.
﴿ ما قطعتم من لينة أو تكرتموها قائمة على أصولها فبإذن الله ﴾ وذلك أن النبي ﷺ لما نزل على حصون بني النضير وهي البويرة حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد قطع المسلمون من نخلهم وأحرقوا ست نخلات، وحكى محمد بن إسحاق أنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، وكان ذلك عن إقرار رسول الله ﷺ أو بأمره، إما لإضعافهم بها أو لسعة المكان بقطعها، فشق ذلك عليهم فقالوا وهم يهود أهل كتاب : يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الإصلاح؟ أفمن الصلاح حرق الشجر وقطع النخل؟ وقال شاعرهم سماك اليهودي :
ألسنا ورثنا كتاب الحكيم... على عهد موسى ولم نصدف
وانتم رعاء لشاء عجاف... بسهل تهامة والأخيف
ترون الرعاية مجداً لكم... لدي كل دهر لكم مجحف
فيا أيها الشاهدون انتهوا... عن الظلم والمنطق المؤنف
لعل الليالي وصرف الدهور... يدلن عن العادل المنصف
بقتل النضير وإجلائها... وعقر النخيل ولم تقطف
فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه :
هم أوتوا الكتاب فضيعوه... وهم عمي عن التوارة يور
كفرتم بالقرآن وقد أتيتم... بتصديق الذي قال النذير
وهان على سراة بني لؤي... حريق بالبويرة مستطير
ثم إن المسلمين جل في صدورهم ما فعلوه، فقال بعضهم : هذا فساد، وقال آخرون منهم عمر بن الخطاب : هذا مما يجزي الله به أعداءه وينصر أولياءه فقالوا يا رسول الله هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فشق ذلك على النبي ﷺ حتى أنزل الله تعالى :﴿ وما قطعتم من لينة ﴾ الآية. وفيه دليل على أن كل مجتهد مصيب.
وفي اللينة خمسة أقاويل :
أحدها : النخلة من أي الأصناف كانت، قاله ابن حبان.
الثاني : أنها كرام النخل، قاله سفيان.
الثالث : أنها العجوة خاصة، قاله جعفر بن محمد وذكر أن العتيق والعجوة كانا مع نوح في السفينة، والعتيق الفحل، وكانت العجوة أصل الإناث كلها ولذلك شق على اليهود قطعها.
الرابع : أن اللينة الفسيلة لأنها ألين من النخلة، ومنه قول الشاعر :
غرسوا لينها بمجرى معين... ثم حفوا النخيل بالآجام
الخامس : أن اللينة جميع الأشجار للينها بالحياة، ومنه قول ذي الرمة :
طراق الخوافي واقع فوق لينة... ندى ليلة في ريشه يترقرق
قال الأخفش : سميت لينة اشتقاقاً من اللون لا من اللين.
252
﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم ﴾ يعني ما رده اللَّه على رسوله من أموال بني النضير.
﴿ فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾ والإيجاف الإيضاع في السير وهو الإسراع، والركاب : الإبل، وفيهما يقول نصيب :
ألارب ركب قد قطعت وجيفهم إليك ولولا أنت لم توجف الركب
﴿ ولكن الله يسلط رسله على من يشاء ﴾ ذلك أن مال الفيء هو المأخوذ من المشركين بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، فجعل الله لرسوله أن يضعه حيث يشاء لأنه واصل بتسليط الرسول عليهم لا بمحاربتهم وقهرهم. فجعل الله ذلك طعمة لرسوله خالصاً دون الناس، فقسمه في المهاجرين إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة فإنهما ذكرا فقراً فأعطاهما.
﴿ كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم ﴾ يقال دولة بالضم وبالفتح وقرىء بهما، وفيهما قولان :
أحدهما : أنهما واحد، قاله يونس، والأصمعي.
الثاني : أن بينهما فرقاً، وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه بالفتح الظفر في الحرب، وبالضم الغنى عن فقر، قاله أبو عمرو ابن العلاء.
الثاني : أنه بالفتح في الأيام، وبالضم في الأموال، قاله عبيدة.
الثالث : أن بالفتح ما كان كالمستقر، وبالضم ما كان كالمستعار، حكاه ابن كامل.
الرابع : أنه بالفتح الطعن في الحرب، وبالضم أيام الملك وأيام السنين التي تتغير، قاله الفراء، قال حسان :
ولقد نلتم ونلنا منكم وكذاك الحرب أحياناً دول
﴿ وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه، قاله السدي.
الثاني : ما آتاكم الله من مال الغنيمة فخذوه، وما نهاكم عنه من الغلو فلا تفعلوه، قاله الحسن.
الثالث : وما آتاكم من طاعتي فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه، قاله ابن جريج.
الرابع : أنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه لأنه لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد.
وحكى الكلبي أنها نزلت في رؤساء المسلمين قالوا فيما ظهر عليه رسول اللَّه ﷺ من أموال المشركين، يا رسول الله صفيك والربع ودعنا والباقي فهكذا كنا نفعل في الجاهلية وأنشدوه :
لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول.
فأنزل الله هذه الآية.
﴿ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ﴾ يعني بالمهاجرين من هاجر عن وطنه من المسليمن إلى رسول الله ﷺ في دار هجرته وهي المدينة خوفاً من أذى قومه ورغبة في نصرة نبيّه فهم المقدمون في الإسلام على جميع أهله.
﴿ يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ﴾ يعني فضلاً من عطاء الله في الدنيا، ورضواناً من ثوابه في الآخرة.
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن الفضل الكفاية، والرضوان القناعة.
وروى علي بن رباح اللخمي أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية فقال : من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقة فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإن الله تعالى جعلني خازناً وقاسماً، إني بادىء بأزواج النبي ﷺ فمعطيهن، ثم بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي أخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا.
قال قتادة : لأنهم اختاروا الله ورسوله ﷺ على ما كانت من شدة، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب على بطنه الحجر ليقيم صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها.
﴿ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ﴾ ويكون على التقديم والتأخير ومعناه تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان.
الثاني : أن الكلام على ظاهره ومعناه أنهم تبوءوا الدار والإيمان قبل الهجرة إليهم يعني بقبولهم ومواساتهم بأموالهم ومساكنهم.
﴿ يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : غيرة وحسداً على ما قدموا به من تفضيل وتقريب، وهو محتمل.
الثاني : يعني حسداً على ما خصوا به من مال الفيء وغيره فلا يحسدونهم عليه، قاله الحسن.
﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾ يعني يفضلونهم ويقدمونهم على أنفسهم ولو كان بهم فاقة وحاجة، ومنه قول الشاعر :
أما الربيع إذا تكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المقتر
وفي إيثارهم وجهان :
أحدهما : أنهم آثروا على أنفسهم بما حصل من فيىء وغنيمة حتى قسمت في المهاجرين دونهم، قاله مجاهد، وابن حيان.
روي أن النبي ﷺ قسم على المهاجرين ما أفاء الله من النضير ونفل من قريظة على أن يرد المهاجرون على الأنصار ما كانوا أعطوهم من أموالهم فقالت الأنصار بل نقيم لهم من أموالنا ونؤثرهم بالفيء، فأنزل الله هذه الآية.
الثاني : أنهم آثروا المهاجرين بأموالهم وواسوهم بها.
روى ابن زيد أن النبي ﷺ قال لهم :« إن إخوانكم تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم » فقالوا : أموالنا بينهم قطائع، فقال :« أو غير ذلك » ؟ فقالوا : وما ذاك يا رسول الله؟ فقال :
254
« هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر » يعني مما صار إليهم من نخيل بني النضير، قالوا نعم يا رسول الله.
﴿ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ﴾ فيه ثماينة أقاويل :
أحدها : أن هذا الشح هو أن يشح بما في أيدي الناس يحب أن يكون له ولا يقنع، قاله ابن جريج وطاووس.
الثاني : أنه منع الزكاة، قاله ابن جبير.
الثالث : يعني هوى نفسه، قاله ابن عباس.
الرابع : أنه اكتساب الحرام، روى الأسود عن ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال وما ذاك؟ قال سمعت الله تعالى يقول :
﴿ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ﴾ وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئاً فقال ابن مسعود : ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، إنما الشح الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل.
الخامس : أنه الإمساك عن النفقة، قاله عطاء.
السادس : أنه الظلم، قاله ابن عيينة.
السابع : أنه أراد العمل بمعاصي الله، قاله الحسن.
الثامن : أنه أراد ترك الفرائض وانتهاك المحارم، قاله الليث.
وفي الشح والبخل قولان :
أحدهما : أن معناهما واحد.
الثاني : أنهما يفترقان وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : أن الشح أخذ المال بغير حق، والبخل أن يمنع من المال المستحق، قاله ابن مسعود.
الثاني : أن الشح بما في يدي غيره، والبخل بما في يديه، قاله طاووس.
﴿ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا ﴾ فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الذين هاجروا بعد ذلك، قاله السدي والكلبي.
الثاني : أنهم التابعون الذين جاءوا بعد الصحابة ثم من بعدهم إلى قيام الدنيا هم الذين جاءوا من بعدهم، قاله مقاتل.
وروى مصعب بن سعد قال : الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان وبقيت الثالثة : فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت.
وفي قولهم :﴿ اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ﴾ وجهان :
أحدهما : أنهم أمروا أن يستغفروا لمن سبق من هذه الأمة ومن مؤمني أهل الكتاب. قالت عائشة : فأمروا أن يستغفروا لهم فسبّوهم.
الثاني : أنهم أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
﴿ ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ﴾ الآية. في الغل وجهان :
أحدهما : الغش، قاله مقاتل.
الثاني : العداوة، قاله الأعمش.
255
﴿ بأسهم بينهم شديد ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد، قاله السدي.
الثاني : أنه وعيدهم للمسلمين لنفعلن كذا وكذا، قاله مجاهد.
﴿ تحسبهم جيمعاً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم اليهود.
الثاني : أنهم المنافقون واليهود، قاله مجاهد.
﴿ وقلوبهم شتى ﴾ يعني مختلفة متفرقة، قال الشاعر :
إلى الله أشكو نية شقت العصا هي اليوم شتى وهي بالأمس جمع
وفي قراءة ابن مسعود « وَقُلُوبُهُمْ أَشَتُّ » بمعنى أشد تشتيتاً، أي أشد اختلافاً.
وفي اختلاف قلوبهم وجهان :
أحدهما : لأنهم على باطل، والباطل مختلف، والحق متفق.
الثاني : أنهم على نفاق، والنفاق اختلاف.
وقوله تعالى :﴿ كمثل الذين من قبلهم قريباً ﴾ الآية. فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم كفار قريش يوم بدر، قاله مجاهد.
الثاني : أنهم قتلى بدر، قاله السدي، ومقاتل.
الثالث : أنهم بنو النضير الذين أجلوا من الحجاز إلى الشام، قاله قتادة.
الرابع : أنهم بنو قريظة، كان قبلهم إجلاء بني النضير.
﴿ ذاقوا وبال أمرهم ﴾ بأن نزلوا على حكم سعد [ بن معاذ ] فحكم فيهم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم، قاله الضحاك. وفيه وجهان :
أحدهما : في تجارتهم.
الثاني : في نزول العذاب بهم.
﴿ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه مثل ضربه الله الكافر في طاعته للشيطان، وهو عام في الناس كلهم، قاله مجاهد.
الثاني : أنها خاصة في سبب خاص صار به المثل عاماً، وذلك ما رواه عطية العوفي عن ابن عباس أن راهباً كان في بني إسرائيل يعبد الله فيحسن عبادته، وكان يؤتى من كل أرض يسأل عن الفقه وكان عالماً، وأن ثلاثة إخوة كانت لهم أخت من أحسن النساء مريضة، وأنهم أرادوا سفراً فكبر عليهم أن يذروها ضائعة، فجعلوا يأتمرون فيما يفعلون، فقال أحدهم : ألا أدلكم على من تتركونها عنده؟ فقال له من؟ فقال : راهب بني إسرائيل، وإن مات قام عليها، وإن عاشت حفظها حتى ترجعوا إليه، فعمدوا إليه وقالوا : إنا نريد السفر وإنا لا نجد أحداً أوثق في أنفسنا منك ولا آمن علينا غيرك، فاجعل أختنا عندك فإنها ضائعة مريضة، فإن ماتت فقم عليها، وإن عاشت فاحفظها حتى نرجع، فقال : أكفيكم إن شاء الله، وإنهم انطلقوا، فقام عليها وداواها حتى برئت فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها وحبلت، ثم تقدم منه الشيطان فزين له قتلها وقال : إن لم تفعل افتضحت، فقتلها.
فلما عاد إخوتها سألوه عنها فقال : ماتت فدفنتها، قالوا أحسنت، فجعلوا يرون في المنام أن الراهب قتلها وأنها تحت شجرة كذا، فعمدوا إلى الشجرة فوجدوها قد قتلت، فأخذوه، فقال له الشيطان : أنا الذي زينت لك قتلها بعد الزنى فهل لك أن أنجيك وتطيعني؟ قال : نعم، قال فاسجد لي سجدة واحدة، فسجد ثم قتل، فذلك قوله تعالى :﴿ كمثل الشيطان ﴾ فكذا المنافقون وبنو النضير مصيرهم إلى النار.
﴿ يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله ﴾ روى معن أو عون ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال : اعهد لي، فقال : إذا سمعت الله يقول :﴿ يأيها الين ءامنوا ﴾ فأرعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه.
وفي هذه التقوى وجهان :
أحدهما : اجتناب المنافقين.
الثاني : هو اتقاء الشبهات.
﴿ ولتنظر نفس ما قدمت لغد ﴾ قال ابن زيد : ما قدمت من خير أو شر.
﴿ لغد ﴾ يعني يوم القيامة والأمس : الدنيا. قال قتادة : إن ربكم قدم الساعة حتى جعلها لغد.
﴿ واتقوا الله ﴾ في هذه التقوى وجهان :
أحدهما : أنها تأكيد للأولى.
والثاني : أن المقصود بها مختلف وفيه وجهان :
أحدهما : أن الأولى التوبة مما مضى من الذنوب، والثانية اتقاء المعاصي في المستقبل.
الثاني : أن الأولى فيما تقدم لغد، الثانية فيما يكون منكم.
﴿ إن الله خبير بما تعملون ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن الله خبير بعملكم.
الثاني : خبير بكم عليم بما يكون منكم، وهو معنى قول سعيد بن جبير.
﴿ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : نسوا الله أي تركوا أمر الله، فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيراً، قاله ابن حبان.
الثاني : نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم، قاله سفيان.
الثالث : نسوا الله بترك شكره وتعظيمه فأنساهم أنفسهم بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضاً، حكاه ابن عيسى.
الرابع : نسوا الله عند الذنوب فأنساهم أنفسهم عند التوبة، قاله سهل.
ويحتمل خامساً : نسوا الله في الرخاء فأنساهم أنفسهم في الشدائد.
﴿ أولئك هم الفاسقون ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : العاصون : قاله ابن جبير.
الثاني : الكاذبون، قاله ابن زيد.
﴿ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يستوون في أحوالهم، لأن أهل الجنة في نعيم، وأهل النار في عذاب.
الثاني : لا يستوون عند الله، لأن أهل الجنة من أوليائه، وأهل النار من أعدائه.
﴿ أصحاب الجنة هم الفائزون ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : المقربون المكرمون.
الثاني : الناجون من النار، قاله ابن حبان.
﴿ لو أنزلنا هذا القرءآن على جبل ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون خطاباً لرسول الله ﷺ إننا لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لما ثبت له بل انصدع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له، فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال.
الثاني : أنه خطاب للأمة، وأن الله لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً، فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدرعلى رده إن عصى، لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب.
وفيه قول ثالث : إن الله تعالى ضربه مثلاً للكفار أنه إذا نزل هذا القرآن على جبل خشع لوعده وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المقهروون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده.
﴿ هو الله الذي لا إله إلا هو ﴾ كان جابر بن زيد يرى أن اسم الله الأعظم هو الله، لمكان هذه الآية.
﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : عالم السر والعلانية، قاله ابن عباس.
الثاني : عالم ما كان وما يكون.
الثالث : عالم ما يدرك وما لا يدرك من الحياة والموت والأجل والرزق.
الرابع : عالم بالآخرة والدنيا، قاله سهل.
﴿ هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس ﴾ في ﴿ القدوس ﴾ أربعة أوجه :
أحدها : أنه المبارك، قاله قتادة، ومنه قول رؤبة :
دعوت رب العزة القدوسا دعاء من لا يقرع الناقوسا
الثاني : أنه الطاهر، قاله وهب، ومنه قول الراجز :
قد علم القدوس مولى القدوس.... الثالث : أنه اسم مشتق من تقديس الملائكة، قاله ابن جريج، وقد روي أن من تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح.
الرابع : معناه المنزه عن القبائح لاشتقاقه من تقديس الملائكة بالتسبيح فصار معناهما واحد.
وأما ﴿ السلام ﴾ فهو من أسمائه تعالى كالقدوس، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مأخوذ من سلامته وبقائه، فإذا وصف المخلوق بمثله قيل سالم وهو في صفة الله سلام، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
سلامك ربنا في كل فجر بريئاً ما تعنتك الذموم
الثاني : أنه مأخوذ من سلامة عباده من ظلمه، قاله ابن عباس.
[ وفي ﴿ المؤمن ﴾ ثلاثة أوجه : أحدها : الذي يؤمن أولياءه من عذابه ] الثاني : أنه مصدق خلقه في وعده، وهو معنى قول ابن زيد.
الثالث : أنه الداعي إلى الإيمان، قاله ابن بحر.
وأما ﴿ المهيمن ﴾ فهو من أسمائه أيضاً، وفيه خمسة أوجه :
أحدها : معناه الشاهد على خلقه بأعمالهم، وعلى نفسه بثوابهم، قاله قتادة، والمفضل، وأنشد قول الشاعر :
شهيد عليَّ الله أني أحبها كفى شاهداً رب العباد المهيمن
والثاني : معناه الأمين، قاله الضحاك.
الثالث : المصدق، قاله ابن زيد.
الرابع : أنه الحافظ، حكاه ابن كامل، وروي أن عمر بن الخطاب قال : إني داع فهيمنوا، أي قولوا آمين حفظنا الدعاء، لما يرجى من الإجابة.
258
الخامس : الرحيم، حكاه ابن تغلب واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت :
مليك على عرش السمآء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد
﴿ العزيز ﴾ هو القاهر، وفيه وجهان :
أحدهما : العزيز في امتناعه.
الثاني : في انتقامه.
﴿ الجبار ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : معناه العالي العظيم الشأن في القدرة والسلطان.
الثاني : الذي جبر خلقه على ما شاء، قاله أبو هريرة، والحسن، وقتادة.
الثالث : أنه الذي يجبر فاقة عباده، قاله واصل بن عطاء.
الرابع : أنه الذي يذل له من دونه.
﴿ المتكبر ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : المتكبر عن السيئات، قاله قتادة.
الثاني : المستحق لصفات الكبر، والتعظيم، والتكبر في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم.
الثالث : المتكبر عن ظلم عباده.
﴿ هو الله الخالق ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه المحدِث للأشياء على إرادته.
الثاني : أنه المقدر لها بحكمته.
﴿ الْبَارِىءُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : المميز للخلق، ومنه قوله : برئت منه، إذا تميزت منه.
الثاني : المنشىء للخلق، ومنه قول الشاعر :
براك الله حين براه غيثاً ويجري منك أنهاراً عذاباً
﴿ المصور ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لتصوير الخلق على مشيئته.
الثاني : لتصوير كل جنس على صورته. فيكون على الوجه الأول محمولاً على ابتداء الخلق بتصوير كل خلق على ما شاء من الصور. وعلى الوجه الثاني يكون محمولاً على ما استقر من صور الخلق، فيحدث خلق كل جنس على صورته وفيه على كلا الوجهين دليل على قدرته.
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن يكون لنقله خلق الإنسان وكل حيوان من صورة إلى صورة، فيكون نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يصير شيخاً هرماً، كما قال النابغة :
الخالق البارىء المصور في ال أرحام ماء حتى يصير دماً
﴿ له الأسماء الحسنى ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن جميع أسمائه حسنى لاشتقاقه من صفاته الحسنى.
الثاني : أن له الأمثال العليا، قاله الكلبي.
259
Icon