تفسير سورة الرعد

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ الرَّعْد
(مدنية)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١)
(المر)
قد فسرنا في سورة البقرة ما قيل في هذا وأشباهه، ورُوِيَ أنَّ معناه أنَا
اللَّهُ أرَى، ورُوِي أنا اللَّه أعلم وأرى، وروي أن " المر " حروف تدل على اسم الرب جَلً جَلالُه
وقولى تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ).
جاء في التفسير أنَّ الذي أنْزِلَ قَبْل القرآن آياتُ الكتاب.
(وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ).
أي والقرآن المنزلُ عَليكَ الْحَقُّ، ويجوز أن يكونَ موضِعُ (الذي) رفعاَ
على الابتداء، ويجوز أن يكون رفعاً على العطف على (آياتُ)
ويكون (الْحَقُّ) مَرْفُوعاً على إضمار هُوَ، ويجوز أن يكون موضع الذي خَفْضاً، عطفاً على الكتاب، المعنى تلك آيات الكتاب وآياتُ الًذِي أنْزِلَ إليكَ، ويكون الذي أنزل من نعت الكتاب وإن جاءت الواو، ويكون الحق مرفوعاً على الِإضمار، ويجوز أن يكون الحق صفة للذي.
المعنى: تلك آيات الكتاب والذي أنْزِلَ إليك من ربك الحق، ولا
أعلم أحداً قرأ بها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)
لَمَّا ذكر أنهم لا يؤمنون عرف الدليلَ الذي يوجب التصديق بالخالق
عزَّ وجلَّ - فقال: (اللَّهُ الَّذِي رَفَع السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ)، وفي ذلك من القدرة والدلالة ما لا شيءَ أوضحُ منه أن السماء محيطة بالأرض متبرية منها.
بغير عَمَدٍ. والمعنى بغير عمدٍ وأنتم ترونها كذلك، ويجوز أن تكون
(ترونها) من نعت العَمَدِ، المعنى بغير عَمَدٍ مرئيةٍ، وعلى هذا تعمدها قدرة
الله عزَّ وجلَّ.
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى).
كل مقهور مدبَّر لا يملك لنفسه ما يخلصه من القهر، فذلك معنى
السُّخْرَةِ، فالشمس والقمر مسخران يجريان مجاريهما التي سخرا جاريين
عليها.
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يحكمه.
(يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ).
أي يبين الآيات التي تدل على قدرته على بعثكم، لعَلكُم تُوقِنُونَ.
لأنهم كانوا يجحدون البعث، فاعلموا أن الذي خلق السَّمَاوَات وأنشأ الإنسان ولم يكن شيئاً، قادر على إعادته.
* * *
(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)
دلَّهُم - بعد أن بين آيات السماء - بآيات الأرض، فقال - عزَّ وجلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) روي في التفسير أنها كانت مُدَورَةً فمُدَّت.
ومَعْناهُ بَسَطَ الأرْضَ.
(وَجَعَلَ فِيها رَوَاسيَ).
أي جِبَالاً ثوابِتَ، يقال: قد رَسَا الشيءُ يَرْسُو رُسُوًّا فهو راسٍ إذا ثبت
(وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ).
جعل فيها نوعين، والزوج الواحد الذي ليس له قرين
(يُغَشِّي اللَّيْلَ النَّهَارَ).
وتقرأ (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ) ثم أى أم أنَّ ما ذكر من هذ؛ الأشياء فيه برهان
وعلامات بينات فقال:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
ثم زادهم من البرهان فَقَال..
(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
يروى في التفسير أنها تتجاوَرُ، بعضُها عامر، وبعضها غير عَامِر، وكذا
في التفسير أيضاً أن معناه قطع متجاورات.
(وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ).
الأجود رفع جنات، المعنى وفي الأرض قطع متجاورات، وبينهما
جناتٍ، ويجوز النصب في جنات، ويقرأ وجناتٍ من أعنابٍ، المعنى جعل
فيها رواسي وجعل فيها جنات من أعناب، ويجوز أن يكون وَجَناتٍ خفضاً.
ويكون نسقاً على كل، المعنى: ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين،
ومن جنات من أعناب (وَزَرْعٌ)، فأما (وَزَرْعٌ) فيجوز فيه الرفع والخفض.
وكذلك (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ).
والصِّنْوَانُ جمع صِنْوٍ وصُنْوٍ، ومعنى الصنوان أن يكون الأصل واحِداً
وفيه النخلتان والثلاث والأكثر، ويجوز في جمع صنو أصْنَاءٌ، مثل عِدْل
وأعدال، وكذلك صُنْو فإذا كثرت فَهِيَ الصُّنى والصِّنيِّ.
(يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ).
ويجوز تسقى بالتاء، بماءٍ واحدٍ
(وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ).
والْأُكُل: الثمَرُ الَّذِي يؤكَلِ، ويجوز، وُيفَضل بعضَها عَلَى بعضٍ لأنه
جرى ذكر اللَّه، فالمعنى يُفَضل اللَّهُ، وكذلك إذا قال: ونفضلُ بالنونِ لأن
الإِخبار عن اللَّه بلفظ الجماعة كما قال: (إِنَا نحنَّ نُحْيي وَنُمِيتُ)
وهذا خوطب به العَربُ لأنهم يستعملون فيمن يُبَجِّلُونَه لفظ الجمَاعة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٥)
هذا خطاب للنبي عليه السلام.
(أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).
أي هذا موضع عجب، لأنهم أنكروا البعث، وقد بين لهم من عِظَمِ
خلقِ السَّمَاوَاتِ والأرض ما يدل على أنَّ البَعْثَ أسْهَل في القدرة مما قد تَبَيَّنُوا.
فَأمَّا موضع (أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) فموضع إذَا نَصْب فمن قرأ..
(أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا) على لفظ الاستفهام، ثم قرأ (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)
فإذا منصوبة بمعنى نبعث ويجَدَّدُ خَلْقُنَا.
المعنى إذا كنا تراباً نبعث ودل على إرادتهم (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).
ومن قرأ إذا كنَا تراباً إنا لفي خَلق جديد أدْخَل ألف الاستفهام على
جملة الكلام، وكانت إذا نصباً بـ (كُنَّا)، لكن الكلام يكون في معنى الشرط
والجزاء، ولا يجوز أن تعمل " جَدِيد " في إذَا، لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما
قبلها.
لا اختلاف بين النحويين أنَّ ما بَعْدَ إِنْ وإذا لا يعمل فيما قبلهما.
ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن المستفهِمَ بعد البَيَانِ والبُرْهَانِ عن هذا على
جهة الإِنكار كافر، فقال:
(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ).
جاء في التفسير أن الأغلال الأعْمَالُ في أعناقهم يومَ القيامة، والدليل
على ذلك في القرآن قوله: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ).
وقيل أولئك الأغلال في أعناقهم، أي الأغلال التي هي
الأعمال، وهي أيضاً مؤدية إلى كون الأغلال في أعناقهم يوم القيامة، لأن
قولك للرجل: هذا كُل في عنقك للعمل السيئ معناه أنه لازم لك وأنَّكَ
مُجازًى علَيْه بالعذاب يَوْمَ القيامة.
* * *
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (٦)
أى يطلبون العذاب بقولهم: (فَأمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ).
(وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ).
والمُثُلات - بضم الميم وفتحها، فمن قَرأ المُثلات، فهي جمع مُثْلة.
ومن قرأ المَثُلَات فهي جمع مَثُلَة.
ويجوز في المثلات ثلاثة أوجه. يجُوز:
" خلت المُثْلات " بإسكان الثاء، ويجوز فتح الثاء المُثَلاتُ، ومن قرأ المثلات
تُضَمُّ الثاءُ والميم، وهي في الواحدة ساكنة مضمومة في الجمع فهذه الضمة
عوض من حذف تاء التأنيث، ومن فتح فلأن الفتحةَ أخَفُّ الحركات، روت
الروَاةُ:
ولما رَأوْنا بَادياً رُكُبَاتُنَا... عَلَى مَوْطِنٍ لا نَخْلِطُ الجدَّ بالهَزلِ
ومن قرأ المُثْلات بإسكان الثاء فلأن كل ما كان مضموماً أو مكسوراً نحو
رُسُل وعَضُدٍ وفَخِذٍ فإسكانه جائز لنقل الضمة والكسرة.
والمعنى أنَّهم يَسْتَعْجِلُونَ بالعَذَابِ وقد تقدم من العذاب ما هو مُثْلة وما فيه نَكَال لهم لو اتعظوا (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (٧)
معناه هلَّا أنْزِلَ عليه وإنَّما طَلبُوا غير الآيات التي أتى بها النبي - ﷺ - نحو انْشِقَاقَ القمر.
والقرآنِ الذي دُعُوا أن يأتوا بسورة من مثله - وَما أشبه هذا النحو، فالتمسوا مثلَ آيات عيسى وموسى، فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ - أنَّ لِكُلَ قَوْم هَادِياً، فقال جلَّ وعزَّ:
(إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ).
أي نبي وداع إلى اللَّه يدْعُوهم بما يُعْطَى من الآيات لَا بِمَا يُريدونَ
ويتحكمون فيه.
* * *
وقوله: (يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨)
(وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ).
معنى غاض في اللغة نقص.
وفي التفسير ما نقص الحمل من تسعة أشهر وما زاد عنها على التسعة.
وقيل ما نقص عن أنْ يتمَّ حَتَى يموتَ، وما زاد حتى يتم الحمل.
(١) قال السَّمين:
والعامَّةُ على فتح الميم وضمِّ المثلثة، الواحدة «مَثُلَة» كسَمُرَة وسَمُرات، وهي العقوبةُ الفاضحة. قال ابن عباس:: العقوباتُ المستأصِلات كَمَثُلَةِ قَطْعِ الأذن والأنف ونحوِهما «، سُمِّيَت بذلك لما بين العقاب والمُعَاقَب من المماثلة كقوله: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]، أو لأَخْذِها من المِثال بمعنى القِصاص، يقال: أَمْثَلْتُ الرجلَ منْ صاحبِه وأقْصَصْته، بمعنى واحد، أو لأخْذِها مِنْ ضَرْبِ المَثَل لعِظَم شأنها.
وقرأ ابن مُصَرِّف بفتح الميم وسكون الثاء. قيل: وهي لغةُ الحجاز في»
مَثْلة «. / وقرأ ابن وثَّاب بضمِّ الميم وسكونِ الثاء، وهي لغة تميم. وقرأ الأعمشُ ومجاهدٌ بفتحهما، وعيسى بن عمر وأبو بكرٍ في روايةٍ بضمهما.
فأمَّا الضمُّ والإِسكانُ فيجوز أن يكونَ أصلاً بنفسه لغة، وأن يكونَ مخففاً مِنْ قراءة مَنْ ضمَّهما. وأمَّا ضمُّهما فيُحْتمل أيضاً أن يكونَ أصلاً بنفسه لغةً، وأن يكونَ إتباعاً مِنْ قراءة الضمِّ والإِسكان نحو: العُسُرِ في العُسْر، وقد عُرِفَ ما فيه. اهـ (الدر المصون).
وقوله: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (١٠)
مَوضع " مَنْ " رَفْع بسواء، وكذلك (مَنْ) الثانية يرتفعان جميعاً بسواء، لأن
سواء يطلب اثنين، تقول: سواء زيد وعمرو، في مَعْنى ذَوَا سَواء زيد وعمرو.
لأن سواء مصدر فلا يجوز أن يرتفع ما بعده إلَّا على الحذف، تقول: عدل
زيد وعمرو، والمعنى ذوا عدل زيد وعمرو لأن المصادر ليست بأسماء
الفاعلين، وإنما ترفع الأسماءُ أوْصَافَها، فإذا رفعتها المصادر فهي على
الحذف كما قالت الخنساء:
تَرْتَعُ ما غَفَلَتْ حتى إِذا ادَّكَرَتْ... فإِنما هي إِقْبالٌ وإِدْبارُ
المعنى فإنما هي ذات إقبال وذات إدبار، وكذلك زيد إقبال وإدبار.
وهذا مما كثر استعماله أعني سواء، فجرى مجرى أسماء الفاعلين، ويجوز أن
يرتفع على أن يكون في موضع مُسْتَوٍ، إلا أن سيبويه يستقبح ذلك، لا يجيز
مُسْتَوٍ زيد وعمرو، لأن أسماء الفاعلين عنده إذا كانت نكرة لا يُبْتَدَأ بها لضَعْفها عن الفِعْل فلا يُبْتَدأ بها، وُيجْرِيها مَجْرَى الفعلِ.
ومعنى الآية إعلامهُم أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يعلمُ ما غاب عنهم وما شُهِدَ.
فقال عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ).
أي من هو مستتر بالليل، والليل أسْتَر مِنَ النهار
وَمَنْ هُوَ سَارِبٌ بِالنَّهَارِ.
أي من هو ظاهر بِالنَّهَارِ في سَرَبِه، يقال: خَلِّ لَهُ سَرَبَه أي طريقه،
فالمعنى الظاهرُ في الطرقاتِ، والمستخفِي في الظلماتِ، والجاهر بنطقه
والمضمِرَ في نفسه علم الله فيهم جميعاً سواء
وذكر قطرب وجهاً آخر، ذكر أنه يجوز أن يكون " مُسْتَخْفٍ بالليل " ظاهراً
بالليل، وهذا في اللغة جائز، ويكون مع هذا " وسارب بالنهار " أي مُسْتتر، يقال: انسرب الوحْشيُّ إذا دخل في كِناسِه.
والأول بَين، وهو أبلغ في وصف علم الغيب.
* * *
(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (١١)
أي للِإنسان ملائكة يَعْتَقبُونَ، يأتي بعضهم بِعَقِبِ بَعْضٍ
(يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ).
المعنى حفظهم إياه من أمْرِ اللهِ، أي مما أمَرَهُمُ الله تعالى به، لا
أنهم يقدرون أن يدفعوا أمر اللَّه، كما تقول: يحفظونه عن أمر اللَّه (١).
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ).
أي لا يلي أمرهم أحد من دون الله.
* * *
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (١٢)
خَوْفاً للمُسَافِرِ، لأن في المَطَرِ خَوْفاً عَلَى المُسَافِر، كما قال الله تعالى
(إِنْ كَانَ بِكمْ أذًى مِنْ مَطَرٍ).
وطَمَعاً للحَاضِرِ لأن تفاعه بالمطر.
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - (خَوْفًا وَطَمَعًا) خوفاً لمن يَخاف ضُرُّ المَطَرِ، لأنه ليس كل بَلدٍ ينتفع فيه بالمطر نحو مصر وما أشبهها، وطَمَعاً لمن يَرْجُو الانتفاع به.
(١) قال السَّمين:
و ﴿مِنْ أَمْرِ الله﴾ متعلقٌ به، و» مِنْ «: إمَّا للسبب، أي: بسبب أمرِ الله، - ويدلُّ له قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس وزيد بن علي وعكرمة» بأَمْرِ الله «. وقيل: المعنى على هذا: يحفظون عملَه بإذن الله، فحذف المضافَ- وإمَّا أن تكونَ على بابها. قال أبو البقاء:» مِنْ أَْمْرِ الله، أي: من الجنِّ والإِنس، فتكون «مِنْ» على بابها «. يعني أَنْ يُرادَ بأمر الله نفسُ ما يُحْفَظُ منه كَمَرَدة الإِنس والجنِّ، فتكون» مِنْ «لابتداء الغاية.
وجَوَّز أيضاً أن تكونَ بمعنى «عن»
، وليس عليه معنىً يليقُ بالآية الكريمة.
ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على انه صفةٌ لمُعَقِّبات أيضاً، فيجيء الوصفُ بثلاثةِ أشياءَ في بعض الأوجه المتقدمة: بكونها مِنْ بينِ يديه ومِنْ خلفِه، وبكونها تحفظُه، وبكونها مِنْ أَمْرِ الله، ولكن يتقدَّمُ الوصفُ بالجملةِ على الوصف بالجارِّ، وهو جائزٌ فصيح. وليس في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ كما زعم الفراءُ وغيره، وأن الأصلَ: له مُعَقِّبات مِنْ أَمْرِ الله يحفظونه مِنْ بينِ يديه، لأنَّ الأصلَ عدمُه مع الاستغناءِ عنه.
اهـ (الدر المصون).
(وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ).
أي التي قد ثقلت بالماء.
* * *
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (١٣)
جاء في التفسير أنه ملك يزجر السحاب، وجائز أن يكون صوت الرعد
تسبيحه لأن صوت الرعد من أعظم الأشياء.
وقد قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ).
وخص ذكر الرعد لعظم صوته - واللَّه أعلم.
(وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ).
جائز أن يكون الوَاوُ وَاوَ حال.
فيكون المعنى فيصيبُ بها من يشاء في حَال جِدَاله في اللَّه، وذَلِكَ أنه أتى في التفسير أن رَجلاً من الجاهلية يقال له " ارْبَدُ " سأل النبي - ﷺ - فقال أخبرني عن ربنا أمِنْ نحاس أم حَدِيدٍ؟
فأنزل اللَّه عليه صاعقة فقتلته، فعلى هذا يجوز أن يكون الواو وَاوَ حَالٍ. ويجوز أن يكون: لما تمم الله أوصاف ما يدل على توحيده وقُدْرَتِهِ على البَعْثِ قَالَ بَعْدَ ذلك (وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ).
أي شديد القدرة والعَذَابِ.
ويقال في اللغة مَاحَلْتُه مِحَالاً، إذا قَاويتُهُ.
حتى يتبين له أيكما أشدُّ. والمَحْلُ في اللغة الشدة، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (١٤)
جاء في التفسير: دَعوة الحق شهادة أن لا إله إلَّا اللَّهُ، وجائز - واللَّهُ
أعلم - أن تكون دَعْوة الحقِّ أنه مِنْ دَعَا اللَّه مُوَحِّداً استجيب له دَعَاؤه.
(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ).
ثم بين الله عزَّ وجلَّ كيف استجابةُ الأصْنَامِ لأنَّهمُ دَعَوُا الأصْنَام من دون
اللَّه فقال:
(إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ)، إلا كما يستجاب الذي يبسط كَفَّيْه إلى المَاء يَدعو الماء إلى فيه.
والماء لا يستجيب، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن دعاءهم الأصنام كَدُعَاءِ
العَطْشَانِ الماءَ إلى بُلوغ فيه، (وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ).
وقال بعضهم: إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه كإنسان على شفير بئر
يدعو الماء من قرار البئر ليبلغ فاه، والتَفْسِيرَانِ وَاحِد.
* * *
وقوله - عزْ وجل: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (١٥)
جاء في التفسير أن المؤمن يسجد طوعاً، والكافر يسجد كرهاً، وجاء أن
مِنَ النَّاسِ مَنْ دَخَل في الإِسلام طوعاً ومنهم من لم يدخل حتى فحص عن
رأسه بالسيف، أي فسجَدَ ودَخَلَ في الإِسلام في أول أمرِه كرهاً.
وجائز - واللَّه أعلم - أن يكون (طَوْعًا وَكَرْهًا) أن يكونَ السُّجودُ الخُضُوعَ لِلَّهِ، فمن الناس من يخضع ويقبل أمر اللَّه فيما سهل عليه، ومنهم من تَقَبَّلَهُ وإن كانَ عليه فيه كُرْهٌ.
(وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
أي وتسجد ظلالهم. وجاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير اللَّه، وظله
يسجد للَّهِ، وقيل وظلالهم أشخاصهم، وهذا مخالف للتفسير.
* * *
وقوله: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)
(أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ).
أي هل - أو أغير الله خلق شيئاً فاشتبه عليهم خلق الله من خلق غيره.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ -: (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).
أي قل ذلك وَبيَّنه بما أخبر اللَّه به من الدلالة على توحيده من أول هذه
السورة بما يدل على أنه خالق كل شيء، ثم قال - عزَّ وجلَّ - ضارباً مثلاً
للكافرين والمؤمنين:
(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (١٧)
(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)
أي بما قدَّرَ لَهَا مِن مِلْئِها، ويجوز ب@درها أي بقدر مِلْئِها.
(فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا).
أي: طافياً عالياً فوق الماء.
(وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ).
أي ابتغاء متاعً.
(زَبَدٌ مِثْلُهُ).
والذي يوقد عليه في النار ابتغاء حلية: الذَّهَبُ والفِضةُ، والذي يوقد
عليه ابتغاء أمْتِعة الحديدُ والصُفْر والنحاس والرصاص.
و (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي مثل زَبَد الماءِ.
(كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ).
أي: مِنْ زَبَد الماء، والزَّبَدُ من خَبَثٍ الحديد، والصُّفْرِ والنحاسِ
والرصَاصِ
(فَيَذْهَبُ جُفَاءً).
أي فيدْهب ذلك لا ينتفع به، والجفاء ما جفا، الوادي، أي رمى به.
(وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).
وأما ما ينفع الناسَ مِنَ الماءِ والفضةِ والذهب والحديد وسائر ما ذكرنا
فيمكث في الأرض.
فمثلُ المؤمن واعتقاده ونفْعِ الإِيمان كمثل هذا الماء
المنتفَع به في نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الآلات التي ذُكِرَتْ لأنها كلها تبقى منتفعاً بها، ومثل الكافر وكفره كمثل هذا الزَّبَد الذي يذهب جَفاء وكمثل خبث الحديد، وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به.
وموضع كذلك نصْبُ، قال أبو زيد: يقال جَفَأتُ الرجُلَ إذا صَرَعْته
وأجْفَاتِ القِدْرُ بِزَبَدِها إذَا ألقت زَبدها فيه.
(فَيَذْهَبُ جُفَاءً). من هذا اشتقاقه.
وموضع (جُفَاءً) نصب على الحال، وهو ممدود.
وزعمْ البصريونَ والكوفيون جميعاً أنَّ ما كان مثلَ القمَاشِ والقُمَامِ والجُفَاء فهذه الأشياء تجيء على مثال فُعَال.
* * *
وقوله: عزَّ وجلَّ: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٨)
أي لهم الجنة، وجائز أن يكون لهم جزاءُ المحسنين، وهُوَ راجعٌ إلى
الجنةِ أيضاً كما قال - عزَّ وجلَّ -: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ).
(أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ).
وسوء الحساب ألا تقبل منهم حسنة ولا يُتَجَاوَزُ لَهُم عَنْ سَيئَةٍ، وأن
كُفْرَهُمْ أحْبَطَ أعمَالَهم كما قال:.. (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ).
وقيل سوء الحساب أن يُسْتَقصى عليه حسابه ولا يتجاوز له عن
شيءٍ من سيئاته، وكلاهما فيه عطب.
ودليل هذا القول الثاني: من نوقش الحساب عُذِّبَ.
وتكون سوء الحساب المناقشة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢)
(وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ).
أي يدفعون، يقال: دَرَأتُه إِذَا دَفَعْتُه.
(أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣)
(جَنَّاتُ) بَدَل مِنْ (عُقْبَى).
وعَدن: إقامة، يقال: عَدَنَ بالمكان إذَا أقام فيه.
(يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ).
موضع " مَنْ " رفع، عطف على الواو في قوله: (يَدْخُلُونَهَا)
وجائز أن يكون نصباً، كما تقول قد دخلوا وزيداً أي مع زيدٍ.
أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الأنسابَ لا تنفع بغير أعمال صالحة فقال:
يَدْخُلونَها وَمَنْ صَلَح مِمنْ جَرَى ذِكْرُه.
(وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)
أي يقولون سلام عليكم بما صبرتُم.
هذه مكرمة من الله عزَّ وجل لأهل الجنَّةِ.
والمعنى يدخلون عليهم من كل باب يقولون (سلام عليكم).
فأضمر القول ههنا لأن في الكلام دليلاً عليه.
* * *
وقوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (٢٧)
(وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ).
يعني من رجع إلى الحق.
* * *
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)
(الَّذِينَ آمَنُوا)
في موضع نصب رَدًّا على (مَنْ)، المعنى يهدي إليه الذين آمنوا
(وَتَطْمَئِنُ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ)، أي إذا ذكر الله بوحدانيته آمنوا به غير
شَاكِينَ.
(أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
" أَلَا " حرف تنبيه وابتداء.
ومعنى (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)
أي التي هي قلوب المؤمنين لأن الكافرَ غيرمطمئن القلب.
* * *
(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
القراءة بالرفع في (وَحُسْنُ مَآبٍ). عطف على (طُوبَى) كما تقول:
الحمدُ للَّهِ والكرامةُ وإن شئت كان نصباً على (طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ).
أي جعل اللَّه لهم طوبى وحُسْنَ مآبٍ.
(طُوبَى) عند النحويين فُعْلَى من الطِيبِ.
المعنى العيش الطيب لهم.
وجاء في التفسير عن النبي - ﷺ - أن (طُوبَى) شجرة
في الجنة، وقيل (طُوبَى) لهم حسنى لهم، وقيل طوبى لهم خَيْرٌ لهم.
وقيل (طُوبَى) لهم اسم الجنة بالهندية. وقيل (طُوبَى) لهم خيرة لهم، وهذا التفسير كله يشبهه قول النحويين أنها فُعْلَى من الطِّيب.
* * *
وقوله سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٣١)
ترِكَ جواب " لو " لأن في الكلام دليلاً عليه، وكان المشركون
سألوا النبي - ﷺ - أن يفسَحَ لهم في مكة ويباعد بين جبالها حتى يتخذوا فيها قطائع وبساتين وأَنْ يُحْيي لهم قَوْماً سَمُّوهُم لَهُ، فأعلمهمْ اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن لو فعل ذلك بقرآن لكان يفعل بهذا القرآن.
والذي أَتَوَهَّمُه - واللَّه أعلم - وقد قاله بعض أهل اللغة، أن المعنى: لَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى لما آمنوا به.
ودليل هذا القول قوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
وقوله - عزَّ وجلَّ: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) (١).
قيل إنها لغة للنخع، يَيْأَس في معنى يَعْلَمُ.
وأنْشدوا
أَقُولُ لَهُمْ بالشِّعْبِ إِذ يَيْسِرُونَني... أَلم تَيْأَسُوا أَني ابْنُ فارِسِ زَهْدَم
وقرئت: أفلم يتبين الذين آمنوا.
وقال بعض أهل اللغة: أفلم يعلم الذين آمنوا علماً ييأسوا معه من أن يكون غير ما علموه.
والقول عندي واللَّه أعلم أن معناه: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا من إيمان
هؤلاء الذين وصفهم اللَّه بأنهم لا يؤمنون لأنه قال:
(لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا).
(جَمِيعًا) منصوبٌ على الحَالِ.
(وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفرُوا تصِيبُهُم بمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ).
قيل سَرِيَّة، ومعنى قارعة في اللغة نازلة شديدة تزل بأمر عظيم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (٣٥)
قال سيبويه: المعنى فيما يقص عليكم مَثَلُ الْجَنَّةِ، أو مَثَلُ الْجَنَّةِ فيما
يُقصُّ عليكم، فرفعه عنده على الابتداء.
وقال غيره: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) مرفوع على الابتداء.
وخبره (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ)
كما تقول:
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين﴾ أصلُ اليَأْسِ: قَطْعُ الطمعِ عن الشيء والقُنوطُ فيه. واختلف الناسُ فيه ههنا: فقال بعضهم: هو هنا على بابه، والمعنى: أفلم يَيْئَسِ الذين آمنوا من إيمانِ الكفَّار من قريش، وذلك أنَّهم لَمَّا سألوا هذه الآياتِ طَمِعوا في إيمانِهم وطلبوا نزولَ هذه الآيات ليؤمِنَ الكفار، وعَلِمَ اللهُ أنهم لا يؤمنون فقال: أفلم يَيْئَسوا من إيمانهم، قاله الكسائي. وقال الفراء: «أَوْقَعَ الله للمؤمنين أنْ لو يشاء اللهُ لهدى الناسَ جميعاً فقال: أفلم يَيْئسوا عِلْماً، يقول: أَيْئَسهم العِلْم مضمراً، كما تقول في الكلام: يَئِست منك أن لا تفلح، كأنه قال: عَلِمه علماً»، قال: فيَئِسَتْ بمعنى عَلِمَت، وإنْ لم يكنْ قد سمع، فإنه يتوجَّه إلى ذلك بالتأويل «.
وقال ابن عطية:»
ويحتمل أن يكونَ «اليأسُ» في هذه الآية على بابه، وذلك: أنه لمَّا أبْعَدَ إيمانَهم في قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً﴾ على التأويلين في المحذوفِ المقدَّر قال في هذه: أفلم يَيْئَسِ المؤمنون من إيمانِ هؤلاءِ عِلْماً منهم أن لو يشاء اللهُ لهدَى الناسَ جميعاً «.
وقال الزمخشري:»
ويجوز أن يتعلَّقَ ﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ﴾ بآمَنوا على: أولم يَقْنَطْ عن إيمانِ هؤلاءِ الكَفَرَةِ الذين آمنوا بأن لو يشاءُ اللهُ لهدى الناسَ جميعاً ولهداهم «وهذا قد سبقه إليه أبو العباس.
وقال الشيخ:»
ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ آخرُ غيرُ الذي/ ذكروه: وهو أنَّ الكلامَ تامٌّ عند قوله: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا﴾ وهو تقريرٌ، أي: قد يَئِس المؤمنون من إيمان المعاندين، و ﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ الله﴾ جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، أي: وأُقْسِمُ لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدلُّ على هذا القَسَمِ وجودُ «أنْ» مع «لو»، كقولِ الشاعر:
٢٨٥٧ - أَمَا واللهِ انْ لو كنتَ حُرَّاً... وما بالحُرِّ أنت ولا القَمينِ
وقول الآخر:
٢٨٥٨ - فأُقسمُ أنْ لَوِ التقينا وأنتُمُ... لكان لكم يومٌ من الشرِّ مظلِمُ
وقد ذكر سيبويه أنَّ «أنْ» تأتي بعد القَسَم، وجعلها ابنُ عصفور رابطةً للقَسَم بالجملة المُقْسَمِ عليها.
وقال بعضُهم: «بل هو هنا بمعنى عَلِمَ وتَبَيَّن. قال القاسم بن معن وهو من ثقاتِ الكوفيين:» هي لغة هوازن «.
وقال ابن الكلبي: «هي لغةُ حيّ من النَّخَع، ومنه قولُ رباح بن عدي:
٢٨٥٩ - ألم يَيْئَسِ الأقوامُ أني أنا ابنُهُ... وإن كنتُ عن أرضِ العشيرةِ نائيا
وقول سحيم:
٢٨٦٠ - أقولُ لهم بالشَّعْبِ إذ يَأْسِرُونني... ألم تَيْئَسُوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ
وقول الآخر:
٢٨٦١ - حتى إذا يَئِسَ الرُّماةُ وأَرْسَلوا... غُضْفاً دواجنَ قافِلاً أعْصامُها
وردَّ الفراء هذا وقال:»
لم أَسْمَعْ يَئِسْتُ بمعنى عَلِمْتُ «. ورُدَّ عليه: بأنَّ مَنْ حَفِظ حجةٌ على مَنْ لم يَحْفَظْ، ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عليّ وابن عباس وعكرمة وابن أبي مُلَيْكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه زيد وجعفر بن محمد وابن يزيد المديني وعبد الله بن يزيد وعلي ابن بَذِيمة:» أو لم يتبيَّنْ «، مِنْ تبيَّنْتُ كذا إذا عَرَفْتَه. وقد افترى مَنْ قال:» إنما كتبه الكاتب وهو ناعِسٌ، وكان أصله «أفلم يتبيَّن» فَسَوَّى هذه الحروفَ فَتُوُهِّمَ أنها سين «.
قال الزمخشري:»
وهذا ونحوُه ممَّا لا يُصَدَّقُ في كتاب [كتاب الله الذي لا يأتيه] الباطلُ مِنْ [بينِ] يديه ولا مِنْ خلفِه، وكيف يَخْفَى هذا حتى يَبْقى بين دَفَتَيْ الإِمام، وكان متقلِّباً في أيدي أولئك الأعلامِ المحتاطِيْنَ في دين الله، المهيمنين عليه، لا يَغْفُلون عن جلائِله ودقائقِه، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجعُ، والقاعدةُ التي عليها المبنى، هذه واللهِ فِرْيَةٌ، ما فيها مِرْيَةٌ «. وقال الزمخشري أيضاً:» وقيل: إنما اسْتَعْمل اليأسَ بمعنى العِلْم، لأن الآيسَ عن الشيء عالمٌ بأنه لا يكونُ، كما اسْتَعْمل الرجاءَ في معنى الخوف والنسيان والتركِ لتضمُّن ذلك «.
اهـ (الدر المصون).
صفةُ فُلانٍ أسْمَرُ كقولك: فلان أسمر.
وقالوا معناها صفة الجنة التي وعد المتقون.
وكلا القولين حسن جميل.
والذي عندي - واللَّه أعلم - أن اللَّه عزَّ وجلَّ، عَرفنا أُمُورَ الجنة التي لم
نَرَهَا. ولم نُشَاهِدْهَا بما شَاهِدناه مِن أمور الدنيا وعايَنَّاه.
فالمعنى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) جَنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا) (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (٣٩)
أي يمحو الله ما يشاء مما يكتبه الحفظة على العباد ويثبت.
قال بعضهم: يمحو الله ما يشاء ويثبت، أي من أتى أجَلُه مُحِيَ، ومن لم يأت
أجَلُه أثْبِتَ.
وقيل يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشاءُ وُيثْبِتُ أي ينسخُ مما أَمَرَ به ما يشاء وُيثْبتُ
أى ويُبْقِي مِن أمْره ما يشاء.
(وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ).
أي أصل الكتاب.
وقيل يمحو الله ما يشاء ويثبت أي مَنْ قدَّرَ لَهُ رِزْقاً وَأَجَلاً مَحا مَا يَشَاءُ
من ذلك وأثبت ما يشاء.
* * *
وقوله تعالى: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (٤٠)
" إِنْ " أدْخلَت عليها (مَا) لتوكيد الشرط.
دخلت النون مؤكدة للفعل.
(أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ).
عطف على (نُرِيَنَّكَ) وجواب الجزاء: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) أي علينا الحساب لِنَجْزيَ كل نفس بما عملت.
والمعنى إِما أرَيْنَاكَ بعض الذي وعدناهم من إظهار دين الِإسلام على
الدين كله، أو توفيناك قبل ذلك، فليس عليك إلَّا البَلاغُ - كَفَروا هم به
(١) قال السَّمين:
قوله تعالى: ﴿مَّثَلُ الجنة﴾: مبتدأ، وخبرُه محذوفٌ تقديره: فيما قَصَصْنا، أو فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الجنَّة، وعلى هذا فقولُه ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ تفسيرٌ لذلك المَثَل. وقال أبو البقاء: «فعلى هذا» تَجري «» حالٌ من العائدِ المحذوف في «وُعِد»، أي: وُعِدَها مُقَدَّراً جَرَيَانُ أنهارها «. ونَقَل عن الفراء أنه جعل الخبر قوله» تجري «. قال:» وهذا خطأٌ عند البصريين «. قال:» لأنَّ المَثَلَ لا تَجْري مِنْ تَحتِه الأنهارُ، وإنما هو من صفاتِ المضافِ إليه، وشُبْهَتُه: انَّ المَثَل هنا بمعنى الصفة فهو كقولِه «صِفَةُ زيدٍ أنه طويلٌ»، ويجوز أن يكونَ «تجري» مستانَفاً «.
قلت: وهذا الذي ذكره ابو البقاء نَقَل نحوَه الزمخشريُّ: ونَقَل غيرُه عن الفراء في الآية تاويلين آخرين، أحدُهما: على حذف لفظةِ»
أنَّها «والأصلُ: صفةُ الجنَّة أنها تجري، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ، وكيف يَحْذِفُ» أنها «من غير دليلٍ. والثاني: أنَّ لفظةَ» مثل «زائدةٌ، والأصل: الجنة تجري مِنْ تحتِها الأنهار، وزيادةُ» مَثَل «كثيرةٌ في لسانِهم. ومنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] ﴿فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ﴾ [البقرة: ١٣٧] وقد تقدَّم.
وقال الزمخشري:»
وقال غيرُه: -أي سيبويه - الخبر ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ كما تقول: صفةُ زيدٍ أسمرُ «. قال الشيخ:» وهذا أيضاً لا يَصِحُّ أن يكونَ «تَجْري» خبراً عن الصفةِ، ولا «أسمر» خبراً عن الصفة، وإنما يُتَأَوَّل «تجري» على إسقاطِ «أنْ» ورفعِ الفعل، والتقدير: أَنْ تَجْري، أي: جَرَيانُها.
وقال الزجَّاج: «مَثَل الجنَّة جَنَّةٌ تجري، على حَذْفِ الموصوفِ تمثيلاً لِما غاب عنَّا بما نشاهده». ورَدَّ عليه أبو عليٍّ قال: «لا يَصِحُّ ما قال الزجاج، لا على معنى الصفة، ولا على معنى الشَّبَه؛ لأنَّ الجنَّةَ التي قَدَّرها جثةٌ ولا تكونُ الصفة، ولأنَّ الشَّبه عبارةٌ عن المماثلةِ التي بين المتماثلين وهو حَدَثٌ، والجنَّةُ جثَّةٌ فلا تكون المماثلةُ، والجمهورُ على أن المَثَلَ هنا بمعنى الصفة فليس هنا ضَرْبُ مَثَلٍ، فهو كقولِه تعالى: ﴿وَلِلَّهِ المثل الأعلى﴾ [النحل: ٦٠] وأنكر أبو علي أَنْ تكون بمعنى الصفة.
وقال: معناه الشبه.
وقرأ عليٌّ وابن مسعود»
أمثال الجنة «، أي: صفاتها. اهـ (الدر المصون).
أو آمنوا.
ثم أعلم اللَّه أن بَيانَ ما وُعِدُوا به قد ظهر وتبيَّنَ فقال عزَّ وجلَّ:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤١)
أي أو لم يروا أنا قد فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم.
ودليل هذا القول قوله عزَّ وجلَّ في موضع آخر:
(أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (٤٤).
وقيل في تفسير هذه الآية ما وصفنا، وقيل غير قولٍ.
قيل نَقْصُها من أطرافها موتُ أهلها، ونقص ثمارها.
وقيل ننقصها من أطرافها بموت العلماء.
والقول الأول بين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢)
(وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ).
وقُرِئت: وَسَيَعْلَمُ الكافِر، ومعنى الكفار والكافر ههنا وَاحِدٌ.
الكافر اسم للجنس، كما تقول قد كثرت الدراهم في أيدي الناس.
وقد كثر الدِّرْهَمُ في أيدِي الناس..
وقرأ بعضهم وسيَعلم الكافرون، وبعضهم وسيعلم الذين كفروا.
وهاتان القراءتان لا تجوزان لمخالفتهما المصحفَ المجمعَ عليه.
لأن القراءة سُنَّة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (٤٣)
(قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).
الباء في موضع رفع مع الاسم، المعنى كفى الله شَهِيدًا، وشَهِيدًا
مَنْصُوبٌ على التمييز.
(وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ).
و" مَن " يعود على الله عَزَّ وجَلَّ، وقيل في التفسير يعنى به عبد الله بن سلام
151
وقيل ابن يامين، والذي يدل على أنه راجع إلى اللَّه عزَّ وجلَّ - قراءة
من قرأ (ومِنْ عِنْدِه) علمُ الكتابُ، ومن عنده علم الكتاب لأن الأشبه، واللَّهُ
أعلم - أن اللَّه لا يَسْتَشْهِدُ على خلقه بغيْره.
وذلك التفسير جائز لأن البراهين إذا قامَتْ مع اعتراف من قرأ الكتب
التي أنزلت قبل القرآن فهو أمرٌ مُؤكدٌ (١).
(١) قال السَّمين:
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عِندَهُ﴾: العامَّة [على فتح ميم] «مَنْ»، وهي موصولةٌ، وفي محلِّها أوجهٌ، أحدُها: أنها مجرورةُ المحلِّ نَسَقاً على لفظ الجلالةِ، أي: بالله وبمَنْ عنده عِلْمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوِه. والثاني: أنها في محلِّ رفعٍ عطفاً على محل [الجلالة، إذ هي] فاعلةٌ، والباءُ زائدةٌ فيها. الثالث: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه محذوف، أي: ومَنْ عنده عِلْم الكتاب أَعْدَلُ وأمضى قولاً.
و ﴿عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ يجوز أن يكونَ الظرفُ صلةً، و «عِلْمُ» فاعلٌ به. واختاره الزمخشري، وتقدَّم تقريرُه، وأن يكونَ مبتدأً وما قبله الخبرُ، والجملةُ صلةٌ ل «مَنْ».
والمراد بمَنْ عنده عِلْمُ الكتاب: إمَّا ابنُ سَلام أو جبريلُ أو اللهُ تعالى. قال ابن عطية: «ويُعْتَرض هذا القولُ بأنَّ فيه عطفَ الصفة على الموصوف ولا يجوز، وإنما تُعْطَفُ الصفاتُُ». واعترض الشيخُ عليه بأنَّ «مَنْ» لا يُوصَفُ بها ولا بغيرِها من الموصولات إلاَّ ما اسْتُثْني، وبأنَّ عطفَ الصفاتِ بعضِها على بعض لا يجوز إلا بشرطِ الاختلاف.
قلت: ابن عطية إنما عَنَى الوصفَ المعنويَّ لا الصناعيَّ، وأمَّا شرطُ الاختلافِ فمعلومٌ.
وقرأ عليٌّ وأُبَيٌّ وابنُ عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن ابن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد في خَلْق كثير ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ جعلوا «مِنْ» حرفَ جرّ، و «عندِه» مجرورٌ بها، وهذا الجارُّ هو خبرٌ مقدَّمٌ، و «عِلْم» مبتدأ مؤخر. وقرأ عليٌّ أيضاً والحسن وابن السَّمَيْفع ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ يجعلون «مِنْ» جارَّةً، و «عُلِمَ» مبنياً للمفعول، و «الكتابُ» رفعٌ به. وقُرئ كذلك إلاَّ انه بتشديد «عُلِّم». والضمير في «عنده» على هذه القراءاتِ لله تعالى فقط. وقُرئَ أيضاً «وبمَن» بإعادةِ الباءِ الداخلةِ على الجلالة. اهـ (الدر المصون).
152
Icon