هي مكية كلها إلا في قوله.
وعن ابن عباس وقتادة إلاّ قوله ﴿ واصبر نفسك ﴾ الآية فمدنية.
وقال مقاتل : إلاّ من أولها إلى ﴿ جرزاً ﴾ ومن قوله ﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ الآيتين فمدني.
وسبب نزولها أن قريشاً بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصِفا لهم صفته فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألاهم فقالت : سلوه فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنه كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان بناؤه، وسلوه عن الروح فأقبل النضر وعقبة إلى مكة فسألوه فقال :«غداً أخبركم » ولم يقل إن شاء الله، فاستمسك الوحي خمسة عشر يوماً فأرجف كفار قريش، وقالوا : إن محمداً قد تركه رئيه الذي كان يأتيه من الجن.
وقال بعضهم : قد عجز عن أكاذيبه فشق ذلك عليه، فلما انقضى الأمد جاءه الوحي بجواب الأسئلة وغيرها.
وروي في هذا السبب أن اليهود قالت : إن أجابكم عن الثلاثة فليس بنبيّ، وإن أجاب عن اثنتين وأمسك عن الأخرى فهو نبيّ.
فأنزل الله سورة أهل الكهف وأنزل بعد ذلك ﴿ ويسألونك عن الروح ﴾
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه لما قال ﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ﴾ وذكر المؤمنين به أهل العلم وأنه يزيدهم خشوعاً، وأنه تعالى أمر بالحمد له وأنه لم يتخذ ولداً، أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج القيم على كل الكتب المنذر من اتخذ ولداً، المبشر المؤمنين بالأجر الحسن.
ثم استطرد إلى حديث كفار قريش والتفت من الخطاب في قوله ﴿ وكبره تكبيراً ﴾ إلى الغيبة في قوله ﴿ على عبده ﴾ لما في ﴿ عبده ﴾ من الإضافة المقتضية تشريفه، ولم يجيء التركيب أنزل عليك.
ﰡ
ترتيبها ١٨ سورة الكهف ٠ يأتها ١١٠
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١ الى ٢٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤)مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤)
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (٢٤)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ذَكَرَتْ عُمَرَ فَقَالَتْ: بَخَعَ الْأَرْضَ أَيْ جَهَدَهَا حَتَّى أَخَذَ مَا فِيهَا مِنْ أَمْوَالِ الْمُلُوكِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: بَخَعَ الْأَرْضَ بِالزِّرَاعَةِ جَعَلَهَا ضَعِيفَةً بِسَبَبِ مُتَابَعَةِ الْحِرَاثَةِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: بَخَعَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ قَتَلَهَا مِنْ شَدَّةِ وَجْدِهِ. وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ:
أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدَ نَفْسَهُ | لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِيرُ |
سَنَةٌ جُرْزٌ وَسُنُونَ أَجْرَازٌ لَا مَطَرَ فِيهَا، وَجُرُزُ الْأَرْضِ الْجَرَادُ أَكَلَ مَا فِيهَا، وَامْرَأَةٌ جَرُوزٌ أَيْ أَكُولٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْعَجُوزَ خَبَّةٌ جُرُوزَا | تَأْكُلُ كُلَّ لَيْلَةٍ قَفِيزَا |
وَلَيْسَ بِهَا إِلَّا الرَّقِيمُ مُجَاوِرًا | وَصَيْدَهُمْ وَالْقَوْمُ فِي الْكَهْفِ هُمَّدُ |
وَجَبَنِي خِيفَةَ الْقَوْمِ أَزُورُهُ وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
فَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ الْقَنَا بِلَبَانِهِ | وَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ |
تَؤُمُّ بِهَا الْحُدَاةُ مِيَاهَ نَخْلٍ | وَفِيهَا عَنْ أَبَانِينَ ازْوِرَارُ |
قَرَضَتْ مَوْضِعَ. كَذَا أَيْ قَطَعَتْهُ. وَقَالَ ذُو الرمّة:
إلى ظعن يقوضن أَجْوَازَ مُشْرِفٍ | شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنَّ الْفَوَارِسُ |
الْمُتَّسَعُ مِنَ الْفِجَاءِ وَهُوَ تَبَاعُدُ مَا بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ، رَجُلٌ أَفْجَأُ وَامْرَأَةٌ فَجْوَاءُ وَجَمْعُ الْفَجْوَةِ فِجَاءٌ. الْيَقِظُ الْمُتَنَبِّهُ وَجَمْعُهُ أَيْقَاظٌ كَعَضُدٍ وَأَعْضَادٍ، وَيِقَاظٌ كَرَجُلٍ وَرِجَالٍ وَرَجُلٌ يَقْظَانُ وَامْرَأَةٌ يَقْظَى. الرُّقَادُ مَعْرُوفٌ وَسُمِّيَ بِهِ عَلَمًا. الْوَصِيدُ الْفَنَاءُ. وَقِيلَ: الْعَتَبَةُ. وَقِيلَ: الْبَابُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
بِأَرْضٍ فَضَاءٍ لَا يُسَدُّ وَصِيدُهَا | عَلَيَّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرٍ |
تَمَنَّيْتُهُمْ حَتَّى إِذَا مَا لَقِيتُهُمْ | تَرَكْتُ لَهُمْ قَبْلَ الضِّرَابِ السُّرَادِقَا |
شَوَى اللَّحْمَ: أَنْضَجَهُ مِنْ غَيْرِ مَرَقٍ. السُّوَارُ: مَا جُعِلَ فِي الذِّرَاعِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ وَيُجْمَعُ عَلَى أَسْوِرَةٍ فِي الْقِلَّةِ كَخِمَارٍ وَأَخْمِرَةٍ، وَعَلَى خُمُرٍ وَفِي الْكَثْرَةِ كَخِمَارٍ وَخُمُرٍ إِلَّا أَنَّهُ تُسَكَّنُ عَيْنُهُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ فَتُحَرَّكُ، وَأَسَاوِرُ جَمْعُ أَسْوِرَةٍ. وَقَالَ أَبُو
وَاللَّهِ لَوْلَا صِبْيَةٌ صِغَارُ | كَأَنَّمَا وُجُوهُهُمْ أَقْمَارُ |
تَضُمُّهُمْ مِنَ الْفَنِيكِ دَارُ | أَخَافَ أَنْ يُصِيبَهُمْ إِقْتَارُ |
أَوْ لَاطِمٌ لَيْسَ لَهُ أَسْوَارُ | لَمَا رَآنِي مَلِكٌ جَبَّارُ |
وَقِيلَ: الْإِسْتَبْرَقُ اسْمُ الْحَرِيرِ. وَقَالَ الْمُرَقَّشُ:
تَرَاهُنَّ يَلْبَسْنَ الْمَشَاعِرَ مَرَّةً | وإستبرق الديباج طور إلباسها |
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً.
هِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إلا في قوله. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ إِلَّا قَوْلَهُ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ «١» الْآيَةَ فَمَدَنِيَّةٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى جُرُزاً وَمِنْ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «٢» الْآيَتَيْنِ فَمَدَنِيٌّ.
وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثَتِ النَّضْرَ بن الحارث وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمَا: سَلَاهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفَا لَهُمْ صِفَتَهُ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا الْمَدِينَةَ فَسَأَلَاهُمْ فَقَالَتْ: سَلُوهُ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ مُتَقَوِّلٌ، فَرُوا فِيهِ رَأْيَكُمْ سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ لهم حديث
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٣٠.
وَرُوِيَ فِي هَذَا السَّبَبِ أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ: إِنْ أَجَابَكُمْ عَنِ الثَّلَاثَةِ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَإِنْ أَجَابَ عَنِ اثْنَتَيْنِ وَأَمْسَكَ عَنِ الْأُخْرَى فَهُوَ نَبِيٌّ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ أَهْلِ الْكَهْفِ وَأَنْزَلَ بَعْدَ ذلك وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «١».
وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ «٢» وَذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَهْلَ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ خُشُوعًا، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْحَمْدِ لَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، أَمَرَهُ تَعَالَى بِحَمْدِهِ عَلَى إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ السَّالِمِ مِنَ الْعِوَجِ الْقَيِّمِ عَلَى كُلِّ الْكُتُبِ الْمُنْذِرِ مَنِ اتَّخَذَ وَلَدًا، الْمُبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَجْرِ الْحَسَنِ. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى حَدِيثِ كَفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْتَفَتَ مِنَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً «٣» إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ عَلى عَبْدِهِ لِمَا فِي عَبْدِهِ مِنَ الْإِضَافَةِ الْمُقْتَضِيَةِ تشريفه، ولم يجيء التركيب أنزل عليك.
والْكِتابَ الْقُرْآنُ، وَالْعِوَجُ فِي الْمَعَانِي كَالْعِوَجِ فِي الْأَشْخَاصِ وَنُكِّرَ عِوَجاً لِيَعُمَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ فِي غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ لَا تَنَاقُضَ وَلَا اخْتِلَافَ فِي مَعَانِيهِ، لَا حُوشِيَّةَ وَلَا عِيَّ في تراكيبه ومبانيه. وقَيِّماً تَأْكِيدٌ لِإِثْبَاتِ الِاسْتِقَامَةِ إِنْ كَانَ مَدْلُولُهُ مُسْتَقِيمًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ. وَقِيلَ: قَيِّماً بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَشَرَائِعِ دِينِهِمْ وَأُمُورِ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ. وَقِيلَ: قَيِّماً عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ بِتَصْدِيقِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ، فَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى أَنْزَلَ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الصِّلَةِ، وَرَتَّبَ عَلَى هَذَا أَنَّ الْأَحْسَنَ فِي انْتِصَابِ قَيِّماً أَنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ وَلَا يُجْعَلَ حَالًا مِنَ الْكِتابَ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ بِبَعْضِ الصِّلَةِ، وَقَدَّرَهُ جَعَلَهُ قَيِّماً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَيِّماً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْكِتابَ فَهُوَ بِمَعْنَى التَّقْدِيمِ مُؤَخَّرٌ فِي اللَّفْظِ، أَيْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ قَيِّماً وَاعْتَرَضَ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ قَوْلُهُ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ١٠٥.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ١١١.
وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَأَنَّهُ قَالَ: احْمِدُوا اللَّهَ عَلَى إِنْزَالِ الْقُرْآنِ قَيِّماً لَا عِوَجَ فِيهِ، وَمِنْ عَادَةِ الْبُلَغَاءِ أَنْ يُقَدِّمُوا الْأَهَمَّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمَّلًا فِي ذَاتِهِ. وَقَوْلُهُ قَيِّمًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُكَمَّلًا بِغَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ التَّرْتِيبَ الصَّحِيحَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ، وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَاسِدٌ يَمْتَنِعُ الْعَقْلُ مِنَ الذَّهَابِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: إِذَا جَعَلْتَهُ حَالًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا حَالَانِ مِنَ الْكِتابَ الْأُولَى جُمْلَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُفْرَدٌ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ وُقُوعَ حَالَيْنِ مِنْ ذِي حَالٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ عَطْفٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَاخْتَارَهُ الْأَصْبَهَانِيُّ وَقَالَ: هُمَا حَالَانِ مُتَوَالِيَانِ وَالتَّقْدِيرُ غَيْرُ جَاعِلٍ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً وَقَالَ صَاحِبُ حَلِّ الْعَقْدِ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ قَيِّمًا بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أَيْ جَعَلَهُ مُسْتَقِيمًا قَيِّماً انْتَهَى. وَيَكُونُ بَدَلَ مُفْرَدٍ مِنْ جُمْلَةٍ كَمَا قَالُوا فِي عَرَفْتُ زَيْدًا أَبُو مَنْ أَنَّهُ بَدَلُ جُمْلَةٍ مِنْ مُفْرَدٍ وَفِيهِ خِلَافٌ. وَقِيلَ: قَيِّماً حَالٌ مِنَ الْهَاءِ الْمَجْرُورَةِ فِي وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مُؤَكِّدَةٌ. وَقِيلَ: مُنْتَقِلَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الْكِتابَ وَعَلَيْهِ التَّخَارِيجُ الْإِعْرَابِيَّةُ السَّابِقَةُ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى عَبْدِهِ وَالتَّقْدِيرُ عَلى عَبْدِهِ وَجَعَلَهُ قَيِّماً. وَحَفْصٌ يَسْكُتُ عَلَى قَوْلِهِ عِوَجاً سَكْتَةً خَفِيفَةً ثُمَّ يَقُولُ قَيِّماً. وَفِي بَعْضِ مَصَاحِفِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً لَكِنْ جَعَلَهُ قَيِّمًا وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَعْنَى لَا أَنَّهَا قِرَاءَةٌ.
وَأَنْذَرَ يتعدى لمفعولين قال نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
«١» وَحُذِفَ هُنَا الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَصُرِّحَ بِالْمُنْذَرِ بِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَرَضُ الْمَسُوقُ إِلَيْهِ فَاقْتُصِرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ صُرِّحَ بِالْمُنْذِرِ فِي قَوْلِهِ حِينَ كَرَّرَ الْإِنْذَارَ فَقَالَ: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً فَحُذِفَ الْمُنْذِرُ أَوَّلًا لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَحُذِفَ الْمُنْذَرُ بِهِ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْحَذْفِ وَجَلِيلِ الْفَصَاحَةِ، وَلَمَّا لَمْ يُكَرِّرِ الْبِشَارَةَ أَتَى بِالْمُبَشِّرِ وَالْمُبَشَّرِ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِيُنْذِرَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَنْزَلَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: تَتَعَلَّقُ بِقَيِّمًا، وَمَفْعُولُ لِيُنْذِرَ الْمَحْذُوفُ قَدَّرَهُ ابْنُ عطية لِيُنْذِرَ العالم، وأبو الْبَقَاءِ لِيُنْذِرَ الْعِبَادَ أَوْ لِيُنْذِرَكُمْ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ قَدَّرَهُ خَاصًّا قَالَ: وَأَصْلُهُ لِيُنْذِرَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَأْساً شَدِيداً، وَالْبَأْسُ مِنْ قَوْلِهِ بِعَذابٍ بَئِيسٍ «٢» وَقَدْ بَؤُسَ الْعَذَابُ وَبَؤُسَ
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٦٥.
وَمَعْنَى مِنْ لَدُنْهُ صَادِرٌ مِنْ عِنْدِهِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِسُكُونِ الدَّالِ وَإِشْمَامِهَا الضَّمَّ وَكَسْرِ النُّونِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ هُودٍ. وقرىء وَيُبَشِّرَ بِالرَّفْعِ وَالْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى لِيُنْذِرَ وَالْأَجْرُ الْحَسَنُ الْجَنَّةُ، وَلَمَّا كَنَّى عَنِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ أَجْراً حَسَناً قَالَ:
ماكِثِينَ فِيهِ أَيْ مُقِيمِينَ فِيهِ، فَجَعَلَهُ ظَرْفًا لِإِقَامَتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْمُكْثُ لَا يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ قَالَ أَبَداً وَهُوَ ظَرْفٌ دَالٌّ عَلَى زَمَنٍ غَيْرِ مُتَنَاهٍ، وَانْتَصَبَ ماكِثِينَ عَلَى الْحَالِ وَذُو الْحَالِ هُوَ الضَّمِيرُ فِي لَهُمْ وَالَّذِينَ نَسَبُوا الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْضُ الْيَهُودِ فِي عزيز، وَبَعْضُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي ادَّعَوْهُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ صِفَةً لِلْوَلَدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُعْتَرَضٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِفُهُ إِلَّا الْقَائِلُ وَهُمْ لَيْسَ قَصْدُهُمْ أَنْ يَصِفُوهُ، وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّهُ نَفْيٌ مُؤْتَنِفٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِجَهْلِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا مَوْضِعَ لِلْجُمْلَةِ مِنَ الْإِعْرَابِ ويحتمل أن يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَذُمُّ لَهُمْ وَأَقْضَى فِي الْجَهْلِ التَّامِّ عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ انْتَهَى.
قِيلَ: وَالْمَعْنَى مَا لَهُمْ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ فَيُنَزِّهُوهُ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْقَوْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ قالُوا أَيْ مَا لَهُمْ.
بِقَوْلِهِمْ هَذَا مِنْ عِلْمٍ فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ قالُوا جَاهِلِينَ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ وَلَا نَظَرٍ فِي مَا يَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الِاتِّخَاذِ الْمَفْهُومِ مِنِ اتَّخَذَهُ أَيْ مَا لَهُمْ بِحِكْمَةِ الِاتِّخَاذِ مِنْ عِلْمٍ إِذْ لَا يَتَّخِذُهُ إِلَّا مَنْ هُوَ عَاجِزٌ مَقْهُورٌ يَحْتَاجُ إِلَى مُعِينٍ يَشُدُّ بِهِ عَضُدَهُ. وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اتِّخَاذُ اللَّهِ وَلَدًا فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ، فَكَيْفَ قِيلَ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ؟
قُلْتُ: مَعْنَاهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُعْلَمُ لِاسْتِحَالَتِهِ، وَانْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ إِمَّا لِلْجَهْلِ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ لَا يَسْتَقِيمُ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِهِ انْتَهَى.
وَلا لِآبائِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى لَهُمْ وَهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ السَّخِيفَةِ، بَلْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ إِنَّمَا قَالَهُ عَنْ جَهْلٍ وَتَقْلِيدٍ. وَذَكَرَ الْآبَاءَ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ قَدْ أَخَذُوهَا عَنْهُمْ وَتَلَقَّفُوهَا مِنْهُمْ.
وَالضَّمِيرُ فِي كَبُرَتْ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى مَا قَبْلَهُ بَلْ هُوَ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ التَّمْيِيزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ محذوفا وَتَخْرُجُ صِفَةً لَهُ أَيْ كَبُرَتْ كَلِمَةً كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نُصِبَ عَلَى التَّعَجُّبِ أَيْ أَكْبِرْ بِهَا كَلِمَةً أي من كَلِمَةً. وقرىء كبرت سكون الْبَاءِ وَهِيَ فِي لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ يَعْمُرَ وابن مُحَيْصِنٍ وَالْقَوَّاسُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَالنَّصْبُ أَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى وأقوى، وإِنْ نَافِيَةٌ أَيْ مَا يَقُولُونَ وكَذِباً نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ قَوْلًا كَذِباً.
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ لَعَلَّ لِلتَّرَجِّي فِي الْمَحْبُوبِ وَلِلْإِشْفَاقِ فِي الْمَحْذُورِ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: فِيهَا هُنَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ مَوْضِعَ النَّهْيِ يَعْنِي أَنَّ الْمَعْنَى لَا تَبْخَعْ نَفْسَكَ. وَقِيلَ:
وُضِعَتْ مَوْضِعَ الِاسْتِفْهَامِ تَقْدِيرُهُ هَلْ أَنْتَ باخِعٌ نَفْسَكَ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْرِيرٌ وَتَوْقِيفٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ أَيْ لَا تَكُنْ كَذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَهُ وَإِيَّاهُمْ حِينَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَمَا تَدَاخَلَهُ مِنَ الْوَجْدِ وَالْأَسَفِ عَلَى تَوَلِّيهِمْ بِرَجُلٍ فَارَقَتْهُ أَحِبَّتُهُ وَأَعِزَّتُهُ، فَهُوَ يَتَسَاقَطُ حَسَرَاتٍ عَلَى آثَارِهِمْ وَيَبْخَعُ نَفْسَهُ وَجْدًا عَلَيْهِمْ وَتَلَهُّفًا عَلَى فِرَاقِهِمُ انْتَهَى. وتكون لعل
وَقَوْلُهُ عَلى آثارِهِمْ اسْتِعَارَةٌ فَصِيحَةٌ مِنْ حَيْثُ لَهُمْ إِدْبَارٌ وَتَبَاعُدٌ عَنِ الْإِيمَانِ وَإِعْرَاضٌ عَنِ الشَّرْعِ، فَكَأَنَّهُمْ مِنْ فَرْطِ إِدْبَارِهِمْ قَدْ بَعُدُوا فَهُوَ فِي إِدْبَارِهِمْ يَحْزَنُ عَلَيْهِمْ، وَمَعْنَى عَلى آثارِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ بَعْدَ يَأْسِكَ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ.
وَيُقَالُ: مَاتَ فُلَانٌ عَلَى أَثَرِ فُلَانٍ أَيْ بَعْدَهُ، وقرىء باخِعٌ نَفْسَكَ بِالْإِضَافَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: باخِعٌ بِالتَّنْوِينِ نَفْسَكَ بِالنَّصْبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى الْأَصْلِ يَعْنِي أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَ الْعَلَمِ فَالْأَصْلُ أَنْ يَعْمَلَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْعَمَلُ وَالْإِضَافَةُ سَوَاءٌ، وَقَدْ ذَهَبْنَا إِلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ أَحْسَنُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا قَرَّرْنَاهُ فِي مَا وَضَعْنَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وقرىء: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا فَمَنْ كَسَرَ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ يَعْنِي اسْمَ الْفَاعِلِ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَمَنْ فَتَحَ فَلِلْمُضِيِّ يَعْنِي حَالَةَ الْإِضَافَةِ، أَيْ لِأَنَّ لَمْ يُؤْمِنُوا وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِلَى الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً «١».
وأَسَفاً قَالَ مُجَاهِدٌ: جَزَعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: غَضَبًا وَعَنْهُ أَيْضًا حَزَنًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
نَدَمًا وَتَحَسُّرًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَسَفُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ. وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ:
الْأَسَفُ هُنَا الْحُزْنُ لِأَنَّهُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ وَلَا هُوَ تَحْتَ يَدِ الْآسِفِ، وَلَوْ كَانَ الْأَسَفُ مِنْ مُقْتَدِرٍ عَلَى مَنْ هُوَ فِي قَبْضَتِهِ وَمِلْكِهِ كَانَ غَضَبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ «٢» أَيْ أَغْضَبُونَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اطَّرَدَ انْتَهَى. وَانْتِصَابُ أَسَفاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَارْتِبَاطُ قَوْلِهِ إِنَّا جَعَلْنا الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الزِّينَةِ لِلِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ أَيُّ النَّاسِ أَحْسَنُ عَمَلًا فَلَيْسُوا عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ فِي الِاسْتِقَامَةِ وَاتِّبَاعِ الرُّسُلِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ عَمَلًا وَمَنْ هُوَ أَسْوَأُ عَمَلًا، فَلَا تَغْتَمَّ وَتَحْزَنْ عَلَى مَنْ فُضِّلْتَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَكُونُ أَسْوَأَ عَمَلًا وَمَعَ كَوْنِهِمْ يَكْفُرُونَ بِي لَا أَقْطَعُ عَنْهُمْ مَوَادَّ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي خَلَقْتُهَا.
وجَعَلْنا هُنَا بِمَعْنَى خَلَقْنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا يُرَادُ بِهَا غَيْرُ الْعَاقِلِ وَأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ فِيمَا لَا يعقل. وزِينَةً كُلُّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ. وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ فِيهِ إِيذَاءٌ من
(٢) سورة الزخرف: ٤٣/ ٥٥.
وَقِيلَ: النَّبَاتُ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْأَزْهَارِ. وَقِيلَ: الْحَيَوَانُ الْمُخْتَلِفُ الْأَشْكَالِ وَالْمَنَافِعِ وَالْأَفْعَالِ. وَقِيلَ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالنُّحَاسُ وَالرَّصَاصُ وَالْيَاقُوتُ وَالزَّبَرْجَدُ وَالْجَوْهَرُ وَالْمَرْجَانُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ نَفَائِسِ الْأَحْجَارِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا عَلَى الْأَرْضِ يَعْنِي مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ زِينَةً لَها وَلِأَهْلِهَا مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَمَا يُسْتَحْسَنُ مِنْهَا. وَقَالَتْ: فِرْقَةٌ أَرَادَ النَّعِيمَ وَالْمَلَابِسَ وَالثِّمَارَ وَالْخُضْرَةَ وَالْمِيَاهَ. وَقِيلَ: مَا هُنَا لِمَنْ يَعْقِلُ، فَعَنْ مُجَاهِدٍ هُوَ الرِّجَالُ وَقَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَى عِكْرِمَةُ أَنَّ الزِّينَةَ الْخُلَفَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ. وَانْتَصَبَ زِينَةً عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ إِنْ كَانَ جَعَلْنا بِمَعْنَى خَلَقْنَا، وَأَوْجَدْنَا، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى صَيَّرْنَا فَانْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ.
وَاللَّامُ مِنْ لِنَبْلُوَهُمْ تَتَعَلَّقُ بِجَعَلْنَا، وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ وَهُوَ مُتَأَوَّلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالضَّمِيرُ فِي لِنَبْلُوَهُمْ إِنْ كَانَتْ مَا لِمَنْ يَعْقِلُ فَهُوَ عَائِدٌ عَلَيْهَا عَلَى الْمَعْنَى، وَأَنْ لَا يَعُودَ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَهُوَ سُكَّانُ الْأَرْضِ الْمُكُلَّفُونَ وأَيُّهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِيهَا إِعْرَابًا فَيَكُونُ أَيُّهُمْ مبتدأ وأَحْسَنُ خبره. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِنَبْلُوَهُمْ وَيَكُونُ قَدْ عَلَّقَ لِنَبْلُوَهُمْ إِجْرَاءً لَهَا مَجْرَى الْعِلْمِ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ وَالِاخْتِبَارَ سَبَبٌ لِلْعِلْمِ، كَمَا عَلَّقُوا سَلْ وَانْظُرِ الْبَصَرِيَّةَ لِأَنَّهُمَا سَبَبَانِ لِلْعِلْمِ وَإِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ ذَهَبَ الْحَوْفِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الضَّمَّةُ فِيهَا بناء على مذهب سيبويه لِوُجُودِ شَرْطِ جَوَازِ الْبِنَاءِ فِي أَيْ. وَهُوَ كَوْنُهَا مُضَافَةً قَدْ حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِهَا، فَأَحْسَنُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فَتَقْدِيرُهُ هُوَ أَحْسَنُ وَيَكُونُ أَيُّهُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي لِنَبْلُوَهُمْ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ أَحْسَنُ عَمَلًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ أَحْسَنُهُمْ عَمَلًا أَزْهَدُهُمْ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَتْرَكُ لَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
حُسْنُ الْعَمَلِ الزُّهْدُ فِيهَا وَتَرْكُ الِاغْتِرَارِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ غَالِبُ بْنُ عَطِيَّةَ: أَحْسَنُ الْعَمَلِ أَخْذٌ بِحَقٍّ مَعَ الْإِيمَانِ وَأَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَالْإِكْثَارُ مِنَ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
أَحْسَنَ طَاعَةً. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ لِيَبْلُوَ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَالْمُقَلِّدِينَ لِلْعُلَمَاءِ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ قَبُولًا وَإِجَابَةً. وَقَالَ سَهْلٌ: أَحْسَنُ تَوَكُّلًا عَلَيْنَا فِيهَا. وَقِيلَ:
أَصْفَى قَلْبًا وَأَحْسَنُ سَمْتًا. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَيَهُمُّ أَتْبَعُ لِأَمْرِي وَأَعْمَلُ بِطَاعَتِي.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِيَّاكُمْ وَالْقُعُودَ عَلَى الصُّعُدَاتِ».
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً.
أَمْ هُنَا هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ فَتَتَقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ. قِيلَ: لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى آخَرَ لَا بِمَعْنَى الْإِبْطَالِ، وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ أَمْ هُنَا بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ فَقَطْ، وَالظَّاهِرُ فِي أَمْ حَسِبْتَ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَنْهَهُ عَنِ التَّعَجُّبِ وَإِنَّمَا أَرَادَ كُلُّ آيَاتِنَا كَذَلِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
لَا يَتَعَجَّبُ مِنْهَا فَالْعَجَائِبُ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْثَرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلُوكَ عَنْ ذَلِكَ لِيَجْعَلُوا جَوَابَكَ عَلَامَةً لِصِدْقِكَ وَكَذِبِكَ، وَسَائِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَبْلَغُ وَأَعْجَبُ وَأَدَلُّ عَلَى صِدْقِكَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: تَقْرِيرٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى حُسْبَانِهِ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ كَانُوا عَجَباً بِمَعْنَى إِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَظِّمَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا عَظَّمَهُ عَلَيْكَ السَّائِلُونَ مِنَ الْكَفَرَةِ، فَإِنَّ سَائِرَ آيَاتِ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ قِصَّتِهِمْ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ومجاهد وقتادة وابن إِسْحَاقَ. وَقَالَ الزَّهْرَاوِيُّ: يَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا لَهُ هَلْ عَلِمَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ... كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً بِمَعْنَى إِثْبَاتِ أَنَّهُمْ عَجَبٌ، وَيَكُونُ فَائِدَةُ تَقْرِيرِهِ جَمْعَ نَفْسِهِ لِلْأَمْرِ لِأَنَّ جَوَابَهُ أَنْ يَقُولَ لَمْ أَحْسَبْ وَلَا عَلِمْتُهُ، فَيُقَالُ لَهُ وَصْفُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَالتَّجَوُّزُ فِي هَذَا
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ مِنَ الْآيَاتِ الْكُلِّيَّةِ تَزْيِينَ الْأَرْضِ بِمَا خَلَقَ فَوْقَهَا مِنَ الْأَجْنَاسِ الَّتِي لَا حَصْرَ لَهَا، وَإِزَالَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ قَالَ: أَمْ حَسِبْتَ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَإِبْقَاءِ حَيَاتِهِمْ مُدَّةً طَوِيلَةً انْتَهَى. وَقِيلَ: أَيْ أَمْ عَلِمْتَ أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ كانُوا عَجَباً كَمَا تَقُولُ: أَعَلِمْتَ أَنَّ فُلَانًا فَعَلَ كَذَا أَيْ قَدْ فَعَلَ فَاعْلَمْهُ. وَقِيلَ:
الْخِطَابُ لِلسَّامِعِ، وَالْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ أَيْ قل لهم أَمْ حَسِبْتَ الْآيَةَ. وَالظَّنُّ قَدْ يُقَامُ مَقَامَ الْعِلْمِ، فَكَذَلِكَ حَسِبْتَ بِمَعْنَى عَلِمْتَ وَالْكَهْفُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَعَنْ أَنَسٍ:
الْكَهْفُ الْجَبَلُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا غَيْرُ مَشْهُورٍ فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَفْرِيجٌ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ هُمُ الْفِتْيَةُ الْمَذْكُورُونَ هُنَا. وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانَ حَالُهُمْ كَأَصْحَابِ الْكَهْفِ. فَقَالَ الضَّحَّاكُ الرَّقِيمِ بَلْدَةٌ بِالرُّومِ فِيهَا غَارٌ فِيهِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ نَفْسًا أَمْوَاتٌ كُلُّهُمْ نِيَامٌ عَلَى هَيْئَةِ أَصْحابَ الْكَهْفِ. وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْغَارِ
فَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الرَّقِيمَ قَالَ:
«إِنْ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ أَصَابَتْهُمُ السَّمَاءُ فَأَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ فَانْحَطَّتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ».
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَهُوَ حَدِيثُ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْعَفِيفِ وَبَارِّ وَالِدَيْهِ، وَفِيمَا أَوْرَدَهُ فِيهِ زِيَادَةُ أَلْفَاظٍ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحِ. وَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ طَائِفَتَانِ قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْ أَصْحَابِ الرَّقِيمِ بِشَيْءٍ، وَمَنْ قَالَ: بِأَنَّهُمْ طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ اخْتَلَفُوا فِي شَرْحِ الرَّقِيمِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا الرَّقِيمِ أَكِتَابٌ أَمْ بُنْيَانٌ، وَعَنْهُ أَنَّهُ كِتَابٌ كَانَ عِنْدَهُمْ فِيهِ الشَّرْعُ الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ دِينِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: مِنْ دِينٍ قَبْلَ عِيسَى، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبٍ أَنَّهُ اسْمُ قَرْيَتِهِمْ.
وَقِيلَ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ تَحْتَ الْجِدَارِ أَقَامَهُ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقِيلَ: كَتَبَ فِيهِ أسماؤهم وَقِصَّتَهُمْ وَسَبَبَ خُرُوجِهِمْ. وَقِيلَ:
لَوْحٌ مِنْ رَصَاصٍ كُتِبَ فِيهِ شَأْنُ الْفِتْيَةِ وَوُضِعَ فِي تَابُوتٍ مِنْ نُحَاسٍ فِي فَمِ الْكَهْفِ. وَقِيلَ:
صَخْرَةٌ كُتِبَ فِيهَا أَسْمَاؤُهُمْ وَجُعِلَتْ فِي سُورِ الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: اسْمُ كَلْبِهِمْ وَتَقَدَّمَ بَيْتُ أُمَيَّةَ قَالَهُ أَنَسٌ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْجَبَلُ الَّذِي بِهِ الْكَهْفُ وَعَنْ عِكْرِمَةَ اسْمُ الدَّوَاةِ بِالرُّومِيَّةِ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِلْوَادِي الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ. وَقِيلَ: رَقَمَ النَّاسُ حَدِيثَهُمْ نقرا في الجبل.
وعَجَباً نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَتَقْدِيرُهُ آيَةً عَجَباً، وُصِفَتْ بِالْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ ذَاتِ عَجَبٍ وَأَمَّا أَسْمَاءُ فِتْيَةِ أَهْلِ الْكَهْفِ فَأَعْجَمِيَّةٌ لَا تَنْضَبِطُ
فِي الشَّامِ وَأَنَّ بِالشَّامِ كَهْفًا فِيهِ مَوْتَى، وَيَزْعُمُ مُجَاوَرُوهُ أَنَّهُمْ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَعَلَيْهِمْ مَسْجِدٌ وَبِنَاءٌ يُسَمَّى الرَّقِيمِ وَمَعَهُمْ كَلْبٌ رُمَّةٌ. وَبِالْأَنْدَلُسِ فِي جِهَةِ غَرْنَاطَةَ بِقُرْبِ قَرْيَةٍ تُسَمَّى لُوشَةَ كَهْفٌ فِيهِ مَوْتَى وَمَعَهُمْ كَلْبٌ رُمَّةٌ وَأَكْثَرُهُمْ قَدِ انْجَرَدَ لَحْمُهُ وَبَعْضُهُمْ مُتَمَاسِكٌ، وَقَدْ مَضَتِ الْقُرُونُ السَّالِفَةُ وَلَمْ نَجِدْ مَنْ عَلِمَ شَأْنَهُمْ وَيَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّهُمْ أَصْحابَ الْكَهْفِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دَخَلْتُ إِلَيْهِمْ فَرَأَيْتُهُمْ مُنْذُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَهُمْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَعَلَيْهِمْ مَسْجِدٌ وَقَرِيبٌ مِنْهُمْ بِنَاءٌ رُومِيٌّ يُسَمَّى الرَّقِيمِ كَأَنَّهُ قَصْرٌ مُخَلَّقٌ قَدْ بَقِيَ بَعْضُ جُدْرَانِهِ، وَهُوَ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ خَرِبَةٍ وَبِأَعْلَى حَضْرَةِ غَرْنَاطَةَ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ آثَارُ مَدِينَةٍ قَدِيمَةٍ يُقَالُ لَهَا مَدِينَةُ دِقْيُوسَ. وَجَدْنَا فِي آثَارِهَا غَرَائِبَ مِنْ قُبُورٍ وَنَحْوِهَا وَإِنَّمَا اسْتَسْهَلْتُ ذِكْرَ هَذَا مَعَ بُعْدِهِ لِأَنَّهُ عَجَبٌ يَتَخَلَّدُ ذِكْرُهُ مَا شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْتَهَى. وَحِينَ كُنَّا بِالْأَنْدَلُسِ كَانَ النَّاسُ يَزُورُونَ هَذَا الْكَهْفَ وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ يَغْلَطُونَ فِي عِدَّتِهِمْ إِذَا عَدُّوهُمْ، وَأَنَّ مَعَهُمْ كَلْبًا وَيَرْحَلُ النَّاسُ إِلَى لُوشَةَ لِزِيَارَتِهِمْ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُ مِنْ مَدِينَةِ دِقْيُوسَ الَّتِي بِقَبْلِي غَرْنَاطَةَ فَقَدْ مَرَرْتُ عَلَيْهَا مِرَارًا لَا تُحْصَى، وَشَاهَدْتُ فِيهَا حِجَارَةً كِبَارًا، وَيَتَرَجَّحُ كَوْنُ أَهْلِ الْكَهْفِ بِالْأَنْدَلُسِ لِكَثْرَةِ دِينِ النَّصَارَى بِهَا حَتَّى أَنَّهَا هِيَ بِلَادُ مَمْلَكَتِهِمُ الْعُظْمَى، وَلِأَنَّ الْأَخْبَارَ بِمَا هُوَ فِي أَقْصَى مَكَانٍ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ أَغْرَبُ وَأَبْعَدُ أَنْ يَعْرِفَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْعَامِلُ فِي إِذْ. قِيلَ: اذْكُرْ مُضْمَرَةً. وَقِيلَ عَجَباً، وَمَعْنَى أَوَى جَعَلُوهُ مَأْوًى لَهُمْ وَمَكَانَ اعْتِصَامٍ، ثُمَّ دَعَوُا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُؤْتِيَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ وَفَسَّرَهَا الْمُفَسِّرُونَ بِالرِّزْقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ الْمَغْفِرَةُ وَالرِّزْقُ وَالْأَمْنُ مِنَ الأعداء. والْفِتْيَةُ جَمْعُ فَتًى جَمْعُ تَكْسِيرٍ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَكَذَلِكَ كَانُوا قَلِيلِينَ. وَعِنْدَ ابْنِ السَّرَّاجِ أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعَ تَكْسِيرٍ. وَلَفْظُ الْفِتْيَةُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا شَبَابًا وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا شَبَابًا مِنْ أَبْنَاءِ الْأَشْرَافِ وَالْعُظَمَاءِ مُطَوَّقِينَ مُسَوَّرِيِنَ بِالذَّهَبِ ذَوِي ذَوَائِبَ وَهُمْ مِنَ الرُّومِ، اتَّبَعُوا دِينَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: كَانُوا قَبْلَ عِيسَى وَأَصْحَابُنَا الْأَنْدَلُسِيُّونَ تَكْثُرُ فِي أَلْفَاظِهِمْ تَسْمِيَةُ نَصَارَى الْأَنْدَلُسِ بِالرُّومِ فِي نَثْرِهِمْ وَنَظْمِهِمْ وَمُخَاطَبَةِ عَامَّتِهِمْ، فَيَقُولُونَ: غَزَوْنَا الرُّومَ، جَاءَنَا الرُّومُ.
وَقَلَّ مَنْ يَنْطِقُ بِلَفْظِ النَّصَارَى، وَلَمَّا دَعَوْا بِإِيتَاءِ الرَّحْمَةِ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الرِّزْقَ وَغَيْرَهُ، دَعَوُا اللَّهَ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاجْعَلْ أَمْرِنا رَشَداً كُلَّهُ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ مِنْكَ أَسَدًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالزُّهْرِيُّ: وَهَيِّ وَيُهَيِّي بِيَاءَيْنِ مِنْ غَيْرِ هَمْزِ، يَعْنِي أَنَّهُ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ السَّاكِنَةَ يَاءً. وَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ الْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عاصم: وهيء لَنَا وَيُهَيِّ لَكُمْ لَا يُهْمَزُ انْتَهَى. فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ يَاءً، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حَذَفَهَا فَالْأَوَّلُ إِبْدَالٌ قِيَاسِيٌّ، وَالثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ يَنْقَاسُ حَذْفُ الْحَرْفِ الْمُبْدَلِ مِنَ الْهَمْزَةِ فِي الْأَمْرِ أَوِ الْمُضَارِعِ إِذَا كَانَ مَجْزُومًا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: رُشْدٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَشَداً بِفَتْحِهِمَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ أَرْجَحُ لِشَبَهِهَا بِفَوَاصِلِ الْآيَاتِ قَبْلُ وَبَعْدُ، وَهَذَا الدُّعَاءُ مِنْهُمْ كَانَ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ وَأَلْفَاظُهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَانُوا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ رشد الآخرة ورحمتها، وَيَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَجْعَلَ دُعَاءَهُ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنَّهَا كَافِيَةٌ، وَيُحْتَمَلُ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ أَنْ يُرَادَ بِهَا أَمْرُ الْآخِرَةِ انْتَهَى.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ اسْتِعَارَةٌ بَدِيعَةٌ لِلْإِنَامَةِ الْمُسْتَثْقَلَةِ الَّتِي لَا يَكَادُ يُسْمَعُ مَعَهَا، وَعَبَّرَ بِالضَّرْبِ لِيَدُلَّ عَلَى قُوَّةِ الْمُبَاشَرَةِ وَاللُّصُوقِ وَاللُّزُومِ وَمِنْهُ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ «١» وَضُرِبَ الْجِزْيَةِ وَضَرْبُ الْبَعْثِ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقِ:
ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا | وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ |
وَمِنَ الْحَوَادِثِ لَا أَبَا لَكَ إِنَّنِي | ضُرِبَتْ على الأرض بالأشداد |
إِنَّ الْمُرُوءَةَ وَالسَّمَاحَةَ وَالنِّدَّى | فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ |
وَفِي الْحَدِيثِ: «ذَلِكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ»
أَيِ اسْتَثْقَلَ نَوْمَهُ جِدًّا حَتَّى لَا يَقُومَ بِاللَّيْلِ. وَمَفْعُولُ ضَرَبْنَا مَحْذُوفٌ أَيْ حِجَابًا مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَمَا يُقَالُ بَنَى عَلَى امْرَأَتِهِ يُرِيدُونَ بَنَى عَلَيْهَا الْقُبَّةَ. وَانْتَصَبَ سِنِينَ عَلَى الظَّرْفِ وَالْعَامِلُ فِيهِ فَضَرَبْنا، وعَدَداً مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ أَوْ منتصب بفعل مضمر
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الْقِلَّةَ لِأَنَّ الْكَثِيرَ قَلِيلٌ عِنْدَهُ كَقَوْلِهِ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ «١» انْتَهَى وَهَذَا تَحْرِيفٌ فِي التَّشْبِيهِ لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهَذَا تَشْبِيهٌ لِسُرْعَةِ انْقِضَاءِ مَا عَاشُوا فِي الدُّنْيَا إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ الْفَتَى لَمْ يَعْرَ يَوْمًا إِذَا اكْتَسَى | وَلَمْ يَكُ صُعْلُوكًا إِذَا مَا تَمَوَّلَا |
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِسْنَادُ إِلَى الْجُمْلَةِ اللَّفْظِيَّةِ مُطْلَقًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِنْ كَانَ مِمَّا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحِزْبَيْنِ هُمَا مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ «٣» الْآيَةَ. وَكَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ عَلِمُوا أَنَّ لُبْثَهُمْ تَطَاوَلَ، ويدل على
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٤٣.
(٣) سورة الكهف: ١٨/ ١٩.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْحِزْبَ الْوَاحِدَ هُمُ الْفِتْيَةُ أَيْ ظَنُّوا لُبْثَهُمْ قَلِيلًا، وَالْحِزْبُ الثَّانِي هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ بُعِثَ الْفِتْيَةُ عَلَى عَهْدِهِمْ حِينَ كَانَ عِنْدَهُمُ التَّارِيخُ بِأَمْرِ الْفِتْيَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ انْتَهَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُمَا حِزْبَانِ كَافِرَانِ اخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ. قَالَ السُّدِّيُّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ عَلَّمُوا قُرَيْشًا السُّؤَالَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَعَنِ الْخَضِرِ وَعَنِ الرُّوحِ وَكَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ إِقَامَةِ أَهْلِ الْكَهْفِ فِي الْكَهْفِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَوْمُ أَهْلِ الْكَهْفِ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ وَكَافِرُونَ وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ. وَقِيلَ: حِزْبَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ أَصْحابَ الْكَهْفِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُلُوكُ الَّذِينَ تَدَاوَلُوا مُلْكَ الْمَدِينَةِ حِزْبٌ وَأَهْلُ الْكَهْفِ حِزْبٌ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْحِزْبَانِ اللَّهُ وَالْخَلْقُ كَقَوْلِهِ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ «٢» وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ قَتَادَةَ: لَمْ يَكُنْ لِلْفَرِيقَيْنِ عِلْمٌ بِلُبْثِهِمْ لَا لِمُؤْمِنٍ وَلَا لِكَافِرٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا «٣». وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَمَا بُعِثُوا زَالَ الشَّكُّ وَعُرِفَتْ حَقِيقَةُ اللبث.
وأَحْصى جوز الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَمَا مصدرية وأَمَداً مَفْعُولٌ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ أفعل تفضيل وأَمَداً تَمْيِيزٌ. وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ وَالتِّبْرِيزِيُّ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ واختار الفارسي والزمخشري وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَرَجَّحُوا هَذَا بِأَنَّ أَحْصى إِذَا كَانَ لِلْمُبَالَغَةِ كَانَ بِنَاءً مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَا أَعْطَاهُ وَمَا أَوْلَاهُ لِلْمَعْرُوفِ وَأَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ. وَيَقُولُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنَّهُ قَدْ كَثُرَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ فَيَجُوزُ، وَخَلَطَ ابْنُ عَطِيَّةَ فَأَوْرَدَ فِيمَا بُنِيَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ مَا أَعْطَاهُ لِلْمَالِ وَآتَاهُ لِلْخَيْرِ وَهِيَ أَسْوَدُ مِنَ الْقَارِ وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللبن. وفهو لِمَا سِوَاهَا أَضَيْعُ. قَالَ: وَهَذِهِ كُلُّهَا أَفْعَلُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ انْتَهَى. وَأَسْوَدُ وَأَبْيَضُ لَيْسَ بِنَاؤُهُمَا مِنَ الرُّبَاعِيِّ. وَفِي بِنَاءِ أَفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ وَلِلتَّفْضِيلِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ يُبْنَى مِنْهُ مُطْلَقًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ جَاءَتْ مِنْهُ أَلْفَاظٌ وَلَا يُبْنَى مِنْهُ مُطْلَقًا وَمَا وَرَدَ حمل على الشذوذ وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ. فَلَا يَجُوزُ، أَوْ لِغَيْرِ النَّقْلِ كَأَشْكَلَ الْأَمْرُ وَأَظْلَمَ اللَّيْلُ فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ مَا أَشْكَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَمَا أَظْلَمَ هَذَا اللَّيْلَ.
وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عُصْفُورٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَإِذَا
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٤٠.
(٣) سورة الكهف: ١٨/ ٢٥.
وَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُوُلُ فِيمَنْ جَعَلَهُ مِنْ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ؟ قُلْتُ: لَيْسَ بِالْوَجْهِ السَّدِيدِ، وَذَلِكَ أَنَّ بِنَاءَهُ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَنَحْوَ أَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ، وَأَفْلَسَ مِنَ ابْنِ الْمُذَلَّقِ شَاذٌّ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الشَّاذِّ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مُمْتَنِعٌ فَكَيْفَ بِهِ، وَلِأَنَّ أَمَداً لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُنْصَبَ بِأَفْعَلَ فَأَفْعَلُ لَا يَعْمَلُ، وَإِمَّا أَنْ يُنْصَبَ بِلَبِثُوا فَلَا يَسُدُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، فَإِنْ زَعَمْتَ أَنِّي أَنْصِبُهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحْصى كَمَا أُضْمِرُ فِي قَوْلِهِ:
وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا عَلَى يَضْرِبُ الْقَوَانِسَ فَقَدْ أَبْعَدْتَ الْمُتَنَاوَلَ وَهُوَ قَرِيبٌ حَيْثُ أَبَيْتَ أَنْ يَكُونَ أَحْصى فِعْلًا ثُمَّ رَجَعْتَ مُضْطَرًّا إِلَى تَقْدِيرِهِ وَإِضْمَارِهِ انْتَهَى. أَمَّا دَعْوَاهُ الشُّذُوذَ فَهُوَ مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ جَوَازُ بِنَائِهِ مِنْ أَفْعَلَ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَنَّ التَّفْصِيلَ اخْتِيَارُ ابْنِ عُصْفُورٍ وَقَوْلُ غَيْرِهِ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَحْصى لَيْسَتْ لِلنَّقْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَأَفْعَلُ لَا يَعْمَلُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ في التمييز، وأَمَداً تَمْيِيزٌ وَهَكَذَا أَعْرَبَهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحْصى أَفْعَلُ لِلتَّفْضِيلِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدًا أَقْطَعُ النَّاسُ سَيْفًا، وَزَيْدٌ أَقْطَعُ لِلْهَامِ سَيْفًا، وَلَمْ يعر به مَفْعُولًا بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِمَّا أَنْ يُنْصَبَ بِلَبِثُوا فَلَا يَسُدُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى أَيْ لَا يَكُونُ سَدِيدًا فَقَدْ ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى نَصْبِ أَمَداً بِلَبِثُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا غَيْرُ مُتَّجِهٍ انْتَهَى. وَقَدْ يَتَّجِهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمَدَ هُوَ الْغَايَةُ وَيَكُونُ عِبَارَةً عَنِ الْمُدَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لِلْمُدَّةِ غَايَةً فِي أَمَدِ الْمُدَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَا بمعنى الذي وأَمَداً مُنْتَصِبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، وَتَقْدِيرُهُ لِمَا لَبِثُوا مِنْ أَمَدٍ أَيْ مُدَّةٍ، وَيَصِيرُ مِنْ أَمَدٍ تَفْسِيرًا لِمَا أنهم في لفظ لِما لَبِثُوا كَقَوْلِهِ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ «١» وَلَمَّا سَقَطَ الْحَرْفُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ زَعَمْتَ إِلَى آخِرِهِ فَيَقُولُ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا الزَّعْمِ لِأَنَّهُ لِقَائِلِ
وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا لَكِنَّا نَقِيسُهُ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ صَحِيحًا لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْمَصْدَرِ فَيَعْمَلُ بِذَلِكَ التَّضْمِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى يَزِيدُ ضَرْبَنَا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا عَلَى ضَرْبِ غَيْرِنَا، وَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ لِيَعْلَمَ مُشْعِرًا بِاخْتِلَافٍ فِي أَمْرِهِمْ عَقَّبَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَقُصُّ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ عَلَى وَجْهِ الصِّدْقِ، وَجَاءَ لَفْظُ نَحْنُ نَقُصُّ مُوَازِيًا لِقَوْلِهِ لِنَعْلَمَ.
ثُمَّ قَالَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ فَفِيهِ إِضَافَةُ الرَّبِّ وَهُوَ السَّيِّدُ وَالنَّاظِرُ فِي مَصْلَحَةِ عَبِيدِهِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ آمَنُوا بِنَاءً لِلْأَشْعَارِ بِتِلْكَ الرُّتْبَةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ لَهُ مَمْلُوكُونَ. ثُمَّ قَالَ:
وَزِدْناهُمْ هُدىً وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ وَزَادَهُمْ لِمَا في لفظة نامن الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ، وَزِيَادَتُهُ تَعَالَى لَهُمْ هُدىً هُوَ تَيْسِيرُهُمْ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَمُبَاعَدَةِ النَّاسِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ. وَفِي التَّحْرِيرِ زِدْناهُمْ ثَمَرَاتٍ هُدىً أَوْ يَقِينًا قَوْلَانِ، وَمَا حَصَلَتْ بِهِ الزِّيَادَةُ امْتِثَالُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ، أَوْ إِنْطَاقُ الْكَلْبِ لَهُمْ بِأَنَّهُ هُوَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ، أَوْ إِنْزَالُ مَلَكٍ عَلَيْهِمْ بِالتَّبْشِيرِ وَالتَّثْبِيتِ وَإِخْبَارُهُمْ بِظُهُورِ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ يَكُونُ الدِّينُ بِهِ كُلُّهُ لِلَّهِ فَآمَنُوا بِهِ قَبْلَ بَعْثِهِ أَقْوَالٌ مُلَخَّصَةٌ مِنَ التَّحْرِيرِ.
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ ثَبَّتْنَاهَا وَقَوَّيْنَاهَا عَلَى الصَّبْرِ عَلَى هِجْرَةِ الْوَطَنِ وَالنَّعِيمِ وَالْفِرَارِ بِالدِّينِ إِلَى غَارٍ فِي مَكَانٍ قَفْرٍ لَا أَنِيسَ بِهِ وَلَا مَاءَ وَلَا طَعَامَ، وَلَمَّا كَانَ الْفَزَعُ وَخَوْفُ النَّفْسِ يُشْبِهُ بِالتَّنَاسُبِ الِانْحِلَالَ حَسُنَ فِي شِدَّةِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ التَّصْمِيمِ أَنْ تُشْبِهَ الرَّبْطَ، وَمِنْهُ فُلَانٌ رَابِطُ الْجَأْشِ إِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ لَا تَتَفَرَّقُ عِنْدَ الْفَزَعِ وَالْحَرْبِ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها «٢» وَالْعَامِلُ فِي أَنْ رَبَطْنا أَيْ رَبَطْنَا حِينَ قامُوا، وَيَحْتَمِلُ الْقِيَامُ أَنْ يَكُونَ مَقَامُهُمْ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ الْكَافِرِ دِقْيَانُوسَ، فَإِنَّهُ مَقَامٌ مُحْتَاجٌ إِلَى الرَّبْطِ عَلَى الْقَلْبِ حَيْثُ صَلَبُوا عَلَيْهِ وَخَلَعُوا دِينَهُ وَرَفَضُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ هَيْبَتَهُ، ويحتمل أن
(٢) سورة القصص: ٢٨/ ١٠.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: قامُوا عَلَى أَرْجُلِهِمْ. وَقِيلَ: قامُوا يَدْعُونَ النَّاسَ سِرًّا. وَقَالَ عَطَاءٌ قامُوا عِنْدَ قِيَامِهِمْ مِنَ النَّوْمِ قَالُوا وقبل: قامُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: إِذْ قامُوا بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ فَتَحَرَّكَتْ هِرَّةٌ. وَقِيلَ: فَأْرَةٌ فَفَزِعَ دِقْيَانُوسُ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ قَالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ قَوْمُهُمْ عُبَّادَ أَصْنَامٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا وَحَّدُوا اللَّهَ بِأَنَّ رَبَّهُمْ هو موجد السموات وَالْأَرْضِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا عَلَى مَا يَشَاءُ، ثُمَّ أَكَّدُوا هذا التوجيد بِالْبَرَاءَةِ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِهِ بِلَفْظِ النَّفْيِ الْمُسْتَغْرِقِ تَأْبِيدَ الزَّمَانِ عَلَى قَوْلٍ. وَاللَّامُ فِي لَقَدْ لَامُ تَوْكِيدٍ وإِذاً حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ، أَيْ لَقَدْ قُلْنا لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا قَوْلًا شَطَطاً أَيْ ذَا شَطَطٍ وَهُوَ التَّعَدِّي وَالْجَوْرُ، فَشَطَطًا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ إِمَّا عَلَى الْحَذْفِ كَمَا قَدَّرْنَاهُ، وَإِمَّا عَلَى الْوَصْفِ بِهِ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ:
مَفْعُولٌ بِهِ بِقُلْنَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: شَطَطاً كَذِبًا. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: خَطَأٌ.
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً.
وَلَمَّا وَحَّدُوا اللَّهَ تَعَالَى وَرَفَضُوا مَا دُونَهُ مِنَ الْآلِهَةِ أَخَذُوا فِي ذَمِّ قَوْمِهِمْ وَسُوءِ فِعْلِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، ثُمَّ عَظَّمُوا جُرْمَ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ قَالُوهَا فِي مَقَامِهِمْ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ تَقْبِيحًا لِمَا هُوَ وَقَوْمُهُمْ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّبَرِّي مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَفَتُّ فِي عَضُدِ الْمَلِكِ إِذَا اجْتَرَءُوا عَلَيْهِ بِذَمِّ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ قَالُوا ذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِهِمْ لِلْأَمْرِ الذي عزموا عليه وهؤُلاءِ مبتدأ.
وقَوْمُنَا قال الحوفي: خبر واتَّخَذُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ: قَوْمُنَا عطف بيان واتَّخَذُوا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ دُونِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا تَحْضِيضٌ صَحِبَهُ الْإِنْكَارُ إِذْ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ سُلْطَانٍ بَيِّنٍ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّحْضِيضُ الصِّرْفُ، فَحَضُّوهُمْ عَلَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْجِيزِ لَهُمْ، وَمَعْنَى عَلَيْهِمْ عَلَى اتخاذهم آلهة واتَّخَذُوا هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَمِلُوا لِأَنَّهَا أَصْنَامٌ هُمْ نَحَتُوهَا، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى صَيَّرُوا، وَفِي مَا ذَكَرُوهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدِّينَ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا
وإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ خِطَابٌ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَالِاعْتِزَالُ يَشْمَلُ مُفَارَقَةَ أَوْطَانِ قَوْمِهِمْ وَمُعْتَقَدَاتِهِمْ فَهُوَ اعْتِزَالٌ جُسْمَانِيٌّ وَقَلْبِيٌّ، وَمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ فِي اعْتَزَلْتُمُوهُمْ أَيْ واعتزلتم معبودهم وإِلَّا اللَّهَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ إِنْ كَانَ قَوْمُهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ مَعَ آلِهَتِهِمْ لِانْدِرَاجِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ.
وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ آلِهَةً فَاعْتَزَلَتِ الْفِتْيَةُ عِبَادَةَ تِلْكَ الْآلِهَةِ وَلَمْ يَعْتَزِلُوا عِبَادَةَ اللَّهِ. وَقَالَ هَذَا أَيْضًا الْفَرَّاءُ، وَمُنْقَطِعٌ إِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْبُدُونَهُ لِعَدَمِ انْدِرَاجِهِ فِي مَعْبُودَاتِهِمْ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِنَا انْتَهَى وَمَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا ذَكَرَ هَارُونُ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ تَفْسِيرُ الْمَعْنَى. وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ اعْتَزَلُوا قَوْمَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ قُرْآنًا لِمُخَالَفَتِهَا لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَفِيضَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بَلْ هُوَ مُتَوَاتِرٌ مَا ثَبَتَ فِي السَّوَادِ وهو وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ. وَقِيلَ: وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ كَلَامٌ مُعْتَرَضٌ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عن الْفِتْيَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَى هَذَا ما فيه وإِلَّا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ لَهُ الْعَامِلُ.
فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ أَيِ اجْعَلُوهُ مَأْوًى لَكُمْ تُقِيمُونَ فِيهِ وَتَأْوُونَ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ يَنْشُرْ فِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّوَكُّلِ حَيْثُ أَوَوْا إِلَى كَهْفٍ، وَرَتَّبُوا عَلَى مَأْوَاهُمْ إِلَيْهِ نَشْرَ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَتَهْيِئَةَ رِفْقِهِ تَعَالَى بِهِمْ لِأَنَّ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ لَا يُضَيِّعُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى سَيَبْسُطُ عَلَيْنَا رَحْمَتَهُ ويهيىء لَنَا مَا نَرْتَفِقُ بِهِ فِي أَمْرِ عَيْشِنَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ يُسَهِّلْ عَلَيْكُمْ مَا تَخَافُونَ مِنَ الْمَلِكِ وَظُلْمِهِ، وَيَأْتِيكُمْ بِالْيُسْرِ وَالرِّفْقِ وَاللُّطْفِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى وَيُهَيِّئْ لَكُمْ بَدَلًا مِنْ أَمْرِكُمُ الصَّعْبِ مِرفَقاً. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً | مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طَهَيَانِ |
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً.
هُنَا جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّقْدِيرُ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ «١» فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّوْمَ وَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ وَأَرْفَقَهُمْ فِي الْكَهْفِ بِأَشْيَاءَ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عُمَرَ وتَتَزاوَرُ بِإِدْغَامِ تَتَزَاوَرُ فِي الزَّايِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ مَنَاذِرَ، وَخَلَفٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ سَعْدَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ إِذَا حَذَفُوا التَّاءَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ عامر، وقتادة، وَحُمَيْدٌ، وَيَعْقُوبُ عَنِ الْعُمَرِيِّ: تَزْوَرُّ عَلَى وَزْنِ تَحْمَرُّ. وقرأ الجحدري، وأبو رَجَاءٍ، وَأَيُّوبٌ السِّخْتِيَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَجَابِرٌ، وَوَرَدَ عَنْ أَيُّوبَ تَزْوَارُّ عَلَى وَزْنِ تَحْمَارُّ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ: تَزْوَئِرُّ بِهَمْزَةٍ قَبْلَ الرَّاءِ عَلَى قولهم ادهأمّ واشعألّ بِالْهَمْزِ فِرَارًا مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، والمعنى تزوغ وتميل.
وذاتَ الْيَمِينِ جِهَةَ يَمِينِ الْكَهْفِ، وَحَقِيقَتُهُ الْجِهَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْيَمِينِ يَعْنِي يَمِينَ الدَّاخِلِ إِلَى الْكَهْفِ أَوْ يَمِينَ الْفِتْيَةِ. وتَقْرِضُهُمْ لَا تَقْرَبُهُمْ مِنْ مَعْنَى الْقَطِيعَةِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ أَيْ مُتَّسَعٌ مِنَ الْكَهْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَقْرِضُهُمْ بِالتَّاءِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِالْيَاءِ أَيْ
قَالَ الزَّجَّاجُ: فِعْلُ الشَّمْسِ آيَةٌ مِنْ آياتِ اللَّهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ بَابُ الْكَهْفِ إِلَى جِهَةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَعْنَى تَقْرِضُهُمْ تُعْطِيهِمْ مِنْ ضَوْئِهَا شَيْئًا ثُمَّ تَزُولُ سَرِيعًا كَالْقَرْضِ يُسْتَرَدُّ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُ أَنَّ الشَّمْسَ تَمِيلُ بِالْغَدْوَةِ وَتُصِيبُهُ بِالْعَشِيِّ إِصَابَةً خَفِيفَةً انْتَهَى. وَلَوْ كَانَ مِنَ الْقَرْضِ الَّذِي يُعْطَى ثُمَّ يُسْتَرَدُّ لَكَانَ الْفِعْلُ رُبَاعِيًّا فَكَانَ يَكُونُ تُقْرِضُهُمْ بِالتَّاءِ مَضْمُومَةً. لَكِنَّهُ مِنَ الْقَطْعِ، وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ تُقْرِضُ لَهُمْ أَيْ تَقْطَعُ لَهُمْ مِنْ ضَوْئِهَا شَيْئًا.
قِيلَ: وَلَوْ كَانَتِ الشَّمْسُ لَا تُصِيبُ مَكَانَهُمْ أَصْلًا لَكَانَ يَفْسُدُ هَوَاؤُهُ وَيَتَعَفَّنُ مَا فِيهِ فَيَهْلِكُوا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى دَبَّرَ أَمْرَهُمْ فَأَسْكَنَهُمْ مَسْكَنًا لَا يَكْثُرُ سُقُوطُ الشَّمْسِ فِيهِ فَيَحْمِي، وَلَا تَغِيبُ عَنْهُ غَيْبُوبَةً دَائِمَةً فَيَعْفَنُ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا صَنَعَهُ تَعَالَى بِهِمْ مِنَ ازْوِرَارِ الشَّمْسِ وَقَرْضِهَا طَالِعَةً وَغَارِبَةً آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ يَعْنِي أَنَّ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ السَّمْتِ تُصِيبُهُ الشَّمْسُ وَلَا تُصِيبُهُمُ اخْتِصَاصًا لَهُمْ بِالْكَرَامَةِ، وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَقْبِلَ بَنَاتِ نَعْشٍ بِحَيْثُ كَانَ لَهُ حَاجِبٌ مِنَ الشَّمْسِ كَانَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ حَدِيثَهُمْ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَهُوَ هِدَايَتُهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ بَيْنِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَإِيوَاؤُهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْكَهْفِ، وَحِمَايَتُهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَإِلْقَاءُ الْهَيْبَةِ عَلَيْهِمْ، وَصَرْفُ الشَّمْسِ عَنْهُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لِئَلَّا تَفْسَدَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنَامَتُهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ، وَصَوْنُهُمْ مِنَ الْبِلَى وَثِيَابُهُمْ مِنَ التَّمَزُّقِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْهِدَايَةِ قَوْلُهُ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَهُوَ لَفْظٌ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ مَا سَبَقَ نِسْبَتُهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الْكَهْفِ، وَمَنْ يُضْلِلْ عَامٌّ أَيْضًا مِثْلَ دِقْيَانُوسَ الْكَافِرِ وَأَصْحَابِهِ، وَالْخِطَابُ فِي وَتَحْسَبُهُمْ وَفِي وَتَرَى الشَّمْسَ لِمَنْ قُدِّرَ لَهُ أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: كَانُوا مُفَتَّحَةً أَعْيُنُهُمْ وَهُمْ نِيَامٌ فَيَحْسَبُهُمُ النَّاظِرُ مُنْتَبِهِينَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ
وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ لَوْ رَأَيْتَهُمْ لَحَسِبْتَهُمْ أَيْقاظاً.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَنُقَلِّبُهُمْ خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَقِيلَ: إِنَّمَا وَقَعَ الْحُسْبَانُ مِنْ جِهَةِ تَقَلُّبِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنَ الْيَمِينِ إِلَى الشِّمَالِ وَمِنَ الشِّمَالِ إِلَى الْيَمِينِ وَفِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَنُقَلِّبُهُمْ بِالنُّونِ مَزِيدُ اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِهِمْ حَيْثُ أَسْنَدَ التَّقْلِيبَ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ ذَلِكَ. وحكى الزمخشري أنه قرىء وَيُقَلِّبُهُمْ بِالْيَاءِ مُشَدَّدًا أَيْ يُقَلِّبُهُمُ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِيمَا حَكَى الْأَهْوَازِيُّ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيَقْلِبُهُمْ بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ سَاكِنَةِ الْقَافِ مُخَفَّفَةِ اللَّامِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِيمَا حَكَى ابْنُ جِنِّي: وَتَقَلُّبَهُمْ مَصْدَرُ تَقَلَّبَ مَنْصُوبًا، وَقَالَ: هَذَا نُصِبَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قَالَ: وَتَرَى أَوْ تُشَاهِدُ تَقَلُّبَهُمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ ضَمَّ الْيَاءَ فَهُوَ مَصْدَرٌ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ ابْنُ خَالَوَيْهِ عَنِ الْيَمَانِيِّ. وَذَكَرَ أَنَّ عِكْرِمَةَ قَرَأَ وَتَقْلِبُهُمْ بِالتَّاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقُ مُضَارِعُ قَلَبَ مُخَفَّفًا. قِيلَ: وَالْفَائِدَةُ فِي تَقْلِيبِهِمْ فِي الْجِهَتَيْنِ لِئَلَّا تُبْلِيَ الْأَرْضُ ثِيَابَهُمْ وَتَأْكُلَ لُحُومَهُمْ، فَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ مَاتُوا وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، فَإِنَّ اللَّهَ الَّذِي قَدَرَ عَلَى أَنْ يُبْقِيَهُمْ أَحْيَاءً تِلْكَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى حِفْظِ أَجْسَامِهِمْ وَثِيَابِهِمْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ مَسَّتْهُمُ الشَّمْسُ لَأَحْرَقَتْهُمْ، وَلَوْلَا التَّقْلِيبُ لأكلتهم الأرض انتهى. وذاتَ بِمَعْنَى صَاحِبَةٍ أَيْ جِهَةً ذاتَ الْيَمِينِ. وَنَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ الْخِلَافَ فِي أَوْقَاتِ تَقْلِيبِهِمْ وَفِي عَدَدِ التَّقْلِيبَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ عِيَاضٍ بِأَقْوَالٍ مُتَعَارِضَةٍ مُتَنَاقِضَةٍ ضَرَبْنَا عَنْ نَقْلِهَا صَفْحًا وَكَذَلِكَ لَمْ نَتَعَرَّضْ لِاسْمِ كَلْبِهِمْ وَلَا لِكَوْنِهِ كَلْبَ زَرْعٍ أَوْ غَيْرَهُ، لِأَنَّ مِثْلَ الْعَدَدِ وَالْوَصْفِ وَالتَّسْمِيَةِ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ، وَالسَّمْعُ لَا يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَّا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَسْتَحِيلُ وُرُودُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَكَلْبُهُمْ أُرِيدَ بِهِ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ أَسَدٌ، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ رَجُلٌ طَبَّاخٌ لَهُمْ تَبِعَهُمْ، أَوْ أَحَدُهُمْ قَعَدَ عِنْدَ الْبَابِ طَلِيعَةً لَهُمْ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ غُلَامُ ثعلب أنه قرىء وَكَالِئُهُمُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَلَأَ إِذَا حَفِظَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ الْكَلْبُ لِحِفْظِهِ لِلْإِنْسَانِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَالِئِ الرَّجُلُ عَلَى مَا رُوِيَ إِذْ بَسْطُ الذِّرَاعَيْنِ وَاللُّصُوقُ بِالْأَرْضِ مَعَ رَفْعِ الْوَجْهِ للتطلع هي
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: باسِطٌ ذِراعَيْهِ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَعْمَلُ إِذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمُضِيِّ، وَإِضَافَتُهُ إِذَا أُضِيفَ حَقِيقَةً مُعَرَّفَةً كَغُلَامِ زَيْدٍ إِلَّا إِذَا نَوَيْتَ حِكَايَةَ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَعْمَلُ إِذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمُضِيِّ لَيْسَ إِجْمَاعًا، بَلْ ذَهَبَ الْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ مُضَاءٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ، وَحُجَجُ الْفَرِيقَيْنِ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَالْوَصِيدُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَابُ. وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ: الْفِنَاءُ. وَعَنْ قَتَادَةَ: الصَّعِيدُ وَالتُّرَابُ. وَقِيلَ: الْعَتَبَةُ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا التُّرَابُ. وَالْخِطَابُ فِي لَوِ اطَّلَعْتَ لمن هوله فِي قَوْلِهِ وَتَرَى الشَّمْسَ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ: لَوِ اطَّلَعْتَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَصْلًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِكَسْرِهَا، وَقَدْ ذُكِرَ ضَمُّهَا عَنْ شَيْبَةَ وَأَبِي جعفر ونافع وتملية الرُّعْبِ لِمَا أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْهَيْبَةِ وَالْجَلَالِ، فَمَنْ رَامَ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِمْ أَدْرَكَتْهُ تِلْكَ الْهَيْبَةُ.
وَمَعْنَى لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ أَعْرَضْتَ بِوَجْهِكَ عَنْهُمْ. وَأَوْلَيْتَهُمْ كَشْحَكَ، وَانْتَصَبَ فِراراً عَلَى الْمَصْدَرِ إِمَّا لَفَرَرْتَ مَحْذُوفَةً، وَإِمَّا لَوَلَّيْتَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى لَفَرَرْتَ، وَإِمَّا مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ. وَانْتَصَبَ رُعْباً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ تَمْيِيزٌ مَنْقُولٌ مِنَ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً «١» عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ نَقْلَ التَّمْيِيزِ مِنَ الْمَفْعُولِ، لِأَنَّكَ لَوْ سَلَّطْتَ عَلَيْهِ الْفِعْلَ مَا تَعَدَّى إِلَيْهِ تَعَدِّي الْمَفْعُولِ بِهِ بِخِلَافِ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وَقِيلَ: سَبَبُ الرُّعْبِ طُولُ شُعُورِهِمْ وَأَظْفَارِهِمْ وَصُفْرَةُ وُجُوهِهِمْ وَتَغْيِيرُ أَطْمَارِهِمْ. وَقِيلَ: لِإِظْلَامِ الْمَكَانِ وَإِيحَاشِهِ، وَلَيْسَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا بِتِلْكَ الصِّفَةِ أَنْكَرُوا أَحْوَالَهُمْ وَلَمْ يَقُولُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «٢» وَلِأَنَّ الَّذِي بُعِثَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يُنْكِرْ إِلَّا الْعَالَمَ وَالْبِنَاءَ لَا حَالَهُ فِي نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُمْ بِحَالَةٍ حَسَنَةٍ بِحَيْثُ لَا يُفَرِّقُ الرَّائِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَيْقَاظِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ تَتَخَرَّقُهُ الرِّيَاحُ وَالْمَكَانُ الَّذِي بِهَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَكُونُ مُوحِشًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ.
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَإِبْدَالِ الْيَاءِ مِنَ
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ١٩.
وَقَرَأَ هُنَا بِضَمِّ الْعَيْنِ أَبُو جَعْفَرٍ وَعِيسَى.
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً.
الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ. قِيلَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ «١» أَيْ مِثْلُ جَعْلِنَا إِنَامَتَهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ آيَةً، جعلنا بعثهم آية. قال الزَّجَّاجُ وَحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَقَالَ: وَكَمَا أَنَمْنَاهُمْ تِلْكَ النَّوْمَةَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ إِذْكَارًا بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِمَاتَةِ وَالْبَعْثِ جَمِيعًا، لِيَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَعَرَّفُوا حَالَهُمْ وَمَا صَنَعَ اللَّهُ بِهِمْ، فَيَعْتَبِرُوا وَيَسْتَدِلُّوا عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَيَزْدَادُوا يقينا ويشكر وأما أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَكُرِّمُوا بِهِ انْتَهَى.
وَنَاسَبَ هَذَا التَّشْبِيهُ قَوْلَهُ تَعَالَى حِينَ أَوْرَدَ قِصَّتَهُمْ أَوَّلًا مُخْتَصَرَةً فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْناهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْأَمْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي جِهَتِهِمْ وَالْعِبْرَةِ الَّتِي فَعَلَهَا فِيهِمْ، وَاللَّامُ فِي لِيَتَسائَلُوا لَامُ الصَّيْرُورَةِ لِأَنَّ بَعْثَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِنَفْسِ تَسَاؤُلِهِمُ انْتَهَى.
وَالْقَائِلُ. قِيلَ: كَبِيرُهُمْ مُكَسْلِمِينَا. وَقِيلَ: صَاحِبُ نَفَقَتِهِمْ تَمْلِيخَا وَكَمْ سُؤَالٌ عَنِ الْعَدَدِ وَالْمَعْنَى كَمْ يَوْمًا أَقَمْتُمْ نَائِمِينَ، وَالظَّاهِرُ صُدُورُ الشَّكِّ مِنَ الْمَسْئُولِينَ. وَقِيلَ: أَوْ لِلتَّفْصِيلِ. قَالَ بَعْضُهُمْ لَبِثْنا يَوْماً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ يَوْمٍ وَالسَّائِلُ أَحَسَّ فِي خَاطِرِهِ طُولَ نَوْمِهِمْ وَلِذَلِكَ سَأَلَ. قِيلَ: نَامُوا أَوَّلَ النَّهَارِ وَاسْتَيْقَظُوا آخِرَ النَّهَارِ، وَجَوَابُهُمْ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَالْقَوْلُ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ لَا يُعَدَّ كَذِبًا، وَلَمَّا عَرَضَ لَهُمُ الشَّكُّ فِي الْإِخْبَارِ رَدُّوا عِلْمَ لُبْثِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمُدَّةٍ لُبْثِهِمْ كَانَ هَؤُلَاءِ قَدْ عَلِمُوا بِالْأَدِلَّةِ أَوْ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ أَنَّ الْمُدَّةَ مُتَطَاوِلَةٌ وَأَنَّ مِقْدَارَهَا مُبْهَمٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ انْتَهَى. وَلَمَّا انْتَبَهُوا مِنْ نَوْمِهِمْ أَخَذَهُمْ مَا يَأْخُذُ مَنْ نَامَ طَوِيلًا مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ، وَاتَّصَلَ فَابْعَثُوا بِحَدِيثِ التَّسَاؤُلِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا خُذُوا فِيمَا يهمكم
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَالْيَزِيدِيُّ وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ، وَخَلَفٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ سَعْدَانَ بِوَرِقِكُمْ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ وَكَذَا إِسْمَاعِيلُ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، وَعَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ أَيْضًا كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الرَّاءَ لِيَصِحَّ الْإِدْغَامُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِوَرِقِكُمْ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَإِدْغَامِ الْقَافِ فِي الْكَافِ انْتَهَى. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا نَقَلَ النَّاسُ عَنْهُ. وَحَكَى الزَّجَّاجُ قِرَاءَةً بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ دُونَ إِدْغَامٍ.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَوَارِقِكُمْ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ
جَعَلَهُ اسْمَ جَمْعٍ كباقر وجائل.
والْمَدِينَةِ هِيَ مَدِينَتُهُمُ الَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا، وَقِيلَ وَتُسَمَّى الْآنَ طَرْسُوسُ وَكَانَ اسْمُهَا عِنْدَ خُرُوجِهِمْ أَفْسُوسَ. فَلْيَنْظُرْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظَرِ الْقَلْبِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفَلْيَنْظُرْ معلق عنها الفعل. وأَيُّها استفهام مبتدأ وأَزْكى خَبَرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَيُّها مَوْصُولًا مَبْنِيًّا مَفْعُولًا لِيَنْظُرَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وأَزْكى خبر مبتدأ محذوف. وأَزْكى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ أَحَلُّ ذَبِيحَةٍ وَأَطْهَرُ لِأَنَّ عَامَّةَ بَلْدَتِهِمْ كَانُوا كُفَّارًا يَذْبَحُونَ لِلطَّوَاغِيتِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَحَلُّ طَعَامًا. قَالَ الضَّحَّاكُ:
وَكَانَ أَكْثَرُ أَمْوَالِهِمْ غُصُوبًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالُوا لَهُ لَا تَبْتَعْ طَعَامًا فِيهِ ظُلْمٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
أَكْثَرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَجْوَدُ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: أَطْيَبُ. وَقَالَ يَمَانُ بْنُ رَيَّانَ: أَرْخَصُ.
وَقِيلَ: أَكْثَرُ بَرَكَةً وَرِيعًا. وَقِيلَ: هُوَ الْأُرْزُ. وَقِيلَ: التَّمْرُ. وَقِيلَ: الزَّبِيبُ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ أَيْ أَهْلُهَا أَزْكى طَعاماً فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ عَائِدًا عَلَى الْمَدِينَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَذْفٌ فَيَكُونُ عَائِدَةً عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ أَيُّ الْمَآكِلِ.
وَفِي قَوْلِهِ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَمْلَ النَّفَقَةِ وَمَا يَصْلُحُ لِلْمُسَافِرِ هُوَ رَأْيُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ دُونَ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى الْإِنْفَاقَاتِ وَعَلَى مَا فِي أَوْعِيَةِ النَّاسِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَا لِهَذَا السَّفَرِ يَعْنِي سَفَرَ الْحَجِّ إِلَّا شَيْئَانِ شَدُّ الْهِمْيَانِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى الرَّحْمَنِ. وَلْيَتَلَطَّفْ فِي اخْتِفَائِهِ وَتَحَيُّلِهِ مَدْخَلًا وَمَخْرَجًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلْيَتَكَلَّفِ اللُّطْفَ وَالنِّيقَةَ فِيمَا يُبَاشِرُهُ مِنْ أَمْرِ الْمُبَايَعَةِ حَتَّى لَا يُغْبَنَ، أَوْ فِي أَمْرِ التَّخَفِّي حَتَّى لَا يُعْرَفَ انْتَهَى. وَالْوَجْهُ الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَلْيَتَلَطَّفْ بِكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ، وَعَنْ قُتَيْبَةَ الْمَيَّالِ وَلْيَتَلَطَّفْ بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَلا يُشْعِرَنَّ أَيْ لَا يَفْعَلُ مَا يُؤَدِّي مِنْ غَيْرِ
وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنْ كُفَّارِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى أَحَداً لِأَنَّ لَفْظَهُ لِلْعُمُومِ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ الضَّمِيرُ كَقَوْلِهِ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «١» فَفِي حَاجِزِينَ ضَمِيرُ جَمْعٍ عَائِدٌ عَلَى أَحَدٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْأَهْلِ الْمُقَدَّرِ فِي أَيُّها وَالظُّهُورُ هُنَا الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِمْ وَالْعِلْمُ بِمَكَانِهِمْ. وَقِيلَ: الْعُلُوُّ وَالْغَلَبَةُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ يُظْهَرُوا بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالظَّاهِرُ الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ وَكَانَ الْمَلِكُ عَازِمًا عَلَى قَتْلِهِمْ لَوْ ظَفَرَ بِهِمْ، وَالرَّجْمُ كَانَ عَادَةً فِيمَا سَلَفَ لِمَنْ خَالَفَ مِنَ النَّاسِ إِذْ هِيَ أَشَفَى وَلَهُمْ فِيهَا مُشَارَكَةٌ.
وَقَالَ حَجَّاجٌ: مَعْنَاهُ بِالْقَوْلِ يُرِيدُ السَّبَّ وَقَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ أَوْ يُعِيدُوكُمْ يُدْخِلُوكُمْ فِيهَا مُكْرَهِينَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الشَّيْءِ التَّلَبُّسُ بِهِ قَبْلَ إِذْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الصَّيْرُورَةُ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِنْ دَخَلْتُمْ في دينهم وإِذاً حَرْفُ جَزَاءٍ وَجَوَابٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا وَكَثِيرًا مَا يَتَّضِحُ تَقْدِيرُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ.
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً.
قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ التَّقْدِيرُ فَبَعَثُوا أَحَدَهُمْ وَنَظَرَ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا وَتَلَطَّفَ، وَلَمْ يُشْعِرْ بِهِمْ أَحَدًا فَأَطْلَعُ اللَّهُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى حَالِهِمْ وَقِصَّةُ ذَهَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ أَهْلِهَا، وَحَمْلِهِ إِلَى الْمَلِكِ وَادِّعَائِهِمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَصَابَ كَثِيرًا مِنْ كُنُوزِ الْأَقْدَمِينَ، وَحَمْلِ الْمَلِكِ وَمَنْ ذَهَبَ مَعَهُ إِلَيْهِمْ مَذْكُورٌ فِي التَّفَاسِيرِ ذَلِكَ بِأَطْوَلِ مِمَّا جَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَفَاصِيلِ ذَلِكَ، وَيُقَالُ عَثَرْتُ عَلَى الْأَمْرِ إِذَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ وَأَعْثَرَنِي غَيْرِي إِذَا أَطْلَعَنِي عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً «٢» وَمَفْعُولُ أَعْثَرْنا
(٢) سورة المائدة: ٥/ ١٠٧.
ووَعْدَ اللَّهِ هُوَ الْبَعْثُ لِأَنَّ حَالَتَهُمْ فِي نَوْمِهِمْ وَانْتِبَاهَتِهِمْ بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمُتَطَاوِلَةِ كَحَالِ مَنْ يَمُوتُ ثُمَّ يُبْعَثُ ولا رَيْبَ فِيهَا أَيْ لَا شَكَّ وَلَا ارْتِيَابَ فِي قِيَامِهَا وَالْمُجَازَاةِ فِيهَا، وَكَانَ الَّذِينَ أُعْثِرُوا عَلَى أَهْلِ الْكَهْفِ قَدْ دَخَلَتْهُمْ فِتْنَةٌ فِي أَمْرِ الْحَشْرِ وَبَعْثِ الْأَجْسَادِ مِنَ الْقُبُورِ، فَشَكَّ فِي ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ وَاسْتَبْعَدُوهُ. وَقَالُوا: تُحْشَرُ الْأَرْوَاحُ فَشَقَّ عَلَى مَلِكِهِمْ وَبَقِيَ حَيْرَانُ لَا يَدْرِي كَيْفَ يُبَيِّنُ أَمْرَهُ لَهُمْ حَتَّى لَبِسَ الْمُسُوحَ وَقَعَدَ عَلَى الرَّمَادِ، وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ فِي حُجَّةٍ وَبَيَانٍ، فَأَعْثَرَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكَهْفِ، فَلَمَّا بَعَثَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَبَيَّنَ النَّاسُ أَمْرَهُمْ سُرَّ الْمَلِكُ وَرَجَعَ مَنْ كَانَ شَكَّ فِي أَمْرِ بَعْثِ الْأَجْسَادِ إِلَى الْيَقِينِ، وَإِلَى هَذَا وَقَعْتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ وإِذْ مَعْمُولَةٌ لَأَعْثَرْنَا أَوْ لِيَعْلَمُوا. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ في ولِيَعْلَمُوا عَلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ آيَةً لَهُمْ دَالَّةً عَلَى بَعْثِ الْأَجْسَادِ مِنَ الْقُبُورِ. وَقَوْلُهُ إِذْ يَتَنازَعُونَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ابْتِدَاءُ خَبَرٍ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ بُعِثُوا عَلَى عَهْدِهِمْ، وَالتَّنَازُعُ إِذْ ذَاكَ فِي أَمْرِ الْبِنَاءِ وَالْمَسْجِدِ لَا فِي أَمْرِ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: التَّنَازُعُ إِنَّمَا هُوَ فِي أَنِ اطَّلَعُوا عَلَيْهِمْ. فَقَالَ بَعْضٌ: هُمْ أَمْوَاتٌ. وَقَالَ بَعْضٌ:
هُمْ أَحْيَاءٌ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلِكَ وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ انْطَلَقُوا مَعَ تَمْلِيخَا إِلَى الْكَهْفِ وَأَبْصَرُوهُمْ ثُمَّ قَالَتِ الْفِتْيَةُ لِلْمَلِكِ: نَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ وَنُعِيذُكَ بِهِ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَتَوَفَّى اللَّهُ أَنْفُسَهُمْ وَأَلْقَى الْمَلِكُ عَلَيْهِمْ ثِيَابَهُ، وَأَمَرَ فَجُعِلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ تَابُوتٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَرَآهُمْ فِي الْمَنَامِ كَارِهِينَ لِلذَّهَبِ فَجَعَلَهَا مِنَ السَّاجِ، وَبُنِيَ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ كَلَامِ الْمُتَنَازِعِينَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْقَوْلِ أَيْ أَمَرُوا بِالْبِنَاءِ وَأَخْبَرُوا بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَأَنَّهُمْ تَذَاكَرُوا أَمْرَهُمْ وَتَنَاقَلُوا الْكَلَامَ فِي أَنْسَابِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فَلَمَّا لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ قَالُوا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى رَدُّ الْقَوْلِ الْخَائِضِينَ فِي حَدِيثِهِمْ مِنْ أُولَئِكَ الْمُتَنَازِعِينَ أَوْ مِنَ الَّذِينَ تَنَازَعُوا فِيهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالَّذِينَ غُلِبُوا. قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْوُلَاةُ.
رُوِيَ أَنَّ طَائِفَةً ذَهَبَتْ إِلَى أَنْ يَطْمِسَ الْكَهْفَ عَلَيْهِمْ وَيُتْرَكُوا فِيهِ مُغَيَّبِينَ، وَقَالَتِ الطَّائِفَةُ الْغَالِبَةُ: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً فَاتَّخَذُوهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ الَّتِي دَعَتْ إِلَى الْبُنْيَانِ كَانَتْ كَافِرَةً أَرَادَتْ بِنَاءَ بِيعَةٍ أَوْ مَصْنَعٍ لِكُفْرِهِمْ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي سَيَقُولُونَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ وَهُمُ الْمُتَنَازِعُونَ فِي حَدِيثِهِمْ قَبْلَ ظُهُورِهِمْ عَلَيْهِمْ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِمَا كَانَ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْمِهِمْ فِي عَدَدِهِمْ وَكَوْنُ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى مَا قُلْنَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ تَنَاظَرُوا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَدَدِهِمْ. فَقَالَتِ الْمَلْكَانِيَّةُ: الْجُمْلَةَ الْأُولَى، وَالْيَعْقُوبِيَّةُ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ، وَالنَّسْطُورِيَّةُ الْجُمْلَةَ الثَّالِثَةَ، وَهَذَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ السَّيِّدَ قَالَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى وَكَانَ يَعْقُوبِيًّا، وَالْعَاقِبُ قَالَ الثَّانِيَةَ وَكَانَ نَسْطُورِيًّا، وَالْمُسْلِمُونَ قَالُوا الثَّالِثَةَ وَأَصَابُوا وَعَرَفُوا ذَلِكَ بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَتَكُونُ الضَّمَائِرُ فِي سَيَقُولُونَ وَيَقُولُونَ عَائِدًا بَعْضُهَا عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ، وَبَعْضُهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَعَنْ عَلِيٍّ هُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ أَسْمَاؤُهُمْ تَمْلِيخَا، وَمَكْشَلْبِينَا وَمَشَلْبِينَا هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ يَمِينِ الْمَلِكِ، وَكَانَ عَنْ يَسَارِهِ مَرْنُوشُ، وَدَبَرْنُوشُ، وَشَاذَنُوشُ وَكَانَ يستشير هَؤُلَاءِ السِّتَّةَ فِي أَمْرِهِ، وَالسَّابِعُ الرَّاعِي الَّذِي وَافَقَهُمْ، هَرَبُوا مِنْ مَلِكِهِمْ دِقْيَانُوسُ وَاسْمُ مَدِينَتِهِمْ أَفْسُوسُ وَاسْمُ كَلْبِهِمْ قِطْمِيرُ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ سَيَقُولُونَ يُرَادُ بِهِ أَهْلُ التَّوْرَاةِ مِنْ مُعَاصِرِي محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ أَهْلِ الْكَهْفِ هَذَا الِاخْتِلَافُ الْمَنْصُوصُ انْتَهَى.
قِيلَ: وَجَاءَ بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ فِي الْكَلَامِ طَيٌّ وَإِدْمَاجٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا أَجَبْتَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ وَقَصَصْتَ عَلَيْهِمْ قِصَّةَ أَهْلِ الْكَهْفِ فَسَلْهُمْ عَنْ عَدَدِهِمْ فَإِنَّهُمْ إِذَا سَأَلْتَهُمْ سَيَقُولُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ ثَلَاثَّ بِإِدْغَامِ الثَّاءِ فِي التَّاءِ، وَحَسُنَ ذَلِكَ لِقُرْبِ مَخْرِجِهِمَا وَكَوْنِهِمَا مَهْمُوسَيْنِ، لِأَنَّ السَّاكِنَ الَّذِي قَبْلَ الثَّاءِ مِنْ حُرُوفِ اللِّينِ فَحَسُنَ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ لَمْ يَأْتِ بِالسِّينِ فِيهِ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَدَخَلَ فِي الِاسْتِقْبَالِ، أَوْ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ الَّذِي هُوَ صَالِحٌ لَهُ. وَقَرَأَ شِبْلُ بْنُ عَبَّادٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِفَتْحِ مِيمٍ خَمْسَةٌ وَهِيَ لُغَةٌ كَعَشَرَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْمِيمِ وَبِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ، وَعَنْهُ أَيْضًا إِدْغَامُ التَّنْوِينِ فِي السِّينِ بِغَيْرِ غُنَّةٍ.
وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمْ | وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ |
وثَلاثَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ صِفَةٌ أَيْ هُمْ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا أَشْخَاصًا لِأَنَّ رابِعُهُمْ اسْمُ فَاعِلٍ أُضِيفَ إِلَى الضَّمِيرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ رَبَّعَهُمْ أَيْ جَعَلَهُمْ أَرْبَعَةً وَصَيَّرَهُمْ إِلَى هَذَا الْعَدَدِ، فَلَوْ قَدَّرَ ثَلاثَةٌ رِجَالٌ اسْتَحَالَ أَنْ يَصِيرَ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ أَرْبَعَةً لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ، وَالْوَاوُ فِي وَثامِنُهُمْ لِلْعَطْفِ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ أَيْ يَقُولُونَ هُمْ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فَأَخْبَرُوا أَوَّلًا بِسَبْعَةِ رِجَالٍ جَزْمًا، ثُمَّ أَخْبَرُوا إِخْبَارًا ثَانِيًا أَنَّ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ بِخِلَافِ الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَصَفَ الْمُحَدَّثَ عَنْهُ بِصِفَةٍ، وَلَمْ يَعْطِفِ الْجُمْلَةَ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَابْنِ خَالَوَيْهِ أَنَّهَا وَاوُ الثَّمَانِيَةِ، وَأَنَّ قُرَيْشًا إِذَا تَحَدَّثْتُ تَقُولُ سِتَّةٌ سَبْعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ تِسْعَةٌ فَتُدْخِلُ الْوَاوَ فِي الثَّمَانِيَةِ، وَكَوْنُهُمَا جُمْلَتَيْنِ مَعْطُوفٌ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى مُؤْذِنٌ بِالتَّثْبِيتِ فِي الْإِخْبَارِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِشَيْءٍ مَوْصُوفٍ بِشَيْءٍ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنِ الْإِخْبَارِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِيهِ رَجْماً بِالْغَيْبِ ولم يجىء فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ بِشَيْءٍ يقدح فيهما. وقرىء وَثَامِنُهُمْ كَالِبُهُمْ أَيْ صَاحِبُ كَلْبِهِمْ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةُ رِجَالٍ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَأَوَّلِ قَوْلِهِ وَكَلْبُهُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَصَاحِبُ كَلْبِهِمْ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَثامِنُهُمْ لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِمْ بَلْ لِقَوْلِهِمْ هُوَ قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ، وَإِذَا كَانَ اسْتِئْنَافًا مِنَ اللَّهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةٌ بِالْكَلْبِ، وَأَمَّا رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وسادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحْكِيِّ مِنْ قَوْلِهِمْ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا هَذِهِ الْوَاوِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الثَّالِثَةِ وَلِمَ دَخَلَتْ عَلَيْهَا دُونَ الْأُولَتَيْنِ؟ قُلْتُ: هِيَ الْوَاوُ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ كَمَا تَدْخُلَ عَلَى الْوَاقِعَةِ حَالًا عَنِ الْمَعْرِفَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: جَاءَنِي رَجُلٌ وَمَعَهُ آخَرُ، وَمَرَّرْتُ بِزَيْدٍ وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَعَلَا وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ «١» وَفَائِدَتُهَا تَوْكِيدُ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى اتِّصَافِهِ أَمْرٌ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ، وَهِيَ الْوَاوُ الَّتِي آذَنَتْ بِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قَالُوهُ عَنْ ثَبَاتِ عِلْمٍ وَطُمَأْنِينَةِ نَفْسِ وَلَمْ يَرْجُمُوا بِالظَّنِّ كَمَا غَيْرُهُمُ انْتَهَى.
وَكَوْنُ الْوَاوِ تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً دَالَّةً عَلَى لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ وَعَلَى ثُبُوتِ اتِّصَالِهِ بِهَا شَيْءٌ لَا يَعْرِفُهُ النَّحْوِيُّونَ، بَلْ قَرَّرُوا أَنَّهُ لَا تَعْطِفُ الصِّفَةَ الَّتِي لَيْسَتْ بِجُمْلَةٍ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى إِلَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الْمَعَانِي حَتَّى يَكُونَ الْعَطْفُ دَالًّا عَلَى الْمُغَايَرَةِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَخْتَلِفْ فَلَا يَجُوزُ الْعَطْفُ هَذَا فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ، وَأَمَّا الْجُمَلُ الَّتِي تَقَعُ صِفَةً فَهِيَ أَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ فِيهَا، وَقَدْ رَدُّوا عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ، وَأَمَّا مَا جَاءَ لِمَعْنًى وَلَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ هُوَ عَلَى أَنَّ وَلَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ لِمَعْنًى، وَأَنَّ الْوَاوَ دَخَلَتْ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَيَأْكُلُ عَلَى تَقْدِيرِ الصِّفَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا وَلَها فَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَيَكْفِي رَدًّا لِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ النَّحْوِ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ مَقَالَتِهِمْ وَاضْطِرَابِهِمْ فِي عَدَدِهِمْ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أَيْ لَا يُخْبِرُ بِعَدَدِهِمْ إِلَّا مَنْ يَعْلَمُهُمْ حَقِيقَةً وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وَالْمُثْبَتُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْأَعْلَمِيَّةُ وَفِي حَقِّ الْقَلِيلِ الْعَالَمِيَّةُ فَلَا تَعَارُضَ. قِيلَ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الْعُلَمَاءِ وَعِلْمُ الْقَلِيلِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ، ثُمَّ نَهَاهُ تَعَالَى عَنِ الْجِدَالِ فِيهِمْ أَيْ فِي عِدَّتِهِمْ، وَالْمِرَاءِ وَسَمَّى مُرَاجَعَتَهُ لَهُمْ مِراءً عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ لِمُمَارَاةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ ظَاهِرًا أَيْ غَيْرُ مُتَعَمِّقٍ فِيهِ وَهُوَ إن نقص عَلَيْهِمْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ فَحَسْبُ مِنْ غَيْرِ تَجْهِيلٍ وَلَا تَعْنِيفٍ كَمَا قَالَ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «٢». وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِراءً
(٢) سورة النحل: ١٦/ ١٢٥.
وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: ظاهِراً يَشْهَدُهُ النَّاسُ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: ظاهِراً ذَاهِبًا بِحُجَّةِ الْخَصْمِ.
وَأَنْشَدَ:
وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا أَيْ ذَاهِبٌ، ثُمَّ نَهَاهُ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ قِصَّتِهِمْ لَا سُؤَالَ مُتَعَنِّتٍ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا أَمَرْتُ بِهِ مِنَ الْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَلَا سُؤَالَ مُسْتَرْشِدٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرْشَدَكَ بِأَنْ أَوْحَى إِلَيْكَ قِصَّتَهُمْ، ثُمَّ نَهَاهُ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ شَيْئًا إِلَّا وَيَقْرِنُ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقَدَّمَ
فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ سَأَلَهُ قُرَيْشٌ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَالْخَضِرِ وَالرُّوحِ قَالَ: «غَدًا أخبركم». وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَتَأَخَّرَ عَنْهُ الْوَحْيُ مُدَّةً. قِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ
وإِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْقَوْلِ، فَيَكُونُ مِنَ الْمَقُولِ وَلَا يَنْهَاهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَا يمكن يَنْهِيَ عَنْهُ، فَاحْتِيجَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الظَّاهِرِ إِلَى تَقْدِيرٍ.
فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ وَيُحَسِّنُهُ الْإِيجَازُ تَقْدِيرُهُ إِلَّا أَنْ تَقُولَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أَوْ إِلَّا أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ تَذْكُرَ مَشِيئَةَ اللَّهِ فَلَيْسَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّهْيِ لَا بِقَوْلِهِ إِنِّي فاعِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ إِنِّي فاعِلٌ كَذَا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ كَانَ مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ تَعْتَرِضَ مَشِيئَةُ اللَّهِ دُونَ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ مَا لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلنَّهْيِ وَتَعَلُّقُهُ بِالنَّهْيِ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: وَلَا تَقُولَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقُولَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيهِ.
وَالثَّانِي: وَلَا تَقُولَنَّهُ إِلَّا بِأَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَيْ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ إِلَّا مُلْتَبِسًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ قَائِلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فِي مَعْنَى كَلِمَةٍ ثَانِيَةٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَقُولَنَّهُ أَبَدًا وَنَحْوَهُ وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا «١» لِأَنَّ عَوْدَهُمْ فِي مِلَّتِهِمْ مِمَّا لَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَهَذَا نَهْيُ تَأْدِيبٍ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ حِينَ
قَالَ: «ائْتُونِي غَدًا أُخْبِرْكُمْ».
وَلَمْ يَسْتَثْنِ انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلا تَقُولَنَّ وحكاه الطبري، ورد
ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالنَّهْيِ، وَتَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ، وَلَيْسَتِ الْآيَةُ فِي الْأَيْمَانِ وَالظَّاهِرُ أَمْرُهُ تَعَالَى بِذِكْرِ اللَّهِ إِذَا عَرَضَ لَهُ نِسْيَانٌ، وَمُتَعَلِّقُ النِّسْيَانِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ الذِّكْرِ. فَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا تَرَكْتَ بَعْضَ مَا أَمَرَكَ بِهِ. وَقِيلَ وَاذْكُرْهُ إِذَا اعْتَرَاكَ النِّسْيَانُ لِيُذَكِّرَكَ الْمَنْسِيَّ، وَقَدْ حَمَلَ قَتَادَةُ ذَلِكَ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِهَا. وَقِيلَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ بِالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِذا نَسِيتَ كلمة الاستثناء تَشْدِيدًا فِي الْبَعْثِ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهَا. وَقِيلَ: وَاذْكُرْ مَشِيئَةَ رَبَّكَ إِذَا فَرَطَ مِنْكَ نِسْيَانٌ لِذَلِكَ أَيْ إِذا نَسِيتَ كلمة الاستثناء ثُمَّ تَنَبَّهْتَ لَهَا، فَتَدَارَكْتَهَا بِالذِّكْرِ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ:
وَلَوْ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: بَعْدَ تَقَضِّي النِّسْيَانِ كَمَا تَقُولُ: اذْكُرْ لِعَبْدِ اللَّهِ إِذَا صَلَّى صَاحِبُكَ أَيْ إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا إِلَى الشَّيْءِ الْمَنْسِيِّ أَيِ اذْكُرْ رَبَّكَ عِنْدَ نِسْيَانِهِ بِأَنْ تقول عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِشَيْءٍ آخَرَ بَدَلَ هَذَا الْمَنْسِيِّ أَقْرَبَ مِنْهُ رَشَداً وَأَدْنَى خَيْرًا أَوْ مَنْفَعَةً، وَلَعَلَّ النِّسْيَانَ كَانَ خَيْرَةً كَقَوْلِهِ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها «١». وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى بِنَاءِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَمَعْنَاهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُؤْتِينِي مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْحُجَجِ عَلَى أَنِّي نَبِيٌّ صَادِقٌ مَا هُوَ أَعْظَمُ فِي الدَّلَالَةِ وَأَقْرَبُ رَشَدًا مِنْ بِنَاءِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ حَيْثُ آتَاهُ مِنْ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَدَلُّ انْتَهَى.
وَهَذَا تَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ قَالَ الْمَعْنَى: عَسى أَنْ يُيَسِّرَ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى نُبُوَّتِي أَقْرَبَ مِنْ دَلِيلِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: عَسى أَنْ يُعَرِّفَنِي جَوَابَ مَسَائِلِكُمْ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي حَدَّدْتُهُ لَكُمْ وَيُعَجِّلَ لِي مِنْ جِهَتِهِ الرَّشَادَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْكُوفِيُّ الْمُفَسِّرُ: هِيَ بِأَلْفَاظِهَا مِمَّا أُمِرَ أَنْ يَقُولَهَا كُلُّ مَنْ لَمْ يَسْتَثْنِ وَإِنَّهَا كَفَّارَةٌ لِنِسْيَانِ الاستثناء.
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً.
الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَبِثُوا الْآيَةَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ نِيَامًا فِي الْكَهْفِ إِلَى أَنْ أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً «٢» وَلَمَّا تَحَرَّرَ هَذَا الْعَدَدُ بِإِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ قُلِ اللَّهُ
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ١١.
وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ وَازْدَادُوا تِسْعاً كَانَتِ التِّسْعَةُ مُنْبَهِمَةً هِيَ السَّاعَاتُ وَالْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ وَالْأَعْوَامُ، وَاخْتَلَفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَأَمَرَهُ تَعَالَى بِرَدِّ الْعِلْمِ إِلَيْهِ يَعْنِي فِي التِّسْعِ وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّهُ إِذَا سَبَقَ عَدَدٌ مُفَسِّرٌ وَعُطِفَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُفَسَّرْ حُمِلَ تَفْسِيرُهُ عَلَى السَّابِقِ.
وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ شَمْسِيَّةٌ، وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لِلْعَرَبِ زِيدَتِ التِّسْعُ إِذْ حِسَابُ الْعَرَبِ هُوَ بِالْقَمَرِ لِاتِّفَاقِ الْحِسَابَيْنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ: لَبِثُوا إِخْبَارٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالُوا لَبِثُوا وَعَلَى غَيْرِ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ سَيَقُولُونَ «١».
ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ بِما لَبِثُوا رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَفْنِيدًا لِمَقَالَتِهِمْ. قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمُتَنَازِعِينَ فِي أَمْرِهِمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مُقْتَضَى سِيَاقِ الْآيَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا
جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْغُيُوبِ الَّتِي هُوَ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِائَةٌ بِالتَّنْوِينِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى الْبَدَلِ أَوْ عَطْفِ الْبَيَانِ. وَقِيلَ: عَلَى التَّفْسِيرِ وَالتَّمْيِيزِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفُ بَيَانٍ لِثَلَاثِمِائَةٍ. وَحَكَى أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ قَوْمًا أَجَازُوا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مِائَةٍ لِأَنَّ مِائَةً فِي مَعْنَى مِئَاتٍ، فَأَمَّا عَطْفِ الْبَيَانِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا نَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ فَالْمَحْفُوظُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ الْمَشْهُورُ أَنَّ مِائَةً لَا يُفَسَّرُ إِلَّا بِمُفْرَدٍ مَجْرُورٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ إِذَا عَاشَ الْفَتَى مِائَتَيْنِ عَامًا مِنَ الضَّرُورَاتِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ كَوْنُ سِنِينَ جَمْعًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَطَلْحَةُ وَيَحْيَى وَالْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وخلف وابن سعدان وابن عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ مِائَةً بِغَيْرِ تَنْوِينٍ مُضَافًا إِلَى سِنِينَ أَوْقَعَ الْجَمْعَ مَوْقِعَ الْمُفْرَدِ، وَأَنْحَى أَبُو حَاتِمٍ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذِهِ تُضَافُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى الْمُفْرَدِ، وَقَدْ تُضَافُ إِلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ سَنَةً وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: سُنُونَ بِالْوَاوِ عَلَى إِضْمَارِ هِيَ سُنُونَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ اللُّؤْلُؤَيِّ عَنْهُ تِسْعاً بِفَتْحِ التَّاءِ كَمَا قَالُوا عَشْرَ.
ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِصَاصَهُ بِمَا غاب في السموات وَالْأَرْضِ وَخَفِيَ فِيهَا مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِهَا، وَجَاءَ بِمَا دَلَّ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْ إِدْرَاكِهِ لِلْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ فِي الإدراك
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مَا لَهُمْ قال الزمخشري: لأهل السموات وَالْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ مُتَوَلٍّ لِأُمُورِهِمْ وَلا يُشْرِكُ فِي قَضَائِهِ أَحَداً مِنْهُمْ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ على أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَيْ هَذِهِ قُدْرَتُهُ وَحْدَهُ. وَلَمْ يُوالِهِمْ غَيْرَهُ يَتَلَطَّفُ بِهِمْ وَلَا أَشْرَكَ مَعَهُ أَحَدًا فِي هَذَا الْحُكْمِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مُعَاصِرِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ وَمُشَاقِّيهِ، وَتَكُونُ الْآيَةُ اعْتِرَاضًا بِتَهْدِيدٍ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مُؤْمِنِي أهل السموات وَالْأَرْضِ أَيْ لَنْ يَتَّخِذَ مِنْ دُونِهِ وَلِيًّا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ يَتَوَلَّى تَدْبِيرَهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ أَعْلَمَ مِنْهُ؟ أَوْ كَيْفَ يَعْلَمُونَ مِنْ غَيْرِ إِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ؟
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا يُشْرِكُ بِالْيَاءِ عَلَى النَّفْيِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ بِالْيَاءِ وَالْجَزْمِ. قَالَ يَعْقُوبُ: لَا أَعْرِفُ وَجْهَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَزَيْدٌ وَحُمَيْدٌ ابْنُ الْوَزِيرِ عَنْ يَعْقُوبَ وَالْجُعْفِيِّ وَاللُّؤْلُؤِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: وَلَا تُشْرِكْ بِالتَّاءِ وَالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ.
وَلَمَّا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ أَمَرَهُ بِأَنْ يَقُصَّ وَيَتْلُوَ عَلَى مُعَاصِرِيهِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ تَعَالَى مِنْ كِتَابِهِ فِي قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَفِي غَيْرِهِمْ، وَأَنَّ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ لا مُبَدِّلَ له ولا مُبَدِّلَ عام ولِكَلِماتِهِ عَامٌّ أَيْضًا فَالتَّخْصِيصُ إِمَّا فِي لَا مُبَدِّلَ أَيْ لَا مُبَدِّلَ لَهُ سِوَاهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ «١» وَإِمَّا فِي كَلِمَاتِهِ أَيْ لِكَلِماتِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ الْخَبَرَ لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَ غَيْرَ الْخَبَرِ وَقَعَ النَّسْخُ فِي بَعْضِهِ، وَفِي أَمْرِهِ تَعَالَى أَنْ يَتْلُوَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَبْدِيلِ الْمُتَنَازِعِينَ فِي أَهْلِ الْكَهْفِ، وَتَحْرِيفِ أَخْبَارِهِمْ وَالْمُلْتَحَدُ الْمُلْتَجَأُ الَّذِي تَمِيلُ إِلَيْهِ وتعدل.
قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لَوْ أَبْعَدْتَ هَؤُلَاءِ عَنْ نَفْسِكَ لَجَالَسْنَاكَ وَصَحَبْنَاكَ، يَعْنُونَ عَمَّارًا وَصُهَيْبًا وَسَلْمَانَ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَبِلَالًا وَنَحْوَهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّ ريح جبابهم تُؤْذِينَا، فَنَزَلَتْ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
الْآيَةَ، وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ عُيَيْنَةُ بْنُ حصين وَالْأَقْرَعُ وَذَوُوهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ فَنَزَلَتْ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مَدَنِيَّةٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَفَعَلَ الْمُؤَلَّفَةُ فِعْلَ قُرَيْشٍ فَرَدَّ بِالْآيَةِ عَلَيْهِمْ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أَيِ احْبِسْهَا وَثَبِّتْهَا. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً | تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ |
، ومَعَ تَقْتَضِي الصُّحْبَةَ وَالْمُوافَقَةَ وَالْأَمْرُ بِالصَّبْرِ هُنَا يَظْهَرُ مِنْهُ كَبِيرُ اعْتِنَاءٍ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُمِرَ أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ. وَهِيَ أَبْلَغُ مِنَ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ «١» الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ:
بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ أَيْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ دَائِمًا، وَيَكُونُ مِثْلَ: ضَرَبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ يُرِيدُ جَمِيعَ بَدَنِهِ لَا خُصُوصَ الْمَدْلُولِ بِالْوَضْعِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قِرَاءَةً وَإِعْرَابًا فِي الْأَنْعَامِ.
وَلا تَعْدُ أَيْ لَا تَصْرِفْ عَيْناكَ النَّظَرَ عَنْهُمْ إِلَى أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَعَدَا مُتَعَدٍّ تَقُولُ:
عَدَا فُلَانٌ طَوْرَهُ وَجَاءَ الْقَوْمُ عَدَا زَيْدًا، فَلِذَلِكَ قَدَّرْنَا الْمَفْعُولَ مَحْذُوفًا لِيَبْقَى الْفِعْلُ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ التَّعْدِيَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِعْنَ لِتَضْمِينِ عَدَا مَعْنَى نَبَا وَعَلَا فِي قَوْلِكَ: نَبَتْ عَنْهُ عَيْنُهُ، وَعَلَتْ عَنْهُ عَيْنُهُ إِذَا اقْتَحَمْتَهُ وَلَمْ تَعْلَقْ بِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ غَرَضٍ فِي هَذَا التَّضْمِينِ؟ وَهَلَّا قِيلَ وَلَا تَعْدُهُمْ عَيْنَاكَ أَوْ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ. قُلْتُ: الْغَرَضُ فِيهِ إِعْطَاءُ مَجْمُوعِ مَعْنَيَيْنِ. وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ إِعْطَاءِ مَعْنًى فَذٍّ، أَلَا تَرَى كَيْفَ رَجَعَ الْمَعْنَى إِلَى قَوْلِكَ وَلَا تَقْتَحِمُهُمْ عَيْنَاكَ مُجَاوَزِينَ إِلَى غَيْرِهِمْ وَنَحْوَ قَوْلِهِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «٢» أَيْ وَلَا تَضُمُّوهَا إِلَيْهَا آكِلِينَ لَهَا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّضْمِينِ لَا يَنْقَاسُ عند
(٢) سورة النساء: ٤/ ٢.
فَعُدْ عَمَّا تَرَى إِذْ لَا ارْتِجَاعَ لَهُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَعُدْ هَمَّكَ عَمَّا تَرَى انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا عَدَّيْتُهُ بِالتَّضْعِيفِ كَمَا كَانَ فِي الْأُولَى بِالْهَمْزِ، وَمَا ذَهَبَا إِلَيْهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلِ الْهَمْزَةُ وَالتَّكْثِيرُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَيْسَا لِلتَّعْدِيَةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمُوافَقَةِ أَفْعَلَ وَفُعِلَ لِلْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُجَرَّدًا مُتَعَدٍّ وَقَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: يُقَالُ عَدَاهُ إِذَا جَاوَزَهُ، ثُمَّ قَالَ:
وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِعْنَ لِلتَّضْمِينِ وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّضْمِينِ هُوَ مَجَازٌ وَلَا يَتَّسِعُونَ فِيهِ إِذَا ضَمَّنُوهُ فَيُعَدُّونَهُ بِالْهَمْزَةِ أَوِ التَّضْعِيفِ، وَلَوْ عُدِّيَ بِهِمَا وَهُوَ مُتَعَدٍّ لَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ نَاصِبٌ مَفْعُولًا وَاحِدًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُعَدًّى بِهِمَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْحَالِ: إِنْ قُدِّرَ عَيْناكَ فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ تُرِيدَانِ، وَإِنْ قُدِّرَ الْكَافُ فَمَجِيءُ الْحَالِ مِنَ الْمَجْرُورِ بِالْإِضَافَةِ مِثْلُ هَذَا فِيهَا إِشْكَالٌ لِاخْتِلَافِ الْعَامِلِ فِي الْحَالِ وَذِي الْحَالِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ جُزْءًا أَوْ كَالْجُزْءِ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ هُنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَالْمَيْلِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِقَوْلِهِ عَيْناكَ وَالْمَقْصُودُ هُوَ لِأَنَّهُمَا بِهِمَا تَكُونُ الْمُرَاعَاةُ لِلشَّخْصِ وَالتَّلَفُّتُ لَهُ، وَالْمَعْنَى وَلا تَعْدُ أَنْتَ عَنْهُمْ النَّظَرَ إِلَى غَيْرِهِمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ مَنْ جَعَلْنَا قَلْبَهُ غَافِلًا عَنِ الذِّكْرِ بِالْخِذْلَانِ أَوْ وَجَدْنَاهُ غَافِلًا عَنْهُ كَقَوْلِكَ: أَجْبَنْتُهُ وَأَفْحَمْتُهُ وَأَبْخَلْتُهُ إِذَا وَجَدْتُهُ كَذَلِكَ، أَوْ مِنْ أَغْفَلَ إِبِلَهُ إِذَا تَرَكَهَا بِغَيْرِ سِمَةٍ أَيْ لَمْ نَسِمْهُ بِالذِّكْرِ، وَلَمْ نَجْعَلْهُمْ مِنَ الَّذِينَ كَتَبْنَا فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ تَوَهُّمَ الْمُجْبِرَةِ بِقَوْلِهِ وَاتَّبَعَ هَواهُ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالتَّأْوِيلُ الْآخَرُ تَأْوِيلُ الرُّمَّانِيِّ وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا قَالَ: لَمْ نَسِمْهُ بِمَا نَسِمُ بِهِ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُبَيَّنُ بِهِ، فَلَاحُهُمْ كَمَا قَالَ: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ بِعِيرٌ غُفْلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سِمَةٌ، وَكِتَابٌ غُفْلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِعْجَامٌ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْفَلَهُ حَقِيقَةً وَهُوَ خَالِقُ الضَّلَالِ فِيهِ وَالْغَفْلَةِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: أَخْلَيْنَاهُ عَنِ الذِّكْرِ وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
عُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ.
وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ فَائِدٍ وَمُوسَى الْأَسْوَارِيُّ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ أَغْفَلْنا بِفَتْحِ اللَّامِ قَلْبَهُ بِضَمِّ الْبَاءِ أَسْنَدَ الْأَفْعَالَ إِلَى الْقَلْبِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي مَنْ ظَنَنَّا غَافِلِينَ عَنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
حَسِبْنَا قَلْبَهُ غَافِلِينَ مِنْ أَغْفَلْتُهُ إِذَا وَجَدْتُهُ غَافِلًا انْتَهَى. وَاتَّبَعَ هَواهُ فِي طَلَبِ الشَّهَوَاتِ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً. قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: ضَيَاعًا. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: سَرَفًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَتْرُوكًا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ. قِيلَ: وَهُوَ قَوْلُ عُتْبَةَ إِنْ أَسْلَمْنَا أَسْلَمَ النَّاسُ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْفَرَطُ الْعَاجِلُ السَّرِيعُ، كَمَا قَالَ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «١».
وَقِيلَ: نَدَمًا. وَقِيلَ: بَاطِلًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مُخَالِفًا لِلْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْفَرَطُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّفْرِيطِ وَالتَّضْيِيعِ، أَيْ أَمْرُهُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِفْرَاطِ وَالْإِسْرَافِ أَيْ أَمْرُهُ وهَواهُ الَّذِي هُوَ بِسَبِيلِهِ انتهى.
والْحَقُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْحَقُّ أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ أَوْ هَذَا الْإِعْرَاضُ عَنْكُمْ وَتَرْكُ الطَّاعَةِ لَكُمْ وَصَبْرُ النَّفْسِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحَقُّ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالْمَعْنَى جَاءَ الْحَقُّ وَزَاحَتِ الْعِلَلُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اخْتِيَارُكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ مَا شِئْتُمْ مِنَ الْأَخْذِ فِي طَرِيقِ النَّجَاةِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْهَلَاكِ، وَجِيءَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَالتَّخْيِيرِ لِأَنَّهُ لَمَّا مُكِّنَ مِنَ اخْتِيَارِ أَيِّهِمَا شَاءَ فَكَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَتَخَيَّرَ مَا شَاءَ مِنَ النَّجْدَيْنِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرَهُ مِنْ رَبِّكُمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ التَّوْحِيدُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: أَيِ الْهُدَى وَالتَّوْفِيقُ وَالْخِذْلَانُ مِنْ عِنْدِ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَيُوَفِّقُهُ فَيُؤْمِنُ، وَيَضِلُّ مَنْ يَشَاءُ فَيَخْذُلُهُ فَيَكْفُرُ لَيْسَ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَيِ الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ، وَهَذَا الَّذِي لَفْظُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ مَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «٢» وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاعِلَ بِشَاءَ عَائِدٌ عَلَى مِنْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ بِالْإِيمَانِ آمَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا انْتَهَى. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ فِرْقَةٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي شاءَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ تَابِعَيْنِ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ جَاءَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ حَتَّى كَأَنَّهُ تَحَتَّمَ وُقُوعُهُ مَأْمُورٌ بِهِ مَطْلُوبٌ مِنْهُ. وَقَرَأَ أبو السمال
(٢) سورة الإنسان: ٧٦/ ٣٠.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ أَعْقَبَ بِمَا أَعَدَّ لَهُمَا فَذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ يَلِي قَوْلَهُ فَلْيَكْفُرْ وَأَتَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مَعَ الْكُفَّارِ وَفِي سِيَاقِ مَا طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كانت الْبَدَاءَةُ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ أَهَمَّ وَآكَدَ، وَهُمَا طَرِيقَانِ لِلْعَرَبِ هَذِهِ الطَّرِيقُ وَالْأُخْرَى أَنَّهُ يَجْعَلُ الْأَوَّلَ فِي التَّقْسِيمِ لِلْأَوَّلِ فِي الذِّكْرِ، وَالثَّانِي لِلثَّانِي. وَالسُّرَادِقُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَائِطٌ مِنْ نَارٍ مُحِيطٍ بِهِمْ. وَحَكَى أَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ بِالدُّنْيَا. وَحَكَى الْكَلْبِيُّ: أَنَّهُ عُنُقٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ فَيُحِيطُ بِالْكُفَّارِ. وَقِيلَ: دُخَانٌ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يَطْلُبُوا الْغَوْثَ مِمَّا حَلَّ بِهِمْ مِنَ النَّارِ وَشِدَّةِ إِحْرَاقِهَا وَاشْتِدَادِ عَطَشِهِمْ يُغاثُوا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ وَإِلَّا فَلَيْسَتْ إِغَاثَةً.
وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَكَرُ الزَّيْتِ إِذَا قَرُبَ مِنْهُ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَاءٌ غَلِيظٌ مِثْلُ دَرْدِيِّ الزَّيْتِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ الْقَيْحُ وَالدَّمُ الْأَسْوَدُ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: كُلُّ شَيْءٍ ذَائِبٍ قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ الصَّدِيدُ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ الرَّمَادُ الَّذِي ينفظ إِذَا خَرَجَ مِنَ التَّنُّورِ. وَقِيلَ: ضَرْبٌ مِنَ الْقَطِرَانِ.
ويَشْوِي فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَاءٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ فَحَسُنَ مَجِيءُ الْحَالِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْوُجُوهَ لِكَوْنِهَا عِنْدَ شُرْبِهِمْ يَقْرُبُ حَرُّهَا مِنْ وُجُوهِهِمْ.
وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْوُجُوهِ عَنْ جَمِيعِ أَبْدَانِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْضِجُ بِهِ جَمِيعُ جُلُودِهِمْ كَقَوْلِهِ كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ «١» وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بِئْسَ الشَّرابُ هُوَ أَيِ الْمَاءُ الَّذِي يُغَاثُونَ بِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي ساءَتْ عَائِدٌ عَلَى النَّارِ. وَالْمُرْتَفَقُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْمَنْزِلُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمَقَرُّ. وَقَالَ الْقُتْبِيُّ: الْمَجْلِسُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُجْتَمَعُ، وَأَنْكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يُعْرَفَ لِقَوْلِ مُجَاهِدٍ مَعْنًى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ مجاهدا ذَهَبَ إِلَى مَعْنَى الرَّفَاقَةِ وَمِنْهُ الرُّفْقَةُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُتَّكَأُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُتَّكَأُ عَلَى الْمِرْفَقِ، وَأَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: مُتَّكَأٌ مِنَ الْمِرْفَقِ وَهَذَا لِمُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً «٢» وَإِلَّا فَلَا
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٣١.
وَالْمَعْنَى بِئْسَ الرُّفَقَاءُ هَؤُلَاءِ، وَبِئْسَ مَوْضِعُ التَّرَافُقِ النَّارُ.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي النَّارِ ذَكَرَ حَالَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَخَبَرُ إِنَّ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ إِنَّا لَا نُضِيعُ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الِاعْتِرَاضِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ أَلْبَسَهُ | سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ |
وَإِذَا كَانَ خَبَرُ إِنَّ قوله إِنَّا لا نُضِيعُ كَانَ قَوْلُهُ أُولئِكَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ مُوَضِّحٍ لِمَا أَنَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِ إِنَّا لَا نُضِيعُ مِنْ مُبْهَمِ الْجَزَاءِ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ لَا نُضِيعُ مِنْ ضَيَّعَ عَدَّاهُ بِالتَّضْعِيفِ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَضَاعَ عَدَّوْهُ بِالْهَمْزَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ مَكَانَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَهُوَ النَّارُ. ذَكَرَ مَكَانَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَهِيَ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَلَمَّا ذَكَرَ هُنَاكَ مَا يُغَاثُونَ بِهِ وَهُوَ الْمَاءُ كَالْمُهْلِ ذَكَرَ هُنَا مَا خَصَّ بِهِ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ كَوْنِ الْأَنْهَارِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّحْلِيَةِ وَاللِّبَاسِ اللَّذَيْنِ هُمَا زِينَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُحَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةَ أَسَاوِرَ سُوارٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَسُوارٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَسَوَارٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ ويواقيت.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلَانِ رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَتْحُ الْقَافِ وَصَرَفَهُ التَّنْوِينُ، وَذَكَرَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي قِرَاءَةَ فَتْحِ الْقَافِ، وَقَالَ: هَذَا سَهْوٌ أَوْ كَالسَّهْوِ انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعْلَهُ اسْمًا وَمَنْعَهُ مِنَ الصَّرْفِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَلَمٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ جَعْلُهُ فِعْلًا مَاضِيًا فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ سَهْوًا. قال الزمخشري: وجمع بين السُّنْدُسِ وَهُوَ مَا رَقَّ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَبَيْنَ الْإِسْتَبْرَقِ وَهُوَ الْغَلِيظُ مِنْهُ جَمْعًا بَيْنَ النَّوْعَيْنِ، وَقُدِّمَتِ التَّحْلِيَةُ عَلَى اللِّبَاسِ لِأَنَّ الْحُلِيَّ فِي النَّفْسِ أَعْظَمُ وَإِلَى الْقَلْبِ أَحَبُّ، وَفِي الْقِيمَةِ أَغْلَى، وَفِي الْعَيْنِ أَحْلَى، وَبِنَاءُ فِعْلِهِ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ يُكْرَمُونَ بِذَلِكَ وَلَا يَتَعَاطَوْنَ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
غَرَائِرُ فِي كَنٍّ وَصَوْنٍ وَنِعْمَةٍ | تَحَلَّيْنَ يَاقُوتًا وَشَذَرًا مُفَقِّرَا |
أَرْبَعَةٌ مُذْهِبَةٌ لِكُلِّ هَمٍّ وَحُزْنٍ | الْمَاءُ وَالْخُضْرَةُ وَالْبُسْتَانُ وَالْوَجْهُ الْحَسَنُ |
فَمَا أَصْبَحَتْ عَلَرْضِ نَفْسٌ بَرِيَّةٌ | وَلَا غَيْرُهَا إِلَّا سُلَيْمَانَ بَالَهَا |
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٢ الى ٤٤]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
حَفَّهُ: طَافَ بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
يَحُفُّهُ جانبا نيق وَيَتْبَعُهُ | مِثْلُ الزُّجَاجَةِ لَمْ يكحل من الرمد |
الْبَيْدُودَةُ الْهَلَاكُ، وَيُقَالُ مِنْهُ: بَادَ يُبِيدُ بُيُودًا وَبَيْدُودَةً. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَئِنْ بَادَ أَهْلُهُ | لَبِمَا كَانَ يَوْهَلُ |
وَفِي الْحَدِيثِ: جَاءَ وَرَأَسُهُ يَنْطِفُ مَاءً أَيْ يَقْطُرُ.
الْحُسْبَانُ فِي اللُّغَةِ الْحِسَابُ، وَيَأْتِي أَقْوَالُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِيهِ. الزَّلَقُ: مَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ الْقَدَمُ مِنَ الْأَرْضِ.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً.
قِيلَ نَزَلَتْ فِي أَخَوَيْنِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ وَكَانَ كَافِرًا، وَأَبِي سَلَمَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَسْوَدِ كَانَ مُؤْمِنًا. وَقِيلَ: أَخَوَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرْطُوسُ وَهُوَ الْكَافِرُ وَقِيلَ: اسْمُهُ قِطْفِيرُ، وَيَهُوذَا وَهُوَ الْمُؤْمِنُ فِي قَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْمُهُ تَمْلِيخَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الصَّافَّاتِ فِي قَوْلِهِ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ «١» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا ابْنَا مَلِكٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكَفَرَ الْآخَرُ وَاشْتَغَلَ بِزِينَةِ الدُّنْيَا وَتَنْمِيَةِ مَالِهِ. وَعَنْ مَكِّيٍّ أَنَّهُمَا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اشْتَرَكَا فِي مَالِ كَافِرٍ سِتَّةِ آلَافٍ فَاقْتَسَمَاهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا كَانَا حَدَّادَيْنِ كَسَبَا مَالًا. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا وَرِثَا مِنْ أَبِيهِمَا ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَى الْكَافِرُ أَرْضًا بِأَلْفٍ وبنى دار بِأَلْفٍ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِأَلْفٍ وَاشْتَرَى خَدَمًا وَمَتَاعًا بِأَلْفٍ، وَاشْتَرَى الْمُؤْمِنُ أَرْضًا فِي الْجَنَّةِ بِأَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ، وَجَعَلَ أَلْفًا صَدَاقًا لِلْحُورِ فَتَصَدَّقُ بِهِ، وَاشْتَرَى الْوِلْدَانَ الْمُخَلَّدِينَ بِأَلْفٍ فَتَصَدَّقُ بِهِ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ حَاجَةٌ فَجَلَسَ لِأَخِيهِ عَلَى طَرِيقِهِ فَمَرَّ فِي حَشَمِهِ فَتَعَرَّضَ لَهُ فَطَرَدَهُ وَوَبَّخَهُ عَلَى التَّصَدُّقِ بِمَالِهِ.
وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُتَجَبِّرِينَ الطَّالِبِينَ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرْدَ الضُّعَفَاءِ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ بَسَاتِينَ مِنْ كُرُومٍ، وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا النَّخْلَ مُحِيطًا بِالْجَنَّتَيْنِ، وَهَذَا مِمَّا يُؤْثِرُهُ الدَّهَاقِينُ فِي كُرُومِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا مُؤَزَّرَةً بِالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ كِلَا الْجَنَّتَيْنِ، أَتَى بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْجَنَّتَيْنِ مَجَازِيٌّ، ثُمَّ قَرَأَ آتَتْ فَأُنِّثَ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مُؤَنَّثٌ، فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِهِمْ طَلَعَ الشَّمْسُ وَأَشْرَقَتْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كُلُّ الْجَنَّتَيْنِ آتَى أُكُلَهُ انْتَهَى فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى كُلُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَهَا أَرْضًا جَامِعَةً لِلْأَقْوَاتِ وَالْفَوَاكِهِ، وَوَصَفَ الْعِمَارَةَ بِأَنَّهَا مُتَوَاصِلَةٌ مُتَشَابِكَةٌ لَمْ يَتَوَسَّطْهَا مَا يَقْطَعُهَا وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمَا مَعَ الشَّكْلِ الْحَسَنِ وَالتَّرْتِيبِ الْأَنِيقِ، وَنَعَتَهَمَا بِوَفَاءِ الثِّمَارِ وَتَمَامِ الْأَكْلِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ ثُمَّ بِمَا هُوَ أَصْلُ الْخَيْرُ وَمَادَّتُهُ مِنْ أَمْرِ الشُّرْبِ، فَجَعَلَهُ أَفْضَلَ مَا يُسْقَى بِهِ وَهُوَ السَّيْحُ بِالنَّهَرِ الْجَارِي فِيهَا وَالْأَكْلُ الثَّمَرُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَفَجَّرْنا بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا شَدَّدَ وَفَجَّرْنا وَهُوَ نَهَرٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ النَّهَرَ يَمْتَدُّ فَكَأَنَّ التَّفَجُّرَ فِيهِ كُلَّهُ أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ شُرْبَهُمَا كَانَ مِنْ نَهَرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَغْزَرُ الشُّرْبِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَسَلَّامٌ وَيَعْقُوبُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَكَذَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ، وَالتَّشْدِيدُ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ عُيُوناً «١» وَقَوْلِهِ هنا
مَهْلًا فِدَاءً لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمْ | وَمَا أَثَمَرُوا مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ |
وَيَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ فَقالَ لِصاحِبِهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَخَاهُ، وَهُوَ يُحاوِرُهُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَا الْحَالِ هُوَ الْقَائِلُ أَيْ يُرَاجِعُهُ الْكَلَامَ فِي إِنْكَارِهِ الْبَعْثَ، وَفِي إِشْرَاكِهِ بِاللَّهِ.
وَقِيلَ: هِيَ حَالٌ مِنْ صَاحِبِهِ أَيِ الْمُسْلِمِ كَانَ يُحَاوِرُهُ بِالْوَعْظِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ، وَالظَّاهِرُ كَوْنُ أَفْعَلُ لِلتَّفْضِيلِ وَأَنَّ صَاحِبَهُ كَانَ لَهُ مَالٌ وَنَفَرٌ وَلَمْ يَكُنْ سُبْرُوتًا كَمَا ذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ، وَأَنَّهُ جَاءَ يَسْتَعْطِيهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُهُ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً «١» وَهَذَا عَلَى عَادَةِ الْكُفَّارِ فِي الِافْتِخَارِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَعِزَّةِ الْعَشِيرَةِ وَالتَّكَبُّرِ وَالِاغْتِرَارِ بِمَا نَالُوهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَمَقَالَتُهُ تِلْكَ لِصَاحِبِهِ بِإِزَاءِ مَقَالَةِ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ سَادَاتُ الْعَرَبِ وَأَهْلُ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ، فَنَحِّ عَنَّا سَلْمَانَ وَقُرَنَاءَهُ.
وَعَنَى بِالنَّفَرِ أَنْصَارَهُ وَحَشَمَهُ. وَقِيلَ: أَوْلَادًا ذُكُورًا لِأَنَّهُمْ يَنْفِرُونَ مَعَهُ دُونَ الْإِنَاثِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَخَاهُ بِقَوْلِهِ: وَأَعَزُّ نَفَراً إِذْ لَوْ كَانَ أَخَاهُ لَكَانَ نَفَرُهُ وَعَشِيرَتُهُ نَفَرَ أَخِيهِ وَعَشِيرَتَهُ، وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ السَّابِقَيْنِ لَا يَرِدُ هَذَا. أَمَّا مَنْ فَسَّرَ النَّفَرَ بِالْعَشِيرَةِ التي هي
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ أَفْرَدَ الْجَنَّةَ بَعْدَ التَّثْنِيَةِ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ وَدَخَلَ مَا هُوَ جَنَّتُهُ مَا لَهُ جَنَّةٌ غَيْرُهَا، يَعْنِي أَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فَمَا مَلَكَهُ فِي الدُّنْيَا هُوَ جَنَّتُهُ لَا غَيْرُ، وَلَمْ يَقْصِدِ الْجَنَّتَيْنِ وَلَا وَاحِدَةً مِنْهُمَا انْتَهَى.
وَلَا يُتَصَوَّرُ مَا قَالَ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِدُخُولِ ذَلِكَ الْكَافِرِ جَنَّتَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ قَصَدَ فِي الْإِخْبَارِ أَنَّهُ دَخَلَ إِحْدَى جَنَّتَيْهِ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَهُمَا مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى وَدَخَلَ جَنَّتَهُ يُرِي صَاحِبَهُ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنِ الْبَهْجَةِ وَالنَّضَارَةِ وَالْحُسْنِ.
وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ وَهُوَ كَافِرٌ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ مُغْتَرٌّ بِمَا مَلَكَهُ شَاكٌّ فِي نَفَادِ مَا خَوَّلَهُ. وَفِي الْبَعْثِ الَّذِي حَاوَرَهُ فِيهِ صَاحِبُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ هذِهِ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي دَخَلَهَا، وَعَنَى بِالْأَبَدِ أَبَدَ حَيَاتِهِ وَذَلِكَ لِطُولِ أَمَلِهِ وَتَمَادِي غَفْلَتِهِ، وَلِحُسْنِ قِيَامِهِ عَلَيْهَا بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْمَالِ وَالْخَدَمِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ عَلَى حَالِهَا مِنَ الْحُسْنِ وَالنَّضَارَةِ، وَالْحِسُّ يَقْتَضِي أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا غَيْرُ بَاقِيَةٍ أَوْ يَكُونُ قَائِلًا بِقَدَمِ الْعَالَمِ، وَأَنَّ مَا حَوَتْهُ هَذِهِ الْجَنَّةُ إن فَنِيَتْ أَشْخَاصُ أَثْمَارِهَا فَتَخْلُفُهَا أَشْخَاصٌ أُخَرُ، وَكَذَا دَائِمًا. وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُشِيرَ بِهَذِهِ إلى الهيئة من السموات وَالْأَرْضِ وَأَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَدَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ الْمُحَاوَرَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا هِيَ فِي فَنَاءِ هَذَا الْعَالَمِ الَّذِي هَذِهِ الْجَنَّةُ جُزْءٌ مِنْهُ، وَفِي الْبَعْثِ الْأُخْرَوِيِّ أَنَّ صَاحِبَهُ كَانَ تَقَرَّرَ لَهُ هَذَانِ الْأَمْرَانِ وَهُوَ يَشُكُّ فِيهِمَا.
ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ رُدَّ إِلَى رَبِّهِ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ وَقِيَاسِ الْأُخْرَى عَلَى الدُّنْيَا وَكَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُهُ لَيَجِدَنَّ فِي الْآخِرَةِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِهِ فِي الدُّنْيَا تَطَمُّعًا، وَتَمَنِّيًا عَلَى اللَّهِ، وَادِّعَاءً لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ وَمَكَانَتِهِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ مَا أَوْلَاهُ الْجَنَّتَيْنِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِاسْتِحْقَاقِهِ، وَأَنَّ مَعَهُ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ أَيْنَ تَوَجَّهَ كَقَوْلِهِ إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «١».
وَأَمَّا مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا قَالَهُ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا فَلَيْسَ عَلَى حَدِّ مَقَالَةِ هَذَا لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ الْعَاصِيَ قَصَدَ الِاسْتِخْفَافَ وَهُوَ مُصَمِّمٌ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَهَذَا قَالَ مَا مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ ثَمَّ رُجُوعٌ فَسَيَكُونُ حَالِي كَذَا وَكَذَا. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّثْنِيَةِ وَعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الْجَنَّتَيْنِ، وَكَذَا فِي مَصَاحِفِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالشَّامِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً.
وَهُوَ يُحاوِرُهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَهُوَ صَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَهُوَ يُخَاصِمُهُ وَهِيَ قِرَاءَةُ تَفْسِيرٍ لَا قِرَاءَةُ رِوَايَةٍ لِمُخَالَفَتِهِ سَوَادَ الْمُصْحَفِ، وَلِأَنَّ الَّذِي رُوِيَ بِالتَّوَاتُرِ هُوَ يُحاوِرُهُ لا يخاصمه. وأَ كَفَرْتَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ حَيْثُ أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ. وَقَرَأَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: وَيْلَكَ أَكَفَرْتَ وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ لَا قِرَاءَةٌ ثَابِتَةٌ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَبَّهَهُ عَلَى أَصْلِ نَشْأَتِهِ وَإِيجَادِهِ بَعْدَ الْعَدَمِ وَأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ، ثُمَّ تَحَتَّمَ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ الصَّادِقِينَ وَهُمُ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ إِمَّا أَنْ يُرَادَ خَلْقُ أَصْلِكَ مِنْ تُرابٍ وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَخَلْقُ أَصْلِهِ سَبَبٌ فِي خَلْقِهِ فَكَانَ خَلْقُهُ خَلْقًا لَهُ، أَوْ أُرِيدَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ يَتَوَلَّدُ مِنْ أَغْذِيَةٍ رَاجِعَةٍ إِلَى التُّرَابِ، فَنَبَّهَهُ أَوَّلًا عَلَى مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مَاءُ أَبِيهِ ثُمَّ ثَانِيهِ عَلَى النُّطْفَةِ الَّتِي هِيَ مَاءُ أَبِيهِ. وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّ مَلَكًا وُكِّلَ بِالنُّطْفَةِ يُلْقِي فِيهَا قَلِيلًا مِنْ تُرَابٍ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الرَّحِمِ فَيَحْتَاجُ إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ.
ثُمَّ نَبَّهَهُ عَلَى تَسْوِيَتِهِ رَجُلًا وَهُوَ خَلْقُهُ مُعْتَدِلًا صَحِيحَ الْأَعْضَاءِ، وَيُقَالُ لِلْغُلَامِ إِذَا تَمَّ شَبَابُهُ قَدِ اسْتَوَى. وَقِيلَ: ذَكَّرَهُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ رَجُلًا وَلَمْ يَخْلُقْهُ أُنْثَى، نَبَّهَهُ بِهَذِهِ التَّنَقُّلَاتِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَوَّاكَ عَدَّلَكَ وَكَمَّلَكَ إِنْسَانًا ذَكَرًا بَالِغًا مَبْلَغَ الرِّجَالِ، جَعَلَهُ كَافِرًا بِاللَّهِ جَاحِدًا لِأَنْعُمِهِ لِشَكِّهِ فِي الْبَعْثِ كَمَا يَكُونُ الْمُكَذِّبُ بِالرَّسُولِ كَافِرًا انْتَهَى. وَانْتَصَبَ رَجُلًا عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ رَجُلًا نُصِبَ بِسَوَّى أَيْ جَعَلَكَ رَجُلًا فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَدَّى سَوَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الِاسْتِفْهَامُ اسْتِفْهَامَ اسْتِعْلَامٍ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَقْرِيرٌ عَلَى كُفْرِهِ
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةِ وَرْشٍ وَقَالُونُ لَكِنَّ بِتَشْدِيدِ النُّونِ بِغَيْرِ أَلِفٍ فِي الْوَصْلِ وَبِأَلِفٍ فِي الْوَقْفِ وَأَصْلُهُ، وَلَكِنْ أَنَا نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى نُونِ لَكِنِ وَحُذِفَ الْهَمْزَةُ فَالْتَقَى مِثْلَانِ فَأُدْغِمَ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ. وَقِيلَ: حُذِفَ الْهَمْزَةُ مِنْ أَنَا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ فَالْتَقَتْ نُونُ لَكِنِ وَهِيَ سَاكِنَةٌ مَعَ نُونِ أَنَا فَأُدْغِمَتْ فِيهَا، وَأَمَّا فِي الْوَقْفِ فَإِنَّهُ أَثْبَتَ أَلِفَ أَنَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْوَقْفِ عَلَى أَنَا، وَأَمَّا فِي الْوَصْلِ فَالْمَشْهُورُ حَذْفُهَا وَقَدْ أَبْدَلَهَا أَلِفًا فِي الْوَقْفِ أَبُو عُمَرَ وَفِي رِوَايَةٍ فَوَقَفَ لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَرَوَى هَارُونُ عَنْ أبي عمر ولكنه هُوَ اللَّهُ رَبِّي بِضَمِيرٍ لَحِقَ لَكِنِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةِ المسيلي وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو عُمَرَ وَفِي رِوَايَةِ وَكَرَدْمٌ وَوَرْشٌ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَقْفًا وَوَصْلًا، أَمَّا فِي الْوَقْفِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الْوَصْلِ فَبَنُو تَمِيمٍ يُثْبِتُونَهَا فِيهِ فِي الْكَلَامِ وَغَيْرُهُمْ فِي الِاضْطِرَارِ فَجَاءَ عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ حَذْفُ الْأَلِفِ وَصْلًا وَوَقْفًا وَذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الْهَاشِمِيِّ، وَدَلَّ إِثْبَاتُهَا فِي الْوَصْلِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ لَكِنِ أَنَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَسَّنَ ذَلِكَ يَعْنِي إِثْبَاتَ الْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ وُقُوعُ الْأَلِفِ عِوَضًا مِنْ حَذْفِ الْهَمْزَةِ انْتَهَى. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قِرَاءَةُ فِرْقَةٍ لَكِنَنَا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونَيْنِ. وَقَالَ أَيْضًا الزَّمَخْشَرِيُّ وَنَحْوُهُ يَعْنِي وَنَحْوَ إِدْغَامِ نُونِ لَكِنِ فِي نون أما بَعْدَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ قَوْلُ الْقَائِلِ:
وَتَرْمِينَنِي بِالطَّرْفِ أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ | وَتَقْلِينَنِي لَكِنَّ إِيَّاكِ لَا أَقْلِي |
فَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفْتَ قَرَابَتِي | وَلَكِنَّ زِنْجِيٌّ عَظِيمُ الْمَشَافِرِ |
وَفِي قَوْلِهِ وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً تَعْرِيضٌ بِإِشْرَاكِ صَاحِبِهِ وَأَنَّهُ مُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ صَاحِبُهُ فِي قوله يا ليتني لم أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا. وَقِيلَ: أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَرَى الْغِنَى وَالْفَقْرَ إِلَّا مِنْهُ تَعَالَى، يُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ وَيُغْنِي مَنْ يَشَاءُ. وَقِيلَ: لَا أُعْجِزُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِعَادَةِ، فَأُسَوِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَيَكُونُ إِشْرَاكًا كَمَا فَعَلْتَ أَنْتَ.
وَلَمَّا وَبَّخَ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ أَوْرَدَ لَهُ مَا يَنْصَحُهُ فَحَضَّهُ عَلَى أَنْ كَانَ يَقُولُ إِذَا دَخَلَ جَنَّتَهُ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أَيِ الْأَشْيَاءُ مَقْذُوفَةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَفْقَرَ، وَإِنْ شَاءَ أَغْنَى، وَإِنْ شَاءَ نَصَرَ، وَإِنْ شَاءَ خَذَلَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا شَرْطِيَّةً مَنْصُوبَةً بِشَاءَ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي مَرْفُوعَةً عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيِ الَّذِي شَاءَهُ اللَّهُ كَائِنٌ، أَوْ عَلَى الْخَبَرِ أَيْ الْأَمْرُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْلا تَحْضِيضِيَّةٌ، وَفُصِلَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَبَيْنَهَا بِالظَّرْفِ وَهُوَ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ قُلْتَ. ثُمَّ نصحه بالتبري مِنَ الْقُوَّةِ فِيمَا يُحَاوِلُهُ وَيُعَانِيهِ وَأَنْ يَجْعَلَ الْقُوَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ» ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِذَا قَالَهَا الْعَبْدُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَسْلَمَ عَبْدِي وَاسْتَسْلَمَ». وَنَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَفِيهِ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَقَلَّ بِالنَّصْبِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِتَرَنِي وَهِيَ عِلْمِيَّةٌ لَا بَصَرِيَّةٌ لِوُقُوعِ أَنَا فَصْلًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي تَرَنِي، وَيَجُوزُ أَنْ تكون بصرية وأَنَا تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ فِي تَرَنِي الْمَنْصُوبِ فَيَكُونُ أَقَلَّ حَالًا. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ أَقَلَّ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنْ تكون أنا مبتدأ، وأَقَلَّ خبره، والجملة في موضع مَفْعُولِ تَرَنِي الثَّانِي إِنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً، وَفِي مَوْضِعِ الْحَالِ إِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً. وَيَدُلُّ قَوْلُهُ وَوَلَداً عَلَى أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِهِ وَأَعَزُّ نَفَراً «١» عَنَى بِهِ الْأَوْلَادَ إِنْ قَابَلَ كَثْرَةَ الْمَالِ بِالْقِلَّةِ وَعِزَّةَ النَّفَرِ بِقِلَّةِ الْوَلَدِ.
وَالْحُسْبَانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: الْعَذَابُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْبَرْدُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
النَّارُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْقَضَاءُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: سِهَامٌ تُرْمَى فِي مَجْرًى فَقَلَّمَا تخطىء.
وَقِيلَ: النَّبْلُ. وَقِيلَ: الصَّوَاعِقُ. وَقِيلَ: آفَةٌ مُجْتَاحَةٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَذَابُ حُسْبَانٍ وَذَلِكَ الْحُسْبَانُ حِسَابُ مَا كَسَبَتْ يَدَاكَ، وَهَذَا التَّرَجِّي إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَنْ يُؤْتِيَهُ فِي الدُّنْيَا فَهِيَ أَنَكَى لِلْكَافِرِ وَآلَمُ إِذْ يَرَى حَالَهُ مِنَ الْغِنَى قَدِ انْتَقَلَتْ إِلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَنْ يُؤْتِيَهُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ أَشْرَفُ وَأَذْهَبُ مَعَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً أَيْ أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا نَبَاتَ فِيهَا لَا مِنْ كَرْمٍ وَلَا نَخْلٍ وَلَا زَرْعٍ، قَدِ اصْطُلِمَ جَمِيعُ ذَلِكَ فَبَقِيَتْ يَبَابًا قَفْرًا يُزْلَقُ عَلَيْهَا لِإِمْلَاسِهَا، وَالزَّلَقُ الَّذِي لَا تَثْبُتُ فِيهِ قَدَمٌ ذَهَبَ غِرَاسُهُ وَبِنَاؤُهُ وَسُلِبَ الْمَنَافِعَ حَتَّى مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ فِيهِ فَهُوَ وَحْلٌ لَا يَنْبُتُ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ قَدَمٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الزَّلَقُ الطَّرِيقُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ. وَقِيلَ: الْخَرَابُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَمْلًا هَائِلًا. وَقِيلَ: الزَّلَقُ الْأَرْضُ السَّبْخَةُ وَتَرَجِّي الْمُؤْمِنِ لِجَنَّةِ هَذَا الْكَافِرِ آفَةً عُلْوِيَّةً مِنَ السَّمَاءِ أَوْ آفَةً سُفْلِيَّةً مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ غَوْرُ مَائِهَا فَيُتْلَفُ كُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ، وَغَوْرٌ مَصْدَرٌ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ أَصْبَحَ على سبيل المبالغة وأَوْ يُصْبِحَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَيُرْسِلَ لأن غؤور الْمَاءِ لَا يَتَسَبَّبُ عَلَى الْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ إِلَّا إِنْ عَنَى بِالْحُسْبَانِ الْقَضَاءَ الْإِلَهِيَّ، فَحِينَئِذٍ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ إِصْبَاحَ الْجَنَّةِ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ إِصْبَاحَ مَائِهَا غَوْراً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ غَوْراً بِفَتْحِ الْغَيْنِ. وَقَرَأَ الْبُرْجُمِيُّ: غَوْراً بِضَمِّ الْغَيْنِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَهَمْزِ الْوَاوِ يَعْنُونَ وَبِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ فَيَكُونُ غؤورا كَمَا جَاءَ فِي مَصْدَرِ غارت عينه غؤورا، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَاءِ أَيْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَى طَلَبِهِ لِكَوْنِهِ ليس مقدورا
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِحَاطَةَ كَانَتْ لَيْلًا لِقَوْلِهِ فَأَصْبَحَ عَلَى أَنَّ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى فَأَصْبَحَ فَصَارَ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِ الْخَبَرِ بِالصَّبَاحِ، وَتَقْلِيبُ كَفَّيْهِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَهُوَ أَنَّهُ يُبْدِي بَاطِنَ كَفِّهِ ثُمَّ يُعْوِجُ كَفَّهُ حَتَّى يَبْدُوَ ظَهْرُهَا، وَهِيَ فِعْلَةُ النَّادِمِ الْمُتَحَسِّرِ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فَاتَهُ، الْمُتَأَسِّفِ عَلَى فِقْدَانِهِ، كَمَا يُكَنَّى بِقَبْضِ الْكَفِّ وَالسُّقُوطِ فِي الْيَدِ. وَقِيلَ: يُصَفِّقُ بِيَدِهِ عَلَى الأخرى ويُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظهر البطن. وَقِيلَ: يَضَعُ بَاطِنَ إِحْدَاهُمَا عَلَى ظَهْرِ الْأُخْرَى، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ كِنَايَةً عَنِ النَّدَمِ عَدَّاهُ تَعْدِيَةَ فِعْلِ النَّدَمِ فَقَالَ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَصْبَحَ نَادِمًا عَلَى ذَهَابِ مَا أَنْفَقَ فِي عِمَارَةِ تِلْكَ الْجَنَّةِ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَاخِرِ الْبَقَرَةِ. وَتَمَنِّيهِ انْتِفَاءَ الشِّرْكِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الدُّنْيَا عَلَى جِهَةِ التَّوْبَةِ بَعْدَ حُلُولِ الْمُصِيبَةِ، وَفِي ذَلِكَ زَجْرٌ لِلْكَفَرَةِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ لِئَلَّا يَجِيءَ لَهُمْ حَالٌ يُؤْمِنُونَ فِيهَا بَعْدَ نِقَمٍ تَحُلُّ بِهِمْ، قِيلَ: أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا نَارًا فَأَكَلَتْهَا فَتَذَكَّرَ مَوْعِظَةَ أَخِيهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ أُتِيَ مِنْ جِهَةِ شِرْكِهِ وَطُغْيَانِهِ فَتَمَنَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِ الْكَافِرِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمَّا افْتَخَرَ بِكَثْرَةِ مَالِهِ وَعَزَّةِ نَفَرِهِ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ أَيْ جَمَاعَةٌ تَنْصُرُهُ وَلَا كَانَ هُوَ مُنْتَصِرًا بِنَفْسِهِ، وَجَمَعَ الضَّمِيرَ فِي يَنْصُرُونَهُ عَلَى الْمَعْنَى كَمَا أَفْرَدَهُ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «٢» وَاحْتُمِلَ النَّفْيُ أَنْ يَكُونَ مُنْسَحِبًا عَلَى الْقَيْدِ فَقَطْ، أَيْ لَهُ فِئَةٌ لَكِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ. وَأَنْ يَكُونَ مُنْسَحِبًا عَلَى الْقَيْدِ، وَالْمُرَادُ انْتِفَاؤُهُ لِانْتِفَاءِ مَا هُوَ وَصْفٌ لَهُ أَيْ لَا فِئَةَ فَلَا نَصْرَ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا بِقُوَّةٍ عَنِ انْتِقَامِ اللَّهِ.
وقرأ الأخوان وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَأَيُّوبُ وَخَلَفٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وابن سعدان وابن عيسى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَلَمْ يَكُنْ بِالْيَاءِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْفِئَةِ مَجَازٌ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ فِئَةٌ تَنْصُرُهُ على اللفظ
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٣.
وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَةَ وَخَلَفٌ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ الْوَلايَةُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَهِيَ بِمَعْنَى الرِّئَاسَةِ وَالرِّعَايَةِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِفَتْحِهَا بِمَعْنَى الْمُوَالَاةِ وَالصِّلَةِ. وَحُكِيَ عن أبي عمرو الأصمعي أَنَّ كَسْرَ الْوَاوِ هُنَا لَحْنٌ لِأَنَّ فَعَالَةَ إِنَّمَا تَجِيءُ فِيمَا كَانَ صَنْعَةً أَوْ مَعْنًى مُتَقَلَّدًا وَلَيْسَ هُنَالِكَ تَوَلِّي أُمُورٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَلايَةُ بِالْفَتْحِ النُّصْرَةُ والتولي وبالكسر السلطان والملك، وقد قرىء بِهِمَا وَالْمَعْنَى هُنَالِكَ أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَتِلْكَ الْحَالُ النُّصْرَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يَمْلِكُهَا غَيْرُهُ وَلَا يَسْتَطِيعُهَا أَحَدٌ سِوَاهُ تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْ هُنالِكَ السُّلْطَانُ وَالْمُلْكُ لِلَّهِ لَا يُغْلَبُ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ، أَوْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ الشَّدِيدَةِ يَتَوَلَّى اللَّهُ وَيُؤْمِنُ بِهِ كُلُّ مُضْطَرٍّ يَعْنِي إِنَّ قَوْلَهُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً كَلِمَةٌ أُلْجِئَ إِلَيْهَا فَقَالَهَا فَزَعًا مِنْ شُؤْمِ كُفْرِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُلْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ يَنْصُرُ فِيهَا أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَفَرَةِ وَيَنْتَقِمُ لَهُمْ وَيَشْفِي صُدُورَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، يَعْنِي أَنَّهُ نَصَرَ فِيمَا فَعَلَ بِالْكَافِرِ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ. وَصَدَّقَ قَوْلِهِ عَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أَيْ لِأَوْلِيَائِهِ انْتَهَى.
وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَحُمَيْدٌ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَالْيَزِيدِيُّ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ الْحَقِّ بِرَفْعِ الْقَافِ صِفَةٌ لِلْوَلَايَةِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِخَفْضِهَا وَصْفًا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ هُنالِكَ الْوَلايَةُ الْحَقُّ لِلَّهِ بِرَفْعِ الْحَقِّ لِلْوَلَايَةِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى قَوْلِهِ لِلَّهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو السَّمَّالِ وَيَعْقُوبُ عَنْ عِصْمَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو لِلَّهِ الْحَقَّ بِنَصْبِ الْقَافِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى التَّأْكِيدِ كَقَوْلِكَ هذا عبد الله الحق لَا الْبَاطِلَ وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ فَصِيحَةٌ، وَكَانَ عَمْرُو بن عبيد رحمة الله عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ مِنْ أَفْصَحِ
فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ وَتَرَضَّى عَنْهُ إِذْ هُوَ مِنْ أَوَائِلِ أَكَابِرِ شُيُوخِهِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَانَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَلَهُ أَخْبَارٌ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَطْعَنُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي أُرْجُوزَتِهِ الَّتِي سَمَّاهَا الْمُنَبِّهَةَ:
وَابْنُ عُبَيْدٍ شَيْخُ الِاعْتِزَالِ | وَشَارِعُ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ |
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٥ الى ٥٩]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤)
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩)
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: تَرْفَعُهُ. غَادَرَ ترك من الغدر، ومنه تَرْكُ الْوَفَاءِ، وَمِنْهُ الْغَدِيرُ، وَهُوَ مَا تَرَكَهُ السَّيْلُ. الصَّفُّ الشَّخْصُ بِإِزَاءِ الْآخَرِ إِلَى نِهَايَتِهِمْ وُقُوفًا أَوْ جُلُوسًا أَوْ عَلَى غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ طُولًا أَوْ تَحْلِيقًا يُقَالُ مِنْهُ: صَفَّ يَصُفُّ وَالْجَمْعُ صُفُوفٌ. الْعَضُدُ الْعُضْوُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مَعْرُوفٌ وَفِيهِ لُغَتَانِ، فَتْحُ الْعَيْنِ وَضَمُّ الضَّادِ وَإِسْكَانُهَا وَفَتْحُهَا وَضَمُّ الْعَيْنِ وَالضَّادِ وَإِسْكَانُ الضَّادِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْعَوْنِ وَالنَّصِيرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْإِعْضَادُ التَّقَوِّي وَطَلَبُ الْمَعُونَةِ يُقَالُ: اعْتَضَدْتُ بِفُلَانٍ اسْتَعَنْتُ بِهِ. الْمَوْبِقُ الْمَهْلِكُ يُقَالُ: وَبِقَ يَوْبَقُ وَبَقًا وَوَبَقَ يَبِقُ وُبُوقًا إِذَا هَلَكَ فَهُوَ وَابِقٌ، وَأَوْبَقَتْهُ ذُنُوبُهُ أَهْلَكَتْهُ. أَدْحَضَ الْحَقُّ أَرْهَقَهُ قَالَهُ ثَعْلَبٌ، وَأَصْلُهُ مِنْ إِدْحَاضِ الْقَدَمِ وَهُوَ إِزْلَاقُهَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَرَدْتُ وَنَجَّى الْيَشْكُرِيَّ حِذَارُهُ | وَحَادَ كَمَا حَادَ الْبَعِيرُ عَنِ الدَّحْضِ |
أَبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الْوَفَاءَ وَهِبْتَهُ | وَحِدْتَ كما حاد البعير المدحض |
وَقَدْ أُخَالِسُ رَبَّ الْبَيْتِ غَفْلَتَهُ | وَقَدْ يُحَاذِرُ مِنِّي ثَمَّ مَا يَئِلُ |
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْمَثَلِ الْأَوَّلِ حَالَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَمَا آلَ إِلَيْهِ مَا افْتَخَرَ بِهِ الْكَافِرُ مِنَ الْهَلَاكِ، بَيَّنَ فِي هَذَا الْمَثَلِ حَالَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاضْمِحْلَالَهَا وَمَصِيرَ مَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ والترفه إلى الهلاك وكَماءٍ قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ أَيِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا كَمَاءٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الْكَافُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيْ ضَرْبًا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ وَأَقُولُ إِنَّ كَماءٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِقَوْلِهِ وَاضْرِبْ أَيْ وَصَيِّرْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ صِفَتُهَا شِبْهُ مَاءٍ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي قَوْلِهِ إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ «١» فِي يُونُسَ فَأَصْبَحَ أَيْ صَارَ وَلَا يُرَادُ تَقْيِيدُ الْخَبَرِ بِالصَّبَاحِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ:
أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا | أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا |
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٤٢.
وَلَمَّا حَقَّرَ تَعَالَى حَالَ الدُّنْيَا بِمَا ضَرَبَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَثَلِ ذَكَرَ أَنَّ مَا افْتَخَرَ بِهِ عُيَيْنَةُ وَأَضْرَابُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ إِنَّمَا ذَلِكَ زِينَةُ هَذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا الْمُحَقَّرَةِ، وَأَنَّ مَصِيرَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ إِلَى النَّفَادِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْتَرَثَ بِهِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِزِينَةِ الْمَالِ وَالْبَنِينَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ مَقَرُّ زِينَةُ أَوْ وَضَعَ الْمَالَ وَالْبَنِينَ مَنْزِلَةَ الْمَعْنَى وَالْكَثْرَةِ، فَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ زِينَةُ وَلَمَّا ذَكَرَ مَآلَ مَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَى الْفَنَاءِ انْدَرَجَ فِيهِ هَذَا الْجُزْئِيُّ مِنْ كَوْنِ الْمَالِ وَالْبَنِينَ زِينَةً، وَأَنْتَجَ. أَنَّ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَانٍ إِذْ ذَاكَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ مَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَتَرْتِيبُ هَذَا الْإِنْتَاجِ أَنْ يُقَالَ الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَكُلُّ مَا كَانَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا فَهُوَ سَرِيعُ الِانْقِضَاءِ فَالْمَالُ وَالْبَنُونَ سَرِيعُ الِانْقِضَاءِ، وَمِنْ بَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ مَا كان كذلك بقبح بِالْعَاقِلِ أَنْ يَفْتَخِرَ بِهِ أَوْ يَفْرَحَ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا بُرْهَانٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ.
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قَالَ الْجُمْهُورُ
هِيَ الْكَلِمَاتُ الْمَأْثُورُ فَضْلُهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَيْسَرَةَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَبْقَى لِلْآخِرَةِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ مَرْوِيٌّ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: كُلُّ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ عَطَاءٍ: أَنَّهَا النِّيَّاتُ الصَّالِحَةُ فَإِنَّ بِهَا تُتَقَبَّلُ الْأَعْمَالُ وَتُرْفَعُ، وَمَعْنَى خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أَنَّهَا دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ وَخَيْرَاتُ الدُّنْيَا مُنْقَرِضَةٌ فَانِيَةٌ، وَالدَّائِمُ الْبَاقِي خَيْرٌ مِنَ الْمُنْقَرِضِ الْمُنْقَضِي.
وَخَيْرٌ أَمَلًا أَيْ وَخَيْرٌ رَجَاءً لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَأْمُلُ فِي الدُّنْيَا ثَوَابَ اللَّهِ وَنَصِيبَهُ فِي الْآخِرَةِ دُونَ ذِي الْمَالِ وَالْبَنِينَ الْعَارِي مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجُو ثَوَابًا.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُ الدُّنْيَا مِنَ النَّفَادِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَوَائِلِ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ كَقَوْلِهِ يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً «١». وَقَالَ:
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «٢». وَقَالَ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً «٣». وَقَالَ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ «٤» وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْفَكُّ نِظَامُ هذا
(٢) سورة النمل: ٢٧/ ٨٨.
(٣) سورة طه: ٢٠/ ١٠٥.
(٤) سورة التكوير: ٨١/ ٣.
أَيْ قُلْنَا يَوْمَ كَذَا لَقَدْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ وَعَاصِمٌ وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ نُسَيِّرُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ الْجِبَالَ بِالنَّصْبِ، وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْحَسَنُ وَشِبْلٌ وَقَتَادَةُ وَعِيسَى وَالزُّهْرِيُّ وَحُمَيْدٌ وَطَلْحَةُ وَالْيَزِيدِيُّ وَالزُّبَيْرِيُّ عَنْ رِجَالِهِ عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الْجِبالَ بِالرَّفْعِ وَعَنِ الْحَسَنِ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِضَمِّ الْيَاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عُمَرَ وتسير مِنْ سَارَتِ الْجِبَالُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ سُيِّرَتِ الْجِبَالُ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً أَيْ مُنْكَشِفَةً ظَاهِرَةً لِذَهَابِ الْجِبَالِ وَالظِّرَابِ وَالشَّجَرِ وَالْعِمَارَةِ، أَوْ تَرَى أَهْلَ الْأَرْضِ بَارِزِينَ مِنْ بَطْنِهَا. وَقَرَأَ عِيسَى وَتَرَى الْأَرْضَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَحَشَرْناهُمْ أَيْ أَقَمْنَاهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَجَمَعْنَاهُمْ لِعَرْصَةِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لم جِيءَ بِحَشَرْنَاهُمْ مَاضِيًا بَعْدَ تَسِيرُ وَتَرَى؟ قُلْتُ:
لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ حَشْرَهُمْ قَبْلَ التَّسْيِيرِ وَقَبْلَ الْبُرُوزِ لِيُعَايِنُوا تِلْكَ الْأَهْوَالَ وَالْعَظَائِمَ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
وَحَشَرْناهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ لَا وَاوَ الْعَطْفِ، وَالْمَعْنَى وَقَدْ حَشَرْناهُمْ أَيْ يُوقَعُ التَّسْيِيرُ فِي حَالَةِ حَشْرِهِمْ. وَقِيلَ: وَحَشَرْناهُمْ عُرِضُوا
وَوُضِعَ الْكِتابُ مِمَّا وُضِعَ فِيهِ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
نُغَادِرُ بَنُونِ الْعَظَمَةِ وَقَتَادَةُ تُغَادِرُ عَلَى الْإِسْنَادِ إِلَى الْقُدْرَةِ أَوِ الْأَرْضِ، وَأَبَانُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَاصِمٍ كَذَلِكَ أَوْ بِفَتْحِ الدَّالِّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَاحِدٍ بِالرَّفْعِ وَعِصْمَةُ كَذَلِكَ، وَالضَّحَّاكُ نُغْدِرُ بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ وكسر الدال، وانتصب فًّا
عَلَى الْحَالِ وَهُوَ مُفْرَدٌ تَنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الْجَمْعِ أَيْ صُفُوفًا.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ صُفُوفًا يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ».
الْحَدِيثُ بِطُولِهِ
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَهْلُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفًّا أَنْتُمْ مِنْهَا ثَمَانُونَ صَفًّا».
أَوِ انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَوْضُوعِ مَوْضِعَ الْحَالِ أَيْ مصطفين. وقيل: المعنى فًّا
صَفًّا فَحُذِفَ صَفًّا وَهُوَ مراد، وهذا التكرار منبىء عَنِ اسْتِيفَاءِ الصُّفُوفِ إِلَى آخِرِهَا، شَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِ الْجُنْدِ الْمَعْرُوضِينَ عَلَى السُّلْطَانِ مُصْطَفِّينَ ظَاهِرِينَ يَرَى جَمَاعَتَهُمْ كَمَا يَرَى كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَحْجُبُ أَحَدٌ أَحَدًا.
َدْ جِئْتُمُونا
مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أي وقلنا وما خَلَقْناكُمْ
نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ مَجِيئًا مِثْلَ مَجِيءِ خَلْقِكُمْ أَيْ
«حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ
، وَخَالِينَ مِنَ الْمَالِ والولد وأن هُنَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَفُصِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِعْلِ بِحَرْفِ النَّفْيِ وَهُوَ
لِلْإِضْرَابِ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِبْطَالِ، وَالْمَعْنَى أَنْ لن نجمع لإعادتكم وحشركم وْعِداً
أَيْ مَكَانَ وَعْدٍ أَوْ زَمَانَ وَعْدٍ لِإِنْجَازِ مَا وُعِدْتُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالْخِطَابُ في قَدْ جِئْتُمُونا
لِلْكُفَّارِ الْمُنْكِرِينَ الْبَعْثَ عَلَى سَبِيلِ تَقْرِيعِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ.
وَوُضِعَ الْكِتابُ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَوُضِعَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ الْكِتابُ بِالنَّصْبِ.
والْكِتابُ اسْمُ جِنْسٍ أَيْ كُتُبُ أَعْمَالِ الْخَلْقِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصَّحَائِفُ كُلُّهَا جُعِلَتْ كِتَابًا وَاحِدًا وَوَضَعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ لِمُحَاسَبَةِ الْخَلْقِ وَإِشْفَاقُهُمْ خَوْفُهُمْ مِنْ كَشْفِ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ وَفَضْحِهِمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ، وَنَادَوْا هَلَكَتَهُمُ الَّتِي هُلِكُوا خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ الْهَلَكَاتِ فَقَالُوا يَا وَيْلَنَا وَالْمُرَادُ مَنْ بِحَضْرَتِهِمْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا يَا مَنْ بِحَضْرَتِنَا انْظُرُوا هَلَكَتَنَا، وَكَذَا مَا جَاءَ مِنْ نِدَاءِ مَا لَا يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ «٢» يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ «٣» يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «٤» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
يَا عَجَبًا لِهَذِهِ الْفَلِيقَةِ | فَيَا عَجَبًا مِنْ رَحْلِهَا الْمُتَحَمَّلِ |
وَالصَّحِيحُ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي الْجَنَّةِ خَدَمًا لِأَهْلِهَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٨٤.
(٣) سورة الزمر: ٣٩/ ٥٦.
(٤) سورة يس: ٣٦/ ٥٢. [.....]
ذَكَرُوا فِي ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ نبيه عليه الصلاة والسلام بِمُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ وَكَانَ أُولَئِكَ الْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ تَأَنَّفُوا عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ، وَذَكَرُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرْدَهُمْ عَنْهُ وَذَلِكَ لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالتَّكَثُّرِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَشَرَفِ الْأَصْلِ وَالنَّسَبِ، وَكَانَ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءُ بِخِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ نَاسَبَ ذِكْرُ قِصَّةِ إِبْلِيسَ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالِافْتِخَارِ بِالْأَصْلِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي الِارْتِبَاطِ هُوَ ظَاهِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ قَبْلَ ضَرْبِ الْمَثَلَيْنِ، وَإِمَّا أَنَّهُ وَاضِحٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَ الْمَثَلَيْنِ فَلَا وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْحَشْرَ وَذَكَرَ خَوْفَ الْمُشْرِكِينَ مِمَّا سُطِّرَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ هُوَ الَّذِي حَمَلَ الْمُجْرِمِينَ عَلَى مَعَاصِيهِمْ وَاتِّخَاذِ شُرَكَاءَ مَعَ اللَّهِ نَاسَبَ ذِكْرَ إِبْلِيسَ وَالنَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ ذُرِّيَّتِهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَبْعِيدًا عَنِ الْمَعَاصِي، وَعَنِ امْتِثَالِ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اسْتِثْنَاءِ إِبْلِيسَ أَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ أَمْ مُنْقَطِعٌ، وَهَلْ هُوَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَيْسَ مِنْهُمْ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْجِنِّ. قَالَ قَتَادَةُ:
الْجِنُّ حَيٌّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: هُوَ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ ظَفِرَتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ فَأَسَرَهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: هُوَ أَوَّلُ الْجِنِّ وبدايتهم كَآدَمَ فِي الْإِنْسِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ إِبْلِيسُ وَقَبِيلُهُ جِنًّا لَكِنَّ الشَّيَاطِينَ الْيَوْمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَهُوَ كَنُوحٍ فِي الْإِنْسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ مِنَ الْجِنِّ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ جَارٍ مَجْرَى التَّعْلِيلِ بَعْدَ اسْتِثْنَاءِ إِبْلِيسَ مِنَ السَّاجِدِينَ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَا لَهُ لَمْ يَسْجُدْ فَقِيلَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَالْفَاءُ لِلتَّسْبِيبِ أَيْضًا جَعَلَ كَوْنَهُ مِنَ الْجِنِّ سَبَبًا فِي فِسْقِهِ، يَعْنِي إِنَّهُ لَوْ كَانَ مَلَكًا كَسَائِرِ مَنْ سَجَدَ لِآدَمَ لَمْ يَفْسُقْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعْصُومُونَ أَلْبَتَّةَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا يَجُوزُ عَلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كَمَا قَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «١» وَهَذَا الْكَلَامُ الْمُعْتَرَضُ تَعَمُّدٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَعَلَا لِصِيَانَةِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ وُقُوعِ شُبْهَةٍ فِي عِصْمَتِهِمْ، فَمَا أَبْعَدَ الْبَوْنُ بَيْنَ مَا تَعَمَّدَهُ اللَّهُ وَبَيْنَ قَوْلِ مَنْ ضَادَّهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَانَ مَلَكًا وَرَئِيسًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَعَصَى فَلُعِنَ وَمُسِخَ شَيْطَانًا، ثُمَّ وَرَّكَهُ عَلَى ابن عباس انتهى.
يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرَا | فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا حَوَائِرَا |
وقيل لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: أَلَكَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ».
وَسَمَّى الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ جَمَاعَةً اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ ذَكَرُوا كَيْفِيَّاتٍ فِي وَطْئِهِ وَإِنْسَالِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِإِبْلِيسَ وَلَدٌ وَإِنَّمَا الشَّيَاطِينُ هُمُ الَّذِينَ يُعِينُونَهُ عَلَى بُلُوغِ مَقَاصِدِهِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ أَيْ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا مِنَ اللَّهِ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ وَقَالَ لِلظَّالِمِينَ لِأَنَّهُمُ اعْتَاضُوا مِنَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَجَعَلُوا مَكَانَ وِلَايَتِهِمْ إِبْلِيسَ وذريته، وهذا نفس الظالم لِأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غيره مَوْضِعِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا أَشْهَدْتُهُمْ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ والسبختياني وَعَوْنٌ الْعُقَيْلِيُّ وَابْنُ مِقْسَمٍ: مَا أَشْهَدْنَاهُمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي أَشْهَدْتُهُمْ عَلَى إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ أَيْ لَمْ أُشَاوِرْهُمْ فِي خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ بَلْ خَلَقْتُهُمْ عَلَى مَا أَرَدْتُ، وَلِهَذَا قَالَ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي إِنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ شُرَكَاءَ لِي فِي الْعِبَادَةِ وَإِنَّمَا كَانُوا يَكُونُونَ شُرَكَاءَ فِيهَا لَوْ كَانُوا شُرَكَاءَ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَنَفَى مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِقَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا أَعْتَضِدُ بِهِمْ فِي خَلْقِهَا وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أَيْ وَلَا أَشْهَدْتُ بَعْضَهُمْ خَلْقَ بَعْضٍ كَقَوْلِهِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «١» وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَهُمْ أَعْوَانًا فَوَضَعَ الْمُضِلِّينَ موضع
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْحَسَنُ وَشَيْبَةُ وَما كُنْتُ بِفَتْحِ التَّاءِ خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى وَمَا صَحَّ لَكَ الِاعْتِضَادُ بِهِمْ، وَمَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْتَزَّ بِهِمُ انْتَهَى. وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ الْمَعْنَى إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ نَبِيِّهِ وَخِطَابٌ مِنْهُ تَعَالَى لَهُ فِي انْتِفَاءِ كَيْنُونَتِهِ مُتَّخِذَ عَضُدٍ مِنَ الْمُضِلِّينَ، بَلْ هُوَ مُذْ كَانَ وَوُجِدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي غَايَةِ التَّبَرِّي مِنْهُمْ وَالْبُعْدِ عَنْهُمْ لِتَعْلَمَ أُمَّتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَحْفُوظًا مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ لَمْ يَعْتَضِدْ بِمُضِلٍّ وَلَا مَالَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مُتَّخِذًا الْمُضِلِّينَ أَعْمَلَ اسْمَ الْفَاعِلِ.
وَقَرَأَ عِيسَى عَضُداً بِسُكُونِ الضَّادِ خَفَّفَ فَعْلًا كَمَا قَالُوا: رَجْلٌ وَسَبْعٌ فِي رَجُلٍ وَسَبُعٍ وَهِيَ لُغَةٌ عَنْ تَمِيمٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَرَأَ شيبة وَأَبُو عُمَرَ وَفِي رِوَايَةِ هَارُونَ وَخَارِجَةَ وَالْخَفَّافِ عَضُداً بِضَمَّتَيْنِ، وَعَنِ الْحَسَنِ عَضُداً بِفَتْحَتَيْنِ وَعَنْهُ أَيْضًا بِضَمَّتَيْنِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ عَضُداً بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الضَّادِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيَوْمَ يَقُولُ بِالْيَاءِ أَيِ اللَّهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَيَحْيَى وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَحَمْزَةُ وَابْنُ مِقْسَمٍ: نَقُولُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ أَيْ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا نادُوا شُرَكائِيَ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ شُرَكَاؤُهُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى زَعْمِكُمْ، وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَمَفْعُولَا زَعَمْتُمْ مَحْذُوفَانِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِمَا إِذِ التَّقْدِيرُ زَعَمْتُمُوهُمْ شُرَكَائِيَ وَالنِّدَاءُ بِمَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ، أَيْ اسْتَغِيثُوا بِشُرَكَائِكُمْ وَالْمُرَادُ نَادُوهُمْ لِدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ أَوْ لِلشَّفَاعَةِ لَكُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بَيْنَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الدَّاعِينَ وَالْمَدْعُوِّينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالشُّرَكَاءُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الْهُدَى وَأَهْلِ الضَّلَالَةِ، وَالظَّاهِرُ وُقُوعُ الدُّعَاءِ حَقِيقَةً وَانْتِفَاءُ الْإِجَابَةِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً كَأَنَّ فِكْرَةَ الْكَافِرِ وَنَظَرَهُ فِي أَنَّ تِلْكَ الْجَمَادَاتِ لَا تُغْنِي شَيْئًا وَلَا تَنْفَعُ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ وَتَرْكِ الْإِجَابَةِ.
إِنَّهُ الْمَجْلِسُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَوْعِدُ.
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ هِيَ رُؤْيَةُ عَيْنٍ أَيْ عَايَنُوهَا، وَالظَّنُّ هُنَا قِيلَ: عَلَى مَوْضُوعِهِ مِنْ كَوْنِهِ تَرْجِيحَ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ. وَكَوْنُهُمْ لَمْ يَجْزِمُوا بِدُخُولِهَا رَجَاءً وَطَمَعًا فِي رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى فَظَنُّوا أَيْقَنُوا قَالَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَمَعْنَى مُواقِعُوها مُخَالِطُوهَا وَاقِعُونَ فِيهَا كَقَوْلِهِ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ «١» الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ «٢». وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَطْلَقَ النَّاسُ أَنَّ الظَّنَّ هُنَا بِمَعْنَى التَّيَقُّنِ، وَلَوْ قَالَ بَدَلَ ظَنُّوا أَيْقَنُوا لَكَانَ الْكَلَامُ مُتَّسِقًا عَلَى مُبَالَغَةٍ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ بِالظَّنِّ لَا تَجِيءُ أَبَدًا فِي مَوْضِعِ يَقِينٍ تَامٍّ قد ناله الحسن بَلْ أَعْظَمُ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَجِيءَ فِي مَوْضِعِ عِلْمٍ مُتَحَقِّقٍ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الْمَظْنُونُ وَإِلَّا فَمَنْ يَقَعُ وَيُحَسُّ لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْعِبَارَةُ عَنْهُ بِالظَّنِّ.
وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَأَمَّلْ قَوْلَ دُرَيْدُ:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ انْتَهَى. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ مُلَاقُوهَا مَكَانَ مُواقِعُوها وَقَرَأَهُ كَذَلِكَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَةَ، وَالْأَوْلَى جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِمُخَالَفَةِ سَوَادِ الْمُصْحَفِ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ مُلَافُّوهَا بِالْفَاءِ مُشَدَّدَةً مِنْ لَفَفْتُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْكَافِرَ لَيَرَى جَهَنَّمَ وَيَظُنُّ أَنَّهَا مُوَاقِعَتُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً».
وَمَعْنَى مَصْرِفاً مَعْدِلًا وَمَرَاعًا. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي كبير الهذلي:
أزهير مل عَنْ شَيْبَةَ مِنْ مَصْرِفِ | أَمْ لَا خُلُودَ لِبَاذِلٍ مُتَكَلِّفِ |
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٤٦.
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ صَدْرِ هذه الآية: وشَيْءٍ هُنَا مُفْرَدٌ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ أَيْ أَكْثَرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَتَأَتَّى مِنْهَا الْجِدَالُ إِنْ فَصَّلْتَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. جَدَلًا خُصُومَةً وَمُمَارَاةً يَعْنِي أَنَّ جَدَلَ الْإِنْسَانِ أَكْثَرُ مِنْ جَدَلِ كُلِّ شَيْءٍ وَنَحْوُهُ، فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَانْتَصَبَ جَدَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ. قِيلَ: الْإِنْسانُ هُنَا النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. وَقِيلَ: ابْنُ الزِّبَعْرَى. وَقِيلَ:
أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَكَانَ جِدَالُهُ فِي الْبَعْثِ حِينَ أَتَى بِعَظْمٍ فَذَرَّهُ، فَقَالَ: أَيَقْدِرُ اللَّهُ عَلَى إِعَادَةِ هَذَا؟ قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ. قِيلَ: كُلُّ مَنْ يَعْقِلُ مِنْ مَلَكٍ وَجِنٍّ يُجَادِلُ والْإِنْسانُ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ جَدَلًا انْتَهَى.
وَكَثِيرًا مَا يُذْكَرُ الْإِنْسَانُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ
وَقَدْ تَلَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا حِينَ عَاتَبَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى النَّوْمِ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ:
إِنَّمَا نَفْسِي بِيَدِ اللَّهِ
، فَاسْتُعْمِلَ الْإِنْسانُ عَلَى الْعُمُومِ. وَفِي قوله وَما مَنَعَ النَّاسَ الْآيَةَ تَأَسُّفٌ عَلَيْهِمْ وَتَنْبِيهٌ عَلَى فَسَادِ حَالِهِمْ لِأَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لَمْ يَكُنْ بِقَصْدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا لِيَجِيئَهُمُ الْعَذَابُ، وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا هُمْ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُمْ مُصِيبُونَ لَكِنَّ الْأَمْرَ فِي نَفْسِهِ يَسُوقُهُمْ إِلَى هَذَا فَكَانَ حَالُهُمْ يَقْتَضِي التَّأَسُّفَ عليهم. والنَّاسَ يُرَادُ بِهِ كُفَّارُ عَصْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا دَفْعَ الشَّرِيعَةِ وَتَكْذِيبَهَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ الْأُولَى نَصْبٌ وَالثَّانِيَةَ رَفْعٌ وَقَبْلَهُمَا مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَما مَنَعَ النَّاسَ الْإِيمَانَ إِلَّا انْتِظَارُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَهِيَ الْإِهْلَاكُ أَوْ انْتِظَارُ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ يَعْنِي عَذَابَ الْآخِرَةِ انْتَهَى. وَهُوَ مُسْتَرَقٌ مِنْ قَوْلِ الزَّجَّاجِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُهُ مَا مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا طَلَبُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَعْنَى مَا مَنَعَهُمْ إِلَّا أَنِّي قَدْ قَدَّرْتُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَخَلَفٌ وَأَيُّوبُ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْكُوفِيُّونَ بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى قُبُلًا لِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ حَكَاهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْمُقَابَلَةِ، وَأَنْ يَكُونَ جَمْعَ قَبِيلٍ أَيْ يَجِيئُهُمُ الْعَذَابُ أَنْوَاعًا وَأَلْوَانًا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَمُجَاهِدٌ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ قُبُلًا بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَمَعْنَاهُ عِيَانًا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ أَيْضًا بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَهُوَ تَخْفِيفُ قُبُلٍ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ. وَذَكَرَ ابن قتيبة أنه قرىء بِفَتْحَتَيْنِ وَحَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ مُسْتَقْبَلًا. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَة قَبِيلًا بِفَتْحِ الْقَافِ وَبَاءٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ.
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ أَيْ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ لِمَنْ آمَنَ وَمُنْذِرِينَ أَيْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِمَنْ كَفَرَ لَا ليجادلوا ولا ليتمنى عَلَيْهِمُ الِاقْتِرَاحَاتُ لِيُدْحِضُوا لِيُزِيلُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي يَجْمَعُ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَعَلَامَاتِ الرَّسُولِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَما أُنْذِرُوا مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَاحْتَمَلَتْ مَا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ وَما أُنْذَرُوهُ وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ وَإِنْذَارُهُمْ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عَائِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ هُزُواً أَيْ سُخْرِيَةً وَاسْتِخْفَافًا لِقَوْلِهِمْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. لَوْ شِئْنَا لقلنا مثل هذا وجدا لهم للرسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولهم وما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا «٢» وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ الْمُضَافُ إِلَى الرَّبِّ هُوَ الْقُرْآنُ وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا فِي قَوْلِهِ أَنْ يَفْقَهُوهُ وَإِعْرَاضُهُ عَنْهَا كَوْنُهُ لَا يَتَذَكَّرُ حِينَ ذُكِّرَ وَلَمْ يَتَدَبَّرْ وَنَسِيَ عَاقِبَةَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي غَيْرَ مُفَكِّرٍ فِيهَا وَلَا نَاظِرٍ فِي أَنَّ الْمُحْسِنَ وَالْمُسِيءَ يجزيان بما عملا.
(٢) سورة يس: ٣٦/ ١٥.
والْغَفُورُ صفة مبالغة وذُو الرَّحْمَةِ أَيِ الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ دَلِيلَ رَحْمَتِهِ وهو كونه تعالى لَوْ يُؤاخِذُهُمْ عَاجِلًا بَلْ يُمْهِلُهُمْ مَعَ إِفْرَاطِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَعَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَوْعِدُ أَجَلُ الْمَوْتِ، أَوْ عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَوْ يَوْمُ بَدْرٍ، أَوْ يَوْمُ أُحُدٍ، وَأَيَّامُ النَّصْرِ أَوِ الْعَذَابِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ أَقْوَالٌ.
وَالْمَوْئِلُ قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَحْرَزُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمَخْلَصُ وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ دُونِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْعِدِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ مَوِّلًا بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا يَاءٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الْحُلْوَانِيِّ عَنْهُ مَوِلًا بِكَسْرِ الْوَاوِ خَفِيفَةً مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا يَاءٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ الْوَاوِ وهمزة بعدها مكسورة، وإشارة تَعَالَى بِقَوْلِهِ وَتِلْكَ الْقُرى إِلَى الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ أَهْلَ مَكَّةَ وَالْعَرَبِ كَقُرَى ثَمُودٍ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ، لِيَعْتَبِرُوا بِمَا جَرَى عَلَيْهِمْ وَلِيَحْذَرُوا مَا يَحِلُّ بِهِمْ كَمَا حَلَّ بِتِلْكَ الْقُرَى. وَتِلْكَ مبتدأ والْقُرى صِفَةٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وَالْخَبَرُ أَهْلَكْناهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تكون الْقُرى الخبر وأَهْلَكْناهُمْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ كَقَوْلِهِ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً «١» وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ أَيْ وَأَهْلَكْنَا تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ وتِلْكَ الْقُرى عَلَى إِضْمَارِ مُضَافٍ أَيْ وَأَصْحَابَ تِلْكَ الْقُرَى، وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى ذَلِكَ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ أَهْلَكْناهُمْ.
وَقَوْلُهُ لَمَّا ظَلَمُوا إِشْعَارٌ بِعِلَّةِ الْإِهْلَاكِ وَهِيَ الظُّلْمُ، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ عَلَى حَرْفِيَّةِ لَمَّا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعْنَى حِينٍ لِأَنَّ الظَّرْفَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ. وَفِي قَوْلِهِ لَمَّا ظَلَمُوا تَحْذِيرٌ مِنَ الظُّلْمِ إِذْ نَتِيجَتُهُ الْإِهْلَاكُ وضربنا لإهلاكهم وقتا
وَمَهْمَهٍ هَالِكِ مَنْ تَعَرَّجَا وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ فِي هَذَا الْبَيْتِ، بَلْ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ هَالِكًا فِيهِ لَازِمٌ وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ أَصْلُهُ هَالِكٍ مَنْ تَعَرَّجَا. فَمَنْ فَاعِلٌ ثُمَّ أُضْمِرَ فِي هَالِكٍ ضَمِيرُ مَهْمَهٍ، وَانْتَصَبَ مِنْ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ ثُمَّ أضاف مَنْ نَصَبَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَوْصُولِ هَلْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ؟ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ. قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
أَسِيلَاتُ أَبْدَانٍ دِقَاقٌ خُصُورُهَا | وَثِيرَاتُ مَا الْتَفَّتْ عَلَيْهَا الْمَلَاحِفُ |
فَعُجْتُهَا قِبَلَ الْأَخْيَارِ مَنْزِلَةً | وَالطَّيِّبِي كُلِّ مَا الْتَاثَتْ بِهِ الْأُزُرُ |
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨)
السُّنُونُ وَاحِدُهَا حِقْبَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنْ تَنْأَ عَنْهَا حِقْبَةً لَا تُلَاقِهَا | فَإِنَّكَ مما أحدثت بالمحرب |
مَتَى تَأْتِهِ تَأْتِ لُجَّ بَحْرٍ | تَقَاذَفُ في غوار به السَّفِينُ |
انْقَضَّ سَقَطَ، ومن أبيات معاياة الْأَعْرَابِ:
مَرَّ كَمَا انْقَضَّ عَلَى كَوْكَبٍ | عِفْرِيتُ جِنٍّ فِي الدُّجَى الْأَجْدَلِ |
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا
مُوسى الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مُوسَى غَيْرَهُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ وَهُوَ مُوسَى بْنَ مَيْشًا بْنِ يُوسُفَ، أو موسى بن إفرائيم بْنِ يُوسُفَ فَقَوْلٌ لَا يَصِحُّ، بَلِ الثَّابِتُ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَفِي التَّوَارِيخِ أَنَّهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ نبيّ إِسْرَائِيلَ، وَالْمُرْسَلُ هُوَ وَأَخُوهُ هَارُونُ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَفَتَاهُ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ بن إفرائيم بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
، وَالْفَتَى الشَّابُّ وَلَمَّا كَانَ الْخَدَمُ أَكْثَرَ مَا يَكُونُونَ فِتْيَانًا قِيلَ لِلْخَادِمِ فَتًى عَلَى جِهَةِ حُسْنِ الْأَدَبِ، وَنَدَبَتِ الشَّرِيعَةُ إِلَى ذَلِكَ.
فَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَلَا أَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي».
وَقَالَ: لِفَتاهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدِمُهُ وَيَتْبَعُهُ. وَقِيلَ: كَانَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْعِلْمَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ يُوشَعَ كَانَ ابْنَ أُخْتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَبَبُ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَلَسَ يَوْمًا فِي مَجْلِسٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَطَبَ فَأَبْلَغَ، فَقِيلَ لَهُ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ بِطُولِ سَيْفِ الْبَحْرِ حَتَّى يَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَسِيرُ
أَيْ لَا أَزَالُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهُوَ سَائِرٌ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
فَمَا بَرِحُوا حَتَّى تَهَادَتْ نِسَاؤُهُمْ | بِبَطْحَاءِ ذِي قار عباب اللَّطَائِمِ |
لَهَفِي عَلَيْكَ لِلَهْفَةٍ مِنْ خَائِفٍ | يَبْغِي جِوَارَكَ حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ |
وَالْوَجْهُ الثَّانِي جَعَلَ لَا أَبْرَحُ مُسْنَدًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى ذَلِكَ الْمُقَدَّرِ الْمَحْذُوفِ وَجَعَلَهُ لَا أَبْرَحُ هُوَ حَتَّى أَبْلُغَ فَهُوَ عُمْدَةٌ إِذْ أَصْلُهُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ لِأَنَّهُ خَبَرُ أَبْرَحُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا أَبْرَحُ مَا أَنَا عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَلْزَمُ الْمَسِيرَ وَالطَّلَبَ وَلَا أَتْرُكُهُ وَلَا أُفَارِقُهُ حَتَّى أَبْلُغَ كَمَا تَقُولُ لَا أَبْرَحُ الْمَكَانَ انْتَهَى. يَعْنِي إِنَّ بَرِحَ يَكُونُ بِمَعْنَى فَارَقَ فَيَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ إِلَى مَفْعُولٍ وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ،
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا ظَهَرَ مُوسَى وَقَوْمُهُ عَلَى مِصْرَ أَنْزَلَ قَوْمَهُ بِمِصْرَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْحَالُ خَطَبَ يَوْمًا فَذَكَّرَ بِآلَاءِ اللَّهِ وَأَيَّامِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا يُرَى قَطُّ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْزَلَ قَوْمَهُ بِمِصْرَ إِلَّا فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ بَلِ الْمُتَظَاهِرُ أَنَّ مُوسَى مَاتَ بِفَحْصِ التِّيهِ قَبْلَ فَتْحِ دِيَارِ الْجَبَّارِينَ، وَهَذَا
الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى مِصْرَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاسْتَقَرُّوا بَعْدَ هَلَاكِ الْقِبْطِ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُذَكِّرَ قَوْمَهُ النِّعْمَةَ فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَذَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى نَبِيَّكُمْ وَكَلَّمَهُ فَقَالُوا لَهُ: قَدْ عَلِمْنَا هَذَا فَأَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟
قَالَ: أَنَا فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بَلْ أَعْلَمُ مِنْكَ عَبْدٌ لِي عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ وَهُوَ الْخَضِرُ، كَانَ الْخَضِرُ فِي أَيَّامِ أَفْرِيدُونَ قَبْلَ مُوسَى وَكَانَ عَلَى مَقْدُمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ الْأَكْبَرِ وَبَقِيَ إِلَى أَيَّامِ مُوسَى، وَذَكَرَ أَيْضًا فِي أَسْئِلَةِ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي عِبَادِكَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي فَادْلُلْنِي عَلَيْهِ، قَالَ: أَعْلَمُ مِنْكَ الْخَضِرُ
انْتَهَى. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ
فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ هَلْ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ: لا.
ومَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ مُجْتَمَعُ بَحْرِ فَارِسَ وَبَحْرِ الرُّومِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ ذِرَاعٌ يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ مِنْ شَمَالٍ إِلَى جَنُوبٍ فِي أَرْضِ فَارِسَ مِنْ وَرَاءِ أَذْرَبِيجَانَ، فَالرُّكْنُ الَّذِي لِاجْتِمَاعِ الْبَحْرَيْنِ مِمَّا يَلِي بَرَّ الشَّامِ هُوَ مُجْتَمَعُ الْبَحْرَيْنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: هُوَ عِنْدَ طَنْجَةَ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْبَحْرُ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ الْبَحْرَيْنِ مُوسَى وَالْخَضِرُ لِأَنَّهُمَا كَانَا بَحْرَيْنِ فِي الْعِلْمِ انْتَهَى. وَقِيلَ: بَحْرُ الْقُلْزُمِ. وَقِيلَ: بَحْرُ الْأَزْرَقِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ مَجْمَعَ بِكَسْرِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ وَالنَّضْرُ عَنِ ابْنِ مُسْلِمٍ فِي كِلَا الْحَرْفَيْنِ وَهُوَ شَاذٌّ، وَقِيَاسُهُ مِنْ يَفْعَلُ فَتْحُ الْمِيمِ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ هُوَ اسْمُ مَكَانِ جَمْعِ الْبَحْرَيْنِ. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحُقُبُ الدَّهْرُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو وَأَبُو هُرَيْرَةَ: ثَمَانُونَ سَنَةً.
وَقَالَ الْحَسَنُ: سَبْعُونَ. وَقِيلَ: سَنَةٌ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: وَقْتٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ أَمْضِيَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَبْلُغَ فَغَيَّا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا بِبُلُوغِهِ الْمَجْمَعِ وَإِمَّا بِمُضِيِّهِ حُقُباً. وَقِيلَ: هِيَ تَغْيِيَةٌ لِقَوْلِهِ لَا أَبْرَحُ كَقَوْلِكَ لَا أُفَارِقُكَ أَوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي، فَالْمَعْنَى لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ إِلَى أَنْ أَمْضِيَ زَمَانًا أَتَيَقَّنُ مَعَهُ فَوَاتَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ حُقُباً بِإِسْكَانِ الْقَافِ وَالْجُمْهُورُ بِضَمِّهَا.
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ التَّقْدِيرُ فسار فَلَمَّا بَلَغا أَيْ مُوسَى وَفَتَاهُ مَجْمَعَ بَيْنِهِما أَيْ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ نَسِيا حُوتَهُما
وَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْحُوتِ وَقِصَّتِهِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُوحِيَ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رؤوسهما فَنَامَ مُوسَى وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ سَرَباً وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ.
قِيلَ: وَكَانَ الْحُوتُ مَالِحًا. وَقِيلَ: مَشْوِيًّا. وَقِيلَ: طَرِيًّا.
وَقِيلَ: جَمَعَ يُوشَعُ الْحُوتَ وَالْخُبْزَ فِي مِكْتَلٍ فَنَزَلَا لَيْلَةً عَلَى شَاطِئِ عَيْنٍ تُسَمَّى عَيْنَ الْحَيَاةِ وَنَامَ مُوسَى، فَلَمَّا أَصَابَ السَّمَكَةَ رَوْحُ الْمَاءِ وَبَرْدُهُ عَاشَتْ. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا أَكَلَا مِنْهَا. وَقِيلَ: تَوَضَّأَ يُوشَعُ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ فَانْتَضَحَ الْمَاءُ عَلَى الْحُوتِ فَعَاشَ وَوَقَعَ فِي الْمَاءِ
، وَالظَّاهِرُ نِسْبَةُ النِّسْيَانِ إِلَى مُوسَى وَفَتَاهُ.
وَشُبِّهَ بِالسَّرَبِ مَسْلَكُ الْحُوتِ فِي الْمَاءِ حِينَ لَمْ يَنْطَبِقِ الْمَاءُ بَعْدَهُ بَلْ بَقِيَ كَالطَّاقِ، هَذَا الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَقِيَ مَوْضِعُ سُلُوكِهِ فَارِغًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَاءً جَامِدًا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَجَرًا صَلْدًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّمَا اتَّخَذَ سَبِيلَهُ سَرَبًا فِي الْبَرِّ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْبَحْرِ ثُمَّ عَامَ عَلَى الْعَادَةِ كَأَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ سَرَباً تَصَرُّفًا وَجَوَلَانًا مِنْ قَوْلِهِمْ: فَحْلٌ سَارِبٌ أَيْ مُهْمَلٌ يَرْعَى حَيْثُ شَاءَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَسارِبٌ بِالنَّهارِ «١» أَيْ مُتَصَرِّفٌ.
وَقَالَ قَوْمٌ: اتَّخَذَ سَرَباً فِي التراب من المكتمل، وَصَادَفَ فِي طَرِيقِهِ حَجَرًا فَنَقَبَهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّرَبَ كَانَ فِي الْمَاءِ وَلَا يُفَسَّرُ إِلَّا بِمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَاءَ صَارَ عَلَيْهِ كَالطَّاقِ
وَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوِ الْخَضِرِ إِنْ قُلْنَا أَنَّهُ نَبِيٌّ وَإِلَّا تَكُنْ كَرَامَةً.
وَقِيلَ: عَادَ مَوْضِعَ سُلُوكِ الْحُوتِ حَجَرًا طَرِيقًا وَأَنَّ مُوسَى مَشَى عَلَيْهِ مُتَّبِعًا لِلْحُوتِ حَتَّى أَفْضَى بِهِ ذَلِكَ إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ وَفِيهَا وَجَدَ الْخَضِرَ
فَلَمَّا جاوَزا أَيْ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَوْعِدَ وَهُوَ الصَّخْرَةُ. قِيلَ: سَارَا بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الصَّخْرَةِ اللَّيْلَةَ وَالْغَدَ إِلَى الظُّهْرِ وَأُلْقِيَ عَلَى مُوسَى النَّصَبُ وَالْجُوعُ حِينَ جَاوَزَ الْمَوْعِدَ وَلَمْ يَنْصَبْ وَلَا جَاعَ قَبْلَ ذَلِكَ فَتَذَكَّرَ الْحُوتَ وَطَلَبَهُ. وَقَوْلُهُ مِنْ سَفَرِنا هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَسِيرِهِمَا وَرَاءَ الصَّخْرَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَصَباً بِفَتْحَتَيْنِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ بِضَمَّتَيْنِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ وَهِيَ إِحْدَى اللُّغَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي فِيهَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كيف نَسِيَ يُوشَعُ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ لَا يُنْسَى لِكَوْنِهِ أَمَارَةً لَهُمَا عَلَى الطِّلْبَةِ الَّتِي تَنَاهَضَا مِنْ أَجْلِهَا وَلِكَوْنِهِ مُعْجِزَتَيْنِ بَيِّنَتَيْنِ وَهُمَا حَيَاةُ السَّمَكَةِ الْمَمْلُوحَةِ الْمَأْكُولِ مِنْهَا وَقِيلَ: مَا كَانَتْ إِلَّا شِقَّ سَمَكَةٍ وَقِيَامُ الْمَاءِ وَانْتِصَابُهُ مِثْلُ الطَّاقِ وَنُفُوذُهَا فِي مِثْلِ السَّرَبِ، ثُمَّ كَيْفَ اسْتَمَرَّ بِهِ النِّسْيَانُ حَتَّى خَلَّفَا الْمَوْعِدَ وَسَارَا مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ إِلَى ظُهْرِ الْغَدِ، وَحَتَّى طَلَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحُوتَ قُلْتُ: قَدْ شَغَلَهُ الشَّيْطَانُ بِوَسَاوِسِهِ فذهب بفكره كل
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا وَجْهُ الْتِئَامِ هَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَرَأَيْتَ وإِذْ أَوَيْنا وفَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ لَا مُتَعَلِّقَ لَهُ؟ قُلْتُ: لَمَّا طَلَبَ مُوسَى الْحُوتَ ذَكَرَ يُوشَعُ مَا رَأَى مِنْهُ وَمَا اعْتَرَاهُ مِنْ نِسْيَانِهِ إِلَى تِلْكَ الْغَايَةِ فَدُهِشَ فَطَفِقَ يَسْأَلُ مُوسَى عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَرَأَيْتَ مَا دَهَانِي إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ فَحُذِفَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَكَوْنُ أَرَأَيْتُكَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي شَرْحِنَا لِكِتَابِ التَّسْهِيلِ.
وَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِأَرَأَيْتَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ: إِنَّ الْعَرَبَ أَخْرَجَتْهَا عَنْ مَعْنَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَقَالُوا: أَرَأَيْتُكَ وَأَرَيْتُكَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَبْصَرْتُ لَمْ تُحْذَفْ هَمْزَتُهَا قَالَ: وَشَذَّتْ أَيْضًا فَأَلْزَمَتْهَا الْخِطَابَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا تَقُولُ فِيهَا أَبَدًا أَرَانِي زَيْدٌ عَمْرًا مَا صَنَعَ، وَتَقُولُ هَذَا عَلَى مَعْنَى أَعْلَمُ. وَشَذَّتْ أَيْضًا فَأَخْرَجَتْهَا عَنْ مَوْضِعِهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِدَلِيلِ دُخُولِ الْفَاءِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ فَمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ إِلَّا وَقَدْ أُخْرِجَتْ لِمَعْنَى أَمَّا أَوْ تَنَبَّهْ، وَالْمَعْنَى أَمَّا إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَالْأَمْرُ كَذَا، وَقَدْ أَخْرَجَتْهَا أَيْضًا إِلَى مَعْنَى أَخْبِرْنِي كَمَا قَدَّمْنَا، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فَلَا بُدَّ بَعْدَهَا مِنَ الِاسْمِ الْمُسْتَخْبَرِ عَنْهُ وَتَلْزَمُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا الِاسْتِفْهَامَ، وَقَدْ يَخْرُجُ لِمَعْنَى أَمَّا وَيَكُونُ أَبَدًا بَعْدَهَا الشَّرْطُ وَظَرْفُ الزَّمَانِ فَقَوْلُهُ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ مَعْنَاهُ أَمَّا إِذْ أَوَيْنا فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ أَوْ تَنَبَّهْ إِذْ أَوَيْنا وَلَيْسَتِ الْفَاءُ إِلَّا جَوَابًا لِأَرَأَيْتَ، لِأَنَّ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجَازَى بِهَا إِلَّا مَقْرُونَةً بِمَا بَلَا خِلَافٍ انْتَهَى كَلَامُ الْأَخْفَشِ. وَفِيهِ إِنَّ أَرَأَيْتَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فَلَا بُدَّ بَعْدَهَا مِنَ الِاسْمِ الْمُسْتَخْبَرِ عَنْهُ، وَتَلْزَمُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا الِاسْتِفْهَامَ وَهَذَانِ مَفْقُودَانِ فِي تَقْدِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَرَأَيْتَ هُنَا بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَمَعْنَى نَسِيتُ الْحُوتَ نَسِيتُ ذِكْرَ مَا جَرَى فِيهِ لَكَ.
وَفِي قَوْلِهِ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ حُسْنُ أَدَبٍ سَبَّبَ النِّسْيَانَ إِلَى المتسبب فيه بوسوسته وأَنْ أَذْكُرَهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْحُوتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ
وَمَعْنَى عَجَباً أَيْ تَعَجُّبٌ مِنْ ذَلِكَ أَوِ اتِّخَاذًا عَجَباً وَهُوَ أَنَّ أَثَرَهُ بَقِيَ إِلَى حَيْثُ سَارَ.
وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ سَبِيلَهُ عَجَباً وَهُوَ كَوْنُهُ شَبِيهَ السَّرَبِ قَالَ: أَوْ قَالَ عَجَباً فِي آخِرِ كَلَامٍ تَعَجُّبًا مِنْ حَالِهِ فِي رُؤْيَةِ تِلْكَ الْعَجِيبَةِ وَنِسْيَانِهِ لَهَا، أَوْ مِمَّا رَأَى مِنَ الْمُعْجِزَتَيْنِ وَقَوْلُهُ:
وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ عَجَباً حِكَايَةٌ لِتَعَجُّبِ مُوسَى وَلَيْسَ بِذَلِكَ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ يُوشَعَ لِمُوسَى أَيِ اتَّخَذَ الْحُوتُ سَبِيلًا عَجَبًا لِلنَّاسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ تَمَامَ الْخَبَرِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ التَّعَجُّبَ فَقَالَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ عَجَباً لِهَذَا الْأَمْرِ، وَمَوْضِعُ الْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ حُوتٌ قَدْ مَاتَ وَأَكَلَ شِقَّهُ ثُمَّ حَيَى بَعْدَ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو شُجَاعٍ فِي كِتَابِ الطَّبَرِيِّ رَأَيْتُهُ أَتَيْتُ بِهِ فَإِذَا هُوَ شَقُّ حُوتٍ وَعَيْنٌ وَاحِدَةٌ وَشَقٌّ آخَرُ لَيْسَ فِيهِ شيّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَنَا رَأَيْتُهُ وَالشِّقُّ الَّذِي فِيهِ شَيٌّ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ لَيْسَتْ تَحْتَهَا شَوْكَةٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ الْآيَةَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ مُوسَى أَنَّهُ اتَّخَذَ سَبِيلَ الْحُوتِ مِنَ الْبَحْرِ عَجَباً أَيْ تَعَجَّبَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنِ الْحُوتِ أَنَّهُ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ عَجَباً لِلنَّاسِ انْتَهَى. وَقَرَأَ حَفْصٌ: وَما أَنْسانِيهُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَفِي الْفَتْحِ عَلَيْهِ اللَّهُ وَذَلِكَ فِي الْوَصْلِ وَأَمَالَ الْكِسَائِيُّ فَتْحَةَ السِّينِ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِرَاءَتِهِ أَنْ أَذْكُرَهُ إِلَّا الشَّيْطانُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: وَاتِّخَاذُ سَبِيلِهِ عَطْفٌ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي أَذْكُرَهُ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى أَمْرِ الْحُوتِ وَفَقْدِهِ وَاتِّخَاذِهِ سَبِيلًا فِي الْبَحْرِ لِأَنَّهُ أَمَارَةُ الظَّفَرِ بِالطِّلْبَةِ مِنْ لِقَاءِ ذَلِكَ الْعَبْدِ الصالح وَمَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ نَبْغِيهِ. وَقُرِئَ نَبْغِ بِغَيْرِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَإِثْبَاتُهَا أَحْسَنُ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ وَنَافِعٍ، وَأَمَّا الْوَقْفُ فَالْأَكْثَرُ فِيهِ طَرْحُ الْيَاءِ اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ، وَأَثْبَتَهَا فِي الْحَالَيْنِ ابْنُ كَثِيرٍ.
فَارْتَدَّا رَجَعَا عَلَى أَدْرَاجِهِمَا مِنْ حَيْثُ جَاءَا. قَصَصاً أَيْ يَقُصَّانِ الْأَثَرَ قَصَصاً فَانْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِإِضْمَارِ يَقُصَّانِ، أَوْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُقْتَصِّينَ فَيُنْصَبُ بِقَوْلِهِ فَارْتَدَّا فَوَجَدا أَيْ مُوسَى وَالْفَتَى عَبْداً مِنْ عِبادِنا هَذِهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَاخْتِصَاصٍ،
وَجَدَاهُ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي فَقَدَ الْحُوتَ عِنْدَهَا وَهُوَ مُسَجَّى فِي
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ الْخَضِرُ وَخَالَفَ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ فَزَعَمَ أَنَّهُ عَالِمٌ آخَرُ. وَقِيلَ: الْيَسَعُ. وَقِيلَ: إِلْيَاسُ. وَقِيلَ: خَضِرُونُ بْنُ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قِيلَ: وَاسْمُ الْخَضِرِ بَلْيَا بْنُ مَلْكَانَ
، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ نَبِيٌّ وَكَانَ عِلْمُهُ مَعْرِفَةَ بَوَاطِنَ قَدْ أُوحِيَتْ إِلَيْهِ، وَعِلْمُ مُوسَى الْأَحْكَامَ وَالْفُتْيَا بِالظَّاهِرِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ وُجِدَ قَاعِدًا عَلَى ثَبَجِ الْبَحْرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ سُمِّيَ خَضِرًا لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَالِيَةٍ فَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ.
وَقِيلَ: كَانَ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ.
وَقِيلَ: جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُرْتَفِعَةُ.
وَقِيلَ: الصَّلْبَةُ وَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ. وَقِيلَ: كَانَتْ أُمُّهُ رُومِيَّةً وَأَبُوهُ فَارِسِيٌّ.
وَقِيلَ: كَانَ ابْنَ مَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ أَرَادَ أَبُوهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَلَحِقَ بِجَزَائِرَ الْبَحْرِ فَطَلَبَهُ أَبُوهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ.
وَقَالَ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْمَرْسِيُّ: أَمَّا خَضِرُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَلَيْسَ بِحَيٍّ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَلَزِمَهُ الْمَجِيءُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعُهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْنِ لَمْ يَسَعْهُمَا إِلَّا اتِّبَاعِي».
انْتَهَى هكذا أوراد لحديث وَمَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عِيسَى حَيٌّ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَعَلَّ
الْحَدِيثَ: «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمْ يَسَعْهُ إِلَّا اتِّبَاعِي».
وَالرَّحْمَةُ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا هِيَ الْوَحْيُ وَالنُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: الرِّزْقُ. وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أَيْ مِنْ عِنْدِنَا أَيْ مِمَّا يَخْتَصُّ بِنَا مِنَ الْعِلْمِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْغُيُوبِ. وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مِنْ لَدُنَّا بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَهِيَ لُغَةٌ فِي لَدُنْ وَهِيَ الْأَصْلُ.
قِيلَ: وَقَدْ أُولِعَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الصَّلَاحِ بِادِّعَاءِ هَذَا الْعِلْمِ وَيُسَمُّونَهُ الْعِلْمَ اللَّدُنِّيَّ، وَأَنَّهُ يُلْقَى فِي رَوْعِ الصَّالِحِ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُخْبِرَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى الْخَضِرَ. وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُطِيعٍ الْقُشَيْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ يُخْبِرُ عَنْ شَيْخٍ لَهُ أَنَّهُ رَأَى الْخَضِرَ وَحَدَّثَهُ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ الْخَضِرُ؟ وَمِنْ أَيْنَ عَرِفَ ذَلِكَ؟ فَسَكَتَ. وَبَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ الْخَضِرِيَّةَ رُتْبَةٌ يَتَوَلَّاهَا بَعْضُ الصَّالِحِينَ عَلَى قَدَمِ الْخَضِرِ، وَسَمِعْنَا الْحَدِيثَ عَنْ
قالَ لَهُ مُوسى فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَلَمَّا الْتَقَيَا وَتَرَاجَعَا الْكَلَامَ وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّوَاضُعِ لِلْعَالِمِ، وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى الْحَثِّ عَلَى الرِّحْلَةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَعَلَى حُسْنِ التَّلَطُّفِ وَالِاسْتِنْزَالِ وَالْأَدَبِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ. بِقَوْلِهِ هَلْ أَتَّبِعُكَ وَفِيهِ الْمُسَافَرَةُ مَعَ الْعَالِمِ لِاقْتِبَاسِ فَوَائِدِهِ، وَالْمَعْنَى هَلْ يَخِفُّ عَلَيْكَ وَيَتَّفِقُ لَكَ وَانْتَصَبَ رُشْداً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ تُعَلِّمَنِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي أَتَّبِعُكَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عِلْماً ذَا رُشْدٍ أُرْشَدُ بِهِ فِي دِينِي، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: أَمَا دَلَّتْ حَاجَتُهُ إِلَى التَّعَلُّمِ مِنْ آخَرَ فِي عَهْدِهِ أَنَّهُ كَمَا قِيلَ مُوسَى بْنُ مِيشَا لَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ لِأَنَّ النَّبِيَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ وَإِمَامَهُمُ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ فِي أَبْوَابِ الدِّينِ؟ قُلْتُ:
لَا غَضَاضَةَ بِالنَّبِيِّ فِي أَخْذِ الْعِلْمِ مِنْ نَبِيٍّ قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يَغُضُّ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ دُونَهُ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نُوفًا ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبٍ يَزْعُمُ أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ بِصَاحِبِ مُوسَى، وَأَنَّ مُوسَى هُوَ مُوسَى بْنُ مِيشَا فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ انْتَهَى.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالْيَزِيدِيُّ رُشْداً بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو مِنَ السَّبْعَةِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ، وَنَفَى الْخَضِرُ اسْتِطَاعَةَ الصَّبْرِ مَعَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ كَأَنَّهَا مِمَّا لَا يَصِحُّ وَلَا يَسْتَقِيمُ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَتَوَلَّى أُمُورًا هِيَ فِي ظَاهِرِهَا يُنْكِرُهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَكَيْفَ النَّبِيُّ فَلَا يَتَمَالَكُ أَنْ يَشْمَئِزَّ لِذَلِكَ، وَيُبَادِرَ بِالْإِنْكَارِ وَكَيْفَ تَصْبِرُ أَيْ إِنَّ صَبْرَكَ عَلَى مَا لَا خِبْرَةَ لَكَ بِهِ مُسْتَبْعَدٌ، وَفِيهِ إِبْدَاءُ عُذْرٍ لَهُ حَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ لِمَا يَرَى مِنْ مُنَافَاةِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ شَرِيعَتِهِ. وَانْتَصَبَ خُبْراً عَلَى التَّمْيِيزِ أَيْ مِمَّا لَمْ يُحِطْ بِهِ خُبْرُكَ فَهُوَ مَنْقُولٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ لِأَنَّ مَعْنَى بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ لَمْ تُخْبَرْهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ هُرْمُزَ خُبْراً بِضَمِّ الْبَاءِ.
قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَعَدَهُ بِوِجْدَانِهِ صابِراً وَقَرَنَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عِلْمًا مِنْهُ بِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَصُعُوبَتِهِ، إِذْ لَا يَصْبِرُ إِلَّا عَلَى مَا يُنَافِي ما هو عليه إذ رَآهُ وَلا أَعْصِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى صابِراً أَيْ صابِراً وَغَيْرَ عَاصٍ فَيَكُونُ فِي
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَعَدَ مُوسَى مِنْ نَفْسِهِ بِشَيْئَيْنِ: بِالصَّبْرِ وَقَرَنَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ فَصَبَرَ حِينَ وَجَدَ عَلَى يَدَيِ الْخَضِرِ فِيمَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْفِعْلِ، وَبِأَنْ لَا يَعْصِيَهُ فَأَطْلَقَ وَلَمْ يُقْرِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَعَصَاهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ فَلا تَسْئَلْنِي فَكَانَ يَسْأَلُهُ فَمَا قَرَنَ بِالِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ وَمَا أَطْلَقَهُ وَقَعَ فِيهِ الْخُلْفُ انْتَهَى. وَهَذَا مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وَلا أَعْصِي مَعْطُوفًا عَلَى سَتَجِدُنِي فَلَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ.
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي أَيْ إِذَا رَأَيْتَ مِنِّي شَيْئًا خَفِيَ عَلَيْكَ وَجْهُ صِحَّتِهِ فَأَنْكَرْتَ فِي نَفْسِكَ فَلَا تُفَاتِحْنِي بِالسُّؤَالِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الْفَاتِحَ عَلَيْكَ، وَهَذَا مِنْ أَدَبِ الْمُتَعَلِّمِ مع العالم المتبوع. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فَلا تَسْئَلْنِي وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ مُشَدِّدَةَ النُّونِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْهَمْزِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ. كُلُّهُمْ بِيَاءٍ فِي الْحَالَيْنِ انْتَهَى. وَعَنِ ابْنِ عَامِرٍ فِي حَذْفِ الْيَاءِ خِلَافٌ غَرِيبٌ.
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.
فَانْطَلَقا أَيْ مُوسَى وَالْخَضِرُ وَكَانَ مَعَهُمْ يُوشَعُ وَلَمْ يُضْمَرْ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ التَّبَعِ.
وَقِيلَ: كَانَ مُوسَى قَدْ صَرَفَهُ وَرَدَّهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي السَّفِينَةِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَهْدٌ فِي سَفِينَةٍ مَخْصُوصَةٍ. وَرُوِيَ فِي كَيْفِيَّةِ رُكُوبِهِمَا السَّفِينَةَ وَخَرْقِهَا وَسَدِّهَا أَقْوَالٌ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا قَالَا: «فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ
وَاللَّامُ فِي لِتُغْرِقَ أَهْلَها. قِيلَ: لَامُ الْعَاقِبَةِ. وَقِيلَ: لَامُ الْعِلَّةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ لِيَغْرَقَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ أَهْلَها بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّ تَاءِ الْخِطَابِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَنَصْبِ لَامِ أَهْلَها. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمَا فَتَحَا الْغَيْنَ وَشَدَّدَا الرَّاءَ.
ثُمَّ ذَكَّرَهُ الْخَضِرُ بِمَا سَبَقَ لَهُ مِنْ نَفْيِ اسْتِطَاعَتِهِ الصَّبْرَ لِمَا يَرَى فَقَالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَالظَّاهِرُ حَمْلُ النِّسْيَانِ عَلَى وَضْعِهِ.
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا»
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ نَسِيَ الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ عَدَمِ سُؤَالِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُخْبِرَ لَهُ أَوَّلًا وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَعَنْ أُبَيِّ ابن كَعْبٍ أَنَّهُ مَا نَسِيَ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ هَذَا مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ أَنَّهُ نَسِيَ وَصِيَّتَهُ وَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى النَّاسِي، أَوْ أَخْرَجَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ النَّهْيِ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْيَانِ تَوَهَّمَهُ أَنَّهُ نَسِيَ لِيَبْسُطَ عُذْرَهُ فِي الْإِنْكَارِ وَهُوَ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ الَّتِي يُنْفَى بِهَا الْكَذِبُ مَعَ التَّوَصُّلِ إِلَى الْغَرَضِ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
هَذِهِ أُخْتِي وَإِنِّي سَقِيمٌ: أَوْ أَرَادَ بِالنِّسْيَانِ التَّرْكَ أَيْ لَا تُؤاخِذْنِي بِمَا تَرَكْتُ مِنْ وَصِيَّتِكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ انْتَهَى.
وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَلَامَ أُبَيٍّ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، وَلَا يُعْتَمَدُ إِلَّا
قَوْلُ الرَّسُولِ: «كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا».
وَلا تُرْهِقْنِي لَا تُغْشِنِي وَتُكَلِّفْنِي مِنْ أَمْرِي وَهُوَ اتِّبَاعُكَ عُسْراً أَيْ شَيْئًا صَعْبًا، بَلْ سَهِّلْ عَلَيَّ فِي مُتَابَعَتِكَ بِتَرْكِ الْمُنَاقَشَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ عُسْراً بِضَمِّ السِّينِ حَيْثُ وَقَعَ فَانْطَلَقَا فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَخَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ وَلَمْ يَقَعْ غَرَقٌ بِأَهْلِهَا، فَانْطَلَقَا فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ على الساحل إذا بصر الْخَضِرُ غُلاماً يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَمَرَّ بِغِلْمَانٍ يَلْعَبُونَ فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى غُلَامٍ حَسَنِ الْهَيْئَةِ وَضِيءِ الْوَجْهِ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ. وَقِيلَ: رَضَّهُ بِحَجَرٍ. وَقِيلَ: ذَبَحَهُ. وَقِيلَ: فَتَلَ عُنُقَهُ. وَقِيلَ: ضَرَبَ بِرَأْسِهِ الْحَائِطَ.
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الَّذِي قَدْ أَصَابَهَا | غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا |
تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي | غُلَامٌ إذا هو جيت لَسْتُ بِشَاعِرِ |
وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ كَانَ يُفْسِدُ وَيُقْسِمُ لِأَبَوَيْهِ أَنَّهُ مَا فَعَلَ فَيُقْسِمَانِ عَلَى قَسَمِهِ وَيَحْمِيَانِهِ مِمَّنْ يَطْلُبُهُ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْعُرْسِ وَالْعَرَائِسِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ لِلْخَضِرِ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً غَضِبَ الْخَضِرُ وَاقْتَلَعَ كَتِفَ الصَّبِيِّ الْأَيْسَرَ وَقَشَّرَ اللَّحْمَ عَنْهُ، وَإِذَا فِي عَظْمِ كَتِفِهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أَبَدًا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ خَرَقَها بغير فاء وفَقَتَلَهُ بِالْفَاءِ؟ قُلْتُ:
جُعِلَ خَرَقَهَا جَزَاءً لِلشَّرْطِ، وَجُعِلَ قَتَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرْطِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَالْجَزَاءُ قَالَ أَقَتَلْتَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ خُولِفَ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: لِأَنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ لَمْ يَتَعَقَّبِ الرُّكُوبَ وَقَدْ تَعَقَّبَ الْقَتْلُ لِقَاءَ الْغُلَامِ انْتَهَى.
وَمَعْنَى زَكِيَّةً طَاهِرَةً مِنَ الذُّنُوبِ، وَوَصَفَهَا بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهَا أَذْنَبَتْ، قِيلَ أَوْ لِأَنَّهَا صَغِيرَةٌ لَمْ تَبْلُغِ الْحِنْثَ. وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ نَفْسٍ يَرُدُّهُ وَيَدُلُّ عَلَى كِبَرِ الْغُلَامِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لَمْ يَحْتَلِمْ لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ بِنَفْسٍ وَلَا بِغَيْرِ نَفْسٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَنَافِعٌ وَالْيَزِيدِيُّ وَابْنُ مُسْلِمٍ وَزَيْدٌ وَابْنُ بُكَيْرٍ عَنْ يَعْقُوبَ وَالتَّمَّارِ عَنْ رُوَيْسٍ عَنْهُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو زَاكِيَةً بِالْأَلِفِ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكُوفِيُّونَ زَكِيَّةً بِغَيْرِ أَلِفٍ وَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ زَاكِيَةٍ لِأَنَّ فَعِيلًا الْمُحَوَّلَ مِنْ فَاعِلٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُكْراً بِإِسْكَانِ الْكَافِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَطَلْحَةُ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو حَاتِمٍ بِرَفْعِ الْكَافِ حَيْثُ كَانَ مَنْصُوبًا. وَالنُّكْرُ قِيلَ: أَقَلُّ مِنَ الْإِمْرِ لِأَنَّ قَتْلَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَهْوَنُ مِنْ إِغْرَاقِ أَهْلِ السَّفِينَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ شَيْئًا أَنْكَرَ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَوْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلا تُصاحِبْنِي أَيْ فَأَوْقِعِ الْفِرَاقَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا تُصاحِبْنِي مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ. وَقَرَأَ عِيسَى وَيَعْقُوبُ فَلَا تَصْحَبْنِي مُضَارِعُ صَحِبَ وَعِيسَى أَيْضًا بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مُضَارِعُ أَصْحَبَ، وَرَوَاهَا سَهْلٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْ فَلَا تُصْحِبْنِي عِلْمَكَ وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ فَلَا تُصْحِبْنِي إِيَّاكَ وَبَعْضُهُمْ نَفْسَكَ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاءِ وَشَدِّ النُّونِ. وَمَعْنَى قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أَيْ قَدِ اعْتَذَرْتَ إِلَيَّ وَبَلَغْتَ إِلَى الْعُذْرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ لَدُنِّي بِإِدْغَامِ نُونِ لَدُنْ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ الَّتِي اتَّصَلَتْ بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَهِيَ نُونُ لَدُنِ اتَّصَلَتْ بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ أَصْلَ الْأَسْمَاءِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لَمْ تَلْحَقْ نُونُ الْوِقَايَةِ نَحْوُ غُلَامِي وَفَرَسِي، وَأَشَمَّ شُعْبَةُ الضَّمَّ فِي الدَّالِ، وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ سُكُونُ الدَّالِ. قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: وَهُوَ غَلَطٌ وَكَأَنَّهُ يَعْنِي مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ فَلَيْسَتْ بِغَلَطٍ لِأَنَّ مِنْ لُغَاتِهَا لَدْ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الدَّالِ. وَقَرَأَ عِيسَى عُذْراً بِضَمِّ الذَّالِ وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَنْ أُبَيٍّ عُذْرِي بِكَسْرِ الرَّاءِ مُضَافًا إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا أَنَّهُ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا»
وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا لِأَحَدٍ بَدَأَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْ صَبَرَ عَلَى صَاحِبِهِ لَرَأَى الْعَجَبَ»
وَلَكِنَّهُ قَالَ فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً.
وَالْقَرْيَةُ الَّتِي أَتَيَا أَهْلَهَا إِنْطَاكِيَةُ أَوِ الْأُبُلَّةُ أَوْ بِجَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ وَهِيَ الْجَزِيرَةُ الْخَضْرَاءُ، أَوْ بُرْقَةُ أَوْ أَبُو حَوْرَانَ بِنَاحِيَةِ أَذْرَبِيجَانَ، أَوْ نَاصِرَةُ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ أَوْ قَرْيَةٌ بِأَرْمِينِيَّةَ أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَيِّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ كَانَتْ قصة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا كَانَا يَمْشِيَانِ عَلَى مَجَالِسِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ يَسْتَطْعِمَانِهِمْ وَهَذِهِ عِبْرَةٌ مُصَرِّحَةٌ بِهَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَكَرَّرَ لَفْظُ أَهْلَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَقَدْ يَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ عَنِ التَّوْكِيدِ وَهُوَ أَنَّهُمَا حين أتيا أهل القرية لَمْ يَأْتِيَا جَمِيعَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ إِنَّمَا أَتَيَا بَعْضَهُمْ، فَلَمَّا قَالَ اسْتَطْعَما احْتَمَلَ أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَطْعِمَا إِلَّا ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي أَتَيَاهُ فَجِيءَ بِلَفْظِ أَهْلِهَا لِيَعُمَّ جَمِيعَهُمْ وَأَنَّهُمْ يُتْبِعُونَهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا بِالِاسْتِطْعَامِ، وَلَوْ كَانَ التركيب استطعماهم لَكَانَ عَائِدًا عَلَى الْبَعْضِ الْمَأْتِيِّ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْمُحَرِّفِينَ لِكَلَامِ اللَّهِ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ كَانَ يَجْعَلُ الضَّمِيرَ لِلْخَضِرِ لِأَنَّ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ آفَةِ الْجَهْلِ وَسُقْمِ الْفَهْمِ أَرَاهُ أَعْلَى الْكَلَامَ طَبَقَةً أَدْنَاهُ مَنْزِلَةً، فَتَمَحَّلَ لِيَرُدَّهُ إِلَى مَا هُوَ عِنْدَهُ أَصَحُّ وَأَفْصَحُ، وَعِنْدَهُ أَنَّ مَا كَانَ أَبْعَدَ مِنَ الْمَجَازِ أَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ أُصُولِ الْفِقْهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ الْأَصْبَهَانِيِّ مِنْ أَنَّهُ يُنْكِرُ الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ لَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَهُوَ أَحَدُ الْأُدَبَاءِ الشُّعَرَاءِ الْفُحُولِ الْمُجِيدِينَ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَنْقَضَّ أَيْ يَسْقُطُ مِنِ انْقِضَاضِ الطَّائِرِ، وَوَزْنُهُ انْفَعَلَ نَحْوُ انْجَرَّ.
قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: مِنَ الْقَضَّةِ وَهِيَ الْحَصَى الصِّغَارُ، وَمِنْهُ طَعَامٌ قَضَضٌ إِذَا كَانَ فِيهِ حَصًى، فَعَلَى هَذَا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أَيْ يَتَفَتَّتُ فَيَصِيرُ حَصَاةً انْتَهَى. وَقِيلَ: وَزْنُهُ افْعَلَّ مِنَ النَّقْضِ كَاحْمَرَّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ
يَنْقَضَّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَالضَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ نَقَضْتُهُ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ يُرِيدُ لِيَنْقَضَّ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِأَنِ الْمُقَدَّرَةِ بَعْدَ اللَّامِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو شَيْخٍ خَيْوَانُ بْنُ خَالِدٍ الْهُنَائِيٌّ وَخُلَيْدُ بْنُ سَعْدٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ يَنْقَاصُ بِالصَّادِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ مَعَ الْأَلِفِ
، وَوَزْنُهُ يَنْفَعِلُ اللَّازِمُ مِنْ قَاصَ يَقِيصُ إِذَا كَسَرْتَهُ تَقُولُ: قَصَيْتُهُ فَانْقَاصَ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَتَقُولُ الْعَرَبُ انْقَاصَتِ السِّنُّ إِذَا انْشَقَّتْ طُولًا. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: مُنْقَاصٌ وَمُنْكَثِبُ. وَقِيلَ: إِذَا تَصَدَّعَتْ كَيْفَ كَانَ.
وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
فراق كقص السَّنِّ فَالصَّبْرَ إِنَّهُ | لِكُلِّ أناس عشرة وحبور |
وَوَقَعَ هَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وأيد بقوله لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً لِأَنَّ بِنَاءَهُ بَعْدَ هَدْمِهِ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَجْرًا. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مَسَحَهُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ فَقَامَ. وَقِيلَ: أَقَامَهُ بِعَمُودٍ عَمَدَهُ بِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: سَوَّاهُ بِالشِّيدِ أَيْ لَبَّسَهُ بِهِ وَهُوَ الْجَيَّارُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: دَفَعَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ وَهَذَا أَلْيَقُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَتِ الْحَالُ حَالَ اضْطِرَارٍ وَافْتِقَارٍ إِلَى المطعم وقد لزتهما الْحَاجَةُ إِلَى آخَرِ كَسْبِ الْمَرْءِ وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ فَلَمْ يَجِدَا مُوَاسِيًا، فَلَمَّا أَقَامَ الْجِدَارَ لَمْ يَتَمَالَكْ مُوسَى لِمَا رَأَى مِنَ الْحِرْمَانِ وَمِسَاسِ الْحَاجَةِ أَنْ قالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وَطَلَبْتَ عَلَى عَمَلِكَ جُعْلًا حَتَّى تَنْتَعِشَ بِهِ وَتَسْتَدْفِعَ الضَّرُورَةَ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلِهِ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُؤَالًا فَفِي ضِمْنِهِ الْإِنْكَارُ لِفِعْلِهِ، وَالْقَوْلُ بِتَصْوِيبِ أَخْذِ الْأَجْرِ وَفِي ذَلِكَ تَخْطِئَةُ تَرْكِ الْأَجْرِ انْتَهَى. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ بحرية ولتخذت بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَخَاءٍ مَكْسُورَةٍ، يُقَالُ تَخِذَ وَاتَّخَذَ نَحْوُ تَبِعَ وَاتَّبَعَ، افْتَعَلَ مِنْ تَخِذَ وَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي التَّاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي إِلَى جَنْبِ غَرْزِهَا | نَسِيفًا كَأُفْحُوصِ الْقَطَاةِ الْمُطَرَّقِ |
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ تُصُوِّرَ فِرَاقٌ بَيْنَهُمَا عِنْدَ حُلُولِ مِيعَادِهِ عَلَى مَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي فَأَشَارَ إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ مُبْتَدَأً وَأَخْبَرَ عَنْهُ كَمَا تَقُولُ: هَذَا أَخُوكَ فَلَا يَكُونُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى غَيْرِ الْأَخِ انْتَهَى. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ فِراقُ بَيْنِي بِالتَّنْوِينِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْإِضَافَةِ. وَالْبَيْنُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّلَاحُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُصْطَحِبَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَذَلِكَ مُسْتَعَارٌ فِيهِ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ وَمُسْتَعْمَلٌ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، وَتَكْرِيرُهُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ وَعُدُولُهُ عَنْ بَيْنِنَا لِمَعْنَى التَّأْكِيدِ.
سَأُنَبِّئُكَ أَيْ سَأُخْبِرُكَ بِتَأْوِيلِ مَا رَأَيْتَ مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ وَإِقَامَةِ الْجِدَارِ، أَيْ بِمَا آلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ فِيمَا كَانَ ظَاهِرُهُ أَنْ لَا يَكُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ سَأُنْبِيكَ بِإِخْلَاصِ الْيَاءِ مِنْ
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)
رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَزَمَ الْخَضِرُ عَلَى مُفَارَقَتِهِ أَخَذَ بِثِيَابِهِ، وَقَالَ: لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى تُخْبِرَنِي بم أَبَاحَ لَكَ فِعْلَ مَا فَعَلْتَ، فَلَمَّا الْتَمَسَ ذَلِكَ مِنْهُ أَخَذَ فِي الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ، فَقَالَ: أَمَّا السَّفِينَةُ
فَبَدَأَ بِقِصَّةِ مَا وَقَعَ لَهُ أَوَّلًا. قِيلَ: كَانَتْ لِعَشَرَةِ إِخْوَةٍ، خَمْسَةٌ زَمْنَى وَخَمْسَةٌ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ. وَقِيلَ: كَانُوا أُجَرَاءَ فَنُسِبَتْ إِلَيْهِمْ لِلِاخْتِصَاصِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَسَاكِينَ بِتَخْفِيفِ السِّينِ جَمْعُ مِسْكِينٍ.
وَقَرَأَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بِتَشْدِيدِ السِّينِ جَمْعُ مَسَّاكٍ جَمْعُ تَصْحِيحٍ.
فَقِيلَ: الْمَعْنَى مَلَّاحِينَ، وَالْمَسَّاكُ الَّذِي يُمْسِكُ رَجُلَ السَّفِينَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ. وَقِيلَ: الْمَسَّاكُونَ دَبَغَةُ الْمُسُوكِ وَهِيَ الْجُلُودُ وَاحِدُهَا مَسْكٌ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّفِينَةَ كَانَتْ لِقَوْمٍ ضُعَفَاءَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْفِقَ عَلَيْهِمْ، وَاحْتُجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ الَّذِي لَهُ بُلْغَةٌ مِنَ الْعَيْشِ كَالسَّفِينَةِ لِهَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُ أَصْلَحُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ. وَقَوْلُهُ فَأَرَدْتُ فِيهِ إِسْنَادُ إِرَادَةِ الْعَيْبِ إِلَيْهِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا لِمَا فِي ذِكْرِ الْعَيْبِ مَا فِيهِ فَلَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى اللَّهِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مَنْ فَعَلَ الْخَيْرِ أَسْنَدَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقِيلَ فِي قراءة أبي وعبد الله كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ انْتَهَى. وَمَعْنَى أَنْ أَعِيبَها بِخَرْقِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَراءَهُمْ وَهُوَ لَفْظٌ يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْفِ وَعَلَى الْأَمَامِ، وَمَعْنَاهُ هُنَا أَمَامَهُمْ.
وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ. وَكَوْنُ وَراءَهُمْ بِمَعْنَى أَمَامَهُمْ قَوْلُ قَتَادَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ السِّكِّيتِ وَالزَّجَّاجِ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ وَرَاءَ يَجُوزُ بِمَعْنَى قُدَّامَ، وَجَاءَ فِي التَّنْزِيلِ وَالشِّعْرِ قَالَ تَعَالَى مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ «١» وَقَالَ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ «٢» وَقَالَ وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ «٣». وَقَالَ لَبِيدٌ:
أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي | لُزُومُ الْعَصَا يُحْنَى عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ |
أَيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي | وَقَوْمِي تَمِيمٌ وَالْفَلَاةُ وَرَائِيَا |
أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ أَدُبَّ عَلَى الْعَصَا | فَتَأْمَنَ أَعْدَاءٌ وَتَسْأَمُنِي أَهْلِي |
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: «الصَّلَاةُ أَمَامَكَ»
يُرِيدُ فِي الْمَكَانِ، وَإِلَّا فَكَوْنُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ أَمَامَ الصَّلَاةِ فِي الزَّمَنِ. وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَإِنَّهَا مُرِيحَةٌ من شغب هذه الْأَلْفَاظِ وَوَقَعَ لِقَتَادَةَ فِي كُتُبِ الطَّبَرِيِّ وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ. قَالَ قَتَادَةُ: أَمَامَهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ
(٢) سورة إبراهيم: ١٤/ ١٧.
(٣) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١٠٠.
(٤) سورة الجاثية: ٤٥/ ١٠.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنَّمَا جَازَ اسْتِعْمَالُ وَرَاءَ بِمَعْنَى أَمَامَ عَلَى الِاتِّسَاعِ لِأَنَّهَا جِهَةٌ مُقَابِلَةٌ لِجِهَةٍ فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجِهَتَيْنِ وَرَاءَ الْأُخْرَى إِذَا لَمْ يَرِدْ مَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْأَجْرَامِ الَّتِي لَا وَجْهَ لَهَا مِثْلُ حَجَرَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَرَاءَ الْآخَرِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ وَرَاءَ مِنَ الْأَضْدَادِ انْتَهَى.
قِيلَ: وَاسْمُ هَذَا الْمَلِكِ هُدَدُ بْنُ بُدَدَ وَكَانَ كَافِرًا. وَقِيلَ: الْجُلَنْدَى مَلِكُ غَسَّانَ، وَقَوْلُهُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فِي هَذَا حَذْفٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى وَكَانَ كَافِرًا وَكَذَا وُجِدَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ وَنَصَّ
فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا مَطْبُوعًا عَلَى الْكُفْرِ
، وَيُرَادُ بِأَبَوَيْهِ أَبُوهُ وَأُمُّهُ ثُنِّيَ تَغْلِيبًا مِنْ بَابِ الْقَمَرَيْنِ فِي الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَهِيَ تَثْنِيَةٌ لَا تَنْقَاسُ. وَقَرَأَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَالْجَحْدَرِيُّ: فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَانِ، فَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ عَلِيٍّ إِنَّ فِي كَانَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ لِكَانَ، وَأَجَازَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ عَلِيٍّ إِنَّ فِي كَانَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ لِكَانَ، وَأَجَازَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنَانِ عَلَى لُغَةِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، فَيَكُونَ مَنْصُوبًا، وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي كَانَ ضَمِيرُ الْغُلَامِ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ.
فَخَشِينا أَيْ خِفْنَا أَنْ يُغْشِي الْوَالِدَيْنِ الْمُؤْمِنَيْنِ طُغْياناً عَلَيْهِمَا وَكُفْراً لِنِعْمَتِهِمَا بِعُقُوقِهِ وَسُوءِ صَنِيعِهِ، وَيُلْحِقَ بِهِمَا شَرًّا وَبَلَاءً، أَوْ يُقْرَنَ بِإِيمَانِهِمَا طُغْيَانُهُ وَكُفْرُهُ، فَيَجْتَمِعَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُؤْمِنَانِ، وَطَاغٍ كَافِرٌ أَوْ يُعْدِيَهُمَا بِدَائِهِ وَيَضِلَّهُمَا بِضَلَالِهِ فَيَرْتَدَّا بِسَبَبِهِ وَيَطْغَيَا وَيَكْفُرَا بَعْدَ الْإِيمَانِ. وَإِنَّمَا خَشِيَ الْخَضِرُ مِنْهُ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَعَلَا أَعْلَمَهُ بِحَالِهِ وَأَطْلَعَهُ عَلَى سَرَائِرِ أَمْرِهِ وَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ كَاخْتِرَامِهِ لِمَفْسَدَةٍ عَرَفَهَا فِي حَيَاتِهِ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ فَخَافَ رَبُّكَ، وَالْمَعْنَى فَكَرِهَ رَبُّكَ كَرَاهَةَ مَنْ خَافَ سُوءَ عَاقِبَةِ الْأَمْرِ فَغَيَّرَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ
«١» قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَفِي قَوْلِهِ كَاخْتِرَامِهِ لِمَفْسَدَةٍ عَرَفَهَا فِي حَيَاتِهِ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ بِالْأَجَلَيْنِ، وَالظَّاهِرُ إِسْنَادُ فِعْلِ الْخَشْيَةِ فِي خَشِينَا إِلَى ضَمِيرِ الْخَضِرِ وَأَصْحَابِهِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ أَهَمَّهُمُ الْأَمْرُ وَتَكَلَّمُوا. وَقِيلَ: هُوَ فِي جِهَةِ اللَّهِ وَعَنْهُ عَبَّرَ الْخَضِرُ وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. قَالَ الطبري: ومعناه وقال: معناه فكر هُنَا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي تَوْجِيهِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يُدَافِعُهُ أَنَّهَا اسْتِعَارَةٌ أَيْ عَلَى ظَنِّ الْمَخْلُوقِينَ، وَالْمُخَاطَبُ لَوْ عَلِمُوا حَالَهُ لَوَقَعَتْ مِنْهُمْ خَشْيَةُ الرَّهَقِ لِلْوَالِدَيْنِ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَخَافَ رَبُّكَ، وَهَذَا بَيِّنُ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ لَعَلَّ وَعَسَى فَإِنَّ جَمِيعَ مَا فِي هَذَا كُلِّهِ مِنْ تَرَجٍّ وَتَوَقُّعٍ وَخَوْفٍ وَخَشْيَةٍ إِنَّمَا هُوَ بِحَسْبِكُمْ أَيُّهَا المخاطبون. ويُرْهِقَهُما مَعْنَاهُ يُجَشِّمُهُمَا وَيُكَلِّفُهُمَا بِشِدَّةٍ، وَالْمَعْنَى أَنْ يُلْقِيَهُمَا حُبُّهُ فِي اتِّبَاعِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَحُمَيْدٌ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ جَرِيرٍ أَنْ يُبْدِلَهُما بِالتَّشْدِيدِ هُنَا وَفِي التَّحْرِيمِ وَالْقَلَمِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالتَّخْفِيفِ، وَالزَّكَاةُ هُنَا الطَّهَارَةُ وَالنَّقَاءُ مِنَ الذُّنُوبِ وَمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ شَرَفِ الْخُلُقِ وَالسَّكِينَةِ، وَالرُّحْمُ وَالرَّحْمَةُ الْعَطْفُ مَصْدَرَانِ كَالْكُثْرِ وَالْكَثْرَةِ، وَأَفْعَلُ هُنَا لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْغُلَامَ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَلَا رَحْمَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَأَقْرَبَ رُحْماً أَيْ رَحْمَةَ وَالِدَيْهِ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
يَرْحَمَانِهِ. وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
يَا مُنْزِلَ الرُّحْمِ عَلَى إِدْرِيسَا | وَمُنْزِلَ اللَّعْنِ عَلَى إِبْلِيسَا |
وَهَذَا بَعِيدٌ وَلَا تُعْرَفُ كَثْرَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمُ انْتَهَى.
وَوَصْفُ الْغُلَامَيْنِ بِالْيُتْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا صَغِيرَيْنِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغٍ»
أَيْ كَانَا يَتِيمَيْنِ عَلَى مَعْنَى الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمَا. قِيلَ: وَاسْمُهُمَا أَصْرَمُ وَصُرَيْمٌ، وَاسْمُ أَبِيهِمَا كَاشِحٌ وَاسْمُ أُمِّهِمَا دَهْنَا، وَالظَّاهِرُ فِي الْكَنْزِ أَنَّهُ مَالٌ مَدْفُونٌ جَسِيمٌ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ عِلْمًا في مصحف مَدْفُونَةٍ: وَقِيلَ: لَوْحٌ مِنْ ذهب
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِ اللَّهَ يَحْفَظُ الرَّجُلَ الصَّالِحَ فِي ذُرِّيَّتِهِ».
وَانْتَصَبَ رَحْمَةً عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ بِأَرَادَ قَالَ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى رَحِمَهُمَا، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ وَكِلَاهُمَا مُتَكَلَّفٌ.
وَما فَعَلْتُهُ أَيْ وَمَا فَعَلْتُ مَا رَأَيْتَ مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ وَإِقَامَةِ الْجِدَارِ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنِّي وَرَأْيٍ، وَإِنَّمَا فَعَلْتُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ أوحي إليه. وتَسْطِعْ مُضَارِعُ اسْطَاعَ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ مَا أَسْتَطِيعُ وَمَا أَسْطِيعُ وَمَا أَسْتَتِيعُ وَأَسْتِيعُ أَرْبَعُ لُغَاتٍ، وَأَصْلُ اسْطَاعَ اسْتَطَاعَ عَلَى وَزْنِ اسْتَفْعَلَ، فَالْمَحْذُوفُ فِي اسْطَاعَ تَاءُ الِافْتِعَالِ لِوُجُودِ الطَّاءِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هِيَ الطَّاءُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ، ثُمَّ أَبْدَلُوا مِنْ تَاءِ الِافْتِعَالِ طَاءً، وَأَمَّا أَسْتَتِيعُ فَفِيهِ أَنَّهُمْ أَبْدَلُوا مِنَ الطَّاءِ تَاءً، وَيَنْبَغِي فِي تَسْتِيعُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ تَاءَ الِافْتِعَالِ كَمَا فِي تَسْطِيعُ.
وَفِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ مَا نَصُّهُ: تَعَلَّقَ بَعْضُ الْجُهَّالِ بِمَا جَرَى لِمُوسَى مَعَ الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى وَطَرَدُوا الْحُكْمَ، وَقَالُوا: قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلَ مِنْ آحَادِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِ أَبِي يَزِيدَ خُضْتُ بَحْرًا وَقَفَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى سَاحِلِهِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ ثَمَرَاتِ الرُّعُونَةِ وَالظِّنَّةِ بِالنَّفْسِ انْتَهَى. وَهَكَذَا سَمِعْنَا مَنْ يَحْكِي هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْ بَعْضِ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ وَهُوَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الطَّائِيُّ الْحَاتِمِيُّ صَاحِبُ الْفُتُوحِ الْمَكِّيَّةِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى بِالْقُبُوحِ الْهَلَكِيَّةِ وَأَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الْوَلِيَّ خَيْرٌ مِنَ النَّبِيِّ قَالَ: لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ عَنِ اللَّهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالنَّبِيُّ يَأْخُذُ بِوَاسِطَةٍ عَنِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ قَاعِدٌ فِي الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالنَّبِيُّ مُرْسَلٌ إِلَى قَوْمٍ، وَمَنْ كَانَ فِي الْحَضْرَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ يُرْسِلُهُ صَاحِبُ الْحَضْرَةِ إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذِهِ الْكُفْرِيَّاتِ وَالزَّنْدَقَةِ، وَقَدْ كَثُرَ مُعَظِّمُو هَذَا الرَّجُلِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ غُلَاةِ الزَّنَادِقَةِ الْقَائِلَةِ بِالْوَحْدَةِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَ في أدياننا وأبداننا.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٣ الى ١١٠]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢)
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧)
قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧)
خالِدِينَ فِيها لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
الرَّدْمُ أَكْبَرُ مِنَ السَّدِّ لِأَنَّ الرَّدْمَ مَا جُعِلَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، يُقَالُ: ثَوْبٌ مُرَدَّمٌ إِذَا كَانَ قَدْ رُقِّعَ رُقْعَةً فَوْقَ رُقْعَةٍ. وَقِيلَ: سَدَّ الْخَلَلَ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ أَيْ خَلَلٌ فِي الْمَعَانِي فَيَسُدُّ رَدْمًا. الزُّبْرَةُ: الْقِطْعَةُ وَأَصْلُهُ الِاجْتِمَاعُ، وَمِنْهُ زُبْرَةُ الْأَسَدِ لِمَا اجْتَمَعَ عَلَى كَاهِلِهِ مِنَ الشَّعْرِ، وَزَبَرْتُ الْكِتَابَ جَمَعْتُ حُرُوفَهُ. الصَّدَفَانِ جَانِبَا الْجَبَلِ إِذَا تَحَاذَيَا لِتَقَارُبِهِمَا أَوْ لِتَلَاقِيهِمَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَيُقَالُ: صُدُفٌ بِضَمِّهِمَا وَبِفَتْحِهِمَا وَبِضَمِّ الصَّادِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَعَكْسِهِ. قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: وَفَتْحُهُمَا لُغَةُ تَمِيمٍ وَضَمُّهُمَا لُغَةُ حِمْيَرَ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصَّدَفُ كُلُّ بِنَاءٍ عَظِيمٍ مُرْتَفِعٍ. الْقِطْرُ النُّحَاسُ الْمُذَابُ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ.
وَقِيلَ: الْحَدِيدُ الْمُذَابُ. وَقِيلَ: الرَّصَاصُ الْمُذَابُ. النَّقْبُ مَصْدَرُ نَقَبَ أَيْ حَفَرَ وَقَطَعَ.
الْغِطَاءُ مَعْرُوفٌ وَجَمْعُهُ أَغْطِيَةٌ، وَهُوَ مِنْ غَطَّى إِذَا سَتَرَ. الْفِرْدَوْسُ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْبُسْتَانُ الَّذِي فِيهِ الْكَرْمُ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: كُلُّ بُسْتَانٍ يُحَوَّطُ عليه فهو فردوس.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً.
الضَّمِيرُ فِي وَيَسْئَلُونَكَ عَائِدٌ عَلَى قُرَيْشٍ أَوْ عَلَى الْيَهُودِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ السَّائِلِينَ قُرَيْشٌ حِينَ دَسَّتْهَا الْيَهُودُ عَلَى سُؤَالِهِ عَنِ الرُّوحِ، وَالرَّجُلِ الطَّوَّافِ، وَفِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ لِيَقَعَ امْتِحَانُهُ بِذَلِكَ. وَذُو الْقَرْنَيْنِ هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ الْيُونَانِيُّ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ وَهْبٌ: هُوَ رُومِيٌّ وَهَلْ هُوَ نَبِيٌّ أَوْ عَبْدٌ صَالِحٌ لَيْسَ بِنَبِيٍّ قَوْلَانِ. وَقِيلَ: كَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا غَرِيبٌ. قِيلَ: مَلَكَ الدُّنْيَا مُؤْمِنَانِ سُلَيْمَانُ وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَكَافِرَانِ نُمْرُوذُ وَبُخْتُ نَصَّرَ، وَكَانَ بَعْدَ نُمْرُوذَ.
وَعَنْ عَلِيٍّ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا لَيْسَ بِمَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ ضُرِبَ عَلَى قَرْنِهِ الْأَيْمَنِ فَمَاتَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ فَضُرِبَ عَلَى قَرْنِهِ الْأَيْسَرِ فَمَاتَ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ.
وَقِيلَ: طَافَ قَرْنَيِ الدُّنْيَا يَعْنِي جَانِبَيْهَا شَرْقَهَا وَغَرْبَهَا. وَقِيلَ: كَانَ لَهُ قَرْنَانِ أَيْ ضَفِيرَتَانِ.
قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ قَبْلِيَ مُسْلِمًا | مَلِكًا عَلَا فِي الْأَرْضِ غَيْرَ مُبَعَّدِ |
بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي | أَسْبَابَ مُلْكٍ مِنْ كَرِيمٍ سَيِّدِ |
قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ جَدِّي مُسْلِمًا
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحَّاكِ.
وَعَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَيَّاشٌ.
وَعَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ هُوَ الصَّعْبُ بْنُ جَابِرِ بْنِ الْقَلَمَّسِ. وَقِيلَ: مَرْزُبَانُ بْنُ مَرْزَبَةَ الْيُونَانِيُّ مِنْ وَلَدِ يُونَانِ بْنِ يَافِثَ.
وَعَنْ عَلِيٍّ هُوَ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ.
وَعَنِ الْحَسَنِ: كَانَ بَعْدَ ثَمُودٍ وَكَانَ عُمْرُهُ أَلْفَ سَنَةٍ وَسِتَّمِائَةٍ. وَعَنْ وَهْبٍ: كَانَ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ.
وَالْخِطَابُ فِي عَلَيْكُمْ لِلسَّائِلِينَ إِمَّا الْيَهُودُ وَإِمَّا قُرَيْشٌ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ فِي السَّائِلِينَ. وَقَوْلُهُ ذِكْراً يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ قُرْآنًا وَأَنْ يُرِيدَ حَدِيثًا وَخَيْرًا، وَالتَّمْكِينُ الَّذِي لَهُ فِي الْأَرْضِ كَوْنُهُ مَلَكَ الدُّنْيَا وَدَانَتْ لَهُ الْمُلُوكُ كُلُّهَا. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ الْإِسْكَنْدَرُ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الْمُسَمَّى بِذِي الْقَرْنَيْنِ بَلَغَ مُلْكُهُ إِلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ وَإِلَى أَقْصَى الْمَشْرِقِ وَإِلَى أَقْصَى الشَّمَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قَوْمٌ مِنَ التُّرْكِ يَسْكُنُونَ فِي أَقْصَى الشَّمَالِ، وَهَذَا الَّذِي بَلَغَهُ مُلْكُ هَذَا الرَّجُلِ هُوَ نِهَايَةُ الْمَعْمُورِ مِنَ الْأَرْضِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَلِكِ الْبَسِيطِ لَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْعَادَاتِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ
وَوَرَدَ
فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الَّذِينَ مَلَكُوا الْأَرْضَ أَرْبَعَةٌ مُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَذُو الْقَرْنَيْنِ».
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ وَثَبَتَ فِي عِلْمِ التَّوَارِيخِ أَنَّ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ مَا كَانَ إِلَّا الْإِسْكَنْدَرَ فَوَجَبَ الْقَطْعُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فَيْلَفُوسَ الْيُونَانِيُّ. وَقِيلَ تَمْكِينُهُ فِي الْأَرْضِ بِالنُّبُوَّةِ وَإِجْرَاءِ الْمُعْجِزَاتِ. وَقِيلَ: تَمْكِينُهُ بِأَنْ سَخَّرَ لَهُ السَّحَابَ وَحَمَلَهُ عَلَيْهَا وَبَسَطَ لَهُ النُّورَ فَكَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عَلَيْهِ سَوَاءً. وَقِيلَ: بِكَثْرَةِ أَعْوَانِهِ وَجُنُودِهِ وَالْهَيْبَةِ وَالْوَقَارِ وَقَذْفِ الرُّعْبِ فِي أَعْدَائِهِ وَتَسْهِيلِ السَّيْرِ عَلَيْهِ وَتَعْرِيفِهِ فِجَاجَ الْأَرْضِ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى بَرِّهَا وَبَحْرِهَا.
وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْوُصُولِ إِلَى أَغْرَاضِهِ سَبَباً أَيْ طَرِيقًا مُوَصِّلًا إِلَيْهِ، وَالسَّبَبُ مَا يتوصل به إني الْمَقْصُودِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ قُدْرَةٍ أَوْ آلَةٍ، فَأَرَادَ بُلُوغَ الْمَغْرِبِ فَأَتْبَعَ سَبَباً يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ حَتَّى بَلَغَ، وَكَذَلِكَ أَرَادَ الْمَشْرِقَ فَأَتْبَعَ سَبَباً وَأَرَادَ بُلُوغَ السَّدَّيْنِ فَأَتْبَعَ سَبَباً وَأَصْلُ السَّبَبِ الْحَبْلُ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بَلَاغًا إِلَى حَيْثُ أَرَادَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ فَأَتْبَعَ ثَلَاثَتُهَا بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّشْدِيدِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَعَنْ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ وَأَبِي زَيْدٍ أَنَّهُ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُجِدِّ الْمُسْرِعِ الْحَثِيثِ الطَّلَبِ، وَبِوَصْلِهَا إِنَّمَا يَتَضَمَّنُ الِاقْتِفَاءَ دُونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَطَلْحَةُ بن عبيد الله وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِي وَابْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَمُعَاوِيَةُ وَالْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ حَامِيَةٍ بِالْيَاءِ أَيْ حَارَّةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَشَيْبَةُ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَيَعْقُوبُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ حَمِئَةٍ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَالزُّهْرِيُّ يُلَيِّنُهَا، يُقَالُ حَمِئَتِ الْبِئْرُ تَحْمَأُ حَمَأً فَهِيَ حَمِئَةٌ، وَحَمَأْتُهَا
فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ مَآبِهَا | فِي عَيْنِ ذِي خِلْبٍ وَثَاطٍ حَرْمَدِ |
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إِلَى الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا فَقَالَ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ يَا أَبَا ذَرٍّ؟» فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: «إِنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ».
وَهَذَا الْحَدِيثُ وَظَاهِرُ النَّصِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي عَيْنٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَغْرُبُ لَا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَعَسِّفِينَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ إِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ فِيهَا أَيْ هِيَ آخِرُ الْأَرْضِ، وَمَعْنَى تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ أَيْ فِيمَا تَرَى الْعَيْنُ لَا أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ كَمَا نُشَاهِدُهَا فِي الْأَرْضِ الْمَلْسَاءِ كَأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْأَرْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْعَيْنُ مِنَ الْبَحْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ تَغِيبُ وَرَاءَهَا، وَزَعَمَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ فِي بِمَعْنَى عِنْدَ أَيْ تَغْرُبُ عِنْدَ عَيْنٍ.
وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً أَيْ عِنْدَ تِلْكَ الْعَيْنِ. قَالَ ابْنُ السَّائِبِ: مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَفَرَةٌ لِبَاسُهُمْ جُلُودُ السِّبَاعِ وَطَعَامُهُمْ مَا أَحْرَقَتْهُ الشَّمْسُ مِنَ الدَّوَابِّ، وَمَا لَفِظَتْهُ الْعَيْنُ مِنَ الْحُوتِ إِذَا غَرَبَتْ. وَقَالَ وَهْبٌ: انْطَلَقَ يَؤُمُّ الْمَغْرِبَ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى بَاسَكَ فَوَجَدَ جَمْعًا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، فَضَرَبَ حَوْلَهُمْ ثَلَاثَةَ عَسَاكِرَ حَتَّى جَمَعَهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي النُّورِ وَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ السُّهَيْلِيُّ: هُمْ أَهْلُ حَابُوسَ وَيُقَالُ لَهَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ جِرْجِيسَا يَسْكُنُهَا قَوْمٌ مِنْ نَسْلِ ثَمُودَ.
بَقِيَّتُهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ قُلْنا أَنَّهُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ عَلَى لِسَانِ مَلِكٍ. وَقِيلَ: كَلَّمَهُ كِفَاحًا مِنْ غَيْرِ رَسُولٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ نَبِيًّا وَيَبْعُدُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنَّهُ إِلْهَامٌ وَإِلْقَاءٌ فِي رَوْعِهِ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّخْيِيرِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ إِذِ التَّكَالِيفُ وَإِزْهَاقُ النُّفُوسِ لَا تَتَحَقَّقُ بِالْإِلْهَامِ إِلَّا بِالْإِعْلَامِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: الْمَعْنَى قُلْنا يَا محمد قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ثُمَّ حُذِفَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَيُخَاطِبَهُ اللَّهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي قَالُوا. الْمَحْذُوفَةِ يَعُودُ عَلَى جُنْدِهِ وَعَسْكَرِهِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ.
فَقَالَ: أَمَّا مَنْ دَعْوَتَهُ فَأَبَى إِلَّا الْبَقَاءَ عَلَى الظُّلْمِ وَهُوَ الْكُفْرُ هُنَا بِلَا خِلَافٍ فَذَلِكَ هُوَ الْمُعَذَّبُ فِي الدَّارَيْنِ، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى. وَأَتَى بِحَرْفِ التَّنْفِيسِ فِي فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ لِمَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَ إِظْهَارِهِ كُفْرَهُ وَبَيْنَ تَعْذِيبِهِ مِنْ دُعَائِهِ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَأَبِّيهِ عَنْهُ، فَهُوَ لَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْقَتْلِ عَلَى ظُلْمِهِمْ بَلْ يَدْعُوهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ فَإِنْ رَجَعُوا وَإِلَّا فَالْقَتْلُ.
وَقَوْلُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَتَى بِنُونِ الْعَظَمَةِ فِي نُعَذِّبُهُ عَلَى عَادَةِ الْمُلُوكِ فِي قَوْلِهِمْ نَحْنُ فَعَلْنَا. وَقَوْلُهُ إِلى رَبِّهِ فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ التَّخْيِيرَ لِذِي الْقَرْنَيْنِ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ التَّرْكِيبُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَيْكَ فَتُعَذِّبُهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ التَّخْيِيرُ مِنَ اللَّهِ وَيَكُونُ قَدْ أَعْلَمَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِذَلِكَ أَتْبَاعَهُ ثُمَّ فَصَّلَ مُخَاطِبًا لِأَتْبَاعِهِ لَا لِرَبِّهِ تَعَالَى، وَمَا أَحْسَنَ مَجِيءُ هَذِهِ الْجُمَلِ لَمَّا ذَكَرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ظُلْمٍ بَدَأَ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ لَهُمْ وَمَحْسُوسٌ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا يَلْحَقُهُ آخِرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ تَعْذِيبُ اللَّهِ إِيَّاهُ الْعَذَابَ النُّكُرَ وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ الْوَاقِعَ هُوَ كَذَا وَلَمَّا ذكر ما يستحقه مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ذَكَرَ جَزَاءَ اللَّهِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحُسْنى أَيِ الْجَنَّةُ لِأَنَّ طَمَعَ الْمُؤْمِنِ فِي الْآخِرَةِ وَرَجَاءَهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى أَنْ آمَنَ لِأَجْلِ جَزَائِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ عَظِيمٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِحْسَانِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِإِحْسَانِهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أَيْ لَا نَقُولُ لَهُ مَا يَتَكَلَّفُهُ مِمَّا هُوَ شَاقٌّ عَلَيْهِ أَيْ قَوْلًا ذَا يُسْرٍ وَسُهُولَةٍ كَمَا قَالَ قَوْلًا مَيْسُورًا. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْحُسْنَى جَزَاءً لَمْ يُنَاسِبْ أَنْ يَذْكُرَ جَزَاءَهُ بِالْفِعْلِ بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى الْقَوْلِ أَدَبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهِ فِعْلًا وَقَوْلًا.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ فَلَهُ جَزاءً بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ وَانْتَصَبَ جَزاءً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُجَازًى كَقَوْلِكَ فِي الدَّارِ قَائِمًا زَيْدٌ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: هَذَا لَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَكَلَّمُ بِهِ
وَمَنْصُوبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ وَالْمُرَادُ بِالْحُسْنَى عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ الْجَنَّةُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ جَزاءً الْحُسْنى بِرَفْعِ جَزاءً مُضَافًا إِلَى الْحُسْنى. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ جَزَاءُ الْخِلَالِ الْحَسَنَةِ الَّتِي أَتَاهَا وَعَمِلَهَا أَوْ يُرَادُ بِالْحُسْنَى الْحَسَنَةُ وَالْجَنَّةُ هِيَ الْجَزَاءُ، وَأَضَافَ كَمَا قَالَ دَارَ الآخرة وجَزاءً مُبْتَدَأٌ وَلَهُ خَبَرُهُ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي إِسْحَاقَ فَلَهُ جَزاءً مَرْفُوعٌ وهو مبتدأ وخبر والْحُسْنى بَدَلٌ مِنْ جَزاءً. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ جَزاءً نُصِبَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ الْحُسْنى بِالْإِضَافَةِ، وَيُخَرَّجُ عَلَى حَذْفِ الْمُبْتَدَأُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ فَلَهُ الْجَزَاءُ جَزاءً الْحُسْنى وَخَرَّجَهُ الْمَهْدَوِيُّ عَلَى حَذْفِ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ يُسْراً بِضَمِّ السِّينِ حَيْثُ وَقَعَ.
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أَيْ طَرِيقًا إِلَى مَقْصِدِهِ الَّذِي يُسِّرَ لَهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى وَابْنُ مُحَيْصِنٍ مَطْلِعَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَهْلِ مكة وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا وَهُوَ سَمَاعٌ فِي أَحْرُفٍ مَعْدُودَةٍ، وَقِيَاسُ كَسْرِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُضَارِعُ تَطْلِعُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَقُولُ: هَذِهِ لُغَةٌ مَاتَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ، يَعْنِي ذَهَبَ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْعَرَبِ تَطْلِعُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَبَقِيَ مَطْلِعَ بِكَسْرِهَا فِي اسْمِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَالْقَوْمُ هُنَا الزِّنْجُ. وَقَالَ قَتَادَةُ هُمُ الْهُنُودُ وَمَا وَرَاءَهُمْ. وَالسِّتْرُ الْبُنْيَانُ أَوِ الثِّيَابُ أَوِ الشَّجَرُ وَالْجِبَالُ أَقْوَالٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا شَيْءَ لَهُمْ يَسْتُرُهُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ. وَقِيلَ: تَنْفُذُ الشَّمْسُ سُقُوفَهُمْ وَثِيَابَهُمْ فَتَصِلُ إِلَى أَجْسَامِهِمْ. فَقِيلَ: إِذَا طَلَعَتْ نَزَلُوا الْمَاءَ حَتَّى يَنْكَسِرَ حَرُّهَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ: يَدْخُلُونَ أَسْرَابًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: السُّودَانُ عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ أَكْثَرُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ مِنَ اللَّفْظِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ بَلِيغَةٌ عَنْ قُرْبِ الشَّمْسِ مِنْهُمْ، وَفِعْلُهَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ فِيهِمْ وَنَيْلُهَا مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ أَسْرَابٌ لَكَانَ سِتْرًا كَثِيفًا انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الرُّجَّازِ:
بِالزِّنْجِ حَرٌّ غَيَّرَ الْأَجْسَادَا | حَتَّى كسى جُلُودَهَا سَوَادَا |
وَقِيلَ: كَذَلِكَ أَمَرَهُمْ كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: تَطْلُعُ طُلُوعُهَا مِثْلُ غُرُوبِهَا. وَقِيلَ:
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَذلِكَ أَيْ أَمْرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ كَذَلِكَ أَيْ كَمَا وَصَفْنَاهُ تَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ. وَقِيلَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً مِثْلَ ذَلِكَ السِّتْرِ الَّذِي جَعَلْنَا لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ وَالْحُصُونِ وَالْأَبْنِيَةِ وَالْأَكْنَانِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ، وَالثِّيَابِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
كَذلِكَ مَعْنَاهُ فَعَلَ مَعَهُمْ كَفِعْلِهِ مَعَ الْأَوَّلِينَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَأَخْبَرَ بِقَوْلِهِ كَذلِكَ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ إِحَاطَتِهِ بِجَمِيعِ مَا لَدَى ذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَا تَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذلِكَ اسْتِئْنَافَ قَوْلٍ وَلَا يَكُونُ رَاجِعًا عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى فَتَأَمَّلْهُ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ انتهى.
وَإِذَا كَانَ مُسْتَأْنَفًا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ يُتِمُّ بِهِ كَلَامًا.
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا.
سَبَباً أَيْ طَرِيقًا أَوْ مَسِيرًا مُوَصِّلًا إِلَى الشَّمَالِ فَإِنَّ السَّدَّيْنِ هُنَاكَ. قَالَ وَهْبٌ:
السَّدَّانِ جَبَلَانِ مَنِيفَانِ فِي السَّمَاءِ مِنْ وَرَائِهِمَا وَمِنْ أَمَامِهِمَا الْبُلْدَانُ، وَهُمَا بِمُنْقَطَعِ أَرْضِ التُّرْكِ مِمَّا يَلِي أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ. وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ أَنَّهُمَا جَبَلَانِ مِنْ وَرَاءِ بِلَادِ التُّرْكِ. وَقِيلَ:
هُمَا جَبَلَانِ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ لَيِّنَانِ أَمْلَسَانِ، يُزْلَقُ عَلَيْهِمَا كُلُّ شَيْءٍ، وَسُمِّيَ الْجَبَلَانِ سَدَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَدَّ فِجَاجَ الْأَرْضِ وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا فَجْوَةٌ كَانَ يَدْخُلُ مِنْهَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ.
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَحَفْصٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بَيْنَ السَّدَّيْنِ بِفَتْحِ السِّينِ.
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا. قَالَ الْكِسَائِيُّ هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ:
بِالضَّمِّ الِاسْمُ وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: مَا كَانَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَمْ يُشَارِكْ فِيهِ أَحَدٌ فَهُوَ بِالضَّمِّ، وَمَا كَانَ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرِ فَبِالْفَتْحِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي
مِنْ دُونِهِما من دون السدين وقَوْماً يَعْنِي مِنَ الْبَشَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمُ التُّرْكُ انْتَهَى. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ جَانٌّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا الْمَكَانُ فِي مُنْقَطَعِ أَرْضِ التُّرْكِ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ، وَنَفَى مُقَارَنَةَ فِقْهِهِمْ قَوْلًا وَتَضَمَّنَ نَفْيَ فِقْهِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَكَادُونَ يَفْهَمُونَهُ إِلَّا بِجُهْدٍ وَمَشَقَّةٍ كَأَنَّهُ فَهْمٌ مِنْ نَفْيٍ يَكَادُ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْهُمُ الْفَهْمُ بَعْدَ عُسْرٍ، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِهِمْ إِنَّ نَفْيَهَا إِثْبَاتٌ وَإِثْبَاتَهَا نَفْيٌ، وَلَيْسَ بِالْمُخْتَارِ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَخَلَفٌ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَفْقَهُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ أَيْ يُفْهِمُونَ السَّامِعَ كَلَامَهُمْ، وَلَا يُبَيِّنُونَهُ لِأَنَّ لُغَتَهُمْ غَرِيبَةٌ مَجْهُولَةٌ. وَالضَّمِيرُ فِي قالُوا عَائِدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ شَكَوْا مَا يَلْقَوْنَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ إِذْ رَجَوْا عِنْدَهُ مَا يَنْفَعُهُمْ لِكَوْنِهِ مَلَكَ الْأَرْضَ وَدَوَّخَ الْمُلُوكَ وَبَلَغَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لَمْ يَبْلُغْ أَرْضَهُمْ ملك قبله، ويَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ قَبِيلَتَانِ. وَقِيلَ: هُمَا مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. وَقِيلَ: يَأْجُوجَ مِنَ التُّرْكِ وَمَأْجُوجَ مِنَ الْجِيلِ وَالدَّيْلَمِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: التُّرْكُ شر ذمة مِنْهُمْ خَرَجَتْ تُغِيرُ، فَجَاءَ ذُو الْقَرْنَيْنِ فَضَرَبَ السَّدَّ فَبَقِيَتْ فِي هَذَا الْجَانِبِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: بُنِيَ السد على أحد وَعِشْرِينَ قَبِيلَةً، وَبَقِيَتْ مِنْهُمْ قَبِيلَةٌ وَاحِدَةٌ دُونَ السَّدِّ فَهُمُ التُّرْكُ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَدَدِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَلَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وَهُمَا مَمْنُوعَا الصَّرْفِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا أَعْجَمِيَّانِ فَلِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا عَرَبِيَّانِ فَلِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ لِأَنَّهُمَا اسْمَا قَبِيلَتَيْنِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنْ جَعَلْنَا أَلِفَهُمَا أَصْلِيَّةً فَيَأْجُوجُ يَفْعُولُ وَمَأْجُوجُ مَفْعُولُ، كَأَنَّهُ مِنْ أَجِيجِ النَّارِ وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْهُمَا جَعَلَهَا زَائِدَةً فَيَأْجُوجُ مِنْ يَجَجَتْ، وَمَأْجُوجُ مِنْ مَجَجَتْ. وَقَالَ قُطْرُبٌ فِي غَيْرِ الْهَمْزِ مَأْجُوجُ فَاعُولُ مِنَ الْمَجِّ، وَيَأْجُوجُ فَاعُولُ مِنْ يَجَّ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ السَّخَاوِيُّ أَحَدُ شُيُوخِنَا: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ وَأَصْلُهُ الْهَمْزُ، وَتَرْكُ الْهَمْزِ عَلَى التَّخْفِيفِ وَهُوَ إِمَّا مِنَ الْأَجَّةِ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٧٨.
يَؤُجُّ كَمَا أَجَّ الظَّلِيمُ الْمُنَفِّرُ أَوْ مِنَ الْأَجَّةِ وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ، أَوْ مِنْ أَجَّ الْمَاءُ يَئِجُّ أُجُوجًا إِذَا كَانَ مِلْحًا مُرًّا انْتَهَى.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ بِالْهَمْزِ وَفِي يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَكَذَا فِي الْأَنْبِيَاءِ وَفِي لُغَةِ بَنِي أَسَدٍ ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ. قِيلَ: وَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا اللُّغَةُ الغربية الْمَحْكِيَّةُ عَنِ الْعَجَّاجِ أَنَّهُ كَانَ يَهْمِزُ الْعَأْلَمَ وَالْخَأْتَمَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِأَلِفٍ غَيْرِ مَهْمُوزَةٍ وَهِيَ لُغَةُ كُلِّ الْعَرَبِ غَيْرَ بَنِي أَسَدٍ. وَقَرَأَ الْعَجَّاجُ وَرُؤْبَةُ ابْنُهُ: آجُوجُ بِهَمْزَةٍ بَدَلَ الْيَاءِ. وَإِفْسَادُهُمُ الظَّاهِرُ تَحَقُّقُ الْإِفْسَادِ مِنْهُمْ لَا تَوَقُّعُهُ لأنها شكت من ضررنا لها. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِفْسَادُهُمْ أَكْلُ بَنِي آدَمَ. وَقِيلَ: هُوَ الظُّلْمُ وَالْقَتْلُ وَوُجُوهُ الْإِفْسَادِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْبَشَرِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَخْرُجُونَ أَيَّامَ الرَّبِيعِ فَلَا يَتْرُكُونَ شَيْئًا أَخْضَرَ إِلَّا أَكَلُوهُ، وَلَا يَابِسًا إِلَّا احْتَمَلُوهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى أَلْفِ ذَكَرٍ مِنْ صُلْبِهِ كُلٌّ قَدْ حَمَلَ السِّلَاحَ.
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً اسْتِدْعَاءٌ مِنْهُمْ قَبُولَ مَا يَبْذُلُونَهُ مِمَّا يُعِينُهُ عَلَى مَا طَلَبُوا عَلَى جِهَةِ حُسْنِ الْأَدَبِ إِذْ سَأَلُوهُ ذَلِكَ كَقَوْلِ مُوسَى لِلْخَضِرِ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ «٣».
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وخلف وابن سعدان وابن عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ وَمِنَ السَّبْعَةِ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ خَرَاجًا بِأَلِفٍ هُنَا، وَفِي حَرْفَيْ قَدْ أَفْلَحَ وَسَكَّنَ ابْنُ عَامِرٍ الرَّاءَ فِيهَا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ خَرْجاً فِيهِمَا بِسُكُونِ الرَّاءِ فَخَرَاجٌ بِالْأَلِفِ وَالْخَرْجُ وَالْخَرَاجُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالنَّوْلِ وَالنَّوَالِ، وَالْمَعْنَى جُعْلًا نُخْرِجُهُ مِنْ أَمْوَالِنَا، وَكُلُّ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ ضَرِيبَةٍ وَجِزْيَةٍ وَغَلَّةٍ فَهُوَ خَرَاجٌ وَخَرْجٌ. وَقِيلَ: الْخَرْجُ الْمَصْدَرُ أُطْلِقَ عَلَى الْخَرَاجِ، وَالْخَرَاجُ الِاسْمُ لِمَا يُخْرَجُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الخرج على الرؤوس يُقَالُ: أَدِّ خَرْجَ رَأْسِكَ، وَالْخَرَاجُ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْخَرْجُ أَخَصُّ وَالْخَرَاجُ أَعَمُّ. وَقِيلَ: الْخَرْجُ الْمَالُ يُخْرَجُ مَرَّةً وَالْخَرَاجُ الْمُجْبَى الْمُتَكَرِّرُ عَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعُوا لَهُ أَمْوَالًا يُقِيمُ بِهَا أَمْرَ السَّدِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ خَرَاجًا أَجْرًا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ سَدًّا بِضَمِّ السِّينِ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَبَاقِي السبعة بفتحها
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٩٦.
(٣) سورة الكهف: ٨٨/ ٦٦.
ثُمَّ فُسِّرَ الْإِعَانَةُ بِالْقُوَّةِ فَقَالَ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ أَيْ أَعْطُونِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا هُوَ اسْتِدْعَاءُ مُنَاوَلَةٍ لَا اسْتِدْعَاءُ عَطِيَّةٍ وَهِبَةٍ لِأَنَّهُ قَدِ ارْتَبَطَ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْهُمُ الْخَرَاجَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اسْتِدْعَاءُ الْمُنَاوَلَةِ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آتُونِي. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ ائْتُونِي أَيْ جِيئُونِي. وَانْتَصَبَ زُبَرَ بائتوني عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ جِيئُونِي بِزُبَرِ الْحَدِيدِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ زُبَرَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْحَسَنُ بِضَمِّهَا، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَتَوْهُ أَوْ فَآتَوْهُ بِهَا فَأَمَرَ بِرَصِّ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ حَتَّى إِذا سَاوَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَاوَى وَقَتَادَةُ سَوَّى، وَابْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ سُووِيَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَحُكِيَ فِي الْكَيْفِيَّةِ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ قَاسَ مَا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ مِنْ حَفْرِ الْأَسَاسِ حَتَّى بَلَغَ الْمَاءَ ثُمَّ جَعَلَ حَشْوَهُ الصَّخْرَ وَطِينَهُ النحاس مذاب، ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ وَالْبُنْيَانُ مِنْ زُبَرِ الْحَدِيدِ بَيْنَهُمَا الْحَطَبُ وَالْفَحْمُ حَتَّى سَدَّ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ إِلَى أَعْلَاهُمَا، ثُمَّ وَضَعَ الْمَنَافِخَ حَتَّى إِذَا صَارَتْ كَالنَّارِ صَبَّ النُّحَاسَ الْمُذَابَ عَلَى الْحَدِيدِ الْمُحْمَى فَاخْتَلَطَ وَالْتَصَقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَصَارَ جَبَلًا صَلْدًا. وَقِيلَ: طُولُ مَا بَيْنَ السَّدَّيْنِ مِائَةُ فَرْسَخٍ وَعَرْضُهُ خَمْسُونَ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فَقَالَ: «كَيْفَ رَأَيْتَهُ» ؟ فَقَالَ: كَالْبَرْدِ الْمُحَبَّرِ طَرِيقَةٌ سَوْدَاءُ وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ، قَالَ: «قَدْ رَأَيْتَهُ».
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَالزُّهْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ الصَّدَفَيْنِ بِضَمِّ الصَّادِ وَالدَّالِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ سَكَّنَ الدَّالَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَحُمَيْدٌ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَجَمَاعَةٌ عَنْ يَعْقُوبَ وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ سَعْدَانَ بِفَتْحِهِمَا، وَابْنُ جُنْدُبٍ بِالْفَتْحِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ، وَرُوِيَتْ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَرَأَ الْمَاجُشُونُ بِالْفَتْحِ وَضَمِّ الدَّالِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الدَّالِ حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَنَفَخُوا حَتَّى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَالَ آتُونِي أَيْ أَعْطُونِي. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ قَالَ: ائْتُونِي أي جيئوني وقِطْراً مَنْصُوبٌ بِأُفْرِغَ عَلَى إِعْمَالِ الثَّانِي، وَمَفْعُولُ آتُونِي مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَمَا اسْطاعُوا بِحَذْفِ التَّاءِ تَخْفِيفًا لِقُرْبِهَا مِنَ الطَّاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَطَلْحَةُ بِإِدْغَامِهَا فِي الطَّاءِ وَهُوَ إِدْغَامٌ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ هِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ: فَمَا اصْطَاعُوا بِالْإِبْدَالِ مِنَ السِّينِ صَادًا لِأَجْلِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: فَمَا اسْتَطَاعُوا بِالتَّاءِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ.
قالَ: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أَيْ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى الرَّدْمِ وَالْقُوَّةِ عَلَيْهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى السَّدِّ أَيْ هَذَا السَّدُّ نِعْمَةٌ مِنَ الله ورَحْمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ أَوْ هَذَا الْإِقْدَارُ وَالتَّمْكِينُ مِنْ تَسْوِيَتِهِ. قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَتَقْدِيرُهُ فَلَمَّا أَكْمَلَ بِنَاءَ السَّدِّ وَاسْتَوَى وَاسْتَحْكَمَ قالَ: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ هَذِهِ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي بِتَأْنِيثِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَالْوَعْدُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ وَقْتُ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِذَا دَنَا مَجِيءُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشَارَفَ أَنْ يَأْتِيَ جَعَلَ السَّدَّ دَكًّا أَيْ مَدْكُوكًا مُنْبَسِطًا مُسْتَوِيًا بِالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَا انْبَسَطَ بَعْدَ ارْتِفَاعٍ فَقَدِ انْدَكَّ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: دَكَّاءَ بِالْمَدِّ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ دَكًّا مُنَوَّنَةً مَصْدَرُ دَكَكْتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَعَلَهُ بِمَعْنَى صَيَّرَهُ فدك مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ وَيُنْصَبُ فدكا عَلَى الْحَالِ انْتَهَى. وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ السَّدَّ إِذْ ذَاكَ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ وَلَا يُخْلَقُ الْمَخْلُوقُ لَكِنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ بَعْضِ هَيْئَاتِهِ إِلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى، وَوَعْدٌ بِمَعْنَى مَوْعُودٍ لَا مَصْدَرٍ. وَالْمَعْنَى فَإِذا جاءَ مَوْعُودُ رَبِّي لَا يُرِيدُ الْمَصْدَرَ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ سَبَقَ وتَرَكْنا هَذَا الضَّمِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرُ فِي بَعْضَهُمْ عَائِدٌ عَلَى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَالْجُمْلَةُ الْمَحْذُوفَةُ بَعْدُ إِذِ الْمُعَوِّضِ مِنْهَا التَّنْوِينُ مُقَدَّرَةٌ بِإِذْ جَاءَ الْوَعْدُ وَهُوَ خُرُوجُهُمْ وَانْتِشَارُهُمْ فِي الْأَرْضِ أَوْ مُقَدَّرَةٌ بِإِذْ حَجَزَ السَّدُّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا يُفْسِدُونَ عِنْدَهُمْ وَهُمْ مُتَعَجِّبُونَ مِنَ السَّدِّ فَمَاجَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرَ فِي بَعْضَهُمْ يَعُودُ عَلَى الْخَلْقِ أَيْ يَوْمَ إِذْ جَاءَ وَعْدُ اللَّهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ الْجَمْعِ وَعَرْضِ جَهَنَّمَ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النَّفْخِ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الأنعام. وجَمْعاً
فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مَقْلُوبٌ. وَالتَّقْدِيرُ وَعَرَضْنَا الْكَافِرِينَ عَلَى جَهَنَّمَ عَرْضاً وَتَخْصِيصُهُ بِالْكَافِرِينَ بِشَارَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. والَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ صِفَةُ ذَمٍّ فِي غِطاءٍ اسْتَعَارَ الْغِطَاءَ لِأَعْيُنِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يُبْصِرُونَ آيَاتِي الَّتِي يُنْظَرُ إِلَيْهَا فَيُعْتَبَرُ بِهَا، وَاذْكُرْ بِالتَّعْظِيمِ وَهَذَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ عن آيَاتِ ذِكْرِي. وَقِيلَ عَنْ ذِكْرِي عَنِ الْقُرْآنِ وَتَأَمُّلِ مَعَانِيهِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَعْيُنِ هُنَا الْبَصَائِرَ لَا الْجَوَارِحَ لِأَنَّ الْجَوَارِحَ لَا نِسْبَةَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ الذِّكْرِ وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً مُبَالَغَةً فِي انْتِفَاءِ السَّمْعِ إِذْ نُفِيَتِ الِاسْتِطَاعَةُ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا صُمًّا لِأَنَّ الْأَصَمَّ قَدْ يَسْتَطِيعُ السَّمْعَ إِذَا صِيحَ بِهِ، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ أُصِمَّتْ أَسْمَاعُهُمْ فَلَا اسْتِطَاعَةَ بِهِمْ لِلسَّمْعِ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ مَنْ عَبَدَ الملائكة وعزيزا وَالْمَسِيحَ وَاتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهُمْ بَعْضُ الْعَرَبِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ وَلَايَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْهُمْ شَيْءٌ، وَلَا يَجِدُونَ عِنْدَهُمْ مُنْتَفَعًا وَيَظْهَرُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا وَالتَّقْدِيرُ أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ فَيُجْدِي ذَلِكَ وَيَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ الِاتِّخَاذِ. وَقِيلَ: الْعِبَادُ هُنَا الشَّيَاطِينُ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْأَصْنَامُ لِأَنَّهَا خَلْقُهُ وَمِلْكُهُ، وَالْأَظْهَرُ تَفْسِيرُ الْعِبَادِ بِمَا قُلْنَاهُ لِإِضَافَتِهِمْ إِلَيْهِ وَالْأَكْثَرُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ.
وَحَسِبَ هُنَا بِمَعْنَى ظَنَّ وَبِهِ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ أَفَظَنَّ.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب وزيد بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو حَيْوَةَ والشافعي ومسعود بن صاح أَفَحَسِبَ بِإِسْكَانِ السِّينِ وَضَمِّ الْبَاءِ
مُضَافًا إِلَى الَّذِينَ أَيْ أَفَكَافِيهِمْ وَمَحْسِبُهُمْ وَمُنْتَهَى عَرَضِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكْفِيهِمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا حَسِبُوا. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ قَالَ سَهْلٌ: يَعْنِي أَبَا حَاتِمٍ مَعْنَاهُ: أَفَحَسْبُهُمْ وَحَظُّهُمْ إِلَّا أَنَّ أَفَحَسِبَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ غَايَةَ مُرَادِهِمُ انْتَهَى. وَارْتَفَعَ حَسْبُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ أَنْ يَتَّخِذُوا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَلَى الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى الْهَمْزَةِ سَاوَى الْفِعْلَ فِي الْعَمَلِ كَقَوْلِكَ: أَقَائِمٌ الزَّيْدَانِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُحْكَمَةٌ جَيِّدَةٌ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْإِعْرَابَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ حَسْبًا لَيْسَ بَاسِمِ فَاعِلٍ فَتَعْمَلَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَفْسِيرِ شَيْءٍ
إِنَّا أَعْتَدْنا أَيْ أَعْدَدْنَا وَيَسَّرْنَا وَالنُّزُلُ مَوْضِعُ النُّزُولِ وَالنُّزُلُ أَيْضًا مَا يُقَدَّمُ لِلضَّيْفِ وَيُهَيَّأُ لَهُ وَلِلْقَادِمِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالنُّزُلُ هُنَا يَحْتَمِلُ التَّفْسِيرَيْنِ وَكَوْنُهُ مَوْضِعَ النُّزُولِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ هنا، وما هيىء مِنَ الطَّعَامِ لِلنَّزِيلِ قَوْلُ الْقُتَبِيِّ. وَقِيلَ: جَمْعُ نَازِلٍ وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ نَحْوُ شَارِفٍ وَشَرَفٍ، فَإِنْ كَانَ مَا تُقَدِّمُ لِلضَّيْفِ وَلِلْقَادِمِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «١». وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُ نُزُلًا بِسُكُونِ الزَّايِ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً.
أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكَافِرِينَ هَلْ نُخْبِرُكُمُ الْآيَةَ فَإِذَا طَلَبُوا ذَلِكَ فَقُلْ لَهُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالْأَخْسَرُونَ أَعْمَالًا
عَنْ عَلِيٍّ هُمُ الرُّهْبَانُ كَقَوْلِهِ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ «٢».
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: هُمُ الصَّابِئُونَ.
وَسَأَلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَلِيًّا عَنْهُمْ فَقَالَ: مِنْهُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ.
وَيَنْبَغِي حَمْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى التَّمْثِيلِ عَلَى الْحَصْرِ إِذِ الْأَخْسَرُونَ أَعْمَالًا هُمْ كُلُّ مَنْ دَانَ بِدِينٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ، أَوْ رَاءَى بِعَمَلِهِ، أَوْ أقام على بدعة تؤول بِهِ إِلَى الْكُفْرِ وَالْأَخْسَرُ مَنْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ فَأَدَّى تَعَبُهُ بِهِ إِلَى النَّارِ. وَانْتَصَبَ أَعْمالًا عَلَى التَّمْيِيزِ وَجُمِعَ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ فِي الضَّلَالِ مُخْتَلِفَةٌ وَلَيْسُوا مُشْتَرِكِينَ في عمل واحد والَّذِينَ يَصِحُّ رَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الذَّمِّ وَخَبَرُهُ عَلَى الْوَصْفِ أَوِ الْبَدَلِ ضَلَّ سَعْيُهُمْ أَيْ هَلَكَ وَبَطَلَ وذهب ويَحْسَبُونَ
(٢) سورة الغاشية: ٨٨/ ٣.
وَلَمْ يَكُنِ الْمُغْتَرُّ بِاللَّهِ إِذْ سَرَى | لِيُعْجِزَ وَالْمُعْتَزُّ بِاللَّهِ طَالِبُهْ |
سَقَيْنَنِي رَبِّي وَغَنَيْنَنِي | بُحْتُ بِحُبِّي حِينَ بِنَّ الْخُرَّدُ |
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو السَّمَّالِ فَحَبِطَتْ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا نُقِيمُ بِالنُّونِ وَزْناً بِالنَّصْبِ وَمُجَاهِدٌ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ فَلَا يُقِيمُ بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَنْ عُبَيْدٍ أَيْضًا يَقُومُ بِفَتْحِ الْيَاءِ كَأَنَّهُ جَعَلَ قَامَ مُتَعَدِّيًا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ وَيَعْقُوبَ بِخِلَافٍ عَنْهُمْ: فَلَا يَقُومُ مُضَارِعُ قَامَ وَزْنٌ مَرْفُوعٌ بِهِ. وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ فَلا نُقِيمُ إِلَّا بِهِ أَنَّهُمْ لَا حَسَنَةَ لَهُمْ تُوزَنُ فِي مَوَازِينِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَا حَسَنَةَ لَهُ فَهُوَ فِي النَّارِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ الْمَجَازَ كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا قَدْرَ لَهُمْ عِنْدَنَا يَوْمَئِذٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «يُؤْتَى بِالْأَكُولِ الشَّرُوبِ الطَّوِيلِ فَلَا يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» ثُمَّ قَرَأَ فَلا نُقِيمُ الْآيَةَ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: «يَأْتِي نَاسٌ بِأَعْمَالٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هِيَ عِنْدَهُمْ فِي الْعِظَمِ كَجِبَالِ تِهَامَةَ فَإِذَا وَزَنُوهَا لَمْ تَزِنْ شَيْئًا».
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وجَهَنَّمُ بدل وذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ إِقَامَةِ الْوَزْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُشَارَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا إِلَى الْجَمْعِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى أُولَئِكَ وَيَكُونُ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: ذلِكَ أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذلِكَ مُبْتَدَأً وجَزاؤُهُمْ مبتدأ ثان وجَهَنَّمُ خَبَرُهُ. وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْأَوَّلِ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ جَزَاؤُهُ انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ هَذَا التَّوْجِيهُ إِلَى نَظَرٍ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذلِكَ مُبْتَدَأً وجَزاؤُهُمْ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وجَهَنَّمُ الْخَبَرُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَهَنَّمُ بَدَلًا مِنْ جَزَاءٍ أَوْ خَبَرٌ لِابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، أي هو جهنم وبِما كَفَرُوا خَبَرُ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْبَاءُ بجزاؤهم للفصل بينهما واتَّخَذُوا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كَفَرُوا وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا انْتَهَى. وَالْآيَاتُ هِيَ الْمُعْجِزَاتُ الظَّاهِرَةُ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصُّحُفُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِمْ.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ ذكر ما أعد للمؤمنين
وَفِي الصَّحِيحِ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعٌ ثِنْتَانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَثِنْتَانِ مِنْ فِضَّةٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا.
وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ الْفِرْدَوْسِ أَعْلَاهَا يعني أعلا الْجَنَّةِ. قَالَ قَتَادَةُ وَرَبْوَتُهَا وَمِنْهَا تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَبَلٌ تَتَفَجَّرُ مِنْهُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْفِرْدَوْسِ سُرَّةُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْفِرْدَوْسِ الْبُسْتَانُ بِالرُّومِيَّةِ. وَقَالَ كَعْبٌ وَالضَّحَّاكُ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْنَابُ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ إِنَّهُ جَنَّاتُ الْكُرُومِ وَالْأَعْنَابِ خَاصَّةً مِنَ الثِّمَارِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْفِرْدَوْسِ فِيمَا سَمِعْتُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ وَالْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْعِنَبُ. وَحَكَى الزَّجَّاجُ أَنَّهُ الأدوية الَّتِي تُنْبِتُ ضُرُوبًا مِنَ النبت، وَهَلْ هُوَ عَرَبِيٌّ أَوْ أَعْجَمِيٌّ قَوْلَانِ؟ وَإِذَا قُلْنَا أَعْجَمِيٌّ فَهَلْ هُوَ فَارِسِيٌّ أَوْ رُومِيٌّ أَوْ سُرْيَانِيٌّ؟ أَقْوَالٌ. وَقَالَ حَسَّانُ:
وَإِنَّ ثَوَابَ اللَّهِ كُلَّ مُوَحِّدٍ | جِنَانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسِ فِيهَا يُخَلَّدُ |
كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظَاهِرَةً | فيها الفردوس ثُمَّ الْفُومُ وَالْبَصَلُ |
وَمَعْنَى حِوَلًا أَيْ مُحَوَّلًا إِلَى غَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ عِيسَى: هُوَ مَصْدَرٌ كَالْعِوَجِ وَالصِّغَرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ حَالَ عَنْ مَكَانِهِ حِوَلًا كَقَوْلِهِ:
عَادَنِي حُبُّهَا عِوَدًا يَعْنِي لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا حَتَّى تُنَازِعَهُمْ أَنْفُسُهُمْ إِلَى أَجْمَعَ لِأَغْرَاضِهِمْ وَأَمَانِيهِمْ، وَهَذِهِ غَايَةُ
لِكُلِّ دَوْلَةٍ أَجَلْ | ثُمَّ يُتَاحُ لَهَا حِوَلْ |
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ.
قِيلَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ تَزْعُمُ أَنَّكَ نَبِيُّ الْأُمَمِ كُلِّهَا وَمَبْعُوثٌ إِلَيْهَا، وَأَنَّكَ أُعْطِيتَ مَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ مِنَ الْعِلْمِ وَأَنْتَ مُقَصِّرٌ قَدْ سُئِلْتَ عَنِ الرُّوحِ فَلَمْ تُجِبْ فِيهِ؟ فَنَزَلَتْ
مُعْلِمَةً بِاتِّسَاعِ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ وَأَنَّهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَأَنَّ الْوُقُوفَ دُونَهَا لَيْسَ بِبِدْعٍ وَلَا نُكْرٍ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا بِتَمْثِيلِ مَا يَسْتَكْثِرُونَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ. وَقِيلَ قَالَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فِي كِتَابِكُمْ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «١» ثُمَّ تَقْرَءُونَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «٢» فَنَزَلَتْ يَعْنِي إِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَلَكِنَّهُ قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرِ كَلِمَاتِ اللَّهِ قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ أَيْ مَاءُ الْبَحْرِ مِداداً وَهُوَ مَا يُمَدُّ بِهِ الدَّوَاةُ مِنَ الْحِبْرِ، وَمَا يُمَدُّ بِهِ السِّرَاجُ مِنَ السَّلِيطِ. وَيُقَالُ: السَّمَاءُ مِدَادُ الْأَرْضِ لِكَلِماتِ رَبِّي أَيْ مَعَدُّ الْكُتُبِ كَلِمَاتُ رَبِّي وَهُوَ عِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ، وَكُتِبَ بِذَلِكَ الْمِدَادِ لَنَفِدَ الْبَحْرُ أَيْ فَنِيَ مَاؤُهُ الَّذِي هُوَ الْمِدَادُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ الْكَلِمَاتُ لِأَنَّ كَلِمَاتِهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ نَفَادُهَا لِأَنَّهَا لَا تَتَنَاهَى وَالْبَحْرُ يَنْفَدُ لِأَنَّهُ مُتَنَاهٍ ضَرُورَةً، وَلَيْسَ بِبِدْعٍ أَنْ أَجْهَلَ شَيْئًا مِنْ مَعْلُومَاتِهِ وإِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لَمْ أَعْلَمْ إِلَّا مَا أُوحِيَ إِلَيَّ بِهِ وَأُعْلِمْتُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَعْمَشُ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْرَجُ وَالْحَسَنُ وَالْمِنْقَرِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَدَدا لِكَلِمَاتِ رَبِّي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَنْفَدَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ أَنْ تَنْفَدَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى تَفَعَّلَ عَلَى الْمُضِيِّ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبِي عَمْرٍو فَهُوَ مُطَاوِعٌ مِنْ نَفَّدَ مُشَدَّدًا نَحْوَ كَسَّرْتُهُ فَتَكَسَّرَ. وَفِي قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ مُطَاوِعٌ لَأَنْفَدَ وجواب لو
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٨٥.
فَإِنَّ الْهَوَى يَكْفِيكَهُ مِثْلُهُ صَبْرًا وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ بِخِلَافٍ وَالتَّيْمِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ وَحَفْصٌ فِي رِوَايَةٍ بِمِثْلِهِ مِدَادًا بِأَلِفٍ بَيْنِ الدَّالَيْنِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى وَلَوْ أَمْدَدْنَاهُ بِمِثْلِهِ إِمْدَادًا ثُمَّ نَابَ الْمَدَدُ مَنَابَ الْإِمْدَادِ مِثْلُ أَنْبَتَكُمْ نَبَاتًا.
وَفِي قَوْلِهِ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إِعْلَامٌ بِالْبَشَرِيَّةِ وَالْمُمَاثَلَةِ فِي ذَلِكَ لَا أَدَّعِي أَنِّي مَلَكٌ يُوحى إِلَيَّ أَيْ عَلَيَّ إِنَّمَا هُوَ مُسْتَنَدٌ إِلَى وَحْيِ رَبِّي، وَنَبَّهَ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ حَضَّ عَلَى ما فيه النجاة ويَرْجُوا بمعنى يطمع ولِقاءَ رَبِّهِ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ أَيْ حُسْنَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وقيل يَرْجُوا أَيْ يَخَافُ سُوءَ لِقاءَ رَبِّهِ أَيْ لِقَاءَ جَزَاءِ رَبِّهِ، وَحَمْلُ الرَّجَاءِ عَلَى بَابِهِ أَجْوَدُ لِبَسْطِ النَّفْسِ إِلَى إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى. وَنَهَى عَنِ الْإِشْرَاكِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لَا يُرَائِي فِي عَمَلِهِ فَلَا يَبْتَغِي إِلَّا وَجْهَ رَبِّهِ خَالِصًا لَا يَخْلِطُ بِهِ غَيْرَهُ.
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي جُنْدُبِ بْنِ زُهَيْرٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مَا شُورِكَ فِيهِ».
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «لَكَ أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ»
وَذَلِكَ إِذَا قَصَدَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلا يُشْرِكْ بِيَاءِ الْغَائِبِ كَالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيَعْمَلْ «١». وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ الْجُعْفَيِّ عَنْهُ: وَلَا تُشْرِكُ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلسَّامِعِ وَالْتِفَاتًا مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ بِرَبِّهِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ بِرَبِّكَ إِيذَانًا بِأَنَّ الضَّمِيرَيْنِ لِمَدْلُولٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَنْ فِي قَوْلِهِ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا.