تفسير سورة الكهف

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الكهف مكية١
من رواية ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بسورة عظمها ما بين السماوات والأرض، لمن٢ جاء بها٣ من الأجر مثل ذلك ؟ قالوا : يا نبي الله، أي سورة هي : قال : سورة الكهف. من قرأ [ بها٤ ] يوم الجمعة أعطي بها نورا بين السماوات والأرض، ووقي بها فتنة القبور٥.
وعن بعض أهل المدينة أنه٦ قال : " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أعطي نورا ما بينه وبين مكة، وغفر له ما بين الجمعتين ووقي فتنة الدجال " ٧.
وعن مكحول٨ أنه٩ قال : " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أعطاه الله [ عز وجل١٠ ] نورا من الجمعة إلى الجمعة١١ ".
وعن أنس أنه١٢ قال : " من قرأ سورة الكهف [ يوم الجمعة١٣ ] غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام " ١٤.
١ في المحرر ١٠/٣٦١ إنها: "مكية في قول جميع المفسرين، وروي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله ﴿جرزا﴾ [الآية ٨] والأول أصح" ونقله في الجامع ١٠/٢٢٥، وفي التفسير الكبير ٢١/٧٤ عن ابن عباس أنها مكية إلا آيتين. وفي التحرير ١٥/٢٤١ نقل ما في المحرر وزاد: وقيل: إلا الآيتين ٢٨و ٢٩، وقيل: من الآية ٣٠ إلى آخر السورة مدني: وكل ذلك ضعيف..
٢ ط: وما..
٣ ط: "فيها"..
٤ ساقط من ط..
٥ انظر هذا الأثر: في المحرر ١٠/٣٦١، والجامع ١٠/٢٢٥..
٦ أي الرسول صلى الله عليه وسلم..
٧ أخرج نحو هذا الأثر التارمذي في السنن رقم ٣٠٤٧ والدارمي في السنن ٢/٤٥٤..
٨ هو مكحول بن أبي مسلم شهراب بن شاذل أبو عبد الله فقيه الشام في عصره، من حفاظ الحديث، توفي بدمشق سنة ١١٢ هـ. انظر ترجمته في الحلية ٥/١٧٧، ووفيات الأعيان ٥/٢٨٠ وميزان الاعتدال ٤/١٧٧ وتذكرة الحفاظ ١/١٠٧ والأعلام ٧/٢٨٤..
٩ أي الرسول صلى الله عليه وسلم..
١٠ ساقط من ط..
١١ أخرج نحو هذا الأثر الحاكم في المستدرك ٢/٣٦٨، وانظر: الإتقان ٢/٣٣٦..
١٢ أي الرسول صلى الله عليه وسلم..
١٣ ساقط من ط..
١٤ انظر هذا الأثر: في المحرر ١٠/٣٦١..

وعن مكحول أنه قال: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أعطاه الله [- عز وجل -] نوراً من الجمعة إلى الجمعة"
وعن أنس أنه قال: "من قرأ سورة الكهف [يوم الجمعة] غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام".
قوله تعالى: ﴿الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب﴾.
معناه: على قول ابن عباس، في رواية الضحاك وابن جريج عنه: الله المحمود بالذكر وبكل لسان، والمحمود على كل فعل والمعبود في كل مكان، الذي هو كل يوم في شأن لا يشغله شأن عن شأن.
ومعنى الآية: في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة: أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً. فقيمماً حال من الكتاب، وهو قول: الكسائي والفراء وأبي
4318
عبيدة.
وقال: غيرهم: " قيماً ": منصوب بإضمار فعل، أي: ولكن جعله قيما، فهو مفعول ثان ليجعل المضمرة.
والوقف على " الكتاب ": على القول الأول: لا يجوز، وعلى الثاني يجوز.
وقيل إنّ المعنى: أنزله قيماً، فيكون نصبه على الحال من الهاء المضمرة مع الفعل المضمر.
ومعنى " عوجاً: أي: مخلوقاً ". كذلك قوله: ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ [الزمر: ٢٨] أي: غير مخلوق، قاله: ابن عباس.
والعِوج: بالكسر في العين في كل ما ليس له شخص: مثل الدين، والأمر، والرأي. فإن كان له شخص كالخشبة والحائط وشبهه فهو بفتح العين.
ومعنى الآية: الحمد لله الذي خص برسالته محمداً، وأنزل عليه كتابه قيماً.
4319
قال: الضحاك: " قيماً ": مستقيماً.
وقال ابن عباس: عدلاً. وقال ابن إسحاق: معتدلاً [لا] اختلاف فيه.
وقيل معناه: قيماً على الكتب [يصدق] بصدقها لا اختلاف فيه ولا تفاوت، بل يصدق بعضها بعضاً، لا عوج فيه عن الحق ولا ميل.
وهذه السورة نزلت في الأخبار من عند الله [ تعالى] بأمور سألت قريش النبي عليه السلام عنها، علمهم السؤال عن ذلك اليهود وقالوا لهم: إن أخبركم بها فهو نبي، وإن لم يخبركم بها فهو متقول. فوعدهم رسول الله ﷺ الجواب / عنها. فأبطأ الوحي عليه بعض الإبطاء، فتحدث المشركون بأنه أخلفهم موعدهم فأنزل الله [ تعالى] هذه السورة جواباً لهم. فافتتحها بحمد الله على نعمه، وتثبيته رسالة محمد عليه السلام، وأن الله [ تعالى] أنزل عليه الكتاب، وأنه صادق فيما أتاكم به من خبر أهل الكهف، وخبر ذي القرنين، وغيره مما سألوه عنه، من تعليم اليهود إياهم ذلك، فهذا معنى قول ابن
4320
ابن عباس وغيره.
قوله: ﴿لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً﴾.
أي: أنزل الكتاب على عبده لكي ينذركم بأساً شديداً من عند الله. فالمفعول الأول محذوف. ومثله ﴿إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ [آل عمران: ١٧٥] أي: يخوفكم أولياءه.
ثم قال: ﴿وَيُبَشِّرَ المؤمنين﴾.
أي: ويبشر المصدقين لله ورسوله ﷺ.
﴿ الذين يَعْمَلُونَ الصالحات﴾ وهو العمل بما أمر الله [ تعالى] [ به]، والانتهاء عما نهى الله [سبحانه] عنه.
﴿أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً﴾.
أي: ثواباً جزيلاً من الله [سبحانه] على أعمالهم وتصديقهم وهو الجنة.
4321
﴿مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً﴾.
أي: لابثين فيه أبداً.
قال: ﴿وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً﴾.
يعني: قريشاً الذين قالوا: إنما نعبد الملائكة وهن بنات الله [سبحانه وتعالى عما يقولون]. ﴿مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾. أي: ما لهم بهذا القول علم ﴿لآبَائِهِمْ﴾.
ثم قال: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾.
أي: كبر قولهم: ﴿اتخذ الله وَلَداً﴾ من كلمة. وفيه معنى التعجيب كأنه قال: ما أكبرها من كلمة. كما تقول لقصو الرجل بمعنى: ما أقصاه.
وقرأ الحسن، ومجاهد، ويحيى بن يعمر، وابن أبي إسحاق
﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ بالرفع على معنى: عظمت كلمتهم.
يقال: كبُر الشيء إذا عَظُمَ وكبِر [الرجل] إذا أسن، [بكسر الباء، والأول بالضم].
﴿إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً﴾.
أي ما يقول هؤلاء إن الله اتخذ ولداً إلا كذباً وتخرصاً.
أي: فلعلك يا محمد قاتل نفسك على آثار قومك الذين قالوا: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً﴾ [الإسراء: ٩٠] تمرداً منهم على ربهم ﴿إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً﴾ أي:
بهذا الكتاب ﴿أَسَفاً﴾ وقال: قتادة: " أسفاً " غضباً وقال: مجاهد: " حزناً ".
فهذا عتاب للنبي ﷺ من الله [ تعالى] على حزنه على قومه إذ لم يؤمنوا. فمعنى أسفاً حزناً. وقيل معناه: جزعاً، قال مجاهد. وقال: قتادة: معناه غضباً، ومنه قوله: ﴿فَلَمَّآ آسَفُونَا﴾ [الزخرف: ٥٥].
قال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا﴾.
يعني: من الشجر والثمر والمال زين الأرض بذلك.
﴿لِنَبْلُوَهُمْ﴾.
أي: لنختبرهم من هو أحسن عملاً من غيره. قال سفيان الثوري: أيكم
أزهد في الدنيا. وقال مجاهد: ما على الأرض من شيء هو زينة لها. وكان النبي ﷺ يقول: " إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ".
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: " الزينة ": الخلفاء، والعلماء، والأمراء. وروى ابن جبير عنه أنه قال: " الزينة ": الرجال. جعل " ما " بمعنى /: من في القولين جميعاً، وكون " ما " بمعنى: " من " يصلح في مواضع الإبهام ويقبح عند الاختصاص وذهاب العموم.
وقيل المعنى: إنا جعلنا بعض ما على الأرض زينة لها، فأوقع الكل موضع البعض، لأن على الأرض ما لا زينة فيه. وقيل: بل هو عام. كل ما على الأرض زينة لها لولالته على خالقه.
قال: ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً﴾.
أي: وإنا لخربوها بعد زينتها وعمارتها. يعني بذلك يوم القيامة، تصير الأرض مستوية لا جبل فيها ولا واد ولا أكمة ولا ماء ولا نبات. والصعيد وجه
4325
الأرض. والجزر الذي لا نبات فيه من الأرض ولا زرع ولا غرس.
وقيل: الصعيد هنا المستوي بوجه الأرض، قال ابن عباس معناه: أنه يهلك كل شيء عليها ويبيد. وهذه تعزية للنبي ﷺ يقول لأه تعالى ذكره: لا تقتل نفسك إذ لم يؤمنوا بما جئتهم به فإن مصيرهم إلي فأجازيهم بأعمالهم. فإني مهلك كل من على وجه الأرض.
قال: ابن زيد: الصعيد: المستوي، دل على ذلك قوله: ﴿لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً﴾ [طه: ١٠٧]. والجزر: الأرض التي لا نبات فيها ولا منفعة، ألم تر إلى قوله:
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض [الجرز]﴾ [السجدة: ٢٧] أي الأرض التي لا نبات فيها.
حكى سيبويه: جرزت الأرض فهي مجروزة، وجرزها الجراد والنعم.
4326
وأرضون أجراز: إذا كانت لا شيء فيها. ويقال: للسنة المجدبة جرز وسنون إجراز.
أم: هنا بمعنى: بل. [والمعنى] أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً. فإن ما خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجب من أصحاب الكهف. والخطاب للنبي ﷺ والمراد به الخلق كلهم.
وقال مجاهد: معنى الكلام: هم عجب وليس هو على طريقة الإنكار عنده. وقال قتادة: معناه: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك. وعن ابن عباس أن المعنى: أم حسبت أن هؤلاء عجباً، فإن الذي أتيتك من الكتاب والحكمة والعلم أفضل من شأن أهل الكهف والرقيم.
وهذا مما عَلَّمَتْ اليهود قريشاً أن يسألوا عنه محمداً ﷺ فسألوه عن ذلك. فأخبره الله بقصصهم. وخبرهم بعد أن أبطأ عنه الوحي في ذلك خمس
4327
عشرة ليلة، وقيل: أكثر.
والكهف: كهف الجبل، آوى إليه القوم الذين قص الله [ تعالى] خبرهم في هذه السورة. وقال: الضحاك: الكهف الغار في الوادي. وقال ابن مالك: الكهف: الجبل.
و" الرقيم ": عند عكرمة وابن عباس فيما حكيا عن كعب: القرية وقال: قتادة: " الرقيم " الوادي الذي فيه اصحاب الكهف، وقاله عطية العوفي. وعن ابن عباس: " الرقيم " الكتاب. وقال عكرمة: الرقيم القرية اسم لها.
وقال: [ابن] جبير / " الرقيم ": لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف.
وقال ابن زيد: " الرقيم ": كتاب، ولذلك الكتاب خبر، فلم يخبرنا الله [ تعالى]
4328
عن ذلك الكتاب وعن ما بناؤه، وقرأ:
﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المقربون﴾ [المطففين: ١٩ - ٢١] ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ [المطففين: ٨ - ٩].
وعن ابن عباس أيضاً أن " الرقيم ": الجبل الذي فيه الكهف، وعن ابن عباس أن " الرقيم ": كتاب كتبه رجلان صالحان كانا في بيت الملك الذي فرّ منه الفتية أصحاب الكهف، كانا يكتمان إيمانهما. فلما سد الكهف على الفتية كتبا شأن الفتية وخبرهم في لوحين من رصاص. ثم جعلاه في تابوت على المكان الذي سدّ به باب الكهف. وقالا: لعل الله يطلع على هؤلاء الفتية قوماً صالحين فيعلمون شأنهم.
وقد روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: القرآن أعلمه إلا ﴿حَنَاناً﴾ [مريم: ١٣] و ﴿لأَوَّاهٌ﴾ [التوبة: ١١٤] و ﴿الرقيم﴾ [الكهف: ٩] و ﴿غِسْلِينٍ﴾ [الحاقة: ٣٦].
وقال أنس: بن مالك: " الرقيم ": آية الكلب وقال عكرمة: الرقيم الرواة. وقال السدي: هو الصخرة، وقال الفراء: الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم
4329
وأنسابهم ودينهم ومما هربوا.
قوله: ﴿إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف﴾ إلى قوله: ﴿رَشَداً﴾.
أي: كانوا من آياتنا عجباً، حين أوى الفتية إلى الكهف هرباً بدينهم إلى الله [ تعالى] فقالوا: إذ أووه.
﴿فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً﴾.
أي: ارحمنا ونجنا من هؤلاء الكفار.
﴿وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً﴾.
أي: دلنا على ما ننجو به.
وكان هؤلاء الفتية على دين عيسى ﷺ. فدعاهم ملكهم إلى عبادة الأوثان والأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عنه أو يقتلهم فاستخفوا منه في الكهف.
وروي أنهم لما أمرهم الملك بعبادة صنمه قالوا ﴿رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً﴾ [الكهف: ١٤] فاعتزلوا عن قومهم لعبادة الله
4330
[سبحانه]. فقال: أحدهم: إنه كان لأبي كهف يأوي فيه غنمه. فانطلقوا بنا نكن فيه. فدخلوا فيه، ثم فقدوا في ذلك الزمان، فطلبوا، فقيل: إنهم دخلوا هذا الكهف. فقال: قومهم: لا نريد لهم عقوبة، ولا عذاباً أشد من أن يردم عليهم هذا الكهف فبنوه عليهم فردموه، ثم أقاموا ما شاء الله، يدبرهم الله [ تعالى] بلطفه وهم نيام، ثم بعث الله [ تعالى] ملكاً على دين عيسى ﷺ. ووقع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم. وقاموا من نومتهم تلك. فقال: بعضهم لبعض كم لبثتم؟ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم. فأرسلوا أحدهم ليأتيهم بطعام وشراب مستخفباً أن لا يعرف. فلما خرج من باب الكهف رأى ما أنكره، فأراد أن يرجع، ثم مضى حتى دخل المدينة فأنكر ما رأى، ثم أخرج درهماً فنظروا إليه، فأنكروه وأنكروا الدرهم. فقالوا من أين لك هذا؟ [هذا] من ورق غير هذا الزمان. واجتمعوا عليه، ولم يفارقوه حتى حملوه إلى ملكهم. وكان لقومهم لوح يكتبون فيه ما يكون. فنظروا في ذلك اللوح. وسأله الملك، فأخبره بأمره، ونظروا في الكتاب متى فقدوا، فاستبشروا به وبأصحابه وقيل له: انطلق بنا فأرنا أصحابك فانطلق، وانطلقوا معه، ليريهم أصحابه فدخل قبل /
4331
القوم فضرب على آذانهم. ﴿قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً﴾ [الكهف: ٢١].
قال: ابن عباس: كانوا ثمانية. وروى: أنه لما بني عليهم باب الكهف كتب رجلان مؤمنان - ممن يسر الإيمان - خبرهم، ووقت البناء عليهم، وأسماءهم، وأنسابهم، وأسماء آبائهم في لوحين من رصاص ثم صنعا تابوتاً من نحاس، وجعلا اللوحين فيه. ثم كتبا عليه، في فم الكهف، من بين ظهراني البنيان، وختما على التابوت بخاتمهما وقالا: لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل [يوم] القيامة، فيعلم من فتح عليهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم.
قال: مجاهد: فلبثوا في الكهف ثلاثة مائة سنين وازدادوا تسعاً نياماً.
وقيل: إنهم كانوا شباناً ملوكاً مطوقين، مسورين ذوي ذوائب وكان
4332
معهم كلب صيدهم. فخرجوا في عيد [لهم] عظيم في زي ومواكب. وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدون. وقذف الله [في] قلوب الفتية الإيمان فآمنوا، وأخفى كل واحد منهم الإيمان عن صاحبه، فقال: كل واحد في نفسه نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم، لا يصيبنا عقاب بجرمهم. فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة، ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده فرجا أن يكون على مثل أمره، فجلس إليه، وخرج الآخرون فجاءوا وجلسوا إليهما. فاجتمعوا، فقال: بعضهم: ما جمعكم؟ فقال: آخر: بل ما جمعكم؟ وكل يكتم إيمانه عن صاحبه مخافة على نفسه وقالوا: ليخرج منكم فتيان، فيخلوان، فيتوثقا ألاّ يفشي واحد منهما على صاحبه. ثم يفشي كل واحد منهما لصاحبه أمره. لإغنا نرجو أن نكون على أمر واحد. ففعلوا ذلك، فعلموا أن جميعهم على أمر واحد وهو الإيمان. وإذا كهف في الجبل [قريب] منهم، فقال: بعضهم لبعض: آووا إلى هذا الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم فرفقاً. فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم. فناموا. فجعل الله جل وعز رقدة واحدة
4333
ثلاث مائة سنة وتسع سنين. وطلبهم قومهم ففقدوهم. وبعثوا البرد في طلبهم. فعمى الله [ تعالى] عليهم آثارهم. فلما لم يقدروا عليهم، كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح: فلان بن فلان، وفلان بن فلان: ملوك فقدناهم في عيد كذا، من شهر كذا، من سنة كذا، في مملكة فلان، ورفعوا اللوح في الخزانة، ثم مات ذلك الملك. وأتى قرن بعد قرن فأظهرهم الله [ تعالى] وأنبههم، فوجهوا رسولهم ليأتيهم بما يأكلون ولا علم عندهم بما مضى من الزمان فأطلع عليهم.
وقال: وهب بن منبه: جاء حواري عيسى بن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إلا سجد له. فكره أن يدخلها / فأتى حماماً، فكان فيه قريباً من تلك المدينة. فكان يعمل فيه، يؤاجر نفسه من صاحب الحمام. فرأى صاحب الحمام في حمامه البركة، ودر عليه الرزق وجعل يعرض عليه [الإسلام] ويسترسل إليه. وعلقه فتية من أهل المدينة. وجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة حتى أنسوا به، وصدقوه. وكانوا على مثل حاله في أحسن الهيئة وكان يشترط على صاحب الحمام أن الليل لي، فلا تحولن بيني
4334
وبين الصلاة إذا حضرت. وكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بامراة فدخل بها الحمام. فعيره الحواري فقال: أنت ابن الملك تدخل معك بهذه الكذا، فاستحيي فذهب، ورجع مرة أخرى، فقال: له مثل ذلك، فسبه وانتهره، ولم يلبث حتى دخل ودخلت المرأة معه فماتا في الحمام جميعاً، فأتى الملك فقيل له: إن صاحب الحمام قتل ابنك.
فالتمس فلم يقدر عليه هرباً. فقال: من كان يصحبه؟ فسموا الفتية، فالتمسوا، فخرجوا من المدينة، فمروا بصاحب لهم في زرع له، وهو على مثل أمرهم، فذكروا أنهم التمسوا، فانطلق معه الكلب، حتى أواهم الليل إلى الكهف فدخلوه. فقالوا نبيت هنا الليلة ثم نصبح إن شاء اله فترون رأيكم. فضرب على آذانهم. فخرج الملك في اصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا في الكهف، فلما أراد رجل أن يدخل أرعب، فلم يطق أحد أن يدخله، فقال: قائل: ألست لو كنت قدرت عليهم قتلتهم قال: بلى. قال: ابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتون عطشاً وجوعاً، ففعل.
4335
قوله: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا) [١١] إلما قوله: (إِذًا شَطَطًا) [١٤].
المعنى: وضربنا على آذانهم بالنوم، أي ألقينا النوم عليهم. وإنما ذكر الأذان لأن النوم يمنعهم من السماع. وأتى في هذا ضرب بمعنى ألقى. كما يقال: ضربك الله بالفالج، أي: ألقاه عليك وابتلاك.
وقوله: ﴿عَدَداً﴾ توكيد لسنين وقيل: أتى بأنه لا يفيد معنى الكثرة. لأن القليل لا يحتاج إلى عدد إذ قد عرف معناه ومقداره.
قال: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ﴾ أي: نبهناهم من نومهم ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً﴾ أي: لنعلم من يهتدي من عبادي بالبحث إلى مقدار مبلغ مكث الفتية في كهفهم والأمد الغاية.
وقد اختلف في مقدار إقامتهم طائفتان من الكفار من قوم الفتية، قاله مجاهد:
وقيل: بل اختلف في ذلك طائفة مؤمنة وطائفة كافرة. وقيل: الحزبان أصحاب الكهف والقوم الذين كانوا أحياء في وقت بعثهم.
ومعنى: ﴿لِنَعْلَمَ﴾ أي: علم مشاهدة، وإلا فقد علم ذلك تعالى ذكره قبل خلق الجميع، ومعنى الكلام التوقف على النظر في معرفة مقدار لبثهم. كما تقول لمن أتى بالباطل: جئ ببرهانك حتى أعلم أنك صادق.
ومعنى: ﴿أَمَداً﴾ عدداً، قاله مجاهد، وقال: ابن عباس ﴿أَمَداً﴾: بعيداً.
قال: تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ [عَلَيْكَ] نبَأَهُم بالحق﴾ أي: نخبرك يا محمد خبرهم بالصدق واليقين.
﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ﴾.
أي: إن الذين سالوك عن نبأهم [هم] فتية آمنوا بربهم، أي: صدقوا به ووحدوه.
﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾.
أي: إيماناً إلى إيمانهم وبصيرة، فهجروا دار قومهم وهربوا بدينهم إلى الله [ تعالى] وفارقوا ما كانوا فيه من النعيم في الله [تعالى].
قال: تعالى: ﴿وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ﴾.
أي: ألهمناهم الصبر وشددنا قلوبهم بنور الإيمان حتى [عزفت] أنفسهم عما كانوا فيه من خفض العيش.
وقال: قتادة: ﴿وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ﴾ بالإيمان حين ﴿قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض﴾ أي: ملك السموات [والأرض] ﴿لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها﴾ أي: لن نعبد معبوداً سواه.
﴿لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً﴾.
أي: لو قلنا: أنه يعبد غيره لقلنا جوراً من قول. وقليل " شططاً غالياً من الكذب وقال: قتادة: " شططاً " كذباً. وقال: ابن زيد خطا.
ويقال: قد أشط فلان في السوم، إذا جاوز القدر يشط إشطاطاً وشططاً.
ويقال: شط منزل فلان، إذا بعد، يشط شطوطاً.
ويقال: شطت الجارية تشط شطاطاً وشطاطة إذا طالت.
ويقال: شط الرجل وأشَطَّ إذا جار.
وقال: أبو عبيدة ﴿إِذاً شَطَطاً﴾ أي: جوراً وغلواً.
قوله: ﴿هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً﴾.
هذا خبر عن قول الفتية، أنهم قالوا [فيما] بينهم: هؤلاء قومنا اتخذوا من دون الله آلهة فيعبدونها، هلا يأتون على عبادتهم لها بحجة ظاهرة وبينة وعذر بين، فمن
أشد اعتداء وجوراً ممن اختلق على الله كذباً وأشرك في عبادته غيره.
قال: ابن عباس: كل " سلطان " في القرآن فهو حجة.
قال: ﴿وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله﴾.
هذا أيضاً: خبر من الله [ تعالى] عن قوله: بعض الفتية [لبعض] قالوا فيما بينهم: ﴿وَإِذِ اعتزلتموهم﴾ و [هم] الذين عبدوا الآلهة من دون الله [سبحانه] وفارقتهم دينهم. ﴿فَأْوُوا إِلَى الكهف﴾: فسيروا بنا إلى الكهف، وهو غار الجبل ﴿يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ﴾ أي: يبسط لكم ربكم من رحمته ﴿وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً﴾ أي: ويجعل لكم ربكم من عملكم الذي أنتم فيه وخوفكم على أنفسهم ما ترفقون به.
والفتح والكسر في ميم " مرفقاً " [لغتان]. والأفصح عند الكسائي
الكسر وأنكر الفراء الفتح. وقال: لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا الكسر. قال: وكأن الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بينه وبين مرفق الإنسان.
وقال الأخفش: فيه ثلاث لغات مِرْفَق، ومَرْفِق، ومَرْفَق، فمن قال: مِرْفَق جعله مما ينتقل مثل " مِقْطع ". ومن قال: مَرْفِق كمسجد لأنه من رفق يرفق كسجد يسجد. ومن قال: مَرْفَق جعله من الرفق.
قوله: ﴿وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت﴾.
أي: وترى يا محمد ﴿الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ﴾ أي: تعدل وتميل من الزور وهو الاعوجاج. قال ابن عباس: تزاور تميل يميناً وشمالاً.
4341
ثم قال: ﴿وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال﴾.
أي: تتركهم ذات الشمال. يقال: منه قرضت موضع كذا، إذا قطعته فجاوزته، هذا مذهب البصريين.
وقال الكوفيون: قرضت موضع كذا أي: حاذيته. وحكوا عن العرب: قرضته دبراً وقبلاً: وحدوته ذات اليمين والشمال. أي: كنت بحدائه.
وأصل القرض: القطع. ومنه تسمى المقص: مقراضاً لأنه يقطع به.
وقال ابن جبير: تتركهم قال قتادة: تدعهم
قال عكرمة: كان كهفهم في القبلة، وقال القتبي: كان باب الكهف حذاء بنات نعش فكانت تزاور عن كهفهم إذا طلعت، وتتركهم إذا غربت.
4342
وقوله: ﴿وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ﴾.
أي: في متسع وفضاء في الكهف:
﴿ذلك مِنْ آيَاتِ الله﴾.
أي: ما تقدم من فعل الله لهم من حجج الله [ تعالى] على خلقه [سبحانه].
ومن الأدلة التي يستدل بها أولوا الألباب على عظم قدرته وسلطانه.
ثم قال: ﴿مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد﴾.
أي: من يوفقه بالاهتداء فهو المهتدي ﴿وَمَن يُضْلِلْ﴾ أي: عن آياته وأدلته.
﴿فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً﴾.
أي: لن تجد له يا محمد خليلاً ولا حليفاً يرشده.
قال: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ﴾.
4343
أي: تظنهم يا محمد لو رأيتهم أيقاظاً، أي: أعينهم مفتوحة فتظنهم لذلك منتبهين. وقيل: إنما ذلك لكثرة تقلبهم، تحسبهم منتبيهين.
﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال﴾.
أي: نقلبهم في حال رقادهم مرة للجنب اليمين ومرة للجنب الأيسر. قال أبو عياض: وكان لهم في كل عام تقلبتين.
ثم قال: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد﴾
يعني: كلباً كان معهم للصيد. وقيل: هو إنسان من الناس كان طباخاً لهم تبعهم.
والوصيد: فناء الكهف، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك وقتادة: وعن قتادة: " الوصيد ": الصعيد والتراب. وعن ابن عباس أيضاً:
4344
الوصيد الباب، وقيل: الوصيد العتبة، وقيل الوصيد فناء الباب، وسمي الباب وصيداً: لأنه يطبق. من قولهم: أوصدت الباب: إذا أطبقته، فهو في هذا القول: فعيل بمعنى مفعل. كأنه قال: باسط ذراعيه بالوصيد أي بالمطبق يقال: [أصدت الباب و] أوصدته إذا أطبقته فهو موصد تهمز ولا تهمز.
ثم قال: ﴿لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً﴾.
أي: لو رأيتهم [في رقدتهم] لهربت منهم خوفاً ولملئ قلبك رعباً منهم. وذلك لما كان الله ألبسهم من الهيبة لئلا يصل إليهم أحد ولا تلمسهم يد، حفظاً منه لهم حتى يبلغ الكتاب فيهم أجله، وتوقظهم من رقدتهم قدرته في
4345
الوقت الذي يريد، ليجعلهم عبرةً لمن شاء من خلقه. وآية لمن أراد الاحتجاج بهم عليه ومن خلقه ﴿ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا﴾ [الكهف: ٢١].
وقيل معناه: لوليت منهم فراراً ولملئت / منهم رعباً من كثرة شعورهم وكبر أظفارهم، إذ قد مر عليهم زمان طويل وهم أحياء نيام. فطالت شعورهم وعظمت أظفارهم.
قوله: ﴿وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِذاً أَبَداً﴾.
أي فكما أرقدناهم على هذه الصفة، كذلك بعثناهم من رقدتهم ﴿لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ﴾ أي: ليسأل بعضهم بعضاً و [نعرفهم] عظين قدرتنا فيزدادوا بصيرة في أمرهم وفي إيمانهم إذ لبثوا مدة عظيمة من الزمان وهم في هيئهم لم يتغيروا ولا تغيرت ثيابهم.
ثم قال: ﴿قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ﴾.
4346
أي: بعثناهم ليتساءلوا. فتساءلوا فقال: قائل منهم. كم لبثتم؟ وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم. ﴿قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾.
وهذا يدل على ا، الرعب منهم لمن رآهم لم يكن لطول شعورهم وأظفارهم، إذ لو كان كذلك لعاينوا من أنفسهم أمراً يمنعهم أن يقولوا لبثنا يوماً أو بعض يوم. فقال الآخرون: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ﴾ ويجوز أن يكون لما رأوا من طول شعورهم وأظفارهم ما أنكروا ﴿قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ﴾ ردوا العلم إلى الله في ذلك [سبحانه].
قال ابن جبير: قال أحدهم: لبثنا يوماً، وقال الآخر: لبثنا نحوه، فقال كبيرهم: لا تختلفوا، فإن الاختلاف هلكة ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة﴾ يعنون مدينتهم التي خرجوا منها.
قال: ابن عباس: كانت ورقهم كأخفاف الرُّبع، وهو صغار الإبل، وقال:
4347
إنهم قاموا من رقدتهم جياعاً فلبثوا في طلب الطعام.
ومعنى: ﴿أزكى طَعَاماً﴾ عند عكرمة أكثر، وهو قول أبي عبيدة. وقال: ابن جبير: أحل ذبيحة، لأن القوم كانوا مجوساً. وعن ابن عباس ﴿أزكى طَعَاماً﴾ أطهر طعاماً. وقال: مقاتل: أزكى طعاماً " أطيب طعاماً. وقال: قتادة خير طعاماً وقيل: أرخص. وعن ابن عباس: ازكى طعاماً " أطهره لأنهم كانوا يذبحون الخنازير.
﴿فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُاً﴾ أي: بطعام ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾ أي: يرفق ﴿وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَد﴾
4348
أي: لا يعلمن بكم أحداً من الناس. ﴿إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ﴾ أي: إن أهل قريتكم الكفار أن يطلعوا عليكم ﴿يَرْجُمُوكُمْ﴾ أي: يقتلوكم ﴿أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ﴾ أي: يردوكم عن دينكم [إلى دينهم] ﴿وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً﴾ أي: لن تفلحوا أن رجعتم إلى دينهم وعبادة أوثانهم [أبداً].
قال وهب بن منبه: غبروا بعدما بني عليهم باب الكهف زماناً بعد زمان. ثم إن راعياً أدركه المطر عند الكهف فقال: لو فتحت هذا الكهف، وأدخلت غنمي من المطر. فلم يزل يعالجه حتى فتح ما دخل منه. ورد الله إليهم أرواحهم في أجسادهم من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورق يشتري لهم طعاماً، فلما أتى باب مدينتهم رأى شيئاً ينكره. حتى دخل [على رجل] فقال: بعني بهذه الدراهم طعاماً. فقال: من أين [لك] هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس وأتى
4349
الليل ثم أصبحوا فأرسلوني. فقال: هذه الدراهم كانت على عهد ملك فلان، فأنى لك بها؟ فرفعه إلى الملك، وكان ملكاً صالحاً فقال: [من] أين لك هذا الورق؟ فقال: خرجت أنا وأصحاب لي / أمس حتى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا.
ثم أمروني أن أشتري لهم طعاماً. فقال: وأين أصحابك؟ قال: في الكهف. قال: فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف فقال: دعوني أدخل إليهم قبلكم. فلما رأوه ودنا منهم ضرب على ءاذانهم فجعلوا كلما دخل رجل منهم أرعب. فلم يقدروا على أن يدخلوا إليهم فبنوا عندهم كنيسة واتخذوها مسجداً يصلون فيه.
وقال عكرمة: كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، ورزقهم الله الإسلام فاعتزلوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف. فلبثوا دهراً طويلاً حتى أهلكت أمتهم. وجاءت أمة مسلمة وملكهم مسلم. فاختلفوا في الروح والجسد فقال قائل: يبعث الروح أما الجسد فتأكله الأرض فلا يكون شيئاً. فشق على ملكهم اختلافهم فانطلق فلبس المسوح، وجلس على الرماد، ثم دعا الله [ تعالى] فقال أي رب قد
4350
نرى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله [ تعالى] أصحاب الكهف. فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاماً. فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه، ويعرف الطرق، ويرى الإيمان بالمدينة ظاهراً. فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلاً يشتري منه طعاماً فلما نظر الرجل إلى الورق أنكرها فقال له الفتى: أليس ملككم فلاناً؟ قالوا: لا ملكنا فلان، فلم يزل ذلك بينهما حتى دفعوه إلى الملك فسأله، فأخبره الفتى خبر أصحابه. فبعث في الناس فجمعهم، فقال: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد، وإن الله تعالى قد بعث لكم آية، فهذا رجل من قوم فلان، يعني: ملكهم الذي مضى. فقال الفتى: انطلقوا بي إلى أصحابي. فركب الملك وركب معه الناس حتى انتهوا إلى الكهف. فقال الفتى: دعوني أدخل إلى أصحابي. فلما أبصرهم ضرب على أذنه وآذانهم، فلما استبطؤوه دخل الملك ودخل الناس معه فإذا أجسادهم لا ينكرون منها شيئاً غير أنه لا أرواح فيها. فقال الملك: هذه آية: بعثها الله [ تعالى] لكم.
وروي في هذا أخبار طويلة ترجع إلى هذا المعنى.
4351
قوله: ﴿وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾.
أي: كما بعثناهم بعد طول رقدتهم ﴿وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ أي: أطلعنا عليهم الفريق الذين كانوا في شك من بعث الأجساد [ليعلموا أن وعد الله حق في بعث الأجساد] يوم القيامة وأن الساعة لا ريب فيها أي: إتيانها لا شك فيه.
ثم قال: ﴿إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ﴾.
أي: أطلعنا عليهم إذ يتنازعون، أي: وقت المنازعة في بعث الأجساد. والمنازعة المناظرة.
وقيل: المعنى: ليعلموا في وقت منازعتهم أن وعد الله في بعث الأجساد حق فيكون العامل في " إذ " على القول الأول " أعثرنا " وعلى الثاني " ليعلموا ".
ثم قال: ﴿[فَقَالُواْ] ابنوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً﴾.
أي قال الذين اطلعوا على أمرهم: ابنو عليهم بنيانا ﴿رَّبُّهُمْ [أَعْلَمُ بِهِمْ]﴾
أي: [الله] أعلم بشأنهم قال ذلك: الكافرون. ﴿قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً﴾ قال ذلك: المسلمون.
قال: عبيد بن عمير عمى الله [ تعالى] على الذين أعثرهم / على أصحاب الكهف مكانهم فلم يهتدوا، فقال المشركون: نبني عليهم بنياناً فإنهم أبناء آبائنا، ونعبد الله فيها.
وقال المسلمون: نحن أحق بهم، فإنهم منا، نبني عليهم مسجداً نصلي فيه، ونعبد الله تعالى فيه. وقال قتادة: ﴿الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ﴾ الولاة.
وقد روى ابن وهب: أن النبي ﷺ قال: " ليحجن عيسى ابن مريم عليه السلام في سبعين. منهم أصحاب الكهف مسورين مخلخلين بالفضة ".
قال: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾.
[أي: سيقول بعض الخائضين في أمر الفتية هم ثلاثة رابعهم كلبهم] ويقول بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب، أي: قذفاً بالظن. ويقول بعضهم: هم
4353
سبعة وثامنهم كلبهم. قل [يا محمد للقائلين ذلك] ربي أعلم بعدتهم ما يعلم عددهم إلا ناس قليل من خلقه، قاله قتادة.
وقال ابن عباس: عني بالقليل هنا أهل الكتاب. وكان يقول: أنا ممن استثنى الله [ تعالى].
وروي عنه أنه قال: أنا من ذلك القليل. ويقول: عددهم سبعة، وكذلك قال: عكرمة وابن جريج هم سبعة وثامنهم كلبهم.
ثم قال تعالى: ﴿فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً﴾.
أي: [لا] تجادل في عدد أصحاب الكهف يا محمد أحداً من اليهود ﴿إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً﴾ أي: بما أنزل عليك من القرآن تتلوهم عليهم لا غير. وقال ابن عباس: يقول حسبك ما قصصت عليك في أمرهم فلا تمار فيهم.
قال مجاهد: ﴿إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً﴾ إلا ما قد أظهرنا لك من أمرهم. وقال ابن
4354
زيد: معناه: أن نقول لهم: ليس كما تقولون، ليس كما تدعون.
ثم قال: ﴿وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً﴾.
أي لا تستفت في أهل الكهف أحداً من أهل الكتاب فإنهم لا يعلمون ذلك.
قال: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾.
هذا تأديب للنبي ﷺ عهد إليه ألا يجزم في الأمور أنه كائن لا محالة إلا أن يصله بمشيئة الله. إذ لا يكون شيء إلا بمشيئته وأمره. وإنما بذلك النبي ﷺ [ لأنه] وعد سائليه عن المسائل التي تقدم ذكرها أن يجيبهم عنها غد يومهم ولم يستثن. فاحتبس الوحي عنه من أجل ذلك خمس عشرة ليلة حتى حزنه إبطاؤه. ثم أنزل عليه الجواب فيهن فعرف الله [ تعالى] نبيّه [عليه السلام] سبب احتباس الوحي عنه وعلمه ما الذي ينبغي له أن يستعمله في عداته فيما يحدث من الأمور التي [لم] يأته من الله عز وجل فيها تنزيل.
4355
وتقدير ﴿أَن يَشَآءَ الله﴾ عند الكسائي والفراء: إلا أن يقول إن شاء الله. وقال البصريون: المعنى: إلا بمشيئة الله [ تعالى]. فأن: في موضع نصب على حذف [الباء على] هذا.
ثم قال: [تعالى]: ﴿واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾.
معناه عند ابن عباس: واستثنِ في يمينك إذا ذكرت أنك نسيت [ذلك] في حال اليمين. قاله فيه: [فإن] له أن يستثني ولو إلى سنْة، وكذلك قال: أبو العالية، والحسن. وقال عكرمة: معناه: واذكر ربك / إذا عصيت. وقيل: معناه:
4356
واذكر ربك إذا تركت ذكره لأن أحد معاني النسيان التي استعمل بها الترك.
ومعنى قول: من أجاز الاستثناء بعد سنة أنه يسقط ذلك الاستثناء الحرج بتركه ما أمر به في الاستثناء لأن الله [ تعالى] أمر بالاستثناء. فإذا ذكر الإنسان، متى ما ذكر يمينه، وجب عليه أن يستثني فيسقط عنه الحرج في تركه ما أمر به ولا يسقط ذلك لكفارة إذا حنث [إلا أن يكون الاستثناء متصلاً باليمين فيسقط عنه الكفارة إذا حنث]، والحرج جميعاً، هذا معنى قول ابن عباس: أنه يستثني بعد سنة. ولم يقل أحد أن الاستثناء بعد حين يسقط عنه الكفارة إذا حنث. ولو وجب أن يسقط الكفارة بالاستثناء بعد حين لم يكن قوله تعالى: ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ﴾ [المائدة: ٩١] الآية. فائدة: لأنه كان يستثني كل من أراد الحنث متى ما أراد الحنث ولا كفر، وتبطل فائدة الآ] ة، ولا يلزم أحد الكفارة. ويدل على ذلك أيضاً، قول النبي ﷺ: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر وليأت
4357
الذي هو خير " فأمر بالكفارة عند الحنث، ولم يقل: فليقل إن شاء الله.
ثم قال: ﴿وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً﴾.
أي قل لهم يا محمد لعل ربي أن يرشدني لأقرب مما وعدتكم وأخبرتكم أنه يكون إن هو شاء.
وقيل: إن هذا أمر من الله [ تعالى] لنبيه [ ﷺ] أن يقوله إذا نسي الاستثناء في كلامه الذي هو عنده في أمر مستقبل مع قوله إن شاء الله إذا ذكر ذلك.
وقيل: المعنى قل لعل ربي أن يعطيني من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب من الرشد وأدل من قصة أصحاب الكهف.
قوله: ﴿وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿فِي حُكْمِهِ أَحَداً﴾.
4358
معناه: ويقولون لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين. هذا حكاية عن قول أهل الكتاب، فرد الله [ تعالى] ذلك عليهم. وقال: [الله] لنبيّه [ ﷺ]
﴿ قُلِ [الله] أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ﴾ الآية.
قال: قتادة: وفي حرف ابن مسعود " [و] قالوا: ﴿وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ﴾. وقال مجاهد والضحاك: هو خبر من الله [ تعالى] عن مبلغ لبثهم في الكهف ولما قال: ﴿وازدادوا تِسْعاً﴾ قالوا سنين أو ليال أو غيرها فأنزل الله: ﴿قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ﴾ الآية.
وقيل: إن أهل الكتاب قالوا [على] عهد النبي [ ﷺ] : إن للفتية من لدن
4359
دخلوا الكهف إلى عصرنا هذا ثلاث مائة سنة وتسع سنين، فرد الله [ تعالى] عليهم وأعلم نبيّه أن قدر لبثهم في الكهف إلى أن بعثوا ثلاث مائة سنة وتسع.
ثم قال: تعالى لنبيّه [عليه السلام]. ﴿قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ﴾.
[أي] بعد أن بعثهم وقبض أرواحهم إلى يومهم هذا لا يعلم مقدار ذلك إلا الله.
ومن نوَّن " مائة " جعل " سنسن " بدلاً من " ثلاث " أو يكون عطف بيان على " ثلاث ". وقيل: هو نعت لمائة لأن مائة في معنى جمع.
وحكى بعض أهل اللغة أن العرب إذا نونت العدد أتت بعده بحمع يفسره، فيقولون: عندي ألفٌ دراهم [وثلاثمائة دراهم] وألف رجالاً، فيكون
4360
" سنين " على هذا القول تفسيراً.
ومن أضاف، أتى بالعدد على أصله. لأنا إذا قلنا عندي مائة درهم فمعناه مائة من الدراهم. فالجمع هو الأصل فأتى به في هذه القراءة على الأصل /.
[و] قوله: ﴿الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ﴾.
أي: أعلم بلبثهم من المختلفين في ذلك. وقيل: أعلم أعلم بمعنى عالم.
وقوله ﴿وازدادوا تِسْعاً﴾.
أي: تسع سنسن. ولا يحسن أن يكون تسع ساعات ولا تسع ليال، لأن العدد إذا فسر في صدر الكلام [جر] آخره [على] ذلك التفسير. تقول عندي مائة درهم وخمسة. فتكون " الخمسة " دراهم أيضاً، لدلالة ما تقدم من التفسير على ذلك.
ثم قال: ﴿لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض﴾.
4361
أي: له علم ذلك وملكه لا يشاركه فيه أحد.
ثم قال: ﴿أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ﴾.
أي: ما أبصر الله [جلت عظمته] واسمعه لا يخفى عليه شيء ﴿مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ﴾ أي ليس لخلقه دون ربهم ولي يلي تدبيرهم ولا ينقذهم من عذاب الله [سبحانه] إذا جاءهم.
﴿[وَ] لاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً﴾.
أي: ليس يشرك الله [ تعالى] في تدبيره لعباده أحداً ولا يظهر على غيبه أحداً.
وقيل معناه: لا يجوز أن يحكم حاكم إلا بما حكم الله [ تعالى] أو بما دل عليه حكمه، وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه فيكون لله [سبحانه] شريكاً في حكمه.
4362
فأما من قرأه بالتاء والجزم، فمعناه: لا تنسبن أحداً إلى أنه يعلم الغيب ويلي تدبير الخلق.
قوله: ﴿واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ﴾.
المعنى: واتبع يا محمد ما أنزل إليك من كتاب [ربك] والزم تلاوته والعمل بما فيه ﴿لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ أي: لا مغير لما وعد بكلماته التي أنزلها عليك.
ثم قال: ﴿وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾.
أي وإن لم تفعل ما أمرت به من الاتباع للكتاب ولزوم التلاوة فلن تجد من دونه ملتحداً. قال: مجاهد [" ملتحداً "] ملجأً. وقيل معناه: موئلاً. وقيل:
معدلاً والمعنى واحد. وهو مفتعل من اللحد. يقال: لحدت إلى كذا أي ملت إليه. ولذلك قيل لِلَّحد لَحْد لأ [نه] في ناحية القبر وليس هو الشق الذي في وسطه. ومنه الالحاد في الدين لأنه ميل عن الحق فيه.
قال: ﴿واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي﴾.
والمعنى أن الله يقول لنبيّه عليه السلام: احبس نفسك يا محمد في أعمال الطاعت ﴿مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي﴾ بالذكر والحمد والتضرع يريدون بذلك وجه الله.
﴿وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾.
أي: لا تصرفهما عنهم إلى غيرهم من الكفار. وقال: ابن المسيب: هم أهل الصلاة المكتوبة، ومثله عن مجاهد.
4364
وروي أن ذلك نزل في الذين [كان] النبي ﷺ يقرئهم القرآن أُمّر أَن يصبر نفسه ليقرئهم.
وروي أنه أمر للنبي عليه السلام أمر أن يقرئ الناس القرآن.
[و] هذه الآية نزلت في جماعة من عظماء المشركين أتوا النبي عليه السلام وقالوا له: باعد عنك هؤلاء الذين رائحتهم رائحة الظأن وهم موال وليسوا بأشراف، لنجالسك ونفهم عنك، يعنون بذلك خباباً وصهيباً وعماراً وبلالاً ومن أشبههم فأمر [هـ] الله [ تعالى] [ ألا] يفعل ذلك وأن يقبل عليهم ولا يلتفت إلى غير [هم] من المشركين.
فهو / قوله ﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ﴾ يعني المشركين الذين أمروه
4365
أن يبعد عنهم هؤلاء المؤمنين.
وقيل: عني بذلك عيينة بن حصن والأقرع بن حابس. " ولما نزل ذلك على النبي عليه السلام وهو في بيته التمسهم فوجد قوماً يذكرون الله [ تعالى] ثائري الرؤوس والجلود وفي ثوب واحد فلما رآهم قال: " الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم " ".
وفي ذلك نزل ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: ٥٢]. وذلك أن النبي عليه السلام همّ بابعادهم طمعاً أن يؤمن به عظماء قريش فنهاه الله [ تعالى] عن ذلك.
وقيل [معنى] ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي﴾: يعني صلاة الصبح والصلاة
4366
بالعشي. وقيل: هم الذين يقرءون القرآن.
ثو قال: تعالى: ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا﴾.
فمعنى تريد زينة الحياة الدنيا أي تريد مجالسة الأشراف ذوي الأموال، وهم كفار، وتترك مجالس المؤمنين الفقراء. وروي أنهم كانوا لا يلبسون الأثياب الصوف من الفقر.
وقال: مجاهد: ﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ أي ضياعاً. وقيل معناه: ندامة. وقيل هلاكاً. وقال: ابن زيد معناه: مخالفة للحق. وهو من قولهم أفرط فلان في كذا، إذا أسرف فيه وجاوز قدره فيكون معناه وكان أمره سرفاً في كفره وافتخاره وتكبره.
قوله: ﴿وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ﴾.
المعنى: أن الله جل ذكره أمر نبيّه عليه السلام أن يقول لمن تقدم ذكره في قوله
4367
﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ﴾ [الكهف: ٢٨] الحق من ربكم أي الهدى والتوفيق والخذلان من عند الله يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن، ويضل من يشاء فيخذله فيكفر، وليس إلي من ذلك شيء، ولست بطارد لهواكم من وفقه الله [ تعالى] فآمن، فإن شئتم فاكفروا وإن شئتم فآمنوا. فإن كفرتم فقد أعد لكم [ربكم] ناراً أحاط [بهم] سرادقها.
وقوله ﴿فَلْيُؤْمِن﴾ و ﴿فَلْيَكْفُرْ﴾ لفظه لفظ الأمر ومعناه التهدد والوعيد. ومثله
﴿تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ﴾ [هود: ٦٥] وقوله: ﴿وَلِيَتَمَتَّعُواْ﴾ [العنكبوت: ٦٦] وشبهه كثير.
والأمر من الله [ تعالى] على أقسام: فمنه ما معناه الإيجاب والإلزام نحو
﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا﴾ [المائدة: ٦] الآية، وشبهه. فهذا لا بد من فعله ويأثم من تركه، ويكفر إن عاند في تركه.
ومنه ما معناه التأديب والإرشاد نحو قوله: ﴿وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ﴾ [النور: ٣٢] وقوله: ﴿وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢] وفيه اختلاف. فهذا لا
4368
يخرج المأمور بتركه إلى إثم. وإن تأدب به وعمله فقد أحسن، إذ قد اتبع ما ندبه الله [ تعالى] إليه.
ومنه ما معناه الاباحة [والاطلاق نحو قوله: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾ [المائدة: ٢] وقوله:] ﴿فانتشروا فِي الأرض﴾ [الجمعة: ١٠] ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾ [البقرة: ٢٢٢] فهذا إن شاء [فعله، وإن شاء] لم يفعله، ولا يشكر على فعله، ولا يندم على تركه.
ومنه / ما معناه الحتم والتكوين والإحداث نحو قوله: ﴿كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] وقوله: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧ - يس: ٨٢] فهذا تكوين وإحداث. ويوجد المأمور فيه مع الأمر ولا يتقدم ولا يتأخر.
وكل أوامر النبي [ ﷺ] على هذه الأقسام تأتي إلا التكوين والإحداث فليس
4369
يكون إلا لله تعالى، غير أنه قد يكون ذلك على أيدي أنبيائه دلالة على صدقهم. كقول نبينا ﷺ لشجرة دعاها: " أقبلي " فأقبلت تجري عروقها وأغصانها حتى وقفت بين يديه، ثم قال: لها: " ارجعي " فرجعت إلى مكانها، وشبهه كثير. وهذه الأوامر إنما يميز الواجب منها [من غيره] بالبراهين والدلائل والتوقيف لا غير.
وقوله: ﴿أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾.
قال: اين زيد: هو حائط من نار يحيط بهم كسرادق الفسطاط، وقاله ابن عباس. وقال: معمر: هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة وهو الذي قال: الله: [ تعالى] ﴿ انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ﴾ [المرسلات: ٣٠].
وقيل هو البحر المحيط الذي في الدنيا، أي: أحاط بهم سرادق الدنيا أي: بحرها المحيط.
وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " البحر جهنم وتلا هذه الآية. وقال: لا
4370
أدخله أبداً وما دمت حياً، ولا تصيبني منه قطرة "
فيكون معناها أحاط بهم أي عمهم.
وروى [عنه] أبو سعيد الخدري أنه قال: " سرادق النار أربع جدر، كتف كل واحد منها مسيرة أربعين سنة ".
ثم قال: ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُواْ﴾.
أي إن يستغيثوا من العطش يغاثوا بماء كالمهل أي " كعكر الزيت. فإذا قربه من فمه سقطت فروة وجهه فيه " كذا رواه الخدري عن النبي عليه السلام.
وعن ابن مسعود: أن المهل هو كفضة وذهب أذيبا واختلطا. وقال: مجاهد:
4371
" كالمهل " كالقيح والدم الأسود إذا اختلطا. وقال: ابن عباس: المهل ماء غليظ مثل دُرَدَيّ الزيت.
وقال: الضحاك: المهل ماء جهنم أسود، وهي سوداء، وشجرها أسود وأهلها سود. وقال: ابن جبير: المهل الذي قد انتهى حرة. وقيل: المهل عكر القطران.
وعن النبي عليه السلام أنه قال: " المهل صديد أهل جهنم إذا دني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ولحم وجهه من حره ".
والمهل عند أهل اللغة: كل شيء أذبته من رصاص أو نحاس ونحوه.
ثم قال: ﴿يَشْوِي الوجوه﴾.
4372
وقال: ابن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقزم فيأكلون منها فاختلست جلودهم ووجوههم. فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرف جلود وجوههم. فيتضاعف عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل. فإذا أدنوه من أفواهه انشوى من حره لحوم / وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
وقوله: ﴿بِئْسَ الشراب﴾.
أي بئس الشراب هذا الذي يغاث به هؤلاء القوم.
وقوله: ﴿وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً﴾.
أي ساءت هذه النار التي أعدت لهؤلاء الظانين: ﴿مُرْتَفَقاً﴾ أي متكئاً. والمرتفق في كلام العرب المتكا. يقال: ارتفقت أي: اتكأت.. وقال: مجاهد " مرتفقاً " مجتمعاً " وهو مفتعل من الرفق.
4373
قوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ [مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً]﴾ إلى قوله: ﴿وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً﴾.
أي [إن] الذين صدقوا محمداً [ ﷺ] وما أتى به وعملوا بما جاءهم [به] لا نضيع ثواب من أحسن عملاً.
وخبر إن الأول قوله: ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ على تقدير من أحسن عملاً منهم. وحذفت " منهم " لأن الله قد أخبرنا أنه محبط عمل غير المؤمنين. وقيل التقدير: إنا لا نضيع أجرهم. وقيل: الخبر أولئك لهم جنات عدن.
وروي " أن أعرابياً سأل النبي ﷺ وهو واقف بعرفات على ناقته الصهباء عن
4374
قوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ﴾ الآية. فقال: النبي [ ﷺ] :" يا أعرابي: ما أنت منهم وما هم منك ببعيد. هؤلاء الأربعة الذين هم وقوف معي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. فاعلم قومك أن هذه الآية نزلت في هؤلاء الأبعة " ".
ولا تقف على ﴿عَمَلاً﴾ إن جعلت الخبر ﴿أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ وإن جعلت الخبر: ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ﴾ وقفت عليه.
ثم قال: تعالى: ﴿أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾.
أي جنات إقامة لا زوال منها. ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار﴾ أي من دونهم الأنهار. كما يقال: داري تحت دارك، أي دونها. وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ كعباً. فقال: [له]: إني سمعت الله [ تعالى] يذكر جنات عدن، فما عدن؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هو قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل. فقال: عمر: أما النبوة
4375
فقد جعلها [الله تعالى] في أهلها، وأما الصديق فوالله إني لأرجو أن [أكون] قد صدقت بالله [ تعالى] وبرسوله، وأما الحكم العدل فوالله إني لأرجو أن أكون ما فرقت في حكم أحداً، وأما الشهادة فأنّى لي بالشهادة؟ قال: الحسن فجمعهن الله [ تعالى] والله له ثلاثتهن. فجعله: صديقاً، حكماً عدلاً، شهيداً.
وقوله: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾.
أساور جمع [اسورة، وأسورة جمع] سِوار وسُوار يقال: بالضم والكسر. وحكى قطرب إسوار. وإن أساور جمع أسوار على حذف الياء لأن أصله أساوير على هذا. والمعروف أن إسوار واحد أساورة الفرس.
وقوله: ﴿وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ﴾.
قال: الكسائي: السندس جمع سندسة. وقال: واحد العبقري عبقرية وواحد
4376
الرفرف: رفرفة، وواحد الأرائك: / أريكة.
والسندس ما رقَّ من الديباج، والإستبرق ما ثخن منه وغلظ. والأرائك السور في الحجال، وقيل: هي الفرش في الحجال.
ثم قال: ﴿نِعْمَ الثواب﴾ أي نعم الثواب [في] جنات عدن وما وصف فيها لمن ذكر. ﴿وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً﴾ أي حسنت هذه الأرائك والجنات التي وصف الله [ تعالى] في هذه الآية ﴿مُرْتَفَقاً﴾ أي متكئاً.
قوله: ﴿واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ﴾ إلى قوله ﴿وَأَعَزُّ نَفَراً﴾.
4377
وروي عن [ابن] عباس: أنهما أخوان ورثا مالاً فصار لكل واحد أربعة آلاف دينار. فأعطى أحدهما نصيبه للفقراء والمساكين واكتسب الآخر بنصيبه الأجنة والعبيد، فاحتاج المتصدق فتعرض لأخيه ليصله. فقال: [له] أخوة: ما فعل مالك؟ قال: قدمته بين يدي. قال: [له]: لكني اشتريت بمالي لنفسي ولولدي ﴿وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً﴾ [الكهف: ٣٦] الآية.
وقيل: " كانا رجلين من بني إسرائيل اشتركا في تجترة فربحا ستة آلاف دينار. فاقتسماها وتفرقا. ثم اجتمعا فقال: أحدهما لصاحبه: ما فعلت؟ قال: نكحت امرأة أفضل نساء بني إسرائيل بألف دينار. فانطلق الآخر فأخرج ألفاً فقال: اللهم إن صاحبي نكح من يموت ويبلى بألف دينار. وأنا أخطب إليك امرأة من نساء الجنة بهذه الألف، وتصدق بها... القصة بطولها.
و [المعنى و] اضرب يا محمد لهؤلاء المشركين، الذين سألوك أن تطرد الذين
4378
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين أي بستانين من كرم ﴿وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ﴾ أي أظللنا البتانين بنخل حولهما. من قولهم حف القوم بفلان إذا حد قوابه.
وقيل: إن هذا مما سأل عنه اليهود مع قصة أهل الكهف وذي القرنين والروح، فأعلمنا الله [ تعالى] به وجعله مثلاً للكفار ولجميع المؤمنين.
وروي أن الرجلين هما أبناء فطر سويسِ ملك كان في بني إسرائيل توفي وترك ابنين أحدهما يسمى مليخا. وكان: وكان زاهداً في الدنيا وراغباً في الآخرة، فأنفق ماله في ذات الله [ تعالى] وكان الآخر يبني القصور، ويكسب الأجنة والعبيد، فزار الزاهد أخاه فوجد عليه حجاباً فلم يدخل إلا بعد إذن فسألأه عن ماله. فقال: أنفقته في ذات الله، وقدمته بين يدي لأقدم عليه. وجئتك زائراً. فقال: له الغني ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾ أي عبيداً. ثم كان من شأنهما ما قص الله علينا.
4379
وقوله ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً﴾.
أي جعلنا وسط هذين البستانين زرعاً ﴿كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا﴾ أي: أطعم ثمرها ﴿وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً﴾ أي: لم تنقص من الأكل شيئاً ﴿وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً﴾ أي: بين أشجارهما. وفجرنا: سيلنا.
وأجاز النحويون في غير القرآن: آتتا أكلهما.
وأجاز الفراء كلتا الجنتين آتى أكله، رده على معنى كل. وفي حرف عبد الله / " كلا الجنتين اتى أكله ".
ثم قال: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ﴾.
4380
أي: ذهب وفضة، قاله مجاهد وكذلك ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ [الكهف: ٤٢] وقال: قتادة: هو المال الكثير من أنواع شتى. وقال: ابن عمر [وابن عباس]، ثمر: مال.
وقال: مجاهد: كل ما في القرآن من " ثُمر " بالضم فهو المال، وما كان " من ثَمر " بالفتح " فهي من الثمار.
وقال ابن زيد: الثمر هنا الأصل، وكذلك ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ [الكهف: ٤٢] أي: بأصله.
وهو جمع ثمار، كحمار وحمر، وثمار جمع ثمرة، فأما من أسكن الميم فإنما
4381
أسكن استخفافاً. ومعناه كمعنى قراءة من ضم. فأما من فتح الميم والثاء، فإنه جعله جمع ثمرة كخشبة وخشب.
ثم قال: ﴿فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ﴾ الآية.
أي قال: صاحب الجنتين لصاحبه، الذي لا مال له، وهو يخاطبه ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾ أي: أعز عشيرة ورهطاً.
قوله: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ﴾ إلى قوله ﴿فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً﴾.
أي دخل هذا الذي له جنتان جنته، وهو كافر بالله [سبحانه] وبالبعث شاكاً كما في قيام الساعة، وذلك ظلمه لنفسه، فقال: ﴿مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً﴾ لما رأى جنته وحسن ما فيها من الثمار والأنهار شك في المعاد.
4382
فقال: ما أظن أن تبيد هذه الجنة أي لا تخرب ولا تفنى.
ثم قال: ﴿وَمَآ أَظُنُّ الساعة [قَائِمَةً]﴾ شك في قيام الساعة. ثم قال: غير موقن بالبعث: ﴿وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً﴾ يقول: إن كان ثَمَّ بعثٌ فلي عند ربي خير من جنتي. لأنه لم يعطني هذا في الدنيا إلا ولي عنده أفضل منهما في المعاد إن كان ثم معاد.
وتحقيق المعنى، ولئن رددت إلى ربي، على قول صاحبي وقد أعطاني هذا في الدنيا فهو يعطيني في الآخرة أفضل من ذلك. فدل هذا على أن صاحبه المؤمن أعلمه أن ثم بعث ومجازاة. ومثله ﴿أَيْنَ شُرَكَآئِيَ﴾ [النحل: ٢٧] فأضافهما إلى نفسه، والمعنى أين شركائي على قولكم.
ثم قال: تعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ﴾.
أي قال: له صاحبه المؤمن وهو يخاطبه ﴿أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ﴾ يعني خلق آدم أباك من تراب ﴿ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ أي: خلقك أنت من نطفة الرجل والمرأة.
﴿ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾ أي عدلك سوياً رجلاً لا امرأة، فكفرت به أن يعيدك خلقاً
4383
جديداً بعد موتك. [﴿لكنا هُوَ الله رَبِّي﴾ أي] لكن [أنا] أقول هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً.
وهذا يدل على أن صاحب المال كان مشركاً إذ نفى هذا المؤمن الإشراك عن نفسه.
ثم قال: ﴿ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله﴾ أي هلا إذ دخلت بستانك فأعجبك ما رأيت فيه قلت: ما شاء الله كان ولا قوة على ما نحاول من الطاعة إلآ بالله، قال: أبو عامر الباجي: من أكثر من قول ما شاء الله لم يصبه شيء إلا رضي به.
قال: أبو محمد [Bهـ]: وقوله المسلمين بأجمعهم ما شاء الله كان، وقبولهم لهذا القول واستمالتهم له بأدمعهم يدل / على أن ما حدث في الدنيا وما
4384
يحدث من خير وشر فبمشيئة الله [سبحانه]، وبقدرته [ تعالى] وإرادته [تعالى] [كان] خلافاً لقول المعتزلة أن ثم أشياء كثيرة حدثت بغير مشيئة الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل كل بمشيئته وارادته يفعل ما يشاء. كما قال ﴿إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ [الحج: ١٨] ولو حدث شيء بغير مشيئته وإرادته لكان مقهوراً مغلوباً، جل وتعالى عن ذلك.
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال:
" " ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة تحت العرش؟ قال: قلت: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: [لا] قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال: الله: " أسلم عبدي واستسلم " ".
ثم قال: [له]: ﴿إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً﴾ أي: في الدنيا {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ
4385
خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً [مِّنَ السمآء]} أي: عذاباً.
وواحد الحسبان حسبانة وهي المرامي، قال قتادة والضحاك وقال: ابن زيد الجسبان قضاء الله [ تعالى يقضيه].
والحسبان في اللغة الحساب كما قال: تعالى: ﴿الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ﴾ [الرحمن: ٥] أي: بحساب. وتقدير الآية على هذا: أن يرسل عليها عذاب حسبان ما كسبت يداك مثل ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
ثم قال: ﴿فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً﴾.
أي: فتصبح أرضاً ملساء لا شيء فيها من شجر ولا غرس، ﴿زَلَقاً﴾ لا ينبت في أرضها قدم لإملاسها ودروس ما كان ثابتاً فيها.
والصعيد وجه الأرض الذي لا نبات فيه قال: قتادة ﴿صَعِيداً زَلَقاً﴾ أي قد
4386
حصد ما فيها ولم يترك شيء. قال: ابن عباس: مثل الجرز.
ثم قال: ﴿أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً﴾.
أي غائراً. وهو مصدر وضع موضع اسم الفاعل كما قال: رجل عدل أي عادل. وهذا مما يبقى على لفظه في الواحد والاثنين والجماعة والمؤنث.
ومعنى غائر ذاهب في الأرض فلا يلحقه الرشاء.
ثم قال: ﴿فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً﴾.
أي: فلن تدرك الماء الذي كان في جنتك إذا غار.
قال: تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾.
المعنى: وأحاط الله [ تعالى] بثمره أي أحاط عذاب الله [ تعالى] بثمره.
4387
والثمر أنواع المال. ولو كان الثمر المأكول لوجب أن يكون لم يهلك من ماله إلا ثمر شجرة [و] ليس الأمر على ذلك. بل هلك كل ماله في الجنتين وهلكت الجنتان مع ذلك.
وقوله: ﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا﴾.
هذا مثل للنادم المتأسف على ما ذهب له أن يقلب كفيه ظهراً لبطن على ذهاب نفقته في جنته ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا﴾ أي حيطانها قائمة لا سقوف عليها. قد تهدمت سقوفها [و] بقيت حيطانها، فصارت الحيطان كأنها على السقوف إذ صارت السقوف تحت الحيطان.
وقال: مجاهد ﴿يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾ أي يصفق كفيه. أي يضرب كفاً على كف، وهذا يفعله صاحب المصيبة إذا نزلت به.
4388
﴿يَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً﴾.
هذا ندم منه على ما تقدم من شركه به لما عاين ذهاب ماله والانتقام منه في الدنيا. والمعنى ويقول إذا عاين عذاب الآخرة ذلك. لم يندم على الشرك في الدنيا، إذ لو ندم على شركه/ في الدنيا لكان مؤمناً.
قال: ﴿وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله﴾.
أي لم تكن له عشيرة ينصرونه من هلاك جنته. وقيل من العذاب، قاله مجاهد. وقال: قتادة: " فئة جنده.
﴿وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً﴾.
أي ما كان ممتنعاً من عذاب الله [ تعالى] إذا عذبه [سبحانه].
قال: تعالى: ﴿هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق﴾.
أي لم يكن ممتنعاً ﴿هُنَالِكَ﴾ ثم ابتدأ فقال: ﴿الولاية لِلَّهِ الحق﴾ فلا يوقف على " منتصراً " على هذا التقدير. ويجوز أن يكون ﴿هُنَالِكَ﴾ ظرفاً للولاية، فيحسن الوقف
4389
على " منتصراً ".
و" الولاية " بفتح الواو، في الدين مصدر للولي، من قوله ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ الله﴾ [الأعراف: ١٩٦] ومعناه يتولى المؤمنين [و] قال: الفراء والكسائي الولاية بفتح الواو يعني به النصرة، أي هنالك النصرة لله [ تعالى]. ودل على هذا قوله: ﴿وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً﴾.
والولاية بكسر الواو السلطان والقدرة. وهو مصدر وليت الشيء ولاية، فهو مصدر الوالي، هذا قول الكسائي والفراء. والمعنى ثم القدرة والنصرة والسلطان لله [ تعالى] وثم إشارة إلى يوم القيامة.
وأجاز أبو إسحاق " الحق " بالنصب على المصدر. أي أحق الحق. ولم
4390
يقرأ به أحد.
ثم قال: ﴿هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً﴾.
أي الله خير المثيبين في العاجل والآجل، ﴿وَخَيْرٌ عُقْباً﴾ أي عاقبة في الأجل إذا صار إليه المطيع له. والعقب العاقبة وهي العقبا وذلك ما يصير إليه الأمر.
قال: ﴿واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا﴾.
أي واضرب للمشركين يا محمد الذين رغبوا [في الدنيا] واختاروها على الآخرة فسألوك أن نطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه للدنيا.
﴿مَّثَلَ﴾ أي شبهاً.
﴿كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح﴾.
4391
أي كمطر أنزله الله من السماء ﴿فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً﴾ فمثل الدنيا كمثل هذا النبات الذي حسن استواؤه بهذا المطر ثم انقطع عنه فعاد هشيما. أي: يابساً فتاتاً ﴿تَذْرُوهُ الرياح﴾ لا فائدة فيه. وكذلك الحياة الدنيا، بينما الإنسان في غضارتها مغتبطاً إذ أتاه الموت فيبطل كل ما كان فيه.
وقيل: معنى المثل المستحسن من الدنيا المشتهى المستحلى من نعمها، كله [يبطل] ويفسد بالفناء والزوال والانقلاب من الحال المستحسنة [إلى الحال المستقبحة] كما انتقل النبات عن الخضرة والطراء إلى الجفاف والاسوداد والهلاك. فلا ينبغي لمن لطف نظره وصح تمييزه أن يعتد من الدنيا بما لا يبقى عليه ولا يحصل له نفعه.
ثم قال: ﴿وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً﴾.
أي قادراً لا يفوته شيء. ومعنى ﴿وَكَانَ الله﴾ فأتى بالخبر عن الماضي أنه على [معنى: أن] ما شاهدتموه من قوته ليس بحادث بل لم يزل على ذلك. هذا مذهب
4392
سيبويه. وقال: الحسن معناه: وكان مقتدراً عليه قبل كونه. وكذا الجواب عن كل ما أخبر الله [ تعالى] به عن نفسه بالماضي.
قوله: ﴿المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا﴾.
والمعنى المال والبنون الذي يفخر به عظماء قريش على الفقراء المؤمنين إذ سألوك يا محمد / أن تبعد الفقراء المؤمنين عن نفسك وتقرب الأغنياء زينة الحياة الدنيا دون الآخرة.
﴿والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً﴾ أي وما يعمل هؤلاء الفقراء من دعائهم ربهم [ تعالى] بالغداة والعشي يريدون وجهه.
﴿والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾.
أي ما يؤمل من عاقبه الدعاء إلى الله [ تعالى] هؤلاء الفقراء خير مما يؤمل هؤلاء الأغنياء المشركون من أموالهم وأولادهم.
4393
وقيل: عنى بهذه الآيات من قوله: ﴿واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ﴾ [الكهف: ٢٧] إلى هذا الموضع: عيينة والأقرع، سألا النبي [ ﷺ] أن يطرد الضعفاء المؤمنين عن نفسه مثل سلمان وصهيب وخباب.
وقال ابن عباس: ﴿والباقيات الصالحات﴾ الصلوات الخمس، وهو قول ابن جبير.
وقال: عثمان [بن عفان] رضي الله عنهـ[هي] سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، رواه عنه الحارث مولاه.
وقال: ابن عباس أيضاً: هي سبحان الله والحمد لله ولا إلأه إلا الله والله أكبر، وهو قول ابن المسيب وعطاء ومجاهد.
وزاد ابن المسيب فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكذلك قال: ابن عمر لما سئل عنها مثل قول ابن المسيب، وهو قول محمد بن كعب القرطبي، وهو قول ابن مسعود، وهو مروي عن النبي عليه السلام.
4394
وروي عن مجاهد أنه قال: هي التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير.
وروى أبو أيوب الأنصاري أن النبي عليه السلام قال: " عرج بي إلى السماء فرأيت إبراهيم فقال: يا جبريل من هذا معك قال: محمد، قال: فرحب بي وسهل. ثم قال: مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة. فقلت: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله ".
وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هن الباقيات الصالحات ".
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال: " استكثروا من الباقيات الصالحات، قليل وما هن يا رسول الله؟ قال: الملة. فيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله ".
وروى ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال: رسول الله ﷺ: " خذوا
4395
جنتكم، قالوا: يا رسول الله من عدو و [قد] حصر. [قال] لا، جنتكم من النار. قوله سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومنجيات من النار [هن] الباقيات الصالحات ".
وعن ابن عباس أنه قال: هي الأعمال الصالحات من الذكر وغيره. تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السماوات والأرض. وقال: ابن زيد: هي الأعمال الصالحات.
وعن ابن عباس أيضاً: هي الكلام الطيب.
قال: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً﴾.
أي: واذكر يا محمد يوم تسير الجبال، أي يوم تبس الجبال بساً فتجعلها هباءً منبثاً ﴿وَتَرَى الأرض بَارِزَةً﴾، أي: ظاهرة قد اجتنيت ثمارها وقلعت جبالها وهدم
بنيانها، قاله مجاهد / وقتادة. وروى أن ذلك في يوم النفخة الأولى.
وقيل المعنى: قد أبرزت من فيها من الموتى الذين كانوا في بطنها فصاروا على ظهرها. فيكون على هذا النسب: أي وترى الأرض ذات بروز.
ثم قال: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾.
أي: وجمعناهم إلى موقف الحساب فلم نترك منهم أحداً تحت الأرض. فهذا يدل على أن معنى ﴿وَتَرَى الأرض بَارِزَةً﴾ تبرز من في بطنها من الموتى على ظهرها.
وعن أم سلمة زوجة النبي ﷺ أنها قالت سمعت النبي ﷺ يقول: " يحشر الناس حفاة عراة كما بدؤوا، وقالت أم سلمة: يا سوءتاه يا رسول الله هل ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: شغل الناس، قالت: قلت: وما شغلهم يا رسول الله؟ قال: نشروا الصحف فيها متى قيل الدر ومتى قيل الخردل ".
قوله: ﴿وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً﴾ [٤٧] إلى قوله: (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) [٤٩].
أي وعرض الخلق صفاً أي ظاهرة ترى جماعتهم كما ترى كل واحد منهم، لا يسترهم شيء.
﴿لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾.
أي أحياء كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة، يحشرون حفاة عراة غرلاً. وغرل جمع أغرل وهو الأقلف. والمعنى يقال: لهم يوم القيامة إذا عرضوا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة.
ثم قال: [تعالى]: ﴿بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً﴾.
هذا خصوص للمنكرين البعث يقال: لهم بل زعمتم أن لن تبعثوا.
قال: [تعالى]: ﴿وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ﴾.
في هذا الكلام اختصار وحذف. والتقدير ووضع الكتاب فيه عمل [كل]
4398
امرئ أي وضع الكتاب في يد كل امرئ في يمينه أو في شماله.
﴿فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ﴾.
أي: ترى المشركين [بالله] خائفين وجلين مما فيه من أعمالهم السيئة ﴿وَيَقُولُونَ ياويلتنا﴾ أي قولون إذا قرءوا كتاب أعمالهم ورأوا ما كتب عليهم من كبائر ذنوبهم ومغائرها ﴿ياويلتنا﴾ دعوا بالويل لما أيقنوا بالعذاب.
وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ أنه قال: لكعب: ويحك يا كعب حدثنا من حديث يوم القيامة، فقال: نعم يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ، فلا يبقى أحد إلا وهو ينظر إلى عمله فيه. ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنشر حول العرش فذلك قوله: ﴿وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ لما رأوا ما رأوا ولم يقدروا أن ينكروا منها شيئاً.
قال: قتادة: اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء ولم يشتك أحد منهم ظلماً، فإياكم والمحقرات من الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه.
4399
وروى عن ابن عباس أن الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك. وقيل: الصغيرة ما دون الشرك والكبيرة الشرك.
وقوله: ﴿إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ أي إلاّ حفظها الكتاب وأثبتت فيه. وقال: أحصاها على معنى أحصاهما، وعلى معنى / أحصى كل واحد منهما. وقيل المعنى: لا يغادر صغيرة إلا أحصاها ولا كبيرة إلا أحصاها، لكن حذفت إحدى الجملتين لدلالة الأخرى عليها اختصاراً وإ [ي] جازاً.
ثم قال: ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً﴾.
أي: ما عملوا في الدنيا من عمل حاضراً في كتابهم مكتوباً مبيناً.
﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾.
أي: لا يجازي ربك يا محمد أحداً بغير ما هو أهله، أي لا يجازي بالإحسان
4400
إلا أهل الإحسان، ولا بالسيئات إلا أهل السيئة. وتحقيقه: لا يضع ربك العقوبة إلا في موضعها لأن الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه.
قال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن﴾.
أي: واذكر يا محمد إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ترك السجود حسداً لآدم.
وقوله: ﴿كَانَ مِنَ الجن﴾ أي: من الملائكة الذين يقال: لهم الجن. وقيل كان من خزان الجنة فنسب إليها.
وقيل: كان من الجن الذين استخفوا عن أعين الناس أي استتروا.
وقال: ابن عباس كان اسم إبليس قبل أن يركب المعصية عزازيل. وكان من الملائكة من سكان الأرض من أشد الملائكة عبادة واجتهاداً فدعاه الكبر إلى ترك السجود وكان من حي يسمون جنا.
وعنه أيضاً أنه قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال: لهم الجن
4401
خلقوا من نار السموم من بين الملائكة. وكان اسمه الحرث، وكان خازناً من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة من [نور] غير هذا الحي وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار السموم وهي لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت.
وقال: ابن المسيب: كان إبليس رئيس الملائكة، ملائكة سماء الدنيا.
وعن ابن عباس كان إبليس من خزان الجنة، وكان يدير أمر سماء الدنيا. وعنه كان إبليس من أشراف الملائكة و [أ] كرمهم قبيلة وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان السماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض. وكان فيما قضى الله تعالى أنه رأى أن له بذلك شرفاً وعظمة على أهل السماء فوقع في قلبه من ذلك كبر لا يعلمه إلا الله [ تعالى] فلما كان عند السجود، حين أمر أن يسجد لآدم [ ﷺ] استخرج الله تعالى كبره عند السجود فلعنه وأخره إلى يوم الدين.
وعن ابن عباس أنه قال: إن الملائكة قبيلة من الجن وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض فعصى، فسخط الله [ تعالى] عليه
4402
فمسخه شيطاناً رجيماً لعنه الله ممسوخاً. وقال: إذا كانت خطيئة الرجل في كِبْر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه. وكانت خطيئة آدم [ ﷺ] في معصية وخطيئة إبليس في كبر.
وقال: ابن عباس: لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود.
وقال: قتادة إنما سمي من الجن لأنه جن عن طاعة ربه. يريد أنه استتر عنها فلم يفعلها. وقال: الحسن: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وأنه لأصل للجن، كما أن آدم [ ﷺ] أصل للإنسان. وقال: ابن / جبير: كان من الجنانين الذين يعملون في الجنان فلذلك قال: ﴿[كَانَ] مِنَ الجن﴾.
فمن جعله ليس من الملائكة ينقض قوله قول الله [ تعالى] ﴿ وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ﴾ لم ير غير الملائكة.
وقال: من أجاز ذلك: إن معنى أن الله أمره مع الملائكة بالسجود فاستثني، فهو استثناء ليس من الأول.
4403
ثم قال: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾.
أي: فعدل عن أمر ربه وخرج عنه، والفسق العدول والخروج عن الاستقامة. وقال: قطرب معناه ففسق عن [رده] أمر ربه [ تعالى].
والمعنى عند الخليل وسيبويه أتاه الفسق لما أمر فعصى. وكان سبب فسقه الأمر بالسجود.
ثم قال: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾.
أي: فتوالون يا بني آدم من استكبر على أبيكم وأغواه حتى أخرده من الجنة فكان ذلك سبب خروجكم منها. وتتركون طاعة ربكم الذي أنعم عليكم وأسجد ملائكته لأبيكم آدم [ ﷺ]. وذرية إبليس هم الشياطين الذين يغوون بني آدم.
4404
ثم قال: ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾.
أي: بيس ما استبدل الظالمون من طاعة الله [ تعالى] طاعة ابليس.
قوله: ﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض﴾.
أي: ما أشهدت إبليس وذريته ﴿خَلْقَ السماوات والأرض﴾، أي ما أحضرتهم ذلك فاستعين بهم على خلقهما.
﴿وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾.
أي: ولا أحضرت بعضاً منهم خلق بعض فأستعين به على ذلك. بل هو منفرد بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير.
وقيل معنى: ﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض﴾: أي لم يكونوا موجودين إذ خلقهما.
ثم قال: ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً﴾.
أي: وما كنت متخذ من لا يهدي إلى الحق أعواناً وأنصاراً وهو من قولهم فلان يعضد [فلاناً] إذا نصره وأعانه وقواه.
وقرأ أبو جعفر وعاصم الجحدري: " ومن كنتَ " بفتح التاء على المخاطبة للنبي عليه السلام. أي لست يا محمد متخذاً المضلين أنصاراً.
وفي عضد ستة أوجه وعََضُد وعَضْد وعُضُد بضمتين وبه قرأ الحسن. وحكى هارون القارى " عَضِدٌ ". ويجوز عند أبي إسحاق عُضْداً على قراءة الحسن بسكون الأوسط. والسادس عُضْداً على لغة من قال: كِتْف في كتف.
قال: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ﴾ أي: نقول للمشركين نادوا الآلهة والأنداد التي عبدتموها، وجعلتموها شركاء لله ووعدتم أنفسكم بنصرتها لكم من عذاب الله.
4406
﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ﴾: أي: فاستغاثوا بها ولم تغثهم.
ثم قال: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً﴾.
أي جعلنا بين المشركين، وما كانوا يعبدون في الدنيا عداوة يوم القيامة، قاله الحسن.
وقال: ابن عباس معنى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً﴾ الموبق المهلك الذي أهلك بعضهم بعضاً. كأنه جعل فعلهم ذلك لهم مهلكاً. ف " بين " اسم على هذا القول لأظرف، وانتصابه انتصاب / المفعول بجعل.
قال: الضحاك: موبقاً هلاكاً. وقال: مجاهد: موبقاً واد في جهنم. وقال: عبد الله بن عمرو: يفرق يوم القيامة بين أهل الهدى والضلالة بواد عميق وهو الموبق. وقال: أبو عبيدة: موبقاً موعداً.
وأحسن الأقوال، قول من قال: الموبق المهلك والهلاك. لأن العرب تقول: وبقَ
4407
يَبِق: إذا هلك. [ومنه] قوله: ﴿[أَوْ يُو] بِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا﴾ [الشورى: ٣٤] أي: يهلكهن. فالمعنى وجعلنا تواصلهم في الدنيا مهلكاً لهم في الآخرة. وقد يسمى الوادي موبقاً لأنه يهلك فيه.
ف " بين " على هذا اسم لا ظرف، وانتصابه بجعلنا انتصاب المفعولات لا انتصاب الظروف، ومن جعله وادياً فهو ظرف، وكذلك على قول موبقاً عداوة وموعداً.
وروى أبان عن عكرمة أنه قال: [" موبقاً "] نهر في النار يسيل ناراً، على حافتيه حيات كالبغال الدهم، فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها، أعاذنا الله من النار.
قال: [تعالى]: ﴿وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا﴾.
أي عاين المجرمون النار يوم القيامة فأيقنوا بأنهم داخلوها. روى أبو سعيد
الخدري أن النبي ﷺ قال: " إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة ".
ثم قال: ﴿وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً﴾.
أي: [و] لم يجدوا عن النار معدلاً إلى غيرها.
قال: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾.
أي: ولقد مثلنا في هذا القرآن [للناس] من كل مثل فيه موعظة وحجة ليتعظوا ويتذكروا فينيبوا ويزدجروا عمّا هم فيه من الكفر ﴿وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾، أي خصومة لا ينيب لحق ولا ينزجر لموعظة.
[و] الإنسان هذا الكافر، دل عليه قوله ﴿ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق﴾ [الكهف: ٥٦]
وإنما قيل: ﴿وَكَانَ الإنسان﴾. لأن إبليس أيضاً قد جادل والجن تجادل. والمعنى: وكان الإنسان أكثر هذه الأشياء جدلاً.
قوله: ﴿وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى﴾.
المعنى: وما منع هؤلاء المشركين يا محمد عن الإيمان [بالله تعالى] إذ جاءهم البيان من عند الله [سبحانه] والاستغفار مما هم عليه من شركهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين.
أي: إلا طلب أن يأتيهم العذاب كما أتي الأولين عند امتناعهم من الإيمان. وطلبهم العذاب كما طلب هؤلاء المشركون العذاب في قولهم: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢].
ثم قال: ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً﴾.
من كسر القاف فمعناه: عيانا. ومن ضم فهو عند الفراء جمع " قبيل " أي يأتيهم متفرقاً صنفاً بعد صنف. وقال: أبو عبيدة: " قُبْلاً " بالضم مقابلة. وقال: مجاهد: قبلا، فجأة. وقال: ابن زيد: عيانا.
قال: [تعالى]: ﴿وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾.
أي: وما نرسل رسلنا إلا مبشرين أهل الإيمان بجزيل الثواب عند الله [ تعالى] ومنذرة أهل الكفر عظيم العقاب.
ثم قال: ﴿ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق﴾.
أي: يخاصم الكفار النبي ﷺ ويسألوا عن المسائل / يبتغون عجزه واستنقاصه ليزيلوا به حجته، وينكروا نبوته فيزيلون الحق. ومعنى ﴿لِيُدْحِضُواْ﴾ يزيلوا، وهو سؤالهم عن الروح وعن فتية الكهف وعن ذي القرنين وشبهه. فأعلم الله [ تعالى] نبيّه أنه لم يرسل رسله للجدال إنما أرسلهم مبشرين ومنذرين.
ثم قال: ﴿واتخذوا ءاياتي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً﴾.
أي: اتخذ الكافرون آيات الله [ تعالى] وحججه [سبحانه] سخرياً. والهزؤ السخرية كأنهم يسخرون به.
قال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾.
أي: أيُّ الناس أوضع للأشياء في غير موضعها ممن ذكره الله [ تعالى] آياته وحججه فدله على سبيل الرشاد، وأهداه إلى طريق النجاة، فأعرض عن ذلك
4412
ولم يقبله ﴿وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ أي ترك ما اكتسبت من الذنوب المهلكة له فلم يتب منها.
ثم قال: تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ﴾.
أي: إنا جازيناهم بإعراضهم عن الهدى وميلهم إلى الكفر [بأن] جعلنا على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوه ﴿وَفِيءَاذَانِهِمْ وَقْراً﴾ أي ثقلاً لئلا يسمعوه. فأعلم الله [ تعالى] نبيه [ ﷺ] أن هؤلاء بأعيانهم لن يؤمنوا.
ثم قال: لنبيّه عليه السلام ﴿وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى﴾ أي الاستقامة ﴿فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً﴾ أي: فلن يؤمنوا أبداً لأن الله [ تعالى] قد طبع على قلوبهم وآذانهم.
وقيل المعنى: فمن أظلم لنفسه ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عن قبولها
4413
﴿وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ أي: ترك كفره ومعاصيه لم يتب منها.
قال: ﴿وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة﴾.
أي: وربك يا محمد الساتر على ذنوب عباده بعفوه إذا تابوا منها ذو الرحمة بهم. ولو أخذ هؤلاء المعرضين عن آياته بما اكتسبوا من الذنوب بالعذاب في الدنيا لعجّل لهم ذلك. لكنه برحمته وعفوه لم يعجل لهم ذلك. وتركه إلى وقته، وهو الموعد المذكور.
﴿لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً﴾.
أي: لن يجدوا يعني هؤلاء المشركين من دون الموعد ملتحداً ملجئاً يلجؤون إليه من العذاب.
قوله: ﴿وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ﴾.
المعنى: وتلك القرى من عاد وثمود وأصحاب الأيكة وغيرهم أهلكنا أهلها
﴿لَمَّا ظَلَمُواْ﴾ أي: كفروا بالله [ تعالى] وآياته [سبحانه].
﴿وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً﴾.
أي: وجعلناه لوقت إهلاكهم أي لوقت هلاكهم موعداً، لا يتجاوزونه، أي أجلاً ووقتاً. فكذلك جعلنا لهؤلاء المشركين موعداً لإهلاكهم لا يتجاوزونه.
وتقدير الآية: أولئك أهل القرى أهلكناهم لما ظلموا، ثم حذف المضاف. مثل ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢]، وهنا الضمير في إهلاكهم على أصله، يعود على المحذوف وعمد للإشارة فقيل: تلك لما صارت للقرى.
أي: واذكر يا محمد إذ قال: موسى لفتاه يوشع بن نون [و] كان يلازم موسى ويخدمه. وهو ابن اخته، وهو يوشع بن نون ابن فزائ [ي] ل بن يوسف بن يعقوب.
4415
والمعنى أنه قال: ليوشع لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين، يعني اجتماع بحر فارس وبحر الروم [فبحر الروم] مما يلي المغرب، وبحر فارس مما يلي المشرق، قاله قتادة ومجاهد.
ومعنى ﴿أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً﴾ أي أو أسير زماناً ودهراً. وهو واحد جمعه أحقاب في أقل العدد وكثيره. وقد / يجوز أن يكون أحقاب جمع حقب وحقب جمع حقبة. [و] قال: الفراء: الحقب في لغة قيس سنة. وقال: عبد الله بن عمر: الحقب ثمانون سنة. وقال: مجاهد " سبعون خريفاً.
وعن ابن عباس ﴿أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً﴾ دهراً. وعن قتادة: زماناً. وقال: ابن زيد: الحقب الزمان وأصله في اللغة أنه وقت مبهم يقع للقليل والكثير كرهط وقوم
4416
وكان علة سيره إلى مجمع البحرين أنه واعد ثم الخضر يلقاه.
قال: ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾.
أي: فلما بلغ موسى [ ﷺ] وفتاه مجمع البحرين. قال: أبي بن كعب أفريقية.
وقوله ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾. أي: تركاه. وقال: مجاهد أضلاه وقيل: الناسي له يوشع وحده، ولكن أضيف النسيان إليهما كما قال:
﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢] وإنما يخرج من أحدهما من المالح دون العذب.
وقيل كان النسيان منهما جميعاً أما موسى [ ﷺ] فنسي أن يقدم إلى يوشع في أمر الحوت، وأما يوشع فنسي أن يخبر موسى [ ﷺ] بسرب الحوت. وكانا قد تزودا الحوت في سفرتهما فأضيف إليهما إذ هو زادهما جميعاً وإن كان حامله أحدهما.
ثم قال: ﴿فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً﴾.
أي: اتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكاً ومذهباً يرى. قال: ابن عباس بقي أثره كالحجر. وعنه أيضاً أنه قال: جاء فرأى أثر جناحيه في الطين حين وقع في الماء.
وعن ابن عباس أنه قال: جعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس حتى يصير صخرة فذلك اتخاذه في البحر سرباً. قال: ابن زيد: لما أحيى الله [ تعالى] الحوت مضى في البطحاء فاتخذ فيها طريقاً حتى وصل إلى الماء بعدما أكلا منه، وكان زادهما.
قوله: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا﴾ إلى قوله: ﴿مِن لَّدُنَّا عِلْماً﴾.
أي: فلما جاوزا مجمع البحرين، قال: موسى لفتاه: آتنا غذاءنا،
4418
﴿لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً﴾. أي: تعباً. وذلك أن موسى [ ﷺ] لما جاوز الصخرة التي عندها يطلب الخضر وذهب الحوت عندها ألقى الله [ تعالى] عليه الجوع ليذكر الحوت ليرجع [فليذهب] إلى مطلبه.
قال له فتاه وهو يوشع بن نون ابن أخت موسى من سبط يوسف بن يعقوب [ ﷺ] :﴿ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً﴾، أي اتخذ طريقاً يسيرة. قال: موسى " عجباً " أي أعجب عجباً.
وقيل هو من قول يوشع كله. أي اتخذ الحوت طريقه في البحر عجباً. فيكون عجباً مفعولاً ثانياً لاتخذ. ويجوز أن يكون مصدراً عمل فيه فعل دل عليه الكلام.
وقيل المعنى: واتخذ موسى سبيل الموت في البحر عجباً. قال: ابن أبي نجيح عجباً لموسى [ ﷺ] لهى هو أي عجب موسى من أثر الحوت في البحر. وكذلك
4419
قال: قتادة.
قال: ابن زيد: عجباً والله من حوت أكل منه دهراً ثم صار حياً حتى أثر يسيره في الماء طريقاً. قال: ابن عباس: عجب موسى من أثر الحوت إذ صار صخرة كلما مس.
فمن جعل العجب من موسى، وقوله ﴿واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر﴾ من قول يوشع، وقف على البحر. ومن جعله كله من قول يوشع أو جعل الاتخاذ لموسى [ ﷺ] لم يقف على البحر.
ثم قال: تعالى: ﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾.
أي قال: موسى لفتاه ﴿ذَلِكَ مَا / كُنَّا نَبْغِ﴾.
أي نسيانك للحوت هو الذي كنا نطلب. لأن موسى عليه السلام وعد أن يلقى الخضر في الوضع الذي نسي فيه الحوت.
4420
﴿فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾.
أي: رجعا على طريقهما [الذي] أتيا فيه يطلبان الموضع الذي انسرب فيه الحوت. والقصص الاتباع. أي يقصان الأثر قصصاً حتى انتهيا إلى أثر الحوت ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا﴾ أي وجدا خضراً.
وكان سبب سفر موسى لطلب الخضر فيما روى جماعة من المفسرين أنه سئل هل في الأرض أعلم منك؟ فقال: لا [و] حدثته نفسه بذلك. فكره له ذلك فأراد الله [ تعالى] أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه.
وقيل: إن موسى [ ﷺ] ركب البحر فأعجبه علمه، فقال: في نفسه: ما أجد في زماني أعلم مني. فرفع عصفور في منقاره نقطة من ماء البحر فأوحى الله [ تعالى] إليه ما علمك عند علم عبد من عابدي إلا كما حمل هذا العصفور من ماء هذا البحر في منقارة.
فقال: يا رب اجمع بيني وبين هذا العالم وسخره حتى أعلم علماً من علمه.
4421
فأوحى الله [ تعالى] إليه أنك تستدل عليه ببعض زادك. فمضى ومعه غلامه ومعهما خبزه وحوت وقد أكلا بعضه. فكان من قصتهما ما حكى الله [ تعالى] عنهما وعن الحوت.
وقيل: كان سبب ذلك أنه سأل الله [ تعالى] أن يدله على عالم يزداد من علمه. قاله ابن عباس: قال: سأل موسى [ ﷺ] ربه [ تعالى] : أي ربي، أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني فلا ينساني. قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: ربي فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن تصيبه كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى. قال: رب فهل في الأرض أجده؟ قال: نعم. قال: رب فمن هو؟ قال: الخضر. قال: زأين أطلبه؟ قال: [على] الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت. فخرج موسى [ ﷺ] يطلبه. حتى كان ما ذكر الله [ تعالى] وانتهى موسى [ ﷺ] إليه عند الصخرة فسلم كل واحد منهما على صاحبه فقال: له موسى: إني أريد أن تصحبني. قال: له الخضر: إنك لن
4422
تستطيع صحبتي. قال: له موسى: بلى. قال: له الخضر: فإن صحبتني ﴿فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾ [الكهف: ٦٩] فكان ما قصّ الله [ تعالى] علينا من أمر السفينة والغلام والجدار. ثم صار به الخضر في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحور وليس في مكان أكثر ماء منه. قال: ابن عباس: وبعث ربك الخطاف فجعل يستقي من ذلك الماء العظيم بمنقاره. فقال: الخضر [لموسى]: كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟ قال: ما أقل [ما] رزأ منه. قال: يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء. وكان موسى يحدث نفسه أنه ليس أحداً أعلم منه.
ومن رواية ابن جبير عن ابن عباس أيضاً: خطب موسى بني إسرائيل. فقال: ما أجد أعلم بالله وبأمره مني، فأمر أن يلقى الخضر. فلما اقتص موسى أثر الحوت انتهى إلى رجل راقد قد سجى عليه ثوبه، فسلم عليه موسى، فكشف الرجل عن وجهه الثوب / فرد عليه السلام. فقال: من أنت؟ فقال: موسى قال: صاحب بني
4423
إسرائيل؟ قال: نعم. قال: أو ما كان لك في بني إسرائيل شغل؟ قال: بلى، ولكن أمرت أن أتبعك وأصحبك ﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ [الكهف: ٦٧] كما قص الله علينا.
ويروى أن موسى قال: له: وما يدريك أني صاحب بني إسرائيل؟ قال: له: ادراني بكل الذي ادراك بي.
قال: قتادة: قيل لموسى إن آية لقيك إياه أن تنسى بعض متاعك. فخرج هو ويوشع بن نون فتزودا حوتاً مملوحاً. حتى إذا كانا حيث شاء الله، رد الله إلى الحوت روحه فسرب في البحر واتخذ الحوت طريقه في البحر سرباً.
وقال: قوم إن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل وإنما هو عبد من عبيد الله من غير بني إسرائيل. فأنكر ذلك أكثر الناس، وقالوا هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل. وقال: ابن جبير: كنا عند ابن عباس، فقيل له: أن نوفا قال: ليس صاحب الخضر موسى بني إسرائيل. وكان متكئاً فجلس، وقال: يا سعيد أنت سمعته؟ قال، قلت: نعم، أنا سمعته وهو يقول ذلك. فقال: ابن عباس: كذلك نوف. حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: " بينما موسى [ ﷺ] يخطب قومه ذات [يوم] إذ قال: ما أعلم في الأرض رجلاً أعلم مني، فأوحى الله [ تعالى]
4424
إليه: أن في الأرض رجلاً أعلم منك. قال: يا رب فدلني عليه. فقيل له: تزود حوتاً مالحاً فإنه حيث تفقد الحوت. فانطلق هو وفتاه حتى انتهيا إلى الصخرة. وانطلق موسى [ ﷺ] يطلبه وترك فتاه فاضطرب الحوت في الماء فجعل لا يلتئم عليه الماء فصار مثل الكوة. فقال: فتاه: إلى أن يجيء نبي الله فأخبره، قال: فنسي أن يخبر موسى بذلك. فلما جاوزا ﴿قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً﴾. قال: فلم يصبهما نصب حتى جاوزا ما أمرا به. قال: واذكر، يعني الفتى فقال: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت﴾ إلى قوله ﴿قَصَصاً﴾ فأراه مكان الحوت قال: ها هنا وصف لي. فذهب يلتمس فإذا هو بالخضر مسجى ثوباً " وذكر الحديث المتقدم.
4425
قوله ﴿قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾.
أي قال: موسى للخضر هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله رشداً إلى الحق ودليلاً على الهدى. قال: له الحضر: ﴿إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ أي إني أعلم بباطن علم علمنيه الله [ تعالى] ولا تعلم أنت إلا بالظاهر من الأمور فلا تصبر على ما ترى مني لأن أفعالي بغير دليل في رأي العين. قال: موسى: ﴿ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً﴾ [أي اصبر] على ما أرى منك وإن كان خلافاً لحكم الظاهر، ﴿وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً﴾ أي [و] أنتهي إلى ما تأمرني وإن كان مخالفاً لهواي.
وفعل موسى [ ﷺ] في هذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد ترك طلب العلم [و] الازدياد منه والرحلة فيه وإن كان قد / بلغ فيه مبلغه. ويدل على وجوب
التواضع لمن هو أعلم منه.
قال الخضر لموسى: ﴿فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾ أي: إن رأيت ما تنكر فلا تسئلني وتعجل علي بالسؤال حتى أبين لك وجهه وشأنه.
﴿فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا﴾.
أي: انطلق موسى والخضر يطلبان السفينة يركبانها فأصاباها فلما ركبا فيها خرق الخضر السفينة، فأنكر ذلك موسى وقال: ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾.
أي: شيئاً منكراً عظيماً.
ويروى أن موسى عليه السلام حين رآه يخرق السفينة التزمه، وذكره الصحبة، وناشده الله والصحبة فأكب الآخر عليها يخرقها. فلما خرقها ودخل الماء فيها جلس موسى مهموماً محزوناً وقال: ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا﴾ الآية.
وقال: قتادة ﴿إِمْراً﴾: عجباً. فأنكر عليه موسى ما رأى، وذلك أنه لم يعلم
4427
أنه نبي. وقيل قد علم أنه نبي ولكن نسي. قال: أبو عبيدة إمراً: داهية.
وقيل: سمي الخضر خضراً لأنه كلما صلى في مكان اخضرّ ما حوله.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " إنما سمي الخضر خضراً لأنه جلس على ربوة بيضاء فاهتزت خضراً " فقال: له الخضر: ﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ لأنك ترى ما لا تعلم. قال: له موسى: ﴿لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً﴾. قال: أبي بن كعب: لم ينسَ موسى ولكنها من معار [ي] ض الكلام. وقال: ابن عباس: لم ينسَ، وإنما ترك العهد. فالمعنى لا تؤاخذني بتركي عهدي. ألا أسألك عن شيء حتى تحدث لي منه ذكراً.
وقيل: إنه نسي فاعتذر ولم ينس في الثانية ولم يعتذر، وعن النبي عليه السلام أنه قال "
4428
كانت الأولى من موسى نسياناً "، ومعنى " لا ترهقني " لا تكلفني عسراً. وقيل لا تغشني عسراً.
وقيل: المعنى عاملني باليسر لا بالعسر. وقيل معناها لا تضيق علي.
قوله: ﴿فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ﴾.
المعنى: فانطلق موسى والخضر يسيران حتى لقيا غلاماً فقتله] الخضر. قال: ابن جبير: وجد الخضر غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً ظريفاً فأضجعه ثم ذبحه بالسكين. قيل كان اسمه جيسور. قال: له موسى
4429
﴿أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ أي بريئة. وقيل معناها ليس لها إليك ذنب، قاله اليزيدي. وعن ابن عمر: " زاكية " صالحة. وعنه " زاكية " لا ذنب لها.
فأما من قرأ " زكية " بغير ألف، فقال: ابن عباس وقتادة: الزكية التائبة. وقال: ابن جبير: الزكية التي لم تبلغ الخطايا. وقال قطرب: زكية مطهرة. وقال:
4430
الكسائي والفراء هما لغتان. ومعناه عندهما لم يجن جناية.
وقوله: ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾.
أي: بغير قصاص نفس قتلت فيلزمها القصاص قوداً بها.
وهذا المعنى يدل على أن الذي قتله الخضر لم يكن طفلاً بل كان بالغاً. لأن القود بالنفس لا يكون إلا بعد البلوغ.
ثم قال: ﴿لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً﴾
أي: لقد فعلت فعلاً منكراً.
قال: بعض أهل اللغة " الإمر: أشد من " النكر " لأن الأمر إنما / يستعمل في الشيء العظيم. فلما كان هلاك جماعة في خرق السفينة قال: " امراً " وقال: هنا " نكراً " لأنه قتل واحداً وقتل الجماعة أعظم من قتل واحد. وروي عن قتادة أنه قال: النكر أشد من الأمر.
4431
وقيل معناه: لقد جئت شيئاً أنكر من الأول.
قال له الخضر ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾.
أي: لا تقدر أن تصبر على ما ترى من أحوالي وأفعالي التي لم تحط بها خبراً. وإنما كرر المخاطبة الخضر في المرة الثانية لموسى [ ﷺ] لأن الإنسان إذا أذنب ثانية كان اللوم عليه آكد من ذنبه أولاً. فلما أنكر موسى على الخضر خرقه السفينة وبخه الخضر توبيخاً لطيفاً إذ لم يتقدم لموسى ذنب. فقال: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ فاعتذر موسى بأنه نسي الشرط الذي اش [ت] رط عليه الخضر. فلما عاد موسى إلى الإنكار في قتل الغلام زاد الخضر في توبيخه لعوده لبعض ما اشترط عليه فكرر الخطاب ليكون أبلغ في التوبيخ فقال: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ فكرر المخاطبة في الثاني لعودة العلة. فقال: له موسى: ﴿إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي﴾ أي: تتابعني أي فارقني ﴿قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً﴾ أي: بلغت العذر في شأني.
4432
وروى أبي بن كعب أن النبي عليه السلام قال: " يرحمنا الله وإياه يعني موسى، لو صبر لرأى عجباً "، وقال: لما قرأ هذه الآية: " استحيى نبي الله موسى ".
قال: تعالى: ﴿فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا﴾.
أي: فانطلق موسى والخضر يسيران حتى إذا جاءا أهل قرية ﴿استطعمآ أَهْلَهَا﴾ أي: سألاهما أن يطعموهما من الطعام. فابوا، فاستضافوهم فأبوا.
يقال: ضيفت الرجل إذا انزلته منزلة الاضياف. وأضفته أنزلته. وضيفته نزلت عليه، مشتق من ضاف السهم أي مال.
وضافت الشمس إذا مالت للغروب. ومنه قولهم هو مخفوض بالاضافة
4433
[أي] بإضافة الاسم إليه.
ثم قال: ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ﴾ أي يسقط بسرعة.
وقرأ يحيى بن يعمر " يريد أن ينقاص " بالصاد غير معجمة، أي بنقطع من أصله وينصدع.
وقيل معناه: ينشق طولاً. يقال: انقاصت سنة إذا انشقت
ويقال: إن القرية انطاكية.
قال: الكسائي: إرادة الجدار هنا ميله، لأن الأموات لا تريد. كما قال: النبي عليه السلام لا " ترى نارهما " أي لا يكون بموضع لو وقف فيه إنسان لرأى النار الآخر.
4434
إن النار لا ترى منه. وقوله: ﴿وتراهم يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٨].
وقال: أبو عبيدة: ليس للحائط إرادة ولكن إذا كان في هذه الحال فهو من دنيه فهو إرادته.
وقيل: إنما كلم القوم بما كانوا يعقلون ويستعملون فلما دنا الحائط من الانقضاض جاز أن يقول ﴿يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ﴾ وقد قال: الشاعر:
يُرِيدُ الرمحُ صدرَ أبي براء ويَرْغَبُ عن دِمَاءِ بَنِي تميم
وقال: آخر:
يَشْكُو إلي جملي طول السَّرى صبراً جميلى فكلانا مبتلى /
وقال: آخر وهو عنترة:
4435
فازوزَّ مِنْ وقع القَنَا بَلْبَانه وشكا إلي بَعَبْرة وتَحَمْحُم.
وقوله: ﴿فَأَقَامَهُ﴾
قال: ابن عباس هدمه ثم قعد يبنيه. وعنه أنه قال: رفع الجدار بيده فاستقام. وقال: مرة أخرى: مسحه بيده فاستقام.
قال: له موسى ﴿لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ أي لو شئت لم تقم لهؤلاء القوم جدارهم حتى يعطوك على إقامته أجراً. قيل عني موسى بالأجر هنا الضيافة، أي حتى يبرونا.
و ﴿لَتَّخَذْتَ﴾ على قراءة الجماعة هو افتعلت من " اتخذ " لكن أدغمت التاء التي هي فاء الفعل الأصلية لالافتعال. ويجوز أن يكون افتعلت من " أخذ " وأصله " أيتخذ ". ثم أبدل من الياء التي هي عوض من الهمزة التي هي فاء الفعل فأدغمت في تاء الافتعال.
4436
فأما قراءة أبي عمرو وابن كثير فإنه من: تخذ يتخذ مثل شرب يشرب.
قال: ابن سيرين: القرية التي أتوها " الآيلة " وهي أبعد الأرض من السماء.
قوله: ﴿قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾.
أي قال: الخضر لموسى في الثالثة: هذا الذي قلت لي، يعني قول موسى له: ﴿لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ [الكهف: ٧٧] أي سأخبرك بما تؤول إليه عاقبة أفعالي التي فعلتها ولم تقدر أنت على ترك المسألة.
قال: له الخضر: أما السفينة وما فعلت فيها فإنها كانت لقوم مساكين يعملون في البحر، فاردت أن أخرقها لئلا يمضوا بها فيأخذها منهم الملك الذي أمامهم غصباً. " وراء " هنا بمعنى أمام كما قال: ﴿مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ [الجاثية: ١٠] أي من أمامهم. فإذا خلفوه أصلحوها بزفت فاستمتعوا بها، فذلك أصلح لهم من تركها سالمة.
وقيل معنى: " وراءهم " خلفهم على بابها. والمعنى أن الملك المغتصب خلفهم إذا رجعوا ليأخذ سفينتهم.
4437
وقيل: اسم الملك المغتصب هدد بن بدد. وقيل: اسمه الجلندي بن المستكبر ابن الأرقم بن الأزد ملك غسان. كان يغصب الناس على سفنهم [إن] كانت صحيحة لا عيب فيها، فلما خرقها الخضر وعابها لم يعرض لها الملك الغاصب، ولم يضر بمن [كان] فيها بل نفع الخضر بفعله أصحابها إذ لو وصلوا بالسفينة صحيحة لغصبهم الملك إياها.
وقيل: إن السفينة إنما كانت في أيديهم يعملون فيها بالأجرة ولذلك سماهم مساكين.
وقيل: قوله ﴿فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ﴾ [لا] يدل على ملكها لهم كما أن قول النبي ﷺ " من باع عبداً له وله مال فماله للبائع " لا يدل على أن العبد يملك.
4438
وكذلك قوله تعالى: ﴿لَبَيْتُ العنكبوت﴾ [العنكبوت: ٤١] لا يدل على أنها تملك.
قال: ﴿وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ [أي فكان كافراً وأبواه مؤمنين] وكذلك هي في حرف أبي " وكان كافراً ". وقرأ ابن عباس " فكان أبواه مؤمنين وكان كافراً ". وروى أبي بن كعب عن النبي ﷺ أنه قال: " الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً ".
وقيل: كان فعالاً [للقبيح] مؤذياً للجيران فكان أبواه / يحلفان عنه أنه فعل، فيكذبان في ذلك.
وقيل كان الغلام فاجراً لصاً قطاعاً للطريق، وكان أبواه في عدد وشرف، فإذا أحدث الحدث نجا إليهما فمنعا منه. ويحلفان بالله ما فعل ويظنان أنه صادق في إنكاره،
4439
وقوله ما فعلت، فيحلفان كاذبان تصديقاً لولدهما.
ثم قال: ﴿فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا﴾.
قيل هذا من كلام الخضر. وقيل هو من قول الله جل ذكره، فإذا كان من قول الله [ تعالى] فمعناه فعلمنا، كما يقال: طننت بمعنى علمت.
وقيل معناها فكرهنا، فالخشية من الله [سبحانه] الكراهة، ومن الادميين الخوف.
ومعنى ﴿يُرْهِقَهُمَا﴾ أيك يلحقهما، أي: يحملهما على الرهق وهو الجهل. وقيل معناه يكلفهما.
4440
وقيل يغشيهما ﴿طُغْيَاناً﴾ وهو الاستكبار على الله [ تعالى] ﴿ وَكُفْراً﴾ أي: وكفراً بالله [سبحانه].
ومن جعل ﴿فَخَشِينَآ﴾ من قول الله [ تعالى] كان " فأردنا " من قوله أيضاً، أي فأراد الله. ومن جعل ﴿فَخَشِينَآ﴾ من قول الخضر فإن " فأردنا " من قوله أيضاً.
ومعنى ﴿خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً﴾ اسلاماً. وقيل صلاحاً. قال: ابن جبير بدلاً منه جارية وقال: ابن عباس: بدلاً منه جارية] فولدت نبياً هدى الله به أمة من الأمم. وروي عنه أنه كان من ذريتهما سبعون نبياً.
وقال: ابن جريج: كانت أم الصبي يومئذٍ حبلى فبدل الله [ تعالى] لهما منه إن
4441
ولدت غلاماً مسلماً.
قال: قتادة: فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ول بقي كان فيه هلاكهما. فليرض امرؤ بقضاء الله [ تعالى] فإن قضاء الله [سبحانه] للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب.
وقوله: ﴿وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾.
أي: أقرب رحمة بوالديه وأبرّ بهما من المقتول، قال قتادة. وعنه أيضاً ﴿وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾ أقرب خيراً.
وقال: ابن جريج: أقرب أن يرحمه أبواه منهما للمقتول. وقيل: المعنى أقرب أن يرحما به. وقيل: الزكاة هنا الدين والرحم المودة.
4442
والرحم مصدر رحم رحماً ورحمة. وقيل هو من الرحم والقرابة.
قوله: ﴿وَأَمَّا الجدار﴾.
هذه حكاية من قول الخضر لموسى أن الجدار الذي أقمته كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما. قال: ابن عباس ومجاهد وابن جبير: كان صحفاً مدفونة فيها علم.
[و] قال: جعفر بن محمد: كان ذلك سطرين لم يتم الثالث. وهما:
عجب للموقن بالرزق كيف يتعب.
و [عجب] للموقن بالحساب كيف يغفل.
و [عجب] للموقن بالموت كيف يفرح.
﴿وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٧] فحفظا بصلاح أبيهما السابع.
وقال: الحسن كان الكنز لوحاً من ذهب مكتوب فيه: " بسم الله الرحمن
4443
الرحيم ": عجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله محمد رسول الله ".
روى ابن وهب: أن الكنز كان لوحاً من ذهب مصمت مكتوب فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم " عجب لمن عرف الموت ثم ضحك، عجب لمن أيقن بالقدر ثم نصب، عجب لمن أيقن / بالموت ثم أمن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله ".
وقيل كان في جنب منه: عجب لمن أيقن بالقدر ثم نصب، عجب لمن أيقن بالنار ثم ضحك، وعجب لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. أنا الله الذي لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي. وفي الشق الآخر: أنا الله الذي لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه.
وقال: عكرمة: كان الكنز مالاً مدفوناً. وكذلك روي عن قتادة، وهو الذي يعطي ظاهر الخطاب لأنه لو كان غير مال لبين بالإضافة فكان يقال: كنز علم ونحوه.
4444
ثم قال: تعالى حكاية عن قول الخضر لموسى: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾: أي باليتيمين. فهذا عذر الخضر في إقامته للجدار. ونصب " رحمة " على المصدر على أنه مفعول من أجله.
ثم قال: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾.
أي: ما فعلت جميع ما رأيت يا موسى من عند نفسي إنما فعلته عن أمر الله. وهذا يدل على أنه وحي أتاه في ذلك من عند الله.
ثم قال: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾.
أي: هذا الذي قلت هو الذي يؤول إليه فعلي الذي أنكرته ولم تقدر على الصبر لما رأيته يا موسى. وهذه الأخبار كلها تأديب للنبي ﷺ وإعلام له بما جرى لمن كان قبله.
أي: ويسألك يا محمد المشركون عن ذي القرنين وقصته ﴿قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً﴾ أي سأقص عليكم منه خبراً. وهذا مما سألت اليهود قريشاً أن يسألوا عنه النبي ﷺ. وقيل إن اليهود بأنفسهم سألوا النبي ﷺ عن ذلك.
4445
قال: مجاهد: ملك الأرض أربعة مسلمان وكافران. أما المسلمان فسليمان بن داود [عليهما السلام] وذو القرنين. وأما الكافران فنمرود وبختنصر.
وروى عقبة بن عامر أنه خرج من عند النبي ﷺ، قال: فلقيني قوم من اليهود فقالوا: نريد أن نسأل رسول الله [ ﷺ] فاستأذن لنا عليه، قال: فدخلت فأعلمته. فقال: مالي ولهم؟ مالي علم إلا ما علمني الله. ثم قال: [لي]: أسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى. قال: فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه. ثم قال: أدخلهم عليّ وما رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه. فقال: إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوباً. وإن شئتم أخبرتكم، فقالوا: بل أخبرنا. قال: جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم: كان شاباً من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية فلما، فرغ جاء ملك فعلا به في السماء، فقال: ما ترى؟ قال: أرى مدينتي ومدائن. ثم علا به، فقال: ما ترى؟ قال: أرى مدينتي، ثم علا به فقال: ما
4446
ترى؟ قال: أرى الأرض. قال: فهو اليم المحيط بالدنيا إن الله [تعالى] بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم. فأتى به السد [ين] وهما جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء. ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به / إلى أمة أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج. ثم مضى به حتى بلغ إلى أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب. ثم مضى به حتى قطع هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم، وإنما سمى ذو القرنين لأنه ضرب على قرنه فهلك ثم أحيي فضرب على القرن الآخر فهلك.
قال: علي بن أبي طالب [Bهـ]: لم يكن نبياً ولا ملكاً، ولكن كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه. ونصح لله [ تعالى] فنصحه، ضرب على قرنه الأيسر فمات. فبعثه الله، ثم ضرب على قرنه الأيمن فمات فأحياه الله، وفيكم مثله.
وقال: وهب بن منبه كان ذو القرنين ملكاً، قيل له: لِمَ سمي ذا القرنين؟
4447
فقال: اختلف فيه أهل الكتاب. فقال: بعضهم ملك الروم وفارس. وقال: بعضهم كان في رأسه شبه القرنين.
وقال: بعضهم إنما سمي بذلك لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس. وقيل كانت له ظفرتان. وقيل لأنه بلغ قطري الأرض المشرق والمغرب، وقيل سمي بذلك لأنه بلغ قرني الشمس.
وروى ابن وهب أن النبي ﷺ قال: " كان يعلق سلاحه بقرن الثريا، وكان له حمار يضع حافره منتهى بصره " وروي " أنه كان يربط ارسَان خيله بقرون الثريا ".
وقيل كان ذو القرنين يوناني من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرزية من ولد يونان بن يافت بن نوح: حكى ذلك محمد بن اسحاق عن أهل الأخبار من الأعاجم.
وقال: ابن هشام: اسمه الاسكندر. وهو الذي بنى الاسكندرية فنسبت إلى
4448
اسمه.
وسمع عمر بن الخطاب رجلاً يقول: يا ذا القرنين. فقال: عمر اللهم عفواً، أما رضيتم أن تتسموا بالنبيين، حتى تسميتهم بالملائكة.
وذكر ابن وهب إنما سمي بذي القرنين لأنه كان له قرنان صغيران تواريهما العمامة. وقال: إن الذي كان معه فتاه ليس بموسى الذي كلم الله، ولكن كان أعلم من على وجه الأرض إلا الملك الذي لقي فدل قوله أن الذي لقي كان ملكاً ولم يكن الخضر.
قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾.
أي: علماً يتسبب به، قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد والضحاك فمعناه علماً يصل به إلى المسير في أقطار الأرض.
وروي أنه كان له خليل من الملائكة فقال: له: صف لي عبادة الملائكة. فقال: منهم ساجد لم يرفع رأسه منذ خلق. ومنهم قائم شاخص يدعو الله تعالى منذ خلق، لا
يعرف من على يمينه ولا من على شماله. ومنهم راكع لم يعرف رأسه منذ خلق يسبح الله ويحمده و [يمجده]، فقال: له ذو القرنين: لولا قصر عمري لعبدت الله هذه العبادة، فقال: له الملك: إن لله [ تعالى نهراً يقال: له نهر] الحيوان من شرب منه لم يمت حتى ينفخ في الصور النفخة الأولى فيموت مع الملائكة. فخرج / يطلب نهر الحيوان حتى إذا وقع في الظلمة وكان الخضر على مقدمته فأصاب النهر ولم يصب [هـ] ذو القرنين.
قال: الله تعالى ذكره: ﴿فَأَتْبَعَ سَبَباً * حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس﴾ إلى قوله: ﴿مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً﴾.
من خفف " أَتْبَع " وقطع الألف جعله من: اتبع، إذا سار ولم يلحق المتبوع في خير أو شر، حكاه الأصمعي. ومن وصل الألف و [شدد] جعله من اتبعه،
4450
إذا لحقه. ومن الأول ﴿فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ﴾ [الشعراء: ٦٠].
وقيل: هما لغتان بمعنى، يقع بهما اللحاق وقد لا يقع، وهو الصواب إن شاء الله لقوله ﴿فَأَتْبَعَهُ الشيطان﴾ [الأعراف: ١٧٥] فلو لم يلحقه ما غوى، ولقوله ﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ [الصافات: ١٠] فهذا قد يلحقه وقد لا يلحقه.
ومعنى ﴿سَبَباً﴾ في هذا الموضع طريقاً ومنزلاً. قاله ابن عباس. وقال: مجاهد: منزلاً وطريقاً بين المشرق والمغرب. وقال: قتادة: اتبع منازل الأرض ومعالمها. وقال: الضحاك ﴿سَبَباً﴾ المنازل. وقال: ابن زيد: هذه الآن الطريق كما قال: فرعون ﴿لعلي أَبْلُغُ الأسباب﴾ [غافر: ٣٦] أي: الطرق إلى السموات.
4451
ثم قال: ﴿حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾.
قال: ابن عباس: في طين أسود حمأ، وقاله عطاء. وقال: مجاهد في طينة سوداء ثأط. وهي فَعلَة من قولهم: حمأت البير تحمى جمأة. وهي الطين المنتن المتغير اللون والطعم.
ومن قرأ " حامية " فمعناه حارة، ونظر رسول الله ﷺ إلى الشمس حين غابت فقال: " في نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله جل ذكره. لأحرقت ما هلى وجه الأرض ".
وقال أبو ذر: كنت رديف رسول الله ﷺ وهو على حمار، والشمس عند غروبها. فقال: " يا أبا ذر هل تدري أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: إنها
4452
تغرب في عين حامية ".
فهذا حجة لمن قرأها كذلك. ويجوز ان يكون بمعنى حمئة أي ذات حماة ولكن خففت الهمزة فأبدلوا منها ياء لانكسار ما قبلها.
وقال: أبو حاضر: سمعت ابن عباس يقول: كنت عند معاوية فقرأ: ﴿وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ فقلت: ما أقرأها إلا " حمئة " فقال: لعبد الله بن عمر: كيف تقرأها يا عبد الله بن عمر؟ فقال: كما قرأتها يا أمير المؤمنين. فقلت: في بيتي أنزل القرآن. فأرسل معاوية إلى كعب. فقال: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال: أما في العربية فأنتم أعلم بها، وأما أنا فأجد الشمس في التوراة تغرب في ماء وطين وأشار بيده إلى المغرب.
فقال: أبو حاضر: فقلت لابن عباس: لو كنت عندك لرفدتك بكلمة تزداد بها بصيرة في " حمئة " وقال: ابن عباس: ما هي؟ قلت: فيما يؤثر من قول تُبع ذكر فيه ذو القرنين:
بَلَغَ المشارق والمغارب يبتغي أسباب أمر من حَكِيم مُرشد
قال: عمر [و] نحن نتبع.
4453
فرأى مغارب الشمس عند غروبها في عين ذي خُلُبٍ وَتَأْطٍ حَرْمِدِ
فقال: ابن عباس ما الخُلب؟ فقلت: الطين بكلامهم. وقال: ما الثأط؟ قلت الحمأة، قال: [وما] الحُرْمَد؟ قلت: الأسود يقال: حمئت البير صارت فيها الحمأة. واحمأتها: ألقيت فيها الحماة وحماتها إذا أخرجت منها الحماة.
وأجاز القتبي أن تكون هذه العين في البحر، والشمس تغيب وراءها.
ثم قال: ﴿وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً﴾.
أي: عند العين، قيل يقال: لهم تاسك.
﴿قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ﴾، أي قال له أصحابه المؤمنون يا ذا القرنين إما
4454
أن تقتلهم وإما أن تستبقيهم.
وقيل المعنى إما أن تقتلهم إذ هم لم يدخلوا في الاقرار بتوحيد الله [ تعالى] وطاعته [جلت عظمته]، ﴿وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾، أي: تأسرهم فتعلمهم الهدى وتبصرهم الرشاد.
و" إما " في هذه للتخيير عند المبرد بمنزلة قوله: ﴿فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [المائدة: ٤٢] و " ان " في قوله ﴿إِمَّآ أَن﴾ في موضع نصب. وقيل: موضع رفع على معنى أما هو.
ثم قال: ﴿أَمَّا مَن ظَلَمَ﴾ أي: من كفر ولم يؤمن ﴿فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ أي: نقتله، قاله قتادة ﴿ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً﴾، أي: يرجع إلى ربه في الآخرة فيعذبه
4455
عذاباً نكراً من عذاب الدنيا وهو عذاب جهنم.
قال: علي بن سليمان ﴿قُلْنَا ياذا القرنين﴾ معناه: قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين إما أن تعذب. ثم حذف القول، لأن ذا القرنين لم يصح أنه نبي فيخاطبه الله. ولأن بعده ﴿أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً﴾ وكيف يخاطب العبد ربه بلفظ الغيبة.
وهذا لا يلزم لأنه يجوز أن يكون خاطبه الله [ تعالى] على لسان نبي في وقته. فيكون تحقيق المعنى على ما قاله أبو إسحاق الزجاج: أن الله خيره بين القتل والاستبقاء، ثم قال: هؤلاء اولئك القوم مخبراً لهم عن حكمه فيهم: ﴿أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ [ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ]﴾ الآية.
4456
ثم قال: ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى﴾.
من رفع " جزاء " ولم ينون رفع بالابتداء وله الخبر، والحسنى في موضع خفض بالاضافة. ويجوز أن يكون الحسنى بدلاً من جزاء ويكون حذف التنوين من جزاء لالتقاء الساكنين.
وكذلك التقدير في قراءة من نون ورفع وهي رواية الأعمش عن أبي بكر. وبها قرأ ابن أبي إسحاق.
ومن نون ونصب جعله مصدراً. وقيل: هو مصدر في موضع الحال. وقيل: نصب على التمييز.
4457
ومن نصب ولم ينون فعلى هذه التقديرات أيضاً إلا أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين وهي قراءة ابن عباس ومسروق.
ومعنى الآية: وأما من صدق الله [ تعالى]، وعمل بطاعته [سبحانه] فله عند الله الحسنى وهي الجنة، ﴿جَزَآءً﴾ أي: ثواباً على إيمانه.
ومعنى ﴿جَزَآءً الحسنى﴾ في قراءة من أضاف، أن الحسنى الجنة، ولكن حعله مثل ﴿دِينُ القيمة﴾ [البينة: ٥] ﴿وَلَدَارُ الآخرة﴾ [يوسف: ١٠٩].
وقوله: ﴿وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً﴾.
4458
أي: قولاً جميلاً. وقيل: المعنى وسنعلمه نحن في الدنيا ما تيسر له تعليمه مما يقربه إلى الله [سبحانه] ونلين له من القول. وقال مجاهد: " يسراً " معروفاً.
قوله: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس﴾.
المعنى: ثم اتبع طرقاً ومنازل. أي طلب زيادة في العلم يخلق الله [ تعالى] وعجائبه [سبحانه] وقيل المعنى: اتبع سبباً آخر يبلغه إلى قطر من أقطار الأرض ﴿حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ / الشمس وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً﴾ أي: لا جبل في أرضهم ولا شجر يسترهم من الشمس بظله ولا يحمل بلدهم بناء فيسكنون البيوت وإنما يغورون في المياه ويتسربون في الأسراب، قال: ذلك الحسن، وقتادة.
4459
وقال: ابن جريج: جاءهم جيش فقال: لهم أهلها: لا تطلع عليكم الشمس وأنتم بها فقالوا، لا نبرح حتى تطلع الشمس، ما هذه العظام؟ قالوا جيف جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فهربوا فذهبوا هاربين في الأرض. قال: ابن جريج: لم يبنوا فيها بناء قط، وكانوا إذا طلعت الشمس دخلوا اسراباً لهم حتى تزول الشمس ودخلوا البحر وليس في أرضهم جبل.
قال: قتادة: كانوا في مكان لا يستقر فيه البناء، ويكونوا في أسراب إذا طلعت الشمس حتى إذا زالت خرجوا إلى معائشهم.
وقال: الحسن: كانوا إذا طلعت الشمس عليهم يغورون في المياه، فإذا غربت الشمس خرجوا كما ترعى البهائم. وقال: قتادة يقال: لهم الزنج.
وقوله: " كذلك " الكاف في موضع خفض أي قوم ﴿لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً﴾ مثل ذلك القبيل الذي عند مغرب الشمس.
وقيل: هي في موضع نصب نعت لسبب أي ثم اتبع سبباً مثل اتباعه الأول: أو
4460
نعت لمصدر تطلع أي تطلع طلوعاً مثل غروبها وفيه بعد.
ويجوز أن يكون المعنى لم نجعل لهم من دونها ستراً كذلك، أي مثل أولئك الذين وجدهم في غروب الشمس. فقيل له إما أن تعذب وإما ان تتخذ فيهم حسناً فقال: فيهم مثل قوله الأول. فالمعنى وكان شأنه مه هؤلاء كشأنه مع الذين [وجدهم] عند غروب الشمس. وحذف الجملة لدلالة كذلك عليها.
وقيل: هي في موضع رفع على معنى: " الأمر كذلك "، أو على معنى حكمهم مثل حكم أولئك الذين تغرب عليهم الشمس. والوقف على " كذلك " حسن في هذا الوجه.
قال: ﴿وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً﴾.
أي: بما عند مطلع الشمس علماً لا يخفى علينا من أحوالهم وأحوال غيرهم شيء.
قال: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾.
4461
أي: اتبع طرفاً ومنازل ﴿حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾، أي بين الجبلين. قال: عكرمة: ما كان من صنعة بني آدم فهو " السَّد " بالفتح وما كان من صنع الله [ تعالى] فهو " السُّد " بالضم. ولذلك قال: أبو عبيدة وقطرب والفراء.
وقال: أبو عمر [و] " السَّد " بالفتح هو الحاجز بينك وبين الشيء. والسُّد بالضم هو ما كان من غشاوة بالعين. وقال: أبو عمر [و] تميم تجعله كله سواء.
وقال ابن [أبي] إسحاق: السد بالفتح ما لم تره عيناك، وبالضم ما رأته عيناك. وقال: الكسائي هما لغتان: بمعنى واحد. وقال المبرد: " السد " بالفتح
4462
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٢:ثم قال :﴿ ثم اتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين ﴾ [ ٨٩-٩٠ ].
أي : اتبع طرقا ومنازل١ ﴿ حتى إذا بلغ بين السدين ﴾ [ ٨٩ ]، أي بين الجبلين٢. قال : عكرمة : ما كان من صنعة بني آدم فهو " السد " بالفتح وما كان من صنع٣ الله [ عز وجل ]٤ فهو " السُّد " بالضم٥. ولذلك قال : أبو عبيدة وقطرب والفراء٦.
وقال : أبو عمر[ و ]٧ " السد " بالفتح هو الحاجز بينك وبين الشيء. والسد بالضم هو ما كان من غشاوة بالعين٨. وقال : أبو عمر[ و ]٩ تميم تجعله كله سواء.
وقال ابن [ أبي ]١٠ إسحاق١١ : السد بالفتح ما لم تره عيناك، وبالضم ما رأته عيناك١٢. وقال : الكسائي هما لغتان : بمعنى واحد١٣. وقال المبرد :" السد " بالفتح
المصدر وبالضم الاسم، وهو قول الخليل وسيبويه١٤.
ثم قال :﴿ وجد/من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ﴾ [ ٨٩ ].
أي : لا يكادون يفقهون ما يقال : لهم١٥. ومن قرأ [ يفقهون ]١٦ بضم الياء١٧. قدر حذف مفعول، فمعناه لا يكادون يفقهون أحدا١٨ قولهم١٩.
يقال : فقه٢٠ يفقه٢١ إذا فهم. وأفقه " غيره إذا أفهمه. وفقه يفقه إذا صار فقيها٢٢.
والسدان جبلان، سد ما بينهما بردم٢٣ ليقطع أذى يا جوج ومأجوج وهم من وراء ذلك، قال : ابن عباس : والجبلان أرمينية وأذربيجان٢٤.
١ ق: "منزلا"..
٢ وهو قول ابن قتيبة، انظر غريب القرآن ٢٧٠..
٣ ط: "صنع"..
٤ ساقط من ق..
٥ انظر قول عكرمة في جامع البيان ١٦/١٥، ومعاني الزجاج ٣/٣٠٩، وإعراب النحاس ٢/٤٧٢، والحجة ٤٣١ والجامع ١١/٤٠..
٦ انظر مجاز القرآن ١/٤١٤، والحجة لابن خالويه ٢٣١، والحجة ٤٣١، والكشف ٢/٧٥، والجامع ١١/٤٠، واللسان (سدد والقاموس (سدد)..
٧ ساقط من ق..
٨ ساقط من ق..
٩ انظر قوله في جامع البيان ١٦/١٥، وإعراب النحاس ٢/٤٧٢ والحجة لابن خالويه ٢٣١، والحجة ٤٣٠..
١٠ ساقط من ق..
١١ انظر قول عكرمة في جامع البيان ١٦/١٥، ومعاني الزجاج ٣/٣٠٩، وإعراب النحاس ٢/٤٧٢، والحجة ٤٣١ والجامع ١١/٤٠..
١٢ ساقط من ط..
١٣ انظر قوله في إعراب النحاس ٢/٤٧٢، والجامع ١١/٤٠..
١٤ انظر قوله في إعراب النحاس ٢/٤٧٢، وجامع البيان ١٦/١٥..
١٥ وهو تفسير ابن جرير، انظر جامع البيان ١٦/١٦..
١٦ ساقط من ق..
١٧ وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف انظر جامع البيان ١٦/١٦، ومعاني الزجاج ٣/٣١٠ والسبعة ٣٩٩، وإعراب النحاس ٢/٤٧٣، والحجة ٤٣٢ والكشف ٢/٧٦ والمشكل ٢/٤٨، والتيسر ١٤٥، والجامع ١١/٣٨ والنشر ٢/٣١٥، وتحبير التيسير ١٣٩..
١٨ ق: يفقهه أحد"..
١٩ انظر هذا التوجيه في إعراب النحاس ٢/٤٧٣، والحجة ٤٣٦..
٢٠ ق: "فيه"..
٢١ ق : "تفقه"..
٢٢ انظر اللسان (فقه)..
٢٣ ق: "فردم"..
٢٤ انظر قوله في جامع البيان ١٦/١٦ والجامع ١١/٣٧..

المصدر وبالضم الاسم، وهو قول الخليل وسيبويه.
ثم قال: ﴿وَجَدَ / مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾.
أي: لا يكادون يفقهون ما يقال: لهم. ومن قرأ [يفقهون] بضم الياء. قدر حذف مفعول، فمعناه لا يكادون يفقهون احداً قولهم.
يقال: فَقِه يفقه إذا فهم. وأَفْقَه " غيره إذا أفهمه. وفقُه يفقُه إذا صار فقيهاً.
والسدان جبلان، سد ما بينهما بردم ليقطع أذى ياجوج ومأجوج وهم من وراء ذلك، قال: ابن عباس: والجبلان أرمينية وأذربيجان.
قال: ﴿قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض﴾.
4463
أي: قالوا بلغتهم [أو] أومؤوا إليه بذلك ففهم عنهم. ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميان معرفتان فلذلك لا تنصرف. ولذلك ترك همزة من [رأى] ذلك، لأن الأعجمي غير مشتق.
فأما من همزه فإنه جعله عربياً مشتقاً من اجت النار، ولكن لم ينصرف لأنه اسم للقبيلة وهو معرفة، وقال: الكسائي: من همزه جعله من أجيج النار يفعول ومفعول، ويجوز أن يكون من ترك حمزه أخذه أيضاً من هذا وسهل الهمزة على القياس فأبدل منها ألفاً، ذكر سعيد بن عبد العزيز: أن إفسادهم في أنهم كانوا يأكلون الناس.
4464
قال: محمد بن إسحاق: حدثني من لا اتهم عن وهب بن منبه اليمانيي، وكان له علم لالأحاديث الأولى، أنه كان يقول: ذو القرنين رجل من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيه. وكان اسمه الاسكندر وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس، فلما بلغ وكان عبداً صالحاً، قال: الله: يا ذا القرنين إني باعثك إلى امم الأرض وهي أمم مختلفة ألسنتها وهم جميع أهل الأرض منهم أمتان بينهما طول الأرض [كله]. ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض [كله]. وأمم في وسط الأرض ومنهم الجن والانس ويأجوج ومأجوج. فأما اللتان بينهما طول الأرض فامة عند مغرب الشمس يقال: لها ناسك وأما الأخرى فعند مطلع الشمس يقال: لها منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض فاقة في بطن الأرض الأيمن يقال لها هاويل، وأما الأخرى التي في بطن الأرض الأيسر، فيقال: لها راويل، ثم مضى في الحديث بطوله. وقال: في بعض الحديث: فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة من الانس صالحة: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقاً من خلق الله كثير فيهم مشابهة من الإنس. وهم أشباه البهائم يأكلون العشب
4465
ويفترسون الدواب والوحوش كما تفترس السباع، ويأكلون خشاش الأرض من الحيات والعقارب وكل ذي روح مما خلق في الأرض. وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد ولا يزداد كزيادتهم ولا يكثر ككثرتهم. [فإن كانت] لهم مدة على ما ترى من نمائهم وزيادتهم فلا شك أنهم سيملئون [الأرض] ويأكلون أهلها ويظهرون عليها فيفسدون فيها. وليست تمر بنا سنة / منذ جاوزناهم إلا ونحن نتوقعهم وننتظر ان يطلع علينا أوائلهم من بين هذين الجبلين ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً﴾ أي حاجزاً ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾ [الكهف: ٩٥] أي: ما أعطاني من القوة والتدبير والتيسير في الأمور خير مما تعطوني من أموالكم ولكن أعينوني بقوة أي برجال يعملون معي: أعدوا لي الصخور والحديد والنحاس حتى ارتاد بلادهم، وأعلم علمهم، وأقيس ما بين جبليهم.
ثم انطلق يؤمهم حتى وقع إليهم وتوسط بلادهم.
4466
فوجدهم على مقد [ا] ر واحد ذكرهم وأنثاهم يبلغ طول أحدهم مثل نصف طول الرجل المربوع منا. لهم مخاليب في مواضع الأظفار من أيدينا. وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها، وأحناك [كأحناك] الابل قوة. تسمع لهم حركة إذا أكلوا كحركة الجرة من الإبل، أو كقضم البغل المسن. ولهم هلب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم، و [ما] يتقون به الحر والبرد، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، إحداهما وبرة ظهرها وبطنها، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها. تسعانه إذا لبسهما يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى. يصيف في أحدهما ويشتي في الأخرى. ليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذي يموت فيه وينقطع عمره. وذلك أنه لايموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت أنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد. فإذا كان ذلك أيقن بالموت. وهم يرزقون التنين في أيام الربيع ويستمطرونه إذا تحينوه.
كما يستمطر المطر بحينه فيقدرون منه كل سنة. فيأكلون عامهم كله إلى مثلها من القابلة. فيغنيهم على كثرتهم ونمائهم. فإذا أمطروه أخصبوه وعاشوا وسمنوا
4467
عليه ورؤي أثره عليهم. فدرت الاناث، وشبعت منه الرجال. وإذا أخطاهم هزلوا وجفرت الذكور، وحالت الاناث، وتبين أثر ذلك عليهم. وهم يتداعون تداعي الحمام، ويعوون عوي الذئاب، ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم. ثم لما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى ناحية الصدفين فقاس ما بينهما وهو في منقطع أثر الترك مما يلي مشرق الشمس فوجد بُعْدَها بينهما مائة فرسخ، فلما أنشأ عمله حفر له اسما حتى بلغ الماء. ثم جعل عرضه خمسين فرسخاً. وجعل حشوه الصخور، وطينه النحاس، يداب ثم يصب عليه. فصار كأنه عرف من جبل تحت الأرض. ثم علاه وشرفه بزبر الحديث والنحاس المذاب. ثم جعل خلاله عرفاً من نحاس اصفر. [فصار] كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. فلما فرغ منه و [أ] حكمه انطلق عامداً إلى جماعة الجن والإنس. فسار حتى وصل إلى قوم يونس [وهم] أمة/ صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون. يقتسمون بالسوية،
4468
ويحكمون بالعدل، ويتواسون ويتراحمون. حالهم واحدة. وكلمتهم واحدة وطريقتهم مستقيمة وقلوبهم متآلفة. وسيرتهم مستوية، وقبورهم بأبواب بيوتهم. وليس على بيوتهم أبواب ولا عليهم امراء ثم اتى خبر يونس بطوله.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " إن يأجوج ومأجوج يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال: الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً. فيعيده الله كأشد ما كان. فإذا بلغت مدتهم حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس فقال: الذي عليهم: ارجعوا فستفتحون غداً إن شاء الله، فيقدمون عليه وهو كهيئته حين تركون. فيخرجون على الناس فيشربون المياه، ويتحصن الناس في حصونهم. فيرمون بسهامهم. فيرجع فيها كهيئة الدماء فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفاً في أعناقهم فيقتلونهم فقال: النبي ﷺ
4469
" والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتَشْكَرُ شكراً من لحومهم " ".
وروى أبو سعيد الخدري ان النبي ﷺ قال: " يفتح يأجوج ومأجوج ويخرجون على الناس كما قال: الله: ﴿وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ﴾ فيغشون الأرض. وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ويضمون إليهم مواشيهم. فيشربون مياه الأرض حتى [إن] بعضهم ليمر بالنهر فيشربه جميعه حتى يتركوه يابساً. وحتى إن من بعده ليمر بذلك النهر فيقول: لقد كان ها هنا ماء مرة حتى إذا لم يبق أحد إلا أحداً في حصن أو في مدينة قال: قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم وبقي أهل السماء. قال: فيهز أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة. فبينما هم على ذلك بعث الله عليهم دوداً في اعناقهم كالنغف فتخرج في أعناقهم فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس. فيقول المسلمون الآ رجل يشري نفسه فينظر ما فعل هذا العدو. وقال: فينفرد رجل منهم ذبلك محتسباً نفسه قد وطنها على أنه مقتول. فيجدهم موتى بعضهم فوق بعض. فينادي: يا معشر المسلمين! ألا فأبشروا، فإن الله قد كفاكم عدوكم. فيخرجون من مدائنهم وحصونهم فيسرحون
4470
بمواشيهم فما يكون لها رعي إلا لحومهم فتشكر عليهم أحسن ما شكرت على شيء من النبات ".
قال: ابن وهب: وخبرت أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف، صنف منهم طولهم كطول الأرز. وصنف طوله هو وعرضه سواء، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويغطي بالأخرى سائر جسده.
ومعنى: ﴿مُفْسِدُونَ فِي الأرض﴾، أي يفسدون ولم يكن لهم افساد بعد إنما خيف منهم ذلك وسيكون إذا خرجوا.
قوله: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي / فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾.
أي: الذي مكني فيه ربي خير في العمل الذي سألتموني من الحاجز بينكم وبين هؤلاء، وقضاه لي وقواني عليه خير من جعلكم الذي عرضتم علي وأكثر وأطيب. ولكن أعينوني بقوة أي بعمل تعملونه معي ﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً﴾ أي إن أعنتموني على ذلك.
ذكر قتادة أن رجلاً قال: يا نبي الله إني رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: انعته. قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: قد رأيته.
قال: ﴿آتُونِي زُبَرَ الحديد حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين﴾.
أي: أعطوني القطع العظام من الحديد فأعطوه ذلك. وفي الكلام حذف وهو: فاتوه زبر الحديد فجعلها بين الصدفين وهما ناحيتا الجبل. والصِّدف والصَّدف الصُّدف الجبل.
قال: ابن عباس ﴿بَيْنَ الصدفين﴾ الجبلين. وقال: مجاهد ﴿بَيْنَ الصدفين﴾ رأس الجبلين.
وقال: الضحاك ﴿بَيْنَ الصدفين﴾ بين الجبلين وهما من قبيل أرمينية وأذربيجان وهو قول ابن عباس أيضاً.
قوله: ﴿حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً﴾.
أي: نفخ على قطع الحديد حتى صارت كالنار. ثم أذاب الصُّفر فأفرغه على القطع. والقطر النحاس عند أكثر المفسرين. وقال: أبو عبيدة: ﴿أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً﴾ حديداً دائباً. وقيل: هو الرصاص.
قال: ﴿فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ﴾.
أي: ما قدر يأجوج ومأجوج أن يعلوا الردم الذي جعله ذو القرنين حاجزاً
4472
بينهم ﴿وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً﴾ وما قدروا أن ينقبوا أسفله.
ثم قال ذو القرنين لما رأى الردم لا يقدر عليه من فوقه ولا من أسفله: هذا الفعل ﴿رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي﴾ رحم بها من دون الردم من الناس ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي﴾ أي الوقت
الذي وعده فيه أن يأجوج يخرجون ﴿جَعَلَهُ دَكَّآءَ﴾ أي سواه بالأرض.
من نونه جعله على معنى مدكوكاً. ومن مده جعله بقعة دكاء وأرضاً دكاء، من قولهم: ناقة دكاء، مستوية الظهر لا سنام لها.
وقيل المعنى: فإذا جاء يوم القيامة جعله دكاً ودل على هذا قوله ﴿وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ [الحاقة: ١٤].
4473
وقوله: ﴿جَعَلَهُ﴾ الهاء تعود على ما بين الجبلين وخروج يأجوج ومأجوج بعد نزول عيسى وبعد ظهور الدجال. يدل على ذلك أن ابن مسعود قال: قال: النبي ﷺ " لقيت ليلة الأسراء ابراهيم وموسى وعيسى صلى الله عليهم فتذاكروا أمر الساعة وردوا الأمر إلى ابراهيم فقال: ابراهيم: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى موسى: فقال: موسى: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى عيسى فقال: عيسى: أما قيام الساعة فلا يعلمه أحد، إلا الله تعالى، ولكن ربي قد عهد إلى ما هو كائن دون مجيئها. عهد إلى ان الدجال خارج وانه سيهبطني إليه. فإذا رآني أهلكه الله فيذوب كما يذوب الرصاص. حتى أن الحجر والشجر لتقول يا مسلم هذا كافر فاقتله. فيهلكهم الله ويرجع الناس إلى بلادهم واوطانه. فيستقبلهم يأجوج ومأجوج من كل حدب ينسلون لا يأتون على شيء إلاّ / أهلكوه. ولا يمرون على ماء إلا شربوه، فيرجع الناس إلي، فادعوا الله عليهم. فيميتهم ويتغير الأرض من نتن ريحهم فينزل المطر فيجر أجسامهم فيلقيهم في البحر ثم تنسف الجبال حتى تكون الأرض كالأديم. فعهد إلي ربي أن ذلك، إذا كان كذلك، فإن الساعة منه كالحامل المتمم. والتي لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلاً أو نهاراً ".
وقوله: ﴿وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً﴾.
أي: وعد ربي الذي وعد خلقه في دك هذا الردم وخروج هؤلاء [القوم] على
4474
ثم قال ذو القرنين لما رأى الردم لا يقدر عليه من فوقه ولا من أسفله : هذا الفعل ﴿ رحمة من ربي ﴾١ رحم بها من دون الردم من الناس ﴿ فإذا جاء وعد ربي ﴾ [ ٩٤ ] أي الوقت.
الذي وعده فيه أن يأجوج يخرجون ﴿ جعله دكا ﴾ [ ٩٤ ] أي سواه بالأرض٢.
من نونه٣ جعله على معنى مدكوكا. ومن مده٤ جعله٥ بقعة٦ دكاء وأرضا دكاء، من قولهم : ناقة دكاء، مستوية الظهر لا سنام لها٧.
وقيل المعنى : فإذا جاء يوم القيامة جعله دكا ودل على هذا قوله ﴿ وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ﴾٨.
وقوله :﴿ جعله ﴾ الهاء تعود على ما بين الجبلين وخروج يأجوج ومأجوج بعد نزول عيسى وبعد ظهور الدجال. يدل على ذلك أن ابن مسعود قال : قال : النبي صلى الله عليه وسلم " لقيت ليلة الإسراء إبراهيم وموسى وعيسى صلى عليهم فتذاكروا أمر الساعة وردوا الأمر٩ إلى إبراهيم فقال : إبراهيم : لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى موسى : فقال : موسى : لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى عيسى فقال : عيسى : أما قيام الساعة فلا يعلمه أحد، إلا الله تعالى، ولكن ربي قد عهد إلى ما هو كائن دون مجيئها. عهد إلى أن الدجال خارج وأنه سيهبطني إليه. فإذا رآني أهلكه الله فيذوب كما يذوب الرصاص. حتى أن الحجر والشجر١٠ لتقول يا مسلم هذا كافر فاقتله. فيهلكهم الله ويرجع الناس إلى بلادهم وأوطانه. فيستقبلهم يأجوج مأجوج من كل حدب ينسلون لا يأتون على شيء إلا/ أهلكوه. ولا يمرون على ماء إلا شربوه، فيرجع الناس إلي، فادعوا الله عليهم. فيميتهم ويتغير الأرض من نتن ريحهم فينزل المطر فيجر١١ أجسامهم فيلقيهم في البحر ثم تنسف الجبال حتى تكون١٢ الأرض كالأديم. فعهد إلي ربي أن ذلك، إذا كان كذلك، فإن الساعة منه كالحامل المتمم. والتي لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلا أو نهارا١٣ ".
وقوله :﴿ وكان وعد ربي حقا ﴾ [ ٩٤ ].
أي : وعد ربي الذي وعد خلقه في دك هذا الردم وخروج هؤلاء [ القوم١٤ ] على الناس وغير ذلك من مواعيده حقا لا خلف في شيء منها١٥.
١ وهو تفسير ابن جرير، انظر جامع البيان ١٦/٢٦..
٢ وهو تفسير ابن جرير، انظر جامع البيان ١٦/٢٧..
٣ أي نون "دكا" وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع وابن عامر ورواية عن عاصم انظر السبعة ٤٠٢، والحجة ٤٣٥، والكشف ١/٤٧٥ و ٢/٨١، والتيسير ١٤٦ وتحبير التيسير ١٤٠..
٤ أي قرأ: "دكاء" وهي قراءة حمزة والكسائي ورواية عن عاصم، انظر نفس المصادر والصفحات السابقة..
٥ ق: "جعله جعله"..
٦ ق: "يقعة"..
٧ انظر غريب القرآن ٢٧١، و جامع البيان ١٦/٢٧، وإعراب النحاس ٢/٤٧٥ والكشف ١/٤٧٥..
٨ الحاقة آية ١٤..
٩ ق: "إلى الأمر"..
١٠ ق: "والصخر"..
١١ ق: "القطر فيخر"..
١٢ ق: فيكون..
١٣ الحديث أخرجه ابن ماجه في السنن، كتاب الفتن رقم ٤٠٨١ والحاكم في المستدرك ٢/٤٤٨، وانظره في جامع البيان ١٦/٢٧..
١٤ ساقط من ق، وهي زيادة من جامع البيان..
١٥ وهو تفسير ابن جرير، انظر جامع البيان ١٦/٢٨..
الناس وغير ذلك من مواعيده حقاً لا خلف في شيء منها.
قال: ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ أي: وتركنا الخلق يوم يأتيهم الوعد وتد [ك] الجبال، بعضهم يختلط مع بعض أي: الانسي بالجني، وقال: ابن زيد: هذا اول القيامة. تختلط بعض الخلق ببعض ثم نفخ في الصور في أثر ذلك ﴿فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً﴾. وسأل اعرابي النبي ﷺ عن الصور فقال: " قرن ينفخ فيه ".
وعنه ﷺ أنه قال: " " كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى جبهته وأصغى [ب] الأذن متى يؤمر. فشق ذلك على أصحابه فقال: " قولوا حسبنا الله، على الله توكلنا، فلو اجتمع، أهل منى ما اقلوا ذلك القرن " وكذلك رواه ابن عباس ولكن في حديثه: " قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل توكلنا على الله ".
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " لما فرغ الله من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه اسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر. قال: أبو هريرة: يا رسول الله وما الصور؟ قال: قرن. قال: وكيف هو؟
قال: قرن عظيم فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العالمين ".
وقيل في قوله: ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ يوم انقضاء السد وفرغ من عمله. يموجون متعجبين من السد يعني يأجوج ومأجوج. وقيل ذلك يوم خروجهم من السد.
قال: أبو عبيدة: ﴿وَنُفِخَ فِي الصور﴾ واحده صورة.
المعنى وأبرزنا جهنم يوم نفخ في الصور للكافرين حتى يروها كهيئة السراب.
وقال: ابن مسعود: يوم يقوم الخلق لله تعالى إذا نفخ في الصور، قيام رجل واحد، ثم يتمثل الله فيلقاهم فليس أحد من الخلق كان يعبد من دون الله شيئاً إلا وهو مرفوع له يتبعه. قال: فيلقى اليهود، فيقول من تعبدون؟ فيقولون [نعبد عزيراً. قال: فيقول هل يسركم الماء؟ فيقولون نعم. فيريهم جهنم وهي كهيئة السراب ثم قرأ
﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً﴾ ثم يلقى الناصرى، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون [نعبد] المسيح. فيقول هل يسركم الماء؟ قال: فيقولون: نعم. فيريهم جهنم وهي كهيئة السراب. ثم كذلك لمن كان يعبد من دون الله جلّ وعزّ شيئاً. ثم قال:
﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾ [الصافات: ٢٤].
قال: ﴿الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي﴾.
أي عرضنا جهنم للكافرين الذين كانوا لا ينظرون في آيات الله فيتفكروا فيها ولا يتأملون حججه، فيتعبروا بها، وينيبوا إلى توحيده وينقادوا إلى أمره ونهيه
﴿وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً﴾ أي: لا يطيقون ان يسمعوا ذكر الله وآياته لخدلان الله إياهم عند ذلك ولعداوتهم للنبي ﷺ واستثقالهم لما أتاهم به. قال: ابن زيد: هؤلاء الكفار.
قال: ﴿أَفَحَسِبَ الذين كفروا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَآءَ﴾.
والمعنى أفظن الذين كفروا بالله من عبدة الملائكة والمسيح وعزيراً، أن
يتخذوا الملائكة والمسيح أولياء لأنفسهم لأجل عبادتهم لهم. كلا بل هم لهم أعداء. والمعنى أفحسبوا أن ينفعهم ذلك. وقيل المعنى أفحسبوا أن يتخذوهم أولياء فيعبدوهنهم ولا أعاقبهم.
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ " أفحسب الدين " باسكان السين ورفع الباء على معنى: أفيكفيهم اتخاذ العباد أولياء. وهو مرفوع بالابتداء و " أن يتخذوا الخبر ".
ثم قال: تعالى: ﴿إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً﴾.
أي: أعددنا لهم منزلاً. والنزل عند أهل اللغة ما هيئ للضيف.
قال: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين﴾.
أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين يجادلونك بالباطل ويمارونك في المسائل من أهل الكتابين: قل هل ننبؤكم بالأخسرين أعمالاً أي بالذين اتبعوا أنفسهم في عمل يبتغون به ربحاً وفضلاً فنالوا به غضباً وهلاكاً ولم يدركوا ما طلبوا.
قال: علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ، عني بها الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع. وقال: الضحاك هم القسيسون والرهبان.
وقيل هم اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا محمداً وأما النصارى فكذبوا وكفروا بالجنة. وقالوا ليس فيها طعام ولا شراب. ونزل في الحرورية
﴿الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه﴾ [البقرة: ٢٧] الآية.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ قال: هم كفرة أهل الكتاب كان أوائلهم على حق فأشركوا بربهم وابتدعوا في دينهم، الذين يجتهدون في الباطل ويحسبون أنهم على حق، ويجتهدون في الضلالة ويحسبون انهم على هدى فضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: أنهم الخوارج اهل حرور. وقال: سعيد: هم الخوارج. وقيل هم الصائبون.
قوله: ﴿أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ﴾.
أي: الذين تقدمت صفتهم واعمالهم ضلت هم ﴿الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ﴾ أي: جحدوا ذلك ﴿فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أي: بطلت ﴿فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً﴾ أي: لا يثقل لهم ميزان بعمل صالح.
4479
روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " يؤتى يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن / جناح بعوضة، واقرؤوا إن شئتم: ﴿فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً﴾ ".
ثم قال: أبو محمد: وهذا النص يدل على وزن اعمال الكفار. فلا يثقل بها ميزان إذا كانت لغير الله وإذ [كان] لا يصحبها توحيد ولا إيمان بالرسل. [قال: تعالى]: ﴿لَهُمْ سواء الحساب﴾ [الرعد: ١٨] وقال: فيهم: ﴿وَعَلَيْنَا الحساب﴾ [الرعد: ٤٠] أي حساب من كفر. وقال: الله تعالى ﴿ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ [النور: ٣٩] وقال: عن الكفار: ﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٦]. وقال: عن الكفار أنهم قالوا: ﴿عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب﴾ [ص: ١٦] وقال ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الحجر: ٩٢ - ٩٣] وقال: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين﴾ [الاعراف: ٦] وقال: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الاسراء: ١٣] أي: كتاب عمله. وقد ذكر تعالى ذكره وزن
4480
اعمال الكفار في غير ما موضع من كتابه. وذلك ما عظم الحساب، وهو كثير في القرآن مكرر يدل على محاسبة الكفار.
قال: تعالى ﴿ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ﴾.
أي ثوابهم جهنم بكفرهم واتخاذهم آياتي ورسلي هزؤاً، أي سخرياً.
قال: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً﴾.
أي: الذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بتوحيده وكتبه ورسله، وعملوا بطاعته كانت لهم جنات الفردوس نزلاً. وهي أفضل الجنات. وأوسطها، قاله قتادة.
وقال: كعب: ليس في الجنات جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر.
وقيل الفردوس هو البستان بالرومية، قاله مجاهد. وقال: كعب: جنات الفردوس التي فيها الأعناب. وقيل الفردوس الأودية التي تنبت ضروباً من النبات. وقال: أبو هريرة الفردوس جبل في الجنة يتفجر منه أنهار الجنة. وقيل الفردوس سرة الجنة. وقيل الفردوس الكروم وقيل هو في الرومية منقول إلى
4481
لفظ العربية.
وروى عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ أنه قال: " الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها. ومنها الأنهار الأربعة، والفردوس فوقها. فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس " وفي حديث آخر " ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ".
وعنه ﷺ من رواية أبي سعيد الخدري أنه قال: " فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة واعلاها، وفوقها عرش الرحمن ومنها تفجر انهار الجنة ".
وكذلك روى معاذ بن جبل عن النبي عليه السلام أنه قال: " إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة ما بين السماء والأرض والفردوس أعلا الجنة وأوسطها وفوقها عرش الرحمن ومنها يفجر أنهار الجنة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس ".
وقوله: ﴿نُزُلاً﴾ يعني منازل أو مساكن وهو من نزول بعض الناس على بعض. و ﴿خَالِدِينَ﴾ " لابثين فيها أبداً ".
﴿فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً﴾
4482
و﴿ خالدين ﴾ " لابثين فيها أبدا " ١.
﴿ لا يبغون عنها حولا ﴾ [ ١٠٣ ].
أي : لا يريدون تحولا٢. وحولا/مصدر تحولت. خرج عن أصله كتعوج عوجا. ويقال : قد حال من المكان حولا٣. وقال : مجاهد : " حولا " متحولا٤.
وروي عن بعض أصحاب أنس أنه قال : يقول أول من يدخل الجنة : إنما أدخلني الله أولهم لأنه ليس أحد أعطاه مثل الذي أعطاني٥.
وقيل معنى " حولا " لا يحتالون في غيرها فهو من الحيلة٦ على هذا٧.
١ وهو تفسير ابن جرير، انظر جامع البيان ١٦/٣٨..
٢ ق: "تحويلا" والتصويب من جامع البيان، وغريب القرآن..
٣ انظر هذا التفسير في غريب القرآن ٢٧١ وجامع البيان ١٦/٣٨ ومعاني الزجاج ٣/٣١٥..
٤ انظر قوله في تفسير مجاهد ٤٥٢، وجامع البيان ١٦/٣٨ والدر ٥/٤٦٨..
٥ انظر هذا القول في جامع البيان ١٦/٣٨..
٦ ق: الحلية"..
٧ وهو قول الزجاج، انظر معاني الزجاج ٣/٣١٥ والجامع ١١/٤٦..
أي: لا يريدون تحولاً. وحولاً / مصدر تحولت. خرج عن أصله كتعوج عوجاً. ويقال: قد حال من المكان حولاً. وقال: مجاهد: " حولاً " متحولاً.
وروي عن بعض اصحاب أنس أنه قال: يقول أول من يدخل الجنة: إنما أدخلني الله أولهم لأنه ليس احد أعطاه مثل الذي أعطاني.
وقيل معنى " حولاً " لا يحتالون في غيرها فهو من الحيلة على هذا.
قوله ﴿قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي﴾.
والمعنى، قل يا محمد لهؤلاء الكافرين بك، السائلين عن المسائل، لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات ربي لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات ربي.
ثم قال: ﴿وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾.
أي: لو مددنا البحر بمثل ما فيه من الماء، ما فرغت كلمات ربي، والمدد الزيادة والمعونة، يقول جئتك مدداً لكم، أي زيادة ومنه قيل لما يكتب به مِداد: لأنه يمد الكاتب شيئاً بعد شيء. والمداد جمع واحدته مداده. ويجوز أن يكون المداد مصدر مد.
وقرأ ابن عباس ﴿وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ على معنى ولو زدنا مثل ما فيه من المدد الذي يكتب به مداداً.
قال: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ﴾.
أي: قل لهؤلاء المشركين، إنما أنا إنسان مثلكم من بني آدم، لا علم لي إلا ما علمني الله، يوحي إلي إنما معبودكم معبود واحد لا ثاني له.
قوله: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ﴾.
أي: يخاف لقاء ربه يوم القيامة ويخاف عقابه ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾ فليخلص العبادة لله ويعمل بطاعته، قال: ابن جبير: ﴿يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ﴾ أي لقاء ثواب ربه.
فعلى قول ابن جبير يرجو بمعنى ينظر ويطمع ويوقن وعلى القول الأول يرجو بمعنى يخاف كقوله: ﴿مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ [نوح: ١٣] أي لا يخافون. ويحتمل أن يكون ﴿قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ [يونس: ١٥] لا ينتظرون ولا يوقنون بلقائنا. وقد فسر أكثر الناس ترجو بمعنى تطمع.
وقال: مقاتل في قوله: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ﴾ أي يخشى لقاء ربه، ويخشى بمعنى يخاف، وقال: الفراء وغيره من الكوفيين لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلاّ مع الجحد. كقولك ما رجوت ولم أرج ولا أرجو.
4484
وقال: ابن المبارك: ﴿يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ﴾ هو النظر إلى الله جل ذكره. فالرجاء في هذا بمعنى الطمع، وذكر الزجاج وغيره الرجاء بمعنى الخوف، فلا جحد معه.
وأصل الرجاء وبابه أن يأتي بمعنى الطمع الذي يقرب من اليقين، يقع بمعنى الخوف على ما ذكرنا من الاختلاف والمعنيان متداخلان لأن من أيقن وطمع بلقاء ربه وثوابه خاف عقابه. ولا يخاف عقاب ربه إلا من طمع وأيقن بلقاء ثواب ربه. وكل واحد من المعنيين مرتبط بالآخر على ما ترى.
ثم قال: ﴿وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً﴾.
أي: لا يعبد معه غيره /. وقيل: لا يراني بعمله الذي يعمله لله أحداً. وسأل رجل عبادة بن الصامت رحمه الله وقال: أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد؟ ويتصدق ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد؟ ويحج ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد؟ فقال: عبادة: ليس له شيء. إن الله تعالى يقول أنا خير شريك. فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه.
وروى طاوس أن رجلا أتى النبي ﷺ فقال: يا نبي الله إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب أن يرى موطني ويرى مكاني. فأنزل الله تعالى:
4485
﴿فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ﴾ الآية، وقال: سفيان رضي الله عنهـ: الشرك هنا الرياء.
وقال: معاوية بن أبي سفيان على المنبر وقد قرأ هذه الآية: إنها آخر آية نزلت من القرآن، يعني والله أعلم بمكة لأن السورة مكية.
وقال: الحسن C: نزلت هذه الآية في المؤمنين، والشرك الرياء.
وقال: ابن عباس: هي في المشركين. أي لا يعبد مع الله احداً.
والرياء إنما يكون في التطوع فأما في الفرائض فقد استوى الناس فيها فليس فيها رياء. وقال: بكر القاضي: سمعت سهل بن عبد الله الزاهد يقول: الرياء في أهل القدر، لأنهم يعتقدون أن أعمالهم من أنفسهم واستطاعتهم. فأما أهل السنة فيعتقدون في أعمال البر كلها أنها من فضل الله عليهم ولولا ذلك ما قدروا عليها. فليس يكون الرياء فيهم إلا خاطراً لا يبطل بما يعتقدوه. فلا رياء يصح عليهم إن شاء الله. وصلى الله على محمد نبيه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته وسلم تسليماً.
4486
Icon