تفسير سورة يونس

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة يونس من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة يونس
سورة يونس مكية، عدد آياتها تسع ومائة، نزلت بعد سورة الإسراء وقيل بعد سورة هود. وهي كسائر السور المكية تقرر تثبيت العقيدة وأصول الدين.
وقد ابتدأت بالإشارة إلى مكانة الكتاب الكريم، وما يقوله المشركون في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وموقفهم من حقيقة الوحي، وكيف يتعجبون من أن الله أوحى إلى رجل منهم لينذر الناس. ثم تأتي إلى ذكر الكون وآيات الله تعالى فيه، وأنه خلق هذا الكون العجيب في ست مراحل تتضمن أحقابا طويلة، هي التي عبر عنها بقوله ﴿ في ستة أيام ﴾. وقد تجلت قدرة الله في كل ركن من أركان العالم، ومنها تسخير الشمس والقمر والنجوم لفائدة البشر، وتعاقب الليل والنهار. ثم ذكرت السورة الجزاء يوم القيامة وسنة الله بالنسبة للكافرين، والتنديد بهم في عقائدهم. ووصفت حال الناس في الضراء والسراء، وضعف الإنسان وكيف يتصرف إذا مسه ضر ثم إذا كشف عنه. كما أوردت عجز المعبودات من الأوثان عن أي شيء، وتحدت المشركين بقولهم إن هذا قرآن مفترى، أن يأتوا بسورة مثله، وليستعينوا بمن يشاءون. وفي السورة تهديد شديد بعذاب الله تعالى، وذكر أحوال نفوس الناس، ومراقبة الله لأعمالهم، وأنه هو الإله الحق الذي يستحق العبادة، وإليه مرجع الخلق جميعا.
ثم انتقل الحديث بعد ذلك إلى التسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم، لألمه من كفرهم، مع قيام الحجة القاطعة عليهم، وذلك بذكر قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم، فجاءت قصة نوح، وقصة موسى وهارون مع فرعون بشيء من التفصيل. كما جاءت إشارة قصيرة إلى قصة يونس، التي أخذ منها اسم السورة. وهكذا نجد السورة مترابطة فنرى المطلع والختام على وتيرة واحدة.
ففي المطلع يقول تعالى :
﴿ الر، تلك آيات الكتاب الحكيم، أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشّر الذين آمنوا... ﴾.
وفي الختام يتجه الخطاب إلى النبي عليه الصلاة والسلام باتباع الوحي :
﴿ واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ﴾. فنجد الترابط في سياق السورة من مطلعها إلى ختامها، مما يجعلها وحدة متكاملة تدور حول قضية الألوهية والعبودية وبيان حقيقتها، ( وهذه هي قضية القرآن الكبرى، والمكي منه بصفة خاصة ) وأن حياة البشر في الأرض لا تستقيم إلا إذا استقامت هذه الحقيقة في اعتقادهم وتصورهم، وفي حياتهم وواقعهم.
لقد ذكر يونس عليه السلام باسمه في القرآن أربع مرات : " سورة النساء آية ١٦٣، والأنعام : آية ٩٨، الصافات آية ١٣٩، وهنا في سورة يونس. وذكر بوصفه في سورة الأنبياء في قوله تعالى :﴿ وذا النون إذ ذهب مغاضبا ﴾، وفي سورة القلم في قوله تعالى :﴿ فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ﴾.
ولم يعلم عن نسبه في كتب الحديث أو التفسير شيء إلا أنه " يونس بن متى "، وفي كتب أهل الكتاب أنه " يونان بن أمتاي ".
وفي معجم البلدان : " حلحول "، قرية بين البيت المقدس وقبر إبراهيم الخليل وبها قبر يونس بن متى عليهما السلام، وهي معروفة إلى الآن بهذا الاسم.
بسم الله الرحمان الرحيم

الآية : العلامة.
الكتاب : القرآن الكريم.
الحكيم، وذو الحكمة.
الر : هذه الحروف تقرأ ساكنةَ غير معربة هكذا «ألف. لام. را »، وقد بدأ الله تعالى بها السورة لتنبيه السامع إلى ما يتلى عليه، وفي ذلك إشارة إلى أن القرآن مكون من مثل هذه الحروف، ومع ذلك عجزتم أيها المشركون عن أن تأتوا بمثله.
قدم صدق : سابقةٌ حسنة، والمنزلة الرفيعة.
مبين : ظاهر.
ما كان للناس أن يعجبوا وينكروا إنزال الوحي على رجل من جنسهم. ولِمَ هذا التعجب والإنكار، والله قادر على أن يتصل بأي عبد من عباده ويصطفيه برسالته، ﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ]، وأن لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام من الصفات والمكرمات ما يؤهّله لهذه الرسالة الكريمة.
وبعد أن بيّن الله عجبَ الكافرين من الوحي إلى النبي الكريم بيّن حقيقةَ ما أوحى به إليه، وهو إنذارُ الناس وتحذيرهم من عذاب لله، وتبشيرُ المؤمنين بأن لهم منزلةً عالية عند ربهم نالوها بصدق القول وحسن النية.
﴿ قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ﴾.
فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم قالوا : إن هذا الرجلَ ساحرٌ أمره واضح، فما جاءَ به سحرٌ لأنه خارق للعادة في تأثيره على الناس، وجذْبه النفوس إلى الإيمان به.
قراءات :
قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي :«لساحر مبين » بألف بعد السين. وقرأ الباقون «لسحر مبين » بغير ألف.
خلق السماوات والأرض : صنعها وأبدعها.
في ستة أيام : في ست مراحل، فقد يكون اليوم آلاف السنين من أيامنا. العرش : مركز التدبير ولا نعلم كنهه وصنعته.
استوى : استولى.
بعد أن افتتح السورة بذِكر آيات الكتاب، وأنكر على الناس تعجُّبَهم من أن يوحى إلى رجل منهم يُنذر ويبشّر، جاء بذكر أمرين.
أولا : إثبات أن لهذا الكون إلهاً قادراً يفعل ما يشاء.
ثانيا : إثبات البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال من ثواب وعقاب. وهذا سيأتي ذكره في الآية اللاحقة.
إن ربكم أيّها الناس، هو الذي خلقَ هذا الكونَ بأسرِه في ستّ مراحل تتضمن المرحلةُ منها أحقاباً وأزمنة ليست كأيّامنا هذه، قد تم في كّلٍ منها طور من أطوار الخلق، ثم استوى على عرشه وهيمَنَ بعظيم سلطانه ودبّر أمورَ مخلوقاته.
فليس لأحدٍ سلطانٌ من الله من شيء، ولا يستطيع أحد من خلقه أن يشفع لأحدٍ إلا بإذنه.
ذلكم الموصوفُ بالخلق والتقدير والحكمة والتدبير هو الله ربكم وولي نعمتكم، فاعبُدوه، وصدِّقوا رسوله، وآمنوا بكتابه.
أتجهلون هذا الحق الواضح فلا تتذكرون نعمة الله، وتتدبرون آياته الدالة على وحدانيته.
القسط : العدل.
حميم : حار شديد الحرارة.
في هذه الآية ذكر الأمر الثاني وهو : إثبات البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال من ثواب.
كما بدأ الله الخلقَ فإليه مرجعُكم، ومرجع المخلوقات كلها. لقد وعد الله بذلك وعداً صادقاً لا يتخلّف... إنه بدأ الخلق بقدرته، وسيعيده بقدرته بعد فنائه.
﴿ لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط ﴾.
سوف يعيدهم الله من أجل أن يثيب المطيعين بعدْله التام.
وأما الكافرون فلهم شراب في جهنم شديد الحرارة يقطّع أمعاءَهم، وعذابٌ شديد جزاء أعمال الكفر والعناد.
الضوء والضياء : النور. والضوء أقوى من النور، لأن الضوء من الشمس ذاتها، والنور في القمر مستمد من الشمس.
قدّره منازل : جعله يتنقل بينها وهي ثمانية وعشرون منزلا.
بعد أن ذكر الله الآيات الدالةَ على وجوده، ومنها خلقُ السماواتِ والأرض على ذلك النظام المحْكَم، ذَكَر هنا أنواعاً من آياته الكونية الدالة على ذلك. وهو تفصيلٌ لما تقدّم وبيان له على وجه بديع وأسلوب عجيب.
إن ربكم هو الذي خلق السماواتِ والأرضَ وهذا الكونَ العجيب، وفيه جعل الشمس تشع ضياء، والقمر يرسل نورا.
وجعل للقمر منازلَ عددُها ثمانية وعشرون يتنقل فيها، فيختلف نوره تبعاً لهذه المنازل، وذلك لتستعينوا به في تقدير مواقيتكم، وتعلموا عدَد السنين والحساب، فتحسِبوا الأشهرَ والأيام وتضبطوا فيها مواعيدَكم وعباداتكم ومعاملاتكم.
وما خلق الله ذلك إلا بالحكمة، وهو هنا يبيّن الدلائل ويبسط الآياتِ الدالةَ على ألوهّيته وكمالِ قدرته لِقومٍ يتدبرون بعقولهم.
وقد قررت هذه الآيةُ الحقيقةَ العلمية التي لم يصل إليها العلم إلا أخيراً، وهي أن الشمس جرم ملتهب، ومصدرُ الطاقات، ومنها الضوء والحرارة، بينما القمر جِرم مظلم غير ملتهب. أما النور الذي يبدو منه فهو مستَمدٌّ من الشمس. ولذا عبّر الله تعالى عن الشمس بأنها ضِياء، يعني مصدراً للضوء، وأن القمر نورٌ منير فقط. كذلك أشارت الآيةُ إلى حقيقة فلكية، وهي أن القمرَ يدور حول الأرض، فيحتل مكاناً خاصّا بالنسبة لها في كل يوم. وهو يُتم دورتَهُ في الشهر القمري، وبه تُعلم السنة القمرية. وعلى ذلك يمكن بطريق الرؤية الحِسْبَةُ لِمنازله ومعرفة السنين وحساب الأشهر.
قراءات :
قرأ ابن كثير برواية قنبل : ضِئاء بالهمزة. والباقون بالياء.
وقرأ ابن كثير وأهلُ البصرة وحفص :«يفصّل الآيات » بالياء والباقون :«نفصل » بالنون.
إن في تعاقب الليل والنهار واختلافهما بالزيادة والنقصان، وفي خلق السماوات والأرض وما فيها من الكائنات، لدلائلَ عظيمةً وبراهينَ بيّنة على وجود الصانع، وألوهيته، وقدرته لقومٍ يتّقون مخالفةَ سُننه تعالى.
وتشير هذه الآية إلى حقيقة مشاهَدة، وهي اختلاف طول الليل والنهار على مدار العام في أي مكان على الأرض، وكذلك تعاقُب النهار والليل وكون النهار مبصراً، والليل مظلما. وتفسير ذلك أساسه دورانُ الأرض حول محورها وحول الشمس. وكل هذه دلائلُ على قدرة الخالق المبدِع، والعلمُ بها لم يكن البتّةَ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على أنه وحيٌ من الله إليه.
لا يرجون لقاءنا : لا يريدون، لا يأملون، لا يتوقعون.
غافلون : ناسون، الغفلة النسيان.
إن الذين لا يتوقّعون لقاءَ الله في اليوم الآخر، إذا اعتقدوا أن الحياةَ الدنيا هي منتهاهم ليس بعدها حياة، فقَصَروا كل همِّهم على الحصول على أغراضهم منها، واطمأنوا إلى ذلك، ولم يعملوا لما بعدها، والّذين غفلوا عن آيات الله الدالة على البعث والجزاء.
أولئك مأواهمُ النارُ بما كانوا يكسِبون.
ذلك جزاءُ الفريق المنحرِف الضال، أما الفريق المقابلُ وهم الذين آمنوا إيماناً صحيحا، وعملوا الصالحات في دنياهم بمقتضى هذا الإيمان، فإن ربهم يثبتهم على الهداية، ويُدخلهم يوم القيامة جناتٍ تجري الأنهار خلالها، يتنعمون خالدين فيما أبدا.
آخر دعواهم : آخر دعائهم.
ليس في دار النعيم هموم ولا شواغل، فهم يتلذّذون بالدعاء إلى الله وتسبيحه وتنزيهه عما كان يقوله الكافرون في الدنيا، ويناجونه بقولهم : سبحانك اللهُمّ، ويحيّي بعضهم بعضا بالسلام، فهي تحية المؤمنين.
وآخرُ كل دعاءٍ يناجون به ربَّهم، ومطلب يطلبونه من إحسانه وكرمه قولهم :﴿ الحمد رب العالمين ﴾ على توفيقه إياهم بالإيمان وفوزهم برضوانه عليهم.
الطغيان : مجاوزة الحد في الشر.
يعمهون : يترددون في حيرتهم وضلالهم.
لو أجاب اللهُ ما يستعجِلُ به الناسُ على أنفسٍهم من الشرّ مثلَ استعجالِهم لِطلبِ الخير لأَهَلَكَهُم جميعا، ولكنّه يتلطّف بهم، فيرجئُ هلاكَهم، انتظاراً لما يظهر منهم حسب ما علمه فيهم، فتتضح عدالتُه في جزائهم.
وفي هذه الآية جواب لمشركي مكة الذين قالوا : اللهمّ إن كان ما يقولُ محمد حقّا في ادّعاء الرسالة فأَمطْر علينا حجارة من السماء.
لقد استعجلوا وقوعَ الشر، كما يستعجلون الخير، ولكنّ الله أخّرهم إلى ما أراده.
إننا ندعُ الذين لا يتوقّعون لقاءَنا فيما هم فيه من طغيان في الكفر والتكذيب، يتردّدون فيه متحيّرين لا يهتدون سبيلاً للخروج منه.
قراءات :
قرأ ابن عامر ويعقوب :«لقَضى إليهم أجلهم » بفتح القاف والباقون «لقُضي إليهم أجلهم » بضم القاف.
وإذا أصاب الإنسانَ ضررٌ في نفسه أو مالِه أو نحوِ ذلك أحسَّ بضعفه، ودعا ربَّه على أي حال من أحواله : مضجِعاً لجنْبه، أو هو قاعد، أو قائم على قدميه، حائراً في أمره، دعاه أن يكشف ما نزلَ به من مِحنته.
فلما استجاب الله له، فكشف عنه ضره وأزال عنه السوء، انصرف عن جانبِ الله، ومضى في طريقِه واستمرَّ على عصيانه ونسي فضلَ الله عليه، كأن لم يصبْه ضرر، ولم يدعُ الله ليكشفَه عنه.
وكمثلِ هذا المسْلك زيَّن الشيطانُ للمشركين من طغاةِ مكّة وغيرِهم ما كانوا يعملون من سوءٍ وكفرٍ وعناد، وما اقترفوه من باطل.
القرون : جمع قرن ويطلق على كل مائة سنة، وفي كتب اللغة اختلاف كبير في تحديده.
بيّن هنا ما يجري مجرى التهديد، وهو أنه تعالى يُنزل بهم عذابَ الاستئصال كما حدث للأمم الغابرة قبلهم حتى يكون ذلك رادعاً لهم عن هذا الطلب. ولقد أهلكْنا كثيراً من الأمم السابقة قبلكم بسبب كفِرهم حين جاءتهم رسُلهم بالآيات الواضحة على صِدق دعوتِهم إلى الإيمان، وما كان في عِلم الله أنهم سيؤْمنون، لإصرارهم على الكفر والعصيان. فاعتبروا يا كفّارَ قريش، فكما أهلكنا مَن قبلكم، سنجزي المجرمين بإهلاكهم.
خلائف : جمع خليفة وهو من يخلف غيره.
ثم جعلناكم يا أمة محمد، خلفاء الأرض تعمرُونها من بعدِ هؤلاء السابقين، لنختبركم ونرى ماذا تعملون في خلافتكم فنجازيكم به بمقتضى سُنّتنا فيمن قبلكم. وهذا واضح في أن هذه الخلافة منوطةٌ بالأعمال الصالحة والاستقامة والعدل والإحسان، حتى لا يغترَّ إنسان بما سيناله من مُلك أو ولاية. وهذا كما قال تعالى :﴿ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ [ النور : ٥٥ ].
من تلقاء نفسي : من عند نفسي.
وإذا تتلى على هؤلاء المشركين آياتُنا الواضحة، قال لك يا محمد، الكافرون الذين لا يتوقّعون لقاءَنا ولا يخافون عذابَ الله : أحضِر لنا كتاباً غير القرآن، أو بدِّلْ ما فيه مما لا يُعجبنا ولا يخالفُ دينّنا ومعتقداتِنا الوثنية.
قل لهم أيها الرسول : لا يمكنني أن أُغير أو أبدل من عندي ولا يجوز لي ذلك، وما أنا إلا متَّبعٌ ومبلّغٌ ما يوحى إلي من ربي، إني أخاف إن خالفتُ ربي عذابَ يومٍ عظيمَ الشأن هو يوم القيامة.
لبثت فيكم عمراً : مدة من الحياة.
قل لهم، أيها الرسول : لو شاءَ اللهُ أن لا يُنزل عليَّ قرآناً من عنده، وأن لا أبلّغكم به، ما أنزله، وما تلوته عليكم، ولا أعلمكم اللهُ به.. لكنه نَزَل، وأرسلني به، وتلوتُه عليكم كما أمرني.
وقد مكثتُ بينكم زمناً طويلا قبل البعث لم ادَّعِ فيه الرسالة، ولم أتلُ عليكم شيئا، وأنتم تشهدون لي بالصدق والأمانة.
أفلا تعقِلون أن مَن عاش بينكم أربعين سنةً لم يقرأ كتابا ولم يلقَّن من أحدٍ علما، ولم يمارس لأساليب البيان من شعرٍ ونثر، لا يمكنه أن يأتَي بمثلٍ هذا القرآن المعجِز، فاعقِلوا الأمور وأدركوها.
قراءات :
قرأ ابن كثير :«ولأدراكم به » والباقون :«ولا أدراكم به ».
إن شر أنواعِ الظلم والإجرام افتراءُ الكذب على الله، والتكذيبُ بآيات الله التي جاء بها رسوله.
لن يفوز الذين اجترموا الكفر وافتروا على الله الكذب عندما يلاقون ربهم.
بعد أن بيّن الله في الآيات السابقة أن المشركين طلبوا أن يأتي محمد بقرآن غير هذا أو تبديله، لأن فيه طعناً على آلهتهم، وتسفيه آرائهم في عبادتها، نعى عليهم هنا عبادة الأصنام وبين حقارة شأنها، إذ لا تستطيع ضرا ولا نفعا، فلا يليق بالعاقل أن يعبدها من دون الله.
إن هؤلاء القوم يعبدون أصناما لا تملك لهم نفعا ولا ضرا.
ويقولون : إن هذه الأصنام تشفع لنا عند الله في الآخرة.
قل لهم أيها الرسول مبينّا لهم كذبهم، وافتراءهم على الله : هل تخبرون الله بشيء لا يعلم له وجوداً في السماوات ولا في الأرض ! ؟ ما الذي تزعمون !
تنزّه ربُّنا وعلا علواً كبيرا عن الشريك، وعما تزعمون بعبادة هؤلاء الشركاء.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«عما تشركون » بالتاء، والباقون «عما يشركون » بالياء.
بعد أن أقام الأدلة على فساد عبادة الأصنام، ذكر هنا ما كان عليه الناس من الوحدة في الدين، ثم ما صاروا إليه من الاختلاف والفرقة. وقد كان الناس أمةً واحدة على الفِطرة، والفطرة في أصلها كانت على التوحيد، ثم بعث الله إليهم الرسل لإرشادهم وهدايتهم. فاختلفت نزعاتهم، منهم من غلب عليه الخير، ومنهم من غلب عليه الشر. وقد اقتضت مشيئة الله أن يُمهِلهم جميعا إلى أجَل يستوفونه، وسبقت كلمته بذلك لحكمة يريدها، ولولا ذلك لعجَّل لهم الهلاك بسبب الخلاف الذي وقعوا فيه.
ويقول هؤلاء المشركون : هلاّ أُنزل على محمد معجزةٌ غير القرآن تُقْنعنا بصدق رسالته كآيات الأنبياء السابقين الذين يحدّثنا عنهم ! !
ومعنى هذا أنهم ما زالوا غير مدركين طبيعة الرسالة المحمدية، من حيث أنها ليست معجزةً وقتية تنتهي بانتهاء جيلهم، بل معجزة دائمة وعامة تخاطب الناس جميعا جيلا بعد جيل. ولذلك أجابهم جوابا فيه الإمهال والتهديد : قُل لهم أيها الرسول : إن نزول الآيات غيبٌ، ولا يعلم الغيبَ إلا الله، فإن كان القرآن لا يقنعكم فانتظروا قضاء الله بيني وبينكم في ذلك، وأنا معكم من المنتظرين.
روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال :
( ما من نبي إلا وقد أُعطيَ من الآيات ما مثله آمنَ عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُه وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجوا أن أكونَ أكثرَهم تابعاً يوم القيامة ).
أصل الذوق : إدراك الطعم بالفم، ومعنى «أذقنا الناس رحمة » : أعطيناهم صحة ومالا ونعمة.
المراد بمكر الله : تدبيره الخفي.
بعد أن ينتهي الكتاب من عرض ما يقول المشركون وما يعترضون به ويطلبون، يعود إلى الحديث عن بعض طبائع البشر، حين يذوقون الرحمةً والنِعم بعد الضّرِ، كما تحدّث من قبل عنهم حين يصيبهم الضرُّ ثم ينجُون منه. ويضرب لهم مَثَلاً مما يقع في الحياة بصدق ذلك.
عجيبٌ أمرُ هذا الإنسان لا يذكُر اللهَ إلا ساعة العسرة، فإذا أنعمنا على الناس من بعد شدةٍ أصابتْهم في أنفسهم أو أهليهم وأموالهم، لم يشكروا الله على ما أنعمَ به، بل تجدهم يقابلون ذلك بالإصرار على التكذيب والكفرِ بالآيات.
قل لهم أيها الرسول : إن الله أقدرُ على التدبير وإبطال ما يمكرون، وأن الحَفَظَةَ من الملائكة الموكّلين بكم يكتبون أعمالكم سيحاسبكم الله عليها ويجازيكم بها.
قراءات :
قرأ يعقوب :«ما يمكرون » بالياء، والباقون «ما تمكرون » بالتاء.
الفلك : السفن يطلق على الجمع والواحد.
بريح طيبة : موافقة، مريحة سهلة.
ريح عاصف : شديدة مهلكة.
أحيط بهم : هلكوا.
ثم ضرب الله مثلاً من أبلغِ أمثال القرآن الكريم في صورة حيَّة كأنها واقعةٌ يشاهدها الناس، وتتبعها المشاعر ليَظْهَر لهم بهذا المثَلِ ما هم عليه فقال :
﴿ هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر... ﴾ الآية.
إن الله الذي تكفُرون بِنِعمِه وتكذّبون بآياته، هو الذي وهبكم القدرةً على السَّير والسعي في البر مشاةً وركبانا، وفي البحر بما سخّر لكم من السفُن التي تجري على الماء والطائرات التي تسير في الهواء. حتى إذا كنتم في الفلك التي سخّرها لكم، وجَرَت بكم تدفعُها ريح طيّبة اطمأننتم إليها وفرحتم بها، هبّت ريح شديدة أثارت عليكم الموجَ من كل جانب، وأيقنتم أن الهلاكَ واقع لا محالة، ولا تجدون ملجأً غيرَ الله. عند ذلك تدعونه مخِلصين له الدّعاء موقنين أنه لا منقذَ لكم سواه، ومتعهدين بأن تكونوا من الشاكرين إن أنجاكم من هذه الشدة.
قراءات :
قرأ ابن عامر. «ينشركم » بالنون والشين. والباقون «يسيركم » بالياء والسين والياء المشددة.
هذه تكملة للصورة. فلما أنجاهم اللهُ مما تعرّضوا له من الشدّة والهلاك، نقضُوا عهدَهم، وعادوا يبغون في الأرض ويفسدون بغير الحق.
وبعد أن حكى المثل في ذلك المشهد الرهيب خاطب البغاة في أي مكان كانوا وفي أي زمان وُجدوا فقال :
﴿ يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ... ﴾الآية.
أيها الناقضون للعهد، إن عاقبةَ بغيكم وظلمكم سترجِع عليكم وحدَكم،
أما ما تحصُلون عليه من ظلمكم هذا فهو مجرد متاع دنيوي زائل، ينقضي بسرعة، ثم تعودون إلى الله فيجزيكم بأعمالكم التي اقترفتموها.
والحق، أن البغي، وهو أشدّ أنواع الظلم، يرجع على صاحبه، لما يولّد من العداوة والبغضاء بين الأفراد، ولما يوقد من نيران الفتن في الشعوب.
روى الإمام أحمد والبخاري عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاثٌ هنّ رواجع على أهلها : المكر، والنكث، والبغي ) ثم تلا :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ ﴾. ﴿ وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ [ فاطر : ٤٣ ] ﴿ ومَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ ﴾ [ الفتح : ١١ ].
الزخرف : الزينة وكمال حسن الشيء، وزخرف الأرض ألوان نباتها. كأن لم تغنَ بالأمس : كأن لم تكن مأهولة.
لما كان سببُ بغي الناس في هذه الدنيا هو إفراطُهم في حبّها، والتمتع بزينتها وما يجنون منها، ضَرب اللهُ بذلك مثلاً يَعْزِف بفضله العاقلُ عن الغرور بها، ويدفع إلى الكف عن الظلم والفساد.
شبّه اللهُ حال الحياة الدنيا في روعتها وبهجتها، بماء أنزلَه من السماء، فاختلط به نباتُ الأرض مما يأكلُه الناس والحيوان، فيزدهر ويُثمر، وتزدانُ به الأرض نضارةً وبهجة، حتى إذا بلغتْ هذه الزينةُ تمامها، وأيقن أهلُها أنهم ملكوها وقَدَروا على الاستمتاع بثمارِها وخيراتها، أتاها أمرُ الله فجأة، فباتت كالأرض المحصودة التي قُطع زرعها ولم يبقَ منه شيء.
إننا بالأمثال الواضحة، نبين الآيات ونفصل ما فيها من الأحكام لقوم يتفكّرون ويعتبرون ويعلمون أن الدنيا زائلةٌ وأن متاعها قليل.
دار السلام : الجنة.
إن الله يدعو الناسَ جميعاً إلى العمل الصالح والإيمان الصادق ليدخُلوا الجنة، وهو يهدي من يشاء إلى الطريق الموصل إليها وهو الإسلام.
لا يرهق وجوههم : لا يغشيها ولا يغطيها.
قتر : دخان ساطع.
الذلة : الهوان.
بعد أن بيّن الله تعالى في المثل الذي ضربَه غرور المشركين الجاهلين بمتاع الدنيا الزائل، ودعا الناس جميعا إلى نشدان السعادة الأبدية، عقّب هنا ببيان حال المحسنين والمسيئين، وما أعدّ لكلٍ منهم في الآخرة فقال :
للذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا، المنزلة الحسنى في الآخرة وهي الجنة، ولهم زيادة على ذلك فضلاً من الله وتكريما، كما قال تعالى :
﴿ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ ﴾ [ النساء : ١٧٣ ]، [ النور : ٣٨ ]، [ فاطر : ٣٠ ]، [ الشورى : ٢٦ ].
وقد فسّر تلك الزيادة عدد من الصحابة والتابعين برؤية الله، روى ذلك الإمام أحمد في مُسْنَده، ومسلمُ في صحيحه.
لا يغشى وجوههم كآبة من هّمٍ أو ذُل، وهؤلاء هم أهل الجنة ينعمون فيها دائما.
الذلة : الهوان.
العاصم : المانع.
أما الذين لم يستجيبوا لدعوة الله، فكفروا وعصَوا أمر ربهم، فسيُجْزَون بمثل ما عملوا من سوء.
وتغشاهم ذلة الفضيحة والهوان، وليس لهم مانع يمنعهم من عذاب الله.
وجوهُهم مسودّةٌ عليها الغمُّ والكآبة كأنما أُسِدل عليها سوادٌ من ظلمة الليل، أولئك أهلُ النار هم فيها خالدون.
قراءات :
قرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب :«قطْعا » بسكون الطاء والباقون «قِطَعا ».
فزيلنا بينهم : فرقنا وميزنا بينهم.
ثم بيّن الله ما ينال المشركين يوم الحشْر من التوبيخ والخزي.
اذكُر أيها الرسول هول الموقف يوم نجمعُ الناس كافة، الذين أحسَنوا والذين أساءوا، ثم نقول لمن أشرك منهم : الزَموا مكانكم أنتم وشركاؤُكم لا تبرحوه حتى تنظُروا ما يُفعل بكم.
ففرّقنا بين المشرِكين والشركاء ووقعتْ بينهم الفرُقة.
﴿ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ﴾.
أيْ تبرّأ الشركاء من الذين عبدوهم، وقالوا لهم : إنكم ما كنتم تعبدوننا، بل كنتم تعبدون أهواءكم وشياطينكم.
تكفينا شهادةُ الله، واللهُ يعلم أنّنا ما أمرنْاكم بذلك، وما أردنا عبادتكم لنا، ولا نعلم بها أبدا.
هنالك في موقف الحساب تُختَبَر كلُّ نفسِ فتعلم ما قدّمت من خيرٍ أو شرٍ وتلقى جزاءه، وأُرجِعوا إلى الله ربِّهم الحق، وتكشَّف الموقفُ عن ربِّ واحدٍ يرجع إليه الجميع، ولم يجد المشركون شيئاً مما كانوا يفترونه على الله.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«هنالك تتلوا » بتاءين من التلاوة يعني تقرأ ما عملت، أو تتلوا تتبع عملها فيقودها إلى الجنة أو إلى النار.
بعد عرضِ يوم الحشر وما فيه، وكيف تُكشَف الأعمال وتَسقُط الدعاوي والأباطيل، يؤكد الله هنا قدرته، وأنه مالكُ كلّ شيءٍ، يدبر الأمر في هذا الكون، ويسأل : كيف بعد هذا كله يعدِلون عن عبادته ! !
قل لهم أيها الرسول : من الذي يأتيكم بالرِزِق من السماء بإنزال المطر، ومن الأرض بما تُنبته من شتّى أنواع النبات والثمر ؟
من الذي يمنحُكم السمعَ والبصرَ، وأنتم بدونهما لا تدرون شيئا ! ! وقد خصّ هاتين الحاسّتين، لأنهما أهم الحواس.
من ذا الذي بيده أمرُ الموت والحياة، فيخرج النباتَ الحيَّ من الأرض الميتةُ، ويُخرِج الميِّتَ من الحيّ فيما تعرِفون من المخلوقات وما لا تعرفون ! ؟.
من الذي يصرّف جميع أمور هذا الكون بقدرته وحكمته ؟.
وهم يجيبون عن هذه الأسئلة الخمسة بأن فاعلَ هذا كلّهِ هو الله وحدَه، فقل لهم أيها الرسول : إذنْ، أفلا تخافونه وتتقون سخطه وعذابه، وتتركون عبادة غيره وترجعون إليه ! !
فأنى تصرفون : كيف تعدلون عن عبادة الله.
إن المتّصف بكل تلك الصفاتٍ السالفة هو الله المربّي لكم بِنِعمه والمدبّر لأموركم، وهو الحقُ الثابت بذاتِه، والذي تجب عبادتُه دون سواه.
ليس بعد الحق من توحيد الله وعبادته إلا الضلال، وهو الشِرك بالله وعبادة غيره، فكيف تتحوّلون عن الحقّ إلى الباطل ! ؟
كما تحقّقت ألوهيةُ الله ووجبتْ عبادتُه، حقَّ قضاؤه على الذين خرجوا وتمردوا على أمرِه، بأنهم لا يؤمنون... لأن الله تعالى لا يهدي إلى الحقّ إلاّ من سلَكَ طريقه المستقيم.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر :«حقت كلماتُ ربك » بالجمع، والباقون :«كلمة » كما هو في المصحف.
أنى تؤفكون : كيف تُصرفون وتعدِلون عن عبادة الله.
ثم أقام الله الحجَّةَ على حقيقة التوحيد وبطلانِ الشرك بما هو من خصائصه تعالى من بدء الخلق وإعادته، قل لهم أيها الرسول : هل مِن معبوداتِكم مَن يستطيعُ أن ينشئ الخلقَ ثم يعيدُه بعد فنائه ؟ سيعجِزون عن الجواب، فقل لهم : اللهُ وحده يفعل ذلك، فكيف تنصرفون عن الحق الواضح والإيمان بالله ! !
وهذا ضربٌ آخر من الحُجّة أقامه الله تعالى دليلاً على توحيده وبطلان الإشراك به، وقد جاء بطريق السؤال للتوبيخ وإلزام الخصم بالحجة.
أيها الرسول، قل لهؤلاء المشركين : هل من هؤلاء الذين عبدتموهم من يستطيع التمييز بين الهدى والضلال، فيرشد سواه إلى السبيل الحق ؟
إن الله وحده يفعل ذلك.
هل القادرُ على الهداية إلى الحق أَولى بالاتباع والعبادة أم الذي لا يستطيع أن يهتدي في نفسه، ولا يهدي غيره إلا إذا هداه الله ! !
ما الذي جعلكم تنحرفون حتى أشركتم هذه الأصنامَ وغيرها في العبادة مع الله ! كيف تحكمون بجواز عبادتهم وشفاعتهم عنده وتؤمنون بالخرافات، رغم الأدلة الواضحة على فسادها !
قراءات :
كلمة يهدي : جاءت ثلاثة مرات «يَهدي » بفتح الياء وسكون الهاء وكسر الدال، والرابعة :«أمّن لا يهدِّي » بفتح الياء وكسر الهاء والدال المشددة. وهذه قراءة حفص ويعقوب كما هي بالمصحف ومعناها يهتدي.
وقرأ ابن كثير وورش عن نافع وابن عامر :«يهدي » بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. وقرأ أبو بكر :«يهدي » بكسر الياء والهاء وتشديد الدال.
وما يتبع أكثرُ المشركين في معتقداتهم إلا ظنّاً لا دليل عليه، والظنّ لا يفيد ولا يغني عن العلم الحق أي شيء.
إن الله عليم بما يفعله رؤساء الكفر وأتباعهم وسيجازيهم على ذلك.
وفي هذا تهديد لكل من يتبع الظن في أمرٍ من أمور الدين.
لا يصحُّ ولا يُعقل أن يفتريَ هذا القرآنَ أحد، لأنه في إعجازه وأحكامه لا يمكن أن يكون من عند غير الله، لما فيه من علوم عالية، وحِكم سامية، وتشريعٍ عادل، وآداب اجتماعية وإنباء بالغيب من الماضي والمستقبل، وإنما هو مصدّقٌ لما سبقه من الكتب السماوية، فيما جاءت به من الحق.
وهو مفصِّلٌ وموضِّح لما كُتب وسَبَق من الكتب السماوية، فهو لا شك منزلٌ من عند الله رب العالمين.
هكذا بيّن الله تعالى أنّ القرآن أجلُّ من أن يُفترى، لِعجزِ الخلْق عن الإتيان بمثله، ثم انتقلَ إلى حكاية زعْمِ المعاندِين المشركين الذين قالوا : إن محمّدا قد افتراه، بل يقول هؤلاء المشركون : إن محمّداً اختلقَ هذا القرآنَ من عنده، فقل لهم أيها الرسول : إن كان هذا القرآنُ من عملِ البشَر، فأتوا أنتم بسورةٍ واحدة مماثلةٍ له، واستعينوا على ذلك بمن تشاءون من دونِ الله، إن كنتم صادقين فيما تزعمون.
وهذا التحدي قائم إلى الآن، وقد عجَزَ عنه الأوّلون والآخرون، وسيظل ثابتا إلى أبد الآبدين.
لقد سارَعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبّروا ما فيه، أو يقفوا على ما احتوى عليه من الأدلة والبراهين والحقائق.
وبمثل هذه الطريقة في التكذيب من غير علم، كذَّب الذين قبلهم من مشركي الأمم رسلَهم بما لم يحيطوا بعلمه قبل أن يأتيهم تأويله، فانظر أيها الرسول الكريم، كيف كان عاقبة الظالمين، وما آل إليه أمر المكذبين السابقين كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
بعد أن بين الله أن المشركين كذّبوا بالقرآن قبل أن يأتيهم تأويله أو يحيطوا بعلمه، ذكر هنا كيف يكون حالُهم بعد أن يأتيهم التأويل، إذ سينقسمون فريقين : فريق يؤمن به وفريق يستمر على كفره وعناده.
من هؤلاء المعانِدين من يؤمن بالقرآن بعد أن يفطَنَ إلى ما فيه، ومنهم من سيظل يعاند ويكابر فيصَر على الشرك ويستمر عليه، والله تعالى أعلم بهؤلاء.
وإن أصرّوا على تكذيبك بعد كل هذه الأدلة، فقل لهم : إن لي جزاء عملي، ولكم جزاءُ عملكم، أنا مستمر في دعوتي، وأنتُم لا تؤاخَذون به، وأنا بريء مما تعملون.
من هؤلاء مَنْ يستمع إليك بآذانهم فقط حينَ تدعوهم إلى الله، أما قلوبهم فقد أغلقت وأمَّا عقولهم فقد غابت، فهل تقدر على إسماع الصمّ ! ! وإنهم لا يعقِلون ولا يفهمون.
ومنهم من يتجه نظرهُ إليك حين تقرأ القرآن، فيرى دلائلَ نبوَّتِكَ واضحة، لكنهم كالعميان الذين لا يبصِرون، إن نفوسهم قد انصرفت عن استعمال عقولهم وأنت لا تستطيع هداية العمي.
لقد سهّل تعالى للناس كلَّ أسباب الهداية بإرساله الرسُل، وهو لا يظلم أحدا، لكن الناس بكفرهم واتّباع أهوائهم يظلمون أنفسهم بصدّهم وعدم اتباع الحق الموصِل إلى السعادة.
أنذرْهم أيها الرسول، يومَ يجمعُهم الله للحساب، وقل لهم إن هذه الدنيا التي غرّتهم بمتاعها الزائل، لهي قصيرة الأمد وستزول بموتهم.
وفي يوم القيامة سيقدّرون قصرها بساعة من النهار، ويتلاومون على ما كانوا عليه من الكفر والضلال. يومئذٍ سيعرفون أن الذين آثروا هذه الحياة السريعة الزوال وكذّبوا باليوم الآخر، قد خسروا السعادة الأبدية ولم يهتدوا إلى طريقها.
قراءات :
قرأ حفص «يحشرهم » بالياء كما هو في المصحف، والباقون «نحشرهم » بالنون.
وإن أريناك أيّها الرسول، وفي أثناء حياتك، بعض ما نعِدُهم من العقاب، من نصرك عليهم، وإلحاق العذاب بهم، أو توفّيناك قبل أن ترى كل ذلك، فلا مناصَ من عودتهم إلينا للحساب والجزاء.
والله تعالى رقيب على كل ما يفعلونه عالم بذلك، وسيجزيهم عليه.
لقد أرسل الله لكل أمةٍ رسولاً فبلّغها دعوة الله. فآمن بعضهم، وكذّب آخرون. وهكذا استوفى الجميع حقهم الذي فرضه الله على نفسه بأن لا يعذِّب قوماً إلا بعد الرسالة. وبعد الإعذار لهم فإن الله يقضي بينهم بالقسط حسب استجابتهم لرسولهم. ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ].
ويقول كفار قريش للرسول الكريم : متى يكون هذا الذي تَعِدُنا به من العذاب إن كنت ومن معك صادقين فيما تؤمنون به ! ؟
قل لهم أيها الرسول : إنّي بَشَرٌ مثلكم، لا أمِلك لنفسي خيرا ولا شرا، إلا ما قدّرني الله عليه.
إن لكل أمةٍ من الأمم فترة حدّدها الله، فإذا جاءت تجدهم لا يستطيعون التأخر عنها، ولا سْبقَها. فإذا كان الرسول الكريم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعاً، فكيف يملكه لغيره، بل كيف يملَك غيره لنفسه ! إن الأمر لله يحقق وعيده في الوقت الذي يشاء، والأجلُ قد ينتهي بالهلاك الماديّ كما وقع لبعض الأمم السابقة، وقد ينتهي بالهلاك المعنوي، أي الهزيمة والضياع. والأمة الإسلامية بانحرافها عن دينها وخلقها قد انهزمت ولا يمكن أن تعود إلى مجدِها وعزها بدون الرجوع إلى الله.
قل أيها الرسول، لهؤلاء المكذبين المستعجلين وقوع العذاب : أخبروني إن وقع بكم عذاب الله ليلاً أو نهاراً، فأيّ فائدة تحصُلون عليها من استعجالكم إياه !، وأي عذاب تستعجلون ؟ عذاب الدنيا، أم عذاب الآخرة ! ؟
ثم إذا حل بكم، هل تؤمنون به حين لا ينفع الإيمان ؟
عند ذاك يقال لكم على سبيل التوبيخ : الآن آمنتم به اضطرارا، وقد كنتم تستعجلونه في الدنيا ! !.
يومئذ يقال للذين ظلموا أنفسَهم بالكفر والتكذيب : يا هؤلاء، الآن ذوقوا العذاب الدائم.
إنكم اليوم لا تُجزون إلا على أعمالِكم في الدنيا، ونحن لن نظلمكم شيئاً.
ويسألونك أيها الرسول، أن تخبرهم عن هذا العذاب الذي تعِدهم به في الدنيا والآخرة، ويقولون : يا محمد، أحقّ أنه سيقع ؟ فقل لهم : نعم، أُقسِم لكم بِربّي إنه حاصلٌ لا شك فيه.
وفي تلك اللحظة من ذلك اليوم لو أن لكل نفس كفَرت بالله جميعَ ما في الأرض لافتدَت به من عذابها لو تستطيع، وذلك لما تراه من عذاب يوم القيامة.
ولما رأوا العذابَ أخفَوا ندمَهم لعجزِهم عن النطق، ولشدة ما دهاهم من الفَزع، ونَفَذَ فيهم قضاءُ الله.
وهم غير مظلومين في هذا الجزاء لأنه نتيجةٌ لما قدّموا في الدنيا.
ثم أتبعَ الله ما تقدّمَ بالدليل على قدرته على نفاذِ حُكمه وإنجاز وعده، فقال.
﴿ ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض ﴾.
فلْيتذكّر من نَسِيَ أو جَهِلَ وغَفَلَ أن الله وحدَه يملك جميع ما في هذا الكون يتصرف فيه كيف يشاء.
ثم أكد ما سَلَف بقوله :
﴿ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
وليعلموا أن وعدَه حق، فلا يُعجِزُه شيء، ولكن أكثرَ الكفار قد غرَتْهم الحياةُ الدنيا فباتوا لا يعلمون ذلك حق اليقين.
ثم أقام الدليلَ على قدرته على ذلك فقال :
﴿ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.
والله تعالى يَهَبُ الحياةَ بعد عدَم، ويسلبُها بعد وجود، ثم إليه المرجِعُ في الآخرة حين يُحييكم بعد موتكم ويحشُركم إليه للحساب والجزاء.
موعظة : نصيحة ووصية بالخير واجتناب الشر.
شفاء لما في الصدور : دواء للنفوس.
بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة على أسس الدين الثلاثة : الوحدانية، والرسالة والبعث، ذكر هنا القرآن الكريمَ وما فيه من مقاصد هامة أجملَها في أمور أربعة :
يا أيها الناس جاءكم على لسانِ الرسول الكريم كتابٌ جامع لكل ما تحتاجون إليه.
١- موعظة تصلح أخلاقكم وأعمالكم.
٢- شفاء لأمراض قلوبكم من الشِرك والنفاق.
٣- الهِداية الواضحة إلى الصراط المستقيم الذي يوصل إلى سعادة الدارين.
٤- ورحمة للمؤمنين من رب العالمين.
قل لهم أيها الرسول : افرحوا بفضلِ الله عليكم ورحمتِه بكم بإنزال القرآن، وبيانِ شريعةِ الإسلام. إن هذا خير من كل ما يجمعه الناس من متاع الدنيا، لأنه هو سببُ السعادة في الدارَين.
وقد نال المسلمون في العصور الأولى بسببه المُلْكَ الواسع والمالَ الكثير، لكنّهم تأخروا الآن لبُعدهم عن القرآن والدين، لانشغالِهم بالدنيا ومتاعها، نسأل الله تعالى أن يردّنا إلى ديننا، ويلهمنا الصوابَ في القول والعمل.
قراءات :
قرأ رويس عن يعقوب :«فلتفرحوا » بالتاء والباقون «فليفرحوا » بالياء. وقرأ ابن عامر ورويس :«تجمعون » بالتاء والباقون «يجمعون » بالياء.
قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين : أخبروني عن الرِزق الذي منحكم الله إياه، حلالاً طيبا، لكنكم جعلتم بعضهَ حراماً وبعضه حلالاً، فلماذا ؟
وكان العرب في الجاهلية يحرّمون على أنفسهِم بعضَ الإبل وغيرها، ويجعلون بعضَها للذكور منهم خاصة. وقد تقدم بيان ذلك في سورة الأنعام.
قل لهم أيها الرسول : إن حقّ التحريم والتحليل لا يكون إلا لِله، فهل أذِنَ لكم بذلك، أم أنكم تكذبون في ذلك ! ؟.
وبعد أن سجل الله تعالى عليهم جريمة افتراء الكذب على الله، بين هنا ما يكون من سوء حالهم وشدة عقابهم يوم القيامة فقال :﴿ وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب يَوْمَ القيامة ﴾.
أيظن أولئك الذين يكذبون على الله أنهم يتركون بلا عقاب على كذبهم وافترائهم ؟ وهذا ينافي العدالة. والله تعالى يقول :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار ؟ ﴾ [ ص : ٢٨ ].
إن الله تعالى قد أنعم على الناس نعما كثيرة من فضله، ولكن أكثرهم لا يشركون الله عليها.
أخرج البخاري والطبراني عن زهير بن أبي علقمة قال :( إذا آتاك الله مالا فليرَ عليك، فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنا، ولا يحب البؤس ولا التباؤس ).
الشأن : الأمر، والحال، والمنزل.
تفيضون فيه : تتوسعون في الحديث.
وما يعزب : ما يغيب.
مثقال ذرة : قدر نملة صغيرة أو ما يرى في الغبار.
الكتاب : اللوح المحفوظ.
وما تكونُ أيّها الرسولُ، في أمرٍ من أمورِك، وما تقرأُ عليهِم من قرآنٍ أو تعمَلُ أنتَ وأمّتك من عملٍ إلا ونحنُ شهودٌ عليه حين تخوضُون فيه.
ولا يغيبُ عن علمٍ ربك شيءٌ ولو كانَ في وزْنِ الذرَّة في الأرضِ ولا في السماء، ولا أصغُر من ذلك ولا أكبر منه، إلاّ وهو معلومٌ في كتابٍ عظيم الشأن.
قراءات :
قرأ الكسائي :«يعزِب » بكسر الزاي. والباقون «يعزُب » بضم الزاي. وقرأ حمزة وخلف ويعقوب «ولا أصغُر من ذلك ولا أكبر » بالرفع، والباقون بفتح الراء.
بعد أن بيّن اللهُ تعالى لعبادِه سعةَ عِلمه وقدرتَهُ مراقبته لعباده، ذكر هنا حال الشاكرين المتقين الذين لهم حُسْنُ الجزاءِ يومَ القيامة.
إن أولياءَ الله الّذين يُخِلصون له بالعبادة ويتوكَلون عليه لا خوفٌ عليهم في الدُّنيا والآخرة، وهم لا يحزَنون على ما فاتَهم من عَرَض الدنيا لأن لهم عندَ الله ما هو أعظمُ من ذلك.
وأولياءُ الله هؤلاء هم الذين صدَّقوا بكل ما جاءَ من عند الله، واتقوا الله حق تقاته
البشرى : الخبر السار، البشارة.
كذلك فإن البشرى لهؤلاء الأولياء بالخير في الدنيا بما وعدَهم اللهُ من نصرٍ وعز، وفي الآخرة بتحقيق وعده بعظيم الجزاء.
لا تغييرَ ولا خُلف في مواعيد ربِّهم، وهذا هو الفوز العظيم.
العزة : الغلبة والقوة.
لا تحزنْ أيها الرسول، لما يقوله المشركون من سُخرية وطعنٍ وتكذيب.
ولا تظنَّ يا محمد أن حالَهم ستدوم، بل إن العزَّة كلَّها لله، والنصرُ بيدِه، وسينصُرك عليهم، وهو السميعُ لما يقولون من تكذيب الحق، كما يعلم بما يفعلون وما يُضمرون، وسيجازيهم على ذلك.
يخرصون : يحزرون ويقولون بلا علم.
اعلموا أيها الناس أن لله وحدَه يخضع كلُّ من في السماوات والأرض، فهو الخالِق وهو المالِك وهو المدبّر.
ثم بين الله أنه لا شريك له أبدا،
إن هؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله، لا يتّبعون شركاءَ له في الحقيقة، بل أوهاماً باطِلة. وليسوا في ذلك إلا واهمين، يخمِّنُون ويحْدِسون بلا عِلم ولا يقين.
والنهار مبصرا : يعني تبصرون فيه.
بعدما نبَّه الله تعالى على انفرادٍه بالقدرة الكاملة، ووجَّه الأنظارَ إلى بعض مجالي تلك القدرة في المشاهدة الكونية، قال :
﴿ هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾.
إن الله تعالى هو الذي خلَق لكم الليلَ لتستَريحوا فيه من عناءِ العملِ والسعي في النهار، كما خلَق لكم النهارَ مضيئاً لتسعَوا فيه إلى مصالِحكم، وفي تعاقب الليل والنهار دلائل بينة لقومٍ يسمعون ويتدبرون.
من سلطان : من حجة أو برهان.
ثم شرع في تفنيد نوع آخر من أباطيلهم،
وقال المشركون : لقد اتخذَ الله ولداً، إن الله منزّه عن ذلك، فهو غني عن اتخاذ الولد، لأن الولد مظهر الحاجة إلى البقاء، والله باقٍ خالد.
ليس لديكم من البراهين ما يؤيّد صحةَ ما تقولون وتفترون.
لماذا تختلقون على اللهِ أمراً لا أساسَ له من الحقيقة.
قل لهم أيها الرسول : إن الذين يكذِبون على الله، ويزعمون أن له ولداً لن يُفلحوا أبدا.
سيكون لهم متاع قليل في الدنيا ثم إلَينا مرجعُهم فنحاسبُهم ونُذيقهم العذابَ الشديد بسبب كفرهم.
النبأ : الخبر له خطر وشأن.
فأجمعوا أمركم : اعزموا عليه من غير تردد.
الغمة : ضيق الأمر الذي يوجب الحزن.
يذكر الله تعالى هنا الأمَم السالفةَ وأخبارَهم مع رسُلهم، وكيف كذّبوهم وعاندوهم، وفي ذلك تسليةٌ للرسول الكريم، وبيانٌ له بأن قومه لم يكونوا بِدْعا في عنادهم، بل سبقهم في مثلِ فعلهم كثيرٌ من الأمم قبلهم. لكن العاقبة كانت على الدوام أن يفوز الرسلُ والمؤمنون.
اقرأ يا محمد، على المشركين قصةَ نوحٍ لما أحسّ كراهيةَ قومه وعداءَهم لرسالته، فقال لهم : يا قومي، إن كان وجودي فيكم لتبليغ الرسالةِ أصبحَ ثقيلاً عليكم، فإنّي مثابرٌ على دعوتي، متوكلٌ على الله في أمري.
فأعِدُّوا أمرَكم واعزموا على ما تُقْدِمون عليه في أمري أنتم وشركاؤكم الذي تعبدونهم. لا تدعوا في عِدائكم لي أَيّ خفاء، ولا تُمهلوني فيما تُريدون لي من سوء إن كنتم تقدرون على ذلك.
قراءات :
قرأ نافع :«فأجمعوا » بوصل الهمزة وفتح الميم. والباقون :«فأجمعوا » بالهمزة وكسر الميم. وقرأ يعقوب :«وشركاؤكم » بالرفع، والباقون «وشركاءكم » بالنصب.
فإن أعرضتُم عن دَعوتي، لم يضرّني ذلك، لأني ما سألتُكم أن تدفعوا لي أجراً على ما دعوتكم إليه، بل إن ثوابي على الله وحده، وهو يؤتيني إياه، وقد أمرني أن أُسْلِمَ إليه جميع أمري.
خلائف : يخلفون من مضى.
ومع كل هذه الجهود التي بذلها من أجل هدايتهم، فقد أصرّوا على تكذيبه، فنجاه الله ومن معه من المؤمنين في السفينة، وجعلهم خلفاء في الأرض، وأغرق الكافرين بالطوفان.
فانظر أيها الرسول، كيف كانت عاقبةُ هؤلاء المكذبين لرسولهم، نجّى الله نوحا والذين آمنوا معه واستخلفهم في الأرض على قلّتهم، وأغرق المكذبين وهزمهم على كثرتهم.
نطبع على قلوب المعتدين : نختمها ونغلقها.
ثم أرسلنا من بعدٍ نوحٍ رسُلا آخرين، مبشِّرين ومنذِرين، ومعهم الدلائلُ والمعجِزات لكن أقوامهم رفضوا أن يصدّقوا ويذعنوا، وأصّروا على موقفهم، فلم ينتفعوا بتعاليم الرسل الكرام.
﴿ كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين ﴾.
وعلى مثل هذه الصورة أغلق الله قلوب الكافرين المعتدين عن الإيمان وطبع الباطل عليها، فتحجّرت ولم تعدْ صالحة للهداية أبدا.
الملأ : أشراف القوم.
لتلفتنا : لتصرفنا.
ثم أرسلْنا من بعد أولئك الرسل موسى وأخاه هارون إلى فرعون مصر وخاصّتِه وأشراف قومه، فاستكبروا عن متابعة الرسولين في دعوتِهما، ورفضوا إلا أن يكونوا مجرمين.
وحين ظهر لهم الحقُّ من عند الله على يدِ موسى، قالوا عن معجزته إنّها مجرد سحر مؤكد.
قال لهم موسى مستنكرا : أتصِفُون الحقَّ الّذي جئتكم به من عندِ الله أنه سِحْر ؟ كذبتُم. وثِقوا أنه لن يفوز الساحرون أبدا.
وبعد أن أفحمهم موسى بحجّته كشفوا عن حقيقة الدوافع التي تصدّهم عن الإيمان بالله، ألا وهي الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة، وضَياع مصالحهم.
قال فرعون وقومه لموسى : لقد جئتَ إلينا لتصرِفنا عن دينِ آبائنا وتقاليد قومنا، لكي نصيرَ لكما أتباعاً ويكون لك ولأخيك المُلك والعظَمة والرياسة ! ؟
ولقد كان زعماء قريشٍ يدركون ما في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من صدق وسموّ، وما في عقيدة الشِرك من فساد وخرافات، لكنهم كانوا يخافون على مكانتهم الموروثة ومصالحهم الذاتية، كما خشيَ الملأُ من قومِ فرعونَ مثل ذلك، فقالوا :«وما نحن لكما بمؤمنين ».
وظن فرعونُ أن موسى وأخاه ساحران، والسَحَرةُ عنده كثيرون، فأمر رجاله أن يُحضروا له كل ساحر عظيم في مملكته.
القراءات :
قرأ حمزة والكسائي «بكُلّ سحار » على صيغة المبالغة، والباقون «بُكّلِ ساحر ».
ولما حضرَ السَحَرة ووقفوا أمام القوم لمنازلة موسى قال لهم : هاتُوا ما عندَكم من فنُون السِحْر.
فلما ألقَوا حِبالهم وعصيَّهم وجعلتْ تسعى كأنها الأفاعي،
قال لهم موسى : إن الذي فعلتموه هو السِحر حقا، وهو خيالٌ لا حقيقة فيه، واللهُ تعالى سيُبطِله على يدي، فهو لن يجعلَ عملَ المفسدين صالحاً للبقاء، بل يزيلُه ويمحقه.
قراءات :
وقرأ أبو عمرو :«ما جئتم به آلسحر » بالاستفهام والباقون :«السحرُ ».
ويثّبت الله الحقّ الذي فيه صلاح الخلْق وينصرُه، ولو كره ذلك كل مجرم.
الذرية : النسل.
أن يفتنهم : أن يختبرهم ويبتليهم وهنا معناه أن يضطهدهم.
لعال في الأرض : مستَبدّ.
كان الذين آمنوا بموسى مجرد فئة قليلة من السَحَرة والشّبان، آمنوا على خوفٍ من فرعونَ وزعماءِ قومهم، خشيةَ أن يضطهدوهم ويعذّبوهم ليرتدّوا عن دينهم.
إن فرعونَ مستبدُّ جبّار، غالى وأسرف وتجاوز كل حدّ في الظلم والطغيان.
وقال موسى لمن آمن من قومهَ، ولقد رأى عليهم الخوفَ من الفتنة والاضطهاد : إن كنتُم آمنتم بالله حقَّ الإيمان فتوكّلوا عليه، وسلموا أموركم له، وثقوا بنصره.
فقالوا ممتثلين أمره : على اللهِ وحدَه توكّلنا. ثم دعَوا ربَّهم أن لا يجعلَهم أداةَ فتنةٍ وتعذيبٍ على يد الكافرين.
كذلك دعوا ربهم قائلين : خلِّصْنا يا ربنا برحمتك من أيدي فرعون وقومه الكافرين.
تبوأ المكان : أقام فيه.
وقلنا لهما : اتخِذا لقومكما بيوتاً في مصر تكون مساكنَ وملاجئَ تَعْتَصِمونَ بها ﴿ واجعلوا بيوتكم قِبلَة ﴾ أي متقابلة على جهة واحدة. ﴿ وأقيموا الصلاةَ وبشرّ المؤمنين ﴾، وأدّوا الصلاةَ على وجهِها الكامل، واستبشروا أن يحفظكم الله من فتنة فرعون وأعوانه.
اطمس على أموالهم : أزلها.
واشدد على قلوبهم : ضيّق عليهم.
لمّا يئس موسى من فرعون وأعوانه أن يُرجى لهم صلاح، قال : يا ربّ، إنك أعطيتَ فرعون وخاصّتَه بهجةَ الدنيا وزينتَها من الأموال والبنين والسلطان، لكن عاقبة هذا الغنى والنعيم كانت الإسرافَ في الضلال عن سبيل الحق.
اللهمّ اسحقْ أموالَهم واتركهم في ظُلمةِ قلوبهم، فلا يوفَّقوا للإيمان حتى يروا العذابَ رأي العين.
قارن بين موسى ومحمد، دعى موسى على قومه، ودعا سيدنا محمد لهم.
قال الله تعالى : قد أُجيبتْ دعوتُكما يا موسى وهارون في فرعونَ وأعواِنه، فامضيا لأمري واثُبتا على ما أنتما عليه، ولا تسلُكا سبيلَ الذين لا يعلمون الأمور على وجهِها.
قراءات :
قرأ ابن عامر :«ولا تتبعان » بكسر النون بدون تشديد. وقراءة أخرى :«ولا تتبعان » بسكون التاء الثانية وفتح الباء وتشديد النون. وقرأ الباقون «ولا تتبعان » بتشديد التاء الثانية وكسر الباء وتشديد النون المكسورة.
في هذه الآيات الثلاث خاتمةُ قصة موسى وأخيه هارون مع فرعون، وما كان من تأييد الله لهما، وقوةِ فرعون وقومه. وكانت دولة الفراعنة من أقوى دول العالم في ذلك الزمان.
ولما أنقذْنا موسى وأخاه من بني إسرائيل وقطعوا البحرَ، تعقَّبَهُم فرعونُ وجنوده للانتقام. فلما دخل بنو إسرائيلَ البحرَ انفلَقَ لهم، فكانت فيه الطرقُ والسبل على قدْرِ عددٍ فِرَقِهِم، فساروا فيها آمنين. وأغرى ذلك فرعونَ وجندَه أن يكونوا مِن ورائهم، فلحِقوا بهم. عند ذاك انطبق عليهم البحرُ وكانوا من الغارقين.
ولم يُعرف موضعُ العبور من البحر، ولم يردْ بذلك خبر صحيح.
فلما أدرك الغرقُ فرعونَ قال : آمنتُ بالإله الذي يؤمن به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين.
ولكن، هيهات ! لقد فات الوقت وجاء إيمانك متأخرا.
الآنَ تُقِرّ لله بالعبودية وتستسلم له بالذلّة، أما قد عصيته من قبلُ ؟ بلى، لقد كنت من المفسدين في الأرض الظالمين للعباد يا فرعون، فإيمانك لن يُقبَل.
ننجيك ببدنك : نخلص بدنك بعد غرقك ليراه الناس.
واليومَ نُخرج جثتك من البحر ونعرِضها على الناس لتكونَ عِظَةً وعبرة لمن كانوا يعبُدونك.. ومع كل هذا فإن كثيراً من الناس سيظلّون في غفلة عن البيّنات والأدلة الظاهرة في هذا الكون على قدرتنا.
وقد كان فرعونُ موسى «منفتاح » بن رعمسيس الثاني، وكان خروج بني إسرائيل في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد في عهد الأسرة التاسعة عشرة. وقد عُثر على جثة «منفتاح » هذا في قبر «امنحتب الثاني » وهي موجودة الآن في المتحف المصري. وهذا مصداق لقوله تعالى :﴿ فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَة ﴾ ولم يكن هذا معروفا لأحدٍ في العالم إلى ما بعد نزول القرآن بثلاثة عشر قرنا. وهذا أكبر دليل على أنه من عند الله. وقد أخبرني الدكتور موريس بوكاي أنه أخذ قطعة من الجثة وحللها فوجد أن صاحب هذه الجثة مات غرقاً. وقد زار الأردن وأمضى أسبوعاً وحاضر في الجامعة عن الموضوع نفسه.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«آمنت أنه » بكسر همزة أنه. والباقون :«أنه » بفتح الهمزة. وقرأ يعقوب :«ننجيك » بإسكان النون الثانية. والباقون :«ننجيك » بفتح النون الثانية وكسر الجيم المشددة.
بوأنا : أنزلنا.
مبوأ صدق : منزلا صالحا.
ولقد أسكنّاهم منزلاً مُرْضيا في أرض خصبة طيبة، بعيدين عن الظلم الذي كانوا فيه، أغدَقْنا عليهمُ الرزقَ الوافر من جميع الطيبات.
ولكنّهم حين ذاقوا نعمةَ العزَّة بعد الهوان تفرّقوا واختلفوا، مع أنهم تعلّموا وتبين لهم الحقُّ والباطل ! سيقضي اللهُ بينهم يوم القيامة، ويجازي كلاً منهم بما عمِل.
الخطابُ للرسول الكريم ويقول : إن كنت يا محمد، في شك مما أنزل الله إليك، من هذا القصص أو غيره فاسألْ أهلَ الكتاب... إن لديهم عِلماً يقرأونه في كتبهم، وفيها الجواب القاطع الموافق لما أنزلنا عليك.
ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يشك فيما أُنزِلَ إليه، وقد روى ابن جرير وعبد الرزاق عن قتادة أن الرسول الكريم قال حين نزول الآية :«لاَ أشُكُ ولا أسأل » وإنما كان هذا تثبيتاً للرسول لشدّة الموقف وتأزّمه في مكة بعد حادث الإسراء، وبخاصة أن بعض من أسلموا قد ارتدوا آنذاك، وبعد موت خديجة وأبي طالب، واشتداد الأذى على الرسول وأصحابه.
لقد جاءك الحق الواضح يا محمد بأنك رسولُ الله، فلا تكونَنَّ من الشاكِّين في صحة ذلك.
إياك أن تكون أنت أو أحد من الّذين اتبعوك، من الذين يكذّبون بآياتنا البينات !، إذا ذَاك يحلّ عليك الخُسران والغضب. والخطابُ ههنا للرسول الكريم ولكن المراد به هو وكل من يساوره أدنى شك في صدق رسالته.
إن الّذين سَبَق عليهم قضاءُ الله بالكفرِ لمِا عَلِمَ من عنادِهم وتعصبُّهِم، لا يؤمنون.. وذلك لرسوخهم في الكفر والطغيان.
وحتى لو جئتَهم يا محمد، بكل حجّة واضحة فإنهم لنْ يقتنعوا، بل يظلّوا على ضلالهم، وإلى أن يحلّ بهم العذاب الأليم.
الخزي : الذل والهوان.
إلى حِين : إلى مدة من الزمن.
الرِجْس : العذاب.
بعد أن بيّن الكتاب أن الّذين حقّت عليهم كلمةُ ربك لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، جاء بهذه الآيات الثلاث لبيان سُنن الله تعالى في الأُمم مع رسلهم، وفي خلق البشر مستعدّين للإيمان والكفر، والخير والشر ؛ وفي مشيئة الله وحكمه بأفعاله وأفعال عباده، وبيّن أن قوم يونُس آمنوا بعد كفرهم وانتفعوا بذلك الإيمان.
﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ ﴾.
ولو أن أي قريةٍ من القرى تؤمن لنَفَعَها إيمانُها، إلا قوم يونس. فقد بُعث إلى أهلِ نِينَوى بأرض الموصل، فدعاهم إلى الإيمان بالله وحده وترك ما يعبدون من الأصنام. ولم يستجيبوا له، فأخبرهم أن العذابَ آتيهم قريبا وتَرَكَهم ورحل عنهم. فلما أيقنوا بالهلاكِ آمنوا، فوجدوا النفع لهم، فكشفنا عنهم عذاب الخِزي وما يترتّب عليه، ومتَعناهم في الحياة الدنيا حيناً من الزمن.
ولو أراد اللهُ أن يؤمنَ أهل الأرض كلُّهم لآمنوا، فلا تحزنْ على كفرِ المشركين، فأنت لا تستطيع أن تُكره الناس على أن يؤمنوا بالله.
وقد اقتضت حكمة ربك أن يخلق البشر على هذه الحالة مستعدّين للخير والشر والكفر والإيمان. فليس لك أن تحاولَ إكراههم على الإيمان.
ما كان لنفسٍ ( بمقتضى ما أعطاها الله من الاختيار والاستقلال في الأفعال ) أن تؤمن إلا بإرادة الله ومقتضى سننه في نظام هذا الكون.
فإذا كان كل شيء بمشيئته وتيسيره، فسُنّةُ الله أن يجعل العذاب والغضب على الّذين ينصرفون عن الحجج الواضحة ولا يتدبّرونها.
قراءات :
قرأ أبو بكر : " ونجعل " بالنون، والباقون : " ويجعل " بالياء.
في هذه الآية الكريمة والآيات اللاحقة، وهي في ختام سورة يونس، بين الله تعالى أن مدار سعادة البشَر على استعمال عقولهم في التمييز بين الخير والشر، وما على الرسول إلا التبشير والإنذار وبيان الطريق المستقيم الموصِل إلى السعادة وأن الدينَ مساعدٌ للعقل على حسن الاختيار إذا أحسنَ الإنسانُ النظر والتفكّر في أمر الله.
تدعو هذه الآية وكثير غيرها، إلى العلم بالمشاهَدة والتأمل واستعمال العقل، كما تدعو إلى العلمِ بالكون وما فيه لأنه مُسَخَّر للإنسان، فإن ما في السماوات والأرض حافلٌ بالآيات ولكن الآيات والنذُرَ لا تفيد الّذين لا يؤمنون، لأنهم لم يلقوا بالاً إليها ولم يتدبّروها.
يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام محذِّراً من قومه : هل ينتظر هؤلاء المكذِّبون إلا أن ينالهم من الأيام الشِداد مثلُ ما أصابَ الذين مضَوا من الأم السابقة ! ؟.
قل أيها النبي منذِرا ومهدّدا : إذا كنتم تنتظرون مثلَ ذلك، فانتظروا إنّي معكم من المنتظرين. وهذا تهديدٌ كبير من رب العالمين.
إن سنَّتنا في رسُلنا مع أقوامهم الذين يبلّغونهم الدعوةَ، أن يؤمنَ بعضُهم فيما يصّر آخرون على الكفر. فننجّي رسلَنا والمؤمنين من العذاب ونهلك المكذّبين. هذا وعد حقٌّ علينا لا نُخْلِفُه كما قال تعالى :﴿ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٧٧ ].
قراءات :
قرأ يعقوب :«ثم نُنْجى » بالتخفيف. والباقون بالتشديد «نُنَجِّي ». وقرأ الكسائي ويعقوب وحفص :«ننج المؤمنين » بإسكان النون الثانية وحذف الياء لالتقاء الساكنين، والباقون بالتشديد.
في هذه الآية والتي بعدها أَمر الله بإعلان الدين الإسلامي، وإظهارِ الفارق بينه وبين ما عليه المشركون والمكذّبون من عبادة الأوثان.
قل أيها الناس جميعا : إن كنتم في شك من أن ديني الذي أدعوكم إليه هو الحقُّ، فإن هذا لا يحوِّلني عن يَقيني، ولا يجعلني أعبدُ آلهتكم التي تعبُدونها من دونِ الله، فهو الّذي يملك أجسامكم وأعماركم، وقد أمرني أن أكونَ من المؤمنين به.
وأمُرتُ أن أُقيم وجهي للدين القيم وأتوجّه إلى الله وحدَه، وأن لا أدخُلَ في غِمار الذين أشركوا بالله، بل أبتعدَ عنهم أنا ومن اتّبعني من المؤمنين.
ولا تلجأ بالدعاء والعبادة إلى غير الله مما لا يجلب لك نفعا، ولا ينزل بك ضررا، فإنك إن فعلت ذلك كنتَ من الظالمين وهذا النهي الموجه للنبي عليه الصلاة والسلام هو موجه لأمته.
إن يصبْك الله بضُرّ فلن يكشفَه عنك أحد غيره، وأن يقدِّر لك الخيرَ فلن يمنعه عنك أحد، لأن الله يهبُ الخير من فضله لمن يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم، فلا ييأس أحد من فضله وعفوه.
ختم الله تعالى هذه السورة بهذا البلاغ للناس كافة، وهو إجمال لما تقدم من التفصيل فيها.
بَلِّغْ أيها الرسول، دعوةَ الله إلى الناس كافة، وقل لهم : أيها الناس، لقد أنزل اللهُ عليكم الشريعةَ الحقّة من عنده، فمن شاء أن يهتديَ بها فلْيُسارِع، ومن أصرَّ على ضلاله فإن ضلالَه سيكونُ عليه وحدَه، وما أنا بموكَّلٍ من عندِ الله بأموركم، ولا مسيطرٍ عليكم.
وهذا الختام خطابٌ إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، باتّباع ما أُمر به، والصبر على ما يلقاه حتى يحكم الله بما قدَّره وقضاه، وهو الختام المناسب الذي يلتقي مع مطلع السورة، ويتناسق مع محتوياتها بجملتها على طريقة القرآن الكريم في التصوير والتنسيق.
Icon