تفسير سورة النحل

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة النحل من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة النحل
وتسمى سورة النعم فيها إحدى وعشرون آية

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :" الْأَنْعَامَ " : وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ﴾ : يَعْنِي من الْبَرْدِ بِمَا فِيهَا من الْأَصْوَافِ وَالْأَوْبَارِ وَالْأَشْعَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ﴾ فَامْتَنَّ هَهُنَا بِالدِّفْءِ، وَامْتَنَّ هُنَاكَ بِالظِّلِّ، إنْ كَانَ لَاصِقًا بِالْبَدَنِ ثَوْبًا أَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا بِنَاءً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : دِفْؤُهَا نَسْلُهَا ؛ فَرَبُّك أَعْلَمُ بِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :" مَنَافِعُ " : يَعْنِي مَا وَرَاءَ ذَلِكَ من الْأَلْبَانِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ سِوَاهَا من الْمَنَافِعِ، فَقَالَ : وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَقَدْ ذَكَرَ وَجْهَ اخْتِصَاصِهِ بِاللَّبَنِ، وَيَأْتِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى لِبَاسِ الصُّوفِ، فَهُوَ أَوْلَى ذَلِكَ وَأَوْلَاهُ، فَإِنَّهُ شِعَارُ الْمُتَّقِينَ وَلِبَاسُ الصَّالِحِينَ، وَشَارَةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَاخْتِيَارُ الزُّهَّادِ وَالْعَارِفِينَ، وَهُوَ يُلْبَسُ لِينًا وَخَشِنًا، وَجَيِّدًا وَمُقَارِبًا وَرَدِيئًا، وَإِلَيْهِ نَسَبَ جَمَاعَةٌ من النَّاسِ الصُّوفِيَّ ؛ لِأَنَّهُ لِبَاسُهُمْ فِي الْغَالِبِ، فَالْيَاءُ لِلنَّسَبِ وَالْهَاءُ لِلتَّأْنِيثِ، وَقَدْ أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَشْيَاخِهِمْ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ :
تَشَاجَرَ النَّاسُ فِي الصُّوفِيِّ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ وَظَنُّوهُ مُشْتَقًّا من الصُّوفِ
وَلَسْت أَنْحَلُ هَذَا الِاسْمَ غَيْرَ فَتًى*** صَافَى فَصُوفِيَ حَتَّى سُمِّيَ الصُّوفِيّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ : فَأَبَاحَ لَنَا أَكْلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بِشُرُوطِهِ وَأَوْصَافِهِ، وَكَانَ وَجْهُ الِامْتِنَانِ بِهَا أُنْسُهَا، كَمَا امْتَنَّ بِالْوَحْشِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الِاصْطِيَادِ، فَالْأَوَّلُ نِعْمَةٌ هَنِيَّةٌ، وَالصَّيْدُ مُتْعَةٌ شَهِيَّةٌ، وَنَصْبَةٌ نَصِيَّةٌ، وَهُوَ الْأَغْلَبُ فِيهَا.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ ﴾ : كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا :﴿ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾ وَالْجَمَالُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الصُّورَةِ وَتَرْكِيبِ الْخِلْقَةِ، وَيَكُونُ فِي الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ، وَيَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ.
فَأَمَّا جَمَالُ الْخِلْقَةِ فَهُوَ أَمْرٌ يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ، فَيُلْقِيهِ إلَى الْقَلْبِ مُتَلَائِمًا، فَتَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْسُ من غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِوَجْهِ ذَلِكَ وَلَا بِسَبَبِهِ لِأَحَدٍ من الْبَشَرِ.
وَأَمَّا جَمَالُ الْأَخْلَاقِ فَبِكَوْنِهَا عَلَى الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ من الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْعَدْلِ وَالْعِفَّةِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا جَمَالُ الْأَفْعَالِ فَهُوَ وُجُودُهَا مُلَائِمَةً لِصَالِحِ الْخَلْقِ، وَقَاضِيَةً بِجَلْبِ الْمَنَافِعِ إلَيْهِمْ، وَصَرْفِ الشَّرِّ عَنْهُمْ.
وَجَمَالُ الْأَنْعَامِ وَالدَّوَابِّ من جَمَالِ الْخِلْقَةِ مَحْسُوبٌ، وَهُوَ مَرْئِيٌّ بِالْأَبْصَارِ، مُوَافِقٌ لِلْبَصَائِرِ، وَمِنْ جَمَالِهَا كَثْرَتُهَا.
فَإِذَا وَرَدَتْ الْإِبِلُ عَلَى الذُّرَى سَامِيَةَ الذُّرَى هَجْمَاتٍ هِجَانًا تَوَافَرَ حُسْنُهَا، وَعَظُمَ شَأْنُهَا، وَتَعَلَّقَتْ الْقُلُوبُ بِهَا.
إذَا رَأَيْت الْبَقَرَ نِعَاجًا تَرِدُ أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا، تَقَرُّ بِقَرِيرِهَا، مَعَهَا صُلُّغُهَا وَأَتَابِعُهَا، فَقَدْ انْتَظَمَ جَمَالُهَا وَانْتِفَاعُهَا.
وَإِذَا رَأَيْت الْغَنَمَ فِيهَا السَّالِغُ وَالسَّخْلَةُ، وَالْغَرِيضُ وَالسَّدِيسُ صُوفُهَا أَهْدَلُ، وَضَرْعُهَا مُنْجَدِلٌ، وَظَهْرُهَا مُنْسَجِفٌ، إذَا صَعِدَتْ ثَنِيَّةً مَرَعَتْ، وَإِذَا أَسْهَلَتْ عَنْ رَبْوَةٍ طَمَرَتْ، تَقُومُ بِالْكِسَاءِ، وَتَقَرُّ عَلَى الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ، وَتَمْلَأُ الْحِوَاءَ سَمْنًا وَأَقِطًا، بَلْهَ الْبَيْتِ، حَتَّى يَسْمَعَ الْحَدِيثَ عَنْهَا كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَدْ قَطَعْت عَنْك لَعَلَّ وَلَيْتَ.
وَإِذَا رَأَيْت الْخَيْلَ نَزَائِعَ يَعَابِيبَ، كَأَنَّهَا فِي الْبَيْدَاءِ أَهَاضِيبَ، وَفِي الْهَيْجَاءِ يَعَاسِيبَ، رُءُوسُهَا عَوَالٍ، وَأَثْمَانُهَا غَوَالٍ، لَيِّنَةَ الشَّكِيرِ، وَشَدِيدَةَ الشَّخِيرِ، تَصُومُ وَإِنْ رَعَتْ، وَتَفِيضُ إذَا سَعَتْ، فَقَدْ مَتَّعَتْ الْأَحْوَالَ وَأَمْتَعَتْ.
وَإِذَا رَأَيْت الْبِغَالَ كَأَنَّهَا الْأَفْدَانُ بِأَكْفَالٍ كَالصَّوَى، وَأَعْنَاقٍ كَأَعْنَاقِ الظِّبَا، وَمَشْيٍ كَمَشْيِ الْقَطَا أَوْ الدَّبَى فَقَدْ بَلَغْت فِيهَا الْمُنَى.
وَلَيْسَ فِي الْحَمِيرِ زِينَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَنْ الْخِدْمَةِ مَصُونَةً، وَلَكِنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَا مَضْمُونَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا الْجَمَالُ وَالتَّزَيُّنُ وَإِنْ كَانَ من مَتَاعِ الدُّنْيَا فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِعِبَادِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ خَرَّجَهُ الْبَرْقَانِيُّ وَغَيْرُهُ :( الْإِبِلُ عِزٌّ لِأَهْلِهَا، وَالْغَنَمُ بَرَكَةٌ، وَالْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ). وَإِنَّمَا جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِزَّ فِي الْإِبِلِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا اللِّبَاسَ وَالْأَكْلَ وَاللَّبَنَ وَالْحَمْلَ وَالْغَزْوَ، وَإِنْ نَقَصَهَا الْكَرُّ وَالْفَرُّ. وَجَعَلَ الْبَرَكَةَ فِي الْغَنَمِ لِمَا فِيهَا من اللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَكَثْرَةِ الْوِلَادَةِ، فَإِنَّهَا تَلِدُ فِي الْعَامِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، إلَى مَا يَتْبَعُهَا من السَّكِينَةِ، وَتَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَيْهِ من خَفْضِ الْجَنَاحِ، وَلِينِ الْجَانِبِ، بِخِلَافِ الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْإِبِلِ. وَقَرَنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَيْرَ بِنَوَاصِي الْخَيْلِ بَقِيَّةَ الدَّهْرِ، لِمَا فِيهَا من الْغَنِيمَةِ الْمُسْتَفَادَةِ لِلْكَسْبِ وَالْمَعَاشِ، وَمَا تُوَصِّلُ إلَيْهِ من قَهْرِ الْأَعْدَاءِ، وَغَلَبَةِ الْكُفَّارِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ.
وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ ؛ ذَلِكَ فِي الْمَوَاشِي تَرُوحُ إلَى الْمَرْعَى وَتَسْرَحُ عَلَيْهِ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَنْعَامِ عُمُومًا، وَخَصَّ الْإِبِلَ هَهُنَا بِالذِّكْرِ فِي حَمْلِ الْأَثْقَالِ، تَنْبِيهًا عَلَى مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْعَامِ ؛ فَإِنَّ الْغَنَمَ لِلسَّرْحِ وَالذَّبْحِ، وَالْبَقَرَ لِلْحَرْثِ، وَالْإِبِلَ لِلْحَمْلِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( بَيْنَا رَاعٍ فِي غَنَمٍ عَدَا عَلَيْهَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ الذِّئْبُ، وَقَالَ : مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي وَبَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا، فَالْتَفَتَتْ إلَيْهِ فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَتْ : إنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، وَإِنَّمَا خُلِقْت لِلْحَرْثِ. فَقَالَ النَّاسُ : سُبْحَانَ اللَّهِ، بَقَرَةٌ تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ : آمَنْت بِذَلِكَ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَمَا هُمَا ثَمَّ ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِيهِ جَوَازُ السَّفَرِ بِالدَّوَابِّ عَلَيْهَا الْأَثْقَالُ الثِّقَالُ، وَلَكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا تَحْتَمِلُهُ من غَيْرِ إسْرَافٍ فِي الْحَمْلِ، مَعَ الرِّفْقِ فِي السَّيْرِ وَالنُّزُولِ لِلرَّاحَةِ.
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّفْقِ بِهَا، وَالْإِرَاحَةِ لَهَا، وَمُرَاعَاةِ التَّفَقُّدِ لِعَلَفِهَا وَسَقْيِهَا، وَفِي الْمُوَطَّإِ قَالَ مَالِكٌ : عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ :" إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيَرْضَى بِهِ وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ، فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعُجْمَ فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ جَدْبَةً فَانْجُوَا عَلَيْهَا بِنَقْيِهَا، وَعَلَيْكُمْ بِسَيْرِ اللَّيْلِ ؛ فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ مَا لَا تُطْوَى بِالنَّهَارِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعْرِيسَ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْحَيَّاتِ ".
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ذَكَرَ اللَّهُ الْأَنْعَامَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، فَسَاقَ فِيهَا وُجُوهًا من الْمَتَاعِ، وَأَنْوَاعًا من الِانْتِفَاعِ، وَسَاقَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، فَكَشَفَ قِنَاعَهَا، وَبَيَّنَ اَنْتِفَاعَهَا، وَذَلِكَ الرُّكُوبُ وَالزِّينَةُ، كَمَا بَيَّنَ فِي تِلْكَ الْمُتَقَدِّمَةِ : الدِّفْءَ وَاللَّبَنَ وَالْأَكْلَ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾ فَجَعَلَهَا لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا لِلْأَكْلِ وَنَحْوِهِ عَنْ أَشْهَبَ، فَفَهِمَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهَ إيرَادِ النِّعَمِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ من الِانْتِفَاعِ، فَاقْتَصَرَتْ كُلُّ مَنْفَعَةٍ عَلَى وَجْهِ مَنْفَعَتِهَا الَّتِي عَيَّنَ اللَّهُ لَهُ، وَرَتَّبَهَا فِيهِ، فَأَمَّا الْخَيْلُ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهَا تُؤْكَلُ، وَعُمْدَتُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ جَابِرٍ :( نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ ).
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ، وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ ). وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ جَابِرٍ حِكَايَةَ حَالٍ، وَقَضِيَّةً فِي عَيْنٍ ؛ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا ذَبَحُوا لِضَرُورَةٍ، وَلَا يُحْتَجُّ بِقَضَايَا الْأَحْوَالِ الْمُحْتَمَلَةِ، وَأَمَّا الْحُمُرُ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَاخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : إنَّمَا حُرِّمَتْ شَرْعًا.
الثَّانِي : أَنَّهَا حُرِّمَتْ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ جُوَالَ الْقَرْيَةِ، أَيْ تَأْكُلُ الْجُلَّةَ، وَهِيَ النَّجَاسَةُ.
الثَّالِثُ : أَنَّهَا كَانَتْ حُمُولَةَ الْقَوْمِ ؛ وَلِذَلِكَ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أُكِلَتْ الْحُمُرُ، فَنِيَتْ الْحُمُرُ ؛ فَحَرَّمَهَا.
الرَّابِعُ : أَنَّهَا حُرِّمَتْ ؛ لِأَنَّهَا أُفْنِيَتْ قَبْلَ الْقَسَمِ، فَمَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أَكْلِهَا، حَتَّى تُقْسَمَ.
وَأَمَّا الْبِغَالُ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنَّهَا تَلْحَقُ الْحَمِيرَ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ.
فَأَمَّا إنْ قُلْنَا إنَّ الْخَيْلَ لَا تُؤْكَلُ فَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ بَيْنَ عَيْنَيْنِ لَا يُؤْكَلَانِ، وَإِنْ قُلْنَا : تُؤْكَلُ الْخَيْلُ فَإِنَّهَا عَيْنٌ مُتَوَلِّدَةٌ بَيْنَ مَأْكُولٍ وَبَيْنَ مَا لَا يُؤْكَلُ ؛ فَغَلَبَ التَّحْرِيمُ عَلَى مَا يَلْزَمُ فِي الْأُصُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي تَحْقِيقِ الْمَقْصُودِ :
قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَحَقَّقْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَنْضَافُ إلَيْهِ فِي آيَاتِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا، وَقَدْ حَرَّرْنَا فِي كُتُبِ الْخِلَافِ أَنَّ مَدَارَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الْمَطْعُومَاتِ يَدُورُ عَلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَخَبَرٍ وَاحِدٍ.
الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ ﴾.
الْآيَةُ لثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ ﴾.
الْآيَةُ لثَّالِثَةُ : آيَةُ الْأَنْعَامِ قَوْلُهُ :﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا ﴾.
الرَّابِعُ الْخَبَرُ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ حَرَامٌ ). وَفِي لَفْظٍ آخَرَ :( نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ). وَقَوْلُهُ :﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا ﴾ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، فَإِنْ عَوَّلْنَا عَلَيْهَا فَالْكُلُّ سِوَاهَا مُبَاحٌ، وَإِنْ رَأَيْنَا إلْحَاقَ غَيْرِهَا بِهَا حَسْبَمَا يَتَرَتَّبُ فِي الْأَدِلَّةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ). ثُمَّ جَاءَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا حَتَّى انْتَهَتْ أَسْبَابُ إبَاحَةِ الدَّمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إلَى عَشَرَةِ أَسْبَابٍ، فَالْحَالُ فِي ذَلِكَ مُتَرَدِّدَةٌ وَلِأَجْلِهِ اخْتَارَ الْمُتَوَسِّطُونَ من عُلَمَائِنَا الْكَرَاهِيَةَ فِي هَذِهِ الْحُرُمَاتِ، تَوَسُّطًا بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ ؛ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، وَإِشْكَالِ مَأْخَذِ الْفَتْوَى فِيهَا.
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : الثَّعْلَبُ وَالضَّبُعُ حَلَالٌ، وَهُوَ قَدْ عَوَّلَ عَلَى قَوْلِهِ :( أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ حَرَامٌ )، وَلَكِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الضَّبُعَ يَخْرُجُ عَنْهُ بِحَدِيثٍ يَرْوِيهِ جَابِرٌ أَنَّ ( النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ أَحَلَالٌ هِيَ ؟ قَالَ : نَعَمْ، وَفِيهَا إذَا أَتْلَفَهَا الْمُحْرِمُ كَبْشٌ ). وَفِي رِوَايَةٍ : هِيَ صَيْدٌ، وَفِيهَا كَبْشٌ.
وَهَذَا نَصٌّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا زَعَمَ لَوْ صَحَّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ سَنَدُهُ، وَلَوْ عَوَّلْنَا عَلَيْهِ لَمَا خَصَّصْنَا التَّحْلِيلَ من جُمْلَةِ السِّبَاعِ بِالضَّبُعِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : إنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى قَاعِدَةِ التَّحْلِيلِ، وَأَنَّ الْكُلَّ قَدْ خَرَجَ عَنْ التَّحْرِيمِ، وَانْحَصَرَتْ الْمُحَرَّمَاتُ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ، وَهَذِهِ الْمُعَارَضَاتُ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتْ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ، فَانْظُرُوهَا وَاسْبُرُوهَا، وَمَا ظَهَرَ هُوَ الَّذِي يَتَقَرَّرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : ذَكَرَ اللَّهُ الْأَنْعَامَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ فِي مَسَاقِ النَّعَمِ ذِكْرًا وَاحِدًا، وَذَكَرَ لِكُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا مَنْفَعَةً حَسْبَمَا سَرَدْنَاهُ لَكُمْ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْخَيْلِ مِنْهَا ؛ هَلْ تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ من مَالِكِهَا أَمْ لَا ؟
فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : لَا زَكَاةَ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فِيهَا الزَّكَاةُ مُنْتَزَعًا من قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ : لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ. . . ) الْحَدِيثَ. قَالَ فِيهِ :( وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا ).
وَاحْتَجُّوا بِأَثَرٍ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ ).
وَعَوَّلَ أَصْحَابُهُ من طَرِيقِ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ الْخَيْلَ جِنْسٌ يُسَامُ، وَيُبْتَغَى نَسْلُهُ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ ؛ فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ كَالْأَنْعَامِ.
وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ )، فَنَفَى الصَّدَقَةَ عَنْ الْعَبْدِ وَالْفَرَسِ نَفْيًا وَاحِدًا، وَسَاقَهُمَا مَسَاقًا وَاحِدًا ؛ وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ من الْمُصَنِّفِينَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، إلَّا أَنَّ فِي الرَّقِيقِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ ).
وَقَدْ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى عُمَرَ : إنِّي وَجَدْت أَمْوَالَ أَهْلِ الشَّامِ الرَّقِيقَ وَالْخَيْلَ. فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنْ دَعْهُمَا، ثُمَّ اسْتَشَارَ عُثْمَانَ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ عُمَرُ.
وَرُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ جَمَعُوا صَدَقَةَ خُيُولِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَتَوْا بِهَا عُمَرَ، فَاسْتَشَارَ عَلِيًّا فَقَالَ : لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا إلَّا أَنْ تَكُونَ سُنَّةً بَاقِيَةً بَعْدَك.
فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا ) فَيَعْنِي بِهِ الْحِمْلَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى النَّدْبِ وَالْخَلَاصِ من الْحِسَابِ.
وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ ( فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ ) فَيَرْوِيهِ غَوْرَكٌ السَّعْدِيُّ، وَهُوَ مَجْهُولٌ. جَوَابٌ آخَرُ " قَدْ نَاقَضُوا فَقَالُوا : إنَّ الصَّدَقَةَ فِي إنَاثِهَا لَا فِي ذُكُورِهَا. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ فَضْلٌ بَيْنَهُمَا، وَنَقِيسُ الْإِنَاثَ عَلَى الذُّكُورِ فِي نَفْيِ الصَّدَقَةِ ؛ فَإِنَّهُ حَيَوَانٌ يُقْتَنَى لِنَسْلِهِ لَا لِدَرِّهِ، لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي ذُكُورِهِ، فَلَمْ تَجِبْ فِي إنَاثِهِ، كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا من فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ﴾ :
فَسَمَّى الْحُوتَ لَحْمًا، وَأَنْوَاعُ اللَّحْمِ أَرْبَعَةٌ : لُحُومُ الْأَنْعَامِ، وَلُحُومُ الْوَحْشِ، وَلُحُومُ الطَّيْرِ، وَلُحُومُ الْحُوتِ. وَيَعُمُّهَا اسْمُ اللَّحْمِ، وَيَخُصُّهَا أَنْوَاعُهُ، وَفِي كُلِّ نَوْعٍ من هَذِهِ الْأَنْوَاعِ تَتَشَابَهُ ؛ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ لَحْمًا ؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يَحْنَثُ بِكُلِّ نَوْعٍ من هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ. وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ : لَا يَحْنَثُ إلَّا بِأَكْلِ لُحُومِ الْأَنْعَامِ دُونَ الْوَحْشِ وَغَيْرِهِ، مُرَاعَاةً لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَتَقْدِيمًا لَهَا عَلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ فِي الْبِلَادِ، فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ بِتَنِّيسَ أَوْ بِالْفَرَمَا لَا يَرَى لَحْمًا إلَّا الْحُوتَ، وَالْأَنْعَامُ قَلِيلَةٌ فِيهَا، فَعُرْفُهَا عَكْسُ عُرْفِ بَغْدَادَ، فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْحُوتِ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى لُحُومِ الْأَنْعَامِ، وَإِذَا أَجْرَيْنَا الْيَمِينَ عَلَى الْأَسْبَابِ فَسَبَبُ الْيَمِينِ يُدْخِلُ فِيهَا مَا لَا يَجْرِي عَلَى الْعُرْفِ، وَيُخْرِجُهُ مِنْهَا، وَالنِّيَّةُ تَقْضِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ : أَشْتَرِي لَحْمًا وَحِيتَانًا فَلَا يُعَدُّ تَكْرَارًا، وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ نِيَّةٌ وَلَا سَبَبٌ مَا قَالَهُ أَشْهَبُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ :
يَعْنِي بِهِ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ﴾. وَهَذَا امْتِنَانٌ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الرِّجَالِ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ : مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَلْبَسَ حُلِيًّا فَلَبِسَ لُؤْلُؤًا أَنَّهُ يَحْنَثُ، لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ :﴿ وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ وَاَلَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ اللُّؤْلُؤُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَحْنَثُ. وَلَمْ أَرَ لِعُلَمَائِنَا فِيهَا نَصًّا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِنَّهُ حَانِثٌ.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ مُجَاهِدٌ : من النُّجُومِ مَا يَكُونُ عَلَامَاتٍ، وَمِنْهَا مَا يَهْتَدُونَ بِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ : خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثِ خِصَالٍ : جَعَلَهَا اللَّهُ زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَجَعَلَهَا يَهْتَدُونَ بِهَا، وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ. فَمَنْ تَعَاطَى مِنْهَا غَيْرَ ذَلِكَ سَفَّهَ رَأْيَهُ، وَأَخْطَأَ حَظُّهُ، وَأَضَاعَ نَفْسَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ تَحْقِيقَ ذَلِكَ وَتِبْيَانَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَبِالنَّجْمِ ﴾ :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْجِنْسِ. وَالْمُرَادُ بِهِ جَمْعُ النُّجُومِ وَلَا يَهْتَدِي بِهَا إلَّا الْعَارِفُ. الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الثُّرَيَّا.
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَدْيُ وَالْفَرْقَدَانِ.
فَأَمَّا جَمِيعُ النُّجُومِ فَلَا يَهْتَدِي بِهَا إلَّا الْعَارِفُ بِمَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا، وَالْمَفْرِقُ بَيْنَ الْجَنُوبِيِّ وَالشَّمَالِيِّ مِنْهَا ؛ وَذَلِكَ قَلِيلٌ فِي الْآخِرِينَ. وَأَمَّا الثُّرَيَّا فَلَا يَهْتَدِي بِهَا إلَّا مَنْ يَهْتَدِي بِجَمِيعِ النُّجُومِ، وَإِنَّمَا الْهَدْيُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِالْجَدْيِ وَالْفَرْقَدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا من النُّجُومِ الْمُنْحَصِرَةِ الْمَطْلَعِ، الظَّاهِرَةِ السَّمْتِ، الثَّابِتَةِ فِي الْمَكَانِ فَإِنَّهَا تَدُورُ عَلَى الْقُطْبِ الثَّابِتِ دَوَرَانًا مُحَصَّلًا، فَهِيَ أَبَدًا هَدْيُ الْخَلْقِ فِي الْبَرِّ إذَا عَمِيَتْ الطُّرُقُ، وَفِي الْبَحْرِ عِنْدَ مَجْرَى السُّفُنِ، وَعَلَى الْقِبْلَةِ إذَا جَهِلَ السَّمْتَ، وَذَلِكَ عَلَى الْجُمْلَةِ بِأَنْ تَجْعَلَ الْقُطْبَ عَلَى ظَهْرِ مَنْكِبِك الْأَيْسَرِ، فَمَا اسْتَقْبَلْت فَهُوَ سَمْتُ الْجِهَةِ، وَتَحْدِيدُهَا فِي الْإِبْصَارِ أَنَّك إذَا نَظَرْت الشَّمْسَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ من كَانُونَ الْأَوَّلِ طَالِعَةً فَاجْعَلْ بَيْنَ وَجْهِك وَبَيْنَهَا فِي التَّقْدِيرِ ذِرَاعًا، وَتَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِلْكَعْبَةِ عَلَى التَّقْرِيبِ، سَالِكًا إلَى التَّحْقِيقِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَة : ِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا يُهْتَدَى بِهَا فِي الْأَنْوَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْمَنَازِلَ، وَنَزَّلَ فِيهَا الْكَوَاكِبَ، وَرَتَّبَ لَهَا مَطَالِعَ وَمَغَارِبَ، وَرَبَطَ بِهَا عَادَةً نُزُولَ الْغَيْثِ، وَبِهَذَا عَرَفَتْ الْعَرَبُ أَنْوَاءَهَا، وَتَنَظَّرَتْ سُقْيَاهَا، وَأَضَافَتْ كَثْرَةَ السُّقْيَا إلَى بَعْضٍ، وَقِلَّتَهَا إلَى آخَرَ. وَيُرْوَى فِي الْأَثَرِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ : كَمْ بَقِيَ لِنَوْءِ الثُّرَيَّا ؟ فَقَالَ لَهُ : إنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ : إنَّهَا تَدُورُ فِي الْأُفُقِ سَبْعًا، ثُمَّ يُدِرُّ اللَّهُ الْغَيْثَ، فَمَا جَاءَتْ السَّبْعُ حَتَّى غِيثَ النَّاسُ.
وَفِي الْمُوَطَّإِ : إذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةٌ، ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنٌ غُدَيْقَةٌ.
وَمِنْ الْبِلَادِ مَا يَكُونُ مَطَرُهَا بِالصِّبَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَطَرُهَا بِالْجَنُوبِ، وَيَزْعُمُ أَهْلُهَا أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَدُورُ عَلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا جَرَّتْ الرِّيحُ ذَيْلَهَا عَلَى الْبَحْرِ أَلْقَحَتْ السَّحَابَ مِنْهُ، وَإِذَا جَرَّتْ ذَيْلَهَا عَلَى الْبَيْدَاءِ جَاءَتْ سَحَابًا عَقِيمًا، وَهَذَا فَاسِدٌ من وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا لَا نَمْنَعُ ذَلِكَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ رَبَّنَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْشِئَ الْمَاءَ فِي السَّحَابِ إنْشَاءً، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُسَيِّبَ لَهُ مَاءَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ وَيُصَعِّدَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَفِلًا، وَيَحْلَوْلِي بِتَدْبِيرِهِ، وَقَدْ كَانَ مِلْحًا، وَيُنَزِّلَهُ إلَيْنَا فُرَاتًا عَذْبًا ؛ وَلَكِنَّ تَعْيِينَ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لَا يَكُونُ بِنَظَرٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ لِذَلِكَ أَثَرٌ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ، فَنَحْنُ نَقُولُ : هُوَ جَائِزٌ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ لَكَانَ وَاجِبًا.
الثَّانِي : أَنَّ الشَّمَالَ تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ الْمَجَرَّةُ ؛ لِأَنَّهَا تَمْخَرُ السَّحَابَ، وَلَا تُمْطِرُ مَعَهَا، وَقَدْ تَأْتِي بَحْرِيَّةً وَبَرِّيَّةً، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ ؛ وَأَنَّهُ لَا يُخْبِرُ عَنْ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ إلَّا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، لَا الْعُقُولُ الأرسطاطاليسية.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :«أَصْبَحَ من عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ »، فَأَمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ.
قُلْنَا : إنَّمَا خَرَجَ هَذَا عَلَى قَوْلِ الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ من تَأْثِيرِ الْكَوَاكِبِ لِجَاهِلِيَّتِهَا. وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَهَا وَقْتًا وَمَحَلًّا وَعَلَامَةً يُنْشِئُهُ اللَّهُ فِيهَا وَيُدَبِّرُهُ عَلَيْهَا فَلَيْسَ من الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْآيَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ من بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾، فَجَاءَ الضَّمِيرُ بِلَفْظِ التَّذْكِيرِ عَائِدًا عَلَى جَمْعِ مُؤَنَّثٍ.
وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ ذَلِكَ بِسِتَّةِ أَجْوِبَةٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ سِيبَوَيْهِ : الْعَرَبُ تُخْبِرُ عَنْ الْأَنْعَامِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَمَا أَرَاهُ عَوَّلَ عَلَيْهِ إلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذَا لَا يُشْبِهُ مَنْصِبَهُ، وَلَا يَلِيقُ بِإِدْرَاكِهِ.
الثَّانِي : قَالَ الْكِسَائِيُّ : مَعْنَاهُ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا تَقْدِيرٌ بَعِيدٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ.
الثَّالِثُ : قَالَ الْفَرَّاءُ : الْأَنْعَامُ وَالنِّعَمُ وَاحِدٌ، وَالنَّعَمُ مُذَكَّرٌ، وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ : هَذَا نَعَمٌ وَارِدٌ، فَرُجِعَ إلَى لَفْظِ النَّعَمِ، الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْأَنْعَامِ، وَهَذَا تَرْكِيبٌ طَوِيلٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ. الرَّابِعُ : قَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا : إنَّمَا يُرِيدُ : نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِ بَعْضِهِ، وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ : مَعْنَاهُ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِ أَيُّهَا، كَانَ لَهُ لَبَنٌ مِنْهَا. الْخَامِسُ : أَنَّ التَّذْكِيرَ إنَّمَا جِيءَ بِهِ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ عَلَى ذِكْرِ النَّعَمِ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلذَّكَرِ مَنْسُوبٌ ؛ ( وَلِذَلِكَ قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِأَنَّ اللَّبَنَ لِلْفَحْلِ، حِينَ أَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَدِيثِ أَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ ؛ فَقَالَتْ : إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ. فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ عَمُّك فَلْيَلِجْ عَلَيْك ). بَيَانٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلْمَرْأَةِ سَقْيٌ، وَلِلرَّجُلِ إلْقَاحٌ، فَجَرَى الِإشْتِرَاكُ بَيْنَهُمَا فِيهِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
السَّادِسُ : قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ : إنَّمَا يَرْجِعُ التَّذْكِيرُ إلَى مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالتَّأْنِيثُ إلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، فَذَكَّرَ فِي آيَةِ النَّحْلِ ؛ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَأَنَّثَ فِي آيَةِ الْمُؤْمِنِ ؛ بِاعْتِبَارِ تَأْنِيثِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ، وَيَنْتَظِمُ الْمَعْنَى بِهَذَا التَّأْوِيلِ انْتِظَامًا حَسَنًا. وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْجَمَاعَةِ، وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ، أَكْثَرُ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةُ، من رَمْلِ يَبْرِينَ وَمَهَا فِلَسْطِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : نَبَّهَ اللَّهُ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ ؛ بِخُرُوجِ اللَّبَنِ خَالِصًا من بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، بَيْنَ حُمْرَةِ الدَّمِ وَقَذَارَةِ الْفَرْثِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا وِعَاءٌ وَاحِدٌ، وَجَرَى الْكُلُّ فِي سَبِيلٍ مُتَّحِدَةٍ، فَإِذَا نَظَرْت إلَى لَوْنِهِ، وَجَدْته أَبْيَضَ نَاصِعًا خَالِصًا من شَائِبَةِ الْجَارِ، وَإِذَا شَرِبْته وَجَدْته سَائِغًا عَنْ بَشَاعَةِ الْفَرْثِ، يُرِيدُ لَذِيذًا، وَبَعْضُهُمْ قَالَ : سَائِغًا، أَيْ : لَا يُغَصُّ بِهِ، وَإِنَّهُ لِصِفَتِهِ، وَلَكِنَّ التَّنْبِيهَ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى اللَّذَّةِ وَطِيبِ الْمَطْعَمِ، مَعَ كَرَاهِيَةِ الْجَارِ الَّذِي انْفَصَلَ عَنْهُ فِي الْكَرِشِ، وَهُوَ الْفَرْثُ الْقَذِرُ.
وَهَذِهِ قُدْرَةٌ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِلْقَائِمِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِالْمَصْلَحَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ بَعْضُ الْمُتَصَوِّرِينَ بِصُورَةِ الْمُصَنِّفِينَ الْمُتَسَوِّرِينَ فِي عُلُومِ الدِّينِ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْمَنِيَّ نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ من الْمَخْرَجِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ، وَهَذَا اللَّهُ يَقُولُ فِي اللَّبَنِ :﴿ يَخْرُجُ من بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ﴾، فَكَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ من بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ سَائِغًا خَالِصًا طَاهِرًا، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ الْمَنِيُّ عَلَى مَخْرَجِ الْبَوْلِ طَاهِرًا.
قَالَ الْقَاضِي : قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ صِفَةَ الْمُجْتَهِدِ الْمُفْتِي فِي الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبِطِ لَهَا من الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ، وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ مَوْجُودَةً فِي هَذَا الْقَائِلِ، مَا نَطَقَ بِمِثْلِ هَذَا ؛ فَإِنَّ اللَّبَنَ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْهُ مَجِيءَ النِّعْمَةِ وَالْمِنَّةِ الصَّادِرَةِ عَنْ الْقُدْرَةِ، لِيَكُونَ عِبْرَةً ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلَّهُ لَهُ وَصْفَ الْخُلُوصِ وَاللَّذَّةِ وَالطَّهَارَةِ، وَأَيْنَ الْمَنِيُّ من هَذِهِ الْحَالَةِ، حَتَّى يَكُونَ مُلْحَقًا بِهِ أَوْ مَقِيسًا عَلَيْهِ ؛ إنَّ هَذَا لَجَهْلٌ عَظِيمٌ.
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ قَوْمٌ : الْمَعْنَى : وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مَا تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا. وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَاهُ : شَيْءٌ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا، وَدَلَّ عَلَى حَذْفِه، ِ قَوْلُهُ :﴿ مِنْهُ ﴾، فَلِذَلِكَ سَاغَ حَذْفُهُ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ سَكَرًا ﴾ :
فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُهُمَا.
الثَّانِي : أَنَّهُ خُمُورُ الْأَعَاجِمِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَيَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْخَلُّ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ أَيْضًا.
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الطَّعْمُ الَّذِي يُعْرَفُ من ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ.
الْخَامِسُ : أَنَّهُ مَا يَسُدُّ الْجُوعَ، مَأْخُوذٌ من سَكَرْتُ النَّهْرَ، إذَا سَدَدْته.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الرِّزْقُ الْحَسَنُ :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا.
الثَّانِي : أَنَّهُ النَّبِيذُ وَالْخَلُّ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْأَوَّلُ، يَقُولُ : تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا، فَجَعَلَ لَهُ اسْمَيْنِ، وَهُوَ وَاحِدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَمَّا هَذِهِ الْأَقَاوِيلُ، فَأَسَدُّهَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ السَّكَرَ : الْخَمْرُ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ : مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ بَعْدَهَا، من هَذِهِ الثَّمَرَاتِ. وَيُخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُم، اعْتِدَاءً مِنْكُمْ، وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ اتِّفَاقًا، أَوْ قَصْدًا إلَى مَنْفَعَةِ أَنْفُسِكُمْ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ من الْعُلَمَاءِ، وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ مَدَنِيٌّ.
فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ :﴿ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ﴾، مَا يُسْكِرُ من الْأَنْبِذَةِ. وَخَلًّا، وَهُوَ الرِّزْقُ الْحَسَنُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا : أَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ من ذَلِكَ، وَلَا يَقَعُ الِامْتِنَانُ إلَّا بِمُحَلَّلٍ لَا بِمُحَرَّمٍ ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ مَا دُونَ الْمُسْكِرِ من النَّبِيذِ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى السُّكْرِ لَمْ يَجُزْ ؛ قَالَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَضَّدُوا رَأْيَهُمْ هَذَا من السُّنَّةِ، بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِعَيْنِهَا، وَالسُّكْرَ من غَيْرِهَا ). وَبِمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فَيَشْرَبُهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَإِذَا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ، سَقَاهُ الْخَدَمَ إذَا تَغَيَّرَ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا سَقَاهُ إيَّاهُمْ. فَالْجَوَابُ، أَنَّا نَقُولُ : قَدْ عَارَضَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ بِمِثْلِهَا، فَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ :( مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ )، خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَجَوَّدَهُ، وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ، عَنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ قَالَ :( كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ). وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، مَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ ). وَرُوِيَ :( فَالْحَسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ ).
وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ بِاتِّفَاقٍ من الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إنَّ من الْحِنْطَةِ خَمْرًا، وَإِنَّ من الشَّعِيرِ خَمْرًا، وَإِنَّ من التَّمْرِ خَمْرًا، وَإِنْ من الزَّبِيبِ خَمْرًا، وَإِنَّ من الْعَسَلِ خَمْرًا ). خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الصَّحِيحِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِنْ كَانَ قَالَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُو : شَرْعٌ مُتَّبَعٌ، وَإِنْ كَانَ أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللُّغَةِ، فَهُوَ : حُجَّةٌ فِيهَا، لَا سِيَّمَا وَهُوَ نَطَقَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ مَا بَيْنَ أَظْهُرِ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يَقُمْ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ.
جَوَابٌ آخَرُ : أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ اللَّهَ امْتَنَّ، وَلَا يَكُونُ امْتِنَانُهُ وَتَعْدِيدُهُ إلَّا بِمَا أَحَلَّ، فَصَحِيحٌ ؛ بَيْدَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بَعْدُ.
فَإِنْ قَيلُ : كَيْفَ يُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ هَاهُنَا، وَيَنْسَخُ هَذَا الْحُكْمَ، وَهُوَ خَبَرٌ، وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ ؟.
قُلْنَا : هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الشَّرِيعَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَتَهُ قَبْلُ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الْخَبَرَ إذَا كَانَ عَنْ الْوُجُودِ الْحَقِيقِيِّ، فَذَلِكَ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ، أَوْ كَانَ عَنْ الْفَضْلِ الْمُعْطَى ثَوَابًا، فَهُوَ أَيْضًا لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ ؛ فَأَمَّا إنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَالْأَحْكَامُ تَتَبَدَّلُ وَتُنْسَخُ، جَاءَتْ بِخَبَرٍ أَوْ بِأَمْرٍ، وَلَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى تَكْذِيبٍ فِي الْخَبَرِ أَوْ الشَّرْعِ، الَّذِي كَانَ مُخْبَرًا عَنْهُ قَدْ زَالَ بِغَيْرِهِ.
وَإِذَا فَهِمْتُمْ هَذَا، خَرَجْتُمْ عَنْ الصِّنْفِ الْغَبِيِّ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ فِيه، بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾، يَعْنِي : أَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّ الرَّبَّ، يَأْمُرُ بِمَا يَشَاءُ، وَيُكَلِّفُ مَا يَشَاءُ، وَيَرْفَعُ من ذَلِكَ بِعَدْلِهِ مَا يَشَاءُ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.
جَوَابٌ ثَالِثٌ : وَأَمَّا مَا عَضَّدُوهُ بِهِ من الْأَحَادِيثِ، فَالْأَوَّلُ : ضَعِيفٌ، وَالثَّانِي : فِي سَقْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ لِلْخَدَمِ، صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ مَا كَانَ يَسْقِيهِ لِلْخَدَمِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْكِرٌ، وَإِنَّمَا كَانَ يَسْقِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرُ الرَّائِحَةِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَهَ الْخَلْقِ فِي خَبِيثِ الرَّائِحَةِ، وَلِذَلِكَ تَحَيَّلَ عَلَيْهِ أَزْوَاجُهُ فِي عَسَلِ زَيْنَبَ، فَإِنَّهُنَّ قُلْنَ لَهُ : إنَّا نَجِدُ مِنْك رِيحَ مَغَافِيرَ، يَعْنِي : رِيحًا نُنْكِرُهُ. وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ، أَثَرًا وَنَظَرًا، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ :
وَإِذَا قِيلَ : إنَّ ثَمَرَاتِ الْحُبُوبِ وَغَيْرِهَا، تُتَّخَذُ مِنْهُ رِزْقٌ حَسَنٌ وَسَكَرٌ.
قُلْنَا : هَذِهِ الْحُبُوبُ وَسَائِرُ الثَّمَرَاتِ، وَإِنْ وَقَعَ الِامْتِنَانُ بِهَا، وَكَانَتْ لَهَا وُجُوهٌ يُنْتَفَعُ مِنْهَا، فَلَا يَقُومُ مَقَامَ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْخَلَّ، وَهُوَ أَجَلُّ مَنْفَعَةٍ فِي الْعَالَمِ، فَإِنَّهُ دَوَاءٌ وَغِذَاءٌ، فَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ مَحَلَّ هَاتَيْنِ الثَّمَرَتَيْنِ شَيْءٌ، خُصَّا بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِمَا.
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَوْحَى رَبُّك إلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي من الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَكُتُبِ الْأُصُولِ : أَنَّ الْوَحْيَ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ : مِنْهَا الْإِلْهَامُ، وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ ابْتِدَاءً من غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَهُوَ من قَوْله تَعَالَى :﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾. وَمِنْ ذَلِكَ الْبَهَائِمُ وَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهَا من دَرْكِ مَنَافِعِهَا، وَاجْتِنَابِ مَضَارِّهَا، وَتَدْبِيرِ مَعَاشِهَا. وَمِنْ عَجِيبِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي النَّحْلِ، أَنْ أَلْهَمَهَا لِاِتِّخَاذِ بُيُوتِهَا مُسَدَّسَةً ؛ فَبِذَلِكَ اتَّصَلَتْ حَتَّى صَارَتْ كَالْقِطْعَةِ الْوَاحِدَةِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْكَالَ من الْمُثَلَّثِ إلَى الْمُعَشَّرِ إذَا جُمِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إلَى أَمْثَالِهِ لَمْ يَتَّصِلْ، وَجَاءَتْ بَيْنَهُمَا فُرَجٌ إلَّا الشَّكْلَ الْمُسَدَّسَ فَإِنَّهُ إذَا جُمِعَ إلَى أَمْثَالِهِ التَّسْدِيسُ، يَحْمِي بَعْضُهَا بَعْضًا عِنْدَ الِاتِّصَالِ. وَجُعِلَتْ كُلُّ بَيْتٍ عَلَى قَدْرِهَا، فَإِذَا تَشَكَّلَ عِنْدَ حَرَكَةِ النَّحْلَةِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ، وَمَلَأَتْهُ عَسَلًا انْتَقَلَتْ إلَى غَيْرِهِ، بِتَسْخِيرِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ وَتَذْلِيلِهِ، إنْ تُرِكَتْ عَسَّلَتْ، وَإِنْ حُمِلَتْ اتَّبَعَتْ، وَهِيَ ذَاتُ جَنَاحٍ، وَلَكِنَّ الْقَابِضَ الْبَاسِطَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَهَا وَدَبَّرَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ يَخْرُجُ من بُطُونِهَا شَرَابٌ ﴾ : يَعْنِي : الْعَسَلَ، عَدَّدَهَا اللَّهُ فِي نِعَمِهِ، وَذَكَرَ شَرَابَهُ مُمْتَنًّا بِهِ، وَسَمَّاهُ شَرَابًا وَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا ؛ لِأَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْأَشْرِبَةِ أَكْثَرَ من تَصْرِيفِهِ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ، وَذَلِكَ بِالشَّرَابِيَّةِ أَخَصُّ كَمَا أَنَّ الْجَامِدَ أَخَصُّ بِالطَّعَامِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾ : يُرِيدُ أَنْوَاعَهُ من الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ وَالْأَصْفَرِ، وَالْجَامِدِ وَالسَّائِلِ ؛ وَالْأُمُّ وَاحِدَةٌ، وَالْأَوْلَادُ مُخْتَلِفُونَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ نَوَّعَتْهُ بِحَسَبِ تَنْوِيعِ الْغِذَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ عَلَى صِفَتِهِ، وَلَا يَجِيءُ إلَّا من جِنْسِهِ، وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ بَعْضُ التَّأْثِيرِ فِيهِ لِيَدُلَّ عَلَيْهِ ؛ وَيُغَيِّرُهُ اللَّهُ، لِتَتَبَيَّنَ قُدْرَتُهُ فِي التَّصْرِيفِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ﴾ : وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ :( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ ). وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ من أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةِ نَارٍ ). وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ ( رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ. فَقَالَ : اسْقِهِ عَسَلًا. ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ : اسْقِهِ عَسَلًا. ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ : اسْقِهِ عَسَلًا ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ : فَعَلْت، فَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إلَّا اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ : صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيك، اسْقِهِ عَسَلًا، فَسَقَاهُ فَبَرِئَ ). وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَشْكُو قُرْحَةً وَلَا شَيْئًا إلَّا جَعَلَ عَلَيْهِ عَسَلًا حَتَّى الدُّمَّلَ إذَا خَرَجَ عَلَيْهِ طَلَاهُ بِعَسَلٍ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ : أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ :﴿ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ﴾.
وَرُوِيَ أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ مَرِضَ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا نُعَالِجُك، قَالَ : ائْتُونِي بِمَاءِ سَمَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهُ يَقُولُ :﴿ وَنَزَّلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا ﴾، وَأْتُونِي بِعَسَلٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ :﴿ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ﴾. وَأْتُونِي بِزَيْتٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ :﴿ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾، فَجَاءُوهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَخَلَطَهُ جَمِيعًا ثُمَّ شَرِبَهُ فَبَرِئَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ : إنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ :" فِيهِ " يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ : الْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ، مَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنْهُمْ ؛ وَلَوْ صَحَّ نَقْلًا لَمْ يَصِحَّ عَقْلًا ؛ فَإِنَّ مَسَاقَ الْكَلَامِ كُلِّهِ لِلْعَسَلِ، لَيْسَ لِلْقُرْآنِ فِيهِ ذِكْرٌ ؛ وَكَيْفَ يَرْجِعُ ضَمِيرٌ فِي كَلَامٍ إلَى مَا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كُلَّهُ مِنْهُ ؟ وَلَكِنَّهُ إنَّمَا يُرَاعَى مَسَاقُ الْكَلَامِ وَمَنْحَى الْقَوْلِ، وَقَدْ حَسَمَ النَّبِيُّ فِي ذَلِكَ ذَا الْإِشْكَالِ، وَأَزَاحَ وَجْهَ الِاحْتِمَالِ حِينَ أَمَرَ الَّذِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ بِشُرْبِ الْعَسَلِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِأَنَّ الْعَسَلَ لَمَّا سَقَاهُ إيَّاهُ مَا زَادَهُ إلَّا اسْتِطْلَاقًا، أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَوْدِ الشُّرْبِ لَهُ، وَقَالَ لَهُ :( صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيك ).
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ﴾ : اُخْتُلِفَ فِي مَحْمَلِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ، كَمَا سُقْنَاهُ من رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَعَوْفٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ بِالتَّدْبِيرِ ؛ إذْ يُخْلَطُ الْخَلُّ بِالْعَسَلِ وَيَطْبُخُ، فَيَأْتِي شَرَابًا يَنْفَعُ فِي كُلِّ حَالَةٍ من كُلِّ دَاءٍ.
وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى مَدْحِ عُمُومِ مَنْفَعَةِ السَّكَنْجَبِينِ فِي كُلِّ مَرَضٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ لَفْظٍ عَامٍّ حُمِلَ عَلَى مَقْصِدٍ خَاصٍّ ؛ فَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْهُ، وَلُغَةُ الْعَرَبِ يَأْتِي فِيهَا الْعَامُّ كَثِيرًا بِمَعْنَى الْخَاصِّ، وَالْخَاصُّ بِمَعْنَى الْعَامِّ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ :
* أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا *
وَالْمُرَادُ كُلُّ النُّفُوسِ ؛ إذْ لَا تَخْلُو نَفْسٌ من ارْتِبَاطِ الْحِمَامِ لَهَا. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى نِيَّةِ كُلِّ أَحَدٍ، فَمَنْ قَوِيَتْ نِيَّتُهُ، وَصَحَّ يَقِينُهُ فَفَعَلَ فِعْلَ عَوْفٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَدَهُ كَذَلِكَ، وَمَنْ ضَعُفَتْ نِيَّتُهُ وَغَلَبَتْهُ عَلَى الدِّينِ عَادَتُهُ، أَخَذَهُ مَفْهُومًا عَلَى قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ، وَالْكُلُّ من حُكْمِ الْفَعَّالِ لِمَا يَشَاءُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَسَلَ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا مُقْتَاتًا، وَلَكِنَّهُ كَمَا رُوِيَ فِي ذِكْرِ النَّحْلِ ذُبَابُ غَيْثٍ، وَكَمَا جَاءَ فِي الْعَنْبَرِ أَنَّهُ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ، فَأَحَدُهُمَا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ، وَالْآخَرُ يَطْفُو عَلَى الْمَاءِ، وَكِلَاهُمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ الزَّكَاةَ بِمَا خَصَّهَا من الْأَمْوَالِ الْمُقْتَاتَةِ، وَالْأَعْيَانِ النَّامِيَةِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْهَا فِي مَوَاضِعِهَا، فَلْيُقَفْ عِنْدَهَا. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ قَالَ : جَاءَ كِتَابٌ من عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى أَبِي، وَهُوَ بِمِنًى، أَلَّا يَأْخُذَ من الْعَسَلِ وَلَا من الْخَيْلِ صَدَقَةً. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الْعَسَلَ طَعَامٌ يَخْرُجُ من حَيَوَانٍ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَاللَّبَنِ، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ اللَّبَنُ عَيْنٌ زَكَاتِيَّةٌ، وَقَدْ قَضَى حَقَّ النِّعْمَةِ فِيهِ، وَحَازَ الِاسْتِيفَاءَ لِمَنَافِعِهَا، بِخِلَافِ الْعَسَلِ، فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي أَصْلِهِ، فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ بِاللَّبَنِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْعَسَلِ، مُحْتَجًّا بِمَا رُوِيَ ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ من الْعَسَلِ الْعُشْرَ ). وَالْحَدِيثُ لَا أَصْلَ لَهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي ذُبَابٍ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :( قَدِمْت عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ اجْعَلْ لِقَوْمِي مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ من أَمْوَالِهِمْ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْمَلَنِي عَلَيْهِمْ }، ثُمَّ اسْتَعْمَلَنِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، قَالَ : فَكَلَّمْت قَوْمِي فِي الْعَسَلِ، فَقُلْت لَهُمْ : زَكُّوهُ، فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي ثَمَرَةٍ لَا تُزَكَّى. قَالُوا : كَمْ ؟ فَقُلْت : الْعُشْرُ. فَأَخَذْت مِنْهُمْ الْعُشْرَ، فَأَتَيْت عُمَرَ فَأَخْبَرْته، فَقَبَضَهُ، وَبَاعَهُ، وَجَعَلَهُ فِي صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا كَانَ بِطَوَاعِيَتِهِمْ صَدَقَةً نَافِلَةً، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي فَرْضِ أَصْلِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِيهِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ من أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ من أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ من الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ جَعَلَ لَكُمْ من أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾، يَعْنِي : من جِنْسِكُمْ، يَعْنِي : من الْآدَمِيِّينَ، رَدًّا عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا تَتَزَوَّجُ الْجِنَّ وَتُبَاضِعُهَا، حَتَّى رَوَتْ أَنَّ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ تَزَوَّجَ مِنْهُمْ غُولًا، وَكَانَ يَخْبَؤُهَا عَنْ الْبَرْقِ، لِئَلَّا تَرَاهُ فَتَنْفِرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي لَمَحَ الْبَرْقَ وَعَايَنَتْهُ السِّعْلَاةُ فَقَالَتْ : عَمْرُو، وَنَفَرَتْ فَلَمْ يَرَهَا أَبَدًا، وَهَذَا من أَكَاذِيبِهَا، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي حُكْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، رَدًّا عَلَى الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْجِنِّ، وَيُحِيلُونَ طَعَامَهُمْ وَنِكَاحَهُمْ.
وَقِيلَ : أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ أَزْوَاجًا ﴾، زَوْجُ الْمَرْأَةِ، هِيَ ثَانِيَتُهُ، فَإِنَّهُ فَرْدٌ، فَإِذَا انْضَافَتْ إلَيْهِ كَانَا زَوْجَيْنِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ دُونَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُهَا فِي الْوُجُودِ، وَقِوَامُهَا فِي الْمَعَاشِ، وَأَمِيرُهَا فِي التَّصَرُّفِ، وَعَاقِلُهَا فِي النِّكَاحِ، وَمُطْلِقُهَا من قَيْدِهِ، وَعَاقِلُ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ عَنْهَا فِيهِ، وَوَاحِدٌ من هَذَا كُلِّهِ يَكْفِي لِلْأَصَالَةِ، فَكَيْفَ بِجَمِيعِهَا ؟.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ من أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾ :
وُجُودُ الْبَنِينَ يَكُونُ مِنْهُمَا مَعًا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَخَلُّقُ الْمَوْلُودِ فِيهَا، وَوُجُودُهُ ذَا رُوحٍ وَصُورَةٍ بِهَا، وَانْفِصَالُهُ كَذَلِكَ عَنْهَا، أُضِيفَ إلَيْهَا، وَلِأَجْلِهِ تَبِعَهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَصَارَ مِثْلَهَا فِي الْمَالِيَّةِ.
سَمِعْت إمَامَ الْحَنَابِلَةِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ أَبُو الْوَفَاءِ عَلِيُّ بْنُ عَقِيلٍ، يَقُولُ : إنَّمَا تَبِعَ الْوَلَدُ الْأُمَّ فِي الْمَالِيَّةِ، وَصَارَ بِحُكْمِهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ انْفَصَلَ عَنْ الْأَبِ نُطْفَةً لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِ، وَلَا مَنْفَعَةَ مَثْبُوتَةَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اكْتَسَبَ مَا اكْتَسَبَ بِهَا وَمِنْهَا، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ تَبِعَهَا، كَمَا لَوْ أَكَلَ رَجُلٌ تَمْرًا فِي أَرْضِ رَجُلٍ، فَسَقَطَتْ مِنْهُ نَوَاةٌ فِي الْأَرْضِ من يَدِ الْآكِلِ، فَصَارَتْ نَخْلَةً، فَإِنَّهَا مِلْكُ صَاحِبِ الْأَرْضِ دُونَ الْآكِلِ بِإِجْمَاعٍ من الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهَا انْفَصَلَتْ من الْآكِلِ وَلَا قِيمَةَ لَهَا ؛ وَهَذِهِ من الْبَدَائِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ :﴿ وَحَفَدَةً ﴾ :
وَفِيهَا ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ : الْأَخْتَانُ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.
الثَّانِي : أَنَّهُمْ : الْأَصْهَارُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّالِثُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : الْخَتَنُ : الزَّوْجُ، وَمَنْ كَانَ من ذَوِي رَحِمِهِ. وَالصِّهْرُ : مَنْ كَانَ من قِبَلِ الْمَرْأَةِ من الرِّجَالِ.
الرَّابِعُ : أَنَّهَا ضِدُّ ذَلِكَ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ.
الْخَامِسُ : قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : الْخَتَنُ : مَنْ كَانَ من الرِّجَالِ من قِبَلِ الْمَرْأَةِ، وَالْأَصْهَارُ مِنْهُمَا جَمِيعًا.
السَّادِسُ : الْحَفَدَةُ : أَعْوَانُ الرَّجُلِ وَخَدَمِهِ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَعَانَك فَقَدْ حَفَدَك ؛ وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ.
السَّابِعُ : حَفَدَةُ الرَّجُلِ أَعْوَانُهُ من وَلَدِهِ.
الثَّامِنُ : أَنَّهُ وَلَدُ الرَّجُلِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَذِهِ الْأَقْوَالُ كَمَا سَرَدْنَاهَا إمَّا أُخِذَتْ عَنْ لُغَةٍ، وَإِمَّا عَنْ تَنْظِيرٍ، وَإِمَّا عَنْ اشْتِقَاقٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ من الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ﴾ ؛ فَالنَّسَبُ مَا دَارَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَالصِّهْرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِمَا، وَيُقَالُ أَخْتَانُ الْمَرْأَةِ وَأَصْهَارُ الرَّجُلِ عُرْفًا وَلُغَةً، وَيُقَالُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ : الْحَفِيدُ، وَيُقَالُ : حَفِدُهُ يَحْفِدُهُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إذَا خَدَمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ : وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ. فَالظَّاهِرُ عِنْدِي من قَوْلِهِ :﴿ بَنِينَ ﴾، أَوْلَادُ الرَّجُلِ من صُلْبِهِ، وَمِنْ قَوْلِهِ :﴿ حَفَدَةً ﴾، أَوْلَادُ وَلَدِهِ. وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ اللَّفْظِ أَكْثَرُ من هَذَا. وَنَقُولُ : تَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا : وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ من أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا، وَمِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ، وَمِنْ الْبَنِينَ حَفَدَةً.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ : وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ من أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ من أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً، فَيَكُونُ الْبَنُونَ من الْأَزْوَاجِ، وَالْحَفَدَةُ من الْكُلِّ من زَوْجٍ وَابْنٍ، يُرِيدُ بِهِ خُدَّامًا، يَعْنِي : أَنَّ الْأَزْوَاجَ وَالْبَنِينَ يَخْدُمُونَ الرَّجُلَ بِحَقِّ قِوَامِيَّتِهِ وَأُبُوَّتِهِ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَخْدُمُ الرَّجُلُ زَوْجَهُ فِيمَا خَفَّ من الْخِدْمَةِ، وَيُعِينُهَا. وَقَدْ قَالُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يَخْدُمُهَا. وَقَالُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يُنْفِقُ عَلَى خَادِمٍ وَاحِدَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ : عَلَى أَكْثَرَ من وَاحِدَةٍ عَلَى قَدْرِ الثَّرْوَةِ وَالْمَنْزِلَةِ ؛ وَهَذَا أَمْرٌ دَائِرٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ من أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ؛ فَإِنَّ نِسَاءَ الْأَعْرَابِ وَسُكَّانَ الْبَادِيَةِ يَخْدُمْنَ أَزْوَاجَهُنَّ، حَتَّى فِي اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ وَسِيَاسَةِ الدَّوَابِّ. وَنِسَاءَ الْحَوَاضِرِ يَخْدُمُ الْمُقِلُّ مِنْهُمْ زَوْجَهُ فِيمَا خَفَّ، وَيُعِينُهَا. وَأَمَّا أَهْلُ الثَّرْوَةِ فَيَخْدُمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَيَتَرَفَّهْنَ مَعَهُمْ إذَا كَانَ لَهُمْ مَنْصِبٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا مُشْكِلًا شَرَطَتْ عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ ذَلِكَ، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ أَنَّهَا مِمَّنْ لَا تَخْدُمُ نَفْسَهَا، فَالْتَزَمَ إخْدَامَهَا ؛ فَيُنَفِّذُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَتَنْقَطِعُ الدَّعْوَى فِيهِ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ : وَسَأَلْته عَنْ قَوْلِ اللَّهِ :﴿ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾، مَا الْحَفَدَةُ ؟ قَالَ : الْخَدَمُ وَالْأَعْوَانُ فِي رَأْيٍ.
وَيُرْوَى أَنَّ الْحَفَدَةَ : الْبَنَاتُ يَخْدُمْنَ الْأَبَوَيْنِ فِي الْمَنَازِلِ.
وَيُرْوَى أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ :﴿ وَحَفَدَةً ﴾، قَالَ : هُمْ الْأَعْوَانُ ؛ مَنْ أَعَانَك فَقَدْ حَفَدَك. قَالَ : فَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ، وَتَقُولُهُ. أَمَا سَمِعْت قَوْلَ الشَّاعِرِ :
حَفَدَ الْوَلَائِدُ حَوْلَهُنَّ وَأُلْقِيَتْ بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةُ الْأَجْمَالِ
وَتَصْرِيفُ الْفِعْلِ : حَفَدَ يَحْفِدُ كَمَا قَدَّمْنَا، حَفْدًا وَحُفُودًا وَحَفَدَانًا.
وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ : إنَّ الْحَفَدَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ : الْخَدَمُ، وَكَفَى بِمَالِكٍ فَصَاحَةً، وَهُوَ مَحْضُ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِ : إنَّهُمْ الْخَدَمُ. وَبِقَوْلِ الْخَلِيلِ، وَهُوَ ثِقَةٌ فِي نَقْلِهِ عَنْ الْعَرَبِ ؛ فَخَرَجَتْ خِدْمَةُ الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ من الْقُرْآنِ بِأَبْدَعَ بَيَانٍ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ ( أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُرْسِهِ، فَكَانَتْ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَهِيَ الْعَرُوسُ، فَقَالَ : أَوَتَدْرُونَ مَا أَنقَعْت لِرَسُولِ اللَّهِ ؟ أَنقَعْت لَهُ تَمَرَاتٍ من اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ ).
وَكَذَلِكَ رُوِيَ ( عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ ). وَهَذَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ : وَيُعِينُهَا.
وَفِي أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ( كَانَ يَخْصِفُ النَّعْلَ، وَيَقُمُّ الْبَيْتَ، وَيَخِيطُ الثَّوْبَ ).
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( كَانَ يَعُودُ الْمَرِيضَ، وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ، وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ من لِيفٍ عَلَيْهِ إكَافٌ من لِيفٍ ). وَقَالَ ( عَنْ عَائِشَةَ وَقَدْ قِيلَ لَهَا : مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَعْمَلُ فِي الْبَيْتِ ؟ قَالَتْ : كَانَ بَشَرًا من الْبَشَرِ، يُفَلِّي ثَوْبَهُ، وَيَحْلِبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ ). قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : حَتَّى فِي وُضُوئِهِ ؛ فَرُوِيَ من طَرِيقٍ عَنْ ( ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ، فِي لَيْلَةٍ كَانَتْ لَا تُصَلِّي فِيهَا، فَأَوَى رَسُولُ اللَّهِ إلَى فِرَاشِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، قَامَ فَخَرَجَ إلَى الْحُجْرَةِ فَقَلَّبَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ وَجْهَهُ، ثُمَّ قَالَ : نَامَتْ الْعُيُونُ، وَغَارَتْ النُّجُومُ، وَاَللَّهُ حَيٌّ
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فِي قَوْلٍ، وَلِلْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ فِي قَوْلٍ آخَرَ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، هُوَ : الْكَافِرُ، وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا، هُوَ : الْمُؤْمِنُ، آتَاهُمَا اللَّهُ مَالًا كَثِيرًا وَرِزْقًا وَاسِعًا، فَأَمَّا الْكَافِرُ : فَبَخِلَ بِهِ، وَأَمْسَكَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ : فَقَلَّبَ بِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ يَمِينًا وَشِمَالًا، هَكَذَا وَهَكَذَا، سِرًّا وَجِهَارًا.
وَأَمَّا الْمَعْنَى عَلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ : فَهُوَ عِنْدَهُمْ : أَنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ، هُوَ : الصَّبِيُّ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لِغِرَارَتِهِ وَجَهَالَتِهِ، كَمَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ :﴿ وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ من بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾. وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ :﴿ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا ﴾، لِلَّهِ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ بَيَّنَّاهُ فِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ من الْخَلْقِ فِيهِ، وَقَالَ :﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ﴾، يَعْنِي : لَا تَضْرِبُوا أَنْتُمْ الْأَمْثَالَ لِلَّهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَيُرِيدُ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا تَقُولُونَ وَمَا تُرِيدُونَ، إلَّا إذَا عَلِمْتُمْ وَأَذِنَ لَكُمْ فِي الْقَوْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ﴾، إثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ، فَلَيْسَ يَقْتَضِي الشُّمُولَ، وَلَا يُعْطِي الْعُمُومَ ؛ وَإِنَّمَا يُفِيدُ وَاحِدًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ يَقْدِرُ بِأَنْ يُقْدِرَهُ مَوْلَاهُ، فَيَنْقَسِمُ حَالُ الْعَبِيدِ الْمَمَالِيكِ إلَى قِسْمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مَا يَكُونُ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ لَا يَقْدِرُ.
الثَّانِي : أَنْ يَقْدِرَ بِأَنْ تُوضَعَ لَهُ الْقُدْرَةُ، وَيُمَكَّنَ من التَّصَرُّفِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَقْدِرُ وَإِنْ أُقْدِرَ، وَلَا يَمْلِكُ وَإِنْ مُلِّكَ.
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ.
وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ، فَلَا يَمْلِكُ. أَصْلُهُ الْبَهِيمَةُ قَالَ أَهْلُ خُرَاسَانَ : وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ تُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ ؛ فَإِنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ تَقْتَضِي الْحَجْرَ وَالْمَنْعَ، وَالْمَالِكِيَّةَ تَقْتَضِي الْإِذْنَ وَالْإِطْلَاقَ ؛ فَلَمَّا تَنَاقَضَا لَمْ يَجْتَمِعَا.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الْحَيَاةَ وَالْآدَمِيَّةَ عِلَّةُ الْمِلْكِ، فَهُوَ آدَمِيٌّ حَيٌّ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ كَالْحُرِّ، وَإِنَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ الرِّقُّ عُقُوبَةً، فَصَارَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ حَقُّ الْحَجْرِ، وَذِمَّتُهُ خَالِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ وَفَكَّ الْحَجْرَ عَنْهُ، رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ فِي الْمَالِكِيَّةِ ؛ بِعِلَّةِ الْحَيَاةِ وَالْآدَمِيَّةِ وَبَقَاءِ ذِمَّتِهِ خَالِيَةً عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا، قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ )، فَأَضَافَ الْمَالَ إلَى الْعَبْدِ، وَمَلَّكَهُ إيَّاهُ، وَجَعَلَهُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ إضَافَةُ مَحَلٍّ، كَمَا يُقَالُ سَرْجُ الدَّابَّةِ وَبَابُ الدَّارِ، فَيُضَافُ ذَلِكَ إلَيْهَا، إضَافَةَ مَحَلٍّ لَا إضَافَةَ تَمْلِيكٍ.
قُلْنَا : إنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ إضَافَةُ مَحَلٍّ ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ وَالدَّارَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْمِلْكُ وَلَا يَصِحُّ لَهُمَا التَّمْلِيكُ ؛ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ آدَمِيٌّ حَيٌّ، فَصَحَّ أَنْ يَمْلِكَ وَيُمَلَّكَ، وَجَازَ أَنْ يَقْدِرَ وَيُقْدَرَ.
وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ لِرَأْيِهِمْ، الْمُفْسِدُ لِكَلَامِهِمْ : أَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي النِّكَاحِ جَازَ، فَنَقُولُ : مَنْ مَلَكَ الْأَبْضَاعَ مَلَكَ الْمَتَاعَ كَالْحُرِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبُضْعَ أَشْرَفُ من الْمَالِ، فَإِذَا مَلَكَ الْبُضْعَ بِالْإِذْنِ، فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يَمْلِكَ الْمَالَ، الَّذِي هُوَ دُونَهُ فِي الْحُرْمَةِ بِالْإِذْنِ.
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا جَازَ لَهُ النِّكَاحُ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ يَشْتَهِي طَبْعًا ؛ فَلَوْ مَنَعْنَاهُ اسْتِيفَاءَ شَهْوَتِهِ الْجِبِلِّيَّةِ لَأَضْرَرْنَا بِهِ، وَلَوْ سَلَّطْنَاهُ عَلَى اقْتِضَائِهَا بِصِفَةِ الْبَهَائِمِ، لَعَطَّلْنَا التَّكْلِيفَ ؛ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ لَهُ ؛ إذْ لَا يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِالْبُضْعِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ يُسْتَبَاحُ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِالْأَكْلِ وَاللِّبَاسِ وَالرُّكُوبِ، وَيَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ، وَهَذِهِ عُمْدَتُهُمْ.
وَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا عُلَمَاؤُنَا بِأَجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ ؛ عُمْدَتُهَا أَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تُبِيحُ الْفُرُوجَ، وَإِنَّمَا إبَاحَتُهَا فِي الْأَصْلِ طَلَبًا لِلنَّسْلِ بِتَكْثِيرِ الْخَلْقِ، وَتَنْفِيذًا لِلْوَعْدِ ؛ فَبِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وُضِعَتْ إبَاحَتُهَا، وَشُرِعَ النِّكَاحُ لِاسْتِبْقَائِهَا.
فَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا أُبِيحَتْ ضَرُورَةً، غَلَطٌ. وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَوْ كَانَ مُبَاحًا لَهُ بِالضَّرُورَةِ لَتَقَدَّرَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إلَّا نِكَاحُ وَاحِدَةٍ.
فَإِنْ قُلْتُمْ : إنَّهَا رُبَّمَا لَا تَعْصِمُهُ، فَكَانَ من حَقِّكُمْ أَنْ تُبَلِّغُوهُ إلَى أَرْبَعٍ، كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إنَّمَا جَرَى عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، لَا بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ تُنَاقِضُ الْمَالِكِيَّةَ عَلَى مَا بَسَطُوهُ، فَلَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُنَاقِضُهَا إذَا تَقَابَلَتَا بِالْبُدَاءَةِ. فَأَمَّا إذْ كَانَ الْحَجْرُ طَارِئًا بِالرِّقِّ، وَكَانَ الْأَصْلُ بِالْحَيَاةِ وَالْآدَمِيَّةِ الْإِطْلَاقُ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْفَعَ الْمَالِكُ لِلْحَجْرِ حُكْمَهُ بِالْإِذْنِ، كَمَا يَرْتَفِعُ فِي النِّكَاحِ. وَلَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْ هَذَا.
الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ من بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ من جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ ﴾.
فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ مِنْ بُيُوتِكُمْ ﴾ : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ لِسُلُوكِ سَبِيلِ الْمَعَارِفِ أَنَّ كُلَّ مَا عَلَاك فَأَظَلَّك فَهُوَ سَقْفٌ، وَكُلَّ مَا أَقَلَّك فَهُوَ أَرْضٌ، وَكُلَّ مَا سَتَرَك من جِهَاتِك الْأَرْبَعِ فَهُوَ جِدَارٌ، فَإِذَا انْتَظَمَتْ وَاتَّصَلَتْ فَهُوَ بَيْتٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ سَكَنًا ﴾ : يَعْنِي : مَحَلًّا تَسْكُنُونَ فِيهِ، وَتَهْدَأُ جَوَارِحُكُمْ عَن الْحَرَكَةِ، وَقَدْ تَتَحَرَّكُ فِيهِ، وَتَسْكُنُ فِي غَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ الْقَوْلَ خَرَجَ فِيهِ عَلَى غَالِبِ الْحَالِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَرَكَةَ تَكُونُ فِيمَا خَرَجَ عَن الْبَيْتِ، فَإِذَا عَادَ الْمَرْءُ إلَيْهِ سَكَنَ. وَبِهَذَا سُمِّيَتْ مَسَاكِنُ ؛ لِوُجُودِ السُّكُونِ فِيهَا فِي الْأَغْلَبِ، وَعُدَّ هَذَا فِي جُمْلَةِ النِّعَمِ، فَإِنَّهُ لَوْ خُلِقَ الْعَبْدُ مُضْطَرِبًا أَبَدًا كَالْأَفْلَاكِ لَكَانَ ذَلِكَ كَمَا خُلِقَ وَأَرَادَ، وَلَوْ خُلِقَ سَاكِنًا كَالْأَرْضِ لَكَانَ كَمَا خُلِقَ وَأَرَادَ، وَلَكِنَّهُ أَوْجَدَهُ خَلْقًا يَتَصَرَّفُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَيَخْتَلِفُ حَالُهُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، وَرَدَّدَهُ بَيْنَ كَيْفَ وَأَيْنَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ جَعَلَ لَكُمْ من جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا ﴾، يَعْنِي : جُلُودَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَإِنَّهُ يُتَّخَذُ مِنْهَا بُيُوتًا، وَهِيَ الْأَخْبِيَةُ، فَتُضْرَبُ فَيُسْكَنُ فِيهَا، وَيَكُونُ بُنْيَانًا عَالِيهَا وَنَوَاحِيهَا، وَهَذَا أَمْرٌ انْتَشَرَ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ، وَعَرِيَتْ عَنْهُ بِلَادُنَا، فَلَا تُضْرَبُ الْأَخْبِيَةُ إلَّا من الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ. وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبَّةً من أَدَمٍ، وَنَاهِيك بِأَدِيمِ الطَّائِفِ غَلَاءً فِي الْقِيمَةِ، وَاعْتِلَاءً فِي الصِّفَةِ، وَحُسْنًا فِي الْبَشَرَةِ. وَلَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَفًا وَلَا رَآهُ سَرَفًا ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ من نِعَمِهِ، وَأَذِنَ فِيهِ من مَتَاعِهِ، وَظَهَرَتْ وُجُوهُ مَنْفَعَتِهِ فِي الِاكْتِنَانِ وَالِاسْتِظْلَالِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْهُ جِنْسُ الْإِنْسَانِ.
وَمِنْ غَرِيبِ مَا جَرَى أَنِّي زُرْت بَعْضَ الْمُتَزَهِّدِينَ من الْغَافِلِينَ مَعَ بَعْضِ رِجَالِ الْمُحَدِّثِينَ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فِي خِبَاءِ كَتَّانٍ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ صَاحِبِي الْمُحَدِّثُ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ ضَيْفًا، وَقَالَ : إنَّ هَذَا مَوْضِعٌ يَكْثُرُ فِيهِ الْحَرُّ، وَالْبَيْتُ أَرْفَقُ بِك، وَأَطْيَبُ لِنَفْسِي فِيك. فَقَالَ لَهُ : هَذَا الْخِبَاءُ لَنَا كَثِيرٌ، وَكَانَ فِي صِنْفِهَا من الْحَقِيرِ. فَقُلْت لَهُ : لَيْسَ كَمَا زَعَمْت، قَدْ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهُوَ رَئِيسُ الزُّهَّادِ- قُبَّةٌ من أَدَمٍ طَائِفِيٍّ يُسَافِرُ مَعَهَا، وَيَسْتَظِلُّ بِهَا، فَبَهَتَ، وَرَأَيْته عَلَى مَنْزِلَةٍ من الْعِيِّ، فَتَرَكْته مَعَ صَاحِبِي، وَخَرَجْت عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا ﴾ :
أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالِانْتِفَاعِ بِصُوفِ الْغَنَمِ، وَوَبَرِ الْإِبِلِ، وَشَعْرِ الْمَعْزِ، كَمَا أَذِنَ فِي الْأَعْظَمِ، وَهُوَ ذَبْحُهَا وَأَكْلُ لُحُومِهَا. كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ لَنَا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَعَلِمَ كَيْفِيَّةَ الِانْتِفَاعِ بِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ :﴿ أَثَاثًا ﴾ :
هُوَ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ الْمَرْءُ إلَى اسْتِعْمَالِهِ من آلَةٍ، وَيَفْتَقِرُ إلَيْهِ فِي تَصْرِيفِ مَنَافِعِهِ من حَاجَةٍ، وَمِنْهُ أَثَاثُ الْبَيْتِ، وَأَصْلُهُ من الْكَثْرَةِ، يُقَالُ : أَثَّ النَّبْتُ يَئِثُّ، إذَا كَثُرَ، وَكَذَلِكَ الشَّعْرُ يُقَالُ : شَعْرٌ أَثِيثٌ، إذَا كَانَ كَثِيرًا مُلْتَفًّا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَمَتَاعًا ﴾ :
وَهُوَ كُلُّ مَا انْتَفَعَ بِهِ الْمَرْءُ فِي مَصَالِحِهِ، وَصَرَفَهُ فِي حَوَائِجِهِ، يُقَالُ : تَمَتَّعَ الرَّجُلُ بِمَالِهِ إذَا نَالَ لَذَّتَهُ، وَبِبَدَنِهِ إذَا وَجَدَ صِحَّتَهُ، وَبِأَهْلِهِ إذَا أَصَابَ حَاجَتَهُ، وَبِبَنِيهِ إذَا ظَهَرَ بِنُصْرَتِهِمْ، وَبِجِيرَتِهِ إذَا رَأَى مَنْفَعَتَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ إلَى حِينٍ ﴾ :
وَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ : إلَى أَنْ يَفْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالِاسْتِعْمَالِ. وَقِيلَ : إلَى حِينِ الْمَوْتِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ التَّأْوِيلِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الْمَوْتَ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ الصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَالشَّعْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا ؛ إذ الْمَوْتُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى يَحِلُّ بَعْدَ عَدَمِ الْحَيَاةِ، وَلَمْ تَكُن الْحَيَاةُ فِي الصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَالشَّعْرِ فَيَخْلُفُهَا الْمَوْتُ فِيهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَحْرُمُ بِالْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ من أَجْزَاءِ الْمَيِّتَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ ﴾، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَن الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ يَحِلُّ بِبَعْضِهَا. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا : أَنَّ الْمَيْتَةَ وَإِنْ كَانَ اسْمًا يَنْطَلِقُ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ بِالْحَقِيقَةِ إلَى مَا فِيهِ حَيَاةٌ، فَنَحْنُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا نَعْدِلُ عَنْهَا إلَى سِوَاهَا.
وَقَدْ تَعَلَّقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ من أَصْحَابِهِمْ بِأَنَّ الْمَوْتَ وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ الصُّوفَ وَالْوَبَرَ وَالشَّعْرَ، وَلَكِنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْجُثَّةِ تَتَعَدَّى إلَى هَذِهِ الْأَجْزَاءِ من الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَرْشِ، وَتَتْبَعُهَا فِي حُكْمِ الْإِحْرَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ من الْأَحْكَامِ، فَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ وَالتَّنْجِيسُ.
وَتَحْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ : حُكْمٌ من أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَجْزَاءِ من الْجُمْلَةِ، أَصْلُهُ سَائِرُ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ، وَهَذَا لَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ مَعَنَا، وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ، فَلَئِنْ شَهِدَ لَهُ مَا ذُكِرَ من الْأَحْكَامِ عَلَى اتِّبَاعِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ لِلْجُمْلَةِ فَلْيَشْهَدَنَّ لَنَا بِانْفِصَالِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ عَن الْجُمْلَةِ الْحُكْمُ الْأَكْبَرُ، وَهِيَ إبَانَتُهَا عَن الْجُثَّةِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَإِزَالَتُهَا مِنْهَا، وَهُوَ دَلِيلٌ يُعَضِّدُنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْزَاءُ تَابِعَةً فِي الْجُمْلَةِ لَتَنَجَّسَتْ بِإِبَانَتِهَا عَنْهَا، كَأَجْزَاءِ الْأَعْضَاءِ ؛ وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْأَحْكَامُ وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالْحَقِيقَةِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَعَلَّقُوا بِهَا لَا حُجَّةَ فِيهَا ؛ أَمَّا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقَانِ بِاللَّذَّةِ، وَهِيَ فِي الشَّعْرِ كَمَا تَكُونُ فِي الْبَدَنِ.
وَأَمَّا الْإِحْرَامُ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِإِلْقَاءِ التَّفَثِ، وَإِذْهَابِ الزِّينَةِ، وَالشَّعْرِ من ذَلِكَ الْوَصْفِ. وَأَمَّا الْأَرْشُ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِإِبْطَالِ الْجَمَالِ تَارَةً، وَإِبْطَالِ الْمَنْفَعَةِ أُخْرَى، وَالْجَمَالُ وَالْمَنْفَعَةُ مَعًا مَوْجُودَانِ فِي الشَّعْرِ أَوْ أَحَدُهُمَا، بِخِلَافِ الطَّهَارَةِ وَالتَّنْجِيسِ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَلَيْسَ لِلصُّوفِ وَلَا لِلْوَبَرِ وَلَا لِلشَّعْرِ مَدْخَلٌ بِحَالٍ.
وَقَدْ عَوَّلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ إمَامُ الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ وَالْوَبَرَ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ اتِّصَالَ خِلْقَة، يُنَمَّى بِنَمَائِهِ، فَيَنْجُسُ بِمَوْتِهِ، كَسَائِرِ الْأَجْزَاءِ. وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ النَّمَاءَ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى الْحَيَاةِ ؛ فَإِنَّ النَّبَاتَ يُنَمَّى وَلَيْسَ بِحَيٍّ، وَإِذَا عَوَّلُوا عَلَى النَّمَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْحَيَوَانِ عَوَّلْنَا عَلَى الْإِبَانَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِحْسَاسِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَيَاةِ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَأَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَتَحَصَّلُ الْعِلْمُ لَكُمْ، وَيَخْلُصُ من الْأَشْكَالِ عِنْدَكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا ﴾ : وَلَمْ يَذْكُرْ الْقُطْنَ وَلَا الْكَتَّانَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، وَإِنَّمَا عَدَّدَ عَلَيْهِمْ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَخُوطِبُوا فِيمَا عَرَفُوا بِمَا فَهِمُوا، وَمَا قَامَ مَقَامَ هَذِهِ وَنَابَ مَنَابَهَا يَدْخُلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَالنِّعْمَةِ مَدْخَلَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ :﴿ وَيُنَزِّلُ من السَّمَاءِ من جِبَالٍ فِيهَا من بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ ﴾ ؛ فَخَاطَبَهُمْ بِالْبَرَدِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ نُزُولَهُ كَثِيرًا عِنْدَهُمْ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّلْجِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ، وَهُو
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ من الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : عَدَّدَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ من نِعَمِهِ مَا شَرَحَ فِيهَا، فَمِنْهَا الظِّلَالُ تَقِي من حَرِّ الشَّمْسِ الَّذِي لَا تَحْتَمِلُهُ الْأَبْدَانُ، وَلَا يَبْقَى مَعَهُ، وَلَا دُونَهُ الْإِنْسَانُ، من شَجَرٍ وَحَجَرٍ وَغَمَامٍ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْجِبَالُ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : خَلَقَهَا اللَّهُ عُدَّةً لِلْخَلْقِ، يَأْوُونَ إلَيْهَا، وَيَتَحَصَّنُونَ بِهَا، وَيَعْتَزِلُونَ الْخَلْقَ فِيهَا، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَبَّدُ بِغَارِ حِرَاءٍ، وَيَمْكُثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ خَرَجَ مُهَاجِرًا إلَى رَبِّهِ، هَارِبًا من قَوْمِهِ، فَارًّا بِدِينِهِ من الْفِتَنِ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَحْصَنَ بِغَارِ ثَوْرٍ، وَأَقَامَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ مَعَ الصِّدِّيقِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ أَمْضَى هِجْرَتَهُ، وَأَنْفَذَ عَزْمَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَى دَارِ هِجْرَتِهِ. وَقَدْ قِيلَ : أَرَادَ بِهِ السَّهْلَ وَالْجِبَالَ، وَلَكِنَّهُ حَذَفَ أَحَدَهُمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
وَمَا أَدْرِي إذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا مُبْتَغِيهِ أَمْ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي
وَكَمَا قَالَ فِي الْحَرِّ بَعْدَ هَذَا :﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ ﴾، أَرَادَ وَالْبَرْدَ، فَحُذِفَ ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ أَحَدُهُمَا بَقِيَ الْآخَرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ ﴾، وَالسِّرْبَالُ : كُلُّ مَا سَتَرَ بِاللِّبَاسِ من ثَوْبٍ من صُوفٍ أَوْ وَبَرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ خَلَقَهُ عَارِيًّا، ثُمَّ جَعَلَهُ بِنِعْمَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَاسِيًا ؛ وَسَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ سَرَابِيلُهَا جُلُودُهَا أَوْ مَا يَكُونُ من صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ وَبَرٍ عَلَيْهَا ؛ فَشَرَّفَ الْآدَمِيَّ بِأَنْ كُسِيَ من أَجْزَاءٍ سِوَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ﴾، يَعْنِي : دُرُوعَ الْحَرْبِ ؛ مَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْعِبَادِ عُدَّةً لِلْجِهَادِ، وَعَوْنًا عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَعَلَّمَهَا، كَمَا عَلَّمَ صَنْعَةَ غَيْرِهَا، وَلَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ظَاهَرَ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، تُقَاةَ الْجِرَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ يَطْلُبُ الشَّهَادَةَ، كَمَا يَعُدُّ السَّيْفَ وَالرُّمْحَ وَالسَّهْمَ لِلْقَتْلِ بِهَا لِغَيْرِهِ، وَالْمُدَافَعَةِ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ يُنْفِذُ اللَّهُ مَا شَاءَ من حُكْمِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَطْلُبَ الشَّهَادَةَ بِأَنْ يَسْتَقْتِلَ مَعَ الْأَعْدَاءِ، وَلَا بِأَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلْحُتُوفِ، وَلَكِنَّهُ يُقَاتِلُ لِتَكُونَ كَلِمَةَ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَيَأْخُذُ حِذْرَهُ، وَيَسْأَلُ اللَّهَ الشَّهَادَةَ خَالِصًا من قَلْبِهِ، وَيُعْطِيه اللَّهُ بَعْدُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ :﴿ لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ ﴾، بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا كَذَلِكَ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالضَّمِّ، فَمَعْنَاهُ : لَعَلَّكُمْ تَنْقَادُونَ إلَى طَاعَتِهِ شُكْرًا عَلَى نِعْمَتِهِ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ بِالْعَدْلِ ﴾ : وَهُوَ مَعَ الْعَالَمِ، وَحَقِيقَتُهُ التَّوَسُّطُ بَيْنَ طَرَفَيْ النَّقِيضِ، وَضِدُّهُ الْجَوْرُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْبَارِيَ خَلَقَ الْعَالَمَ مُخْتَلِفًا مُتَضَادًّا مُتَقَابِلًا مُزْدَوِجًا، وَجَعَلَ الْعَدْلَ فِي اطِّرَادِ الْأُمُورِ بَيْنَ ذَلِكَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ جَارِيًا فِيهِ عَلَى الْوَسَطِ فِي كُلِّ مَعْنًى، فَالْعَدْلُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ : إيثَارُ حَقِّ اللَّهِ عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ، وَتَقْدِيمُ رِضَاهُ عَلَى هَوَاهُ، وَالِاجْتِنَابُ لِلزَّوَاجِرِ، وَالِامْتِثَالُ لِلْأَوَامِرِ.
وَأَمَّا الْعَدْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ : فَمَنْعُهَا عَمَّا فِيهِ هَلَاكُهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى ﴾، وَعُزُوبُ الْأَطْمَاعِ عَنْ الِاتِّبَاعِ، وَلُزُومُ الْقَنَاعَةِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَمَعْنًى.
وَأَمَّا الْعَدْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ : فَفِي بَذْلِ النَّصِيحَةِ، وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ، وَالْإِنْصَافُ من نَفْسِك لَهُمْ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَلَا يَكُونُ مِنْك إلَى أَحَدٍ مَسَاءَةٌ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، لَا فِي سِرٍّ وَلَا فِي عَلَنٍ، حَتَّى بِالْهَمِّ وَالْعَزْمِ، وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يُصِيبُك مِنْهُمْ من الْبَلْوَى، وَأَقَلُّ ذَلِكَ الْإِنْصَافُ من نَفْسِك وَتَرْكُ الْأَذَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْإِحْسَانُ : وَهُوَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ :
فَأَمَّا فِي الْعِلْمِ فَبِأَنْ تَعْرِفَ حُدُوثَ نَفْسِك وَنَقْصَهَا، وَوُجُوبَ الْأَوَّلِيَّةِ لِخَالِقِهَا وَكَمَالِهِ. وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فِي الْعَمَلِ فَالْحَسَنُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، حَتَّى إنَّ الطَّائِرَ فِي سِجْنِك، وَالسِّنَّوْرَ فِي دَارِك، لَا يَنْبَغِي أَنْ تُقَصِّرَ فِي تَعَهُّدِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا، لَا هِيَ سَقَتْهَا وَلَا أَطْعَمَتْهَا، وَلَا أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ من خَشَاشِ الْأَرْضِ ).
وَيُقَالُ : الْإِحْسَانُ : أَلَّا تَتْرُكَ لِأَحَدٍ حَقًّا، وَلَا تَسْتَوْفِيَ مَا لَك. ( وَقَدْ قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك ). وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا تَعْتَقِدُهُ الصُّوفِيَّةُ من مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ فِي كُلِّ حَالٍ، وَالْيَقِينُ بِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْك ؛ فَلَيْسَ من الْأَدَبِ أَنْ تَعْصِيَ مَوْلَاك بِحَيْثُ يَرَاك.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ : يَعْنِي : فِي صِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِيفَاءِ الْحُقُوقِ ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْعَدْلُ : أَدَاءُ الْفَرَائِضِ. وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ إيتَاءُ حُقُوقِ الْخَلْقِ إلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا خَصَّ ذَوِي الْقُرْبَى ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ أَوْكَدُ، وَصِلَتَهُمْ أَوْجَبُ، لِتَأْكِيدِ حَقِّ الرَّحِمِ الَّتِي اشْتَقَّ اللَّهُ اسْمَهَا من اسْمِهِ، وَجَعَلَ صِلَتَهَا من صِلَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْفَحْشَاءُ : وَذَلِكَ كُلُّ قَبِيحٍ، من قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَغَايَتُهُ الزِّنَا ؛ وَالْمُنْكَرُ مَا أَنْكَرَهُ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ ؛ وَالْبَغْيُ هُوَ الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ وَالْحَسَدُ وَالتَّعَدِّي، وَحَقِيقَتُهُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ، من بَغَى الْجُرْحُ. فَهَذِهِ سِتُّ مَسَائِلَ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : هَذِهِ أَجْمَعُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، لِخَيْرٍ يُمْتَثَلُ وَشَرٍّ يُجْتَنَبُ، وَأَرَادَ مَا قَالَ قَتَادَةُ : إنَّهُ لَيْسَ من خُلُقٍ حَسَنٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ إلَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَلَا من خُلُقٍ سَيِّء كَانُوا يَتَعَايَرُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنْ يُرِيدَ الْخَيْرَ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ ؛ إنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَيَزْدَادُ إيمَانًا، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَيَتَبَدَّلُ إسْلَامًا، وَمُوَالَاةُ الْخَلْقِ بِالْبِشْرِ وَالسِّيَاسَةِ. وَلِهَذَا يُرْوَى : أَنَّ عِيسَى عَرَضَ لَهُ كَلْبٌ أَوْ خِنْزِيرٌ فَقَالَ لَهُ : اذْهَبْ بِسَلَامٍ، إشَارَةً إلَى تَرْكِ الْإِذَايَةِ حَتَّى فِي الْحَيَوَانِيَّةِ الْمُؤْذِيَةِ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي ذِكْرِ الْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ بِهِ : وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ وَالرَّعْدِ شَرْحُهُ، وَأَشَرْنَا إلَيْهِ حَيْثُ وَقَعَ ذِكْرُهُ بِمَا أَمْكَنَ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ :
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : أَمَّا التَّوْكِيدُ فَهُوَ حَلِفُ الْإِنْسَانِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِرَارًا، يُرَدِّدُ فِيهِ الْأَيْمَانَ يَمِينًا بَعْدَ يَمِينٍ، كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا أَنْقُصُهُ من كَذَا وَكَذَا، يَحْلِفُ بِذَلِكَ مِرَارًا ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ من ذَلِكَ، فَقَالَ : كَفَّارَةُ ذَلِكَ وَاحِدَةٌ، إنَّمَا عَلَيْهِ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : هِيَ فِي الْعُهُودِ، وَالْعَهْدُ يَمِينٌ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَهْدَ لَا يُكَفِّرُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، يُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ ).
وَأَمَّا الْيَمِينُ، فَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ فِيهَا الْكَفَّارَةَ مُخَلِّصَةً مِنْهَا، وَحَالَّةُ مَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : التَّوْكِيدُ فِي الْيَمِينِ الْمُكَرَّرَةِ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ حَلَفَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَأَوْضَحْنَا صِحَّةَ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ، وَضَعْف هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَن ابْنِ عُمَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إنْ كَرَّرَ الْيَمِينَ مِرَارًا، أَوْ كَثَّرَهَا أَعْدَادًا، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ مَعَ التَّوْحِيدِ، أَوْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ مَعَ تَثْنِيَةِ الْيَمِينِ، فَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ التَّأْكِيدَ مَعَ التَّوْحِيدِ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ قَصَدَ التَّوْكِيدَ مَعَ تَثْنِيَةِ الْيَمِينِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : تَكُونُ يَمِينَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ : تَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ كَفَّارَتَيْنِ. وَتَعَلَّقَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا تَثْنِيَةُ يَمِينٍ، فَتَثْنِيَةُ الْكَفَّارَةِ أَصْلٌ، فَلَهُ أَنْ يَعْقِدَهَا بِذَلِكَ.
وَعَوَّلَ مَالِكٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَصَدَ الْكَفَّارَةَ فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْكَفَّارَةَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إلَى تَثْنِيَةِ الْيَمِينِ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى كَفَّارَتَيْنِ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَوْ شَيْئَيْنِ، فَإِنَّ كَفَّارَةً وَاحِدَةً تُجْزِيهِ.
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : انْتَهَى الْعِيُّ بِقَوْمٍ إلَى أَنْ قَالُوا : إنَّ الْقَارِئَ إذَا فَرَغَ من قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ حِينَئِذٍ يَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ : إذَا أَرَادَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ تَعَوَّذَ بِاَللَّهِ، وَتَأَوَّلُوا ظَاهِرَ " إذَا قَرَأْت " عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَدْت، كَمَا قَالَ :﴿ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ ﴾ مَعْنَاهُ، إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ، وَكَقَوْلِهِ : إذَا أَكَلْت فَسَمِّ اللَّهَ ؛ مَعْنَاهُ : إذَا أَرَدْت الْأَكْلَ.
وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ " فَعَلَ " يَحْتَمِلُ ابْتَدَأَ الْفِعْلَ، وَيَحْتَمِلُ تَمَادِيهِ فِي الْفِعْلِ، وَيَحْتَمِلُ تَمَامَهُ لِلْفِعْلِ.
وَحَقِيقَتُهُ تَمَامُ الْفِعْلِ وَفَرَاغُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ قَوْمٍ أَنَّ حَقِيقَتَهُ كَانَ فِي الْفِعْلِ، وَاَلَّذِي رَأَيْنَاهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْمَاضِي هُوَ فَعَلَ، كَمَا أَنَّ بِنَاءَ الْحَالِ هُوَ يَفْعَلُ، وَهُوَ بِنَاءُ الْمُسْتَقْبَلِ بِعَيْنِهِ. وَيُخَلِّصُهُ لِلْحَالِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِك الْآنَ، وَيُخَلِّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ قَوْلُك سَيَفْعَلُ، هَذَا مُنْتَهَى الْحَقِيقَةِ فِيهِ. وَإِذَا قُلْنَا : قَرَأَ، بِمَعْنَى أَرَادَ، كَانَ مَجَازًا، وَوَجَدْنَا مُسْتَعْمَلًا، وَلَهُ مِثَالٌ فَحَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ : وَمَا الْفَائِدَةُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ من الشَّيْطَانِ وَقْتَ الْقِرَاءَةِ ؟ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قُلْنَا : فَائِدَتُهُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ ؛ وَلَيْسَ لِلشَّرْعِيَّاتِ فَائِدَةٌ إلَّا الْقِيَامُ بِحَقِّ الْوَفَاءِ فِي امْتِثَالِهَا أَمْرًا، أَوْ اجْتِنَابِهَا نَهْيًا.
وَقَدْ قِيلَ : فَائِدَتُهَا الِاسْتِعَاذَةُ من وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا من قَبْلِكَ من رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أَمْنِيَّتِهِ ﴾، يَعْنِي : فِي تِلَاوَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي جُزْءِ تَنْبِيهِ الْغَبِيِّ عَلَى مِقْدَارِ النَّبِيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ :( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا افْتَتَحَ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ، ثُمَّ يَقُولُ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وَتَبَارَكَ اسْمُك، وَتَعَالَى جَدُّك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك، ثُمَّ يَقُولُ : لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، ثَلَاثًا. ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، ثَلَاثًا، أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، من هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ )، ثُمَّ يَقْرَأُ. هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَاللَّفْظُ لَهُ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ :( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ )، وَهَذَا نَصٌّ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَرَى الْقِرَاءَةَ قَبْلَ الِاسْتِعَاذَةِ بِمُطْلَقِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ. وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَتَعَوَّذُ فِي الْفَرِيضَةِ، وَيَتَعَوَّذُ فِي النَّافِلَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ : فِي قِيَامِ رَمَضَانَ. وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ :" سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك " قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَجْهَرُ بِذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ :( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ إسْكَاتَةً فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إسْكَاتُك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ فِيهِ ؟ قَالَ : أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي من الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ من الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ ).
وَمَا أَحَقَّنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، لَوْلَا غَلَبَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْحَقِّ.
وَتَعَلَّقَ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ بِمَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ من الْعَمَلِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَك أَنَّ أَحَدًا من أَئِمَّةِ الْأُمَّةِ تَرَكَ الِاسْتِعَاذَةَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يُفْعَلُ سِرًّا، فَكَيْفَ يُعْرَفُ جَهْرًا.
وَمِنْ أَغْرَبِ مَا وَجَدْنَاهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ :﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ﴾ الْآيَةَ قَالَ : ذَلِكَ بَعْدَ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ لِمَنْ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ أَثَرٌ، وَلَا يُعَضِّدُهُ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْآيَةِ، وَحَقِيقَتَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، لَكَانَ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ دَعْوَى عَرِيضَةً لَا تُشْبِهُ أُصُولَ مَالِكٍ، وَلَا فَهْمَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِسِرِّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ من بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ من اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُرْتَدِّينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضٍ من أَحْكَامِ الرِّدَّةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ كَبِيرَةٌ مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَهَا إيمَانٌ أَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ، وَالْكَافِرُ أَوْ الْمُرْتَدُّ هُوَ الَّذِي جَرَى بِالْكُفْرِ لِسَانُهُ، مُخْبِرًا عَمَّا انْشَرَحَ بِهِ من الْكُفْرِ صَدْرُهُ، فَعَلَيْهِ من اللَّهِ الْغَضَبُ، وَلَهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ، إلَّا مَنْ أُكْرِهَ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَذَكَرَ اسْتِثْنَاءَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ بِلِسَانِهِ عَنْ إكْرَاهٍ، وَلَمْ يَعْقِدْ عَلَى ذَلِكَ قَلْبَهُ، فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، مَعْذُورٌ فِي الدُّنْيَا، مَغْفُورٌ فِي الْأُخْرَى.
وَالْمُكْرَهُ : هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَلَّ وَتَصْرِيفَ إرَادَتِهِ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا الْمُحْتَمِلَةِ لَهَا، فَهُوَ مُخْتَارٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ بَقِيَ لَهُ فِي مَجَالِ إرَادَتِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى الْبَدَلِ، وَهُوَ مُكْرَهٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ حُذِفَ لَهُ من مُتَعَلِّقَاتِ الْإِرَادَةِ مَا كَانَ تَصَرُّفُهَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ، وَسَبَبُ حَذْفِهَا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ ؛ فَالْقَوْلُ هُوَ التَّهْدِيدُ، وَالْفِعْلُ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ، أَوْ الضَّرْبُ، أَوْ السَّجْنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى شَيْءٍ من ذَلِكَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّهْدِيدِ، هَلْ هُوَ إكْرَاهٌ أَمْ لَا ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إكْرَاهٌ ؛ فَإِنَّ الْقَادِرَ الظَّالِمَ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ : إنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا وَإِلَّا قَتَلْتُك، أَوْ ضَرَبْتُك، أَوْ أَخَذْت مَالَك، أَوْ سَجَنْتُك، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَحْمِيهِ إلَّا اللَّهَ، فَلَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْفِعْلِ، وَيُسْقِطَ عَنْهُ الْإِثْمَ فِي الْجُمْلَةِ، إلَّا فِي الْقَتْلِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِقَتْلِ غَيْرِهِ ؛ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْبَلَاءِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الزِّنَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِابْنِ الْمَاجِشُونِ، فَإِنَّهُ أَلْزَمَهُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهَا شَهْوَةٌ خُلُقِيَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهَا إكْرَاهٌ، وَلَكِنَّهُ غَفَلَ عَن السَّبَبِ فِي بَاعِثِ الشَّهْوَةِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ.
وَإِنَّمَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى شَهْوَةٍ بَعَثَ عَلَيْهَا سَبَبٌ اخْتِيَارِيٌّ، فَقَاسَ الشَّيْءَ عَلَى ضِدِّهِ، فَلَمْ يَحِلَّ بِصَوَابٍ من عِنْدِهِ.
وَأَمَّا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَلْفِظَ بِلِسَانِهِ، وَقَلْبُهُ مُنْشَرِحٌ بِالْإِيمَانِ، فَإِنْ سَاعَدَ قَلْبُهُ فِي الْكُفْرِ لِسَانَهُ كَانَ آثِمًا كَافِرًا ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا سُلْطَانَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا سُلْطَتُهُ عَلَى الظَّاهِرِ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ من عُلَمَائِنَا : إنَّهُ إذَا تَلَفَّظَ بِالْكُفْرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ إلَّا جَرَيَانَ الْمَعَارِيضِ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ كَافِرًا أَيْضًا. وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ أَيْضًا لَا سُلْطَانَ لِلْإِكْرَاهِ عَلَيْهَا، مِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ : اكْفُرْ بِاَللَّهِ، فَيَقُولُ : أَنَا كَافِرٌ بِاَللَّهِ، يُرِيدُ بِاللَّاهِي، وَيَحْذِفُ الْيَاءَ كَمَا تُحْذَفُ من الْغَازِي وَالْقَاضِي وَالرَّامِي، فَيُقَالُ : الْغَازِ وَالْقَاضِ والرام. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ لَهُ : اُكْفُرْ بِالنَّبِيِّ، فَيَقُولُ : هُوَ كَافِرٌ بِالنَّبِيِّ، وَهُوَ يُرِيدُ بِالنَّبِيِّ الْمَكَانَ الْمُرْتَفِعَ من الْأَرْضِ.
فَإِنْ قِيلَ لَهُ : اُكْفُرْ بِالنَّبِيءِ مَهْمُوزًا، يَقُولُ : أَنَا كَافِرٌ بِالنَّبِيءِ بِالْهَمْزِ، وَيُرِيدُ بِهِ الْمُخَبِّرَ أَيَّ مُخَبِّرٍ كَانَ، أَوْ يُرِيدُ بِهِ النَّبِيءَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ :
فَأَصْبَحَ رَتْمًا دُقَاقَ الْحَصَى مَكَانَ النَّبِيءِ من الْكَاثِبِ
وَلِذَلِكَ يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ من زَمَنِ فِتْنَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ دُعِيَ إلَى أَنْ يَقُولَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ : الْقُرْآنُ وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ يُعَدِّدُهُنَّ بِيَدِهِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مَخْلُوقَةٌ، يَقْصِدُ هُوَ بِقَلْبِهِ أَصَابِعَهُ الَّتِي عَدَّدَ بِهَا، وَفَهِمَ الَّذِي أَكْرَهَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْكُتُبَ الْأَرْبَعَةَ الْمُنَزَّلَةَ من اللَّهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، فَخَلَصَ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَضُرَّهُ فَهْمُ الَّذِي أَكْرَهَهُ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا أَمْرًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، مَشْهُورًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَلَّفَ فِي ذَلِكَ شَيْخُ اللُّغَةِ وَرَئِيسُهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ كِتَابَ الْمَلَاحِنِ لِلْمُكْرَهِينَ، فَجَاءَ بِبِدَعٍ فِي الْعَالَمِينَ، ثُمَّ رَكَّبَ عَلَيْهِ الْمُفْجِعَ الْكَابِتَ، فَجَمَعَ فِي ذَلِكَ مَجْمُوعًا وَافِرًا حَسَنًا، اسْتَوْلَى فِيهِ عَلَى الْأَمَدِ، وَقَرْطَسَ الْغَرَضَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِقَبِيحٍ لِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ ؛ إذْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسَّنَهُ الْإِكْرَاهُ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا من أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَقْبُحُ لِذَوَاتِهَا وَلَا تَحْسُنُ لِذَوَاتِهَا ؛ وَإِنَّمَا تَقْبُحُ وَتَحْسُنُ بِالشَّرْعِ ؛ فَالْقَبِيحُ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ، وَالْحَسَنُ مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ الْوَاقِعَ اعْتِدَاءً يُمَاثِلُ الْقَتْلَ الْمُسْتَوْفَى قِصَاصًا فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْغَافِلَ عَنْ سَبَبِهِمَا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ الْإِيلَاجُ فِي الْفَرْجِ عَنْ نِكَاحٍ، يُمَاثِلُ الْإِيلَاجَ عَنْ سِفَاحٍ فِي اللَّذَّاتِ وَالْحَرَكَاتِ، إنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْإِذْنُ ؛ وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ الَّذِي يَصْدُرُ عَن الْإِكْرَاهِ يُمَاثِلُ الصَّادِرَ عَن الِاخْتِيَارِ ؛ وَلَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إذْنُ الشَّرْعِ فِي أَحَدِهِمَا وَحَجْرُهُ فِي الْآخَرِ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ كَانَ بِالْإِكْرَاهِ جَائِزًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ وَلَمْ يُفْتَتَنْ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ آثَارُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَطُولُ سَرْدُهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِذْنُ وَخَصَّهُ من اللَّهِ رِفْقًا بِالْخَلْقِ، وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، وَلِمَا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ من السَّمَاحَةِ، وَنَفْيِ الْحَرَجِ، وَوَضْعِ الْإِصْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَدْ آنَ الْآنَ أَنْ نَذْكُرَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ :
الْأُولَى : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَأُمِّهِ سُمَيَّةَ، وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَقَوْمٍ أَسْلَمُوا، فَفَتَنَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَنْ دِينِهِمْ، فَثَبَتَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَافْتُتِنَ بَعْضُهُمْ، وَصَبَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْبَلَاءِ وَلَمْ يَصْبِرْ بَعْضٌ، فَقُتِلَتْ سُمَيَّةُ، وَافْتُتِنَ عَمَّارٌ فِي ظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ، وَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ.
الثَّانِيَةُ : قَالَ عِكْرِمَةُ : نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ، وَلَمْ يُمْكِنُهُمْ الْخُرُوجُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَخْرَجَهُمْ الْمُشْرِكُونَ مَعَهُمْ كُرْهًا فَقُتِلُوا. قَالَ : وَفِيهِمْ نَزَلَتْ :﴿ إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾.
الثَّالِثَةُ : قَالَ مُجَاهِدٌ : أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ وَخَبَّابٌ وَعَمَّارٌ، وَصُهَيْبٌ، وَسُمَيَّةُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ أَبُو طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَأَوْقَفُوهمْ فِي الشَّمْسِ، فَبَلَغَ مِنْهُمْ الْجَهْدُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ، من حَرِّ الْحَدِيدِ وَالشَّمْسِ، فَلَمَّا كَانَ من الْعِشَاءِ أَتَاهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَمَعَهُ حَرْبَةٌ فَجَعَلَ يَشْتُمُهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ، ثُمَّ أَتَى سُمَيَّةَ فَطَعَنَ بِالْحَرْبَةِ فِي قُبُلِهَا حَتَّى خَرَجَتْ من فَمِهَا، فَهِيَ أَوَّلُ شَهِيدٍ اُسْتُشْهِدَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ : مَا سَأَلُوهُمْ إلَّا بِلَالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، فَجَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي قِرَاءَتِهَا :
قَرَأَهَا الْجَمَاعَةُ الْكَذِبَ بِنَصْبِ الْكَافِ ؛ وَخَفْضِ الذَّالِ، وَنَصْبِ الْبَاءِ. وَقَرَأَهَا الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ مِثْلُهُ، إلَّا أَنَّ الْبَاءَ مَخْفُوضَةٌ، وَقَرَأَهَا قَوْمٌ بِضَمِّ الْكَافِ وَالذَّالِ. فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى يَكُونُ فِيهَا الْكَذِبُ عَلَى الْإِتْبَاعِ لِمَوْضِعِ مَا يَقُولُونَ. وَمَنْ رَفَعَ الْكَافَ وَالذَّالَ جَعَلَهُ نَعتا لِلْأَلْسِنَةِ. وَمَنْ نَصَبَ الْكَافَ وَالْبَاءَ جَعَلَهُ مَفْعُولَ قَوْلِهِ : تَقُولُوا، وَهُوَ بَيِّنٌ كُلُّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْنَى الْآيَةِ :
لَا تَصِفُوا الْأَعْيَانَ بِأَنَّهَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ من قِبَلِ أَنْفُسِكُمْ ؛ إنَّمَا الْمُحَرِّمُ الْمُحَلِّلُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : أَنَّ الْمَيْتَةَ حَلَالٌ، وَعَلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا، وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ؛ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ بِضَلَالِهِمْ، وَاعْتِدَاءً، وَإِنْ أَمْهَلَهُمْ الْبَارِي فِي الدُّنْيَا فَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ لِي مَالِكٌ : لَمْ يَكُنْ من فُتْيَا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولُوا : هَذَا حَرَامٌ وَهَذَا حَلَالٌ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ : إنَّا نَكْرَهُ هَذَا، وَلَمْ أَكُنْ لِأَصْنَعَ هَذَا، فَكَانَ النَّاسُ يُطِيعُونَ ذَلِكَ، وَيَرْضَوْنَ بِهِ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إنَّمَا هُوَ لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَرِّحَ بِهَذَا فِي عَيْنٍ من الْأَعْيَانِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَارِي يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْهُ، وَمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي أَنَّهُ حَرَامٌ يَقُولُ : إنِّي أَكْرَهُ كَذَا، وَكَذَلِكَ كَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُ ؛ اقْتِدَاءً بِمنْ تَقَدَّمَ من أَهْلِ الْفَتْوَى.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَنَّهَا حَرَامٌ وَتَكُونُ ثَلَاثًا. قُلْنَا : سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَنَقُولُ هَاهُنَا : إنَّ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، فَأَلْزَمَهُ مَالِكٌ مَا الْتَزَمَ.
جَوَابٌ آخَرُ : وَهُوَ أَقْوَى ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا لَمَّا سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ : إنَّهَا حَرَامٌ، أَفْتَى بِذَلِكَ اقْتِدَاءً بِهِ، وَقَدْ يَتَقَوَّى الدَّلِيلُ عَلَى التَّحْرِيمِ عِنْد الْمُجْتَهِدِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ عِنْدَنَا، كَمَا يَقُولُ : إنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فِي غَيْرِ الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ الَّتِي وَقَعَ ذِكْرُهَا فِي الرِّبَا، وَهِيَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَالْبُرُّ، وَالشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ، وَالْمِلْحُ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلِقُ مَالِكٌ، فَذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَصْلُحُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، وَفِيمَا خَالَفَ الْمَصَالِحَ، وَخَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الْمَقَاصِدِ، لِقُوَّةِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ.
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ من الْمُشْرِكِينَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ. فَقِيلَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ بِهَذَا إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ الْأُمَّةَ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَإِنَّ الْقَانِتَ هُوَ الْمُطِيعُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيُّ قَالَ : قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا. فَقُلْت فِي نَفْسِي : غَلِطَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إنَّمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : إنَّ إبْرَاهِيمُ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا. فَقَالَ : أَتَدْرِي مَا الْأُمَّةُ الْقَانِتُ ؟ قُلْت : اللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ : الْأُمَّةُ الَّذِي يُعَلِّمُ الْخَيْرَ. وَالْقَانِتُ لِلَّهِ : الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُعَلِّمُ الْخَيْرَ، وَكَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْحَنِيفُ : الْمُخْلِصُ، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ قَائِمًا لِلَّهِ بِحَقِّهِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا، آتَاهُ اللَّهُ رُشْدَهُ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ، فَنَصَحَ لَهُ، وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَبَايَنَ قَوْمَهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَدَعَا إلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَلَمْ تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ؛ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ أَلَّا يَبْعَثَ نَبِيًّا بَعْدَهُ إلَّا من ذُرِّيَّتِهِ، وَأَعْطَاهُ اللَّهُ أَلَّا يُسَافِرَ فِي الْأَرْضِ، فَتَخْطُرُ سَارَةُ بِقَلْبِهِ إلَّا هَتَكَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْحِجَابَ، فَيَرَاهَا، وَكَانَ أَوَّلَ من اخْتَتَنَ، وَأَقَامَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَضَحَّى، وَعَمِلَ بِالسُّنَنِ نَحْوَ قَصِّ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وَأَعْطَاهُ اللَّهُ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا، فَاتَّفَقَتْ الْأُمَمُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْقُصْ مَا أُعْطِيَ فِي الدُّنْيَا من حَظِّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأُوحِيَ إلَى مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كَانَ من الْمُشْرِكِينَ. فَعَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ، وَيُعَلِّمَ الْأُمَّةَ، فَيَكُونَ فِي دِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَى الْمِلَّةِ.
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّك لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمُرَادُ بِاَلَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَيْ : فُرِضَ تَعْظِيمُ يَوْمِ السَّبْتِ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ ؛ هُوَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ فَرَغَ من خَلْقِ الْأَشْيَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ سَبَّتَ يَوْمَ السَّبْتِ.
وَقَالَ آخَرُونَ : أَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْأَحَدِ ؛ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيهِ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ، فَاخْتَلَفُوا فِي تَعْظِيمِ غَيْرِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمُهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَحَلُّوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَا الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ؟
فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْظِيمِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّانِي : اخْتَلَفُوا فِيهِ ؛ اسْتَحَلَّهُ بَعْضُهُمْ، وَحَرَّمَهُ آخَرُونَ ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ.
الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : كَانُوا يَطْلُبُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَخْطَئُوهُ، وَأَخَذُوا السَّبْتَ، فَفُرِضَ عَلَيْهِمْ.
وَقِيلَ : فِي الْقَوْلِ الرَّابِعِ : إنَّهُمْ أُلْزِمُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِيدًا، فَخَالَفُوا وَقَالُوا : نُرِيدُ يَوْمَ السَّبْتِ ؛ لِأَنَّهُ فَرَغَ فِيهِ من خَلْقِ السَّمَوَاتِ.
الْخَامِسُ : رُوِيَ أَنَّ عِيسَى أَمَرَ النَّصَارَى أَنْ يَتَّخِذُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِيدًا، فَقَالُوا : لَا يَكُونُ عِيدُنَا إلَّا بَعْدَ عِيدِ الْيَهُودِ، فَجَعَلُوهُ الْأَحَدَ.
وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ : تَفَرَّغُوا إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ تَعْبُدُونَهُ، وَلَا تَعْمَلُونَ فِيهِ شَيْئًا من أَمْرِ الدُّنْيَا ؛ فَاخْتَارُوا يَوْمَ السَّبْتِ، فَأَمَرَهُمْ مُوسَى بِالْجُمُعَةِ، فَأَبَوْا إلَّا السَّبْتَ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الَّذِي يُفَصِّلُ هَذَا الْقَوْلَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ من بَعْدِهِمْ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ ).
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( فَهَذَا الْيَوْمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ )، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَارَ كُلُّ أَحَدٍ مَا ظَهَرَ إلَيْهِ، وَأَلْزَمْنَاهُ من غَيْرِ عَرْضٍ، فَالْتَزَمْنَاهُ. وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :( فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ ). وَفِي الصَّحِيحِ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ :( فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ : حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ ). وَهَذَا مُجْمَلٌ، فَسَّرَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ :( غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ ).
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ حِينَ اخْتَارُوا يَوْمَ السَّبْتِ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَ الْخِلْقَةَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَأَتَمَّهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ، فَنَحْنُ نَتْرُكُ الْعَمَلَ يَوْمَ السَّبْتِ. فَأَكْذَبَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ الْآيَةَ.
فَلَمَّا تَرَكُوا الْعَمَلَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ بِالْتِزَامِهِمْ، وَابْتَدَعُوهُ بِرَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ، وَاخْتِيَارِهِمْ الْفَائِلِ، كَانَ مِنْهُمْ مَنْ رَعَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَرَمَهُ فَسَخِطَ اللَّهُ عَلَى الْجَمِيعِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَاخْتَارَ اللَّهُ لَنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقِبَلِنَا خِيرَةَ رَبِّنَا لَنَا، وَالْتَزَمْنَا من غَيْرِ مَثْنَوِيَّةٍ مَا أَلْزَمَنَا، وَعَرَفْنَا مِقْدَارَ فَضْلِهِ، فَقَالَ لَنَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ :( خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَم، و فِيهِ أُهْبِطَ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَاتَ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا من دَابَّةٍ إلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ من حِينِ تُصْبِحُ إلَى حِينِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ، شَفَقًا من السَّاعَةِ، إلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ. . . ) فِي حَدِيثٍ طَوِيل هَذَا أَكْثَرُهُ.
وَجَمَعَ لَنَا فِيهِ الْوَجْهَيْنِ : فَضْلَ الْعَمَلِ فِي الْآخِرَةِ، وَجَوَازَ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا، وَخَشِيَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا جَرَى لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا من التَّنَطُّعِ فِي يَوْمِهِمْ الَّذِي اخْتَارُوهُ، فَمَنَعْنَا من صِيَامِهِ، فَقَالَ :( لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ، وَلَا لَيْلَتَهَا بِقِيَامٍ ). وَعَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ من الْعُلَمَاءِ. وَرَأَى مَالِكٍ أَنَّ صَوْمَهُ جَائِزٌ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ. وَقَالَ : إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي زَمَانِهِ كَانَ يَصُومُهُ، وَأَرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ.
وَنَهْيُ النَّبِيِّ عَنْ تَخْصِيصِهِ أَشْبَهُ بِحَالِ الْعَالِمِ الْيَوْمَ فَإِنَّهُمْ يَخْتَرِعُونَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُلْحِقُهُمْ بِمَنْ تَقَدَّمَ، وَيَسْلُكُونَ بِهِ سُنَّتَهُمْ ؛ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ فِيهِ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ الصِّيَامَ، وَشَرَعَ فِيهِ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ ؛ فَوَجَبَ الِاقْتِفَاءُ لِسُنَّتِهِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا أَبَانَ من شِرْعَتِهِ، وَالْفِرَارُ عَنْ الرَّهْبَانِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ، و الْخَشْيَةُ من الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ :( فِيهِ خُلِقَ آدَم يَعْنِي : جَمَعَ فِيهِ خَلْقَهُ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَهَذَا فَضْلٌ بَيِّنٌ. وَقَوْلُهُ :( فِيهِ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ )، يَخْفَى وَجْهُ الْفَضْلِ فِيهِ ؛ وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ أَشَارُوا إلَى أَنَّ وَجْهَ التَّفْضِيلِ فِيهِ أَنَّهُ تِيبَ عَلَيْهِ من ذَنْبِهِ، وَهَبَطَ إلَى الْأَرْضِ لِوَعْدِ رَبِّهِ، حِينَ قَالَ :﴿ إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾. فَلَمَّا سَبَقَ الْوَعْدُ بِهِ حَقَّقَهُ اللَّهُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَنَفَاذُ الْوَعْدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَفَضْلٌ عَظِيمٌ، وَوَجْهُ الْفَضْلِ فِي مَوْتِهِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِلِقَائِهِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَقْتًا لِلِقَائِهِ.
قُلْنَا : يَكُونُ هَذَا أَيْضًا فَضْلًا، يَشْتَرِكُ فِيهِ مَعَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَبْقَى لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَضْلُهُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ لَهُ زَائِدًا عَلَى سَائِرِ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ ؛ وَمَنْ شَارِكْ شَيْئًا فِي وَجْهٍ، وَسَاوَاهُ فِيهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَفْضُلَهُ فِي وُجُوهٍ أُخَرَ سِوَاهُ.
وَأَمَّا وَجْهُ تَفْضِيلِهِ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ فِيهِ فَلِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، فَجَعَلَ قُدُومَهُ فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ، وَتَكُونُ فَاتِحَتُهُ فِي أَكْرَمِ أَوْقَاتِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَمِنْ فَضْلِهِ اسْتِشْعَارُ كُلِّ دَابَّةٍ، وَتَشَوُّقُهَا إلَيْهِ ؛ لِمَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ من قِيَامِ السَّاعَةِ ؛ إذْ هُوَ وَقْتُ فَنَائِهَا، وَحِينِ اقْتِصَاصِهَا وَجَزَائِهَا، حَاشَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ اللَّذَيْنِ رُكِّبَتْ فِيهِمَا الْغَفْلَةُ الَّتِي تَرَدَّدَ فِيهَا الْآدَمِيُّ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَهُمَا رُكْنَا التَّكْلِيفِ، وَمَعْنَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، و فَائِدَةُ جَرَيَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَتَمَامُ الْفَضْلِ، وَوَجْهُ الشَّرَفِ تِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي يَنْشُرُ الْبَارِّي فِيهَا رَحْمَتَهُ، وَيَفِيضُ فِي الْخَلْقِ نَيْلُهُ، وَيَظْهَرُ فِيهَا كَرْمُهُ ؛ فَلَا يَبْقَى دَاعٍ إلَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ، وَلَا كَرَامَةٌ إلَّا وَيُؤْتِيهَا، وَلَا رَحْمَةٌ إلَّا يَبُثُّهَا لِمَنْ تَأَهَّبَ لَهَا، وَاسْتَشْعَرَ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ غَافِلًا عَنْهَا.
وَلَمَّا كَانَ وَقْتًا مَخْصُوصًا بِالْفَضْلِ من بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ قَرَنَهُ اللَّهُ بِأَفْضَلِ الْحَالَاتِ لِلْعَبْدِ، وَهِيَ حَالَةُ الصَّلَاةِ، فَلَا عِبَادَةَ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَلَا حَالَةَ أَخَصُّ بِالْعَبْدِ من تِلْكَ الْحَالَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهَا عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ كُلِّهِمْ ؛ إذْ مِنْهُمْ قَائِمٌ لَا يَبْرَحُ عَنْ قِيَامِهِ وَرَاكِعٌ لَا يَرْفَعُ عَنْ رُكُوعِهِ، وَسَاجِدٌ لَا يَتَفَصَّى من سُجُودِهِ، فَجَمَعَ اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ فِي عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : إنَّ الْعَبْدَ إذَا نَامَ فِي سُجُودِهِ بَاهَى اللَّهُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ، يَقُولُ : يَا مَلَائِكَتِي، اُنْظُرُوا عَبْدِي، رُوحُهُ عِنْدِي، وَبَدَنُهُ فِي طَاعَتِي ». وَصَارَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ فِي الْأَيَّامِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي اللَّيَالِي فِي مَعْنَى الْإِبْهَامِ، لِمَا بَيَّنَّاهُ من قَبْلُ فِي أَنَّ إبْهَامَهَا أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ من تَعْيِينِهَا لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَوْ عُلِمَتْ وَهَتَكُوا
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ، أَصْلُهَا رِوَايَتَانِ :
إحْدَاهُمَا :" أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ من الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ، فِيهِمْ حَمْزَةُ، فَمَثَّلُوا بِهِمْ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ قَالَ : فَلَمَّا كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ﴾ الْآيَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ : لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إلَّا أَرْبَعَةً ) ".
الثَّانِيَةُ : أَنَّ ( النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ اُسْتُشْهِدَ، فَنَظَرَ إلَى شَيْءٍ لَمْ يَنْظُرْ إلَى شَيْءٍ كَانَ أَوْجَعَ مِنْهُ لِقَلْبِهِ، وَنَظَرَ إلَيْهِ قَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْك، فَإِنَّك كُنْت - مَا عَرَفْتُك - فَعُولًا لِلْخَيْرَاتِ، وَصُولًا لِلرَّحِمِ، وَلَوْلَا حُزْنُ مَنْ بَعْدَك عَلَيْك لَسَرَّنِي أَنْ أَدَعَك، حَتَّى تُحْشَرَ من أَفْرَادٍ شَتَّى أَمَا وَاَللَّهِ مَعَ ذَلِكَ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِخَوَاتِيمِ النَّحْلِ :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ﴾ الْآيَاتِ ؛ فَصَبَرَ النَّبِيُّ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَمْ يُمَثِّلْ بِأَحَدٍ ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْجَزَاءُ عَلَى الْمُثْلَةِ عُقُوبَةٌ ؛ فَأَمَّا ابْتِدَاءً فَلَيْسَ بِعُقُوبَةٍ، وَلَكِنَّهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا، كَمَا قَالَ :﴿ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾، وَكَمَا قَالَ :﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ ؛ وَعَادَةُ الْعَرَبِ هَكَذَا فِي الِازْدِوَاجِ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى حُكْمِ اللُّغَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ، فَمَنْ قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهَا، وَكَذَلِكَ من قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ حَبْلٍ أَوْ عُودٍ اُمْتُثِلَ فِيهِ مَا فَعَلَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ : إشَارَةٌ إلَى فَضْلِ الْعَفْوِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
Icon