تفسير سورة الأعراف

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * الۤمۤصۤ * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ الآية، هذه السورة مكية، قاله ابن عباس وجماعة. وقال مقاتل: إلا قوله واسألهم عن القرية إلى قوله: من ظهورهم ذرياتهم فإِن ذلك مدني. وروي هذا أيضاً عن ابن عباس وقيل: إلى قوله تعالى:﴿ وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ ﴾[الأعراف: ١٧١] واعتلاق هذه السورة بما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قوله:﴿ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ ﴾[الأنعام: ١٥٥].
واستطرد منه لما بعده وإلى قوله آخر السورة:﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ ﴾[الأنعام: ١٦٥] وذكر ابتلاءهم فيما آتاهم، وذلك لا يكون إلا بالتكاليف الشرعية، ذكر ما به تكون التكاليف وهو الكتاب الإِلهي وذكر الأمر باتباعه كما أمر في قوله:﴿ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ ﴾[الأنعام: ١٥٥].
وتقدم الكلام على هذه الحروف المقطعة أوائل السور في أول البقرة وذكر ما حَدَسه الناس فيها، ولم يقم دليل واضح على شىء من تفسيرهم يتعيّن به ما قالوا. وزادوا هنا لأجل الصاد أقوالاً لا يقوم الدليل على صحة شىء منها ونهيه تعالى أن يكون في صدره حرج منه، أي من سببه لما تضمنه من أعباء الرسالة وتبليغها لمن لم يؤمن بكتاب ولا أعتقد صحة رسالة، وتكليف الناس أحكامها، وهذه أمور صعبة ومعانيها تشق عليه. وأسند النهي إلى الحرج، ومعناه نهي المخاطب عن التعرض للحرج وكان أبلغ من نهي المخاطب لما فيه من أن الحرج لو كان مما ينهى لنهيناه عنك، فانته أنت عنه بعدم التعرض له ولأن فيه تنزيهاً لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينهاه، فيأتي التركيب فلا تحرج منه لأن ما أنزله تعالى إليه يناسبان يسرّ به وينشرح لما فيه من تخصيصه بذلك وتشريفه حيث أهّله لإِنزاله عليه وجعله سفيراً بينه وبين خلقه. فلهذه الفوائد عدل عن أن ينهاه ونهى الحرج. كتاب: خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الكتاب، وأنزل جملة في موضع الصفة للكتاب. والظاهر أن الضمير في منه عائد على الكتاب وذهب الفراء وتبعه الحوفي والزمخشري وابن عطية أنّ تنزل ومتعلق بقوله: انزل إليك. وقوله: أنزل ماضي الزمان. ولتنذر مستقبل الزمان فلذلك احتيج في جعله مفعولاً من أجله للام الجر لمّا اختلف زمانهما. والجملة من قوله: فلا يكن اعتراض بين أنزل وبين لتنذر.﴿ وَذِكْرَىٰ ﴾ مصدر وهو مجرور عطفاً على المصدر المنسبك من أنْ. والفعل المنصوب بإِضمارها أي انْ في قوله: لتنذر، أي لإِنذارك ولذكرى ومعنى ذكرى هنا المراد به ولتذكير المؤمنين كقوله تعالى:﴿ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ﴾[المدثر: ٣١]، وحذف مفعول تنذر أي لتنذر الكافرين ويدل على حذفه نظيره في قوله: وذكرى للمؤمنين.﴿ ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ ﴾ يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى:﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴾[النجم: ٣-٤].
والضمير في ﴿ مِن دُونِهِ ﴾ عائد على ربكم.﴿ أَوْلِيَآءَ ﴾ من دون الله كالأصنام والرهبان والكهان والأحبار والنار والكواكب وغير ذلك. وانتصب: ﴿ قَلِيلاً ﴾ على أنه نعت لمصدر محذوف. وما: زائدة أي يتذكرون تذكراً قليلاً.﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾ كم هنا خبرية التقدير وكثير من القرى أهلكناها وأعاد الضمير في أهلكناها على معنى كم، وهي في موضع رفع بالابتداء وأهلكناها جملة في موضع الخبر. وأجازوا أن تكون في موضع نصب بإِضمار فعل يفسره أهلنكاها تقديره وكم من قرية أهلكناها ولا بد في الآية من تقدير محذوف مضاف لقوله: أو هم قائلون فمنهم من قدره وكم من أهل قرية، ومنهم من قدره أهلكنا أهلها. وينبغي أن يقدر عند قوله: فجاءها بأسنا أي فجاء أهلها لمجيء الحال من أهلها بقوله: بياتاً، بدليل أو هم قائلون لأنه يمكن إهلاك القرى بالخسف والهدم وغير ذلك، فلا ضرورة تدعو إلى حذف المضاف قبل قوله: فجاءها، والضمير في أهلكناها المرفوع ضمير المتكلم المعظم وفيه التفات إذ فيه خروج من ضمير الغائب المفرد إلى ضمير المتكلم.﴿ قَآئِلُونَ ﴾ يعني من نوع القيلولة نوَّع مجيء البأس إلى نوعين الاستراحة وهو بياتاً أي ليلاً إذ هو وقت سكون وراحة، وإلى زمان القيلوة وهو وقت الراحة أيضاً وأوَّ هنا للتفصيل. قال الزمخشري: فإن قلت: لا يقال: جاء زيد هو فارس بغير واو فما بال قوله تعالى: ﴿ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ ﴾ قلت: قدر بعض النحويين الواو محذوفة ورده الزجاج. وقال: لو قلت: جاءني زيد راجلاً أو هو فارس أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج فيه إلى واو، لأن الذكر قد عاد إلى الأول. والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالاً لاجتماع حَرْفَيْ عطف لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل. فقولك: جاءني زيد راجلاً أو هو فارس كلام فصيح وارد على حدة. وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث. " انتهى ". فأما بعض النحويين الذي أبهمه الزمخشري فهو الفراء. وأما قول الزجاج في التمثيلين لم يحتج فيهما إلى الواو لأن الذكر قد عاد إلى الأول ففيه إبهام وتعيينه لم يجز دخولها في المثال الأول ويجوز دخولها في المثال الثاني فانتفاء الاحتياج ليس على حد سواء لأنه في الأول لامتناع الدخول، وفي الثاني لكثرة الدخول لا لإقناعه. وأما قول الزمخشري: والصحيح إلى آخره، فتعليله ليس بصحيح لأن واو الحال ليست حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حَرْفَيْ عطف لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالاً حتى يعطف حالاً على حال فمجيئها فيما لا يمكن أن يكون حالاً دليل على أنها ليست واو عطف ولا لَحُظ فيها معْنى واو العطف، تقول: جاءني زيد والشمس طالعة. فجاء زيد ليس بحال فتعطف عليه جملة حال وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال، وهي قسم من أقسام الواو كما تأتي للقسم، وليست فيه للعطف إذا قلت: والله لتخرجن. وأما قوله: فخبيث فليس بخبيث وذلك أنه بناة على أن الجملة الاسمية إذ كان فيها ضمير ذي الحال فإِن حذف الواو منها شاذ. وتبع في ذلك الفراء وليس بشاذ بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب نثرها ونظمها وهو أكثر من رمل بَيْرين ومها فلسطين. وقد رجع الزمخشري عن هذا المذهب إلى مذهب الجماعة.﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ ﴾ قال ابن عباس: دعواهم تضرعهم إلا إقرارهم بالشرك. " انتهى ". ودعواهم إسم كان. و ﴿ إِذْ ﴾ ظرف معمول لدعواهم وخبر كان.﴿ أَن قَالُوۤاْ ﴾ أي إلا قولهم وإنا وما بعدها معمول للقول.﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ ﴾ أي نسأل الأمم المرسل إليهم عن أعمالهم وعما بلغه إليهم الرسل كقوله تعالى:﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾[القصص: ٦٥]، وتسأل الرسل عما أجاب به من أرسلوا إليه كقوله تعالى:﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ ﴾[المائدة: ١٠٩] وسؤال الأمم تقرير وتوبيخ يعقب الكفار والعصاة عذاباً وسؤال الرسل تأنيس يعقب الأنبياء ثواباً وكرامة.﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم ﴾ أي نسرد عليهم أعمالهم قصةً قصةً.﴿ بِعِلْمٍ ﴾ منا لذلك واطلاع عليه.﴿ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ﴾ عن شىء منه وهذا من أعظم التوبيخ حيث يقرون بالظلم وتشهد عليهم أنبياؤهم ويقص الله عليهم أعمالهم.
﴿ وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ ﴾ مذهب الجمهور أن في القيامة موازين توزن بها أعمال العباد اتباعاً لظواهر النصوص في ذلك. وذهب مجاهد والضحاك والأعمش وجماعة وهو قول المعتزلة: إلى أن ما ورد من الوزن والموازين إنما هو كناية عن العدل ومحاسبة أهل الموقف بحساب أعمالهم والوزن مبتدأ ويومئذٍ ظرف منصوب بالوزن والتنوين في إذ تنوين العوض من جملة محذوفة تقديره يوم إذْ نسأل ونقص فحذف ذلك وعوّض منه التنوين ولذلك لا يجتمعان، وكذا كل موضع يلحق التنوين فيه لاذْ والحق خبر عن المبتدأ الذي هو الوزن.﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾ من أثبت الميزان ذكر أنه ذو كفتين ولسان ولم يثبت مثل هذا نصاً لا في القرآن ولا في السنة والثقل والخفة إنما هما من صفات الأجسام والحسنات والسيئات من صفات الاعراض، فقال: هؤلاء ان الموزون إنما هو الصحف التي كتبت فيها الحسنات والسيئات. وقوله: موازينه أفرد الضمير مراعاة للفظ من ثم جمع في قوله: فأولئك، مراعاة لمعنى من. ويتعلق بآياتنا بقوله: ﴿ يِظْلِمُونَ ﴾ لتضمنه معنى يكذبون أو لأنها بمعنى يجحدون.﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ تقدم معنى مكناكم في قوله: أول الانعام مكناهم في الأرض. والخطاب راجع للذين خوطبوا اتبعوا ما أنزل إليكم وما بينهما أورد مورد الاعتبار والاتعاظ بذكر ما آل إليه أمرهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة.﴿ مَعَايِشَ ﴾ جمع معيشة. وقرأ خارجة عن نافع: معائش، بالهمز شبهها بصحائف من حيث عدد الحروف والحركات والكون. والمعيشة: ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما مما يتوصل به إلى ذلك. وهي في الأصل مصدر ينزل منزلة الآلات. وإعراب: ﴿ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ كإِعراب قليلاً ما تذكرون.﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾ هو على حذف مضاف تقديره خلقنا أباكم ثم صورنا أباكم ويبقى ثم دالة على موضوعها من المهملة في الزمان. فبدأ بالخلق وهو إخراج من العدم الصرف إلى مادة وهي الترائب. ولقوله تعالى:﴿ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾[آل عمران: ٥٩]، ثم ثنى بالتصوير وهو تشكيله بالصورة الآدمية. وتقدم تفسير: ﴿ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ ﴾ في البقرة فاغنى عن إعادته. وقوله: ﴿ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ ﴾ جملة لا موضع لها من الإِعراب مؤكدة لمعنى ما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس كقوله:﴿ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ ﴾[البقرة: ٣٤]، بعد قوله: إلا إبليس، في البقرة.﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ ﴾ انتقل من ضمير المتكلم المعظم إلى ضمير الغيبة في قال. وما: استفهامية مبتدأة. والجملة بعدها خبره ولا في أن لا تسجد زائدة للتوكيد يدل على زيادتها سقوطها في قوله: أن تسجدوا وإذ معمولة لقوله: منعك. والمعنى أنه وبّخه وقرّعه على امتناعه من السجود، وإن كان تعالى عالماً لما منعه من السجود. وما: استفهامية، تدل على التوبيخ كما قلنا قبل.﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ ﴾ هذا ليس بجواب مطابق للسؤال، لكنه يتضمن الجواب إذ معناه منعني فضلي عليه لشرف عنصري على عنصره ولم ينظر المسكين لأمر من أمره بالسجود وهو الله تعالى فامتثال الأمر طاعة الله تعالى، وقد تكلم الناس في تفضيل النار على الطين وفي تفضيل الطين على النار، بما هو مذكور في البحر.﴿ قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا ﴾ لما كان امتناعه من السجود بسبب ظهور شرفه على آدم عند نفسه قابله الله بالهبوط المشعر بالنزول من علو إلى أسفل. والضمير في: منها عائد على الجنة وإن لم يجر لها ذكر. قال ابن عطية: أُهبط أولاً وأخرج من الجنة وصار في السماء، لأن الاخبار تظافرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة ثم أمر آخراً بالهبوط من السماء مع آدم وحواء. ومعنى: ﴿ فَمَا يَكُونُ لَكَ ﴾ أي لا يصح لك، أوْ لا يتم، أو لا ينبغي. والضمير في ﴿ فِيهَا ﴾ يعود على ما عاد عليه منها ولا مفهوم لهذا الظرف بل التكبر منهي عنه في كل موضع. وكرر معنى الهبوط بقوله:﴿ فَٱخْرُجْ ﴾ لأن الهبوط منها خروج ولكنه أخبر بصغاره وذلته وهو أنه جزاء على تكبره قوبل بالضد مما اتصف به وهو الصغار الذي هو ضد التكبر، والتكبر تفعل منه لا أنه خلق كبيراً عظيماً ولكنه هو الذي تعاطى الكبر.﴿ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ هذا يدل على إقراره بالبعث، وعلمه بأن آدم سيكون له ذرية ونسل يعمرون الأرض ثم يموتون. والضمير في يبعثون، عائد على ما دل عليه المعنى إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه ومعنى أنظرني: أخرني.﴿ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي ﴾ الظاهر أن الباء: للقسم. وما: مصدرية، ولذلك تلقت الحلف بقوله:﴿ لأَقْعُدَنَّ ﴾ وأغويتني بمعنى أضللتني، قاله ابن عباس. والإِغواء نسبه إبليس إلى الله تعالى وهو فعل من أفعال الله تعالى جار على الحكمة الإِلهية، فجاز أن يقسم به. قال الزمخشري: فإِن قلت: بم تعلقت الباء؟ فإِن تعليقها بلأقعدن يصد عنه لام القسم لا تقول: والله بزيد لأمرن. قلت: تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدن أي بسبب إغوائك أقسم. " انتهى ". ما ذكره من أن اللام تصد عن تعلق الباء بلأقعدن ليس مجمعاً عليه بل في ذلك خلاف. وعبر بالقعود عن الثبوت في المكان والتلبث فيه، قالوا: وانتصب صراطك على إسقاط على، قاله الزجاج. وشبهه بقول العرب: ضرب زيد الظهر والبطن، أي على الظهر والبطن وإسقاط حرف الجر لا ينقاس في مثل هذا، لا يقال: قعدت الخشبة، تريد قعدت على الخشبة، والأولى أن يضمن لأقعدن معنى ما يتعدى بنفسه فينتصب الصراط أنه مفعول به. والتقدير لألزمنّ بقعودي صراطك المستقيم وهذا الصراط هو دين الإِسلام وهو الموصل إلى الجنة.
﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ﴾ الظاهر أن إتيانه من هذه الجهات الأربع كناية عن وسوسته وإغوائه له والجد في إضلاله من كل وجه ممكن، ولما كانت هذه الجهات يأتي منها العدو غالباً ذكرها، لا انه يأتي من الجهات الأربع حقيقة وغاير في حرف الجر الذي هو من وعن، لأنه لو كان الكل بمن أو بعن لكان في تكرار ذلك قلق في التركيب.﴿ مَذْءُوماً ﴾ يقال: ذأمه يذأمُه ذأْماً، بسكون الهمزة، ويجوز إبدالها ألفاً.﴿ مَّدْحُوراً ﴾ يقال: دحره أبعده وأقصاه دحوراً. قال الشاعر: دَهَرتُ بني الحُصيب إلى قديد   وقد كانوا ذوي أشر وفخروهذه ثلاث أوامر أمر بالهبوط مطلقاً وأمر بالخروج مخبراً أنه ذو صغار وأمر بالخروج مقيداً بالذم والطرد.﴿ لَّمَن تَبِعَكَ ﴾ منهم قرأ الجمهور لمن بفتح اللام، والظاهر أنها اللام الموطئة للقسم، ومن: شرطية في موضع رفع على الابتداء، وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة. ويجوز أن تكون اللام لام الابتداء. ومن: موصولة. ولأملأن: جواب قسم محذوف بعد من تبعك وذلك القسم المحذوف وجوابه في موضع خبر من الموصولة. وقرأ الجحدري وعصمة عن أبي بكر عن عاصم لمن تبعك بكسر اللام، واختلفوا في تخريجها. قال ابن عطية: المعنى لأجل من تبعك منهم لأملأن. " انتهى ". ظاهر هذا التقدير أن اللام تتعلق بلأملأن. ويمتنع ذلك على قول الجمهور وإن ما بعد لام القسم لا يعمل فيما قبلها. قال الزمخشري: يعني لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله: لأملأن جهنم منكم أجمعين على أن لأملأن في محل الابتداء، ولمن تبعك خبره. " انتهى ". إن أراد ظاهر كلامه فهو خطأ على مذهب البصريين لأن قوله: لأملأن جملة هي جواب قسم محذوف لمن حيث كونها جملة فقط لا يجوز أن تكون مبتدأة، ومن حيث كونها جواباً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً لأنه إذا ذاك من هذه الحيثية لا موضع لها من الإِعراب، ومن حيث كونها مبتدأ، لها موضع من الإِعراب. ولا يجوز أن تكون الجملة لها موضع من الإِعراب ولا موضع لها بحال لأنه يلزم أن تكون في موضع رفع لا في موضع رفع داخلاً عليها عامل غير داخل عليها عامل ذلك لا يتصور. و ﴿ وَيَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ ﴾ أي وقلنا يا آدم. وتقدم تفسيرها في البقرة، إلا أن هنا فكلا من حيث شئتم، وفي البقرة﴿ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً ﴾[الآية: ٣٥].
قالوا وجاءت على أحد محاملها وهي أن يكون الثاني بعد الأول وحذف رغداً هنا على سبيل الاختصار وأثبت هناك لأن تلك مدنية وهذه مكية فوفى المعنى هناك باللفظ.﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ ﴾ أي فعل الوسوسة لأجلهما، وأما قوله: فوسوس إليه، فمعناه ألقي الوسوسة إليه.﴿ لِيُبْدِيَ ﴾ اللام: لام كي، وهي علة للوسوسة.﴿ مَا وُورِيَ ﴾ أي ما سُتر. وقرأ عبد الله بن مسعود أُوري بإِبدال الواو همزة، وهو بدل جائز. وقرىء: ما وري بواو مضمومة من غير واو بعدها على وزن كسى. وقرأ مجاهد والحسن من سؤتهما بالإِفراد وتسهيل الهمزة وبإِبدالها واواً وإدغام الواو فيها. و ﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ ﴾ استثناء مفرغ من المفعول من أجله، أي ما نهاكما ربكما لشىء إلا أن تكونا ملكين أو من الخالدين من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين.﴿ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ ﴾ لم يكتف إبليس بالوسوسة وهي الإِلقاء خفية سراً ولا بالقول، حتى أقسم على أنه ناصح لهما والمقاسمة مفاعلة تقتضي المشاركة في العقل. وأما هنا فمعنى وقاسمهما أي أقسم لهما لأن اليمين لم يشاركا فيها، وهي كقول الشاعر: وقاسمهما بالله جهراً لأنتم   ألذ من السلوى إذا ما نشورهاوفاعل قد يأتي بمعنى أفعل نحو: باعدت الشىء وأبعدته. ولكما: متعلق بمحذوف تقديره ناصح لكما أو أعني أو بالناصحين على أنّ ألْ موصولة وتسومح في الظرف المجرور ما لا يتسامح في غيرهما.﴿ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ أي استنزلهما إلى الأكل من الشجرة بغروره أي بخداعه إياهما وإظهار النصح لهما وإبطان الغش وإطماعهما أن يكونا ملكين أو خالدين وبإِقسامه أنه ناصح لهما، جُعل من يغتر بالكلام حتى يصدق فيقع في مصيبة كالذي يُدَلّى من علو إلى سفل بحبل ضعيف فيتقطع به فيهلك.﴿ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا ﴾ أي وجدا طعمها آكلين منها. قال تعالى:﴿ فَأَكَلاَ مِنْهَا ﴾[طه: ١٢١] وتطايرت عنهما ملابس الجنة وظهرت لهما عوراتهما. وتقدم أنهما كانا قبل ذلك لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر.﴿ وَطَفِقَا ﴾ طفق من أفعال المقاربة بفتح الفاء وكسرها. وبالباء مكان الفاء مكسورة. و ﴿ يَخْصِفَانِ ﴾ خبر طفق، ومعنى يخصفان أي جعلا يلصقان ورقة على ورقة ويلصقانها. والأولى أن يعود الضمير في ﴿ عَلَيْهِمَا ﴾ على عورتيْهما. كأنه قيل: يخصفان على سوآتهما.﴿ مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ﴾ وعاد بضمير الاثنين لأن الجمع يراد به اثنان. وعلى هنا ظرف مجازي بمعنى فوق لا حرف جر. ونظير هذا التركيب قوله تعالى:﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾[الأحزاب: ٣٧].
وقول الشاعر: هوّن عليك فإِن الأمور   بكف الإِله مقاديرها﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ ﴾ لما كان وقت الهناء شرف بالتصريح باسمه في النداء. وقيل: ويا آدم اسكن. وحين كان وقت العتاب أخبر أنه ناداه ولم يصرح باسمه. والظاهر أنه تعالى كلمهما بلا واسطة، والجملة معمولة لقول محذوف أي قائلا:﴿ أَلَمْ أَنْهَكُمَا ﴾ وهو استفهام معناه العتاب على ما صدر منهما. والنهي قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا ﴾.
وثم مضاف محذوف تقديره عن قربان تلك وتي اسم الإِشارة، واللام: للبعد، حذفت ياء تي للالتقاء الساكنين. وكما: خطاب للإِثنين.﴿ وَأَقُل لَّكُمَآ ﴾ إشارة إلى قوله: فقلنا يا آدم. ان هذا عدو لك ولزوجك، الآية في سورة طه. و ﴿ لَنَكُونَنَّ ﴾ جواب قسم محذوف قبل أنْ، كقوله تعالى:﴿ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ ﴾[المائدة: ٧٣]، ليمسن التقدير والله إن لم تغفر لنا. وأكثر. ما تأتي انْ هذه ولام الموطئة قبلها، كقوله: لئن لم ينته المنافقون، ثم قال: لنغرينك بهم.﴿ قَالَ ٱهْبِطُواْ ﴾ تقدم تفسيرها في البقرة.﴿ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ ﴾ هذا كالتفسير لقوله: ولكم في الأرض مستقر ومتاع، أي بالحياة. إلى حين، أي حين الموت.﴿ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ أي إلى المجازاة بالثواب والعقاب.
﴿ يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها، هو أنه تعالى ذكر قصة آدم وفيها ستر السوآت وجعل في الأرض له مستقراً ومتاعاً، ذكر ما امتن به على نبيه وما أنعم به عليهم من اللباس الذي يواري السوآت والرياش الذي يمكن به استقرارهم في الأرض واستمتاعهم بما حولهم.﴿ قَدْ أَنزَلْنَا ﴾ إلإِنزال مجاز من باب إطلاق السبب على مسببه فأنزل المطر وهو سبب ما يتهيأ به اللباس، واللباس يعم جميع ما يلبس ويستر. والريش معروف، وهو هنا عبارة عن سعة الرزق ورفاهة العيش والتمتع. وقال الزمخشري: لباس الزينة استعير من ريش الطائر، لأنه لباسه وزينته، أي أنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوآتكم، ولباساً يزينكم لأن الزينة غرض صحيح. وكما قال تعالى:﴿ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾[النحل: ٨]، ولكم فيها جمال. " انتهى ". ويحسّنه قوله تعالى:﴿ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾[النحل: ١٤، فاطر: ١٢] وقرىء: ولباس بالنصب عطفاً على ما قبله. وقرىء: بالرفع وهو مبتدأ وذلك خبر مبتدأ وخير خبر عن قوله: ولباس، والرابط بينهما إسم الإِشارة كا يربط المضمر. وكأنه قال ولباس التقوى هو خبر. والإِشارة بقوله: ﴿ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ إلى ما تقدم من إنزال اللباس والرياش ولباس التقوى. والمعنى من آيات الله الدالة على فضله ورحمته على عباده.﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ هذه النعم فيشكرون الله تعالى عليها.﴿ يَابَنِيۤ ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ أي لا يستهوينكم ويغلب عليكم، وهو نهي للشيطان. والمعنى نهيهم أنفسهم عن الإصغاء إليه والطواعية لأمره، كما قالوا: لا أرَيَنّك ها هنا، ومعناه النهي عن الإِقامة بحيث يراه. و ﴿ كَمَآ ﴾ في موضع نصب أي فتنة، مثل فتنة إخراج أبويكم من الجنة. و ﴿ يَنزِعُ ﴾ حال من الضمير في أخرج أو من أبويكم لأن الجملة فيها ضمير الشيطان وضمير الأبوين ونسب النزع والإِراءة إلى الشيطان لما كان متسبباً فيه.﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ ﴾ قال الزمخشري: الضمير في أنه يراكم ضمير الشأن والحديث. " انتهى " ولا ضرورة تدعو إلى هذا بل الظاهر أنه ضمير عائد على الشيطان وهو إبليس يبصركم هو وجنوده من الجهة التي لا تبصرونه منها وهم أجسام لطيفة معلوم من هذه الشريعة، وجودهم، كما أن الملائكة أيضاً معلوم وجودهم من هذا الشريعة، ولا يستنكر وجود أجسام لطيفة جداً لا نراها نحن. ألا ترى أن الهواء جسم لطيف لا ندركه نحن وقد قام البرهان العقلي القاطع على وجوده وقد صح تصورهم في الأجسام الكثيفة. ورؤية بني آدم لهم في الأجسام كالشيطان الذي رآه أبو هريرة حين جعل يحفظ تمر الصدقة، والعفريت الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيه:" لولا دعوة أخي سليمان لربطته إلى سارية من سواري المسجد "الحديث. وكحديث خالد بن الوليد حين سير لكسر ذي الخلصة. وكحديث سوار بن قارب مع رئيه من الجن إلا أن رؤيتهم في الصور نادرة، كما أن الملائكة تبدو في صور كحديث جبريل عليه السلام. وقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ ﴾، تعليل للنهي وتحذير من فتنته بأنه بمنزلة العدو المواجي يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون.﴿ إِنَّا جَعَلْنَا ﴾ إي صيرنا.﴿ ٱلشَّيَاطِينَ ﴾ الآية، ناصريهم ومعاضديهم في الباطل.﴿ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً ﴾ الظاهر أنه اخبار مستأنف عن هؤلاء الكفار بما كانوا يقولون إذا ارتكبوا الفواحش. وقولهم: ﴿ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا ﴾ تقليد لآبائهم في فعل ذلك. والتقليد ليس طريقاً لحصول العلم. وقولهم: ﴿ وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴾ إفتراء عليه تعالى. وكانوا يقولون: لو كره الله ذلك لنقلنا عنها.﴿ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ ﴾ أي بفعل الفحشاء. وإنما لم يرد التقليد لظهور بطلانه، فأبطل تعالى دعواهم إن الله أمر بها، إذ مدرك ذلك إنما هو الوحي على لسان الرسل والأنبياء ولم يقع ذلك.﴿ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ومجنهم على كذبهم ووقفهم على ما لا علم لهم به ولا رواية لهم فيه بل هي دعوى واختلاق.﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ ﴾ أي بالعدل.﴿ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ معطوف على ما ينحل إليه المصدر الذي هو القسط، أي بأن أقسطوا وأقيموا وكما ينحل المصدر لأنْ والفعل الماضي نحو: عجبت من قيام زيد. وخرج تقديره من أن قام زيد وخرج، ولأنْ والمضارع، نحو: للبس عَبَاءة وتقر عيني   أحب إلي من لبس الشفوفتقديره لأن ألبس عباءة وتقر عيني. ولما أشكل هذا التخريج جعل الزمخشري وأقيموا على تقدير وقل، فقال: وقل أقيموا وجوهكم. قال ابن عباس: المعنى إذا حضرت الصلاة فصلوا في كل مسجد، ولا يقل أحدكم أصلي في مسجدي.﴿ وَٱدْعُوهُ ﴾ الدعاء على بابه أمر به مقرونا بالإِخلاص.﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ هذا إعلام بالبعث أي كما أوجدكم واخترعكم كذلك يعيدكم بعد الموت. والكاف في كما: للتشبيه. وما: مصدرية. والمعنى تعودون بإِنشائه تعالى مثل بدئه تعالى إياكم شبّه الإِعادة بالبدء.﴿ فَرِيقاً هَدَىٰ ﴾ تقسيم للمؤمن والكافر. وانتصب فريقاً على أنه مفعول بهدى.﴿ وَفَرِيقاً ﴾ الثاني بإِضمار فعل يفسره ما بعده تقديره وأضل فريقاً. وهذا من باب الاشتغال. فسّر فكل ناصب من معنى قوله:﴿ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَاطِينَ ﴾ تعليل للفريق الذين حقت عليهم الضلالة.
﴿ يَابَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ الآية، كان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت عراة، وكانوا لا يأكلون في أيام حجهم دسماً، ولا ينالون من الطعام إلا قوتاً، تعظيماً لحجهم. فنزلت. والزينة فعلة من التزين وهو اسم ما يتجمل به من ثياب وغيرها، كقوله تعالى:﴿ وَٱزَّيَّنَتْ ﴾[يونس: ٢٤] أي بالنبات. والزينة هنا المأمور بأخذها هو ما يستر العورة في الصلاة. وفي صحيح مسلم عن عروة أن العرب كانت تطوف عراة إلا الحُمْسُ، وهم قريش إلا أن تعطيهم الحمس ثياباً فتعطى الرجالُ الرجالَ والنساءُ النساءَ. وفي غير مسلم: من لم يكن له صديق بمكة يعيره ثوباً طاف عرياناً أو في ثيابه وألقاها بعد ذلك فلا يمسها أحد، وتسمى اللقاء. وقال بعضهم في ذلك: كفى حزناً كدى عليه كأنه   لقى بين أيدي الطائفين حريم" فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه: يا بني آدم خذوا زينتكم، أذّن مؤذنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ".﴿ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ ﴾ الظاهر أنه أمر بإِباحة الأكل والشرب من كل ما يمكن أن يؤكل ويشرب مما لم يخطر أكله وشربه في الشريعة. وإن كان النزول على سبب خاص كما ذكروا من امتناع المشركين من أكل اللحم والدسم أيام إحرامهم، والنهي عن الإِسراف يدل على التحريم لقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ ﴾.
والظاهر تعلق الإِسراف بالأكل والشرب كما يوجد للمحترفين في الدنيا من مغالاة التأنق في الأكل بحيث يغرم على الدجاجة الواحدة نحو من عشرين درهماً، وكما يغرم على الرطل من الحلوى نحو من أربعين درهماً، ولقد شاهدنا بعض أكابرهم رسم بأن يعمل له خميرة ورد في مئين من القناني في كل قنينة أربع أواق فقيل له: الورد كما دخل وهو غال، فقال: أليس موجوداً؟ فقيل له: نعم. فقال: كل موجود ليس بغال. وكما بلغنا عن بعض الناس أنه كان يأكل الفستق مقشوراً بالسكر النبات في القطايف، وقد سئل عن حال من يأكل قشور الموز من الجوع والفقر فقال ذلك الآكل: كلنا فقراء. وأما تأنقهم في الأواني الصينية وفعالاتهم في أثمانها فكثير، ويسألون درهماً لفقير فلا يبورن به.﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ﴾ هي ما حسنته الشريعة وقررته مما يتجمل به الناس من الثياب وغيرها. وأضيفت إلى الله تعالى لأنه هو الذي أباحها. والطيبات: هي المستلذات من المأكول والمشروب بطريقه وهو الحل، ومعنى الاستفهام إنكار تحريم هذه الأشياء وتوبيخ محرميها. وقد كانوا يحرمون أشياء من لحوم الطيبات وألبانها. والاستفهام إذا تضمن الإِنكار لا جواب له. ومعنى: ﴿ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ﴾ أي أبرزها وأظهرها وفصّل حلالها من حرامها.﴿ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية، وقرىء: خالصة بالرفع. وقرأ باقي السبعة بالنصب، فأما النصب فعلى الحال والتقدير قل هي مستقرة للذين آمنوا في حال خلوصها لهم يوم القيامة وهي حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبراً لهيَ. وفي الحياة متعلق بآمنوا. وأما الرفع فجوزوا فيه أن يكون خبراً لهي. وللذين آمنوا متعلق بخالصة. وفي الحياة الدنيا متعلق بآمنوا. ويصير المعنى قل هي خالصة يوم القيامة لمن آمن من الدنيا، ولا يعني بيوم القيامة وقت الحساب، وخلوصها كونهم لا يعاقبون عليها، وإلى هذا المعنى يشير ابن جبير. وجوزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر، والخبر الأول هو للذين آمنوا. وفي الحياة الدنيا متعلق بما يتعلق به للذين وهو الكون المطلق، أي قل هي كائنة في الحياة الدنيا للمؤمنين وإن كان يشركهم فيها في الحياة الدنيا الكفار وخالصة لهم يوم القيامة. ويراد بيوم القيامة استمرار الكون في الجنة، وهذا المعنى من أنها لهم ولغيرهم في الدنيا خالصة لهم يوم القيامة هو قول ابن عباس وجماعة.﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ ﴾ تقدم تفسير الفواحش. و ﴿ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ في أواخر الانعام قال ابن عباس: هنا ما ظهر منها ما كانت تفعله الجاهلية من نكاح الأبناء نساء الآباء، والجمع بين الأختين، وأن تنكح المرأة على عمتها وخالتها، وما بطن، وهو الزنا، وما عطف عليه بدل من الفواحش وهو بدل تفصيلي لإِنقسام الفواحش إلى ظاهرة وباطنة. ونظيره قول الشاعر: وكنت كذي رجلَيْنِ رجل صحيحة   ورجل رمى فيها الزمان فشلتوالاثم عام يشمل الأقوال والأفعال التي يترتب عليها الاثم. والبغي: التعدي وتجاوز الحد مبتدئاً كان أو منتصراً. وقوله: ﴿ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ﴾ زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق، لأن ما كان بحق لا يسمى بغياً. وتقدم تفسير ﴿ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ﴾ في الانعام فأغنى عن إعادته.﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ أي لكل واحد من الأمة عمر ينتهي إليه بقاؤه في الدنيا، فإِذا مات علم ما كان عليه من حق أو باطل. وقرىء: جاء أجلهم بإِبدال همزة أجلهم ألفاً. وقرىء أيضاً بحذفها. وقرىء: أيضاً بإِقرارها همزة وجواب إذا. قوله: ﴿ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ وقال الحوفي:﴿ وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ معطوف على لا يستأخرون. " انتهى ". وهذا لا يمكن لأن إذا شرطية فالذي يترتب عليها إنما هو مستقبل، ولا يترتب على مجيء الأجل في المستقبل إلا مستقبل، وذلك يتصور في انتفاء الاستئخار لا في انتفاء الاستقدام لأن الاستقدام سابق على مجيء الأجل في الاستقبال فيصير نظير قولك: إذا قمت في المستقبل، لم يتقدم قيامك في الماضي. ومعلوم أنه إذا قام في المستقبل لم يتقدم قيامه، هذا في الماضي. وهذا شبيه بقول زهير: بدا لي أني لست مورك ما مضى   ولا سابقاً شيئاً إذا كان جائياًومعلوم أن الشىء إذا كان جائياً إليه لا يسبقه. والذي تخرج عليه الآية أن قوله: لا يستقدمون، منقطع من الجوا بعلى سبيل استئناف اخبار، أي وهم لا يستقدمون الأجل أي لا يسبقونه. وصار معنى الآية أنهم لا يسبقون الأجل ولا يتأخرون عنه.
﴿ يَابَنِيۤ ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ ﴾ هذا الخطاب هو لبني آدم في الأزل وقيل: هو مراعىً به وقت الإِنزال. وجاء بصورة الاستقبال لتقوى الإِشارة بصحة النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وما في اما: تأكيد. وجواب الشرط: فمن اتقى وأصلح.﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً ﴾ لما ذكر المكذبين ذكر من هو أسوأ حالاً منهم وهو من يفتري الكذب على الله تعالى أيضاً. وذكر أيضاً من كذب بآياته.﴿ أُوْلَـٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ ذكروا أقوالاً كثيرة. والذي يظهر أن الذي كتب لهم في الدنيا من رزق وأجل وغيرهما ينالهم فيها، ولذلك جاءت التغيبة بعد هذا بحتى.﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ﴾ تقدم الكلام على حتى إذا في أوائل الانعام. والمعنى أنهم ينالهم حظهم مما كتب لهم إلى أن تأتيهم رسل الموت يقبضون أرواحهم فيسألونهم سؤال توبيخ وتقرير: أين معبوداتكم من دون الله تعالى فيجيبون بأنهم:﴿ ضَلُّواْ عَنَّا ﴾ أي هلكوا واضمحلوا. والرسل: ملك الموت عليه السلام وأعوانه، ويتوفونهم في موضع الحال وكتبت أينما متصلة، وكان قياس كتابتها الإِنفصال لأن ما موصولة كهي في أنّ ما توعدون لآت؛ إذ التقدير أين الآلهة التي كنتم تعبدون؟ ومعنى تدعون أي تستغيثو لهم لقضاء حوائجكم. وجواب سؤالهم ليس مطابقاً من جهة اللفظ لأنه سؤال عن مكان وأجيب بفعل، وهو مطابق من جهة المعنى إذ تقدير السؤال ما فعل معبودكم من دون الله معكم؟ قالوا: ضلوا عنا.﴿ وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ ﴾ إستئناف إخبار من الله تعالى بإِقرارهم على أنفسهم بالكفر.﴿ قَالَ ٱدْخُلُواْ فِيۤ أُمَمٍ ﴾ الآية. أي يقول الله لهم أي للكفار من العرب وهم المفترون الكذب والمكذبون بالآيات، وذلك يوم القيامة. وعبر بالماضي لتحقق وقوعه، وقوله ذلك على لسان الملائكة. ويتعلق في أمم في الظاهر بادخلوا والمعنى في جملة أمم، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف فيكون في موضع الحال. وقد خلت من قبلكم، أي تقدمتكم في الحياة الدنيا أو تقدمتكم، أي تقدم دخولها في النار. وقدم الجن لأنهم الأصل في الإِغواء والإِضلال. ودل ذلك أن عصاة الجن يدخلون النار. وفي النار متعلق بخلق على أن المعنى تقدم دخولها أو بمحذوف هو صفة لأمم أي في أمم سابقة في الزمان كائنة من الجن والإِنس كائنة في النار.﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾ كلما: للتكرار، ولا يستوي ذلك في الأمة الأولى فاللاحقة تلعن السابقة أو يلعن بعض الأمة الداخلة بعضها. ومعنى أختها، أي في الدين، والمعنى كلما فعلت أمة من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان وغيرهم من الكفار.﴿ حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً ﴾ حتى غاية لما قبلها. والمعنى أنهم يدخلون فوجاً ففوجاً لاعناً بعضهم بعضاً إلى انتهاء تداركهم وتلاحقهم في النار واجتماعهم فيها. وأصل ادّاركوا تداركوا أدغمت التاء في الدال فاجتلبت همزة الوصل. وأخرى هنا بمعنى آخره مؤنث آخر مقابل أول لا مؤنث آخر بمعنى غير كقوله:﴿ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾[الأنعام: ١٦٤].
واللام في لأولادهم: لام السبب، أي لأجل أولاهم لأن خطابهم مع الله تعالى لا معهم.﴿ أَضَلُّونَا ﴾ شرعوا لنا الضلال أو جعلونا نضل وحملونا عليه.﴿ ضِعْفاً ﴾ زائداً على عذابنا إذ هم كافرون ومسببوا كفرنا.﴿ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ﴾ أي لكل من الأخرى، والأولى عذاب مضاعف زائد إلى غير نهاية وذلك أن العذاب مؤبّد فكل ألم يعقبه آخر. وقرأ الجمهور بالتاء على الخطاب للسائل أي لا تعلمون ما لكل فريق من العذاب أو لا تعلمون المقادير وصور العذاب أو خطاب لأهل الدنيا أي ولكن يا أهل الدنيا لا تعلمون مقدار ذلك، وهذه الجملة رد على أولئك السائلين وعدم إسعاف لما طلبوا.﴿ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ ﴾ أي قالت الطائفة المتبوعة للطائفة المتبعة. واللام في لأخراهم لام التبليغ نحو: قلت لك أضع كذا لأن الخطاب هو مع أخراهم بخلاف اللام في لأولاهم فإِنهما كما ذكرنا لام السبب لأن الخطاب هناك مع الله تعالى، وقيل: قوله: فما، جملة محذوفة تقديرها فما أجابكم الله تعالى إلى ما طلبتم من تضعيف العذاب لنا.﴿ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ﴾ باتباعكم إيانا من الدنيا، بل كفرتم اختيار إلا ان حملناكم على ذلك إجباراً. وإن قوله: فذوقوا العذاب، من كلام الأولى خطاباً للأخرى على سبيل التشفي منهم وإن ذوق العذاب هو بما كسبتم من الآثام لا بسبب دعواكم أنا أضللناكم.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا ﴾ أي عن قبولها والتفكر فيها والإِيمان والاستكبار هو نتيجة التكذيب.﴿ لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ ٱلسَّمَآءِ ﴾ قرىء لا تفتح مخففاً ومثقلاً وبياء الغيبة أبواب السماء قال ابن عباس: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لما يريدون به طاعته تعالى أي لا يصعد لهم عمل صالح فتفتح له أبواب السماء. وقيل: المعنى لا تفتح لهم أبواب السماء في القيامة ليدخلوا منها إلى الجنة.﴿ حَتَّىٰ يَلِجَ ﴾ الولوج: التقحم في الشىء.﴿ ٱلْجَمَلُ ﴾ الحيوان المعروف. والجمل حبل السفينة ولغاته تأتي.﴿ سَمِّ ٱلْخِيَاطِ ﴾ ثقبة وتضم سين سم وتفتح وتكسر وكل ثقب في أنف أو أذن إو غير ذلك فالعرب تسميه سُما. والخياط: المخيط، وهما آلتان كازار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع ويلح هذا نفي مغيّا بمستحيل وذكر الجمل لأنه أعظم الحيوان المزاول للإِنسان جثة فلا يلج إلا في باب واسع فلا يدخلون الجنة أبداً. قال الشاعر: لقد عظم البعير بغير لب   فلم يستغن بالعظم البعيروقرأ ابن عباس في جماعة وابان عن عاصم الجمل بضم الجيم وفتح الميم مشددة. وفسر بالقلس الغليظ وهو حبل السفينة تجمع من حبال وتفتل وتصير حبلاً واحداً.﴿ وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ أي مثل ذلك الجزاء نجزي أهل الجرائم.﴿ لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ ﴾ هذه استعارة لما تحيط بهم من النار من كل جانب، كما قال تعالى:﴿ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ﴾[الزمر: ١٦].
والغواشي جمع غاشية. قال ابن عباس: هي اللحف.
﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ الآية لما أخبر تعالى بوعيد الكفار أخبر بوعد المؤمنين. وخبر والذين الجملة من لا نكلف نفساً أي منهم أو الجملة من أولئك وما بعده وتكون جملة لا نكلف اعتراضاً بين المبتدأ والخبر. وفائدته أنه ذكر قوله: وعملوا الصالحات، نبه على أن ذلك العمل وسعهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير مشقة.﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ﴾ الغل: الحقد والأحنة الخفية في النفس وجمعها غلال ومنه الغلول: أخذ الشىء في خفاء. ونزعنا أي أذهبنا في الجنة ما انطوت عليه صدورهم من الحقود ونزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضاً في تفاضل منازلهم وكني بالصدر عن الشخص، والذي يظهر أن النزع للغل كناية عن خلقهم في الآخرة سالمي القلوب طاهريها متوادين متعاطفين كما قال:﴿ إِخْوَٰناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ ﴾[الحجر: ٤٧]، وتجري حال، قاله الحوفي قال: والعامل فيه نزعنا. وقال أبو البقاء: حال والعامل فيها معنى الإِضافة، وكلا القولين لا يصح لأن تجري ليس من صفات الفاعل الذي هو ضمير نزعنا ولا من صفات المفعول الذي هو ما في صدورهم ولأن معنى الإِضافة لا يعمل إلا إذا كانت إضافة يمكن للمضاف أن يعمل إذا جرد من الإِضافة رفعاً ونصباً فيما بعده. والظاهر أنه خبر مستأنف عن صفة حالهم.﴿ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا ﴾ أي وفقنا لتحصيل هذا النعيم الذي صرنا إليه بالإِيمان والعمل الصالح إذ هو نعمة عظيمة يجب عليهم بها حمده تعالى والثناء عليه.﴿ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ ﴾ قرىء: ما كنا وقرىء: وما كنا. ومعنى لنهتدي أي من ذوات أنفسنا.﴿ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ ﴾ وجواب لولا الجملة قبلها وهو وما كنا لنهتدي ولا ينكر تقديم جواب لولا عليها ألا ترى إلى قوله تعالى:﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا ﴾[القصص: ١٠].
وقوله:﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾[يوسف: ٢٤].
وإن كان الأكثر في لسان العرب تأخير جواب لولا كقوله تعالى:﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾[النساء: ٨٣] ما زكى. وان هدانا في موضع رفع بالابتداء تقديره لولا هداية الله إيانا.﴿ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ ﴾ أي لموعود الذي وعدونا في الدنيا قضوا بأن ذلك حق قضاء مشاهدة بالحس وكانوا في الدنيا يقضون بذلك قضاء استدلال.﴿ وَنُودُوۤاْ ﴾ يحتمل أن يكون النداء من الله تعالى وهو أسر لقلوبهم وأرفع لقدرهم ويحتمل أن يكون من الملائكة وأن يحتمل أن تكون المخففة من الثقيلة أي ونودوا بأنه تلكم الجنة واسمها ضمير الشأن يحذف إذا خففت. ويحتمل أن تكون ان مفسرة لوجود شرطيها وهما أن يكون قبلها جملة في معنى القول وبعدها جملة. وكأنه قيل: تلكم الجنة، وتلكم إسم إشارة والذي بعدها خطاب للجماعة، والمعنى أن البعد فيها باعتبار سبق الوعد بها في الدنيا. والجنة صفة لتلكم وأورثتموها خبر عن تلكم والهمزة في أورثتموها بدل من واو بدلاً جائزاً لأن أصل المادة الواو والراء والثاء تقول ورث يرث، ولو قرىء وأوْرثتموها لكان عربياً لأن فاعل من ذوات الواو نحو: وأرى إذا بنيت للمفعول يجوز أن تبدل واوه همزة فتقول: أُوري وأصله وُوْري.﴿ وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ ﴾ عبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه وهذا النداء فيه تقريع وتوبيخ وتوقيف على مآل الفريقين وزيادة في كرب أهل النار بأن يشرف عليهم أهل الجنة ويخلق إدراك أهل النار لذلك النداء في أسماعهم. وأتى في إخبار أهل الجنة ما وعدنا بذكر المفعول، وفي قصة أهل النار على ما وعدكم بذكر المفعول وعدلان أهل الجنة مستبشرون بحصول موعودهم فذكروا ما وعدهم الله تعالى مضافاً إليهم ولم يذكروا حين سألوا أهل الجنة متعلق ما وعدهم باسم الخطاب فيقولوا: ما وعدكم ليشمل كل موعود من عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة وتكون إجابتهم بنعم تصديقاً لجميع ما وعد الله تعالى بوقوعه في الآخرة للصنفين ويكون ذلك اعترافاً منهم بحصول موعود المؤمنين ليتحسروا على ما فاتهم من نعيمهم، إذ نعيم أهل الجنة مما يحزنهم ويزيد في عذابهم. وأنْ يحتمل أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية مخففة من أن الثقيلة وإذا ولى المخففة فعل متصرف غير دعاء فصل بينهما بقد في الأجود كقوله: إن قد وجدنا.﴿ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ﴾ أي أعلم معلم وأبهم تعالى من المؤذن فقيل: هو اسرافيل صاحب الصور وقيل غيره. بينهم ظرف لإِذن معمول له. والضمير في بينهم عائد على الفريقين. وان المخففة من الثقيلة أو مفسرة. و ﴿ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ تقدم تفسير مثله. وهذا الوصف بالموصول هو حكاية عن حالهم السابقة والمعنى الذين كانوا يصدون لأنهم وقت الآذان لم يكونوا متصفين بهذا الوصف والمعنى بالظالمين الكفار، بدليل قوله: وهم بالآخرون كافرون، لأن الفاسق ليس كافراً بالآخرة بل مؤمن مصدق بها.﴿ وَيَبْغُونَهَا ﴾ أي يبغون لها. والضمير عائد على السبيل، والسبيل يذكر ويؤنث.﴿ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ﴾ أي بين الفريقين لأنهم المحدث عنهم. وهو الظاهر. وقيل: بين الجنة والنار وبهذا بدأ الزمخشري وابن عطية وفسر الحجاب بأنه المعني بقوله تعالى:﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ ﴾[الحديد: ١٣].
وقال ابن عباس: ويقوي أنه بين الفريقين لفظ بينهم، إذ هو ضمير العقلاء ولا يحيل ضرب السور بعد ما بين الجنة والنار وإن كانت تلك السماء والنار أسفل السافلين.﴿ وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ رِجَالٌ ﴾ الاعراف جمع عرف وهو المرتفع من الأرض. قال الشماخ: فظلت باعراف تعالى كأنها   رماح نحاها وجهة الريح راكزومنه عرف الفرس وعرف الديك لعلوهما. وقال ابن عباس: الأعراف تل بين الجنة والنار.﴿ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ﴾ أي كلاً من فريقي الجنة والنار بعلامتهم التي ميزهم الله تعالى بها من ابيضاض وجوه واسوداد وجوه في هذه الجملة التجنيس المغاير وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً فالاعراف اسم ويعرفون فعل والرجال قوم تساوت حسناتهم وسيآتهم وقفوا هنالك ما شاء الله تعالى لم تبلغ حسناتهم بهم دخول الجنة ولا سيئآتهم دخول النار. وروي في مسند ابن أبي خيثمة عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فيه قيل:" يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ".﴿ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ﴾ الضمير في نادوا عائد على رجال. وانْ تفسيرية او مخففة من الثقيلة كما تقدم. و ﴿ لَمْ يَدْخُلُوهَا ﴾ جملة حالية العامل فيها، نادوا أي نادوا غير داخلي الجنة.﴿ وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴾ جملة حالية أيضاً أي يطمعون في دخولها وأجاز الزمخشري أن يكون لم يدخلوها وهم يطمعون صفة لرجال وهو بعيد للفصل بين الموصوف والصفة بجملة ونادوا وليست جملة اعتراض.
﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ ﴾ الضمير في ابصارهم عائد على رجال الاعراف يسلمون على أهل الجنة وإذا نظروا إلى أهل النار دعوا الله تعالى في التخلص منها، قاله ابن عباس وجماعة. وفي قوله: صرفت أبصارهم، دليل على أن أكثر أحوالهم النظر إلى تلقاء أصحاب الجنة وأن نظرهم إلى أصحاب النار هو بكونهم صرفت أبصارهم تلقاءهم فليس الصرف من قبلهم بل هم محمولون عليه مفعول بهم ذلك لأن ذلك المطلع مخوف من سماعه فضلاً عن رؤيته فضلاً عن التلبس به، والمعنى أنهم إذا حملوا على صرف أبصارهم ورأوا ما هم عليه من العذاب استغاثوا بربهم من أن لا يجعلهم معهم. ولفظة ربنا مشعرة بوصفه تعالى بأنه مصلحهم وسيدهم وهم عبيده فبالدعاء به طلب رحمته واستعطاف كرمه وتلقاء تفعال من اللقاء استعمل ظرف مكان، تقول: زيد تلقاء عمرو أي مكان لقائه وجهته.﴿ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلأَعْرَافِ رِجَالاً ﴾ الآية هذا النداء، وأولئك الرجال في النار، ومعرفتهم إياهم في الدنيا بعلامات.﴿ مَآ أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ ﴾ في الدنيا المال والولد والاجناد والحجاب والجيوش. وما أغنى استفهام توبيخ وتقريع، وما في ما أغنى يجوز أن تكون نافية، وما في وما كنتم مصدرية أي وكونكم تستكبرون. وقرأت فرقة تستكثرون بالثاء المثلثة من الكثرة.﴿ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ ﴾ الآية هذا يقتضي سماع كل من الفريقين كلام الآخر وهذا جائز عقلاً على بعد المسافة بينهما من العلو والسفل وجائز أن يكون ذلك مع رؤية واطلاع من الله تعالى وذلك أخزى وأنكى للكفار. وجائز أن يكون ذلك وبينهم الحجاب والسور. وعن ابن عباس: أنه لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج بعد اليأس فقالوا: يا رب لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فنظروا إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل النار فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقاً آخر، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وأخبروهم بقراباتهم فينادي الرجل أخوه فيقول: يا أخي قد احترقت فأغثني، فيقول: الله حرمهما على الكافرين، ويحتمل انّ انْ تكون مصدرية ومفسرة. وكلام ابن عباس يدل على أن هذا النداء كان عن رجاء وطمع في حصول ذلك، وقيل: هو مع اليأس لأنهم قد علموا دوام عقابهم وأنهم لا يفتر عنهم ولكن اليائس من الشىء قد يطلبه كما يقال في المثل: الغريق يتعلق بالزبد وان علم أنه لا يغنيه. و ﴿ أَفِيضُواْ ﴾ أمكن من اسقونا لأنها تقتضي التوسعة كما يقال: أفاض الله عليه نعمة، أي وسعها. وسؤالهم الماء لشدة التهابهم واحتراقهم ولأن من عادته إطفاء النار.﴿ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ ﴾ لأن البنية البشرية لا تستغني عن الطعام إذ هو مقولها، أو لرجائهم الرحمة بأكل طعام أهل الجنة، وأو على بابها من كونهم سألوا أحد الشيئين. وأتى أو مما رزقكم الله عاماً والعطف بأو يدل على أن الأول لا يندرج في العموم. وقيل: أو بمعنى الواو لقولهم: إن الله حرمهما. وقيل: المعنى حرم كلاً منهما فأوْ على بابها وما رزقكم الله عام فيدخل فيه الطعام والفاكهة والأشربة غير الماء أو تضمن أفيضوا معنى ألقوا فيتعدى للماء ولغيره وما في مما موصولة والعائد عليها محذوف تقديره رزقكموه. ومعنى التحريم هنا المنع كما قال: حرام على عيني أن تطعم الكرى وإخبارهم بذلك هو عن أمر الله تعالى.﴿ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً ﴾ تقدم تفسيرها في الانعام فأغنى عن إعادته.﴿ فَٱلْيَوْمَ نَنسَـٰهُمْ ﴾ هذا إخبار من الله عما يفعل بهم. قال ابن عباس وجماعة: يتركهم في العذاب كما تركوا النظر للقاء هذا اليوم.﴿ وَمَا كَانُواْ ﴾ معطوف على ما نسوا وما فيها مصدرية والكاف في كما للتعليل أي لنسيانهم وكونهم جحدوا آيات الله تعالى.﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ ﴾ الضمير عائد على ما تقدم ذكره ويكون الكتاب على هذا جنساً أي بكتاب إلهي إذ الضمير عام في الكفار. و ﴿ فَصَّلْنَاهُ ﴾ صفة لكتاب. و ﴿ عَلَىٰ عِلْمٍ ﴾ الظاهر أنه حال من فاعل فصلناه. وانتصب: ﴿ هُدًى وَرَحْمَةً ﴾ على الحال. وقيل: مفعول من أجله أي لأجل الهدى. وقرىء بالرفع أي هو هدى ورحمة.﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ﴾ أي مآل أمره وعاقبته. قال ابن عباس: مآله يوم القيامة.﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾ أي يوم يظهر عاقبة ما أخبره به من الوعد والوعيد يسأل تاركوا اتباع الرسل: هل لنا من شفعاء؟ والناصب ليوم يقول والجملة بعد يوم في تقدير مصدر أي يوم إتيان تأويله.﴿ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ ﴾ أي تركوا العمل به واتباعه.﴿ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ ﴾ هو معمول القول. ومن زائدة، وشفعاء مبتدأ، ولنا في موضع الخبر.﴿ فَيَشْفَعُواْ ﴾ جواب الاستفهام منصوب بحذف النون.﴿ أَوْ نُرَدُّ ﴾ هو على إضمار هل أي هل نرد، وجوابه:﴿ فَنَعْمَلَ ﴾ عطف جملة استفهام فعلية على جملة استفهام إسمية.﴿ قَدْ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ أي خسروا في تجارة أنفسهم حيث ابتاعوا الخسيس الفاني من الدنيا بالنفيس الباقي من الآخرة، وبطل عنهم افتراؤهم على الله تعالى ما لم يقله ولا أمر به وكذبهم في اتخاذهم الآلهة دون الله تعالى.
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى أشياء من مبتدأ خلق الإِنسان وانقسامهم إلى مؤمن وكافر ومعادهم وحشرهم إلى جنة ونار، ذكر مبدأ العالم واختراعه، ثم بعد إلى النبوة والرسالة إذ مدار القرآن على تقدير المسائل الأربع التوحيد والقدرة والمعاد والنبوة وربكم خطاب عام للمؤمن والكافر.﴿ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال:" أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاث، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل، وأما استواؤه تعالى على العرش فحمله على ظاهره من الاستقرار بذاته على العرش قوم تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً "والجمهور من السلف السفيانان ومالك والأوزاعي والليث وابن المبارك وغيرهم في أحاديث الصفات على الإِيمان بها وإمرارها على ما أراد الله تعالى من غير تعيين مراد وقوم تأولوا ذلك على عدة تأويلات ومسألة الإِستواء مذكورة في علم أصول الدين والعرش السقف وكل ما علا وأظل فهو عرش.﴿ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ﴾ التغشية: التغطية، والمعنى أنه يذهب الليل نور النهار فالليل للسكون والنهار للحركات وفحوى الكلام يدل على أن النهار يغشيه الله الليل وهما مفعولان لأن التضعيف والهمزة يعدّيان. وقرىء: بالتضعيف والهمز وقرأ حميد بن قيس يَغشى الليل بفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين وضم اللام، كذا قال عنه أبو عمرو الداني. وقال أبو الفتح بن جني عن حميد بنصب الليل ورفع النهار. قال ابن عطية: وأبو الفتح أثبت. هذا الذي قاله من أن أبا الفتح أثبت كلام لا يصح إذ رتبه أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراء فضلاً عن النحاة الذين ليسوا مقرئين ولا رووا القرآن عن أحد ولا روى عنهم القرآن أحد هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النقل وعدم التجاسر ووفور الحظ من العربية فقد رأيت له كتاباً في كلا وكلتا، وكتاباً في إدغام أبي عمر والكبير دلا على إطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أئمة النحاة ولا المقرئين إلى سائر تصانيفه والذي نقله أبو عمر الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى لأن ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ الليل في قراآتهم وإن كان منصوباً هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النقل والتضعيف صيراه مفعولاً ولا يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً من حيث المعنى لأن المنصوبين تعدى إليهما الفعل، وأحدهما فاعل من حيث المعنى فيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في ملكت زيداً عمراً إذ رتبه التقديم هي الموضحة أنه الفاعل من حيث المعنى ذلك في ضرب موسى عيسى يطلبه حثيثاً الجملة من يطلبه حال من الفاعل من حيث المعنى وهو الليل إذ هو المحدث عنه قبل التعدية وتقديره حاثاً ويجوز أن يكون حالاً من النهار وتقديره محثوثاً. ويجوز أن ينتصب نعتاً لمصدر محذوف أي طلباً حثيثاً أي حاثاً أو محثاً ولنسبة الطلب إلى الليل مجازية وهو عبارة عن تعاقبه اللازم فكأنه طالب له لا يدركه بل هو في أثره بحيث يكاد يدركه وقدم الليل هنا كما قدمه في:﴿ يُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ ﴾[الحج: ٦١]، وفي:﴿ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ ﴾[يس: ٤٠]، وفي:﴿ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ﴾[الأنعام: ١].
﴿ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ﴾ وانتصب مسخرات على الحال من المجموع، أي وخلق الشمس. وقرىء بالرفع في الأربعة على الابتداء والخبر. وقرأ ابان بن ثعلب برفع والنجوم مسخرات فقط على الابتداء والخبر ومعنى بأمره بمشيئته وتصريفه وهو متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره وكما يريد أن يصرفها سمى ذلك أمراً على التشبيه كأنهن مأمورات بذلك.﴿ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ ﴾ لما تقدم ذكر الخلق وأمره فيها قال ذلك، أي له الإِيجاد والاختراع وجرى ما خلق واخترع على ما يريده وما يأمره لا أحد يشركه في ذلك ولا في شىء منه.﴿ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ أي علا وعظم، ولما تقدم أن ربكم صدر الآية جاء آخرها فتبارك الله رب العالمين وجاء العالمين أعم من ربكم لأنه خلق تلك الأشياء البديعة وهي عوالم كثيرة فجاء العالمين جمعاً لجميع العوالم واندرج فيه المخاطبون بربكم وغيرهم وتبارك فعل جامد لا يتصرف، فلا يقال منه مضارع ولا اسم فاعل ولا فعل أمر لا يقال يتبارك ولا متبارك ولا تبارك.﴿ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ الظاهر أن الدعاء هو مناجاة الله بندائه لطلب أشياء ولدفع أشياء وانتصب تضرعاً وخفية على الحال أي متضرعين ومخفين أو ذوي تضرع واختفاء في دعائكم. وفي الحديث الصحيح:" إنكم لستم تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعونه سميعاً قريباً ".﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ ﴾ وهذا اللفظ عام يدخل فيه أولاً الدعاء على غير هذين الوجهين من عدم التضرع وعدم الخفية بأن يدعوه وهو ملتبس بالكبر والزهو وان ذلك دأبه في المواعيد والمدارس فصار ذلك صنعة وعادة فلا يلحقه تضرع ولا تذلل وبأن يدعوه بالجهر البليغ والصياح كدعاء الناس عند الاجتماع في المشاهد والمزارات. وقال العلماء: الاعتداء في الدعاء على وجوه كثيرة منها الجهر الكثير والصياح.﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ﴾ هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض وإدخال لماهيته في الوجود فيتعلق بجميع أنواعه من إفساد النفوس والأموال والأنساب والعقول والأديان ومعنى بعد إصلاحها أي بعد أن أصلح الله خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين.﴿ وَٱدْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ لما كان الدعاء من الله تعالى بمكان كرره فقال: ادعوا ربكم تضرعاً وخفية وهاتان الحالتان من الأوصاف الظاهرة لأن الخشوع والاستكانة وإخفاء الصوت ليسا من الأفعال القلبية ثم كرر الأمر بالدعاء خوفاً وطمعاً وهما من الأفعال القلبية أي وجلين مشفقين وراجين مؤملين. فبدأ أولاً بأفعال الجوارح، ثم ثانياً بأفعال القلوب. وانتصب خوفاً وطمعاً على أنهما مصدران في موضع الحال أو انتصاب المفعول له وعطف أحدهما على الآخر يقتضي أن يكون الخوف والرجاء متساويين، وقد قال كثير من العلماء ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة فإِذا جاء الموت غلب الرجاء.﴿ إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ والرحمة مؤنثة مقياسها أن يخبر عنها اخبار المؤنث فيقال: قريبة. قال الفراء: إذا استعمل في النسب والقرابة فهي مع المؤنث بتاء ولا بد تقول هذه قريبة فلان وإذا استعملت في قرب المسافة أو الزمن فقد يجيء مع المؤنث بتاء وقد تجيء بغير تاء تقول: دارك مني قريب، وفلانة منا قريب. ومن هذا قول الشاعر: عشية لا عفراء منك قريبة   فتدنو ولا عفراء منك بعيدفجمع بين الوجهين في هذا البيت " انتهى ". وقال تعالى:﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ﴾[الأحزاب: ٦٣].
وقال الشاعر: له الويل إن أمسى ولا أم هاشم   قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ لما ذكر الدلائل على كمال ألوهيته وقدرته وعلمه من العالم العلوي اتبعها بالدلائل على أحوال العالم السفلي وجعل الخبر موصولاً في أن ربكم الله الذي خلق وفي قوله: وهو الذي، دلالة على كون ذلك معهوداً عند السامع مفروغاً من تحقق النسبة فيه والعلم به، ولم يأت التركيب أن ربكم خلق ولا هو يرسل الرياح. نشراً جمع نشور كصبور وصبر. وقرىء: نشراً بإِسكان الشين تخفيفاً من الضم كرسل ورسل ونشراً مصدر نشر وبشرى والألف للتأنيث وهو مصدر بشر كرجعى ومعنى بين يدي رحمته أي أمام نعمته وهو المطر الذي هو من أجل النعم وأحسنها أثراً والتعبير عن امام الرحمة بقوله: بين يدي رحمته من مجاز الاستعارة إذ الحقيقة هو ما بين يدي الإِنسان من الاجرام.﴿ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً ﴾ هذه غاية لإِرسال الرياح، والمعنى أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات أو مبتشرات إلى سوق السحاب وقت إقلاله إلى بلد ميت. والسحاب إسم جنس بينه وبين مفرده تاء التأنيث فيذكر كقوله تعالى:﴿ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ ﴾[البقرة: ١٦٤]، ويؤنث ويوصف ويخبر عنه بالجمع كقوله تعالى: ﴿ ثِقَالاً ﴾، وثقله بالماء الذي فيه، ونسب السوق إليه تعالى بنون العظمة التفاتاً إذ فيه خروج من ضمير الغيبة في رحمته إلى ضمير المتكلم في سقناه ولما فيه من عظيم المنة وجليل النعمة ذكر الضمير في سقناه رعياً للفظه كما قلنا أنه يذكر. واللام في لبلد لام التبليغ كقولك: قلت لك. وقال الزمخشري: لأجل بلد، فجعل اللام لام العلة ولا يظهر وفرق بين قولك: سقت لك مالاً وسقت لأجلك مالاً، فإِن الأول معناه أوصلته لك وأبلغتك هو، والثاني لا يلزم منه وصوله إليه بل قد يكون الذي وصل له المال غير الذي علل به السوق. ألا ترى صحة قول القائل: لأجل زيد سقت لك مالك. ووصف البلد بالموت استعارة حسنة لجدْبه وعدم نباته كأنه من حيث عدم الانتفاع به كالجسد الذي لا روح فيه.﴿ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ ﴾ الظاهر أن الباء ظرفية، والضمير عائد على بلد ميت أي فأنزلنا فيه الماء وهو أقرب مذكور فحسن عوده إليه.﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ ﴾ أي بالماء.﴿ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾ ظاهره العموم.﴿ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ ﴾ أي مثل هذا الإِخراج وهو إخراج النبات نخرج الموتى من قبورهم أحياء إلى الحشر.﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ بإِخراج الثمرات وإنشائها خروجكم للبعث إذاً لإِخراجان سواء فهذا الإِخراج المشاهد نظيره الإِخراج الموعود به.﴿ وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ الطيب: الجيد التربة الكريم الأرض.﴿ وَٱلَّذِي خَبُثَ ﴾ المكان السبخ الذي لا ينبت ما ينتفع به وهو الرديء من الأرض. ولما قال: فأخرجنا به من كل الثمرات، تم هذا المعنى بكيفية ما يخرج من النبات من الأرض الكريمة والأرض السبخة. وفي الكلام حال محذوفة أي يخرج نباته وافياً حسناً، وحذفت لفهم المعنى ولدلالة البلد الطيب عليها ولمقابلتها بقوله:﴿ إِلاَّ نَكِداً ﴾ ولدلالة بإِذن ربه لأن ما أذن الله تعالى في إخراجه لا يكون إلا على أحسن حال وبإِذن ربه في موضع الحال وخصّ خروج النبات الطيب بقوله: بإِذن ربه، على سبيل المدح له والتشريف ونسبة الأشياء الشريفة الطيبة إليه تعالى وإن كان كلا النباتين يخرج بإِذنه تعالى. ومعنى بإِذن ربه: بتيسيره. وحذف من الجملة الثانية الموصوف أيضاً، والتقدير والبلد الذي خبث لدلالة والبلد الطيب عليه فكل من الجملتين فيه حذف.﴿ كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ ﴾ أي مثل هذا التصريف والترديد والتنويع ننوع الآيات ونرددها وهي الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة التامّة والفعل بالاختيار ولما كان ما سبق ذكره من إرسال الرياح مبشرات ومنتشرات سبباً لإِيجاد النبات الذي هو سبب إيجاد الحياة وديموميتها كان ذلك أكبر نعمة على الخلق فقال: لقوم يشكرون أي يشكرون هذه النعمة التي لا تكاد توازيها نعمة وخص الشاكرين لأنهم هم المنتفعون بهذه النعم.﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً ﴾ الآية لما ذكر تعالى في هذه السورة مبدأ الخلق الإِنساني وهو آدم عليه السلام وقص من أخباره ما قصَّ واستطرد من ذلك إلى المعاد ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاوة إلى النار قص تعالى على نبيه أحوال الرسل الذين كانوا قبله وأحوال من بعثوا إليه على سبيل التسلية له صلى الله عليه وسلم والتأسي بهم فبدأ بنوح عليه السلام إذ هو آدم الثاني وأول رسول بعث إلى من في الأرض، وأمته أدوم تكذيباً له وأقل استجابة له. وتقدم رفع نسبه إلى آدم عليه السلام وكان نجاراً بعثه الله تعالى إلى قومه وهو ابن أربعين سنة، قاله ابن عباس. قال الزمخشري: فإِن قلت: ما بالهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع قد وقل عنهم: حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا. قلت: إنما كان ذلك لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى قد عند استماع المخاطب كلمة القسم. " انتهى ". وبعض أصحابنا يقول إذا أقسم على جملة مصدرة بماض مثبت متصرف وكان قريباً من زمان الحال أتيت مع اللام بقد الدالة على التقريب من زمن الحال ولم تأت بقد بل باللام وحدها ان لم ترد التقريب.﴿ قَالَ يَٰقَوْمِ ﴾ في ندائه قومه تنبيه لهم لما يلقيه إليهم واستعطاف وتذكير بأنهم قومه فالمناسب أن لا يخالفوه ومعمول القول جملة الأمر بعبادة الله وحده ورفض آلهتهم المسماة ودّا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وغيرها. والجملة المنبهة على الوصف الداعي إلى عبادة الله تعالى وهو انفراده بالألوهية المرجوّ إحسانه المحذور انتقامه دون آلهتهم.﴿ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ ﴾ قرىء: غيره بالجر نعتاً لإِله على اللفظ. وقرىء غيره بالرفع نعتاً لإِله على الموضع. ومن زائدة، وإله مبتدأ، ولكم خبره. وأخاف على بابها من الخوف لأنه يجوز عنده أن يؤمنوا أو يؤمن بعضهم، ويوم عظيم هو يوم القيامة أو يوم حلول العذاب بهم في الدنيا وهو الطوفان. وفي هذه الجملة إظهار الشفقة والحنو عليهم.﴿ قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ ﴾ الملأ هم الأشراف وساداتهم وهم الذين يتعاصون على الرسل لانغمار عقولهم بالدنيا وطلب الرياسة والعلو فيها ونراك الظاهر أنها من رؤية البصر، وفي ضلال جعلوه ظرفاً لنوح عليه السلام ومعنى مبين واضح وجاءت جملة جوابهم مؤكدة بأن وباللام.﴿ قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَـٰلَةٌ ﴾ لم يرد النفي فيه على لفظ ما قالوه فلم يأت التركيب لست في ضلال مبين بل جاء في غاية الحسن من نفي أن يلتبس به ويختلط ضلالة ما واحدة فأنى يكون في ضلال فهذا أبلغ من الإِنتفاء من الضلال إذا لم تتعلق به ضلالة واحدة وفي ندائه لهم ثانياً والإِعراض عن جفائهم ما يدل على سعة صدره والتلطف بهم، ولما نفى عنه التباس ضلالة ما به دل على أنه الصراط المستقيم، فصح أن يستدرك كما تقول: ما زيد بضال لكنه مهتد، فلكن واضعة بين نقيضين لأن الإِنسان لا يخلو من أحد الشيئين الضلال والهدى ولا تجامع الضلالة الرسالة. وفي قوله: ﴿ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾ تنبيه على أنه ربهم لأنهم من جملة العالم أي من ربكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة حيث وجه إليكم رسولاً يدعوكم إلى إفراده بالعبادة. و ﴿ أُبَلِّغُكُمْ ﴾ إستئناف على سبيل البيان لكونه رسولاً، أو جملة في موضع الصفة لرسول ملحوظاً فيه كونه خبر الضمير متكلم، كما تقول: أنا رجل آمر بالمعروف، فتراعي لفظ أنا. ويجوز يأمر بالمعروف تراعي لفظ رجل والأكثر مراعاة ضمير المتكلم والمخاطب فيعود الضمير ضمير متكلم أو مخاطب. قال تعالى:﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾[النمل: ٤٧]، بالتاء ولو قرىء بالياء لكان عربياً مراعاة للفظ قوم لأنه غائب. وجمع رسالات باعتبار ما أوحي إليه في الأزمان المتطاولة أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمر والنهي والزجر والوعظ والتبشير والإِنذار أو باعتبار ما أوحي إليه وإلى من قبله. وتقدم الكلام على نصح وتعديتها باللام نحو: نصحت زيداً ونصحت لزيد. وكقول الشاعر: نصحت بني عوف فلم يتقبلوا   وصاتي فلم تنجح لديهم وسائليوفي قوله: ﴿ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ إبهام عليهم وهو عام، ولكن ساق ذلك مساق المعلومات التي يخاف عليهم ولم يسمعوا قط بأمة عذبت، فتضمن التهديد والوعيد. وما أحسن سياق هذه الأفعال قال أولاً أبلغكم رسالات ربي وهذا مبْدأ أمره معهم وهو التبليغ كما قال:﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ﴾[الشورى: ٤٨].
ثم قال: وأنصح لكم، أي أخلص لكم في تبيين الرشد والسلامة في العاقبة إذا عبدتم الله وحدهُ. ثم قال: وأعلم من الله ما لا تعلمون، من بطشه بكم وهو مآل أمركم إذا لم تفردوه بالعبادة فنبّه على مبدأ أمره معهم ومنتهاه.
﴿ أَوَ عَجِبْتُمْ ﴾ الآية، تضمن قولهم:﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾[الأعراف: ٦٠]، استبعادهم واستمحالهم وأخبرهم به من خوف العذاب عليهم وأنه بعثه الله تعالى إليهم بعبادته وحده ورفض آلهتهم وتعجبوا من ذلك. والهمزة للإِنكار والتوبيخ أي هذا مما لا يتعجب منه إذ له تعالى التصرف التام بإِرسال من يشاء لمن يشاء. قال الزمخشري: الواو للعطف والمعطوف محذوف كأنه قيل: أكذبتم وعجبتم أن جاءكم. " انتهى ". وهذا كلام مخالف لكلام سيبويه والنحاة لأنهم يقولون ان الواو تعطف ما بعدها على ما قبلها من الكلام ولا حذف هناك وكان الأصل وأعجبتم لكنى أعتني بهمزة الاستفهام فقدمت على حرف العطف لأن الاستفهام له صدر الكلام.﴿ ذِكْرٌ ﴾ أي كتاب.﴿ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ ﴾ هو على حذف مضاف تقديره على لسان رجل منكم، إن جاءكم على إسقاط حرف الجر تقديره لأنْ جاءكم وهو تعليل لعجبتم.﴿ لِيُنذِرَكُمْ ﴾ به أي فجاءكم الذكر للإِنذار بالمخوف والإِنذار بالمخوف لأجل وجود التقوى منهم ووجود التقوى لرجاء الرحمة وحصولها، فعلل المجيء بجميع هذه العلل المترتبة لأن المرتب على السبب سبب. وفي قوله: ﴿ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ ﴾ إعلام بعلة الغرق وهو التكذيب. و ﴿ بِآيَاتِنَآ ﴾ يقتضي أن نوحاً عليه السلام كانت له آيات ومعجزات تدل على إرساله والفلك يذكر ويفرد كقوله تعالى:﴿ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ ﴾[يس: ٤١].
ويجمع كقوله تعالى:﴿ وَجَرَيْنَ بِهِم ﴾[يونس: ٢٢]، ويتعلق في الفلك بما تعلق به الظرف الواقع صلة أي والذين استقروا معه في الفلك. ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه أي أنجيناهم في السفينة من الطوفان. و ﴿ عَمِينَ ﴾ من عمى القلب، أي غير مستبصرين. ويدل على ثبوت هذا الوصف كونه جاء على وزن فعل ولو قصد الحدوث لجاء على فاعل. وقال معاذ النحوي: رجل عم في أمره لا يبصره، وأعمى في البصر. قال زهير الشاعر: ولكنني عن علم ما في غد عمي   ﴿ وَإِلَىٰ عَادٍ ﴾ إلى متعلق بمحذوف تقديره وأرسلنا إلى عاد وعاد اسم الحي ولذلك صرفه. وبعضهم جعله اسماً للقبيلة فمنعه الصرف. قال الشاعر: لو شهد عاد في زمان عادِ   لابتزها مبارك الجلادسميت القبيلة باسم أبيهم وهو عاد بن عوض بن أرم بن نوح وهود. وقال شيخنا الأستاذ الحافظ أبو الحسن الأُبَّدي النحوي المعروف: أن هوداً عربي. والذي يظهر من كلام سيبويه لما عدّه مع نوح ولوط وهما عجميان أنه عجمي عنده. " انتهى ". وهود هو غابر بن شالخ بن أرمخشد بن سام بن نوح ونزل أرض اليمن فهو أب لليمن كلها. و ﴿ أَخَاهُمْ ﴾ مفعول بأرسلنا المحذوفة وأخاهم ليس من عاد بل هو مجاز كما تقول: يا أخا العرب، للواحد منهم. وقيل: هو من عاد وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوض بن أرم بن سام بن نوح، فعلى هذا يكون من عاد.﴿ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ ﴾ تقدم الكلام على هذا.﴿ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ استعطاف وتحضيض على تحصيل التقوى مخافة أن تحل بهم واقعة قوم نوح.﴿ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ ﴾ أتى بوصف الملأ بالذين كفروا ولم يأت بهذا الوصف في قوم نوح لأن قوم هود كان في أشرافهم من كان آمن به منهم مَرثَد بن سعد بن عفير ولم يكن في اشراف قوم نوح مؤمن، فلذلك قالوا: واتبعك الأرذلون.﴿ فِي سَفَاهَةٍ ﴾ أي في خفة حلم وسخافة عقل وسفاهة يقتضي أنه فيها قد احتوت عليه كالظرف المحتوي على الشىء. واتبعوا ذلك بقولهم:﴿ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ ﴾ فدل ذلك على أنه أخبرهم بما يحل بهم من العذاب من أن لم يتقوا الله تعالى.﴿ قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ ﴾ تقدمت كيفية هذا النفي في قوله:﴿ لَيْسَ بِي ضَلَـٰلَةٌ ﴾[الأعراف: ٦١]، وهناك جاء: وأنصح لكم، وهنا جاء: وأنا لكم ناصح أمين، لما كان أخرجوا بهم جملة إسمية جاء قوله كذلك، فقالوا هم: وإنا لنظنك من الكاذبين. قال هود: وأنا لكم ناصح أمين. وجاء بوصف الأمانة وهي الوصف العظيم الذي تحمّله الإِنسان ولا أمانة أعظم من أمانة الرسالة وإيصال أعبائها إلى المكلفين.﴿ أَوَ عَجِبْتُمْ ﴾ تقدم الكلام عليه.﴿ وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ ﴾ إذ ظرف لما مضى وناصبه محذوف تقديره واذكروا انعامه عليكم وقت جعلكم خلفاء فإِنعامه مفعول اذكروا. قال الزمخشري: إذ مفعول به وهو منصوب باذكروا أي اذكروا وقت جعلكم. وهذا ليس بجيد لأن إذ من الظروف التي لا تتصرف فلا تكون مبتدأة ولا فاعلة ولا مفعولة. ومعنى خلفاء: أي ملوكاً في الأرض استخلفكم فيها.﴿ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ هذا يدل على قرب زمانهم من زمن نوح.﴿ وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْطَةً ﴾ ظاهر بعض التواريخ أن البسطة الامتداد والطول والجمال في الصور والأشكال. ويحتمل أن يكون المعنى وزادكم بسطة أي اقتداراً في المخلوقين وتسليطاً عليهم واستيلاءً.﴿ فَٱذْكُرُوۤاْ ءَالآءَ ٱللَّهِ ﴾ الآلاء: النعم واحدها إلى نحو: معي وأمعاء. ذكرهم أولاً نعماً مخصوصة من جعلهم خلفاء وزيادة البسطة وذكرهم ثانياً نعمه مطلقاً وناط بذكر نعمه رجاء فلاحهم.﴿ قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ ﴾ الظاهر أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا الله تعالى بالعبادة مع اعترافهم بالله تعالى حباً لما نشأوا عليه وتألفاً لما وجدوا آباءهم عليه.﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ ﴾ دليل على أنه كان يعدهم بعذاب الله إن داموا على الكفر. وقولهم ذلك يدل على تصميمهم على تكذيبه واحتقارهم لأمر النبوة واستعجال العقوبة إذ هي عندهم لا تقع أصلاً.﴿ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ﴾ قال ابن عباس: الرجس السخط أي حل بكم وتحتم عليكم.﴿ أَتُجَٰدِلُونَنِي فِيۤ أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ ﴾ هذا إنكار منه لمخاصمتهم له فيما لا ينبغي فيه الخصام وهو ذكر ألفاظ ليس تحتها مدلول تستحق العبادة فصارت المنازعة باطلة بذلك. ومعنى سميتموها. أي أحدثتموها قريباً أنتم وأباؤكم، وهي صمود وصداء والهباء وقد ذكر ذلك مرثد بن سعد في شعره فقال: عصمت عاد رسولهم فأضحوا   عطاشا ما تبلهم السماءلهم صنم يقال له صمود   يقابله صداء والهباءفبصّرنا الرسول سبيل رشد   فأبصرنا الهدى وجلى العماءوإن إله هود هو إلهي   على الله التوكل والرجاء﴿ فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنْتَظِرِينَ ﴾ وهذا غاية في التهديد والوعيد أي فانتظروا عاقبة أمركم في عبادة غير الله تعالى وفي تكذيب رسوله عليه السلام وهذا غاية في الوثوق بما يحل بهم وأنه كائن لا محالة.﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾ يعني من آمن معه برحمة سابقة لهم من الله وفضل عليهم حيث جعلوا منهم. فكان ذلك سبباً لنجاتهم مما أصاب قومه من العذاب.﴿ وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ كناية عن استئصالهم بالهلاك وبالعذاب. وتقدم الكلام في دابر في قوله:﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾[الأنعام: ٤٥].
وفي قوله: الذين كذبوا، تنبيه على علة قطع دابرهم. وفي قوله: بآياتنا، دليل على أنه كانت لهود عليه السلام معجزات ولكن لم تذكر لنا بتعينيها.﴿ وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ جملة مؤكدة لقوله: كذبوا بآياتنا، ويحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى أنهم ممن علم الله تعالى أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أي ما كانوا ممن يقبل إيماناً البتة.
﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً ﴾ إسم القبيلة ثمود، سميت باسم أبيهم الأكبر وهو ثمود أخو جديس وهما أبناء جاثر بن أرم بن سام بن نوح، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام وإلى وادي القرى، وصالح عليه السلام هو صالح بن سالف بن كاشح بن ارم بن ثمود بن جاثر بن ارم بن سام بن نوح.﴿ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ أي آية ظاهرة جليلة وشاهد على صحة نبوتي. فقوله: قد جاءتكم بينة من ربكم، كأنه جواب لقولهم: أئتنا ببينة تدل على صدقك وأنك مرسل إلينا. ومن ربكم متعلق بجاءتكم أو في موضع الصفة لبينة.﴿ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً ﴾ لما أبهم في قوله: قد جاءتكم بينة من ربكم بيّن ما الآية فكأنه قيل: ما البينة! قال: هذه ناقة الله. وأضافها إلى الله تشريفاً وتخصيصاً نحو: بيت الله، وروح الله، ولكونه خلقها بلا واسطة ذكر وأنثى، ولأنه لا مالك لها غيره، ولأنها حجة على القوم. ولما أودع فيها من الآيات الآتي ذكرها في قصة قوم صالح ولكم بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإِيمان وهم ثمود لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها كأنه قال لكم خصوصاً. وانتصب آية على الحال والعامل فيها على ما نختاره فعل محذوف تقديره انظروا إليها في حال كونه آية.﴿ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ ﴾ لما أضاف الناقة إلى الله تعالى أضاف محل رعيها إليه تعالى إذ الأرض وما أنبت فيها ملكه تعالى.﴿ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ ﴾ الآية نهاهم عن مسها بشىء من الأذى وهذا تنبيه بالأدنى على الأعلى، إذ كان قد نهاهم عن مسها بسوء إكراماً لآية الله تعالى فنهيه عن نحرها وعقرها ومنعها من الماء والكلأ أولى وأحرى، والمس والأخذ هنا استعارة وهذا وعيد شديد لمن يمسها بسوء. والعذاب الأليم هو ما حل بهم إذ عقروها وما أعد لهم في الآخرة. وقوله تعالى: ﴿ فَيَأْخُذَكُمْ ﴾ جواب للنهي والناصب للفعل انْ مضمرة بعد الفاء.﴿ وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ ﴾ ذكر صالح قومه نعماً خاصة وهي جعلهم خلفاء بعد الأمة التي سبقتهم.﴿ وَبَوَّأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي أنزلكم بها وأسكنكم إياها. والمباءة: المنزل في الأرض وهو من باء أي رجع.﴿ تَتَّخِذُونَ ﴾ جملة حالية العامل فيها بوأكم ومعناه تعملون كقوله تعالى:﴿ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً ﴾[العنكبوت: ٤١].
فتعدى اتخذ لمفعول واحد.﴿ وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتاً ﴾ النحت النجر والنشر في الشىء الصلب كالحجر والخشب وغير ذلك. وقال الشاعر: أما النهار ففي قيد وسلسلة   والليل في بطن منحوت من الساجوانتصب بيوتاً على أنه حال مقدرة لأنها وقت النحت لم تكن بيوتاً بل صارت بيوتاً بعد ذلك كقولك: خط لي هذا قباء. قال ابن عباس: القصور لمصائفهم والبيوت في الجبال لمشتاهم.﴿ وَلاَ تَعْثَوْا فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة في قصة استسقاء موسى لقومه.﴿ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ ﴾ قرأ ابن عامر وقال الملأ بواو العطف. والجمهور قال بغير واو. والذين استكبروا وصف للملأ. أما للتخصيص لأن من اشرافهم من آمن وهو جندع بن عمرو. واستكبروا: طلبوا الهيبة لأنفسهم وهو الكبر، فيكون استفعل للطلب وهو بابها أو يكون استفعل بمعنى فعل أي كبروا بكثرة المال والجاه فيكون مثل عجب واستعجب.﴿ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ ﴾ أي استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم وهم العامة وهم اتباع الرسل. و ﴿ لِمَنْ آمَنَ ﴾ بدل من الذين استضعفوا. والضمير في: ﴿ مِنْهُمْ ﴾ إن عاد على المستضعفين كان بدل بعض من كل ويكون الذين استضعفوا قسمين مؤمنين وكافرين، وإن عاد على قومه كان بدل كل من كل أعيد معه حرف الجر وهو اللام، وكان الاستضعاف مقصوراً على المؤمنين، وكان الذين استضعفوا قسماً واحداً. ومن آمن مفسر للمستضعفين من قومه، واللام في للذين للتبليغ، والجملة المقولة استفهام على جهة الاستهزاء والاستخفاف. وفي قولهم: من ربه، اختصاص بصالح. ولم يقولوا من ربنا ولا من ربكم.﴿ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ وجواب المستضعفين وعدولهم عن قولهم: هو مرسل إلى قولهم: انا بما أرسل به مؤمنون، في غاية الحسن إذ أمْر رسالته معلوم واضح مسلم لا يدخله ريب لما أتى به من هذا المعجز الخارق العظيم فلا يحتاج إلى أن يسأل عن رسالته ولا أن يستفهم عن العلم بإِرساله فأخبروا أنهم مؤمنون بما أرسل به لأنه لا يلزم بعد وضوح رسالته إلا التصديق بما جاء به وتضمن كلامهم العلم بأنه مرسل من الله تعالى. ومؤمنون خبر انا. وبما أرسل متعلق به. وبه متعلق بأرسل.﴿ فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ ﴾ نسب العقر إلى الجميع وإن كان صادراً من واحد لما كان عقرها عن تمالؤ واتفاق وقصة عاد وثمود مشهورة عند العرب. قال الأفوه الأودي: فينا معاشركم بينوا لقومهم   وإن بني قومهم ما أفسدوا عادواأضحوا كقيل بن عثر في عشيرته   إذا أُهلكت بالذي سدى لها عادواأو بعده كقدار حين بايعه   على الغواية أقوام فقد بادواوقيل: ابن عثر هو رئيس عاد وقوم هود.﴿ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ﴾ أي استكبروا عن امتثال أمره. يقال: عتا يعتو عتواً.﴿ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ ﴾ أي من العذاب لأنه كان سبق منه ولا تمسوها بسوء فيأخذكم فاستعجلوه ما وعدهم به من ذلك إذ كانوا مكذبين له في الاخبار بذلك الوعيد وبغيره، ولذلك علّقوه بما هم به كافرون، وهو كونه من المرسلين.﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ روي أن السقب هو ولد الناقة لما عقروها، رغا ثلاثاً فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام. فقالوا هازئين به: متى ذلك، وما آية ذلك؟ فقال: تصبحون غداة مؤنس مصفرة وجوهكم وغداة العروبة محمرتها ويوم سيار مسودتها ثم يصبحكم العذاب يوم أول وهو يوم الأحد.﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ ﴾ أي أخذتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شىء له صوت في الأرض فقطعت قلوبهم وهلكوا. وقد ذكره علقمة السقب في شعره فقال: رغا فوقهم سَقْبُ السماء فداحض   بشكته لم يستلب وسليبوإنما نسبه للسماء لأنه آية من آيات الله تعالى.﴿ جَاثِمِينَ ﴾ الجثوم اللصوق بالأرض على الصدر مع قبض الساقين كما يرقد الأرنب والطير.﴿ فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ ﴾ الآية ظاهر العطف بالفاء يدل على أن هذا التولي كان بعد هلاكهم ومشاهد ما جرى عليهم، فيكون الخطاب على سبيل التفجع عليهم والتحسر لكونهم لم يؤمنوا فهلكوا والاغتمام لهم وليسمع ذلك من كان معه من المسلمين فيزداد إيماناً وانتفاءً عن معصية الله تعالى واقتفاء لما جاء به نبيه عليه السلام عنه تعالى. وبكون معنى قوله: ولكن لا تحبون الناصحين، ولكن كنتم لا تحبون الناصحين، فيكون حكاية حال ماضية. وقد خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر.﴿ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ﴾ الآية هو لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليه السلام وناحور وهم بنو تادح بن ناحور. وانتصب لوطاً بإِضمار وأرسلنا عطفاً على الأنبياء قبله. وإذ معمولة لأرسلنا. وجوز الزمخشري وابن عطية نصبه بِوَاذكر مضمرة. زاد الزمخشري أن إذ بدل من لوط أي واذكر وقت إذ قال لقومه وتقدم الكلام على كون إذْ مفعولاً بها صريحاً لأذكر وان ذلك تصرف فيها.﴿ أَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ ﴾ الاستفهام هنا على جهة الإِنكار والتوبيخ والتشنيع والتوقيف على هنا الفعل القبيح والفاحشة هنا إتيان ذكر ان الآدميين في الإِدبار، ولما كان هذا الفعل معهوداً قبحه ومركوزاً في العقول فحشه أتى معرّفاً بالألف واللام. أو تكون ألْ فيه للجنس على سبيل المبالغة كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش. ولبعد العرب عن ذلك البعد التام وذلك بخلاف الزنا فإِنه قال فيه: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة، فأتى به منكراً أي فاحشة من الفواحش. وكان كثير من العرب يفعله ولا يستنكرون فعله، ولا ذكره في أشعارهم، والجملة المنفية تدل على أنهم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وانهم مبتكروها. والمبالغة في من أحد حيث زيدت من لتأكيد نفي الجنس وفي الإِتيان بعموم العالمين جميعاً. قال عمرو بن دينار: ما رُؤيَ ذكر على ذكر قبل قوم لوط. و ﴿ مَا سَبَقَكُمْ ﴾ جملة حالية من الفاعل أو من الفاحشة لأن في سبقكم بها ضميرهم وضميرها. وقال الزمخشري: هي جملة مستأنفة أنكر عليهم أولاً بقوله: أتأتون الفاحشة، ثم وبخهم عليها فقال: أنتم أول من عملها، أو على أنه جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا: لم لا نأتيها؟ فقال: ما سبقكم بها أحد فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به. وقال الزمخشري: والباء للتعدية من قولك سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:" سبقك بها عكاشة "" انتهى ". ومعنى التعدية هنا قلق جداً لأن الباء المعدية في الفعل المتعدي إلى واحد هي تجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة. وبيان ذلك أنك إذا قلت: صككت الحجر بالحجر، فمعناه أصككت الحجر الحجر، أي جعلت الحجر يصك الحجر. وكذلك: دفعت زيداً بعمرو وعن خالد، معناه أدفعت زيداً عمراً عن خالد، أي جعلت زيداً يدفع عمراً عن خالد. فللمفعول الأول تأثير في الثاني ولا يتأتى هذا المعنى هنا إذ لا يصح أن تقدر أسبقت زيداً الكرة، أي جعلت زيداً يسبق الكرة إلا بمجاز متكلف، وهو أن تجعل ضربك الكرة أول جعل ضربه وقد سبقها أي تقدمها في الزمان فلم يجتمعا.
﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ ﴾ هذا بيان لقوله: أتأتون الفاحشة، وأتى هنا من قولهم: أتى المرأة، إذا غشيها، وهو استفهام على جهة الإِنكار والتوبيخ. وشهوة مصدر في موضع الحال أي مشتهين وإن كانت حالاً من الضمير في تأتون أو مشتهين ان كان حالاً من الرجال. ويجوز أن ينتصب مفعولاً من أجله أي للشهوة. وبل هنا للخروج من قصة إلى قصة تنبىءُ بأنهم متجاوزوا الحد في الاعتداء، وجاء هنا مسرفون باسم الفاعل ليدل على الثبوت ولموافقتها ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأسماء. وجاء في النمل تجهلون بالمضارع لتجدد الجهل فيهم ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأفعال.﴿ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ﴾ الآية الضمير المنصوب في أخرجوهم عائد على لوط ومن آمن به ولما تأخر نزول هذه السورة عن سورة النمل أضمر ما فسره الظاهر في النمل من قوله:﴿ أَخْرِجُوۤاْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ﴾[النمل: ٥٦]، الآية، ويتطهرون قال ابن عباس ومجاهد: يتقذرون عن إتيان أدبار الرجال والنساء.﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ﴾ أي من العذاب الذي جعل بقومه وأهله وهم المؤمنون معه.﴿ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ ﴾ فلم تنج واسمها واهلة كانت منافقة تسر الكفر موالية لأهل سدوم. ومعنى: ﴿ مِنَ ٱلْغَابِرِينَ ﴾ من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا. والجملة من قوله: كانت، تأكيد لما تضمنه الاستثناء من عدم نجاة امرأته.﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً ﴾ ضمّن أمطرنا معنى أرسلنا فلذلك عداه بعلى كقوله:﴿ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾[الأنفال: ٣٢].
والمطر هنا هي الحجارة وقد ذكرت في غير آية.﴿ فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ هذا خطاب للسامع قصتهم كيف كان مآل من أجرم، وفيه اتعاظ وازدجار أن تسلك هذه الأمة مسلكهم. والمجرمين عام في قوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم. ومن نظر التفكر أو من نظر البصر فيمن بقيت له آثار منازل ومساكن كثمود وقوم لوط كما قال تعالى:﴿ وَعَاداً وَثَمُودَاْ ﴾[الفرقان: ٣٨]، وقد تبين لكم من مساكنهم وكيف خبر كان وعاقبة اسم كان، والجملة في موضع نصب لأن أنظر معلقة عنها.﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ﴾ قال الفراء: مدين، اسم بلد وقطر. والجمهور على أن مدين اسم أعجمي، فإِن كان عربياً احتمل أن يكون فيْعلاً من مَدَن بالمكان أقام به وهو بناء نادر أو مفعلاً من دان فتصحيحه شاذ وكان قياسه مدان. وشعيب اسم عربي هو تصغير شِعْب أو شعب واختلف في نسب شعيب اختلافاً كثيراً ذكر ذلك في البحر المحيط. وشعيب قيل: هو ابن بنت لوط، وقيل: زوج بنته.﴿ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ هذا دليل على أنه قد جاء بالمعجزة إذ كل نبي لا بد له من معجزة تدل على صدقه ولكنه لم يعين هنا ما المعجزة ولا من أي نوع هي.﴿ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ ﴾ أمرهم أولاً بشىء خاص وهو إيفاء الكيل والميزان، ثم نهاهم عن شىء عام وهو قوله:﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾ والكيل مصدر كني به عن الآلة التي يكال بها.﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ تقدم تفسير هذه الجملة قريباً.﴿ ذٰلِكُمْ ﴾ الإِشارة بذلكم إلى إيفاء الكيل والميزان وترك البخس والإِفساد، وخير أفعل التفضيل، أو خير من الخيور.﴿ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ﴾ ظاهرة العموم قال الزمخشري: ولا تقعدوا بكل صراط ولا تقتدوا بالشيطان. في قوله: لأقعدن لهم صراط المستقيم فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدين. والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله:﴿ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ فإن قلت: صراط الحق واحد وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق به عن سبيله. فكيف قيل: بكل صراط؟ قلت: صراط الحق واحد ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة فكانوا إذا رأوا واحد يشرع في شىء منها أوعدوه وصدوه عنها. انتهى جمل القعود والصراط على المجاز وقد تقدم أن الظاهر أنه حقيقة وأنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون انه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت قريش تفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا تظهر الدلالة على أن الصراط سبيل الحق من قوله: وتصدون عن سبيل الله، كما ذكر بل الظاهر التغاير لعموم كل صراط وخصوص سبيل الله، فيكون بكل صراط حقيقة في الطرق وسبيل الله مجاز عن دين الله. والباء في بكل صراط ظرفية نحو: زيد بالبصرة أي في كل صراط وفي البصرة.﴿ تُوعِدُونَ ﴾ جملة حالية أي من جاء للإِيمان بشعيب.﴿ وَتَصُدُّونَ ﴾ معطوف على توعدون. قال الزمخشري: فإِن قلت: إلى م يرجع الضمير في من آمن به؟ قلت: إلى كل صراط تقديره وتوعدون من آمن به وتصدون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم دلالة على عظم ما يصدون عنه. هذا تعسف في الإِعراب لا يليق أن يحمل عليه القرآن لما في التقديم والتأخير ووضع الظاهر موضع المضمر من غير حاجة إلى ذلك، وعود الضمير على ابعد مذكور مع إمكان عوده على أقرب مذكور الإِمكان. السائغ الحسن الراجح. وجعل من آمن منصوباً بتوعدون فيصير من أعمال الأول وهو قليل. وقد قال النحاة: انه لم يرد في القران لقلته. ولو كان من أعمال الأول للزم ذكر الضمير في الفعل الثاني وكان يكون التركيب وتصدونه أو تصدونهم إذ هذا الضمير لا يجوز حذفه على قول الأكثرين إلا ضرورة: وعلى قول بعض النحاة: يحذف في قليل من الكلام. ويدل على أن من آمن منصوب بتصدون الآية الأخرى وهي: قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن فنصبه بتوعدون بعيد هذا مع التكلفات المضافة إلى ذلك فكان جديراً بالمنع لما في ذلك من التعقيد البعيد عن الفصاحة. قال ابن عطية: يجوز أن يعود على شعيب في قوله من رأى القعود على الطرف تفرد عن شعيب. " انتهى ". وهذا بعيد لأن القائل ولا تقعدوا هو شعيب فكان يكون التركيب من آمن بي ولا يسوغ هنا أن يكون التفاتاً، لو قلت: يا هند أنا أقول لا تهيني من أكرمه، تريد أكرمني لم يصح، وتبغونها الضمير عائد على سبيل الله والسبيل تذكر وتؤنث وهي جملة حالية أي باغيها والتقدير تبغون لها عوجاً.﴿ وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ﴾ روي أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله تعالى في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا.﴿ وَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴾ هذا تهّديد لهم وتذكير بعاقبة من أفسد قبلهم وتمثيل لهم بمن حل به العذاب من قوم نوح وهود وصالح ولوط وكانوا قريبيْ عهد بما أصاب المؤتفكة وإعراب هذه الجملة كإِعراب الجمل الواقعة أثر قصة قوم لوط، قال الزمخشري: إذ مفعول به غير ظرف أي واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلاً عددكم فكثركم الله ووفى عددكم. " انتهى ". وذكر غيره أنه منصوب على الظرف فلا يمكن أن يعمل فيه واذكروا لاستقبال واذكروا وكون إذ ظرفاً لما مضى والقلة والتكثير هنا بالنسبة إلى الأشخاص أو إلى الفقر والغنى، أو إلى قصر الأعمار وطولها، أقوال ثلاثة أظهرها الأول. وقال الزمخشري: إذ كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد. " انتهى ". ولا ضرورة تدعو إلى حذق صفعة وهي أذلة، ولا إلى تحميل قوله: فكثركم معنى بالعدد. ألا ترى أن القلة لا تستلزم الذلة ولا الكثرة تستلزم العزة. قال الشاعر: تعيّرنا انا قليل عديدنا   فقلت لها إن الكرام قليلوما ضرنا أنا قليل وجارُنا   عزيز وجار الأكثرين ذليلوقيل: المراد مجموع الأقوال الأربعة كثر عددهم وارزاقهم وطول أعمارهم وأعزهم بعد أن كانوا على مقابلاتها.﴿ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ ﴾ هذا الكلام من أحسن ما تلطف به في المجاورة إذ أبرز المتحقق في صورة المشكوك فيه وذلك أنه قد آمن به طائفة بدليل قول المستكبرين عن الإِيمان: ﴿ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ ﴾، وهو أيضاً من بارع التقسيم إذ لا يخلوا قومه من القسمين. والذي أرسل به هنا ما أمرهم به من افراد الله تعالى بالعبادة وإيفاء الكيل والميزان، ونهاهم عنه من البخس والإِفساد والقعود المذكور. ومتعلق لم يؤمنوا محذوف دل عليه ما قبله وتقديره لم يؤمنوا به. والخطاب بقوله: منكم، لقومه وينبغي أن يكون قوله: فاصبروا، خطاباً لفريقي قومه من آمن ومن لم يؤمن. و ﴿ بَيْنَنَا ﴾ أي بين الجميع فيكون ذلك وعد للمؤمنين بالنصر الذي هو نتيجة الصبر فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى آتاهم نصرنا، ووعيداً للكفار بالعقوبة والخسار.
﴿ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ ﴾ الآية، لنخرجنك جواب قسم محذوف والقسم يكون على فعل المقسم كقوله: لتخرجنك وعلى فعل غيره، كقوله: أو لتعودن، وهذا يدل على صعوبة مفارقة الوطن إذ قرنوا ذلك بالعود إلى الكفر وفي الإِخراج والعود طباق معنوي، والعود هنا بمعنى الصيرورة.﴿ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴾ أي أيقع منكم أحد هذين الأمرين على كل حال حتى في حال كراهيتنا لذلك. والاستفهام للتوقيف على شنعة المعصية بما أقسموا عليه من الإِخراج عن مواطنهم ظلماً، والإِقرار بالعود في ملتهم. قال الزمخشري: الهمزة للاستفهام، والواو واو الحال تقديره أتعيدوننا في حال كراهيتنا وليست واو الحال التي يعبر عنها النحويون بواو الحال بل هي واو العطف عطفت على حال محذوفة كقوله عليه السلام:" ردوا السائل ولو بظلف محرق "، ليس المعنى ردوه في حال الصدقة عليه بظلف محرق بل المعنى ردوه مصحوباً بالصدقة ولو مصحوباً بظلف محرق. وتقدم لنا إشباع القول في هذا المعنى.﴿ قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً ﴾ الآية هذا إخبار مقيد من حيث المعنى بالشرط، وجواب الشرط محذوف من حيث الصناعة وتقديره ان عدنا في ملتكم فقد افترينا. وليس قوله: قد افترينا على الله كذباً، هو جواب الشرط الأعلى مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط على الشرط فيمكن أن يخرج هذا عليه ونظير هذا التركيب الفصيح قول الاشتر النخعي واسمه الحرث: بقيت وَفْدى وانحرفت عن العلا   ولقيت أضيافي بوجه عبوسإن لم أشن على ابن هند غارة   لم تخل يوماً من ذهاب نفوس﴿ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ ﴾ أي ما ينبغي ولا يتهيأ لنا أن نعود في ملتكم.﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا ﴾ وهذا الاستثناء على سبيل عذق الأمور جميعها بمشيئة الله تعالى وإرادته. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبد الله به المؤمنين مما تفعله الكفرة من القربات فلما قال لهم: إنا لا نعود في ملتكم، ثم خشي أن يتعبده الله بشىء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك، ويقول: هذه عودة إلى ملتنا، استثنى مشيئة الله تعالى فيما يمكن أن يتعبد به. " انتهى ". وهذا الاحتمال لا يصح لأن قوله: بعد إذ نجانا الله منها إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البر. وقيل: هذا الاستثناء إنما هو تسليم وتأدب. قال ابن عطية: ويقلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ولو كان الكلام إن شاء قوي هذا التأويل. " انتهى ". وليس يقوى هذا التأويل بل لا فرق بين إلا إن يشاء وبين إلا أن يشاء لأن انْ تخلّص الماضي للاستقبال كما تخلص ان المضارع للاستقبال فكلا الفعلين مستقبل.﴿ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ الآية تقدم تفسير نظيرها في الانعام في قصة إبراهيم عليه السلام.﴿ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ في دفع ما توعدتمونا به وفي حمايتنا من الضلال وفي ذلك استسلام لله تعالى وتمسك بلطفه.﴿ رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ ﴾ أي احكم والفاتح والفتاح القاضي بلغة حمير. وقيل: بلغة مراد. وقال بعضهم: ألا أبلّغ بني عصم رسولا   فإِني عن فتاحتكم غنيوقال ابن عباس: ما كنت أعرف ما معنى هذه اللفظة حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي أحاكمك. وقال الفراء: أهل عمان يسمون القاضي الفاتح.﴿ وَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ ﴾ أي قال بعضهم لبعض أي كبراؤهم لاتباعهم تثبيطاً عن الإِيمان.﴿ لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً ﴾ فيما أمركم به ونهاكم عنه.﴿ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ أي مغبونون. قال الزمخشري: فإِن قلت: ما جواب القسم الذي وطأته اللام في لئن اتبعتم وجواب الشرط؟ قلت: قوله إنكم إذا لخاسرون ساد مسد الجوابين. " انتهى ". والذي تقوله النحويون إن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ولذلك وجب مُضيُ فعل الشرط. فإِن عني الزمخشري بقوله: ساد مسد الجوابين، انه اجتزىء به عن ذكر جواب الشرط فهو قريب، وإن عنى به أنه من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم، لأن الجملة يمتنع أن تكون لا موضع لها من الإِعراب وأن يكون لها موضع من الإِعراب. وإذا هنا معناها التوكيد وهي الحرف الذي هو جواب ويكون معه الجزاء وقد لا يكون.﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ ﴾ تقدم تفسير هذه الجملة. قال قتادة: أرسل شعيب إلى أصحاب الايكة فأهلكوا بالظلة، وإلى أصحاب مدين فصاح بهم جبريل عليه السلام صيحة فهلكوا جميعاً.﴿ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ﴾ أي كان لم يقيموا ناعمي البال رخيي العيش في دارهم وفيها قوة الاخبار عن هلاكهم وحلول المكروه بهم والتنبيه على الاعتبار بهم كقوله تعالى:﴿ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ ﴾[يونس: ٢٤].
وفي كأَنْ ضمير الشأن محذوف تقديره قبل الحذف كأنه والجملة بعدها في موضع الخبر منفياً بلم وهو الكثير وقد جاء النفي بلما في قول حماد الكلبي: وكان لما يكون قط لمْ. والنفي بلما قليل.﴿ كَانُواْ هُمُ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾ هم فصلاً بين الإِسم والخبر ويجوز أن يكون بدلاً من الاسم في كانوا، ولما كان قولهم إنكم إذاً لخاسرون قوبلوا بقوله: هم الخاسرون، وأفاد الفصل الاختصاص.﴿ فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ ﴾ تقدم تفسير نظيره في قصة صالح.﴿ فَكَيْفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَٰفِرِينَ ﴾ أي فيكف أحزن على من لا يستحق أن يحزن عليه ونبه على العلة الموجبة لعدم الحزن عليهم وهي الكفر إذ هي أعظم ما يعادى به المؤمن.
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ ﴾ الآية لما ذكر تعالى ما حل بالأمم السالفة من بأسه وسطوته عليهم آخر أمرهم حين لا تجدي فيهم موعظة ذكر تعالى أن تلك عادته في اتباع الأنبياء إذا أصروا على تكذيبهم. وجاء بعد إلاّ فعل ماضي وهو أخذنا، ولا يليها فعل ماض إلا أن تقدم فعل أو أُصحب بقد فمثال ما تقدمه فعل هذه الآية ومثال ما أصحب قد، قولك: ما نريد إلا قد قام. قال الشاعر: متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة   لنفسي إلا قد قضيت قضاءهاوالجملة من قوله: أخذنا، حالية أي الآخذين أهلها، وهو استثناء مفرّغ من الأحوال. وتقدم تفسير نظير قوله: إلا أخذنا إلى آخرها.﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ ﴾ أي مكان الحالة السيئة من البأساء والضراء الحالة الحسنة من السراء والنعمة. ومكان هو محل الباء أي بمكان السيئة. وفي لفظ مكان اشعار يتمكن البأساء منهم كأنه صار عندهم للشدة مكان.﴿ حَتَّىٰ عَفَوْاْ ﴾ أي كثروا وتناسلوا.﴿ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ ﴾ أبطرتهم النعمة وأسروا فقالوا هذه عادة الدهر ضراء وسراء. وقد أصاب آباءنا مثل ذلك وليس ذلك بابتلاء وقصد، بل ذلك بالاتفاق لا على ما تخبر الأنبياء جعلوا أسلافهم وما أصابهم مثلاً لهم ولما يصيبهم فلا ينبغي أن تنكر هذه العادة من أفعال الدهر.﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ تقدم الكلام على مثل هذا لما فسدوا على التقديرين أخذوا هذا الأخذ.﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَواْ ﴾ الآية، أي لو كانوا ممن سبق في علم الله تعالى أن يتلبسوا بالإِيمان بما جاءت به الأنبياء وبالطاعات التي هي ثمرة الإِيمان لتيسر لهم من بركات السماء ولكن كانوا ممن سبق في علمه أنهم يكذبون الأنبياء فيؤخذون باجترامهم وكل من الإِيمان والتكذيب والثواب والعقاب سيق به القدر. وأضيف الإِيمان والتكذيب إلى العبد كسباً، والموجد لهما هو الله تعالى، لا يسأل عما يفعل. والظاهر أن قوله: بركات من السماء والأرض، لا يراد بها معين، ولذلك جاءت نكرة. وقيل: بركات السماء: المطر، وبركات الأرض: الثمار.﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ ﴾ الهمزة دخلت على أمِنَ للاستفهام على جهة التوقيف والتوبيخ والإِنكار والوعيد للكافرين المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك. والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها. قال الزمخشري: فإِن قلت: ما المعطوف عليه ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو؟ قلت: المعطوف عليه قوله: فأخذناهم بغتة. وقوله: ولو أن أهل القرى، إلى قوله: يكسبون. وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه وإنما عطفت بالفاء لأن المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى." انتهى ". وهذا الذي ذكره الزمخشري من أن حرف العطف الذي بعد همزة الاستفهام هو عاطف ما بعدها على ما قبل الهمزة من الجمل رجوع عن مذهبه إلى مذهب الجماعة في ذلك. وتخريج لهذه الآية على خلاف ما قرر هو من مذهبه في غير آية أنه يقدر محذوف بين الهمزة وحرف العطف يصح بتقديره عطف ما بعد الحرف عليه، وان الهمزة وحرف العطف واقعان في موضعهما من غير اعتبار تقديم حرف العطف على الهمزة في التقدير وأنه قدم الاستفهام اعتناء لأن له صدر الكلام.﴿ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ ﴾ الآية أي في حال الغفلة والإِعراض والاشتغال بما لا يجدي كأنهم يلعبون وضحى منصوب على الظرف أي ضحوة ويقيد كل ظرف بما يناسبه من الحال فيقيد البيات بالنوم وتقيدت الضحى باللعب وجاء نائمون باسم الفاعل لأنها حالة ثبوت واستقرار للبائتين وجاء يلعبون بالمضارع لأنهم مشتغلون بأفعال متجددة شيئاً فشيئاً في ذلك الوقت.﴿ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ ﴾ جاء العطف بالفاء وإسناد الفعل إلى الضمير لأن الجملة المعطوفة تكرير لقوله: أفأمن أهل القرى، أو أمن تأكيد لمضمون ذلك فناسب إعادة الجملة مصحوبة بالفاء ومكر الله مصدر أضيف إلى الفاعل وهو استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر وكرر المكر مضافاً إلى الله تعالى تحقيقاً لوقوع جزاء المكر بهم.
﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ ﴾ الآية، قال ابن عباس: يهد يبين. والفاعل بيهد يحتمل وجوها: احدها، أن يعود على الله تعالى ويؤيده قراءة من قرأ نهد بالنون. والثاني، أن يكون ضميراً عائداً على ما يفهم من سياق الكلام السابق، أي أو لم يهد ما جرى للأمم السالفة أهل القرى وغيرهم. وعلى هذين الوجهين يكون ان لو نشاء وما بعده في موضع المفعول بنهد أي أو لم يبين الله تعالى أو ما سبق من قصص القرى ومآل أمرهم للوارثين أصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك، أي علمهم بإِصابتنا أو قدرتنا على إصابتنا إياهم، والمعنى أنكم مذنبون كهم وقد علمتم ما حل بهم أفما تحذرون أن يحل بكم ما حل بهم فذلك ليس بممتنع علينا لو شئنا. والوجه الثالث، أن يكون الفاعل بنهد قوله: ان لو نشاء، فينسبك المصدر من جواب لو والتقدير أو لم يبين ويوضح للوارثين مآلهم وعاقبتهم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك أي علمهم بإِصابتنا وقدرتنا على إصابتنا إياهم على التقديرين إذا كانت إن مفعولة، وأنْ هنا هي المخففة من الثقيلة لأن الهداية فيها معنى العلم واسمها ضمير الشأن محذوف. والخبر الجملة المصدرة بلو ونشاء في معنى شئنا لأن لو التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره إذا جاء بعدها المضارع صرفت معناه إلى المعنى ومفعول نشاء محذوف دل عليه جواب لو والجواب أصبناهم، ولم يأت باللام، وإن كان الفعل مثبتاً إذ حذفها جائز فصيح كقوله تعالى:﴿ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ﴾[الواقعة: ٧٠] والأكثر الإِتيان باللام كقوله تعالى:﴿ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ﴾[الواقعة: ٦٥]،﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ﴾[الأعراف: ١٧٦]، والذين يرثون الأرض من بعد أهلها، أي يخلفون فيها من بعد هلاك أهلها. وظاهره التسميع لمن كان في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش وغيرهم.﴿ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ الظاهر أنها جملة مستأنفة أي ونحن نطبع على قلوبهم، والمعنى أن من أوضح الله تعالى له سبيل الهدى وذكر له أمثالاً ممن أهلكه الله تعالى بذنوبهم وهو مع ذلك دائم على غيّه لا يرعوي يطبع الله على قلبه فينبو سمعه عن سماع الحق. وأجاز الزمخشري في عطف ونطبع وجهين: أحدهما ضعيف، والآخر خطأ. قال الزمخشري: فإِن قلت: بم يتعلق قوله ونطبع على قلوبهم؟ قلت: فيه أوجه أن يكون معطوفاً على ما دل عليه معنى أو لم يهد لهم، كأنه قيل: يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم، أو على يرثون الأرض. " انتهى ". فقوله: انه معطوف على مقدر وهو يغفلون عن الهداية ضعيف لأنه إضمار لا يحتاج إليه إذ قد يصح أن يكون على الاستئناف من باب العطف في الجمل فهو معطوف على مجموع الجملة المصدرة بأداة الاستفهام، وقد قال الزمخشري وغيره. وقوله انه معطوف على يرثون خطأ، لأنه إذا كان معطوفاً على يرثون كان صلة للذين، لأن المعطوف على الصلة صلة، ويكون قد فصل بين أبعاض الصلة بأجنبي من الصلة وهو قوله: أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، سواء أقدرنا ان لو نشاء في موضع الفاعل ليهدأ وفي موضع المفعول فهو معمول ليهد لا تعلق له بشىء من صلة الذين وهو لا يجوز.﴿ تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والقرى في بلاد قوم نوح وهود وصالح وشعيب بلا خلاف بين المفسرين. وجاءت الإِشارة بتلك إشارة إلى بعد هلاكها وتقادمه وحصل الربط بين هذه وبين قوله:﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ﴾[الأعراف: ٩٦]، ونقص يحتمل بقيّة على حاله من الاستقبال والمعنى قد قصصنا عليك من أنبائها ونحن نقص أيضاً منها مفرقاً في السور. ويجوز أن يكون عبّر بالمضارع عن الماضي، أي تلك القرى قصصنا والأنباء هنا أخبارهم مع أنبيائهم ومآل عصيانهم. وتلك مبتدأ، والقرى خبر، ونقص جملة حالية نحو قوله تعالى:﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوۤاْ ﴾[النمل: ٥٢].
وفي الإِخبار بالقرى معنى التعظيم لها ولمهلكها، كما قيل في قوله: ذلك الكتاب. وفي قوله عليه السلام: أولئك الملأ من قريش. ولما كان الخبر مقيداً بالحال أفاد كالتقييد بالصفة. ومعنى من أنباء من للتبعيض فدل على أن لها أنباءً آخر لم نقصها عليه وإنما قص عليه ما فيه عظة وازدجار واذكار بما جرى على من خالف الرسل ليتعظ بذلك السامع من هذه الأمة.﴿ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ ﴾ والذي يظهر أن الضمير في كانوا وفي ليؤمنوا هو عائد على أهل القرى، وأن الباء في بما ليست سببية فالمعنى أنهم انتفت عنهم قابلية الإِيمان وقت مجيء الرسل بالمعجزات بما كذبوا به من قبل مجيء الرسل بالمعجزات بل حالهم واحد قبل ظهور المعجزات وبعد ظهورها لم تجد عنهم شيئاً وفي الإِتيان بلام الجحود في ليؤمنوا مبالغة في نفي القابلية والوقوع وهو أبلغ في تسليط النفي على الفعل بغير لام وما في بما كذبوا موصولة. والعائد منصوب محذوف أي بما كذبوه وجوز أن تكون مصدرية.﴿ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ ﴾ أي لأكثر الناس أو أهل القرى والأمم الماضية. ومن في من عهد تدل على استغراق الجنس.﴿ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾ إنْ هنا هي المخففة من الثقيلة. ووجد بمعنى علم. ومفعول وجدنا الأولى لأكثرهم، ومفعول الثانية لفاسقين، واللام للفرق بين أنْ المخففة من الثقيلة، وأن النافية. وتقدم الكلام على ذلك في قوله:﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ﴾[البقرة: ١٤٣].
ودعوى بعض الكوفيين أنّ إنْ في نحو هذا التركيب هي النافية، واللام بمعنى إلاّ. وقال الزمخشري: وإنّ الشأن والحديث وجدنا. انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التقدير وكأنّ الزمخشري يزعم أنّ إنْ إذا خففت كان محذوفاً منها الاسم وهو الشأن والحديث إبقاء لها على الاختصاص بالدخول على الأسماء. وقد تقدم لنا تقدير نظير ذلك ورددنا عليه.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ ﴾ الآية لما قص الله تعالى على نبيه أخبار الأمم وما آل إليه أمر قومهم وكان هؤلاء لم يبق منهم أحد أتبع بقصص موسى وفرعون وبني إسرائيل إذ كانت معجزاته من أعظم المعجزات وأمته من أكثر الأمم تعنتاً واقتراحاً وكان قد بقي منهم عالم وهم اليهود فقص تعالى قصصهم لنعتبر وننزجر أن نشبّه بهم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ بين موسى وشعيب عليهما السلام مصاهرة كما حكى الله تعالى في كتابه ونسباً لكونهما من نسل إبراهيم عليه السلام ولما استفتح قصة نوح بأرسلنا بنون العظمة أتبع ذلك بقصة موسى فقال: ثم بعثنا، والضمير في من بعدهم عائد على الرسل. وفي قوله:﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ ﴾[الأعراف: ١٠١]، وتعدية فظلموا بالباء على سبيل التضمين بمعنى كفروا.﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ يٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ هذه محاورة من موسى لفرعون وخطاب له بأحسن ما يدعي به وأحبّها إليه إذ كان من ملك مصر يقال له: فرعون، كنمرود في يونان، وقيصر في الروم، وكسرى في فارس، والنجاشي في الحبشة، وعلى هذا لا يكون فرعون وأمثاله علماً شخصياً بل يكون علم جنس كأسامة وثعالة ولما كان فرعون قد ادعى الربوبية فاتحه موسى عليه السلام بقوله: إني رسول من رب العالمين، لينبهه على الوصف الذي ادعاه وأنه فيه مبطل لا محق. ولما كان قوله:﴿ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ ﴾ دعوى أردفها بما يدل على صحتها وهو قوله: قد جئتكم ببينة. ولما قرر رسالة فرع عليها تبليغ الحكم وهو قوله: فأرسل، ولم ينازعه فرعون في هذه السورة في شىء مما ذكره موسى عليه السلام إلا أنه طلب المعجز، ودل ذلك على موافقته لموسى وأن الرسالة ممكنة لإِمكان المعجزة إذ لم يدفع إمكانها، بل قال: إن كنت جئت بآية. ومعنى حقيق جدير، وخليف وارتفاعه على أن صفة لرسول أو خبر بعد خبر. وان لا أقول الأحسن فيه أن يكون فاعلاً بحقيق كأنه قيل: يحق علي كذا ويجب ويجوز أن يكون أن لا أقول كأنه مبتدأ وحقيق خبره. وقال الزمخشري في القراءة المشهورة وهي قوله: عليّ أن لا أقول أشكال ولا يخلو من وجوه أحدها أن يكون مما يقلب من الكلام لا من الإِلباس كقول الشاعر: وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر   ومعناه وتشقى الضياطرة بالرماح. انتهى هذا الوجه وأصحابنا يخصون القلب بالشعر ولا يجيزونه في فصيح الكلام فينبغي أن ينزه القرآن عنه وعلى هذا يصير معنى هذه القراءة معنى قراءة نافع. قال الزمخشري: والثاني ان ما لزمك فقد لزمته فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحق أي لازماً له. قال الزمخشري: والثالث أن يضمن حقيق معنى حريص كما ضمن هيجني معنى ذكرني في بيت الكتاب. " انتهى ". ويعني بالكتاب كتاب سيبويه. والبيت المنشد نصفه: إذا تغنى الحمام الورق هيجني   ولو تسليت عنها أم عمارقال: والرابع وهو الأوجه والأدخل في نكت القرآن أن يغرق موسى عليه السلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روي ان عدو الله فرعون قال له لما قال: إني رسول من رب العالمين، كذبت، فيقول: انا حقيق على قول الحق، أي واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به. " انتهى ". ولا يصح هذا الوجه إلا ان عنى أنه يكون على أن لا أقول صفة له كما تقول: انا على قول الحق، أي طريقتي، ودعاني قول الحق، وقال ابن مقسم: حقيق من نعت الرسول أي رسول حقيق من رب العالمين أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق وهذا معنى صحيح واضح وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق على برسول، ولم يخطر لهم تعليقه إلا بقوله: حقيق. " انتهى ". وهذا الكلام فيه تناقض في الظاهر لأنه قدر أولاً العامل في على أرسلت. وقال أخيراً إنهم غفلوا عن تعليق علي برسول، فأما الأخير فلا يجوز على مذهب البصريين لأن رسولاً قد وصف قبل أن يأخذ معموله وذلك لا يجوز. وأما التقدير الأول وهو إضمار أرسلت ويفسّره لفظ رسول فهو تقدير سائغ ويتناول كلام ابن مقسم أخيراً في قوله: عن تعليق على برسول أي بما دل عليه رسول.﴿ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ ﴾ الآية، لما عرض موسى عليه السلام رسالته على فرعون وذكر الدليل على صدقه وهو مجيئه بالبيّنة والخارق المعجز استدعى منه فرعون خرق العادة الدال على الصدق، وهذا الاستدعاء يحتمل أن يكون على سبيل الاختبار وتجويزه ذلك، ويحتمل أن يكون على سبيل التعجيز لما تقرر في ذهن فرعون أن موسى عليه السلام لا يقدر على الإِتيان ببينة، والمعنى ان كنت جئت بآية من ربك فأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك.﴿ فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ﴾ هذه إذا الفجائية وفيها خلاف مذكور في النحو وبدأ بالعصا دون سائر المعجزات لأنها معجزة تحتوي على معجزات كثيرة، منها انقلابها ثعباناً وانقلاب خشبة لحماً ودماً قائماً به الحياة من أعظم الإِعجاز ويحصل بانقلابها ثعباناً من التهويل ما لا يحصل في غيرها وتلقفها لحبال السحرة وعصيهم وإبطالها لما صنعوه من كيدهم وسحرهم والإِلقاء حقيقة في الاجرام.﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ ﴾ أي جذب يده، قيل: من جيبه، وهو الظاهر لقوله تعالى:﴿ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ ﴾[النمل: ١٢] وللناظرين أي للنظارة وفي ذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها لأنه لا يعرض العجب بها للنظارة إلا إذا كان بياضها عجيباً خارجاً عن العادة. وقال ابن عباس: صارت نوراً ساطعاً يضيء ما بين السماوات والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخروا على وجوههم وما أعجب أمر هذين الخارقين العظيمين أحدهما في نفسه وذلك اليد البيضاء والأخرى في غير نفسه وهي العصا. وجمع بذينك تبدل الذوات من الخشبة إلى الحيوانية وتبدل الأعراض من السمرة إلى البياض الساطع فكانا والتي على جواز الأمرين وأنهما كلاهما ممكن الوقوع وكان موسى عليه السلام أسمر.
﴿ قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ ﴾ وفي سورة الشعراء قال للملأ حوله والجمع بينهما أن فرعون وهم قالوا هذا الكلام فحكى هنا قولهم وهناك قوله أو قاله ابتداء فتلقفه منه الملأ ولما كان الانقلاب وبياض اليد مما مستحيل في العادة وهم ينكرون النبوة نسبوه إلى السحر ووصفوه بعليم لمبالغته عندهم في السحر.﴿ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ ﴾ استشعرت نفوسهم ما صار إليه أمرهم من إخراجهم من أرضهم وخلو مواطنهم منهم وإخراب بيوتهم فبادروا إلى الاخبار بذلك وكان الأمر كما استشعروا إذ أغرق الله تعالى فرعون وآله وأخلى منازلهم منه ونُبّهوا على هذا الوصف الصعب الذي هو معادل لقتل النفس كما قال تعالى:﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ ﴾[النساء: ٦٦] الآية وتحتمل ماذا أن تكون كلها استفهاماً، وتكون مفعولاً ثانياً لتأمرون على سبيل التوسع فيه بأن حذف منه حرف الجر كما قال: أمرتك الخير. ويكون المفعول الأول محذوفاً لفهم المعنى أي أيّ شىء تأمرونني وأصله بأي شىء ويجوز أن تكون ما استفهاماً مبتدأ، وذا موصولة بمعنى الذي خبر عنه، وتأمرون صلة ذا، ويكون قد حذف مفعولي تأمرون وهو ضمير المتكلم، والثاني وهو الضمير العائد على الموصول التقدير فأي شىء الذي تأمروننيه أي تأمرونني به. وكلا الإِعرابين في ماذا جائز في قراءة من كسر النون إلا أنه حذف ياء المتكلم وأبقى الكسرة دلالة عليهم، وقدر ابن عطية الضمير العائد على ذا إذا كانت موصولة مقروناً بحرف الجر فقال وفي تأمرون ضمير عائد على الذي تقديره تأمرون به. " انتهى ". وهذا ليس بجيد لفوات شرط جواب حذف الضمير إذا كان مجروراً بحرف جر وذلك الشرط هو أن لا يكون الضمير في موضع رفع وأن يجر ذلك الحرف الموصول أو الموصوف به أو المضاف إليه، ويتحد المتعلق به الحرفان لفظاً ومعنى، ويتحد معنى الحرف أيضاً والعذر لابن عطية أنه قدره على سبيل الأصل ثم اتسع فيه فتعدى إليه الفعل بغير واسطة الحرف ثم حذف بعد الاتساع.﴿ قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ﴾ أي قال من حضر مناظرة موسى عليه السلام من عقلاء ملأ فرعون وأشرافه، قيل: ولم يكن فرعون يجالس ولدغية وإنما كانوا أشرافاً ولذلك أشاروا عليه بالارجاء ولم يشيروا عليه بالقتل، وقالوا: ان قتلته وخلت على الناس شبهة ولكن أغلبه بالحجة. وقرىء بالهمزة وبغير همزة فقيل: هما بمعنى واحد، والمعنى أخره أو أحبسه، وقيل: أرجيه بغير همز بمعنى أطعمه جعله من رجوت أدخل عليه همزة النقل أي أطعمه وأخاه ولا تقتلهما حتى يظهر كذبهما فإِنك إن قتلتهما ظن أنهما صدقا. قال ابن عطية: وقرأ ابن عامر أرجئه بكسر الهاء بهمزة قبلها، قال الفارسي: وهذا غلط." انتهى " نسبة ابن عطية هذه القراءة إلى ابن عامر ليس بجيد لأن الذي روى ذلك إنما هو ابن ذكوان لا هشام كان ينبغي أن يقيد فيقول: وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان، ولم يجر لهارون ذكر في صدر القصة. وقد تبين من غير آية أنهما ذهبا معاً وأرسلا إلى فرعون ولما كان موافقاً له في دعواه وموازراً له أشاروا بإِرجائهما.﴿ وَأَرْسِلْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ ﴾ أي مدائن مصر. وقرأها والحاشرون. قال ابن عباس: هم أصحاب الشرط حاشرين أي حاشرين السحرة وفي الكلام حذف تقديره فبعث فأتوه.﴿ وَجَآءَ ٱلسَّحَرَةُ ﴾ واعلموا بما صدر من موسى عليه السلام من إنقلاب العصا وبياض اليد وان هذا من السحر.﴿ قَالْوۤاْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً ﴾ وقرىء أإن بهمزة الاستفهام وقرىء أنّ على جهة الإِثبات فجاز أن يكون الاستفهام من بعض السحرة والإِثبات من بعضهم وفي خطأ السحرة بذلك لفرعون دليل على استطالتهم عليه باحتياجه إليهم وربما يحصل للعالم بالشىء من الترفع على من يحتاج اليه وعلى من لا يعلم مثل علمه ونحن إما تأكيد للضمير وإما فصل وجواب الشرط محذوف.﴿ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ ﴾ أي نعم ان لكم لأجراً وإنكم لمن المقربين فعطف هذه الجملة على الجملة المحذوفة بعد نعم التي هي نائبة عنها، والمعنى لمن المقربين مني أي لا أقتصر لكم على الجعل والثواب على غلبة موسى بل أزيدكم أن تكونوا المقربين فتجوزون إلى الأجر الكرامة والرفعة والجاه والمنزلة.﴿ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ ﴾ الآية قبل هذا محذوف تقديره فحضر موسى بعصاه والذي يظهر أن تخييرهم إياه ليس من باب الأدب كما قال الزمخشري بل ذلك من باب الادلال بما يعلمونه من السحر وإيهام الغلبة والثقة بأنفسهم وعدم الاكتراث والاهتبال بأمر موسى عليه السلام وأجازوا في أن تلقى وفي أن تكون النصب أي اختْر أو افعل إما القاءك وإما إلقاءنا والمعنى فيه البداءة والرفع، أي أما إلقاؤك مبدوء به وأما إلقاؤنا فيكون مبتدأ، وأما أمرك الإِلقاء أي البداءة به أو أمرنا الإِلقاء فيكون خبر مبتدأ محذوف، ومفعول تلقى محذوف تقديره أن تلقي عصاك ومفعول الملقين محذوف تقديره حبالنا وعصيّنا.﴿ قَالَ أَلْقَوْاْ ﴾ أمرهم موسى عليه السلام بالتقدم وثوقاً بالحق وعلماً أن الله تعالى يبطله كما حكى الله تعالى عنه قال موسى: ما جئتم به السحر إن الله سيبطله.﴿ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ ﴾ أي أروا العيون بالحيل والتخيلات ما لا حقيقة له كما قال تعالى يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى، وفي قوله: سحروا أعين الناس دلالة على أن السحر لا يقلب عيناً وإنما هو من باب التخييل.﴿ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ ﴾ أي ارهبوهم واستفعل عنا بمعنى أفعل كابل واستبل. والرهبة: الخوف والفزع قال الزمخشري: واسترهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم استدعوا رهبتهم. " انتهى ". وقال ابن عطية: واسترهبوهم بمعنى وارهبوهم فكأن فعلهم اقتضى واستدعى الرهبة من الناس. " انتهى ". ولا يظهر ما قالا لأن الاستدعاء والطلب لا يلزم منه وقوع المستوى والمطلوب. والظاهر هنا حصول الرهبة فلذلك قلنا: ان استفعل فيه موافق افعل، ووصف السحر بعظيم لقوة ما خيّل أو لكثرة آلاته من الحبال والعصي روي أنهم جاؤا بحبال من أدم وأخشاب مجوّفة مملوءة زيبقاً وأوقدوا في الوادي ناراً فحميت النار من تحت والشمس من فوق فتحركت وركب بعضهما بعضاً وهذا من باب الشعبذة والدك.﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ الظاهر أنه وحي إعلام كما روي أن جبريل عليه السلام أتاه فقال له: إن الحق يأمرك أن تلقي عصاك. وكونه وحي إعلام فيه تثبيت للجاش وتبشير بالنصر. وان يحتمل أن تكون المفسرة بمعنى أي لأنه تقدمها معنى القول وهو، وأوحينا فالمعنى أن ألق عصاك. وأن تكون الناصبة دخلت على فعل الأمر فينسبك منهما مصدر تقديره بالإِلقاء وفي الكلام حذف قبل الجملة الفجائية أي فألقاها فإِذا هي تلقف وتكون الجملة الفجائية اخباراً بما ترتب على الإِلقاء. وقرىء: تلقف بحذف التاء وأصلها تتلقف وبإِدغام التاء في التاء في تلقف. وقرىء: تلقف مضارع لقف، وما موصولة أي ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزوّرونه أو مصدرية أي تلقف أفكهم تسمية للمفعول بالمصدر.﴿ فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ قال ابن عباس والحسن: ظهر واستبان. وقال أرباب المعاني: الوقوع ظهور الشىء بوجوده نازلاً إلى مستقره. قال القاضي: فوقع الحق يفيد قوة الظهور والثبوت بحيث لا يصح فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير إلا واقعاً ومع ثبوت الحق بطلت وزالت تلك الأعيان التي أفكوها وهي الحبال والعصي.﴿ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ ﴾ أي غلب جميعهم في مكان اجتماعهم أو وقت اجتماعهم.﴿ وَٱنقَلَبُواْ ﴾ أذلاء.﴿ صَاغِرِينَ ﴾ حال.﴿ وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴾ لما كان الضمير قبل مشتركاً جرّد المؤمنون وأفردوا بالذكر.﴿ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ أي ساجدين قائلين فقالوا في موضع الحال من الضمير في ساجدين أو من السحرة، وعلى التقديرين فهم ملتبسون بالسجود لله تعالى شكراً على المعرفة والإِيمان وبالقول المنبىء عن التصديق الذي محله القلوب، ولما كان السجود أعظم القرب إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد بادروا به ملتبسين بالقول الذي لا بد منه عند القادر عليه إذا الدخول في الإِيمان إنما يدل عليه القول وقالوا رب العالمين وفاقاً لقول موسى عليه السلام إني رسول من رب العالمين، ولما كان قد يوهم هذا اللفظ غير الله تعالى لقول فرعون أنا ربكم الأعلى نصوا بالبدل على أن رب العالمين رب موسى وهارون، وأنهم فارقوا فرعون وكفروا بربوبيته، والظاهر أن قائل ذلك جميع السحرة.
﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ ﴾ قرىء: آمنتم على الخبر، وأآمنتم على الاستفهام، والضمير في به عائد على رب العالمين. و ﴿ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ ﴾ فيه وهن على أمره لأنه إنما جعل ذنبهم بمفارقة الاذن ولم يجعله نفس الإِيمان.﴿ إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ ﴾ أي إنّ صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء وتواطأتم على ذلك لغرض لكم وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوا بني إسرائيل. قال: هذا تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإِيمان. روي عن ابن مسعود وابن عباس أن موسى عليه السلام اجتمع مع رئيس السحرة شمعون فقال له موسى: أرأيت أن غلبتكم أتؤمنون بي؟ فقال له: نعم، فعلم بذلك فرعون فقال ما قال. " انتهى ". ولما خاف فرعون أن يكون إيمان السحرة حجة قومه ألقى في الحال نوعين من الشبهة أحدهما أن هذا تواطؤ منهم لا ان ما جاء به حق، والثاني أن ذلك طلب منهم للملك.﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ تهديد ووعيد ومفعول تعلمون محذوف أي ما يحل بكم أيهم في متعلق تعلمون، ثم عيّن ما يفعله بهم فقال مقسماً.﴿ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ﴾ لما ظهرت الحجة عاد إلى عادة ملوك السوء إذا غلبوا من تعذيب من ناوأهم وإن كان محقاً ومعنى من خلاف أي يد يمنى ورجل يسرى وهذا التوعد الذي توعده فرعون السحرة ليس في القرآن نص أنه أنفذه وأوقعه.﴿ قَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ﴾ هذا تسليم واتكال على الله تعالى وثقة بما عنده والمعنى إنا نرجع إلى ثواب ربنا يوم الجزاء على ما نلقاه من الشدائد.﴿ وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا ﴾ الآية، والذي يظهر من تعديته بمن أن المعنى وما تنقم منا أي ما تنال منا كقوله:﴿ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ ﴾[المائدة: ٩٥]، أي يناله بمكروه ويكون فعل وافتعل فيه بمعنى واحد كقدر. واقتدر وعلى هذا يكون قوله: إلا أن آمنا، مفعولاً من أجله استثناء مفرغاً أي ما تنال منا وتعذبنا بشىء من الأشياء إلا لأن آمنا بآيات ربنا، وعلى هذا المعنى يدل على تفسير عطاء أي ما لنا عندك ذنب تعذبنا عليه إلا أن آمنا.﴿ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ﴾ تقدم الكلام عليه في البقرة.﴿ وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ ﴾ تضمن قول الملأ إغراء فرعون بموسى وقومه وتحريضه على قتلهم أو تعذيبهم حتى لا يكون لهم خروج عن دين فرعون.﴿ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ﴾ عطفاً على ليفسدوا أي للإِفساد ولتركك وترك آلهتك وكان الترك هو لذلك، وبدأوا أولاً بالعلة العامة وهي الإِفساد، ثم أتبعوه بالخاصة ليدلوا على أن ذلك الترك من فرعون لموسى وقومه هو أيضاً يؤول إلى شىء يختص بفرعون قدحوا بذلك زَنْدَ تغيظه على موسى وقومه ليكون ذلك أبقى عليهم إذ هم الاشراف، وبترك موسى وقومه بمصر يذهب ملكهم وشرفهم. ويجوز أن يكون النصب على جواب الاستفهام، والمعنى أنى يكون الجمع بين تركك موسى وقومه للإِفساد وبين تركهم إياك وعبادة آلهتك أي أن هذا مما لا يمكن وقوعه.﴿ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ وإنما لم يعاجل موسى وقومه بالقتال لأنه كان قد ملىء من موسى عليه السلام رعباً، والمعنى أنه قال: سنعيد عليهم ما كنا فعلنا بهم قبل من قتل أبنائهم ليقل رهْطه الذين يقع الإِفساد بواسطتهم والفوقية هنا بالمنزلة والتمكن في الدنيا وقاهرون يقتضي تحقيرهم أي قاهرون لهم فهم أقل من أن نهتم بهم فنحن على ما كنا عليه من الغلبة أو أن غلبة موسى عليه السلام لا أثر لها في ملكنا واستيلائنا ولئلا نتوهم العامة أنه المولود الذي تحدّث المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده فيثبطهم ذلك عن طاعتنا ويدعوهم إلى اتّباعه وأنه منتظر بعد.﴿ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ ﴾ لما توعدهم فرعون جزعوا وتضجروا فسكنّهم موسى عليه السلام وأمرهم بالاستعانة بالله تعالى وبالصبر وسلاهم ووعدهم بالنصر وذكرهم ما وعد الله به بني إسرائيل من إهلاك القبط وتوريثهم أرضهم وديارهم.﴿ إِنَّ ٱلأَرْضَ للَّهِ ﴾ أي أرض مصر. والْ فيه للعهد وهي الأرض التي كانوا فيها.﴿ قَالُوۤاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا ﴾ أي بابتلائنا بذبح أبنائنا مخافة ما كان يتوقع فرعون من هلاك ملكه على يد المولود الذي يولد وأنْ مصدرية فخلّصة الفعل للاستقبال وكانت إذايتهم الأولى قبل مجيء موسى عليه السلام وإذايتهم الثانية بعد مجيئه فلذلك جاءت ما مصدرية وجاء بعدها الفعل الماضي.﴿ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ ﴾ الآية هذا رجاء من نبي الله موسى ومثله من الأنبياء يقوي قلوب اتباعهم فيصبرون إلى وقوعه متعلق الرجاء. ومعنى: ﴿ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ أي في استخلافكم من الإِصلاح والإِفساد. وهي جملة تجري مجرى البعث والتحريض على طاعة الله تعالى. وفي الحديث" أن الدنيا حلوة خضرة وان الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ".﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ ﴾ الأخذ التناول باليد ومعناه هنا الابتلاء في المدة التي أقام بينهم موسى عليه السلام يدعوهم فيها إلى الله تعالى ومعنى بالسنين بالقحوط والجدوب. والسنة تطلق على الحول، وتطلق على الجدب ضد الخصب، وقد اشتقوا منها بهذا المعنى فقالوا: أَسْنَتَ القوم إذا أجربوا. ومنه قول الشاعر: عمرو الذي هشم الثريد لقومه   ورجال مكة مسنتون عجافقال ابن عباس: أما السنون فكانت لباديتهم ومواشيهم، وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم، وهذه سيرة الله في الأمم يبتليها بالنقم ليزدجروا ويتذكروا بذلك ما كانوا فيه من النعم.﴿ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ ﴾ أتى بالشرط بإِذا في مجيء الحسنة وهي للمتحقق وجوده الآن إحسان الله تعالى هو المعهود الواسع العام لخلقه بحيث أن إحسانه لخلقه عام حتى في حال الابتلاء وأتى بالشرط بأْن في إصابة السيئة وهي للإِمكان إبرازاً أنّ إصابة السيئة مما قد يقع وقد لا يقع.﴿ يَطَّيَّرُواْ ﴾ يتشاءموا وأصله يتطيروا فأدغم التاء في الطاء.﴿ أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ قال ابن عباس: طائرهم نصيبهم أي ما طار لهم في القدر مما هم لا قوة، وهو مأخوذ من زجر الطير سمي ما عند الله من القدر للإِنسان طائر لما كان يعتقده أنّ كل ما يصيبه إنما هو بحسب ما يراه في الطائر فهي لفظة مستعارة.
﴿ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ ﴾ الضمير في وقالوا عائد على آل فرعون لم يزدهم الأخذ بالجدوب ونقص الثمرات إلا طغياناً وتشدداً في كفرهم وتكذيبهم ولم يكتفوا بنسبة ما يصيبهم من السيئات إلى أن ذلك بسبب موسى عليه السلام ومن معه حتى واجهوه بهذا القول الدال على أنه لو أتى بما أتى من الآيات فإِنهم لا يؤمنون بها وأتوا بمهما التي تقتضي العموم، ثم فسروا بآية على سبيل الاستهزاء في تسميتهم ذلك آية، كما قالوا في قوله:﴿ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ ﴾[النساء: ١٥٧] وتسميتهم لها بآية. أي على زعمك، ولذلك عللوا الإِتيان بقولهم: لتسحرنا بها، وبالغوا في انتفاء الإِيمان بأن صدروا الجملة بنحن فادخلوا الباء فى بمؤمنين أي إن إيماننا لك لا يكون أبداً ومهما مرتفع بالابتداء أو منتصب بإطمار فعل يفسره فعل الشرط فيكون من باب الاشتغال أي أيَّ شىء تحضر بإِتيانه. والضمير في به عائد على مهما وفي بها عائد أيضاً على معنى مهما، لأن المراد به أيّةُ وآية كما عاد على ما في قوله:﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾[البقرة: ١٠٦].
ومهما كلمة بسيطة ليست مركبة من مَهْ اسم الفعل وما ولا أنّ أصلها ما ما فأبدلت ألفها هاء فقيل: مهما، وقد جاء في الشرط مهما، قال الشاعر: أماوي مهما يستمع في صديقه   أقاويل هذا الناس ماوى يندم﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ ﴾ الآية قال الأخفش: الطوفان جمع طوفانة، عند البصريين وعند الكوفيين مصدر. قال ابن عباس: الطوفان الماء المفرق. وقال جماعة: هو المطر أرسل عليهم دائماً الليل والنهار ثمانية أيام، وقيل ذلك مع ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً ولا يقدر أحد أن يخرج من داره، وقيل: أمطروا حتى كادوا يهلكون وبيوت القبط وبني إسرائيل مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماءً حتى قاموا فيه إلى تراقيهم فمن جلس غرق ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة من الماء على وجه أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف ودام عليهم سبعة أيام.﴿ وَٱلْجَرَادَ ﴾ جمع جرادة وهي اسم جنس بينه وبين مفرده تاء التأنيث وابتلوا بالجراد بعد ابتلائهم بالطوفان سبعة أيام فأكلت عامة زرعهم وثمارهم ثم أكلت كل شىء حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شىء فكشف عنهم بعد سبعة أيام وسلط الله تعالى عليهم القمل. قال ابن عباس: القمل هو الدَّبا، وهو صغار الجراد قبل أن تنبت له أجنحة ولا يطير روي أن موسى عليه السلام مشى إلى كثيب أهيل فضربه بعصاه فانشر كله قملاً بمصر فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض، وكان يدخل بين جلد القبطي وقميصه فيمصه ويمتلىء الطعام قملاً، وأرسل الله عليهم بعد شهر الضفادع فملأت آنيتهم وأطعماتهم ومضاجعهم ورمت بأنفسها في القدور وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور، وإذا تكلم أحدهم وثبت إلى فيه ثم بعد ذلك أرسل الله تعالى عليهم الدم حتى صار ماؤهم دماً، حتى أن الإِسرائيلي ليضع الماء في فيء القبطي فيصير في فيه دماً، وعطش فرعون حتى أشرف على الهلاك فكان يمص الأشجار الرطبة فإِذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحاً أجاجاً. ومعنى تفصيل الآيات تبيينها وإزالة أشكالها وحكمة التفضيل بالزمان أنه يمتحن فيه أحوالهم أيفون بما عهدوا أم ينكثون. وانتصب آيات مفصلات على الحال والذي دلت عليه الآية أنه أرسل عليهم ما ذكر فيها. وأما كيفية الإِرسال ومكث ما أرسل عليهم من الأزمان والهيئآت فمرجعه إلى النقل عن الاخيار الاسرائيليات، إذ لم يثبت من ذلك في الحديث النبوي شىء ومع إرسال حسن الآيات استكبروا عن الإِيمان وعن قبول أمر الله تعالى.﴿ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ﴾ إخبار منه تعالى بإجترامهم على الله تعالى وعلى عباده.﴿ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ ﴾ الظاهر أن الرجز هو ما كان أرسل عليهم من الآيات التي تقدمت قبل. ومعنى وقع عليهم، أي نزل عليهم وثبت وفي قولهم.﴿ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾ وفي إضافة الرب إلى موسى عليه السلام عدم إقرار بأنه ربهم حيث لم يقولوا ادع لنا ربنا. ومعنى: ﴿ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ﴾ بما اختصك به ونبّأك أو بما وصاك به أن تدعوا به فيجيبك كما أجابك في الآيات، والظاهر تعلق بما عهد بادع لنا ربك، ومتعلق الدعاء محذوف تقديره ادع لنا ربك بما عهد عندك في كشف هذا الرجز. و ﴿ لَئِن كَشَفْتَ ﴾ جواب لقسم محذوف في موضع الحال من قالوا، أي قالوا ذلك مقسمين لئن كشفت. وفي قولهم: ﴿ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ﴾ دلالة على أنه طلب منهم الإِيمان كما أنه طلب منهم إرسال بني إسرائيل وقدموا الإِيمان لأنه المقصود الأعظم الناشىء منه الطواعية، وفي إسناد الكشف إلى موسى عليه السلام حيرة عن إسناده إلى الله تعالى لعدم إقرارهم بذلك.﴿ فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ ﴾ في الكلام حذف دل عليه المعنى وهو فدعا موسى فكشف عنهم الرجز وأسند تعالى الكشف إليه لأنه هو الكاشف حقيقة فلما كان من قولهم أسندوه إلى موسى عليه السلام وهو إسناد مجازي ولما كان إخباراً من الله تعالى أسنده تعالى إليه لأنه إسناد حقيقي. و ﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ ﴾ متعلق بكشفنا ولا يمكن حمله على التعلق به لأن ما دخلت عليه لما ترتب جوابه على ابتداء وقوعه. والغاية بقوله: إلى أجل، ينافي التعليق على ابتداء الوقوع فلا بد من تعقل الابتداء والاستمرار حتى تحقق الغاية. و ﴿ هُم بَالِغُوهُ ﴾ جملة في موضع الصفة لأجل وهي أفخم من الوصف بالمفرد لتكرر الضمير فليس في حسن التركيب كالمفرد، وإذا للمفاجأة تدل على أنه لم يكن بعد بلوغ الأجل وبين النكث زمان يتخللهما بل بنفس ما بلغوا الأجل نكثوا ما أقسموا عليه من الإِيمان والإِرسال.﴿ فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ أي أحللنا بهم النقمة وهي ضد النعمة فإِن كان الانتقام هو الإِغراق فتكون الفاء تفسيرية وذلك على رأي من أثبت هذا المعنى للفاء وإلا كان المعنى فأردنا الانتقام منهم. والباء في بأنهم سببية. والآيات هي المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام. والظاهر عود الضمير في عنها إلى الآيات، أي غفلوا عما تضمنته الآيات من الهدى والنجاة وما فكروا فيها وتلك الغفلة هي سبب التكذيب.
﴿ وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ﴾ الآية، لما قال موسى عليه السلام:﴿ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ﴾[الأعراف: ١٢٩] كان كما ترجى عليه السلام فأغرق أعداءهم في اليم واستخلف بني إسرائيل في الأرض. و ﴿ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ ﴾ هم بنو إسرائيل كان فرعون يستعبدهم ويستخدمهم وفي الكلام حذف مضاف تقديره وأورثنا ذرية القوم لأن القوم المستضعفين لم يعودوا إلى ديار مصر بأعيانهم إذ كانوا جاوزوا البحر وأقاموا بالأرض المقدسة وإنما ورث مصر ذريتهم ومنهم سليمان بن داود. و ﴿ مَشَارِقَ ﴾ منصوب على أنه مفعول ثان لأورثنا. وجعلت مشارق ومغارب مبالغة في كثرة بركتها.﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾ أي مضت واستمرت من قولهم تم على الأمر إذا مضى عليه.﴿ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ الباء سببية وما مصدرية أي بصبرهم.﴿ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ﴾ أي خربنا قصورهم وأبنيتهم والتدمير الإِهلاك وإخراب الأبنية.﴿ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ﴾ أي يرفعونه من الأبنية المشيدة كصرح هامان وغيره.﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ٱلْبَحْرَ ﴾ لما بين أنواع نعمه على بني إسرائيل بإِهلاك عدوهم اتبع بالنعمة العظمى من إراءتهم هذه الآية العظيمة وقطعهم البحر مع السلامة والبحر بحر القلزم. ومعنى جاوزنا قطعنا بهم البحر. يقال: جاوز الوادي، إذا قطعه. والباء للتعدية، يقال: جاوز البحر إذا قطعه وجاوز بغيره البحر عبرية، وكأنه قال: وخبرنا ببني إسرائيل أي أجزناهم البحر وفاعل بمعنى فعل المجرد يقال جاوز وجاز بمعنى واحد.﴿ فَأَتَوْاْ ﴾ أي مروا.﴿ عَلَىٰ قَوْمٍ ﴾ هم من بني لحم وجذام.﴿ يَعْكُفُونَ ﴾ أي يقيمون.﴿ عَلَىٰ أَصْنَامٍ ﴾ أي على عبادة أصنام.﴿ لَّهُمْ ﴾ والأصنام قيل: هي البقر حقيقة، وقيل: تماثيل من حجر وعيدان على صور البقر.﴿ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً ﴾ الظاهر أن طلب مثل هذا كفر وارتداد وشقاق وعناد خرجوا في ذلك على عادتهم في تعنتهم على أنبيائهم وطلبهم ما لا ينبغي. وقد تقدم من كلامهم﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً ﴾[البقرة: ٥٥] وغير ذلك مما هو كفر، وربما كان القول من بعضهم فنسب إلى جميعهم.﴿ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ تعجب موسى عليه السلام من قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ووصفهم بالجهل المطلق وأكده بأنّ لأنه لا جهل أعظم من هذه المقالة ولا أشنع وأتى بلفظ تجهلون ولم يقل جهلتم إشعاراً بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة لا ينتقلون عنه في ماض ولا مستقبل.﴿ إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ ﴾ الإشارة بهؤلاء إلى العاكفين على عبادة تلك الأصنام ومعنى قبر مهلك مدمّر مكسر وأصله الكسر. قال الزمخشري: وفي إيقاع هؤلاء إسماً لأنّ، وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبر إلهاً واسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرّضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازم ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض لهم ما أحبوا." انتهى ". لا يتعين ما قاله من أنه قدم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبر لأنّ الأحسن في إعراب مثل هذا أن يكون خبر انّ مبتر وما بعده مرفوع على أنه مفعول لم يسم فاعله وكذلك ما كانوا هو فاعل بقوله: وباطل، فيكون إذ ذاك قد أخبر عن اسم انّ بمفرد لا جملة وهو نظير أن زيداً مضروب غلامه فالأحسن في الإِعراب أن يكون غلامه مرفوعاً على أنه مفعول ما لم يسم فاعل ومضروب خبر ان، والوجه الآخر وهو أن يكون مبتدأ ومضروب خبره جائز وهو مرجوح.﴿ قَالَ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـٰهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ﴾ ما أحسن ما خاطبهم موسى عليه السلام بدأهم أولاً بنسبتهم إلى الجهل ثم ثانياً أخبرهم بأن عباد الأصنام ليسوا على شىء بل مآل أمرهم إلى الهلاك وبطلان العمل وثالثاً أنكر وتعجب أن يقع هو عليه السلام في أن يبغي لهم غير الله إلهاً، أي أغير المستحق للعبادة والألوهية أطلب لكم معبوداً وهو الذي شرفكم واختصكم بالنعم التي لم يعطها من سلف من الأمم لا غيره فكيف أبغي لكم إلهاً غيره. ومعنى على العالمين، أي على عالمي زمانهم أو بكثرة الأنبياء فيهم. وانتصب غير مفعولاً بأبغيكم أي أبغي لكم غير الله، وإلهاً تمييز عن غير حال أو على الحال، وإلهاً المفعول والتقدير أبغي لكم إلهاً غير الله فكان غير صفة، فلما تقدم انتصب حالاً. وقال ابن عطية: وغير منصوبة بفعل مضمر هذا هو الظاهر، ويحتمل أن ينتصب على الحال. " انتهى ". ولا يظهر نصبه بفعل مضمر لأن أبغي مفرّغ له أو لقوله إلهاً فإِن تخيّل انه منصوب بأبغي مضمرة يفسرها هذا الظاهر فلا يصح، لأن الجملة المفسرة لا رابط فيها لا من ضمير ولا من ملابس يربطها بغير فلو كان التركيب أغير الله ابغيمكوه لصح المعنى ويحتمل وهو فضلكم أن يكون حالاً وأن يكون مستأنفاً.﴿ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ ﴾ الآية، الخطاب لمن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقريعاً لهم بما فعل أوائلهم وبما جاؤوا به وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة البقرة فأغنى عن إعادته.
﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً ﴾ روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر ان أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه تعالى الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة. وانتصب ثلاثين على أنه مفعول ثان على حذف مضاف فقدره أبو البقاء إتيان ثلاثين أو تمام ثلاثين. وقال ابن عطية: وثلاثين نصب على تقدير أجّلناه أو مناجاة ثلاثين وليست منتصبة على الظرف لأن المواعدة لم تقع في الثلاثين، والضمير في وأتممناها عائد على المواعدة المفهومة من واعدنا. وقال الحوفي: الهاء والألف نصب بأتممناها وهما راجعتان إلى ثلاثين. " انتهى ". ولا يظهر لأن الثلاثين لم تكن ناقصة فتممت بعشر وحذف مميز عشر، أي بعشر ليال لدلالة ما قبله عليه وفي مصحف أبي وتممناها حشدوا والميقات ما وقت له من الوقت وضربه له وجاء بلفظ ربه ولم يأت على واعدنا فكان يكون التركيب فتم ميقاتنا لأن لفظ ربه دال على أنه مصلحة وناظر في أمره ومالكه والمتصرف فيه. والفرق بين الميقات والوقت أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال، والوقت وقت الشىء. وانتصب أربعين على الحال، قاله الزمخشري وابن عطية. وقدر الزمخشري الحال فيه فقال: أي تم بالغاً هذا العدد، فعلى هذا لا يكون الحال أربعين بل الحال هذا المحذوف فينا في قوله: وأربعين ليلة نصب على الحال. وقال ابن عطية أيضاً: ويصح أن يكون أربعين ظرفاً من حيث هي عدد أزمنة، وقيل: أربعين مفعول به بتم لأن معناه بلغ والذي يظهر أنه تمييز منقول من الفاعل وأصله ختم أربعون ميقات ربه أي كملت. ثم أسند التمام لميقات وانتصب أربعون على التمييز.﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ ﴾ الآية قرىء. شاذا هارون بالضم على النداء أي يا هارون أمره حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها أن يكون خليفته في قومه وأن يصلح في نفسه أو ما يجب أن يصلح من أمر قومه ونهاه أن يتبع سبيل من أفسده. وفي النهي دليل على وجود المفسدين، ولذلك نهاه عن اتباع سبيلهم وأمره إياه بالإِصلاح ونهيه عن اتباع سبيل المفسدين هو على سبيل التأكيد لا لتوهم أنه يقع منه خلاف الإِصلاح، واتباع تلك السبيل لأن منصب النبوة منزه عن ذلك. ومعنى أخلفني استبدّ بالأمر وذلك في حياته إذ راح إلى مناجاة ربه، وليس المعنى أنك تكون خليفتي بعد موتي ألا ترى أن هارون مات قبل موسى.﴿ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا ﴾ الآية أي للوقت الذي ضربه له أي لتمام الأربعين كما تقول: أتيته لعشر خلون من الشهر. ومعنى اللام الاختصاص. والجمهور على أنه وحده خص بالتكليم إذ جاء للميقات. قال القاضي: سمع هو والسبعون كلام الله تعالى. قال ابن عطية: خلق له إدراكاً سمع به الكلام القائم بالذات القديم الذي هو صفة ذات. وقال ابن عباس وابن جبير: أدنى الله تعالى موسى عليه السلام حتى سمع صريف الأقلام في اللوح. وقال الزمخشري:﴿ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ من غير واسطة كما يكلم الملك. وتكليمه تعالى أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الاجرام كما خلقه مخطوطاً في اللوح وروي أن موسى عليه السلام كان يسمع الكلام من كل جهة. وعن ابن عباس كلمه أربعين يوماً وأربعين ليلة وكتب له الألواح. وقيل: إنما كلمه في أول الأربعين. " انتهى ". وقال وهب: كلمه في ألف مقام وعلى أثر المقام يرى نور على وجهه ثلاثة أيام ولم يقرب من كلمة الله تعالى. " انتهى ". وقد أوردوا هنا الخلاف الذي في كلام الله تعالى وهو مذكور ودلائل المختلفين في كتب أصول الدين وكلمه ربه معطوف على جاء. وقيل: حال وعدل عن قوله وكلمناه إلى قوله: وكلمه ربه، للمعنى الذي عدل إلى قوله: ختم ميقات ربه.﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ أرني هي بصرية والمفعول الثاني محذوف تقديره أرنيك أو أرني إياك. قال السدي وأبو بكر الهذلي: بما كلمه وخصه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشوق إلى ذلك فسأل ربه أن يريه نفسه. قال ابن عطية: ورؤية الله تعالى عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلاً لأنه من حيث هو موجود تصح رؤيته. وقررت الشريعة رؤية الله تعالى في الآخرة ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر الشرع فموسى عليه السلام لم يسأل محالاً وإنما سأل جائزاً. وقوله: ﴿ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ﴾ ليس بجواب من سأل محالاً. وقد قال تعالى لنوح عليه السلام:﴿ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾[هود: ٤٦].
فلو سأل موسى محالاً فكان في الجواب زجر ما وتبين وللزمخشري كلام كثير في الرؤية ذكرنا ذلك في البحر، ولكن أنظر إلى الجبل الآية تعليق الرؤية على تقرير الاستقرار مؤذن بعدمها إذ لم يستقر، ونبه بذلك على أن الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر وهذا تسكين لقلب موسى عليه السلام وتخفيف عنه من ثقل أعباء المنع والتجلي الظهور والدك مصدر دككت الشىء فتته وسحقته مصدر في معنى المفعول والدك والدق بمعنى واحد. وقال ابن عزيز: دكاً مستوياً مع الأرض. والخرور السقوط أفاق ثاب إليه حسّه وعقله.﴿ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً ﴾ ترتب على التجلي أمران: أحدهما، تفتت الجبل وتفرق أجزائه، والثاني، خرور موسى عليه السلام مغشياً عليه. والتجلي بمعنى الظهور الجسماني مستحيل على الله تعالى.﴿ قَالَ سُبْحَانَكَ ﴾ نزه الله تعالى عن سمات النقص والحدوث.
﴿ قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ ﴾ لما طلب موسى عليه السلام الرؤية ومنعها عدد تعالى وجود نعمه العظيمة عليه وأمره أن يشتغل بشكرها وهذه تسلية منه تعالى له. و ﴿ عَلَى ٱلنَّاسِ ﴾ لفظ عام ومعناه الخصوص أي على أهل زمانك، وقدم ﴿ بِرِسَالاَتِي ﴾ على و ﴿ بِكَلاَمِي ﴾ لأن الرسالة أسبق في الزمان، أو لأنه انتقل من شريف إلى أشرف وأمره تعالى بأن يأخذ ما آتاه من النبوة لأن في الأمر بالأخذ مزيد تأكيد وحصول أجر بالامتثال، والمعنى خذ ما آتيتك باجتهاد في تبليغه وجد في النفع به.﴿ وَكُنْ مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ ﴾ على ما آتيناك وفي ذلك إشارة إلى القنع والرضى بما أعطاه الله تعالى والشكر عليه.﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ ﴾ أي أمرنا له بالكتابة، فأضاف الكتابة إلى نفسه تعالى لما كان آمراً بالكتابة، والضمير في له عائد على موسى والألواح جمع قلة والألف واللام فيها للعهد إذ عني بها ألواح موسى عليه السلام. قيل: والضمير نابت عنه الألف واللام أي في ألواحه.﴿ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ محتاج إليه في شريعتهم.﴿ مَّوْعِظَةً ﴾ للازدجار والاعتبار.﴿ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ من التكاليف الحلال والحرام والأمر والنهي والقصص والعقائد والاخبار بالمغيبات.﴿ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾ الظاهر أن الضمير في خذها عائد على الألواح. ومعنى بقوة قال ابن عباس: بجد واجتهاد فعل أولي العزم. وقال أيضاً: أمر أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه. وقوله: ﴿ بِأَحْسَنِهَا ﴾ ظاهره أنه أفعل التفضيل وفيها الحسن والأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر.﴿ سَأُوْرِيكُمْ ﴾ الإراءة هنا من رؤية العين، ولذلك تعدت إلى اثنين. و ﴿ دَارَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ هي مصر وثم حال محذوفة تقديره مُدمرة. ألا ترى إلى قوله:﴿ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ﴾[الأعراف: ١٣٧].
قال الزمخشري: كيف أقفرت منهم ودمروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم. " انتهى ". وقرأ الحسن سأوْريكم بواو ساكنة بعد الهمزة على ما يقتضيه رسم المصحف ووجهت همزة القراءة بوجهين: أحدهما، ما ذكره أبو الفتح وهو أنه أشبع الضمة ومطها فنشأ عنها الواو. وقال ويحسّن احتمال الواو، وقال: ويحسّن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه. " انتهى ". فيكون كقوله: أدنو فانظور، أي فانظر، وهذا التوجيه ضعيف لأن الاشباع بابه ضرورة الشعر. والثاني، ما ذكره الزمخشري قال: وقرأ الحسن سأوريكم وهي لغة فاشية بالحجاز. يقال: أوْرني كذا وأوريته فوجهه أن يكون من أوريته الزَنْد كان المعنى بيّنه لي وأنِرْهُ لأستبينه. " انتهى ". وهي أيضاً في لغة أهل الأندلس كأنهم تلقفوها من لغة الحجاز وبقيت في لسانهم إلى الآن وينبغي أن ينظر في تحقيق هذه اللغة أهي في لغة الحجاز أم لا. وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير سأورْتَكم. قال الزمخشري: وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى:﴿ وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ ﴾[الأعراف: ١٣٧].
﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ﴾ لما ذكر سأوريكم دار الفاسقين ذكر ما يفعل بهم من صرفه إياهم عن آياته لفسقهم وخروجهم عن طورهم إلى وصف ليس لهم. ثم ذكر تعالى من أحوالهم ما استحقوا به اسم الفسق.﴿ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا ﴾ صرفهم هذا الوصف الذميم وهو التكبر عن الإِيمان حتى لو عرضت عليهم كل آية لم يروها آية فيؤمنوا بها وهذا حتم منه تعالى على الطائفة التي قدر أن لا يؤمنوا.﴿ وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ ﴾ الآية أراهم الله تعالى السبيلين فرأوهما فآثروا الغي على الرشد، كقوله تعالى:﴿ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾[فصلت: ١٧].
﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ أي ذلك الصرف عن الآيات هو بسبب تكذيبهم بها وغفلتهم عن النظر فيها والتفكر في دلالتها، والمعنى أنهم استمر تكذيبهم وصار لهم ذلك دَيْدَنا حتى صارت تلك الآيات لا تَخطُر لهم ببال فحصلت الغفلة عنها والنسيان لها حتى كانوا لا يذكرونها ولا شيئاً منها. والظاهر أن الصرف سببه التكذيب والغفلة من جميعهم، ويحتمل أن الصرف سببه التكذيب. ويكون قوله: ﴿ وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ إستئناف أخبار منه تعالى عنهم أي من شأنهم أنهم كانوا غافلين عن الآيات وتدبرها فأورثتهم الغفلة التكذيب بها. والظاهر أن ذلك مبتدأ وخبره بأنهم أي ذلك الصرف كائن بأنهم كذبوا. وجوزوا أن يكون منصوباً فقدره ابن عطية فعلنا ذلك، وقدره الزمخشري صرفهم الله تعالى ذلك الصرف بعينه.
﴿ وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ ﴾ إن كان الاتخاذ بمعنى اتخاذه إلهاً معبوداً فصح نسبته إلى القوم وذكر أنهم كلهم عبدوه غير هارون ولذلك قال: رب اغفر لي ولأخي. فقيل: إنما عبده قوم منهم لا جميعهم، لقوله:﴿ وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ ﴾[الأعراف: ١٥٩]، وإن كان بمعنى العمل كقوله تعالى:﴿ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً ﴾[العنكبوت: ٤١]، أي عملت وصنعت. فالمتخذ إنما هو السامري واسمه موسى بن ظفر من قرية تسمى سامرة ونسب ذلك إلى قوم موسى مجازاً كما قالوا بنو تميم قتلوا فلاناً وإنما قتله واحد منهم ولكونهم راضين بذلك. ومعنى: ﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي من بعد مضيه للمناجاة. و ﴿ مِنْ حُلِيِّهِمْ ﴾ متعلق باتخذو بها يتعلق بمن بعده وإن كانا حرفي جر بلفظ واحد وجاز ذلك لاختلاف مدلوليهما لأن من الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض. وقرىء: من حُليّهم مفرداً ومن حليهم جمعاً وأصله حلوى على وزن فعول فاجتمعت واو وياء وأدغمت فيها ثم كسر ما قبلها لنصح الياء ثم أتبعت حركة الماء لحركة اللام فقيل: حلى، كما قالوا: عصى. والعجل ولد البقرة القريب الولادة. ومعنى: ﴿ جَسَداً ﴾ جثة جماداً ليس مصوراً بالخط في حائط ولا رقماً في ثوب وكان ذلك بسبب ما كان تقدم من أنهم مروا بقوم يعبدون البقر فقالوا تلك المقالة الشنيعة.﴿ لَّهُ خُوَارٌ ﴾ ظاهره أنه قامت به الحياة ولذلك كان له خوار. وقيل: ولما صنعه السامري أجوف تحيل لتصويته بأن جعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر له صوت يشبه الخوار فإِذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا.﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ ﴾ إن كان اتخذ بمعنى عمل وصنع فلا بد من تقدير محذوف يترتب عليه هذا الإِنكار وهو فعبدوه وجعلوه إلهاً لهم وإن كان المحذوف إلهاً أي اتخذوا عجلاً جسداً له خوار إلهاً فلا يحتاج إلى حذف جملة، وهذا استفهام إنكار حيث عبدوا جماداً أو حيواناً عاجزاً عليه آثار الصنعة لا يمكن أن يتكلم ولا يهدي. وقد ركز في العقول أن من كان بهذه المثابة استحال أن يكون إلهاً وهذا نوع من أنواع البلاغة يسمى الاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي. والظاهر أن يروا بمعنى يعلموا وسلب تعالى عنه هذين الوصفين دون باقي أوصاف الإِلهية لأن انتفاء التكليم يستلزم انتفاء العلم وانتفاء الهداية إلى سبيل يستلزم انتفاء القدرة وانتفاء هذين الوصفين وهما العلم والقدرة يستلزمان انتفاء باقي الأوصاف فلذلك خص هذان الوصفان بانتفائهما.﴿ ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ أي أقدموا على ما أقدموا عليه من هذا الأمر الشنيع وكانوا واضعين الشىء في غير موضعه أي من شأنهم الظلم فليسوا مبتكرين وضع الشىء في غير موضعه.﴿ وَلَمَّا سُقِطَ فِيۤ أَيْدِيهِمْ ﴾ قال الزمخشري: لما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل، لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعضّ يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه قد وقع فيها وسقط مسند إلى، في أيديهم وهو من باب الكناية. " انتهى ". وأصل السقوط الوقوع من علو.﴿ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا ﴾ إنقطاع إلى الله تعالى واعتراف بعظيم ما أقدموا عليه، ولما كان هذا الذنب وهو اتخاذ غير الله إلهاً أعظم الذنوب بدأوا بالرحمة التي وسعت كل شىء ومن نتائجها غفران الذنب.﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ ﴾ الآية أخبره تعالى قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل فلذلك رجع وهو غاضب. ويدل على هذا القول قوله تعالى:﴿ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ ﴾[طه: ٨٥].
وغضبان صيغة مبالغة، والغضب غليان في القلب بسبب حصول ما يؤلم. و ﴿ أَسِفاً ﴾ حزيناً. والفعل من أسف يأسف.﴿ قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي ﴾ تقدم الكلام على بئسما في أوائل البقرة. ومعنى: ﴿ مِن بَعْدِيۤ ﴾ أي من بعد انفصالي عنكم للمناجاة ذمهم على عبادة غير الله تعالى. و ﴿ أَعَجِلْتُمْ ﴾ استفهام إنكار. يقال: عجل عن الأمر، إذا تركه غير تام، وأعجله عنه غيره، والمعنى أعجلتم أمر ربكم وهو انتظار موسى عليه السلام حافظين لعهده وما وصاكم به. و ﴿ أَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ ﴾ أي ألواح التوراة وكان حاملاً لها فوضعها بالأرض غضباً على ما فعله قومه من عبادة العجل وحمية لدين الله تعالى. والظاهر أنه أخذ برأسه أي أمسك رأسه جارَّه إليه. والظاهر أن سبب هذا الأخذ هو غضبه على أخيه وكيف عبدوا العجل وهو قد استخلفه فيهم وأمره بالإِصلاح وأن لا يتبع سبيل من أفسد وكيف لم يكفهم عن ذلك.﴿ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ ﴾ ناداه نداء استعطاف وترفق وكان شقيقه وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأم كما قال: يا ابن أمي ويا شُقيّق نفسي   أنت خلفتني لدهر شديدوقرىء: بكسر الميم اجتزاء بالكسرة عن الياء إذ أصله يا ابن أمي. وقرىء: يا ابن أمّ بفتح الميم اجتزاء بالفتحة عن الألف إذ أصله يا ابن أمّا والألف منقلبة عن ياء المتكلم كما قال: يا ابنة عما لا تلوحي واهجعي   يريد ابنة عمي. ومعنى: ﴿ ٱسْتَضْعَفُونِي ﴾ وجدوني ضعيفاً ولما أبدى له ما كان منهم من الاستشعاف له ومقاربة قتلهم إياه سأله ترك ما يسرهم بفعله، فقال:﴿ فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ ﴾ أي لا تسرهم بما تفعل بي فأكون ملوماً منهم ومنك. قال الشاعر: والموت دون شماتة الأعداء   ﴿ قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي ﴾ لما اعتذر إليه أخوه استغفر لنفسه وله. قالوا: واستغفاره لنفسه بسبب فعلته مع أخيه وعجلته في إلقاء الألواح، واستغفاره لأخيه من فعلته في الصبر لبني إسرائيل.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ ﴾ الآية الظاهر أنه من كلام الله تعالى إخباراً عما ينال عبّاد العجل ومخاطبة لموسى عليه السلام بما ينالهم. ويدل عليه قوله آخر الآية: ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ ﴾.
﴿ وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ أي من الكفر والمعاصي وغيره.﴿ ثُمَّ تَابُواْ ﴾ أي رجعوا إلى الله.﴿ مِن بَعْدِهَا ﴾ أي من بعد عمل السيئات.﴿ وَآمَنُوۤاْ ﴾ داموا على إيمانهم وأخلصوا فيه. والذين مبتدأ، وخبره أن ربك، والعائد على المبتدأ محذوف تقديره لغفور لهم رحيم بهم.﴿ وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ ﴾ الآية سكوت غضبه كان والله أعلم بسبب اعتذار أخيه وكونه لم يقصر في نهي بني إسرائيل عن عبادة العجل ووعد الله إياه بالانتقام منهم وسكوت الغضب استعارة شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكونه جعل الغضب كأنه إنسان يناجي موسى عليه السلام ويهيجه لما فعل قومه من اتخاذهم العجل، ولذلك ألقى الألواح ثم انه سكت عنه وهذا من بديع الاستعارة جعل سكون الغضب سكوتاً. وقرأ معاوية بن قرة: ولما سكن، بالنون عوض التاء.﴿ أَخَذَ ٱلأَلْوَاحَ ﴾ هو جواب لما وكان إلقاؤها غضباً على قومه فلما سكت الغضب أخذها.﴿ وَفِي نُسْخَتِهَا ﴾ أي فيما نقل وحول منها. واللام في لربهم مقوية لوصول الفعل الذي هو يرهبون إلى المفعول المتقدم، كقوله تعالى:﴿ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ ﴾[يوسف: ٤٣].
﴿ وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ﴾ اختار افتعل من الخير وهو التخير والانتقاء واختار من الأفعال التي تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بواسطة حرف الجر ثم بحذف حرف الجر ويتعدى إليه الفعل فتقول اخترت زيداً من الرجال، واخترت زيداً الرجال. قال الشاعر: اخترتك الناس إذ رئت خلائقهم   واعتل من كان يرجى عند السول﴿ لِّمِيقَاتِنَا ﴾ قال وهب بن منبه: قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام ان طائفة تزعم أن الله لا يكلمك فخدمنا من يذهب معك يسمعوا كلامه فيؤمنوا فأوحى الله تعالى إليه أن يختار سبعين من خيارهم ثم ارتق بهم الجبل أنت وهارون واستخلف يوشع ففعل فلما سمعوا كلامه سألوا موسى عليه السلام أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الرجفة. وفي الكلام حذف تقديره فرجف بهم الجبل وصعقوا.﴿ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ ﴾ مفعول شئت تقديره لو شئت أهلاكنا وجوابه أهلكتهم ولم يأت الجواب باللام.﴿ وَإِيَّايَ ﴾ ضمير المتكلم معطوف على الضمير المنصوب في أهلكتهم.﴿ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ ﴾ الآية، الظاهر أنه استفهام استعلام أيقع إهلاك المختارين وهم خير بني إسرائيل بما فعل غيرهم إذ من الجائز في العقل ذلك، ألا ترى قوله تعالى:﴿ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾[الأنفال: ٢٥].
وقوله عليه السلام:" وقد قيل أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم إذا كثر الخبث "وكما ورد أن قوماً يخسف بهم وفيهم الصّالحون فقيل يبعثون على نياتهم أو كلا ما هذا معناه بما فعل السفهاء منا، وهم عبّاد العجل.﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ﴾ إن نافية بمعنى ما وهي ضمير يعود على ما يفهم من سياق الكلام أي ان الفتنة إلا فتنتك أي راجعة إليك إذ أنت موجد الخير والشر وأنت موقع ضلال من فتنة وهداية من شئت وهذا هو الاعتقاد الصحيح.﴿ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ ﴾ ومفعول تشاء محذوف تقديره من تشاء إضلاله ومن تشأ هدايته.﴿ أَنتَ وَلِيُّنَا ﴾ أي القائم بأمرنا.﴿ فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ ﴾ سأل الغفران والرحمة له ولهم لما كان قد اندرج قومه في قوله: أنت ولينا، وفي سؤال المغفرة والرحمة له ولهم. وكان قومه أصحاب ذنوب أكد استعطاف ربه تعالى في غفران تلك الذنوب فأكد ذلك ونبه بقوله: وأنت خير الغافرين، ولما كان هو وأخوه عليهما السلام من المعصومين من الذنوب فحين سأل المغفرة له ولأخيه وسأل الرحمة لم يؤكد المغفرة بل قال: وأنت أرحم الراحمين، فنبّه على أنه تعالى أرحم الراحمين. ألا ترى إلى قوله تعالى:﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾[الأعراف: ١٥٦]، وكان تعالى خير الغافرين لأن غيره يتجاوز عن الذنب طلباً للثناء أو الثواب أو دفعاً للصفة الخسيسة عن القلب وهي صفة الحقد. والبارىء تعالى منزه عن أن يكون غفرانه لشىء من ذلك.
﴿ وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾ أي ما يحسن من نعمة وطاعة وغير ذلك وحسنة الآخرة هي الجنة لا حسنة دونها.﴿ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ ﴾ تعليل لطلب الغفران والرحمة. وقرأ الجمهور هدنا بضم الهاء من هاد يهود أي تبنا إليك، قاله ابن عباس: وقرأ زيد بن علي وأبو وجزة هدنا بكسر الهاء من هاد يهيد، إذا حرّك أي حركنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك. قال الشاعر: قد علمت سلمى وجاراتها   أنى من الله لها هائدأي مائل.﴿ قَالَ عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ ﴾ الظاهر أنه استئناف اخبار عن عذابه ورحمته. ومفعول من أشاء محذوف تقديره أشاء إصابته به. وقرأ زيد بن علي والحسن وطاووس وعمرو بن فائد من أساء من الإِساءة وقرأ بها سفيان بن عيينة مرة واستحسنها وذكر أنّ الشافعي رحمه الله صحّف من أشاء بقوله: من أساء، ثم وجدت قراءة كما ذكرنا.﴿ فَسَأَكْتُبُهَا ﴾ أي أقضيها وأقررها. والضمير عائد على الرحمة لأنها أقرب مذكور. وفهم المفسرون من قوله: الذين يتقون إلى آخر الأوصاف أن المتصفين بذلك هم أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.﴿ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ﴾ الآية هذا من بقية خطابه تعالى لموسى عليه السلام وفيه تبشير له ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وذكر لصفاته وإعلام له أيضاً أنه ينزل كتاباً يسمى الإِنجيل ومعنى الاتباع الاقتداء به فيما جاء به اعتقاداً وقولاً وفعلاً. وجمع هنا بين الرسالة والنبوة لأن الرسالة في بني آدم أعظم شرفاً من النبوة أو لأنها بالنسبة إلى الآدمي والملك أعم فبدأ به. والأمي الذي هو على صفة أمة العرب إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. فأكثر العرب لا يكتب ولا يقرأ، وكونه عليه السلام أمياً من جملة المعجز. ومعنى يجدونه أي يجدون وصفه ونعته. قال ابن عباس: يأمرهم بالمعروف، أي بخلع الأنداد وبمكارم والأخلاق وصلة الرحم.﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ ﴾ أي المستلذات ويبعد تفسيره هنا بالحلال.﴿ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ ﴾ وهي ما كانت العرب تستخبثه كالحية والعقرب والحشرات والدم والميتة ولحم الخنزير وما جاء في الشرع النهي عن أكله كذي مخلب من الطير وذي ناب من السباع وما أمر بقتله كالحدأة والغراب والفأرة والعقرب وغير ذلك.﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ ﴾ تقدم تفسير الإِصْر في آخر البقرة.﴿ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ هذا مثل لما كلفوا من الأمور الصعبة كقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم والقصاص حتماً من القاتل عمداً كان أو خطأً وترك الاشتغال يوم السبت وتحريم العروق في اللحم.﴿ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ ﴾ أي أثنوا عليه ومدحوه. وقرىء وعزروه بالتخفيف. وقرىء: بزايين أي وعززوه. والنور القرآن، وهو على حذف مضاف أي أنزل مع نبوته لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به.﴿ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ الآية لما ذكر تعالى لموسى عليه السلام صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأخبر أنّ من أدركه وآمن به أفلح أمر تعالى نبيّه بإِشهار دعوته ورسالته إلى الناس كافة والدعاء إلى الإِيمان بالله وبرسوله وكلماته واتباعه ودعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة للإِنس والجن وتقتضيه الأحاديث النبوية والذي في موضع نصب على المدح أو رفع. وأجاز الزمخشري أن يكون مجروراً صفة لله تعالى وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله: إليكم جميعاً. وقال أبو البقاء: ويبعد أن يكون صفة لله تعالى أو بدلاً منه لما فيه من الفصل بينهما بإِليكم وبالحال، وإليكم متعلق برسول وجميعاً حال من ضمير إليكم. وقال الزمخشري: لا إله إلا هو، بدل من الصلة التي هي له ملك السماوات والأرض وكذلك يحيي ويميت، وفي لا إله إلا هو بيان للجملة لأن من ملك العالم كان هو الإِله على الحقيقة. وفي يحيي ويميت بيان لاختصاصه بالألوهية لأنه لا يقدر على الإِحياء والإِماتة غيره. " انتهى ". وإبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا نعرفه. وكان الزمخشري لاحظ أن كلاً من الجملتين يصح أن يكون صلة. والظاهر أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإِعراب وان كان متعلقاً بعضها ببعض من حيث المعنى.﴿ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ الآية لما ذكر أن رسول الله أمرهم بالإِيمان بالله وبه وعدل عن ضمير المتكلم إلى الظاهر وهو التفات لما في ذلك من البلاغة فإِنه هو النبي السابق ذكره في قوله: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي وانه هو المأمور باتباعه الموجود بالأوصاف السابقة. والظاهر أن كلماته هي الكتب الإِلهية التي أنزلت على من تقدمه وعليه، ولما كان الإِيمان بالله تعالى هو الأصل يتفرع منه الإِيمان بالرسول والنبي بدأ به ثم اتبعه بالإِيمان بالرسول وبالنبي ثم اتبع ذلك بالإِشارة إلى المعجز الدال على نبوته وهو كونه أمياً وظهر عنه من المعجزات في ذاته ما ظهر من القرآن الجامع لعلوم الأولين والآخرين مع نشأته في بلد عار من أهل العلم لم يقرأ كتاباً ولم يخط ولم يصحب عالماً ولا غاب عن مكة غيبة تقتضي تعلماً.
﴿ وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ ﴾ الآية لما أمروا بالإِيمان بالله ورسوله وأمروا باتباعه ذكر أن من قوم موسى عليه السلام من وفق للهداية وعدل ولم يجر ولا تكون له هداية إلا باتباع شريعة موسى عليه السلام قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وباتباع شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه فهذا إخبار عمن كان من قوم موسى بهذه الأوصاف فكان المعنى أنهم كلهم لم يكونوا ضلالاً بل كان منهم مهتد كعبد الله بن سلام وأصحابه.﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ ﴾ الآية، اثنتي عشرة حال. وأجاز أبو البقاء ان يكون قطعنا بمعنى صيرنا وأن ينتصب اثنتي عشرة على أنه مفعول ثان لقطعنا، ولم يعد النحويون قطعنا في باب ظننت وجزم به الحوفي فقال: اثنتي عشرة مفعول لقطعناهم أي جعلناهم اثنتي عشرة وتمييز اثنتي عشرة محذوف لفهم المعنى تقديره اثنتي عشرة فرقة وأسباطاً بدل من اثنتي عشرة. وتقدم تفسير الاسباط في البقرة. و ﴿ أُمَماً ﴾ قال أبو البقاء: نعت لإِسباط، أو بدل بعد بدل، ولا يجوز أن يكون إسباطاً تمييزاً لأنه جمع وتمييز هذا النوع لا يكون إلا مفرداً.﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ ٱسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ ﴾ تقدم تفسير نظيره في البقرة.﴿ فَٱنبَجَسَتْ ﴾ أي غرقت وانفجرت سالت. وقال الواحدي: الانجباس الانفجار. يقال: بجس وانبجس بمعنى واحد. وقال الزمخشري: أناس، إسم جمع غير تكسير نحو: رخاء وثناء وتؤام وأخوات لها. ويجوز أن يقال: أن الأصل الكسر والتكسير والضمة بدل من الكسر كما أبدلت في نحو: سكارى وغيارى. " انتهى ". لا يجوز ما قال لأن سيبويه نص في كتابه على أن فعالي جمع تكسير أصل كما أن فعالي كذلك ولم يسمع كسر همزة أناس كما سمع الضم في فعالي.﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ٱسْكُنُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ ﴾ تقدمت هذه القصة وتفسيرها في البقرة وكان هذه مختصرة من تلك، إذ هناك وإذ قلنا ادخلوا، وهنا وإذ قيل لهم اسكنوا، وهناك رغداً، أو وسقط هنا، وهناك، وسنزيد، وهنا سنزيد، وهناك فأنزلنا على الذين ظلموا، وهنا فأرسلنا عليهم، وبينهما تغاير في بعض الألفاظ لا تناقض فيه بقوله: وإذ قيل لهم، وهناك وإذ قلنا، فهنا حذف الفاعل للعلم به وهو الله تعالى، وهناك ادخلوا، وهنا اسكنوا، والسكنى ضرورة فتعقب الدخول فأمروا هناك بمبدأ الشىء، وهنا بما تسبب عن الدخول، وهناك فكلوا بالفاء، وهنا بالواو، فجاءت الواو على أحد محتملاتها من كون ما بعدها وقع بعدما قبلها. وقيل: الدخول حالة منقضية فحسن ذكر فاء التعقيب بعده. والسكنى حالة مستمرة فحسن الأمر بالأكل معه لا عقبيه فحسنت الواو الجامعة للأمرين في الزمن الواحد وهو أحد محاملها. وقيل: ثبت رغداً بعد الأمر بالدخول لأنها حالة قدوم فالأكل فيها ألذ وأتم وهم إليه أحوج بخلاف السكنى فإِنها حالة استقرار واطمئنان فليس الأكل فيها ألذ ولا هم أحوج إليه. وأما التقديم والتأخير في قوله: وقولوا وادخلوا، فقال الزمخشري: سواء قدموا الحطة على دخول الباب أو أخروها فهم جامعون في الإِيجاد بينهما. " انتهى ". وقوله: سواء قدموا وأخروها، تركيب غير عربي وإصلاحه سواء أقدموا أم أخروها، كما قال تعالى:﴿ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا ﴾[إبراهيم: ٢١].
ويمكن أن يقال ناسب تقديم الأمر بدخول الباب سجداً مع تركيب ادخلوا هذه القرية لأنه فعل دال على الخضوع والذلة وحطة قول والفعل أقوى في إظهار الخضوع من القول فناسب أن يذكر مع مبدأ الشىء وهو الدخول ولأن قبله ادخلوا فناسب الأمر بالدخول للقرية الأمر بدخول بابها على هيئة الخضوع، ولأن دخول القرية لا يمكن إلا بدخول بابها فصار باب القرية كأنه بدل من القرية أعيد معه العامل بخلاف الأمر بالسكنى. وأما سنزيد هنا فقال الزمخشري: موعد بشيئين بالغفران والزيادة، وطرح الواو لا يخل بذلك لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل: وماذا بعد الغفراء. فقيل له: سنزيد المحسنين. وزيادة منهم بيان وأرسلنا وأنزلنا ويظلمون ويفسقون من واد واحد. وقرأ الحسن حطة بالنصب على المصدر أي حط ذنوبنا حطة ويجوز أن ينتصب يقولوا على حذف التقدير، وقولوا قولاً حطة أي ذا حطة. فحذف واو صار حطة وصفاً للمصدر المحذوف، كما تقول: قلت حسناً قلت حقاً أي قولاً حسناً وقولاً حقاً.
﴿ وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ﴾ الآية، الضمير في اسألهم عائد على من بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود. وذكر أن بعض اليهود المعارضين للرسول قالوا له: لم يكن من بني إسرائيل عصيان ولا معاندة لما أمروا به فنزلت الآية موبخة لهم ومقررة كذبهم ومعلنة بما جرى على إسلافهم من الإِهلاك والمسخ وكانت اليهود تكتم هذه القصة فهي مما لا يعلم إلا بكتاب أو وحي من الله تعالى فإِذا أغلمهم بها من لم يقرأ كتابهم علم أنه من جهة الوحي. وقوله: عن القرية، فيه حذف أي عن أهل القرية. والقرية هي ايلة. وقيل: طبرية، قاله ابن عباس وجماعة. ومعنى حاضرة البحر أي بغرب البحر مبنية على بشاطئه. ويحتمل أن يريد معنى الحضارة على جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في قرى البحر فالتقدير حاضرة قرى البحر أي تحضر أهل قرى البحر إليها لبيعهم وشرائهم وحاجتهم.﴿ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ ﴾ أي يجاوزون أمر الله تعالى في العمل يوم السبت وقد تقدم منه تعالى النهي عن العمل فيه والاشتغال بعبيد أو غيره إلا أنه في هذه النازلة كان عصيانهم أي حدث عصيانهم. وقرىء: يعدّون من الاعداد وكانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير عبادة الله تعالى وإذ ظرف والعامل فيه. قال الحوفي: إذ متعلقة بسلهم. " انتهى ". ولا يتصور لأن إذ ظرف لما مضى وسلهم مستقبل ولو كان ظرفاً مستقبلاً لم يصح المعنى لأن العادين وهم أهل القرية متقدمون فلا يمكن سؤالهم والمسؤول غير أهل القرية العادين. وقال الزمخشري في إذ يعدون بدل من القرية والمراد بالقرية أهلها كأنه قيل: وسلهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت وهو من بدل الاشتمال وهذا لا يجوز لأن إذ من الظروف التي لا تتصرف ولا يدخل عليها حرف جر وجعلها بدلاً يجوّز دخول عن عليها لأن البدل هو على نية تكرار العامل ولو أدخلت عن عليها لم يخسر وإنما تصرّف فيها بأن أضيف إليها بعض الظروف الزمانية، نحو: يوم إذ كان كذا. وأما قول من ذهب إلى أنها يتصرف فيها بأن تكون مفعول باذكر فهو قول من عجز عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً والعامل في إذ محذوف تقديره وسلهم عن قصة أهل القرية وقت عُدُوِهم. و ﴿ إِذْ تَأْتِيهِمْ ﴾ العامل في إذ يعدون أي إذ عَدَوْا في السبت إذ أتتهم، لأن إذ ظرف لما مضى يصرف المضارع للمضي. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون بدلاً بعد بدل. " انتهى ". يعني بدل من القرية بعد بدل إذ يعدون، وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز.﴿ شُرَّعاً ﴾ ظاهره الواحد شارع والعامل في يوم قوله: لا تأتيهم، وفيه دليل على أن ما بعد لا للنفي يعمل فيما قبلها وفيه ثلاثة مذاهب الجواز مطلقاً والمنع مطلقاً والتفصيل بين أن نكون لا جواب قسم فيمنع أو غير ذلك فيجوز وهو الصحيح.﴿ كَذَلِكَ ﴾ أي مثل ذلك البلاء بأمر الحوت.﴿ نَبْلُوهُم ﴾ أي بلوناهم وامتحناهم.﴿ وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ ﴾ أي جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين جربوا الوعظ فيهم فلم يروه يجدي. والظاهر أن القائل غير المقول لهم.﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ﴾ فيكونون ثلاث فرق فرقةً اعتدوا، وفرقةً وعظت ونهت، وفرقة اعتزلت فلم تنه ولم تعتد وهذه الطائفة هي القائلة للواعظة لم تعظون قوماً. وقرىء: ﴿ مَعْذِرَةً ﴾ بالرفع أي موعظتنا إقامة عذر إلى الله تعالى وقرىء: معذرة بالنصب. وقال أبو البقاء: من نصب فعلى المفعول له أي وعظناهم للمعذرة. وقيل: هو مصدر أي يعتذرون معذرة، وقالها الزمخشري:﴿ فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ الضمير في نسوا للمنهيين أي تركوا ما ذكرهم به الصالحون وجعل الترك نسياناً مبالغة إذ أقوى أحوال الترك أن ينسى المتروك وما موصولة بمعنى الذي والسوء عام في المعاصي وبحسب القصص يختص هنا بصيد الحوت. و ﴿ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ هم العاصون نبه على العلة في أخذهم وهي الظلم. وقرىء: بيس على وزن فعل وبالهمز، وبئيس على وزن فعيل، وبيئس على وزن فيعل هذه المشهورات. وفي البحر ذكر اثنين وعشرين قراءة.﴿ فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ أي استعصوا والعتو الاستعصاء والتأنّي في الشىء وباقي الآية تقدم تفسيره في البقرة. والظاهر أن العذاب والمسخ والهلاك إنما وقع بالمعتدين في السبت والأمة القائلة لم تعظون قوماً هم من فريق الناهين الناجين وإنما سألوا إخوانهم عن علة وعظهم وهو لا يجدي فيهم شيئاً البتة.
﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ﴾ الآية لما ذكر تعالى قبح أفعالهم واستعصائهم أخبر تعالى أنه حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة تأذن أعلم من الأذن وهو الإِعلام وأجرى مجرى القسم فتلقى بما يتلقى به القسم وهو قوله: ليبعثن.﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ ﴾ اخبار يتضمن سرعة إيقاع العذاب بهم.﴿ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ترجية لمن آمن منهم ومن غيرهم ووعد لمن تاب منهم وأصلح.﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً ﴾ أي فرقاً متباينين في أقطار الأرض فقل أرض لا يكون فيها منهم شرذمة وهذا حالهم وهم في كل مكان تحت الصغار والذلة وأمماً حال.. وقال الحوفي: مفعول ثان. وتقدم قوله هذا في وقطعناهم اثنتي عشرة والصالحون من آمن منهم أي بعيسى ومحمد عليهما السلام أو من آمن بالمدينة، وذلك إشارة إلى الصلاح أي ومنهم قوم دون أهل الصلاح لأنه لا يعتدل التقسيم الأعلى هذا التقدير من حذف مضاف أو يكون ذلك المعني به أولئك فكأنه قال: ومنهم قوم دون أولئك. وقد ذكر النحويون أن اسم الإِشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع فيكون ذلك بمعنى أولئك على هذه اللغة ويعتدل التقسيم ودون ظرف في موضع الصفة لمبتدأ محذوف خبره في المجرور قبله أي ومنهم قوم دون ذلك. قال ابن عطية: فإِن أريد بالصلاح الإِيمان فدون بمعنى غير يراد بها الكفرة. " انتهى ". ان أراد أن دون ترادف غيرا بهذا ليس بصحيح وإن أراد أنه يلزم ممن كان دون شىء أن يكون غيراً فصحيح.﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ ﴾ أي بالصحة والرخاء والسعة.﴿ وَٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ مقابلاتها.﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ إلى الطاعة ويتوبون عن المعصية.﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ قال ثعلب: الناس كلهم يقولون خلف صدق للصالح وخلف سوء للطالح. ومنه قول الشاعر: ذهب الذين يعاش في أكنافهم   وبقيت في خلف كجلد الأجرب﴿ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرؤنها ويفتون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم ولا يعملون بها. و ﴿ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ ﴾ هو ما يأخذونه من الرشا والمكاسب الخبيثة. والعرض ما يعرض ولا يثبت. وفي قوله: عرض هذا الأدنى، تخسيس لما يأخذونه وتحقير له.﴿ سَيُغْفَرُ لَنَا ﴾ قطع على الله تعالى بغفران معاصيهم أي لا يؤاخذنا الله بذلك ولنا في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله. تقول: غفر لزيد الذنب فتحذف الفاعل والمفعول وتقيم المجرور مقام الفاعل فتقول: لزيد.﴿ وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ﴾ الظاهر أن هذا استئناف اخبار عنهم بانهماكهم في المعاصي أي وإن أمكنتهم الرشا والمكاسب الخبيثة لم يتوقفوا عن أخذها ثانية ودائماً فهم مصرون على المعاصي.﴿ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ ﴾ الآية، هذا توبيخ وتقريع لما تضمنه الكتاب من أخذ الميثاق أنهم لا يكذبون على الله تعالى قال ابن زيد: كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به فإِذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له به. و ﴿ أَن لاَّ يِقُولُواْ ﴾ في موضع رفع على البدل من ميثاق الكتاب.﴿ وَدَرَسُواْ ﴾ معطوف على قوله: ألم يؤخذ، وفي ذلك أعظم توبيخ وتقريع وهو أنهم كرروا على ما في الكتاب وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على الله تعالى.﴿ وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ ﴾ أي ولثواب دار الآخرة خير من تلك الرشوة الخبيثة الخسيسة المعقبة خزي الدنيا والآخرة.﴿ وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ ﴾ قرىء: بالتشديد والتخفيف أي يتمسكون بالكتاب أي بما تضمنه من حلال وحرام وعبادة والتمسك بالكتاب يستلزم إقامة الصلاة لكنها أفردت بالذكر تعظيماً لشأنها لأنها عماد الدين والصلة بين العبد وربه والذين استئناف اخبار وهو مبتدأ خبره انا لا نضيع إلى آخره والرابط بينهما العموم في المصلحين أو ضمير محذوف تقديره المصلحين منهم.
﴿ وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ ﴾ النتق الجذب بقوة. وفسره بعضهم بغايته وهو القلع. وتقول العرب: نتقت الزبدة من فم القرية، والنات الرحم الذي تقلع الولد من الرجل. وقال النابغة في الذبياني: لم يحرموا حسن العزاء وأمهم   طفحت عليك بناتق مذكاروفوقهم العامل فيه نتقنا ضمن معنى رفعنا بالنتق الجبل فوقهم كقوله تعالى:﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ ﴾[النساء: ١٥٤].
﴿ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ﴾ في موضع الحال من الجبل والظلة هنا معناها الغمامة.﴿ وَظَنُّوۤاْ ﴾ هنا باقية على بابها من ترجيح أحد الجائزين.﴿ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ ﴾ تقدم تفسير هذه الجملة في البقرة.﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ ﴾ الآية، قال الزمخشري: هذا من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه سبحانه أشهدهم على أنفسهم وقررهم. وقال: ألست بربكم، وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله وفي كلام العرب ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى. " انتهى ". ومفعول أخذ ذرياتهم ويحتمل في قراءة الجمع أن يكون مفعول أخذ محذوفاً لفهم المعنى وذرياتهم بدل من ضمير ظهورهم كما أن من ظهورهم بدل من قوله: من بني آدم، والمفعول المحذوف هو الميثاق كما قال:﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾[النساء: ١٥٤].
وتقدير الكلام في وإذ أخذ ربك، من ظهور ذريات بني آدم ميثاق التوحيد وإفراده بالعبادة واستعار أن يكون الميثاق من الظهر كان الميثاق لصعوبته وللإِرتباط به والوقوف عنده شىء ثقيل يحمل على الظهر. الست دخلت همزة الاستفهام على النفي فصار معناها التقرير وهذا النوع من التقرير يجاب بما يجاب به النفي الصريح، فإِذا قلت: ألست من بنى فلان؟ أجيب ببلى. ومعناه أنت من بني فلان؟ فكذلك أجيب ببلى، ومعناه أنت ربنا.﴿ شَهِدْنَآ ﴾ الظاهر أن الضمير لله تعالى.﴿ عَنْ هَـٰذَا ﴾ الإِشارة إلى الميثاق والإِقرار بالربوبية.﴿ أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا ﴾ وقرىء: أو تقولوا بالتاء والياء، المعنى أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله تعالى وعبادته لكانت لهم حجتان أحديهما كنا غافلين والأخرى كنا تبعاً لأسلافنا فكيف تعذب لذلك والذنب إنما هو لمن طرق لنا وأضلنا فوقعت الشهادة لتنقطع عنهم الحجج.﴿ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ ﴾ هذا من تمام القول الثاني أي كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتقدمهم فيه وتركه سنة لنا.﴿ وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ ﴾ أي مثل هذا التفصيل الذي فصلنا فيه الآيات السابقة نفصل الآيات اللاحقة.﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ عن شركهم وعبادة غير الله إلى توحيده وعبادته.﴿ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا ﴾ قال الجمهور: هو بلعام وهو رجل كنعاني أوتي بعض كتب الله تعالى والإِنسلاخ من الآيات مبالغة في البتري والبعد أي لم يعمل بما اقتضته نعمتنا عليه. وقرأ الجمهور: ﴿ فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ من اتبع رباعياً أي لحقه وصار معه وهي مبالغة في حقه إذ جعل كأنه هو إمام للشيطان يتبعه وكذلك فاتبعه شهاب ثاقب أي عدا ورآه.
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ﴾ أي لو أردنا أن نشرفه ونرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعلنا.﴿ وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ ﴾ أي ترامى إلى شهوات الدنيا ورغب فيها واتبع ما هو ناشىء عن الهوى وجاء الاستدراك هنا تنبيهاً على السبب الذي لأجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره ممن أوتي الهدى فآثره واتبعه. وأخلد معناه رمى بنفسه إلى الأرض أي ما فيها من الملاذ والشهوات، قاله ابن عباس. قال الزمخشري: وكان حق الكلام أن يقال: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته، فوقع قوله: فمثله كمثل الكلب فوضع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في معنى ذلك. انتهى قوله: وكان حق الكلام إلى آخره سوء أدب على كلام الله تعالى. وأما قوله: فوقع قوله فمثله إلى آخره فليس واقعاً موقع ما ذكر ولكن قوله: ولكنه أخلد إلى الأرض وقع موقع فحططناه، إلا أنه تعالى لما ذكر الإِحسان إليه أسند ذلك إلى ذاته الشريفة فقال: آتيناه، ولو شئنا لرفعناه بها. ولما ذكر ما هو في حق الشخص إساءة أسنده إليه، فقال: فانسلخ منها. وقال: ولكنه أخلد إلى الأرض وهو تعالى في الحقيقة هو الذي سلخه من الآيات وأخلده إلى الأرض فجاء على حد قوله﴿ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾[الكهف: ٧٩]، وقوله:﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ ﴾[الكهف: ٨٢] في نسبة ما كان حسناً إلى الله ونسبة ما كان بخلافه إلى الشخص.﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ ﴾ أي فصفته أن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يحملها كصفة الكلب إن كان مطروداً لهث وإن كان رابضاً لهث، قال ابن عباس: وهذه الجملة الشرطية في موضع الحال أي لاهثاً في الحالتين، قاله الزمخشري وأبو البقاء وتفسيرهما لاهثاً من حيث المعنى لا أن جملة الشرط هي الحال.﴿ ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ﴾ أي ذلك الوصف وصف.﴿ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ صفتهم كصفة الكلب لاهثاً في الحالتين فكما شبّه وصف المؤتى الآيات المنسلخ منها بالكلب في أخس حالاته كذلك شبه به المكذبون بالآيات حيث أوتوها وجاءتهم واضحات تقتضي التصديق بها فقابلوها بالتكذيب وانسلخوا منها.﴿ سَآءَ ﴾ بمعنى بئس وتقدم لنا أن أصلها التعدي، تقول: ساءني الشيء يسوءني. ثم لما استعملت استعمال بئس بنيت على فعل وجرت عليها أحكام بئس ومثلاً تمييز للمضمر المستكن في ساء فاعلاً وهو مفسر بهذا التمييز وهو من الضمائر التي يفسرها ما بعدها ولا بد أن يكون المخصوص بالذم من جنس التمييز فاحتيج إلى تقدير حذف اما في التمييز أي ساء أصحاب مثل القوم وأما في المخصوص أي ساء مثلاً مثل القوم. وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة.﴿ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي ﴾ الآية، لما تقدم ذكر المهتدين والضالين أخبر تعالى أنه هو المتصرف فيهم بما شاء من هداية وضلال وتقرر من مذهب أهل السنة أنه تعالى هو خالق الهداية والضلال في العدو من شرطية مفعولة بيهد وحمل على لقطها في الجواب، وهو قوله: فهو المهتدي ومن الثانية كذلك وحمل على معناها في الجواب، في قوله: فأولئك فناسب الأفراد هناك لأن المهتدي قليل وناسب الجمع في الثانية لأن الضالين كثير.﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ﴾ الآية، هذا إخبار منه تعالى بأنه خلق لجهنم كثيراً من الصنفين، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أنه هو الهادي وهو المضل أعقبه بذكر من خلق للخسران والنار وذكر من أوصافهم ما ذكر وفي ضمنه وعيد الكفار. والمعنى لعذاب جهنم واللام للصيرورة على قول من أثبت لها هذا المعنى، ولما كان مآلهم إليها جعل ذلك سببا على جهة المجاز.﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ الآية لما كانوا لا يتدبرون شيئاً من الآيات ولا ينظرون إليها نظر اعتبار ولا يسمعونها سماع تفكر جعلوا كأنهم نقدوا الفقه بالقلوب والابصار بالعيون والسماع بالآذان وليس المراد نفي هذه الإِدراكات عن هذه الحواس وإنما المراد نفي الانتفاع بها فيما طلب منهم من الإِيمان.﴿ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ ﴾ في عدم الفقه في العواقب والنظر للاعتبار والسماع للتفكر ولا يهتمون بغير الأكل والشرب.﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ بل للاضراب وليسوا بطالاً بل هو انتقال من حكم، وهو التشبيه بالأنعام إلى حكم آخر وهو كونهم أضل من الانعام.﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ ﴾ هذه الجملة بين تعالى بها سبب كونهم أضل من الانعام وهو الغفلة عما أعد الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب.
﴿ وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾ الآية قال مقاتل: دعا رجل الله تعالى في صلاته ومرة دعا الرحمن. فقال أبو جهل: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو اثنين فنزلت. ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه ذرأ كثيراً من الإِنس والجن للنار ذكر نوعاً منهم وهم الذين يلحدون في أسمائه وهم أشد الكفار عتياً أبو جهل وأضرابه. والحسنى هنا تأنيث الأحسن ووصف الجمع المكسر الذي لا يعقل بما وصف به الواحد كقوله تعالى:﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ ﴾[طه: ١٨]، وهو فصيح ولو جاء على المطابقة للجمع لكان التركيب الحسن على وزن الآخر كقوله تعالى:﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾[البقرة: ١٨٤] لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه ويوصف بجمع المؤنثات وإن كان المفرد مذكراً. قال ابن عطية: والأسماء هنا بمعنى التسميات إجماعاً من المتأولين لا يمكن غيره. " انتهى ". ولا تحرير فيما قال لأن التسمية مصدر والمراد هنا الألفاظ التي تطلق على الله تعالى وهي الأوصاف الدالة على تغاير الصفات لا تغاير الموصوف كما تقول: جاء زيد الفقيه الشجاع الكريم، وكون الاسم الذي أمر تعالى أن يدعي به حسناً هو ما قدره الشرع ونص عليه في إطلاقه على الله تعالى. ومعنى فادعوه بها، أي نادوه بها كقوله: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا مالك، وما أشبه ذلك. يقال: لحد وألحد بمعنى واحد لغتان وهو العدول عن الحق والإِدخال فيه ما ليس منه. قال ابن السكيت: ومعنى يلحدون في أسمائه أي يقولون بجهلهم يا أبا المكارم يا أبيض الوجه يا سخي وغير ذلك من الأسماء التي لم يثبت في الشرع إطلاقها على الله تعالى. و ﴿ سَيُجْزَوْنَ ﴾ وعيد شديد. واندرج على قوله:﴿ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ الإِلحاد في أسمائه وسائر أفعالهم القبيحة.﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ ﴾ الآية لما ذكر تعالى من ذرأه للنار ذكر مقابلهم وفي لفظة وممن دلالة على التبعيض وان المعظم من المخلوقين ليسوا هداة إلى الحق ولا عاد ليمن به.﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ﴾ قال أبو عبيدة: الاستدراج، أن تدرج إلى الشىء في خفية قليلاً قليلاً ولا تهجم عليه وأصله من الدرجة وذلك أن الرامي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة، ومنه درج الكتاب طواه شيئاً بعد شىء، ودرج القوم ماتوا بعضهم في أثر بعض.﴿ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ قيل: بالاستدراج أو بالهلاك. وقال الأعشى في الاستدرج: فلو كنت في جب ثمانين قامة   ورقيت أسباب السماء بسلمليستدرجنك القول حتى تهزه   وتعلم أني عنكم غير فهم﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ ﴾ معطوف على سنستدرجهم فهو داخل في الاستقبال وهو خروج من ضمير المتكلم بنون العظمة إلى ضمير تكلم المفرد والمعنى أؤخره حلاوة من الدهر أي مدة فيها طول. والملاوة بفتح الميم وضمها وكسرها ومنه واهجرني ملياً أي طويلاً وسمي فعله ذلك بهم كيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان والمتين من كل شىء القوي. يقال: متن متانة.﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ ﴾ قال الحسن وقتادة: سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد ليلة على الصفا فجعل يدعو قبائل قريش يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم ويدعوهم إلى الله تعالى، فقال بعض الكفار حين أصبحوا: هذا مجنون بات يصوت إلى الصباح. وكانوا يقولون: شاعر مجنون، فنفى الله عز وجل عنه ما قالوه ثم أخبر أنه محذر من عذاب الله. والآية باعثة لهم على التفكر في أمره عليه السلام وانتفاء الجنة عنه وهذا الاستفهام قيل معناه التوبيخ. وقيل: معناه التحريض على التأمل، والجنة: الجن، والمعنى من مسّ جنة أو من تخبط جنة، والظاهر أن يتفكروا معلق على الجملة المنفية وهي في موضع نصب بيتفكروا بعد إسقاط حرف الجر لأن التفكر من أفعال القلوب فيجوز تعليقه. والمعنى أو لم يتأملوا أو يتدبروا في إسقاط هذا الوصف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِنه منتف عنه لا محالة ولا يمكن لم أمْعَنَ الفكر أن ينسب ذلك إليه.﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الآية، لما خصّهم على التفكر في حال الرسول صلى الله عليه وسلم وكان مفرعاً على تقرير دلائل التوحيد أعقبه بما يدل على التوحيد وجود الصانع الحكيم والملكوت الملك العظيم. وتقدم شرح ذلك في الانعام ولم يقتصر على ذكر النظر في الملكوت بل نبه على أن كل فرد من الموجودات محل النظر والاعتبار والاستدلال على الصانع ووحدانيته كما قيل: وفي كل شىء له آية تدل على أنه واحد.﴿ وَأَنْ عَسَىۤ ﴾ الآية أن هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف ضمير الشأن وخبرها عسى وما تعلقت به وقد وقع خبراً لها الجملة غير الخبرية في مثل هذه الآية وفي مثل والخامسة أن غضب الله عليها، فغضب الله عليها جملة دعاء وهي غير خبرية. وأجاز أبو البقاء أن تكون ان هي المخففة من الثقيلة وأن تكون مصدرية يعني أن تكون الموضوعة على حرفين وهي الناصبة للفعل المضارع وليس بشيء لأنهم نصوا على أنها توصل بفعل متصرف مطلقاً يعنون ماضياً ومضارعاً وأمراً فشرطوا فيه التصرف. وعسى فعل جامد فلا يجوز أن يكون صلة لأن، وعسى هنا تامة وأن يكون فاعل بها نحو قولك: عسى أن يقدم زيد، واسم يكون قال الحوفي: أجلهم وقد اقترب الخبر. وقال الزمخشري وغيره: إسم يكون ضمير الشأن فيكون قد اقترب أجلهم في موضع نصب في موضع خبر يكون وأجلهم فاعل باقترب وما أجازه الحوفي فيه خلاف.﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ معنى هذه الجملة وما قبلها توقيفهم وتوبيخهم على أنه لم يقع منهم نظر ولا تدبر في شىء من ملكوت السماوات والأرض ولا في مخلوقات الله تعالى ولا في اقتراب آجالهم، ثم قال: فبأي حديث أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم إذ لم يقع بأمر فيه نجاتهم ودخولهم الجنة. ونحوه قال الشاعر: فغن أيّ نفس بعد نفسي أقاتل   والمعنى إذا لم أقاتل عن نفسي فكيف أقاتل عن غيرها.﴿ مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ﴾ نفي نفياً عاماً أن يكون هاد لمن أضله الله تعالى فتضمن اليأس من إيمانهم والمقت لهم.﴿ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ قرىء ونذرهم بالنون ورفع الراء. وقرىء ويذرهم بالياء ورفع الراء، وهو استئناف اخبار قطع الفعل أو أضمر قبله ونحن فيكون جملة إسمية. وقرىء: ونذرهم بالنون والجزم على أنه مجزوم عطفاً على محل فلا هادي له، فإِنه في موضع جزم جواباً للشرط. والجملة من يذرهم تقدم تفسيره في أوائل البقرة فأغنى عن إعادته.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ ﴾ الآية، قال ابن عباس: الضمير لليهود. قل حِسْلُ بن أبي قشير وشمويل بن زيد: ان كنت نبياً فأخبرنا بوقت الساعة فإِنا نعرفها فإِن صدقت آمنا بك، فنزلت. ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر التوحيد والنبوة والقضاء والقدر أتبع ذلك بذكر المعاد، وأيضاً فلما تقدم قوله:﴿ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ﴾[الأعراف: ١٨٥] وكان ذلك باعثاً لهم على المبادرة إلى التوبة أتى بالسؤال عن الساعة ليعلم أن وقتها مكتوم عن الخلق فيكون ذلك سبباً للمسارعة إلى التوبة والساعة القيامة موت من كان حينئذٍ حياً وبعث الجميع يقع عليه اسم الساعة واسم القيامة والساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا. ومرساها مصدر أي متى إرساؤها أي إثباتها وإقرارها والرسو ثبات الشيء الثقيل ومنه رسا الجبل، وأرسيت السفينة، والمرسا المكان الذي ترسو فيه. وقال الزمخشري: مرساها إرساؤها أو وقت إرسائها أي إثباتها وإقرارها. " انتهى ". وتقديره وقت إرسائها ليس بجيد لأن إبان اسم استفهام عن الوقت فلا يصح أن يكون خبراً عن الوقت إلا بمجاز لأنه يكون التقدير في أي وقت وقت إرسائها وأيان مرساها مبتدأ وخبر. وحكى ابن عطية عن المبرد أن مرساها مرتفع بإِضمار فعل ولا حاجة إلى هذا الإِضمار. وإيان مرساها جملة استفهامية في موضع البدل من الساعة، والبدل على نية تكرار العامل وذلك العامل معلق عن العمل لأن الجملة فيها استفهام، ولما علق الفعل وهو يتعدى بعن صارت الجملة في موضع نصب على إسقاط حرف الجر فهو بدل في الحقيقة على موضع عن الساعة لأن موضع الخبر نصب.﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ﴾ أي الله تعالى استأثر بعلمها ولما كان السؤال عن الساعة عموماً ثم خصص بالسؤال عن وقتها جاء الجواب عموماً عنها بقوله: قل انما علمها عند ربي ثم خصصت من حيث الوقت فقيل: لا يجليها لوقتها إلا هو وعلم الساعة من الخمس التي نص عليها من الغيب أنه لا يعلمها الا هو تعالى، والمعنى لا يكشفها ولا يظهرها لوقتها الذي قدر أن تكون فيه إلا هو.﴿ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ قال السدي: معنى ثقلت خفيت في السماوات والأرض فلا يعلم أحد من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين ما تكون وما خفي أمره ثقل على النفوس. " انتهى ".﴿ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ﴾ أي فجأة على غفلة منكم وعدم شعور بمجيئها.﴿ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ﴾ متعلق بيسئلونك والحفاوة الاعتناء بالشىء وتتعدى بالباء، فالمعنى حفى بها أي معتن بها وبالسؤال عن حالها.﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ﴾ الآية، قال ابن عباس: قال أهل مكة: ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري فتربح، وبالأرض التي تجدب فترحل عنها إلى ما هي أخصب. فنزلت. ووجه مناسبتها لما قبلها ظاهر جداً وهذا منه عليه السلام إظهار للعبودية فانتفاء عما يختص بالربوبية من القدر وعلم الغيب ومبالغة في الاستسلام فلا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر.﴿ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ ﴾ أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واستغزار المنافع واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسني شيء منها. وظاهر قوله: ولو كنت أعلم الغيب، انتفاء العلم عن الغيب على جهة عموم الغيب. كما روي عنه عليه السلام: لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمنيه ربي. بخلاف ما يذهب إليه هؤلاء الذين يدعون الكشف وانهم بتصفية نفوسهم يحصل لهم اطلاع على المغيّبات واخبار بالكوائن التي تحدث وما أكثر ادعاء الناس لهذا الأمر وخصوصاً في ديار مصر حتى أنهم لينسبون ذلك إلى رجل متضمخ بالنجاسة يظل دهره لا يصلي ولا يستنجي من نجاسة ويكشف عورته للناس حين يبول وهو عار من العلم والعمل الصالح فلا حول ولا قوة إلا بالله.
﴿ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدم سؤال الكفار عن الساعة ووقتها وكان فيهم من لا يؤمن بالبعث ذكر ابتداء خلق الإِنسان وإنشاءه تنبيهاً على أن الإِعادة ممكنة كما أن الإِنشاء ممكن. وتقدم تفسير نظيرها.﴿ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ أي ليطمئن ويميل إليها ولا ينفر عنْها، لأن الجنس إلى الجنس أميل وآنس به. وإذا كان منها على حقيقته فالسكون والمحبة أبلغ كما يسكن الإِنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه أو أثر لكونه بعضاً منه. وأنث في قوله: منها ذهاباً، إلى لفظ النفس، ثم ذكر في قوله: ليسكن، حملاً على معنى النفس ليبين أن المراد بها الذر آدم أو غيره، وكان الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى.﴿ فَلَماَّ تَغَشَّاهَا ﴾ التغشي والغشيان كناية عن الجماع. ومعنى الخفة أنها لم تلق به من الكرب ما يعرض لبعض الحبالى، وحملاً مصدر أو أن يكون ما في البطن. والحمل بفتح الحاء ما كان في بطن أو على رأس شجرة، بالكسر ما كان على ظهر أو على رأس غير شجرة.﴿ فَمَرَّتْ بِهِ ﴾ قال الحسن: استمرت به أو فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق.﴿ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ ﴾ أي دخلت في الثقل، كما تقول: أصبح وأمسى. أو صارت ذا ثقل كما تقول: أثمر الرجل وألبن إذا صار ذا ثمر ولبن.﴿ دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا ﴾ أي مالك أمرهما. ومتعلق الدعاء محذوف يدل عليه جملة جواب القسم أي دعوا الله ورغبا إليه في أن يؤتيهما صالحاً ثم أقسما على أنهما يكونان من الشاكرين أن آتاهما صالحاً. وقال الزمخشري: في الكلام محذوف تقديره جعل أولادهما شركاء فيما آتاهما بدليل: فتعالى الله عما يشركون، فجمع لأن آدم وحواء معصومان عن الشرك فتعين أن المراد أولادهما. وقرأ السُلمى عما تشركون بالتاء خطاب للكفار وكذلك الياء. وتمت قصة آدم وحواء عند قوله: فيما آتاهما، ثم استأنف تنزيه الله تعالى وتقدسيه عما وقع من الكفار من الإِشراك بالله، ويدل عليه انتقال الكلام من قصة آدم وحواء إلى حال الكفار الآيات الجائية بعد هذا وهو قوله: أيشركون، الآية، وصدر الآية في قوله: هو الذي خلقكم، إذ ضمير الخطاب يشمل المشركين وغيرهم ومنصب آدم عليه السلام منزه عن أن يجعل لله شريكاً إذ هو نبي مرسل مكلم. وقرىء: شركاً بالإِفراد وشركاء بالجمع.﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً ﴾ أي أيشركون الأصنام وهي لا تقدر على خلق شىء كما يخلق الله تعالى.﴿ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ أي يخلقهم الله تعالى ويوجدهم كما أوجدكم ويحتمل أن يكون وهم عائداً على ما عاد عليه ضمير الفاعل في أيشركون أي وهؤلاء المشركون يخلقون أي كما يجب أن يعتبروا لكونهم مخلوقين فيجعلوا إلههم خالقهم لا من لا يخلق شيئاً.﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾ الظاهر أن الخطاب للكفار انتقل من الغيبة إلى الخطاب على سبيل الإِلتفات والتوبيخ على عبادة غير الله تعالى. ويدل على أن الخطاب للكفار قوله: بعد أن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم. وضمير المفعول عائد على ما عادت عليه الضمائر قيل: وهي الأصنام، والمعنى وإن تدعو هذه الأصنام إلى ما هو هدى ورشاد، أو إلى أن يهدوكم كما تطلبون من الله الهدى والخير.﴿ لاَ يَتَّبِعُوكُمْ ﴾ على مرادكم ولا يجيبونكم، أي ليست فيهم هذه القابلية لأنها جماد لا تعقل. وعادل همزة الاستفهام في قوله: أدعوتموهم، بقوله: أم، والجملة الإِسمية بعدها من المبتدأ والخبر لأنها في معنى الفعل إذ التقدير أم صمتم وحسن المجيء بالجملة الإِسمية كونها فاصلة كالفواصل قبلها. قال ابن عطية: وفي قوله: أدعوتموهم أم أنتم صادقون، عطف الإِسم على الفعل إذ التقدير أم صَمَتُم. ومثل هذا قول الشاعر: سواء عليك النفر أم بت ليلة   بأهل القباب من نمير بن عامرانتهى. ليس هذا من عطف الإِسم على الفعل إنما هو من عطف الجملة الإِسمية على الجملة الفعلية، وأما البيت فليس من عطف الإِسم على الفعل بل من عطف الجملة الفعلية على الإِسم المقدر بالجملة الفعلية إذ أصل التركيب سواء عليك أنفرت أم بت ليلة فأوقع النفر موقع أنفرت. وتقدم الكلام في سواء وعلى ما بعدها في أوائل البقرة.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ الآية، هذه الجملة على سبيل التوكيد لما قبلها في انتفاء كون هذه الأصنام قادرة على شىء من نفع أو ضر أي ان الذين تدعونهم وتسمونهم آلهة من دون الله الذي أوجدها وأوجدكم هم عباد. وسمى الأصنام عباداً وإن كانت جمادات لأنهم كانوا يعتقدون أنها تضر وتنفع. وقال الزمخشري: عباد أمثالكم استهزاء بهم أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإِن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم، ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم فقال: ألهم أرجل يمشون بها. " انتهى ". وليس كما زعم لأنه تعالى حكم على هؤلاء المدعون من دون الله أنهم عباد أمثال الداعين. فلا يقال: في الخبر من الله تعالى فإِن ثبت ذلك لأنه ثابت، ولا يصح أن يقال: ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم، فقال: ألهم أرجل، لأن قوله: ألهم أرجل ليس إبطالاً لقوله: عباد أمثالكم، لأن المثلية ثابتة أما في انهم مخلوقون أو في انهم مملوكون مقهورون وإنما ذلك تحقير لشأن الأصنام وإنهم دونكم في انتفاء الآلات التي أعدت للإِنتفاع بها مع ثبوت كونهم أمثالكم فيما ذكر ولا يدل إنكار هذه الآلات على انتفاء المثلية فيما ذكر، وأيضاً فالابطال لا يتصور بالنسبة إليه تعالى لأنه يدل على كذب أحد الخبرين وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى. قرأ سعيد بن جبير أن خفيفة، وعبادا أمثالكم بنصب الدال واللام. واتفق المفسرون على تخريج هذه القراءة على أنّ إنْ هي النافية أعملت عمل ما الحجازية فرفعت الإِسم ونصبت الخبر فعباداً أمثالكم خبر منصوب قالوا: والمعنى بهذه القراءة تحقير شأن الأصنام ونفي مماثلتهم للبشر بل هم أقل وأحقر إذ هي جمادات لا تفهم ولا تعقل وأعمال ان اعمال ما الحجازية فيه خلاف، أجاز ذلك الكسائي، وأكثر الكوفيين، ومن البصريين ابن السراج والفارسي وابن جني، ومنع من أعمالها الفراء، وأكثر البصريين، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد. والصحيح أن اعمالها لغة ثبت ذلك في النثر والنظم وقد ذكرنا ذلك مشبعاً في شرح التسهيل. وقال النحاس: هذه قراءة لا ينبغي أن يقرأ بها لثلاث جهات إحداها أنها مخالفة للسواد الثانية أن سيبويه يختار الرفع في خبر أنْ إذا كانت بمعنى ما فيقول ان نريد منطلق لأن عمل ما ضعيف وان بمعناها فتكون أضعف منها، والثالثة أن الكسائي رأى أنها في كلام العرب لا تكون بمعنى ما إلا أن يكون بعدها أيجلب. " انتهى ". وكلام النحاس هذا هو الذي لا يجوز ولا لينبغي لأنها قراءة مروية عن تابعي جليل ولها وجه في العربية، وأما ثلاث الجهات التي ذكرها فلا يقدح شىء منها في هذه القراءة، أما كونها مخالفة للسواد فهو خلاف يسير جداً لا يضر، ولعله كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف فلا يكون فيه مخالفة للسواد. وأما ما حكي عن سيبويه فقد اختلف الفهم عن كلام سيبويه في أن، وأما ما حكاه عن الكسائي فالنقل عن الكسائي أنه حكى أعمالها وليس بعدها إيجاب والذي يظهر لي أن هذا التخريج الذي خرجوه من أنّ انْ للنفي ليس بصحيح لأن قراءة الجمهور تدل على إثبات كون الأصنام عباداً أمثال عابديها وهذا التخريج يدل على نفي ذلك فيؤدي إلى عدم مطابقة أحد الخبرين وهو لا يجوز بالنسبة إلى الله تعالى وقد خرجت هذه القراءة على وجه غير ما ذكروه وهي أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة واعملها عمل المشددة، وقد ثبت أنّ ان المخففة يجوز إعمالها عمل المشددة في غير المضمر بالقراءة المتواترة، وإن كلا لما وينقل سيبويه عن العرب لكنه نصب في هذه القراءة خبرها كما نصبه عمر بن أبي ربيعة في قوله انّ حراسنا أسْداً. وقد ذهب جماعة من النحاة إلى جواز نصب أخبار انّ وأخواتها واستدلوا على ذلك بشواهد ظاهرة الدلالة على صحة مذهبهم وتأولها المخالفون فهذه القراءة الشاذة تتخرج على هذه اللغة أو تؤول على تأويل المخالفين وما ورد من ذلك نحو: يا ليت أيام الصبا رواجعا   لأهل هذا المذهب وهو أنهم قالوا ان تقديره أقبلت رواجعاً فكذلك تؤولت هذه القراءة على إضمار فعل تقديره ان الذين تدعون من دون الله خلقناهم عباداً أمثالكم وتكون القراءتان قد توافقتا على معنى واحد وهو الاخبار أنهم عباد ولا يكون تناف بينهما وتخالف لا يجوز في حق الله تعالى. وقرىء: أيضاً أن مخففة، ونصب عباداً على أنه حال من الضمير المحذوف العائد من الصلة على الذين وأمثالكم بالرفع على الخبر، أن أن الذين تدعون من دون الله في حال كونهم عباداً أمثالكم في الخلق أو في الملك فلا يمكن أن يكونوا آلهة.﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ ﴾ الآية، هذا استفهام إنكار وتعجب وتبيين أنهم جماد لا حراك لهم وأنهم فاقدون لهذه الأعضاء ومنافعها التي خلقت لأجلها فأنتم أفضل من هذه الأصنام إذ لكم هذا التصرف، وهذا الاستفهام الذي معناه الإِنكار قد يتوجه الإِنكار فيه إلى انتفاء هذه الأعضاء وانتفاء منافعها فيتسلط النفي على المجموع كما فسرناه لأن تصويرهم هذه الأعضاء للأصنام ليست أعضاء حقيقية وقد يتوجه النفي إلى الوصف أي وإن كانت لهم هذه الأعضاء النافعة وأم هنا منقطعة فتتقدر ببل والهمزة وهو إضراب على معنى الانتقال لا على معنى الإِبطال وإنما هو تقدير على نفي كل واحدة من هذه الجمل وكان ترتيب هذه الجمل هكذا لأنه بدىء بالأهم ثم اتبع بما دونه إلى آخرها.﴿ قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ﴾ الآية لما أنكر تعالى عليهم عبادة الأصنام وحقّر شأنها وأظهر كونها جماداً عارية عن شىء من القدرة أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم ذلك أي لا مبالاة بكم ولا بشركائكم فاصنعوا ما تشاؤون وهو أمر تعجيز، أي لا يمكن أن يقع منكم دعاء لأصنامكم ولا كيد لي وكانوا قد خوّفوه آلهتهم ومعنى ادعوا شركاءكم استعينوا بهم على إيصال الضر إليّ.﴿ ثُمَّ كِيدُونِ ﴾ أي امكروا بي ولا تؤخرون عمّا تريدون بي من الضر. وسمى الأصنام شركاءهم من حيث لهم نسبة إليهم بتسميتهم إياهم آلهة وشركاء لله، تعالى الله عن ذلك.﴿ إِنَّ وَلِيِّـيَ ٱللَّهُ ﴾ الآية، لما أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضرّه وأراهم أن الله تعالى هو القادر على كل شىء عقب ذلك بالاسناد إلى الله تعالى والتوكل عليه وأنه تعالى هو ناصره عليهم وبيّن جهة نصره عليهم بأنْ أوحى إليه كتابه وأعزه برسالته، ثم انه تعالى يتولى الصالحين من عباده وينصرهم على أعدائهم، ولا يخذلهم. وقرىء وليّ الله بياء مشددة.﴿ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ أي من دون الله، وهذه الآية بيان لحال الأصنام وعجزها عن نصرة أنفسها فضلاً عن نصرة غيرها.﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾ الآية تناسق الضمائر يقتضي أن الضمير المنصوب في وإن تدعوهم هو للأصنام ونفي عنهم السماع لأنها جماد لا تحسّ وأثبت لهم النظر على سبيل المجاز بمعنى أنهم صوروهم ذوي أعين فهم يشبهون من ينظر ومن قلب حدقته للنظر. ومعنى إليك، أي إليك أيها الداعي. وأفرد لأنه اقتطع أي استأنف قوله: وتراهم ينظرون إليك من جملة الشرط واستأنف الاخبار عنهم.
﴿ خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ ﴾ الآية هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهم جميع أمته وهي أمر بجميع مكارم الأخلاق وقد أمر بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله:" يسرو ولا تعسروا "وقال حاتم الطائي: خذي العفو مني تستديمي مودتي   ولا تنطقي في سورتي حين أغضب﴿ وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ ﴾ أي ينخسنك بأن يحملك بوسوسته على ما لا يليق فاطلب العياذ بالله منه وهي اللواذ والاستجارة. قيل: لما نزلت خذ العفو الآية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كيف والغضب "فنزلت وأما ينزغنك، وإن شرطية، وما زائدة، ونزغ هو الفاعل، وهو مصدر يراد به اسم الفاعل أي نازغ وهذا التركيب جاء في القرآن كثيراً بزيادة ما وبنون التوكيد كقوله تعالى: واما تخافن، فاما تذهبن، واما نرينك، وختم بهاتين الصفتين لأن الإستعاذة تكون باللسان ولا تجدي إلا باستحضار معناها فالمعنى سميع للأقوال عليم بما في الضمائر.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ ﴾ الآية قال ابن عطية وقال الكسائي: الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإِنسان وكيف هذا، وقد قال الأعشى: وتصبح عن غب السرى وكأنها   ألم بها من طائف الجن أولتانتهى. لا تتعجب من تفسير الكسائي الطائف بما طاف حول الإِنسان بهذا البيت لأنه يصح فيه معنى ما قاله الكسائي لأنه ان كان تعجبه وإنكاره من حيث خصوص الإِنسان فالذي قاله الأعشى تشبيه لأنه قال: كأنها، وإن كان تعجبه من حيث فسر بأنه ما طاف حول الإِنسان، فطائف الجن يصح أن يقال: هو طائف حول الإِنسان، وشبه هو الناقة في سرعتها ونشاطها وقطعها الفيافي في عجلة بحالتها إذا ألم بها أولق من طائف الجن. وقرىء: طيف مخففاً من طيف كما قالوا: ميت في ميت، والنزغ من الشيطان أخف من مس الطائف من الشيطان، لأن النغز أدنى حركة. والمس: الإِصابة، والطائف: ما يطوف به ويدور عليه، فهو أبلغ لا محالة فحال المتيقن في ذلك غير حال الرسول. وانظر لحسن هذا البيان حيث كان الكلام للرسول كان الشرط بلفظ أن المحتملة للوقوع ولعدمه وحيث كان الكلام للمتقين كان المجيء بإِذا الموضوعة للتحقق أو للترجيح، وعلى هذا فالنزغ يمكن أن يقع ويمكن أن لا يقع والمس واقع لا محالة أو مرجح وقوعه هو إلصاق البشرة بالبشرة وهو هنا استعارة. وفي تلك الجملة أمر هو صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة، وهنا جاءت الجملة خبرية في ضمنها الشرط وجاء الخبر تذكروا فدل على تمكن حسّ الطائف حتى حصل نسيان فتذكروا ما نسوه والمعنى تذكروا ما أمر به تعالى، وما نهى عنه وبنفس التذكر حصل إبصارهم وفاجأهم إبصار الحق والسداد فاتبعوه وطردوا عنهم مسّ الطائف واتقوا عامة في كل ما يتقى.﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ ﴾ الضمير في وإخوانهم عائد على ما تقدم من الكفار. وإخوانهم مبتدأ، ويمدونهم خبر، والضمير في يمدونهم المنصوب يعود على ما عاد عليه الضمير في وإخوانهم. وقرىء: يمدونهم من أمد ويمدونهم من مدوهما بمعنى واحد. و ﴿ فِي ٱلْغَيِّ ﴾ متعلق بيمدونهم.﴿ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ﴾ أي لا يكفون عن إمدادهم في الغواية.﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ ﴾ الآية، روي أن الوحي كان يتأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً فكان الكفار يقولون:﴿ لَوْلاَ ٱجْتَبَيْتَهَا ﴾ ومعنى هذه اللفظة في كلام العرب تخيَّرتها واصطفيتها. قال ابن عباس: هلا اخترعتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك، ولولا هي للتحضيض بمعنى هلا.﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي ﴾ الآية، بيّن أنه ليس مجيء الآيات إليه إنما هو متبع ما أوحاه الله إليه ولست بمفتعلها ولا مقترحها. و ﴿ هَـٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ ﴾ أي هذا الموحى إلي الذي أنا أتبعه لا أبتدعه وهو القرآن بصائر أي حجج وبينات يبصر بها وتتضح الأشياء الخفيات، وهي جمع بصيرة كقوله تعالى:﴿ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي ﴾[يوسف: ١٠٨]، أي على أمر جلّي منكشف وأخبر عن المفرد بالجمع لاشتماله على سور وآيات. وقيل: هو على حذف مضاف أي ذو بصائر.﴿ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي دلالة على الرشد، ورحمة في الدين والدنيا. وخصَّ المؤمنين بأنهم هم الذين يستبصرون وهم الذين ينتفعون بالوحي يتبعون ما أمر به فيه ويجتنبون ما ينهون عنه فيه ويؤمنون بما تضمنه.﴿ وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ ﴾ الآية، روي أنها نزلت في المشركين كانوا إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون:﴿ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ ﴾[فصلت: ٢٦].
فنزلت جواباً لهم. ولما ذكر أن القرآن بصائر وهدى ورحمة أمر باستماعه إذا شرع في قراءته، وبالإِنصات وهو السكوت مع الإِصغاء إليه، لأن ما اشتمل على هذه الأوصاف فمن البصائر والهدى والرحمة حريّ بأن يصغي إليه حتى يحضل منه للمنصت هذه النتائج العظيمة وينتفع بها فيستبصر من العمى ويهتدي من الضلالة ويرحم بها. والظاهر استدعاء الاستماع والإِنصات إذا أخذ في قراءة القرآن ومتى قرىء.﴿ وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ ﴾ الآية لما أمرهم تعالى بالاستماع والإِنصات إذا شرع في قراءته ارتقى من أمره تعالى إلى أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بذكر ربه في نفسه أي بحيث يراقبه ويذكره في الحالة التي لا يشعر بها أحد وهي الحالة الشريفة العليا ثم أمره أن يذكره دون الجهر من القول أي يذكره بالقول الخفي الذي يشعر بالتذلل والخضوع من غير صياح ولا تصويت كما تناجي الملوك وتستجلب منهم الرغائب، وكما قال عليه السلام للصحابة وقد جهروا بالدعاء:" إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً اربعوا على أنفسكم ".﴿ وَٱذْكُر رَّبَّكَ ﴾ أي مالك أمرك والناظر في مصلحتك. وفي نفسك متعلق باذكر وتضرعاً وخيفة مفعولان من أجله أي لتضرع وخيفة أو مصدران منصوبان على الحال أي متضرعاً وخائفاً.﴿ وَدُونَ ٱلْجَهْرِ ﴾ معطوف على قوله: في نفسك، أي ذكراً في نفسك وذكراً دون الجهر.﴿ بِٱلْغُدُوِّ ﴾ إن كان جمعاً لغداة فهو مقابل بالجمع وهو بالآصال، وإن كان مصدراً لغداء فيكون على حذف تقديره بأوقات الغدو. والظاهر اقتصار الأمر بالذكر على هذين الوقتين. وقيل: المراد بهما الأوقات، واقتصر عليهما لأنهما ظرفان للأوقات.﴿ وَٱلآصَالِ ﴾ هي العشايا جمع أصل وهي العشية ولما أمره تعالى بالذكر أكد ذلك بالنهي عن أن يكون من الغافلين أي استدم الذكر ولا تغفل طرفة عين ومعلوم أنه عليه السلام تستحيل عليه الغفلة لعصمته فهو نهي له والمراد أمته.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ ﴾ هم الملائكة عليهم السلام ومعنى العندية الزلفى والقرب منه تعالى بالمكانة لا بالمكان وذلك لتوفرهم على طاعته وابتغاء مرضاته، ولما أمر تعالى بالذكر ورغب في المواظبة عليه ذكر من شأنهم ذلك فأخبر عنهم باخبار ثلاثة: الأول نفي الاستكبار عن عبادته وذلك هو أصل إظهار العبودية، ونفي الاستكبار هو الموجب للطاعات كما أن الاستكبار هو الموجب للعصيان لأن المستكبر يرى لنفسه شقوفاً ومزيّة فيمنعه ذلك من الطاعة. الثاني إثبات التسبيح منهم له تعالى وهو التنزيه والتطهير عن جميع ما لا يليق بذاته المقدسة. والثالث السجود له تعالى ولما كانت العبادة ناشئة عن انتفاء الاستكبار وكانت على قسمين عبادة قلبية وعبادة جسمانية ذكرهما، فالقلبية تنزيه الله تعالى عن السوء والجسمانية السجود وهو الحال التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى. وفي الحديث:" أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد ".
Icon