ذكر أنها مكية
ﰡ
ذكر أنها مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١)قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ).
يحتمل أن يكون قوله: (المر) كناية عن الأحرف المقطعة المعجمة؛ فيكون قوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) تفسير (المر).
هذا هو الظاهر: أن يقال في كل الحروف المعجمة والمقطعة: أن يكون ما ذكر من بعدها على أثرها كان تفسيرًا لها.
والثاني: يشبه أن يكون قوله: (المر) كناية عن الحجج والبراهين وسائر الكتب؛ كأنه قال: تلك الحجج والبراهين وسائر الكتب - جعلناها آيات القرآن وحججه، وقد ذكرنا القول في الحروف المقطعة فيما تقدم.
ثم اختلف في قوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هو القرآن الذي أنزل.
قَالَ بَعْضُهُمْ: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ): التوراة والإنجيل وسائر الكتب المتقدمة، وقوله: (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هو الحق: القرآن الذي أنزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) هو القرآن والذي أنزل إليك من ربك -أيضًا- هو القرآن، لكنه أخبر أنه منزل من ربك الحق.
وقوله: (الْحَقُّ) يحتمل: هو الحق؛ أي: منزل من اللَّه؛ ليس كما قال أُولَئِكَ إنه ليس من اللَّه؛ إنما يقوله مُحَمَّد من تلقاء نفسه.
ويحتمل: (الْحَقُّ) أي: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) أنه من اللَّه، أو أكثر الناس لا يؤمنون أنه آيات اللَّه وحججه واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ).
قوله: (رَفَعَ) أي: أنشأها مرفوعة؛ لا أنها كانت موضوعة فرفعها؛ ولكن جعلها في الابتداء مرفوعة، وكذلك قوله: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ)، (مَدَّ الْأَرْضَ)، (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)، ونحو ذلك؛ أي: أنشأها مرفوعة ممدودة؛ لا أنها كانت مرفوعها فوضعها، أو كانت منقبضة فبسطها؛ ولكن أنشأها كذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هي بعمد لكن لا ترونها؛ أي: ترونها بغير عمد وهي بعمد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي بغير عمد على ما أخبر؛ ولكن اللطف والأعجوبة بما يمسكها بعمد لا ترى؛ كاللطف والأعجوبة فيما يمسكها بغير عمد؛ لأن في الشاهد لم يعرف؛ ولا قدر على رفع سقف فيه سعة وبعد بغير عمد لا ترى، لكن ما يرفع إنما يرفع بعمد، ترى؛ فاللطف في هذا كاللطف في الآخر.
وفيه دلالة قدرته على البعث؛ لأنه ذكر هذا ثم قال: (لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي: من: قدر على رفع السماء - مع سعتها وبُعدها - بلا عمد؛ لقادر على إعادة الخلق؛ وبعثهم؛ وإحيائهم بعد الموت، بل رفع السماء مع سعتها وبعدها، بلا عمد، أكبر من
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ).
لما لم يفهم من قوله: (سميعٌ عَلِيمٌ)، مدبر المكان؛ وإن كان في الشاهد يفهم منه المكان؛ إذا أضيف إلى المخلوق - لم يجز أن يفهم من استوائه أما يفهم من استواء الخلق.
وبعد فإن في الشاهد؛ إذا قيل: فلان استولى أمر بلدة كذا؛ أو استوى أمره؛ لم يفهم منه المكان، بل فهم منه نفاذ الأمر والسلطان والمشيئة؛ فعلى ذلك لم يجز أن يفهم من اللَّه إذا أضيف إليه المكان.
وأصله: ما ذكرنا فيما تقدم أنه أخبر أنه ليس كمثله شيء؛ فهو في كل شيء؛ وكل وجه؛ لا يشبه الخلق؛ إذ الخلق - في الشاهد - لا يشبه بعضه بعضا من جميع الجهات؛ إنما يشبه بعضهم بعضا بجهة، ثم صاروا جميعًا أشكالا وأشباهًا؛ بتلك الجهة التي وقعت بينهم تشابه؛ فإذًا اللَّه سبحانه وتعالى لما أخبر أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، دل أنه إنما نفى عنه الجهات التي يقع بها التشابه والمثل؛ فهو يخالف الخلق من جميع الوجوه.
وهذه مسألة مذكورة فيما تقدم: اختُلف في العرش: قَالَ بَعْضُهُمْ: العرش: هو الممتحنون بهم، استوى تدبير إنشاء غيرهم من العالم؛ لأنهم هم المقصودون في إنشاء ذلك كله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: العرش: البعث به؛ استوى وتم تدبير إنشاء الخلائق؛ ما لولا البعث يكون إنشاؤهم عبثا باطلا؛ كقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) جعل عدم الرجوع إليه إنشاء الخلق عبثًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: العرش: هو الملك؛ وبه تم ما ذكر، وقيل: هو سرير الملك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) على ما في العقل أنه عن تدبير مدبر خرج؛ وعن علم وحكمة وضع؛ ليس على الجزاف بلا تدبير ولا علم.
ويحتمل: (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ) أي: آيات القرآن أنزلها بالتفاريق؛ لا مجموعة.
(لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ).
هو ما ذكرنا أن فيما ذكر من الآيات والتدبير؛ ورفع السماء بلا عمد؛ دلالة البعث والإحياء بعد الموت.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ) هو كما ذكرنا في قوله: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) ومصير هم وبروزهم؛ وأمثاله. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ... (٣) وقال في آية أخرى: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)، وقال في موضع آخر: (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)، وكله واحد، وقال: (الْأَرْضَ فِرَاشًا)، و (مِهَادًا).
يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم.
(مَدَّ الْأَرْضَ) أي: بسطها وجعل فيها رواسي؛ ذكر أنها بسطت على الماء؛ فكانت تكفو بأهلها وتضطرب؛ كما تكفو السفينة؛ فأرساها بالجبال الثقال؛ فاستقرت وثبتت.
وذُكر أنها مدت وبسطت على الهواء؛ ثم أثبتها بما ذكر من الجبال، ولكن لو كان أنها ما ذكر؛ لكان يجيء ألا يكون بالجبال ثباتها واستقرارها؛ لأن الأرض والجبال من طبعها التسفل والانحدار في الماء والهواء؛ وكلما زيد من ذلك النوع كان في التسفل والانحدار أكثر وأزيد، فلا يكون بها الثبات والاستقرار؛ بل إنما يكون الثبات والاستقرار بشيء من طبعه العلو والارتفاع؛ فيمنع ذلك الشيء الذي من طبعه العلو عن التسفل والانحدار؛ إلا أن يقال: إنها كانت لا تتسفل ولا تتسرب؛ ولكن تضطرب وتميد بأهلها؛ على ما ذكره - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ)، فإن كان
أو ذكر هذا ليعلم لطفه وقدرته؛ حيث أمسكها بشيء من طبعه التسفل والانحدار، وهي في نفسها كذلك؛ ليعلم قدرة اللَّه ولطفه في كل شيء. واللَّه أعلم بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَدَّ الْأَرْضَ).
أي: أنشأها ممدودة؛ لا أنها كانت مجموعة في مكان فبسطها؛ على ماذكر من رفع السماء ونحوه.
(وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنهَارًا).
جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - الأشياء أكثرها بأسباب؛ تعليمًا منه الخلق؛ ليكون ذلك عليهم أهون، وإن كان جعل الأشياء عليه بأسباب وبغير أسباب سواء؛ إذ هو قادر بذاته، يذكر هذا: إما بحق النعم التي أنعمها عليهم؛ من مد الأرض وبسطها؛ وإثباتها بالرواسي التي ذكر؛ وجعل الأنهار فيها ليصلوا إلى الانتفاع بها؛ ليتأدى بذلك شكره، أو يذكر بحق الإخبار عن قدرته وسلطانه؛ لأنه جعل الأرض بحيث لا يدخل فيها شيء؛ فأخبر أنه أدخل فيها الجبال مع كثافتها وعظمتها ليعرفوا قدرته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْهَارًا) أي: وجعل فيها أنهارًا؛ أخبر أنه مد الأرض وبسطها؛ وجعلها مستقرة ثابتة؛ ليستقروا عليها، ثم أخبر أنه جعل فيها أنهارًا؛ لينتفعوا بها من جميع أنواع المنافع، ثم أخبر أنه جعل فيها من كل الثمرات زوجين.
قال بعض أهل التأويل: (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي: لونين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذو طعمين؛ لكن يكون منها ألوان أكثر من لونين: أحمر، وأبيض، وأسود، وأصفر، ونحوه، وكذلك الطعم: يكون حامضا وحلوًا ومرّا ومزًّا، إلا أن يقال: (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ): الطيب والخبيث؛ فلا يكون ثالث؛ وأما اللون؛ فإنه يكون ذا ألوان وذا طعوم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ الذكر والأنثى؛ فهذا يصح إذا أراد به الشجر؛ فمنه ما يثمر ومنه ما لا يثمر؛ فالذي يثمر: هو أنثى، والذي لا يثمر: هو ذكر. وأما على غير هذا فإنه لا يصح.
وأصل الزوجين: هو اسم أشكال وأمثال واسم أضداد؛ ففيه دليل نفي ذلك كله عن
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ).
أي: يذهب ظلمة الليل بضوء النهار؛ وضوء النهار بظلمة الليل، أو يلبس أحدهما الآخر، أو يغطي الليل ما هو بالنهار بادٍ ظاهر للخلق، وبالنهار ما هو مستور خفي على الخلق واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
فيما ذُكِر؛ دلالة البعث والإحياء، ودلالة التدبير والعلم والحكمة، ودلالة الوحدانية.
(لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في آياته وحججه لا لقوم يعاندون آياته ويكابرونها.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
ذكر أن الآيات تكون آيات لهم؛ بالتفكر والنظر فيها؛ واللَّه أعلم؛ لا أن تصير آيات مجانًا بالبديهة.
أو يقول: إن منفعة الآيات تكون لمن تفكر فيها؛ لا لمن ترك التفكر والنظر. والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
دل قوله: (قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ) أن التجاور إنما يذكر ويثبت إذا كانت الأرض قطعًا، وأما إذا كانت الأرض، أرضًا واحدة؛ فإنه لا يقال فيها التجاور؛ فهذا يبطل قول من يقول: إن التجاور إنما يذكر فيما فيه الشركة؛ فتجب الشفعة فيما فيه الشركة؛ وأما في غيره فلا تجب وأمَّا عندنا: هو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: أنه إنما أثبت التجاور في الأرض التي صارت قطعًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ).
القطع المتجاورات: هي الأرضون الضواحي التي تصلح للزرع.
(وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ) أي: جنات متجاورات أيضًا، والجنات هي البساتين المحفوفة بالأشجار؛ فيها ألوان الثمار.
(وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ).
(يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ).
أي: يسقى ما ذكر؛ من الزروع والنخيل والثمار والجنان بماء واحد.
(وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ).
يذكر هذا - واللَّه أعلم - أن جوهر الأرض كلها واحد؛ وهي قطع متجاورة؛ بعضها ببعض، ثم هي مختلفة في حق الثمار والفواكه، وكذلك الأشجار والنخيل؛ كلها من جوهر واحد من جنس واحد، والأرض في جوهرها واحد وتسقى كلها بماء واحد؛ ثم يخرج مختلفًا في ألوانها وطعومها وطيبها وخبيثها ومناظرها؛ ليعلم أنها لم تكن بنفسها؛ ولا بالأسباب التي جعل لها؛ ولكن بلطف واحدٍ مدبِّرٍ عليم حكيم؛ لأنها لو كانت بأنفسها وطباعها أو بالأسباب، لكانت كلها واحدة متفقة في طيبها وخبيثها وألوانها وطعومها؛ فلما لم يكن ما ذكرنا على لون واحد ولا طعم واحد ولا منظر واحد؛ دل أنه كان بتدبير مدبر واحد؛ عليم لطيف.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ).
قيل: في الحمل؛ بعضها أكثر حملا من بعض، وبعضها يحمل؛ وبعضها لا، ولكن ما ذكرنا في الطيب والخبيث والطعم واللون والمنظر - مفضل بعضه على بعض.
وأصله: أن الأرض واحدة متجاورة؛ متصلة بعضها ببعض، والماء واحد أيضًا؛ ثم خرجت الثمار والفواكه والزروع والأعناب مختلفة متفرقة؛ ليعلم أن ذلك ليس هو عمل الأرض؛ ولا عمل الماء، ولا عمل الأسباب والطباع؛ ولكن باللطف من اللَّه؛ لأنه لو
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ) لما ذكرنا من وحدانيته؛ وتدبيره؛ وعلمه؛ وحكمته.
(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي: لقوم همتهم العقل والفهم؛ والنظر والتفكر في الآيات، لا لقوم همتهم العناد والمكابرة، أو لقوم ينتفعون بعقلهم وعلمهم.
وقال الحسن: هذا مثل ضربه اللَّه لقلوب بني آدم كانت الأرض في الأصل طينة واحدة؛ فسطحها الرحمن ثم بطحها؛ فصارت الأرض قطعًا متجاورات؛ فينزل عليها الماء من السماء، فتخرج هذه زهرتها وثمرتها وشجرها؛ وتخرج نباتها ويحيا مواتها، وتخرج هذه سبختها وملحها؛ وخبثها؛ وكلتاهما تسقى بماء واحد؛ فلو كان الماء مالحًا؛ قيل: استسبخت هذه من قبل الماء كذلك الناس: خلقوا من آدم - عليه السلام - فينزل عليهم من السماء تذكرة واحدة؛ فترق قلوب؛ فتخشع وتخضع، وتقسو قلوب؛ فتسهو وتلهو وتجفو؛ أو كلام نحوه.
ثم قال الحسن: واللَّه؛ ما جالس القرآن أحدٌ إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان؛ ثم تلا قوله: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٥)
قال الحسن: إن تعجب - يا مُحَمَّد - من تكذيبهم إياك في الرسالة؛ فعجب قولهم؛ حيث قالوا: (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وإن تعجب - يا مُحَمَّد - مما أوحينا إليك من القرآن؛ كقوله - في الصافات - (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ).
(فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي: أعجب أيضًا قولُهم، يقول: لكن قولهم أعجب عندك؛ حين قالوا: (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) تكذيبًا للبعث.
وأصله - واللَّه أعلم -: يقول: إنك إن عجبت، من قولهم في تكذيبهم إياك في الرسالة؛ ولم أتكن، رسولا من قبل؛ فقولهم وإنكارهم قدرة اللَّه على البعث والإحياء
وأصله - واللَّه أعلم - وإن تعجب لإنكارهم رسالتك وتكذيبهم إياك؛ ولم يكن منك إليهم حقيقة الهداية والنعم والآيات والحجج، وإنما كان منك البيان والدعاء؛ فأعجب: قولهم في إنكارهم قدرة اللَّه على البعث؛ وقولهم في اللَّه سبحانه ما قالوا فيه؛ بعد معرفتهم حقيقة ذلك كله؛ باللَّه إليهم. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ).
يشبه أن يكونوا لما كفروا بالبعث؛ كان كفرهم بالبعث كفرًا بالله؛ لأنهم عرفوه عاجزا، حيث قالوا: لا يقدر على بعث الخلق، ومن عرف ربه عاجزًا - فهو لم يعرف الرب الحقيقة؛ والإله الحقيقة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: صار الكفر في أعناقهم أغلالا؛ حيث أنكروا الرسالة في البشر، ثم جعلوا الأصنام والأوثان معبودهم؛ يعكفون عليها ويخضعون؛ فذلك هو الأغلال في أعناقهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
في الآخرة كقوله: (خُذُوُه فَغُلُّوُه...)، (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
* * *
قوله تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (٧)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ).
الاستفعال يكون على وجهين: يكون طلب الفعل ويكون الفعل نفسه؛ كقوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، قيل: أجيب لكم، وقوله تعالى: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي)
وإن كان الفعل نفسه.
فقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) أي: عجلوك - يا مُحَمَّد - بالسيئة إليك، قبل أن تكون منهم إليك حسنة؛ حيث كذبوك في الرسالة، وآذوك في نفسك، ولم يكن منهم إليك إحسان من قبل واللَّه أعلم بذلك.
وقيل: (بِالسَّيِّئَةِ): العذاب؛ على ما ذكرنا.
(قَبْلَ الْحَسَنَةِ).
أي: قبل العفو، وسؤالهم السيئة والعذاب بجهل منهم أنه رسول وأنه صادق؛ لأنهم لو علموا أنه رسول، وأنه صادق، فيما يخبر ويوعد من العذاب، كانوا لا يسألون؛ لأنهم يعلمون أن اللَّه يقدر على أن ينزل عليهم العذاب، لكن سألوا ذلك؛ بجهلهم بأنه رسول سؤال استهزاء وسخرية.
فإن كان على هذا سؤالهم - كان فيه دلالة أن العقوبة والعذاب؛ قد يلزم من جهل الأمر؛ إذا كان بسبيل العلم به والنظر والتفكر فيه، وهَؤُلَاءِ جهلوا أنه رسول اللَّه؛ لتركهم النظر والتفكر. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: العقوبات؛ أي: قد كان في الأمم الخالية العقوبات؛ بسؤالهم العذاب
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المثلات: الأمثال والأشباه. وكذلك ذكر في حرف حفصة (وقد خلت من قبلهم الأمثال) وتأويله - واللَّه أعلم - أي: (وقد خلت من قبلهم الأمثال)؛ ما لو اعتبروا بها كان مثلا لهم، ولكن لا يعتبرون؛ فيمنعهم عن أمثال ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَذُو مَغْفِرَةٍ) أي: لذو ستر على ظلمهم؛ وتأخير العذاب إلى وقت؛ كقوله: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ)، وقوله: (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لذو مغفرة للناس على ظلمهم إذا تابوا، وماتوا عليها، أو يكون قوله (لَذُو مَغْفِرَةٍ) للمؤمنين على ظلمهم، وإن ربك لشديد العقاب، لمن لم يتب، ومات على الظلم والشرك. وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) للكفار؛ وعلى التأويل الأول: وإِن ربك لشديد العقاب؛ إذا عاقب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ... (٧) وقال في موضع آخر: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ)، وقال في آية أخرى: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) إلى آخر ما ذكر؛ فيحتمل سؤالهم الآية قوله تعالى: (كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ)، عين تلك الآيات التي أتت بها الرسل الأولون، وليس عليه أن يأتي بعين تلك الآية؛ إنما عليه أن يأتي بآية تخرج عن عرفهم وطباعهم، والرسل جميعًا لم يأتوا بآية واحدة؛ إنما جاءوا بآيات مختلفات، كل جاء بآية سوى ما جاء بها الآخر؛ فقال له: ليس عليك ذلك إنما أنت منذر. أو سألوا آيات سؤال الاعتناد
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ): لا تملك إتيان الآيات، (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ)، وقال: (لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ) الآية. أو يقول: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ): ليس إليك إنشاء الآيات واختراعها؛ (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ).
أي: داع يدعو إلى توحيد اللَّه ودينه؛ كقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ).
وقوله: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) يحتمل: لكل وقت هاد.
ثم اختلفوا أنه: مَنْ ذلك الداعي؟
قَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: نبي من الأنبياء، وقَالَ بَعْضُهُمْ: داع؛ دليل سوى النبي.
وقالت الباطنية: هو إمام يكون معصومًا مثل النبي لئلا يزيغ عن الحق؛ ولكن عندنا معصومًا أو لم يكن معصومًا، فإن في القرآن ما يمنع عن الزيغ؛ ويعرف ذلك منه إذا زاغ؛ وضل عن الحق.
قوله تعالى: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (١١)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى).
قيل: يعلم أنها حملت ذكرًا أو أنثى مستويًا أو غير مستوٍ مؤفًّا؛ يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن علمه وقدرته أنه لا يخفى عليه شيء ولا يعجزه شيء، فَإِنْ قِيلَ: هذا دعوى: ما الذي يعلمنا أنه يعلم ذلك؟ قيل: اتساق تدبيره ولطفه يدل على علم ذلك فيه؛ حيث رباه فيه وأنشأه مستويًا غير مؤفِّ سليما عن الآفات، ونماء الجوارح كلها على الاستواء؛ لا يكون بعضها أكبر وأعظم وبعضها أنقص وبعضها أتم؛ نحو العينين؛ تراهما مستويتين؛ لا زيادة في إحداهما دون الأخرى؛ بل تنموان على الاستواء، وكذلك اليدان والرجلان والأذنان؛ وأمثاله؛ فدل ذلك على العلم له به والتدبير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ).
أي: يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد.
قال عامة أهل التأويل: (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ): ما تنقص عن التسعة الأشهر، (وَمَا تَزْدَادُ): على التسعة الأشهر، فكان الحسن يقول: غيضوضة الرحم: أن تضع لستة أشهر أو لسبعة أشهر أو ثمانية، وأما الزيادة: فما زاد على تسعة أشهر.
وفي حرف أُبي: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُل أُنْثَى وَمَا تَضَعُ) ولكن يحتمل قوله: (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) وجهين:
أحدهما: (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ) أي: ما لا تحمل شيئًا؛ وهي التي تكون عقيمًا لا تلد، والغيضوضة تكون ذهاب الشيء، قال اللَّه - تعالى -: (وَغِيضَ الْمَاءُ)،
(وَمَا تَزْدَادُ) أي: ما تحمل وما تغيض الأرحام، فتلد بدون الوقت الذي تلد النساء، وما تزداد على الوقت الذي تلد النساء.
أو (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) في زيادة عدد الأولاد ونقصانهم؛ ما تحمل واحدًا أو أكثر من واحد، أو يكون في زيادة قدر نفس الولد ونقصانه؛ لأن من الولد ما يصيبه في البطن آفة؛ فلا يزال يزداد له نقصان في البطن، ومنه ما ينمو ويزداد؛ وأمثاله. واللَّه أعلم.
(وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) مقدَّر بالتقدير؛ ليس على الجزاف؛ على ما يكون عند الخلق، ولكنه بتقدير وتدبير.
(عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩) قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يغيب عنه شيء، ولكن هو عالم بالذي يغيب عن الخلق ويشهده الخلق؛ أي: ما يغيب عنهم وما يشهدونه عنده بمحل واحد في العلم به.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَالِمُ الْغَيْبِ): ما غاب بنفسه، وما شهد بنفسه؛ فالغائب بنفسه: هو ما لم يوجد بعد؛ ولم يكن، والشهادة: ما قد وجد وكان، يعلم ما لم يوجد بعد أنه يوجد أو لا يوجد، وإذا وجد، كيف يوجد؟ ومتى يوجد؟ وفي أي: وقت يوجد؟ وما جد وشهد؛ يعلمه شاهدًا موجودًا.
على هذين الوجهين يجوز أن تخرج الآية؛ واللَّه أعلم؛ ويعلم ما غاب عنهم مما شهدوا من نحو قوة الطعام في الطعام، والقوة التي في الماء، وماهية البصر والسمع، والعقل والروح، وكيفيتها، وهذا كله مما غاب عن الخلق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ).
المتعال، عن جميع ما يحتمله الخلق؛ يقال: هذا عظيم القوم؛ وكبيرهم، وهذا واحد زمانه؛ لا يعنون عظيم النفس وكبيره أو توحده من حيث العدد؛ ولكن من حيث نفاذ الأمر له والمشيئة فيهم؛ والعزة والسلطان، وذلة الخلق له والخضوع؛ فعلى ذلك لا يفهم مما وصف هو به؛ ما يفهم من الخلق من عظم الجسم وكبر النفس، وعلى ذلك ما وصف هو بأسماء - لا يحتمل ذلك في الخلق، يقال: أول وآخر، وظاهر وباطن، وعظيم ولطيف؛ ليعلم أنه ليس يفهم مما أضيف إليه؛ ووصف هو به؛ ما يفهم مما يضاف إلى الخلق؛ إذ من قيل في الشاهد: إنه عظيم - لم يقل إنه لطيف، ومن قيل: إنه أول - لم يقل
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ... (١٠) في نفسه في حال انفراده (وَمَن جَهَرَ بِهِ) لغيره (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) وفي ظلمة الليل (وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ).
قيل: ظاهر بالنهار، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ): من يكون في السرب وهو الغار بالنهار، وقَالَ بَعْضُهُمْ: من هو مستخف بالليل: أي: ساكن بالليل في مقره، وسارب بالنهار: أي: متصرف متقلب بالنهار في حوائجه.
ذكر هذا صلة ما تقدم؛ وهو قوله: (يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ) ويعلم -أيضًا- ما تزداد، وما ذكر أن عالم الغيب والشهادة، يقول -أيضًا-: يعلم من أسر القول، ومن جهر به، ومن كان مستخفيًا بالليل أو ساربًا بالنهار، أي: يعلم كل شيء؛ لا يخفى عليه شيء: من عمل سرا من الخلق؛ أو عمل بظاهر منهم.
يذكر هذا - واللَّه أعلم - ليكونوا على حذر من المعاصي؛ لأن من علم أن عليه رقيبًا حفيظًا يكون أحذر وأخوف؛ ممن يعلم أن ليس عليه ذلك.
وقال مقاتل: سواء منكم؛ عند اللَّه؛ من أسر القول ومن جهر به، وسواء منكم من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار؛ أي: من هو مستخف بالمعصية في ظلمة الليل، أو هو منتشر بتلك المعصية بالنهار؛ معلن بها؛ فعلم ذلك كله عند اللَّه؛ سواء.
في ذلك تذكير أمرين:
أحدهما: يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم؛ من أول حالهم إلى آخر ما ينتهون إليه يستأدي بذلك شكره؛ ليستديموا بذلك تلك النعم أبدًا ما كانوا.
والثاني: يذكرهم علمه بجميع أحوالهم وأفعالهم؛ ليكونوا أبدًا على حذر من معاصيه، والخلاف له.
أما علمه هو ما ذكر اللَّه: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى...) إلى قوله: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ...) الآية.
(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (١١)
وقوله: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هم الأمراء، والشرط الذي يحفظونه في ظواهر من أمره؛ يخبر أنه محفوظ عليه الخفيات من أمره؛ حيث قال: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ...) الآية؛ حيث أخبر أنه يعلم ذلك ومحفوظ عليه الظواهر من أمره.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ): الملائكة الذين يحفظونه، وعلى ذلك روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يجتمعون فيكم عند صلاة العصر وصلاة الصبح يحفظونه من بين يديه ومن خلفه "، مثل قوله: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)، قال: الحسنات من بين يديه والسيئات من خلفه؛ الذي عن يمينه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) يحتمل قوله: (لَهُ)، أي: لله معقبات يحفظونه، ويحتمل: (لَهُ) من كل ذكر وأنثى؛ يكون مثله قوله: (يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى).
وقوله: (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) يحتمل قوله: (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، أي: يحفظون نفسه من البلايا والنكبات التي تنزل على بني آدم؛ فإن كان في حفظ نفسه فقوله من أمر اللَّه؛ أي: من عذاب اللَّه وبلاياه؛ كقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا)، وهو عذابنا.
ويحتمل قوله: يحفظون أعماله؛ بأمر اللَّه، ثم يحتمل قوله: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) وجوهًا: يحتمل: من بين يديه: الخيرات التي يعملها، ومن خلفه: الشرور والسيئات، ويحتمل قوله: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ): ما قذم من الأعمال، (وَمِنْ خَلْفِهِ): ما بقي وأخر؛ كقوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)، ويحتمل (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ): ما مضى من الوقت، (وَمِنْ خَلْفِهِ): ما بقي. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
ويحتمل أن يكون ذلك في النعمة الدنياوية؛ من الصحة والسلامة والمال، لا يغير ذلك عليهم إلا بتغيير ذلك من أنفسهم.
فَإِنْ قِيلَ: إن الأنبياء قد كانوا بلوا بشدائد وبلايا؛ ولا يحتمل أن يكون ذلك منهم البداية في التغيير.
قيل: أبدلت لهم مكان تلك النعمة خيرًا منها فليس ذلك بتغيير؛ ولكن لما ذكرنا أنه أبدلت لهم مكان النعمة نعمة هي خير منها.
ثم ما كان من النعم؛ والأفضال من الطاعات لها حق التجدد والحدوث؛ يكون التغيير عليهم حالة اختيارهم؛ وتغييرهم على أنفسهم، وأما الأفعال التي لها حق البقاء؛ يكون التغيير من اللَّه من بعد؛ وهو من نحو السلامة والصحة والسعة، والذي له حق التجدد والحدوث الطاعات [والمعاصي].
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ).
الآية ترد على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون: إنه لا يريد إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين، وقد أخبر أنه إذا أراد بهم سوءًا؛ (فَلَا مَرَدَّ لَهُ...) الآية.
دل هذا أنه قد يريد بهم السوء إذا غيروا هم ما أنعم اللَّه عليهم، أراد أن يغير عليهم والمعتزلة يقولون يملك الخلق دفع سوء إرادة اللَّه بهم، وإذا أراد الخير يملكون رد ذلك، واللَّه يقول: (فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ)، ولا مردّ لسوئه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ).
أي: ليس لهم في دفع العذاب الذي أراد بهم ولي يدفع عنهم أو نصير ينصرهم؛ كقوله (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).
* * *
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (١٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا).
وقال أهل التأويل: خوفًا للمسافر وطمعًا للمقيم.
وقيل: خوفًا لأهل البنيان؛ وطمعًا لأهل الأنزال.
وعندنا يطمعون ويخافون قوم واحد؛ يطمعون نفعه في وقت المنفعة، ويخافون ضرره في غير وقت النفع، أو يطمعون نفعه ويخافون ضرره، أو يطمعون مضيه؛ ويخافون نزوله والضرر به في غير وقت النفع؛ ونحوه.
ويحتمل وجهًا آخر في قوله: (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) أي: يريكم خوفًا موعودًا وطمعًا موعودًا؛ لأن البرق نور ونار، فالنور يطمع النور الموعود في الجنة، والنار تخوف النار الموعودة في الآخرة؛ لأن فيها نارًا؛ ألا ترى أنه إذا اشتد خيف على من أصابه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ).
قيل: أي: يرفع السحاب الثقال الذي فيه المطر والماء. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ)، يقال: نشأت السماء؛ إذا ارتفع الغيم فيها، ويسمى الغيم نشأ، وقوله إنشاء؛ أي: أخذ فيه، ويقال: أنشأ اللَّه الخلق أي: خلقهم، نشأ: ارتفع، وأنشأ: رفع، وهو من هذا. واللَّه أعلم.
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (١٣)
اختلف في الرعد والبرق: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو اسم ملك من الملائكة موكل بالسحاب؛ صوته تسبيحه.
وعلى ذلك رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أقبلت يهود إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقالوا: يا أبا القاسم: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: " ملك من الملائكة موكَّل بالسحاب؛ معه مخاريق من نار؛ يسوق بها السحاب حيث شاء اللَّه "؛ فقالوا: ما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: " زجرة السحاب إذا زجره؛ حتى ينتهي إلى حيث أمر "، قالوا: صدقت.
وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن البرق والرعد؟ فقال: الرعد: الملك، والبرق: ضربة السحاب بمخراق من حديد.
وقيل: الرعد: ملك على ما ذكرنا، يزجر السحاب بالتسبيح ويسوقه؛ فإذا شذَّت سحابة ضمها، وإذا اشتد غضبه صار من فيه النار؛ فهي الصواعق.
وقيل: هي الريح تسوق السحاب؛ فإذا تراكمت السحاب؛ فلم تجد منفذًا صوتت؛ فذلك صوتها.
وقال بعض الفلاسفة: الرعد اصطكاك الأجرام؛ فيحدث هذا الصوت؛ بمنزلة الحجر يحك الحجر. وقَالَ بَعْضُهُمْ من الفلاسفة: إنما هي ريح تختنق تحت السحاب فتصدعه فذلك الصوت منه.
أي: شيء كان الرعد: الملك، أو الريح، أو ما كان فالتسبيح يحتمل من كل شيء، على ما أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - التسبيح من كل شيء؛ حيث قال: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)، فيحتمل تسبيح الخلقة؛ جعل في خلقه كل شيء حصانة وبراءة منشئه من كل ما وصفه الملحدون، ودلالة ألوهيته وربوبيته.
ويحتمل تسبيحه: قول جعل في سرية كل شيء تسبيحه وتنزيهه ما لا يفهمه الخلق.
وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الرعد ملك، وهذا تسبيحه، والبرق صوته الذي يزجي به السحاب. قيل: أمثال هذا كثير، واللَّه أعلم بذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة؛ سوى أنه هول هائل يهول الخلق، ويذكرهم سلطانه وعظمته، ولولا أنهم اعتادوا ذلك؛ وإلا لم تقم أنفسهم لسماع ذلك.
وقوله: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) أي: يذكرهم سلطانه وعظمته يكون ذلك تسبيحه، وما ذكروا من سلطانه وعظمته، (وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي: تسبيح الملائكة من خوفه، الرعد يسبح ويذكر الخلق عظمة اللَّه وسلطانه، فذلك الثناء عليه والملائكة يسبحونه
أحدهما: خوفًا من عقوبته؛ لأنه قد جاء فيهم الوعيد إذا زلوا كقوله: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ...) الآية.
والثاني: خوف رهبة وهيبة لا خوف عقوبة؛ لأن اللَّه تعالى وصفهم بالطاعة له والاستسلام، كقوله: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وقوله: (وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ...) الآية، ونحو ذلك.
ثم خوف الهيبة لا يزول في الآخرة، وخوف العقوبة يزول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ) قيل: الصعقة: الصيحة التي فيها موت البعض، ويذهب عقل البعض، كقوله: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ). وقيل: هي اسم العذاب وقد ذكرنا فيما تقدم ذكره في بعض الأخبار أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن شيء من أمر الرب فجاءت صاعقة فأحرقته فنزل (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ) أي: في توحيد اللَّه؛ لأن أهل الكفر كلهم كانت مجادلتهم في توحيد اللَّه وألوهيته وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: شديد الانتقام والعقوبة وقيل: شديد القوة وقيل: شديد الأخذ.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) من الكيد والمكر، وأصل المحال الحيلة، لكن سمي باسم الأول؛ لأنه جزاء الحيلة، فيكون كتسمية جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المحال عندي من المكر.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المعقبات الحفظة الذين يحفظونه بأمر اللَّه، ويقال عقبته أي: حفظته، وأما قوله (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)، أي: لا رادّ لحكمه قال ويقال في غير هذا أعقب فلان فلانًا، أي: ذهب هو وجاء هو، ويقال: عقبت أي: رجعت، ومأخذهما من العقب، ويقال: رجع على عقبيه، أي: من حيث جاء.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: معقبات: ملائكة يعقب بعضها بعضا في الليل والنهار إذا مضى فريق خلف بعده فريق آخر يحفظونه من أمر اللَّه، أي: بأمر اللَّه.
وقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) أي: ولي، مثل قادر وقدير، وحافظ وحفيظ وذلك جائز في اللغة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (١٤) يحتمل وجهين:
يحتمل أي: له عبادة الحق، وليس لمن دونه عبادة الحق، أي: هو المستحق للعبادة ليس ممن يعبد دونه بالذي يستحق العبادة وعبادة الحق له، ليس لمن دونه.
والثاني: له دعوة الحق؛ أي: له إجابة دعوة الحق ليس يملك من دونه إجابة من دعا بالحق.
فعلى التأويل الأول الدعوة: العبادة، وعلى الثاني الدعوة: الإجابة، أي: له إجابة دعوة من دعا بالحق واللَّه أعلم هو يملك إجابة دعوة الخلق، فأما من عبد دونه ودعي دونه لا يملك ذلك، يدل على ذلك قوله: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) أي: والذين يدعون من دونه لا يملكون الإجابة، أو لا يملكون ما يأملون من عبادتهم الأصنام فيكون مثله ما ذكر (إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) وهو ضرب مثل من يدعو من دون اللَّه كباسط كفيه إلى الماء هو - واللَّه أعلم - ليس من يدعو من دون الله إلا كباسط كفيه إلى الماء فيدعو الماء، فكما لا يجيبه الماء وإن دعاه فعلى ذلك من يدعو الأصنام لا يملكون إجابته، واللَّه أعلم بذلك، أو أن يكون وجه ضرب هذا المثل أن من عبد دون اللَّه أو دعا من دونه ليس إلا كباسط كفيه إلى الماء وهو على بعد من
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) أي: دعاؤهم وعبادتهم لا يعقب ْلهم إلا الخسار في الآخرة حاصله: يضل ذلك كله عنهم لا يصلون إلى ما يأملون بالدعاء والعبادة، كقوله: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (١٥) يحتمل قوله: (يسجُدُ) على حقيقة السجود يسجد له المؤمن والكافر جميعًا أما المؤمن فإنه يسجد له بالاختيار والطوع.
ويحتمل ما ذكر من السجود وجوهًا:
أحدها: حقيقة السجود فإن كان هذا فهو في الممتحنين خاصة.
والثاني: سجود الخلقة فإن كان على هذا فهو في جميع الخلائق جعل اللَّه في خلقة كل شيء دلالة وحدانيته وآية ألوهيته وربوبيته.
والثالث: سجود الأحوال، فهو في المؤمن والكافر جميعًا أما المؤمن فهو يسجد له في كل حال وأما الكافر فإنه يسجد له ويخضع في حال الشدة والضيق ولا يسجد له في حال السعة والرخاء ويشبه أن يكون الكافر يكون سجوده لله اختيارا وطوعا حيث قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) إنهم؛ وإن عبدوا الأصنام؛ فيرون السجود والعبادة لله، لكنه لم يقبل ذلك منهم؛ لإشراكهم غيره في ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
أي: يسجد ظلالهم بالغدو والآصال، ينتقل ظل كل أحد بانتقال نفسه؛ ينتقل حيث تنتقل نفسه؛ فذكر الغدو والآصال؛ لأنه بالغدو والعشي يظهر الظل.
ويحتمل السجود: أنه يسجد له؛ أي: يخضع له من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا؛ فإن كان على الخضوع؛ فهو في الخلائق كلهم؛ في البشر وغير البشر؛ وذي الروح وغير ذي الروح.
(وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) أي: ظلالهم تخضع له أيضًا بالغدو والآصال.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (١٧)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ).
أمره أن يسألهم: من رب السماوات والأرض؟ ثم أمره أن يجيب هو لهم؛ فيقول الله وهو في الظاهر دعوى، أكثر ما في هذه الآية دعوى، وبعضه حجاج، وهو قوله: (لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا)، وقوله: (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) لأنهم يقرون بهذا؛ لا يخلقون كخلقه؛ ولا يملكون دفع الضر؛ ولا جَرّ النفع.
وقوله: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
(قُلْ) إنما أمره أن يسألهم من رب السماوات والأرض، ولم يقل من ربكم فإنما أمره أن يسألهم ما لا يتجاسرون أن يقولوا الأصنام التي يعبدونها هي أرباب السماوات والأرض فلا بد أن يقروا اللَّه رب السماوات والأرض، فإذا أقروا بهذا أنه رب السماوات والأرض قد دخل ما في السماوات والأرض في ربوبيته، إذ السموات والأرض، إنما خلقهما لأهلهما؛ فإذا كان ربَّ السماوات والأرض - كان ربَّ ما فيهما.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) أمره أن يسألهم ثم يسبقهم بالإجابة؛ لأنه هو السابق بكل خير، وهم يجيبون له أنه رب السماوات والأرض.
دليله: حرف أبي وابن مسعود وحفصة؛ حيث قرءوا (من رب السماوات والأرض قالوا الله) يدل إنه أمره أن يسبقهم بالإجابة، كما كان هو السابق على كل خير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ).
يقول - واللَّه أعلم - إذا أقررتم أن رب السماوات والأرض هو اللَّه؛ وهو الإله؛ فكيف
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) إذ لا يملكون نفعًا لأنفسهم، ولا دفع الضر عنها؛ فكيف يملكون نفع غيره أو دفع ضر عن غيره؟ فعرفهم أنهم لا يملكون ذلك؛ وأن اللَّه هو المالك؛ فكيف تركتم عبادة من يملك ذلك؛ وعبدتم من لا يملك؟.
فيخرج تأويله على وجهين:
أحدهما: يقول: لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرا، فكيف اتخذتم دون اللَّه آلهة؟.
والثاني: لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا مع وجود الحاجة فيها؛ فكيف تعبدون على رجاء النفع لكم بقولكم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ).
وقوله: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ).
أي: تعلمون أن الأصنام التي تعبدونها أنها عمي لا تبصر شيئًا؛ واللَّه هو البصير؛ فكيف تركتم عبادة من يبصر؛ وعبدتم من لا يبصر؟ هل يستوي ذلك؟ أي: لا يستوي.
أو يقول لهم: إنكم بعبادتكم الأصنام طمعتم شفاعتهم عند اللَّه؛ وهم عمي وأنتم بصراء؛ فهل رأيتم أعمى يقود بصيرا في الشاهد؟ أو هل رأيتم من لا يبصر يكون دليلا لبصير؟ فإذا لم تروا ذلك؛ فكيف طمعتم من الأصنام ذلك.
وقال أهل التأويل: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ): الأعمى: الكافر، والبصير: المؤمن.
(أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ).
الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان. ووجه قولهم؛ حيث شبهوا الكفر بالظلمة، والإيمان بالنور؛ لأن الظلمة تحجب وتستركل شيء، والنور يرفع ذلك الحجاب وذلك الستر؛ فالإيمان له دلائل وحجج؛ ترفع تلك الحجب والستر؛ فينور له كل شيء. والكفر ليى له حجج ودلائل ترفع ذلك؛ فهو ظلمة لم يضئ له شيئًا، والإيمان نور؛ حيث أضاء له، ونور كل شيء له بالدلائل والحجج التي ذكرنا. فصار الكافر كالأعمى لا يبصر شيئًا؛
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ).
أي: بل جعلوا لله شركاء في العبادة؛ بعد ما علموا أنهم لا يملكون لهم نفعًا إن عبدوها ولا ضرًّا إن تركوا العبادة لها.
وقوله: (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ).
أي: خلق هَؤُلَاءِ الأصنام؛ التي عبدوها وأشركوها في ألوهيته؛ كخلق اللَّه؛ فتشابه عليهم خلقه من خلق الأصنام؛ أي: عرفوا أنها لم تخلق شيئًا كما خلق اللَّه؛ فكيف أشركوا هذه الأصنام في عبادة اللَّه وألوهيته؛ وهم كأنهم قد أقروا أن اللَّه هو خالق كل شيء.
وهذا ينقض على المعتزلة قولهم؛ حيث قالوا: إن اللَّه لم يخلق أفعال العباد ولا يقدر على خلقها؛ فإذا كان اللَّه لم يخلقها؛ فهم خلقوها - على زعمهم - فيكون موضع تشابه الخلق عليهم - على قولهم - فيدل على بطلان قولهم وفساد مذهبهم. والله الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) في السماوات والأرض (وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).
أي: كل شيء دونه تحت قدرته وقهره وسلطانه، والأصنام التي تعبدونها مقهورة مغلوبة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا... (١٧)، إلى آخر ما ذكر من الأمثال؛ إلى قوله (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).
قال بعض أهل التأويل: هذا مثل ضربه اللَّه لليقين والشك؛ فاحتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها: فأما الشك فلا ينفع منه عمل، وأما اليقين فينفع اللَّه به أهله، وهو قوله: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) أوهو الشك، (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) وهو اليقين، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبيثه في النار؛ كذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا) يقول: رابيا (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) والجفاء: ما يتعلق بالشجر من الزبد، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض؛ فضرب المثل للحق والباطل.
يقول - واللَّه أعلم - كما اضمحل هذا الزبد؛ الذي ظهر فوق الماء؛ فصار جفاء لا ينتفع به ولا ترجى بركته، كذلك يضمحل الباطل عن أهله؛ كما اضمحل هذا الزبد؛ وكما مكث هذا الماء في الأرض، وقر قرارها فأمرعت ورجيت بركته كذلك، وأخرجت له نباتها؛ كذلك يبقى الحق لأهله؛ كما بقي هذا الماء في الأرض.
(وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ) يقول: يبقى خالص هذا الذهب والفضة حين أدخل في النار؛ وذهب خبثه؛ كذلك يبقى الحق لأهله.
(أَوْ مَتَاعٍ) يعني هذا الحديد والصفر الذي ينتفع به؛ وفيه منافع، يقول: كما بقي خالص هذا الحديد وهذا الصفر؛ حين أدخل النار وذهب خبثه؛ كذلك يبقى الحق لأهله كما بقي خالصهما.
وقال الكلبي: قوله: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) وهو القرآن؛ فاحتمله القلوب بأهوائها؛ ذو اليقين على قدر يقينه، وذو الشك على قدر شكه؛ فاحتملت الأهواء باطلا كثيرًا وجفاء: فالماء هو الحق، والأودية هي القلوب، والسيل الأهواء، والزبد الباطل، والحق المتاع والحلية.
قال: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) فالزبد وخبث الحديد وخبث المتاع: هو الباطل " من أصاب من هذا شيئًا لم ينتفع به، فكذلك الباطل يوم القيامة لا ينتفع بباطله. وأمَّا الحلية والماء والمتاع: فهو الحق؛ من أصاب شيئًا منه انتفع به، وكذلك صاحب الحق يوم القيامة ينتفع بالحق. أما الحلية: فالذهب والفضة، وأما المتاع: فالصفر والحديد والرصاص والنحاس، ونحوه، ليس شيء من هذا ينتفع به حتى يدخل النار؛ فيميز صفوه من خبثه.
وقال الحسين بن واقد: وهو قول مقاتل؛ ضرب اللَّه مثل الكفر والإيمان؛ ومثل الحق
فهذه ثلاثة أمثال ضربها اللَّه في مثل واحد؛ يقول: هكذا يبين اللَّه الأمثال والأشباه (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) أي: أجابوا (لِرَبِّهِمُ) في الدنيا؛ بالإيمان والتوحيد (الْحُسْنَى) لهم؛ وهي الجنة في الآخرة.
ضرب اللَّه مثل الإيمان والحق؛ ووصفهما بالثبات والقرار والطيب؛ بالأرض الطيبة مرة؛ وشجرة طيبة ثانيًا، وضرب مثل الكفر والباطل؛ بالأرض الخبيثة؛ والشجرة الخبيثة، ووصفهما بالخبث والذهاب؛ فقال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ...)، وقال: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)، وقال: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ...) الآية، وضرب مثل المؤمن مرة بالبصير والسميع، ومثل الكافر بالأعمى والأصم؛ فقال: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا)، وضرب مثل الكفر؛ مرة بالظلمات؛ ومرة بالرماد والموت، ومثل الإيمان بالنور والضياء والحياة؛ ونحوه.
فهذه الأمثال التي ضرب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - تخرج كلها مخرج الدعوى في الظاهر؛ إذ
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (زَبَدًا رَابِيًا) أي: عاليًا على الماء (ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ) أي: حلي أو متاع آنية يعني من فِلز الأرض وجواهرها؛ مثل الرصاص والحديد؛ ونحوه، والذهب والفضة؛ حيث تعلوها - إذا أذيبت - مثل زبد الماء. والجُفاء ما رمي به الوادي إلى جنباته؛ يقال: أجفأت القدر بِزَبدها: إذا ألقت زبدها عنها.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (رَابِيًا): أي: مرتفعًا فوق ظهر الماء؛ وهو واحد، ويقال: زبد الماء: إذا صار له زبد (ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ) هو من الحلي؛ من الذهب والفضة؛ مما يتحلى به؛ (فَيَذْهَبُ جُفَاءً) أي: باطلا لا ينتفع به، وأما الجفاء: فهو إظهار التهاون بالإنسان؛ وقلة الاكتراث له؛ والاستخفاف به. وقال: الجفاء هو الغثاء، ويقال: قد أجفأ الوادي: إذا علاه ذلك ثم جرى به الماء.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: والغثاء - عندي -: ما حمله السيل؛ من العيدان والبعر؛ وما يشبه ذلك.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى)، أي: يبسًا.
قال أبو عبيد: الجفاء الجمود، ويذهب إلى أن الزبد يجمد ويجتمع على الماء، ثم
وقال الفراء يذهب جُفاء: أي: يذهب سريعًا كما جاء.
وقال الشيخ - رحمه اللَّه -: ويشبه أن يكون المثل الذي ضرب بالماء هو للدِّين وهو أن الدِّين الحق الذي أنزل من السماء واحد؛ لكن الناس اتخذوا أديانًا متفرقة، ومذاهب مختلفة؛ كقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)، فالدِّين الذي أمر بسلوكه واتباعه واحد؛ وهو كالماء الذي أنزل من السماء واحد صاف؛ وهو الأصل؛ فحذف منه أشياء لا يعبأ به ولا يكترث؛ فعلى ذلك السبل. أو أن يكون وجه ضرب مثله بالماء؛ وهو أن الماء إذا أنزل من السماء أنزل طيبًا عذبًا، لكن اختلف ألوانه وطعومه باختلاف جواهر الأرض؛ بعضه خرج مالحًا أجاجًا، وبعضه مرًّا لا ينتفع به؛ وبعضه عذب، وذلك على اختلاف جواهر الأرض، وإلا كان المنزّل من السماء كله عذب طيب؛ فالذي ينتفع به واحد؛ وهو العذب. فعلى ذلك الدِّين الذي ينتفع به - واحد؛ والبواقي لا ينتفع بها كالمياه المرة والمالحة، أو يكون غير هذا؛ ونحن لا نعرفه واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) أي: أجابوا ربهم فيما دعاهم إليه، وإنما دعاهم إلى السبب الذي يوجب لهم دار السلام وهي الجنة بقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، دعاهم إلى دار السلام ومكن لهم من الإجابة له والرد، فمن أجابه فيما دعاه كان له دار السلام، والحسنى الذي ذكر،
والأمثال التي ذكر أنها (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) هو هكذا للمؤمنين؛ لأنهم هم المنتفعون بها، وكذلك ما ذكر من القرآن أنه هدى ورحمة للمؤمنين، وأمَّا على أهل الكفر؛ فهو عمى وضلال. وكذلك قوله: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)، وأمّا قلوب الكفرة فما ذكر: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)، و (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)، وأمثاله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ).
أي: ضِعْفه معه؛ لافتدوا به، يذكر هذا - واللَّه أعلم - أن الذي كان يمنعهم عن الإجابة إلى ما دعاهم إليه - رغبتهم في هذه الدنيا؛ وميلهم إليها؛ يتمنون - لما يحل فيهم من العذاب والشدائد - أن يكون لهم ما في الأرض جميعًا أن يفتدوا به.
(أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ).
أي: يحاسبون حسابًا يسوءهم؛ لأن حسناتهم التي عملوها وطمعوا الانتفاع بها - لم تنفعهم بل صارت كالسراب الذي ذكر: (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) ولم يتجاوز عن سيئاتهم (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) أي: الذي يأوون إليه؛ هو جهنم وبئس المهاد؛ لما يسوءهم ذلك واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٩) أي: من يعلم الحق حقًّا كمن هو يعمى عنه ولا يعلم؟ أو من يعلم الحق أنه حق؛ كمن يعلمه باطلًا؟ ليسا بسواء؛ كقوله: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).
أي، إنما يتذكر - بالتذكير أولو الألباب وذوو العقول؛ الذين ينتفعون بعقولهم ولُبّهم.
ثم بين من هم فقال: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (٢٠)
يحتمل عهد اللَّه عهد خلقه؛ يوفون بما في خلقتهم من العهد؛ إذ في خلقة كل أحد - دلالة وحدانيته، وشهادة ألوهيته؛ فوفوا ذلك العهد.
ويحتمل عهد الله ما جرى على ألسن الرسل، وقد ذكرنا هذا في ما تقدم، وهو ما ذكر في آية أخرى :( وإذا أخذ الله ميثاق النبيين )[ آل عمران : ٨١ ] ( وإذا أخذ الله ميثاق الذين أتو الكتاب )[ آل عمران : ١٨٧ ] ( ولا ينقضون الميثاق )[ الرعد : ٢٠ ] العهد والميثاق واحد، وسمى العهد ميثاقا لأنه يوثق المرء، ويمنعه عن الاشتغال بغيره، والله أعلم.
العهد والميثاق واحد، وسمى العهد ميثاقا؛ لأنه يوثق المرء، ويمنعه عن الاشتغال بغيره. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (٢١)
الصلات التي أمر اللَّه بها
أن توصل على جهات ومراتب: أما ما بينه وبين المؤمنين: ألَّا يحب لهم إلا ما يحب ولا يصحبهم إلا بما يحب هو أن يصحب، وأما فيما بينه وبين محارمه: أن يؤوي ويحفظ الحقوق التي جعل اللَّه لبعضهم على بعض؛ ولا يضيعها. وأما فيما بينه وبين الرسل: فهو أن من حقهم أن يوصل الإيمان بالنبيين جميعًا؛ والكتب كلها.
هذا واللَّه أعلم الصلة التي أمر اللَّه أن يوصل بها.
(وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) إما في التقصير فيما أمر أن يوصل، وإما بالتفريط في ذلك، وترك الصلة.
(وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ)
أي: شدة الحساب؛ حين لم تنفعهم حسناتهم؛ ولا يتجاوز عن شيء من سيئاتهم؛ فذلك يسوءهم. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا... (٢٢) قد ذكرنا فيما تقدم أن الصبر: هو كف النفس وحبسها عما تهواه؛ على ما تكره ويثقل عليها.
ثم يحتمل كفها وحبسها عن الجذع في المصائب، وعلى أداء ما افترض اللَّه عليهم وأمرهم بها، أو كفوا أنفسهم وحبسوها عن المعاصي، يكون الصبر على الوجوه الثلاثة التي ذكرنا. واللَّه أعلم.
ويحتمل: ابتغاء وجه يكون لهم عند اللَّه، وهو المنزلة والرفعة، ولذلك سمي الرفيع وذو المنزلة: وجيهًا كقوله: (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، أي: ذو منزلة ورفعة في الدنيا والآخرة. وعلى ذلك يخرج قوله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، أي: ثَمَّ الجهة التي أمر اللَّه أن يتوجه إليها، فعلى ذلك هذا (صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) أي: ابتغاء المنزلة والرفعة التي عند ربهم؛ أو ابتغاء رضوان اللَّه ومرضاته واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ).
أي: داموا على إقامتها؛ ليس أنهم أقاموا مرة ثم تركوها؛ ولكن داموا على إقامتها، وعلى ذلك قوله: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، أي: دوموا على إقامتها. ويحتمل قوله: (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) أي: جعلوها قائمة أبدًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً).
يحتمل كل نفقة: الصدقة والزكاة وما ينفق على عياله وولده، (سِرًّا وَعَلَانِيَةً) أي: ينفق في كل وقت؛ سرا من الناس وعلانية منهم أي: ينفق على جهل من الناس؛ وعلى علم منهم؛ ينفقون على كل حال؛ لا يمنعهم علم الناس بذلك عن الإنفاق، بعد أن يكون ابتغاء وجه ربهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ).
أي: يدفعون بالحسنة السيئة، ثم يحتمل وجهين:
أحدهما: يدفعون بالإحسان إليهم العداوة التي كانت بينهم؛ كقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ...) الآية. والثاني: يدرءون الإساءة التي كانت لهم إليهم بالخير إليهم والمعروف، ولا يكافئون بالسيئ السيئ؛ وبالشر الشر؛ ولكن يدفعون بالخير.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي: إذا سُفه عليهم حلموا،
ثم يحتمل كفها وحبسها عن الجزع وعلى أداء ما افترض الله عليهم، وأمرهم بها، أو كفر أنفسهم، وحبسوها عن المعاصي. فيكون الصبر على الوجوه الثلاثة التي ذكرنا، والله أعلم.
وقوله تعالى :( ابتغاء وجه ربهم ) يحتمل وجهين : يحتمل ابتغاء رضوان الله، ويحتمل ابتغاء وجه يكون لهم عند الله وهو المنزلة [ والرفعة، ولذلك سمى الرفيع في المنزلة وجيها كقوله :][ في الأصل وم : وجيها كقوله. في م : ولذلك سمى الرفيع وذو منزلة وجيها ] ( إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ )[ آل عمران : ٤٥ ] أي ذا[ في الأصل وم : ذو ] منزلة ورفعة في الدنيا والآخرة.
وعلى ذلك يخرج قوله :( فأينما تولوا فتم وجه الله )[ البقرة : ١١٥ ] أي ثم الجهة التي أمر الله أن يتوجه إليها فعلى ذلك هذا ( والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم ) أي ابتغاء المنزلة والرفعة التي عند ربهم وابتغاء رضوان الله ومرضاته، والله أعلم.
وقوله تعالى :( وأقاموا الصلاة ) أي داوموا على إقامتها، ليس أنهم أقاموها[ في الأصل وم : أقاموا ] مرة، ثم تركوها، ولكن داوموا على إقامتها. وعلى ذلك قوله :( وأقيموا الصلاة )[ البقرة : ٤٣و. . ] أي داوموا على إقامتها.
ويحتمل قوله :( وأقاموا الصلاة ) أي جعلوها قائمة أبدا.
وقوله تعالى :( وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً ) يحتمل كل نفقة : الصدقة والزكاة وما ينفق [ المرء ][ ساقطة من الأصل وم ] على عياله وولده سرا وعلانية، أي ينفق في كل وقت سرا من الناس وعلانية منهم، أي ينفق على جهل من الناس وعلى علم منهم ؛ ينفقون على كل حال، لا يمنعهم على الناس بذلك عن الإنفاق بعد أن يكون ابتغاء وجه ربهم.
وقوله تعالى :( وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) أي يدفعون بالحسنة السيئة ثم يحتمل وجهين :
أحدهما : أي يدفعون بالإحسان إليهم العداوة التي كانت بينهم كقوله :( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم )الآية[ فصلت : ٣٤ ].
والثاني :( ويدرءون ) الإساءة التي كانت لهم بالخير إليهم بالمعروف، ولا يكافئون السيء بالسيء، والشر بالشر، ولكن يدفعونه بالخير.
وقال بعضهم في قوله :( ويدرءون بالحسنة السيئة ) أي إذا سفه عليهم حلموا، والسفه السيئة والحلم حسنة.
[ وقوله تعالى ][ ساقطة من الأصل وم ] :( أولئك هم عقبى الدار ) [ يحتمل وجهين :
أحدهما ][ ساقطة من الأصل وم ] : عقبى أولئك الذين صبروا على ما ذكر من وفاء العهد والصلة التي أمروا بها أن يصلوا والصبر على أداء ما أمر به، وافترض عليهم[ في الأصل وم : وجوها أحدها ] والانتهاء عما نهى عنه : الدار الذي دعاهم إليها بقوله :( والله يدعوا إلى دار السلام )[ يونس : ٢٥ ].
والثاني :( أولئك لهم عقبى الدار ) أي عقبى حسناتهم دار الجنة ( أولئك لهم عقبى الدار ) الجنة. أو عاقبتهم دار الجنة.
(أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ).
أي: عقبى أُولَئِكَ الذين صبروا؛ على ما ذكر؛ من وفاء العهد والصلة التي أمروا بها أن يصلوا؛ والصبر على أداء ما أمر به وافترض عليهم؛ والانتهاء عما نهى عنه - الدار التي دعاهم إليها بقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ).
والثاني: (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أي: عقبى حسناتهم دار الجنة، وأُولَئِكَ لهم عقبى هذه الدار الجنة، أو عاقبتهم دار الجنة.
ثم نَعَتَ تلك الدار؛ فقال: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣)
عدن: قال أهل التأويل: عدن: هو بطان الجنة؛ وهو وسطها، وقَالَ بَعْضُهُمْ: عدن هو الإقامة؛ أي: جنات يقيمون فيها؛ يقال: عدن: أي: أقام.
وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ).
فَإِنْ قِيلَ: كيف خص بالذكر الآباء والأزواج والذرية؛ وهم قد دخلوا في قوله: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) وفي قوله: (يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) فما معنى تخصيصهم بالذكر؟
هذا يحتمل وجوهًا:
أحدها: أنهم أسلموا؛ فاخترموا؛ أي: ماتوا كما أسلموا؛ ولم يكن لهم مما ذكر من الخيرات والحسنات؛ فأخبر أن هَؤُلَاءِ يدخلونها -أيضًا- ويلحقون بأُولَئِكَ.
والثاني: لم يبلغوا الدرجة التي بلغ أُولَئِكَ؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يبلغهم درجة أُولَئِكَ ويلحقهم به؛ كقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ...) الآية يضم بعضهم إلى بعض في الآخرة كما كانوا في الدنيا، يضم كل ذي قرين في الدنيا قرينه إليه في الآخرة.
وفي قوله: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ) وما ذكر دلالة أن صلاح غيره وإن قرب منه لا ينفعه؛
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ).
هذا يحتمل أن يكون لمقامهم ومنازلهم أبواب؛ فيدخل عليهم من كل باب ملك.
والثاني: يحتمل أن يكون يأتي كل ملك بتحفة غير التحفة التي أتى بها الآخر على اختلاف خيراتهم وقدر أعمالهم.
(مِنْ كُلِّ بَابٍ) أي: من كل نوع من التحف. وفيه وجهان:
أحدهما: أن الملائكة يكونون خدم أهل الجنة، وفي ذلك تفضيل البشر عليهم.
أو أن يكون على حق المصاحبة؛ لما أحبوا هم أهل الخير من البشر في الدنيا؛ لخيرهم؛ فجعل اللَّه بينهم الرفقة، والصحبة في الآحرة واللَّه أعلم بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) كقوله: (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) هو ما ذكرنا في قوله أُولَئِكَ لهم عقبى الدار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) والعهد قد ذكرناه في غير موضع، وكذلك النقض.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ).
كل حرف من هذه الحروف يقتضي معنى الحرف الآخر؛ إذا نقضوا العهد، والميثاق: قد قطعوا ما أمر اللَّه به أن يوصل؛ وسعوا في الأرض بالفساد، وإذا قطعوا ما أمر اللَّه به أن يوصل: نقضوا العهد؛ وسعوا في الأرض بالفساد؛ إلا أن يقال: إن نقض العهد يكون بالاعتقاد؛ وذلك يكون بينهم وبين ربهم، وكذلك قطع ما أمر اللَّه به أن يوصل إذا كان الأمر الذي أمر به صلة الإيمان بالنبيين والكتب جميعًا؛ فإن كان صلة الأرحام؛ فهو فعل؛ والسعي في الأرض بالفساد فعل أيضا؛ من زنا أو سرقة أو قطع الطريق، وغير ذلك من المعاصي ما كان، فهو الإفساد في الأرض واللَّه أعلم. والإفساد في الأرض يحتمل:
وقوله تعالى :( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ) كل حرف من هذه الحروف يقتضي معنى الحرف الآخر : إذا نقضوا العهد والميثاق فقد قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وسعوا في الأرض بالفساد، وإذا قطعوا ما أمر الله به أن يوصل نقضوا العهد، وسعوا في الأصل بالفساد إلا أن يقال : إن نقض العهد يكون بالاعتقاد وذلك يكون منهم وبين نسائهم، وكذلك قطع ما أمر به أمر صلة الإيمان بالنبيين والكتب جميعا.
فإن كان صلة الأرحام فهو فعل، والسعي في الأرض فعل أيضا من زنى أو سرقة وقطع الطريق وغير ذلك من المعاصي.
وقوله تعالى :( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) ما ذكرنا من وصل الإيمان ببعض الرسل [ وبكل الرسل وبجميع ][ في الأصل وم : مالكل وجميع ] الكتب، ويحتمل صلة الأرحام التي فرض عليهم [ صلتها، فقطعوها ][ في الأصل وم : صلتهم قطعوا ذلك ] وأمرهم أن يصلوا أعمالهم بما اعتقدوا.
وقوله تعالى :( أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) اللعنة هي الطرد في اللغة والإبعاد كأنهم طردوا، وأبعدوا عن رحمة الله في الآخرة، أو طردوا، وأبعدوا من هداية الله وإرشاده في الدنيا ( ولهم سوء الدار ) قد ذكرنا أنهم دعوا إلى دار، وحذروا عن دار ؛ دعوا إلى دار الإسلام، فإن أجابوا فلهم الحسنى على ما ذكر، وحذروا /٢٦٤-أ/ عن دار الهوان، فلم يحذروا[ في الأصل وم : يحذر ] دار السوء والهوان، وسماها[ في الأصل وم : أو سماها ] سوء الدار لما يسوء مقامهم فيها، أو ذكر لأهل النار سوء الدار مقابل ما ذكر لأهل الجنة حسن المآب وحسن الثواب والحسنى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) يحتمل ما أمر اللَّه به أن يوصل: ما ذكرنا من وصل الإيمان ببعض الرسل بالكل وبجميع الكتب، ويحتمل: صلة الأرحام التي فرض عليهم صلتهم؛ قطعوا ذلك.
أو أمرهم أن يصلوا أعمالهم بما اعتقدوا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).
اللعنة: هي الطرد - في اللغة - والإبعاد؛ كأنهم طردوا وأبعدوا عن رحمة اللَّه في الآخرة، أو طردوا وأبعدوا من هداية اللَّه وإرشاده في الدنيا.
(وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).
قد ذكرنا أنهم دعوا إلى دار؛ وحذروا عن دار: دعوا إلى دار السلام؛ فإن أجابوا فلهم الحسنى؛ على ما ذكر، وحذروا عن دار الهوان؛ فإن لم يحذروا فلهم دار السوء والهوان.
أو سماها سوء الدار؛ لما يسوء مقامهم فيها، أو ذكر لأهل النار سوء الدار مقابل ما ذكر لأهل الجنة: حسن المآب وحسن الثواب والحسنى.
* * *
قوله تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (٣٠)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ).
يرغبهم فيما عنده ويؤيسهم عما في أيدي الخلق، ويقطع رجاءهم عن ذلك؛ لأن الذي كان يمنعهم عن الإيمان به، ويحملهم على تكذيب الرسل؛ وترك الإجابة - هذه الأموال التي كانت في أيدي أُولَئِكَ، وبها رأوا دوام الرياسة والعز والشرف لهم في هذه
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
يحتمل قوله: (وَفَرِحُوا) صلة ما تقدم؛ وهو قوله: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ...) إلى قوله: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ)، ويفرحون بالحياة الدنيا.
ثم الفرح يحتمل وجوهًا:
يحتمل: فرحوا بالحياة الدنيا؛ أي: رضوا بها؛ كقوله: (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) أي: فرحوا، سرورًا بها.
فَإِنْ قِيلَ: إن المؤمن قد يسر بالحياة الدنيا؟
قيل: يُسَرُّ ولكن لا يُلْهيه سروره بها؛ ولا يغفل عن الآخرة، وأما الكافر: فإنه لشدة سروره بها وفرحه عليها؛ يلهي عن الآخرة؛ وعن جميع الطاعات. وهكذا العرف في الناس أنه إذا اشتد بالمرء السرور بالشيء؛ فإنه يلهي عن غيره ويغفل عنه.
أو يكون قوله: (وَفَرِحُوا) أي: أشروا وبطروا؛ كقوله تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)، وهو الأشر والبطر. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ).
تأويله - واللَّه أعلم - أي: ما الحياة الدنيا - مع طول تمتعهم بها بتمتع الآخرة - إلا كمتاع ساعة أو كمتاع شيء يسير؛ وهو كقوله: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) وكقوله: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)، يظنون - مع طول
وقال بعض أهل التأويل: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) أي: إلا لهو وباطل لكن الوجه فيه ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (٢٧)
يحتمل سؤالهم الآية أنفس الآيات التي أتت بها الرسل من قبل قومهم، أو سألوا آيات سموها، كقوله: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا...) الآية، (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ...)، إلى آخر ما ذكر من الآيات، سألوها منه، أو سألوه آيات تضطرهم وتقهرهم على الإيمان؛ كقوله: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ).
وفيه دلالة أنه لو شاء لأنزل عليهم آيات؛ لآمنوا كلهم بها، واهتدوا، وعنده أشياء لو أعطاهم لكان ذلك سبب اهتدائهم وتوحيدهم؛ وكذلك لو أعطى أشياء لكان ذلك سبب كفرهم جميعًا؛ كقوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ...) الآية، لكنه لا ينزل الآية على شهواتهم وأمانيهم، ولكن ينزل أشياء؛ تكون عند النظر والتأمل حجة؛ فمن تأمل فيها وتفكر لاهتدى وآمن بالاختيار، ومن أعرض عنها ولم يتفكر ضل وزاغ بالاختيار.
ويحتمل قوله: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً) أي: إن نشأ إيمانهم واهتداءهم ننزل عليهم آية، وذلك تأويل قوله على أثر سؤالهم الآية.
(قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ).
أي: ينزل من الآيات ما يهتدي بها المنيب إليها والمقبل، ويضل المعرض عنها؛
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وتسكن إليه.
وقال بعض أهل التأويل: هو في الحلف في الخصومات؛ ألا في الحلف باللَّه؛ أتطمئن وتسكن، قلوب الذين آمنوا لا تطمئن بالحلف بغير اللَّه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ألا بالقرآن؛ وبما في القرآن من الثواب، تسكن وتطمئن قلوب الذين آمنوا. ويشبه أن يكون قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) أي: تفرح وتستبشر قلوب الذين آمنوا بذكر اللَّه ألا بذكر اللَّه تستبشر وتفرح قلوب الذين آمنوا؛ لأنه ذكر في الكفرة الفرح بالحياة الدنيا؛ وهو قوله: (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا)، وذكر في المؤمنين الاستبشار والفرح بذكر اللَّه، وفي أُولَئِكَ ذكر أن قلوبهم تشمئز بذكر الرحمن وتستبشر بذكر من دونه؛ وهو قوله: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أخبر اللَّه تعالى أن قلوب المؤمنين تستبشر وتفرح بذكر اللَّه، وقلوب أُولَئِكَ تستبشر وتفرح بذكر من دونه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ... (٢٨) يخرج على وجهين:
أحدهما: تطمئن قلوبهم بذكر اللَّه لهم، وذكر اللَّه لهم التوفيق والتسديد والعصمة، ونحوه.
والثاني: تطمئن قلوبهم بذكرهم اللَّه، وذكرهم اللَّه: إحسانه ونعمه وعظمته وجلاله، ونحوه.
طوبى، قيل: خير لهم وغبطة، وقيل: حسنى لهم ونعمى لهم، وقيل: يقال: طوبى لك؛ إن أصبت خيرًا، وقيل: هو اسم الجنة بلسان الحبشة. وقيل: بالهندية، وقيل: اسم شجرة في الجنة أصلها في دار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وأغصانها في دار أمته، فإن كان هذا، وهو اسم شجرة؛ فذلك لا يستقيم إلا على تقدمة كان أهل الكتاب؛ ادعوها لأنفسهم؛ فأخبر أنها للذين آمنوا لا لهم كقولهم: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)، ادعوا الجنة لأنفسهم؛ فأخبر أنها ليست لهم؛ ولكن للذي أسلم وأخلص وجهه لله؛ فعلى ذلك يشبه أن يكونوا ادعوا طوبى لأنفسهم فأخبر أنها ليست لهم، ولكن للذين آمنوا.
وإن كان في مشركي العرب؛ فهم ينكرون البعث والجنة والنار، فيشبه أن يكونوا قالوا: إن كان بعث على ما تقولون وجنة وطوبى؛ فهي لنا؛ كقوله: (لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (طُوبَى): كلمة مدح اللَّه ثوابهم، وغبطهم بها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (طُوبَى): كرامة أعد اللَّه لأوليائه، وهي مذكورة في الكتب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (٣٠)
أي: كما أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) وقال كل واحد من الرسل: (رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ...) الآية أي: كل رسول كان
(لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يشبه أن يكون هذا صلة قوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، يقول: أرسلناك لتتلو أنباء الرسل والأمم الذين كانوا من قبلك عليهم؛ ليكون آية لرسالتك؛ ليعلموا أنك إنما علمت تلك الأنباء بالله تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ).
يقول - واللَّه أعلم - هم يكفرون بالرحمن؛ وفي كل الخلائق آية توحيد الرحمن وألوهيته؛ ولا في كل الخلائق آية لرسالتك، وهم مع ذلك كله يكفرون بالرحمن؛ فعلى ذلك يكفرون بآيات رسالتك.
وقال أبو بكر الأصم: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) هو صلة قوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، وكانوا هم أهل التعبد من الكبراء؛ فقال: لو جئتهم بقرآن سيرت به الجبال؛ أو قطعت به الأرض؛ أو كلم به الموتى، يقول: لو جئت بذلك كله كان أمرهم التكذيب والعناد؛ وهو كقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ...) الآية وقوله: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ...) الآية، يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن عنادهم أنهم لا يؤمنون بالآية - وإن عظمت - إلا أن يشاء اللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا) كقوله: (مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) أي: الأمر لله؛ من شاء أن يؤمن فيؤمن، ومن شاء ألا يؤمن فلا يؤمن ألبتَّة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) أي: يكفرون باسم الرحمن؛ لأنهم قالوا: إن محمدًا كان يدعونا إلى عبادة اللَّه وتوحيده فالساعة يدعونا إلى عبادة الرحمن وألوهيته؛ فذلك عبادة اثنين؛ فقال: (قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ) أي: دعائي إلى عبادة الرحمن وألوهيته وهو دعائي إلى عبادة اللَّه، وهو واحد ليس هو باثنين ولا عدد؛ كقوله:
لم تخل أمة عن رسول كقوله :( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )[ فاطر : ٢٤ ].
[ وقوله تعالى ][ ساقطة من الأصل وم ] :( لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) يشبه أن يكون هذا صلة قوله :( لولا أنزل عليه آية من ربه )[ يونس : ٢٠ ] يقول : أرسلناك لتتلو أنباء الرسل والأمم الذين كانوا من قبلك عليهم لتكون آية لرسالتك، ليعلموا أنك إنما علمت تلك الأنباء بالله تعالى.
وقوله تعالى :( وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ) يقول، والله أعلم، هم يكفرون بالرحمن، وفي كل من الخلائق آيات توحيد الله وألوهيته، ولا في كل الخلائق آية لرسالتك، وهم مع هذا كله يكفرون بالرحمن. فعلى ذلك يكفرون بآيات رسالتك.
وقال أبو بكر الأصم :( وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ) هو صلة قوله :( لولا أنزل عليه آية من ربه )[ الرعد : ٢٧ ] وكانوا أهل التعنت[ في الأصل و م : التعهد ] من الكبر فقال : لو جئتهم بقرآن ( سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى )[ الآية : ٣١ ].
يقول : لو جئت بذلك كله كان أمرهم بالتكذيب والعناد. وهو كقوله :( ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله )الآية[ الأنعام : ١١١ ] وقوله :( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء )الآية[ الحجر : ١٤ ] يخبر عز و جل عن عنادهم أنهم لا يؤمنون بالآية، وإن عظمت، إلا أن يشاء الله.
وقوله تعالى :( لله الأمر جميعا ) كقوله :( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة )[ الأنعام : ١١١ ] أي الأمر لله من شاء أن يؤمن يؤمن، ومن شاء أن لا يؤمن فلا يؤمن البتة.
وقال بعضهم : قوله :( وهم يكفرون بالرحمن ) أي يكفرون باسم الرحمن لأنهم قالوا : إن محمدا كان يدعونا إلى عبادة الله وتوحيده، فالساعة يدعونا إلى عبادة الرحمن وألوهيته، فذلك عبادة اثنين، فقال :( قل هو ربي لا إله إلا هو ) أي دعائي إلى عبادة الرحمن وألوهيته، هو دعائي إلى عبادة الله، وهو واحد، ليس باثنين ولا عدد، كقوله :( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن )[ الإسراء : ١١٠ ] أي عدد الأسماء لا يوجب عدد [ الذوات بل ][ في الأصل وم : الذات أو ] يكون لشيء واحد في الشاهد [ له ][ ساقطة من الأصل وم ] أسماء مختلفة. فاختلاف الأسماء لا يوجب اختلاف الذات فعلى ذلك في الله.
وقال بعضهم : الرحمن اسم من أسماء الله في الكتب الأول، قالوا : كتبها رسول الله، أبوا أن يقروا به ( قالوا وما الرحمن )[ الفرقان : ٦٠ ] إنا لا نعرفه، فنزل ( وهم يكفرون بالرحمن ) والله أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الرَّحْمَن) اسم من أسماء اللَّه في الكتب الأول، قالوا: كتبها رسول اللَّه؛ أبوا أن يقرءوا به، قالوا: وما الرحمن، إنا لا نعرفه؛ فنزل: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ). واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٣٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) إلى آخر ما ذكر.
قال بعض أهل التأويل: تأويله: لو أن قرآنا ما، غير قرآنك؛ سيرت به الجبال؛ من أماكنها؛ أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى، لفعلناه بقرآنك أيضًا، ذلك ولكن لم نفعل بكتاب من الكتب التي أنزلتها على الرسل الذين من قبلك، ولكن شيء أعطيته أنبيائي ورسلي.
(بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا).
يقول: بل جميع ذلك الأمر كان من اللَّه؛ وليس من قبل القرآن؛ أي: لو فعل بالقرآن ذلك كان جميع ذلك من اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا) إن شاء فعل ما سألتم، وإن شاء لم يفعل ويشبه أن يكون غير هذا أقرب؛ أن يكون صلة ما تقدم من سؤالهم الآيات؛ وهو قوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، فيقول: لو أن قرآنك الذي تقرؤه عليهم: لو سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى لما آمنوا بك؛ ولما صدقوك على رسالتك على ما لا يؤمنون بالرحمن، وكل الخلائق له آية لوحدانيته
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ).
أي: لو أن قرآنا ما عمل ما ذكر لكان هذا القرآن؛ تعظيمًا لهذا القرآن.
والتأويل الذي ذكرنا قبل هذا كأنه أقرب. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة ما تقدم؛ من قوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ...) الآية، يقول - واللَّه أعلم -: أفلم ييئس الذين آمنوا عن إيمان من كان على ما وصف اللَّه، وتمام هذا كأن المؤمنين سألوا لهم الآيات، ليؤمنوا؛ لما سألوا هم آيات من رسول اللَّه؛ فيقول: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) عن إيمان هَؤُلَاءِ؛ وهو كما قال: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)، كأن المؤمنين سألوا لهم الآيات ليؤمنوا؛ فقال: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ) يَا أَيُّهَا المؤمنون (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) أي: يؤمنون على طرح (لا) على هذا التأويل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا): أفلم يتبين للذين آمنوا أنهم لا يؤمنون؛ لكثرة ما رأوا منهم من العناد والمكابرة.
فسروا الإياس بالعلم والأيس؛ لأن الإياس إذا غلب يعمل عمل العلم؛ كالخوف والظن ونحوه جعلوه يقينًا، وعلمًا للغلبة؛ لأنه إذا غلب يعمل عمل اليقين والعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ): أي: أفلم يعلم الذين آمنوا أن اللَّه يفعل ذلك، لو شاء لهدى الناس جميعًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) أي: أفلم يعلم الذين آمنوا، أي: قد علم الذين آمنوا، لو شاء اللَّه إيمان الناس واهتداءهم لآمنوا واهتدوا.
وقال صاحب هذا التأويل: إن هذا جائز في اللغة: ييئس: يعلم، وذكر أنها لغة " نخع " وغيرها. واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) مقطوع من قوله (أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ...) الآية، وهو موصول بما تقدم من قوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ثم قال جوابًا لما قالوا؛ كأنه قال: لو يشاء اللَّه لهدى الناس جميعًا ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء، أي: علم منه أنه يختار الضلال، ويؤثره؛ يشاء ذلك له، ومن علم منه أنه يختار الهدى يشاء ذلك له، ويكون قوله: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) مقطوع لا جواب له، كأنه قال: أفلم ييئس الذين آمنوا عن إيمانهم لكثرة ما رأوا منهم من العناد والتعنت بعد رؤيتهم الآيات والحجج، كأن أهل الإيمان والإسلام سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الآيات التي سألوا هم؛ رغبة في إسلامهم؛ وإشفاقًا عليهم؛ فيقول - واللَّه أعلم -: ألم يأن للذين آمنوا الإياس من إيمانهم؛ أي: قد أنى للذين آمنوا أن ييئسوا من إيمانهم؛ كقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ...) الآية، فعلى ذلك هذا يقول: قد أنى للذين آمنوا أن ييئسوا من إيمانهم، ولو شاء اللَّه لهدى الناس جميعًا؛ وقوله: (أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) صلته قوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) (أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: الذين حاربوا رسول اللَّه.
(تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ).
القارعة: هي ما يقرع القلوب ويكسرها، ثم قرعهم يكون بعذاب، وقتل، وغيره؛ من الهزيمة ونحوه وبسبي ذراريهم [وبغنم] المسلمين أموالهم.
(أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أو تكون القارعة بجيرانهم الذين قرب منكم دارهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تزال سرية من سرايا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تحل ببعضهم؛ أو ينزل هو قريبًا منهم؛ حتى يأتي وعد اللَّه، وعد اللَّه يكون بوجهين:
أحدهما: أن يظفره بهم جميعًا، وأن يورث المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم.
والثاني: يكون وعد اللَّه فتح مكة؛ كقوله: (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا...).
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) ما وعد رسوله؛ من الفتح والنصر وغيره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ).
يحتمل ما ذكر؛ من إصابة القارعة؛ الجوع والشدائد التي أصابتهم، ويحتمل القتال والحرب؛ التي كانت بينهم وبينهم.
وقوله: (أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ) نزول السرايا بقرب من دارهم.
(حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) يحتمل فتح مكة، أي: تحل قريبًا من دارهم حتى يأتي ما وعد اللَّه؛ من فتح مكة عليك، أو أن يكون وعد اللَّه هو البعث واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٣٢)
يقول: ولقد استهزأ برسل من قبلك قومُهم؛ كما استهزأ بك قومُك، يُعَزِّي نبيهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليصبر على تكذيبهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يقول: أمهلتهم في كفرهم وهزئهم.
هذا يدل أن تأخر العذاب عنهم لا يؤمنهم.
وقوله: (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) يقول: أحللت بهم جزاء ما كانوا يهزءون منه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فكيف كان عقاب اللَّه؟ أي: شديد عقابه؛ وهو كقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا...) الآية، وقيل: كيف رأيت عذابي لهم أي: أليس وجدوه شديدًا.
والثالث: (فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ): أي: أليس ما أوعدهم الرسل من العذاب كان حقًا وصدقًا.
* * *
قوله تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (٣٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ).
قال أبو بكر الأصم: يقول: من الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت اللَّه أم شركاؤكم فالقائم هو المدبر الحافظ بكل ما فيه الخلق ويشبه أن يكون تأويله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ) أي: حافظ وعالم على كل نفس بما كسبت؛ أو بالرزق لهم والدفع عنهم، كمن هو أعمى عن ذلك، ليسا بسواء كقوله: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ...) الآية.
أو يقول: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت؛ كمن هو غير قائم عليه؟ ليسا بسواء.
وقال مقاتل: أفمن هو قائم على رزقهم وطعامهم.
ثم قال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ).
أي: وصفوا لله شركاء وعبدوها؛ واللَّه أحق أن يعبد من غيره.
والوجه فيه ما وصفنا: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، أي: يرزق ويبصر ويعلم ما تعمل وتكسب ويحفظ، عن أنواع البلايا؛ كمن هو أعمى جاهل عاجز عن ذلك كله؟ أي: ليس هذا كذلك. ويسفههم في إشراكهم الأصنام التي عبدوها في الألوهية والعبادة، وهي بالوصف الذي ذكر؛ كمن هو أعمى عاجز عن ذلك؟ أي: ليسا بسواء.
وقوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) يحتمل قائم على كل نفس بما كسبت؛ فيما قدر لها وقواها أو في الجزاء يجزي على ما تكسب.
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ) في العبادة؛ أو في تسميتهم آلهة، لا يعلمون ما كسب لها، ولا يملكون جزاء ما كسبوا لها أيضًا.
يبين سفههم في - جعلهم هذه الأصنام والأوثان شركاء لله في العبادة؛ وتسميتهم آلهة؛ مع علمهم أنهم لا يقدرون ولا يملكون شيئًا من ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ سَمُّوهُمْ).
قال بعض أهل التأويل: قوله: (قُلْ سَمُّوهُمْ) بذلك الاسم؛ ولو سموهم، سموهم بكذب وباطل وزور.
وعندنا قوله: (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي: لو سميتموها آلهة واتخذتموها معبودًا؛ فسموهم أيضًا بأسماء سميتم اللَّه؛ من نحو: الخالق والرازق والرحمن والرحيم؛ ونحوه.
يقول - واللَّه أعلم - إذ سميتم هذه الأصنام آلهة ومعبودًا، سموهم أيضًا: خالقًا ورازقا ورحمانا ورحيمًا، وهم يعلمون أنها ليست كذلك. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ).
أي: أم تنبئون اللَّه؛ وهو عالم بما في السماوات وما في الأرض؛ وعالم بكل شيء، وهو لا يعلم في الأرض ما تقولون من الآلهة وما تصفونه بالشركاء؟! وكذلك يخرج قوله:
والثاني: أم تنبئونه بما لا يعلم؛ أي: ليس في الأرض.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ).
قال أهل التأويل: (أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي: بل بباطل من القول وزور.
ويشبه أن يكون بظاهر من القول؛ أي: بضعيف من القول وخفيف، يسمون الشيء الذي لا حقيقة له ولا ثبات ظاهرًا باديًا؛ كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) أي: ضعيف الرأي: وخفيفه؛ لا حقيقة له ولا قرار.
ويحتمل قوله: (أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) في الخلق والأسلاف؛ أي: لم يظهر ما يقولون؛ ويصفون؛ إشراك هذه الأصنام؛ وتسميتها آلهة ومعبودًا؛ فيكون (أم) في موضع حقيقة ويقين؛ على هذا التأويل واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ).
قال بعض أهل التأويل: (مَكْرُهُمْ): قولهم الذي قالوه من الكذب والزور؛ أنها آلهة وأنها شركاء الله
لكن يشبه أن يكون قوله: (مَكْرُهُمْ) أي: مكرهم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث احتالوا حيلا؛ ليقتلوه لئلا يظهر هذا الدِّين في الأرض، ويطفئون هذا النور؛ ليدوم عزهم وشرفهم في هذه الدنيا؛ وهو كقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، والمكر: هو الاحتيال؛ والأخذ من حيث الأمن. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ).
صدوا؛ لما علموا من مكرهم واختيارهم ما اختاروا والسبيل، المطلق هو سبيل اللَّه؛ وإلا كان جميع الأديان والمذاهب يسمى سبيلا؛ كقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).
من أضله اللَّه فلا يملك أحد هدايته، ومن هداه فلا يملك أحد إضلاله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٣٤)
العذاب لهم في الحياة الدنيا يحتمل: القتل والقتال؛ والخوف والجوع؛ وأنواع البلايا؛ كقوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ...) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ) أي: أشد.
(وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) أي: مالهم من عذاب اللَّه من واقٍ يقيهم من عذابه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (٣٥)
يحتمل: وصف الجنة التي وعد المتقون؛ أو صفة الجنة التي وعد المتقون. ويحتمل: أي: شبه الجنة التي وعد المتقون.
كشبه النار التي وعد الكافرون؛ أي: ليسا بشبيهين ولا مثلين، لا تكون هذه مثل هذه ولا تشبهها؛ كقوله: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ...) الآية. يقول - واللَّه أعلم - يقول: الذي وصفه كذا من النعم الدائمة - كالذي يكون عذابه ووصفه كذا؛ أي: لا يكون؛ فعلى ذلك الأول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ).
أي: ثمار الجنة دائمة لا تزول ولا تنقطع؛ ليس كثمار الدنيا، ونعيمها ليس من ثمرة من ثمار الدنيا إلا وهي تزول وتنقطع في وقت؛ فأخبر أن ثمار الآخرة - وما فيها من النعيم - غير زائلة ولا منقطعة، وكذلك عذابها أدائم، لا يزول.
(وَظِلُّهَا) أيضًا.
أخبر أن ظل الجنة لا يزول ولا ينقطع، لا يكون فيها شمس يزول ظلها بزوالها.
وصف جميع ما فيها بالدوام والمنفعة: الظل شيء لا أذى فيه؛ وفيه منافع، والشمس فيها أذى ومنافع، وكذلك جميع ما يكون من الأشياء في الدنيا؛ يكون فيها منافع ومضار؛ وأنها تزول وتنقطع؛ فأخبر أن ظل الآخرة وما فيها من النعم دائمة باقية؛ غير زائلة ولا
وقوله تعالى :( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ ) أي ثمارها دائمة، لا تزول، ولا تنقطع، ليس كثمار الدنيا، إلا وهي تزول، وتنقطع في وقت. فأخبر أن ثمار الآخرة، وما فيها من النعم، دائمة باقية غير زائلة ولا منقطعة وكذلك عذابها دائم، لا يزول ( وظلها ) أيضا.
أخبر أن ظل الجنة لا يزول ولا ينقطع، لا يكون فيها شمس، يزول ظلها بزوالها، وصف جميع ما فيها بالدوام والمنفعة ؛ الظل شيء لا أذى فيه، وفيه منافع، والشمس فيها أذى ومنافع، وكذلك جميع ما يكون من الأشياء في الدنيا، يكون [ فيها منافع ومضار، وإنها ][ في الأصل وم : من الأشياء فيها منافع ومضار إنها ] تزول، وتنقطع. فأخبر أن ظل الآخرة، وما فيها من النعم دائمة باقية غير زائلة ولا منقطعة، ولا مضرة فيها، ليس كنعيم الدنيا وظلها، والله أعلم.
وقوله تعالى :( تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) ظاهر[ أدرج قبلها في الأصل وم : أي جزاء الكافرين النار ] هذا أن تكون [ عقبى ][ ساقطة من الأصل وم ] الذين اتقوا الشرك لأنه ذكر ( وعقبى الكافرين النار ) أي جزاء وعقبى ما ذكرنا، أي تلك الجنة جزاء الذين اتقوا الشرك، ( وعقبى الكافرين النار ) أي جزاؤهم [ في الأرص وم : جزاء، في م : جزاؤه ] النار، أو عقبى [ هؤلاء الذين ][ في الأصل وم : هذه للذين ] اتقوا [ الشرك ][ ساقطة من الأصل وم ] الجنة، وعقبى أولئك النار.
وقال بعضهم :( تلك عقبى الذين اتقوا ) أي عاقبة أعمالهم وحسناتهم الجنة، وعاقبة أعمال الذين كفروا بتوحيد الله النار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ).
أي: جزاء الكافرين النار، ظاهر هذا أن يكون: الذين اتقوا تقى الشرك؛ لأنه ذكر عقبى الكافرين النار؛ أي: جزاء وعقبى ما ذكرنا؛ أي: تلك الجنة جزاء الذين اتقوا الشرك، وعقبى الكافرين النار؛ أي: جزاء الكافرين النار. أو عقبى هذه للذين اتقوا الجنة، وعقبى أُولَئِكَ النار.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي: عاقبة أعمالهم وحسناتهم الجنة؛ وعاقبة أعمال الذين كفروا بتوحيد اللَّه النار.
* * *
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (٣٧)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ).
يشبه أن تكون الآية صلة قوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ)؛ فأخبر - عز وجل -: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)؛ بذكر الرحمن.
ثم اختلف في قوله: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: أصحاب مُحَمَّد؛ فرحوا بما أنزل إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ): أهل التوراة يفرحون بما أنزل إليك يذكر هاهنا أنهم يفرحون بما أنزل إليك، ويذكر في موضيع: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ).
وقال في موضع آخر: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) فمن تلا منهم الكتاب حق تلاوته ولم يبدله ولم يغيره - فهو يؤمن به؛ ويفرح بما أنزل على مُحَمَّد، ومن غيَّره وبدَّله - فهو لم يفرح بما أنزل عليه.
وقوله: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) تأويله - واللَّه أعلم - كأنه قال: والذين آتيناهم منافع الكتاب أُولَئِكَ يفرحون بما أنزل إليك، وهو ما قال في آية
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ).
يحتمل: أهل الكتاب كانوا ينكرون بعض ما أنزل إليه؛ لا ينكرون كل ما أنزل إليه؛ وإنما ينكرون نعته وصفته؛ لأنهم كتموا نعته وصفته التي في كتبهم.
ويحتمل قوله: (وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) مشركي العرب؛ وهم أيضًا أنكروا بعض ما أنزل إليه؛ وهو ما ذكر: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ)، في قوله: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)، ونحوه، لم ينكروا كله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو).
كأن هذا قاله على إثر قول كان منهم؛ كأنهم دعوه إلى أن يشاركهم في عبادة الأصنام، أو دعوه أن يكون على ما كان آباؤهم؛ فقال: قل إنما أمرت أن أعبد اللَّه وأمرت ألا أشرك به.
ويحتمل قوله: (وَلَا أُشْرِكَ بِهِ) قال ذلك من نفسه.
(إِلَيْهِ أَدْعُو) يقول: إلى توحيد اللَّه أدعو غيري ثم أخالف وأعبد غيره؟
(وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي: إليه المرجع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (٣٧) أي: كما علمناك آدابًا وأعطيناك النبوة - كذلك أنزلنا عليك.
(حُكْمًا عَرَبِيًّا) قيل حكمة عربية، وكانت العرب لا تفهم الحكمة؛ أو أنزلنا ما فيه حكم. وتفسير قوله: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) ما ذكر في آية أخرى؛ وهو قوله: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) سمى القرآن حكما؛ لأنه للحكم أنزل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).
هذا يدل أنهم كانوا يدعونه إلى أن يشاركهم في بعض ما هم فيه.
(مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ) وينصرك ويمنعك من عذاب اللَّه.
(وَلَا وَاقٍ) يعني العذاب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً).
قال بعض أهل التأويل: نزل هذا وذلك: أن اليهود عيَّروا رسول اللَّه، وطعنوا في كثرة النساء والأولاد؛ وقالوا: لو كان نبيا على ما يزعم لكان لا يمتع بالنساء؛ ولا يطلب الأولاد، كما يفعله غيره؛ وكانت النبوة تشغله عن ذلك. فأنزل اللَّه تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا..) الآية، أي: الاستمتاع بالنساء واستكثاره أمنهن، - لم يمنع عن الاختصاص بالنبوة والرسالة، على ما لم يمنع غيره من الرسل الذين كانوا من قبله. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ).
أي: لا يملكون إنزال الآيات من أنفسهم؛ إنما يتولى اللَّه إنزالها إذا شاء ذلك؛ وهو كقول عيسى؛ حيث قال: (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ...) الآية، أخبر أن ما يأتي من الآيات إنما يأتيها بإذن اللَّه وبأمره؛ لا من نفسه.
يحتمل أن يكون جواب ما ذكر أهل التأويل، وجواب غير ذلك أيضًا؛ وهو طعنهم الرسل باكل والشرب والمشي في الأسواق، وسؤالهم الآيات التي سألوهم، وجواب إنكارهم الرسل من البشر يقول: لست أنت بأول رسول طعنت بما طعنك به قومك؛ ولكن كان قبلك رسل طعن قومهم بما طعن به قومك؛ وسألوهم من الآيات ما سأل به قومك؛ فلم يكن ذلك لهم عذرًا في رد ما ردوا وترك ما تركوا؛ بل نزل بهم العذاب، فعلى ذلك قومك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ).
اختلف فيه: قال قائلون: لكل كتاب أجل؛ وهي: الكتب التي أنزلت على الرسل؛ يعمل بها إلى وقت؛ ثم تنسخ أو يترك العمل بها.
وقال قائلون: هو ما قال: لكل أجل كتاب؛ أي: لكل ذي أجل أجله؛ إلى وقت انقضائه؛ ليس يراد به الكتابة باليد؛ ولكن الإثبات؛ كقوله: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
ويحتمل قوله: لكل كتاب أجل؛ أي: لكل ما كتب له الأجل؛ وجعل له الوقت؛ من العذاب ينزل بالمعاندين والنصر للرسل؛ فإنه لا يكون قبل ذلك الوقت، ولا يتأخر أيضًا عن ذلك الوقت؛ وهو كقوله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (٣٩)
قال قائلون: قوله: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ) المحو - هاهنا -: أن أنشأه في الابتداء بمحو؛ ليس على أن كان مثبتًا فمحاه، ولكن أنشاه هكذا ممحوا؛ وهو كقوله: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ) ليس أنه كان منشأ كذا ثم محي؛ ولكن أنشأه في الابتداء ممحوًّا، وكقوله: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ) ليس أنها كانت موضوعة ثم رفعها؛ ولكن أنشأها مرتفعة كما هي، فعلى ذلك هذا.
ثم يحتمل ذلك الأعمال التي كانت معفوَّة في الأصل؛ من نحو أعمال الصبيان؛ والأعمال التي لا جزاء عليها.
وقال قائلون: على إحداث محو؛ ثم هو يحتمل وجوهًا: يحتمل: ما ينسخ من الأحكام - فهو على محو الحكم به؛ والعمل ليس على محو نفسه؛ (وَيُثْبِتُ): وهو ما لا ينسخ؛ ولا يترك العمل به والحكم.
ويحتمل المحو: محو الأحوال؛ وهو ما ينقل ويحول من حال إلى حال؛ من حال النطفة إلى حال العلقة، ومن حال العلقة إلى حال المضغة، يحوله وينقله من حال إلى حال أخرى؛ فذلك هو المحو.
ويحتمل المحو -أيضًا-: هو ما يختم به العمر؛ السعادة أو الشقاء: إذا كان كافرًا ثم أسلم في آخر عمره - محيت الأعمال التي كانت له في حال كفره؛ فأبدلت حسنات،
أو أن يكون ما ذكر من المحو والإثبات: هو ما يكتب الحفظة من الأعمال والأفعال يمحي عنها ما لا جزاء لها ولا ثواب؛ ويبقي ما له الجزاء والثواب ويترك مكتوبًا كما هو.
أو يكون للخلق مقاصد في أفعالهم؛ والحفظة لا يطلعون على مقاصدهم؛ فيكتبون هم ما هو في الحقيقة حسنة؛ لقصده سيئة؛ على ظاهر ما عمل، أو حسنة في الظاهر؛ وهو في الحقيقة سيئة؛ فيغير ذلك؛ فيجعل ما هو في الحقيقة شر وفي الظاهر خير - شرّا بالقصد، وما هو في الحقيقة خير وفي الظاهر شر - خيرًا.
أو أن يكون في كتابة الحفظة لكنه من وجه آخر؛ وهو أن الحفظة يكتبون الأعمال؛ ثم يعارض ذلك بما في اللوح المحفوظ؛ فمحى من كتابة الحفظة من الزيادة؛ ويثبت فيها ما كان فيه من النقصان. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ).
هذا يحتمل: عنده الذي يعارض به كتب الملائكة.
ويحتمل: وعنده أُم الكتاب الذي يستنسخ منه الكتب التي أنزلت على الأنبياء والرسل؛ وهو في اللوح المحفوظ.
وفيه دلالة أن اختلاف الألسن لا يوجب تغيير المعنى؛ لأنه لا يدري أن تلك الكتب في اللوح بأي لسان هي، ثم أنزل منه كل كتاب على لسان الرسول الذي نزل عليه، وكذلك الملائكة الذين يكتبون أعمال بني آدم؛ لا يحتمل أن يكتبوا بلسان الخلق؛ لأنه يظهر لو كانوا يكتبون بلسان هَؤُلَاءِ؛ فدل أنهم إنما يكتبون بلسان أنفسهم، فهذا كله يدل أن اختلاف اللسان لا يوجب اختلاف المعنى. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (٤٠)
كأنه صلوات اللَّه وسلامه عليه طمع أو سأله أن يريه جميع ما وعد له من إنزال
وقوله: (وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) يحتمل حساب ما وعد وجزاءه، ويحتمل الحساب المعروف؛ الذي يحاسبهم يوم القيامة. واللَّه أعلم. أي: لا يتركهم هملًا سدى، أو قوله: (وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) أي: إلينا الحساب، أو لنا الحساب، وذلك جائز في اللغة.
* * *
قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (٤٣)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَرَوْا).
قد ذكرنا في ما تقدم أنه إنما هو حرف تعجب وتنبيه؛ فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: على الخبر؛ أي: قد رأوا أنا فعلنا ما ذكر.
والثاني: على الأمر؛ أي: أرَوْا أنَا، فعلنا ما ذكر؛ وهو ما ذكر من قوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي: قد ساروا في الأرض؛ أو سيروا.
(أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما جعل من أرض الكفرة للمسلمين؛ بالفتح لهم؛ والنصر على
هذا واللَّه أعلم ما أراد بما ذكر من النقصان.
وقال قائلون: نقصان الأرض: موت فقهائها وعلمائها وفنائها.
ووجه هذا: وهو أن الفقهاء والعلماء - هم عمَّار الأرض وأهلها؛ وبهم صلاح الأرض؛ فوصف الأرض بالنقصان بذهاب أهلها، وهو كما وصف الأرض بالفساد؛ وهو قوله: (لَفَسَدَتِ الأَرْضُ)، وقوله: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) فالأرض لا تفسد بنفسها؛ ولكن وصفت بالفساد؛ لفساد أهلها، فعلى ذلك لا تنقص هي بنفسها؛ ولكن وصفت بالنقصان؛ لذهاب أهلها، وعمارها وفقهائها وعلمائها.
ثم يحتمل ذهاب العلماء المتقدمين، الذين تقدموا رسول اللَّه في الأمم السالفة؛ وهم علماء أهل الكتاب؛ فيقول ألا يعتبرون بأُولَئِكَ الذين قبضوا وتفانوا من علمائهم؟ فلا بدّ من رسول يعلمهم الآداب والعلوم؛ ويجدد لهم ما دَرَس من الرسوم وذهب، من الآثار؛ فكيف أنكروا رسالته؟ وفي بعث الرسول حدوث العلماء؛ وذلك وقت حدوث العلماء وزمانه؛ فإن كان أراد العلماء المتأخرين وففهاءهم - فيخرج ذلك مخرج التعزية له؛ أي: تصير الأرض بحال توصف بالنقصان، بذهاب العلماء والفقهاء. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ).
قيل: لا رادَّ لحكمه، وحكمه: يحتمل: العذاب الذي حكم على الكفرة؛ يقول: لا رادَّ للعذاب الذي حكم عليهم؛ أوهو كقوله: (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)، أي:
ويحتمل قوله: (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي: لا يتعقب أحد حكمه؛ ولا يعقب أحد سلطانه؛ كما يكون في حكم الخلائق يتعقب بعض عن بعض، وكما ذكر في الحفظة: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)، يتعقب بعض عن بعض في الحفظ؛ وفيما سلطوا. واللَّه أعلم.
(وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) هذا قد ذكرناه في غير موضع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢)
أي: مكر الذين من قبلهم برسلهم؛ كمكر هَؤُلَاءِ بك يصبر رسوله على أذاهم به.
ثم يحتمل المكر به وجهين:
أحدهما: مكروا بنفسه؛ هموا قتله وإهلاكه.
والثاني: مكروا بدينه الذي دعاهم إليه وأراد إظهاره؛ هموا هم إطفاء ذلك وإبطاله وكذلك مكر الذين من قبلهم برسلهم يخرج على هذا. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا).
هذا أيضًا يخرج على وجهين:
أحدهما: يقول: فلله جزاء المكر جميعًا؛ يجزى كلا بمكره.
والثاني: أي: لله حقيقة المكر يأخذهم جميعًا بالحق من حيث لا يشعرون، وأما هم فإنما يأخذون ما يأخذون لا بالحق ولكن بالباطل، ولا يقدرون على الأخذ من حيث لا يشعرون إلا قليلا من ذلك، فحقيقة المكر الذي هو مكر بالحق في الحقيقة لله لا لهم.
ْويحتمل قوله: (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا) أي: لله تدبير الأمر جميعًا، إن شاء أمضاه؛ وإن شاء منعه، إليه ذلك لا إليهم.
أو لله حقيقة المكر يغلب مكره مكر أُولَئِكَ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) من خير أو شر.
(وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ).
يشبه أن يكون عقبى الدار معروفًا عندهم؛ وهي الجنة، فيكون صلة قولهم: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، فيقول - واللَّه أعلم - سيعلمون هم لمن عقبى الدار؛ أهي لهم أم هي للمؤمنين؟
أو أن يكون جواب قوله: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا... (٤٣) أي: قالوا.
(لَسْتَ مُرْسَلًا) أي: لن يبعثك اللَّه رسولا، وهم كانوا يقولون كذلك له فأمره أن يقول لهم.
قوله تعالى: (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) إني نبي رسول اللَّه إليكم بالآيات التي آتي بها، أو كان قال لهم ذلك؛ لما بالغ في الحجاج والبراهين في إثبات الرسالة والنبوة؛ فلم يقبلوا ذلك فأيس من تصديقهم؛ فعند ذلك قال:
قوله تعالى: (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) أي: يعلم من كان عنده علم الكتاب؛ يعني التوراة؛ فيشهد أيضًا أني رسول نبي؛ أي: يعلم من كان عنده علم الكتاب أني على حق؛ وأني رسول اللَّه؛ وهو كقوله: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً...) الآية. وقوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)، ومن قرأ بالخفض: (ومِنْ عِنْدِه عِلمُ الكتابِ) فتأويله - واللَّه أعلم -: أي: من عند اللَّه جاء علم هذا الكتاب؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكذلك روي في بعض الأخبار؛ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه كان يقرأ: (ومِنْ عِنْدِه عِلمُ الكتابِ) بالخفض، وأما القراء جميعًا فإنهم يختارون النصب (وَمَن عِندَه عِلْمُ الكتابِ).
قال أبو عبيد: وقرأ بعضهم: [(ومِن عِندِهِ عُلِمَ الكتابُ) بخفض الميم والدال ورفع العين؛] وقال: لكن لا أدري عمن هو.
وروي عن عبد اللَّه بن سلام أنه قال: فيَّ نَزَلَ: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) هذا يؤيد أن يثبت قول أهل التأويل؛ حيث قالوا: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ): عبد اللَّه بن سلام وأصحابه. واللَّه أعلم.
* * *