تفسير سورة الكهف

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الكهف مكية إلا الآيات ٢٨ ومن آية ٨٣ إلى آية ١٠١ فمدنية وآياتها مائة وعشر آيات.

﴿الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عبده﴾ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم ﴿الكتاب﴾ أي الكتابَ الكاملَ الغنيُّ عن الوصف بالكمال المعروفِ بذلك من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتابِ به وهو عبارةٌ عنِ جميع القرآن أو عن جميع المُنْزَل حينئذ كما مر مراراً وفي وصفه تعالى بالموصول إشعارٌ بعلية مَا في حيزِ الصلةِ لاستحقاق الحمدِ وإيذانٌ بعِظم شأنِ التنزيلِ الجليلِ كيف لا وعليه يدور فَلكُ سعادةِ الدارين وفي التعبير عن الرسول ﷺ بالعبد مضافاً إلى ضمير الجلالةِ تنبيهٌ على بلوغه ﷺ إلى أعلى معارجِ العبادةِ وتشريف له أي تشريف وإشعارٌ بأن شأنَ الرسولِ أن يكون عبداً للمرسِل لا كما زعمت النَّصارى في حقِّ عيسى عليه السلام وتأخيرُ المفعول الصريح عن الجار والمجرور مع أن حقه التقديمُ عليه ليتصل به قوله تعالى ﴿وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾ أي شيئاً من العِوَج بنوع اختلالٍ في النظم وتَنافٍ في المعنى أو انحرف عن الدعوة إلى الحق وهو في المعاني كالعِوَج في الأعيان وأما قوله تعالى لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً مع كون الجبالِ من الأعيان فللدلالة على انتفاء مالا يُدرك من العوج بحاسة البصر بل إنما يوقف عليه بالبصيرة بواسطة استعمالِ المقاييسِ الهندسيةِ ولمّا كان ذلك مما لا يُشعِر به بالمشاعر الظاهرةِ عُدّ من قبيل ما في المعاني وقيل الفتحُ في اعوجاج المنتصِبِ كالعُود والحائِط والكسرُ في اعوجاج غيرِه عيناً كان أو معنى
﴿قَيِّماً﴾ بالمصالح الدينيةِ والدنيويةِ للعباد على ما ينبئ عنه ما بعده من الإنذار والتبشيرِ فيكون وصفاً له بالتكميل بعد وصفِه بالكمال أو على ما قبله من الكتب السماويةِ شاهداً بصِحتها ومهيمناً عليها أو متناهياً في الاستقامة فيكون تأكيداً لما دل عليه نفيُ العِوج مع إفادة كونِ ذلك من صفاته الذاتيةِ اللازمةِ له حسبما تنبئ عنه الصيغةُ لا أنه نُفي عنه العوجُ مع كونه من شأنه وانتصابُه على تقديرِ كونِ الجملةِ المتقدمةِ معطوفةً على الصلة بمضمر ينبىء عنه نفيُ العِوَج تقديرُه جعلَه قيماً وأما على تقدير كونِها حاليةً فهو على الحاليَّةِ من الكتابِ إذ لا فصل حينئذ بني أبعاضِ المعطوفِ عليه بالمعطوف وقرئ قيماً ﴿لّيُنذِرَ﴾ متعلقٌ بأنزل والفاعلُ ضميرُ الجلالة كما في الفعلين المعطوفين عليه والإطلاقُ عن ذكر المفعولِ الأول للإيذان بأن ما سيق له الكلامُ هو
202
الكهف ٣ ٥ المفعولُ الثاني وأن الأولَ ظاهرٌ لا حاجةَ إلى ذكره أي أنزل الكتابَ لينذر بما فيه الذين كفروا له ﴿بَأْسًا﴾ أي عذاباً ﴿شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ﴾ أي صادراً من عنده نازلاً من قِبله بمقابلة كفرِهم وتكذيبهم وقرئ من لدْنِه بسكون الدال مع إشمام الضمةِ وكسر النونِ لالتقاء السَاكنين وكسر الهاء للاتباع ﴿ويبشر﴾ بالشديد وقرئ بالتخفيف ﴿المؤمنين﴾ أي المصدقين به ﴿الذين يَعْمَلُونَ الصالحات﴾ الأعمالَ الصالحةَ التي بيّنت في تضاعيفه وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في الصلة للإشعار بتجدد الأعمالِ الصالحة واستمرارِها وإجراءُ الموصولِ على موصوفه المذكورِ لما أن مدارَ قَبولِ الأعمالِ هو الإيمان ﴿أَنَّ لَهُمْ﴾ أي بأن لهم بمقابلة إيمانِهم وأعمالِهم المذكورة ﴿أَجْرًا حَسَنًا﴾ هو الجنَّةَ وما فيها من المثوبات الحُسنى
203
﴿مَّاكِثِينَ﴾ حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ في لهم ﴿فِيهِ﴾ أي في ذلكَ الأجر ﴿أبدا﴾ من غير انتهاء أي خالدين فيه وهو نصبٌ على الظرفية لماكثين وتقديمُ الإنذار على التبشير لإظهار كمال العنايةِ بزجر الكفّارِ عما هم عليه مع مراعاة تقديمِ التخليةِ على التحلية وتكريرُ الإنذار بقوله تعالى
﴿وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا﴾ متعلقاً بفِرْقة خاصة ممن عمّه الإنذارُ السابقُ من مستحقي البأسِ الشديد لإيذان بكمال فظاعةِ حالِهم لغاية شناعةِ كفرِهم وضلالِهم أي وينذرَ من بين سائر الكفرة هؤلا المتفوّهين بمثل هاتيك العظيمةِ خاصة وهم كفارُ العرب الذين يقولون الملائكةُ بناتُ الله تعالى واليهودُ القائلون عزيز ابنُ الله والنصارى القائلون المسيحُ ابن الله وتركُ إجراءِ الموصولِ على الموصوف كما فُعل في قوله تعالى وَيُبَشّرُ المؤمنين للإيذان بكفاية مَا في حيزِ الصلةِ في الكفر على أقبح الوجوه وإيثارُ صيغةِ الماضي في الصلة للدِلالة على تحقق صدورِ تلك الكلمةِ القبيحة عنهم فيما سيق وجعلُ المفعولِ المحذوفِ فيما سلف عبارةً عن هذه الطائفة يؤدي إلى خروج سائرِ أصنافِ الكفرة عن الإنذار والوعيدِ وتعميمُ الإنذارِ هناك للمؤمنين أيضاً بحمله على معنى مجردِ الإخبارِ بالخبر الضارِّ من غير اعتبار حُلول المنذَرِ به على المنذَر كما في قوله تعالى أَنْ أَنْذِر الناس وبشر الذين آمنوا يُفضي إلى خلوّ النظمِ الكريم عن الدلالة على حلول البأسِ الشديدِ على مَنْ عدا هذه الفرقةِ ويجوز أن يكون الفاعلُ في الأفعال الثلاثة ضميرَ الكتاب أو ضميرَ الرسول صلى الله عليه وسلم
﴿مَا لَهُمْ بِهِ﴾ أي باتخاذه سبحانه وتعالى ولداً ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ مرفوعٌ على الابتداء أو الفاعلية لاعتماد الظرفِ ومِن مزيدةٌ لتأكيد النفي والجملةُ حاليةٌ أو مستأنَفةٌ لبيان حالِهم في مقالهم أي مالهم بذلك شيءٌ من علم اصلالا لإخلالهم بطريقة مع تحقق المعلومِ أو إمكانِه بل لاستحالته في نفسه ﴿وَلاَ لأََبَائِهِمْ﴾ الذين قلدوهم فتاهوا جميعاً في تيه الجهالةِ والضلالةِ أو ما لهم علمٌ بما قالوه أهو صوابٌ أم خطأٌ بل إنما قالوه رمياً عن عمى وجهالة من غير فكر ورويّةٍ كما في قوله تعالى وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ أو بحقيقة ما قالوه وبعظم رُتبتِه في الشناعة كما في قوله تعالى وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدَا تكاد السموات
203
الكهف ٦ ٧ يتفطرن من الآيات وهو الأنسبُ بقولِه تعالى ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ أي عظُمت مقالتُهم هذه في الكفر والافتراءِ لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكادُ يليقُ بجناب كبريائِه والفاعلُ في كبُرت إما ضميرُ المقالةِ المدلولِ عليها بقالوا وكلمةً نُصب على التمييز أو ضميرٌ مبهمٌ مفسَّرٌ بما بعده من النكرة المنصوبةِ تمييزاً كبئس رجلاً والمخصوصُ بالذم محذوفٌ تقديرُه كبُرت هي كلمةً خارجةً من أفواههم وقرئ كبْرتْ بإسكان الباء مع إشمام الضم وقرئ كلمةٌ بالرفع (تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) صفةٌ للكلمة مفيدةٌ لاستعظام اجترائِهم على التفوه بها وإسنادُ الخروجِ إليها مع أن الخارجَ هو الهواءُ المتكيفُ بكيفية الصوتِ لملابسته بها ﴿إِن يَقُولُونَ﴾ ما يقولون في ذلك لا الشأنِ ﴿إِلاَّ كَذِبًا﴾ أي إلا قولاً كذباً لا يكادُ يدخُل تحتَ إمكانِ الصدق أصلاً والضميران لهم لآبائهم مثل حاله صلى الله عليه وسل ٤ م في شدة الوجدِ على إعراض القومِ وتولّيهم عن الإيمان بالقرآن وكمالِ التحسّر عليهم بحال من يُتوقع منه إهلاكُ نفسِه إثرَ فوت ما يُحِبّه عند مفارقة أحبّتِه تأسفاً على مفارقتهم وتلهفا عليهم على مهاجَرتهم فقيل على طريقة التمثيلِ حملاً له ﷺ على الحذر والإشفاق من ذلك
204
﴿فَلَعَلَّكَ باخع﴾ أي مُهلكٌ ﴿نفسك على آثارهم﴾ غماً ووجداً على فراقهم وقرئ بالإضافة ﴿إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث﴾ أي القرآنِ الذي عبّر عنه في صدر السورةِ بالكتاب وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقة بدلالة ما سبقَ عليه وقرئ بأنْ المفتوحةِ أي لأن لم يؤمنوا فإعمالُ باخعٌ يحمله على حكاية حالٍ ماضيةٍ لاستحضار الصورةِ كما في قوله عز وجل باسط ذارعيه ﴿أَسَفاً﴾ مفعولٌ له لباخعٌ أي لِفَرْط الحزنِ والغضبِ أو حالٌ مما فيه من الضمير أي متأسفاً عليهم ويجوز حملُ النظمِ الكريم على الاستعارة التبعيةِ بجعل التشبيهِ بين أجزاءِ الطرفين لا بين الهيئتين المنتزَعتين منهما كما في التمثيل وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير قوله تعالى خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ
﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض﴾ استئنافٌ وتعليلٌ لما في لعل من معنى الإشفاقِ أي إنا جعلنا ما عليها ممن عدا مَنْ وُجّه إليه التكليفُ من الزخارف حيواناً كان أو نباتاً أو معدِناً كقوله تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً ﴿زِينَةُ﴾ مفعولٌ ثانٍ للجعل إن حُمل على معنى التصييرِ أو حالٌ إن حمل على معنى الإبداعِ واللام في ﴿لَهَا﴾ إما متعلقةٌ بزينةً أو بمحذوف هو صفة لها أي كائنةً لها أي ليتمتع بها الناظرون من المكلفين وينتفعوا بها نظراً واستدلالاً فإن الحياتِ والعقاربَ من حيث تذكيرُهما لعذاب الآخرة من قبيل المنافِع بل كلُّ حادثٍ داخلٌ تحت الزينة من حيث دَلالتُه على وجود الصانعِ ووَحدتِه فإن الأزواجَ والأولادَ أيضاً من زينة الحياةِ الدنيا بل أعظمُها ولا يمنع ذلك كونُهم من جملة المكلفين فإنهم من جهة انتسابهم إلى أصحابهم داخلون تحت الزينةِ ومن جهة كونهم مكلفين داخلون تحت الابتلاء ﴿لِنَبْلُوَهُمْ﴾ متعلقٌ بجعلنا أي جعلنا ما جعلنا لنعاملَهم معاملةَ من يختبرهم ﴿أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ فنجازيهم بالثواب والعقابِ حسبما تبيَّن المحسنُ من المسيء وامتازت طبقاتُ أفرادِ كلَ من الفريقينِ حسب امتياز مراتب علوهم المرتبة ٢٠٥
204
الإسراء ٨ ٩ على أنظارهم وتفاوتِ درجاتِ أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك كما قررناه في مطلع سورة هود وأيُّ إما استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداء وأحسنُ خبرُها والجملةُ في محل النصبِ معلِّقةٌ لفعل البلوى لما فيه من معنى العلمِ باعتبار عاقبتِه كالسؤال والنظرِ ولذلك أجريَ مَجراه بطريقِ التمثيلِ أو الاستعارةِ التبعية وإما موصولةٌ بمعنى الذي وأحسن خبر مبتدا مضمر والجملةُ صلةٌ لها وهي في حيز النصبِ بدلٌ من مفعول لنبلوَهم والتقديرُ لنبلوَ الذي هو أحسنُ عملاً فحينئذ يحتمل أن تكون الضمةُ في أيُّهم للبناء كما في قوله عز وجل ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً على أحد الأقوالِ لتحقق شرط البناءِ الذي هو الإضافةُ لفظاً وحذفُ صدرِ الصلةِ وأن تكون للإعراب لأن ما ذكر شرطٌ لجواز البناءِ لا لوجوبه وحُسنُ العملِ الزهدُ فيها وعدمُ الاغترار بها والقناعةُ باليسير منها وصرفُها على ما ينبغي والتأملُ في شأنها وجعلُها ذريعةً إلى معرفة خالقِها والتمتعُ بها حسبما أذِن له الشرعُ وأداءُ حقوقها والشكرُ لها لا اتخاذُها وسيلةً إلى الشهوات والأغراضِ الفاسدة كما يفعله الكفرةُ وأصحاب الأهواء وإيرادُ صيغةِ التفضيلِ معَ أن الابتلاء شاملٌ للفريقين باعتبارِ أعمالهِم المنقسمةِ إلى الحسنِ والقبيحِ أيضاً لا إلى الحسنِ والأحسَن فقطْ للإشعار بأن الغاية الأصلية للجعل المذكور إنما هو ظهورُ كمالِ إحسانِ المحسنين على ما حقق في تفسيرِ قولِه تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً
205
﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ﴾ فيما سيأتي عند تناهي عُمرِ الدنيا ﴿مَا عَلَيْهَا﴾ من المخلوقات قاطبةً بإفنائها بالكلية وإنما أظهر في مقام الإضمارِ لزيادة التقريرِ أو لإدراج المكلفين فيه ﴿صَعِيداً﴾ مفعولٌ ثانٍ للجعل والصعيدُ الترابُ أو وجهُ الأرضِ قال أبو عبيدةَ هُو المستوي من الأرض وقال الزجاجُ هو الطريق الذي لانبات فيه ﴿جُرُزاً﴾ تراباً لا نباتَ فيه بعد ما كان يَتعجَّب من بهجته النُّظارُ وتتشرف بمشاهدته الأبصارُ يقال أرضٌ جرُزٌ لا نباتَ فيها وسَنةٌ جرُزٌ لا مطر فيها قال الفراء جُرِزَت الأرضُ فهي مجرُوزة أي ذهب نباتُها بقحط أو جراد ويقال جرَزها الجرادُ والشاةُ والإبلُ إذا أكلت ما عليها وهذه الجملةُ لتكميل ما في السابقة من التعليل والمعنى لا تحزنْ بما عاينْتَ من القوم من تكذيب ما أنزلنا عليك من الكتاب فإنا قد جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض من فنون الاشياء زينة لها لنختبرَ أعمالَهم فنجازِيَهم بحسبها وإنا لَمُفْنون جميعَ ذلك عن قريب ومجازون لهم بحسب أعمالهم
﴿أم حسبتم﴾ الخطاب لرسول الله ﷺ والمرادُ إنكارُ حُسبانِ أمّته وأم منقطعةٌ مقدرةٌ ببل التي هي للانتقال من حديث إلى حديث لا للابطال وبهمزة الاستفهام عند الجمهور وببل وحدها عند غيرِهم أي بل أحسبت ﴿أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم كَانُواْ﴾ في بقائهم على الحياة مدةً طويلةً من الدهر ﴿من آياتنا﴾ من بين آياتِنا التي من جملتها ما ذكرناه مِنْ جعْل مَا عَلَى الأرض زِينَةً لها للحكمة المشارِ إليها ثم جعلِ ذلك كلِّه صعيداً جرُزاً كأن لم تغْنَ بالأمس ﴿عَجَبًا﴾ أي آيةً ذاتَ عجَبٍ وضْعاً له موضعَ المضاف أو وصفاً لذلك بالمصدر مبالغةً وهو خبرٌ لكانوا ومن آياتنا حالٌ منه والمعنى أن قصّتَهم وإن كانت خارقةً للعادات ليست بعجيبة بالنسبة
205
الكهف ١٠ ١١ إلى سائر الآياتِ التي من جملتها ما ذكر من تعاجيب خلق الله تعالى بل هي عندها كالنزْر الحقير والكهفُ الغارُ الواسعُ في الجبل والرقيمُ كلبُهم قال أميَّةُ بنُ أبي الصَّلت... وليس بها إلا الرقيمُ مجاورا... وصيدُهمُ والقومُ في الكهف هُمَّدُ...
وقيل هو لوحٌ رصاصيٌّ أو حجَري رُقمت فيه أسماؤُهم وجُعل على باب الكهفِ وقيل هو الوادي الذي فيه الكهفُ فهو من رَقْمة الوادي أي جانبِه وقيل الجبلُ وقيل قريتُهم وقيل مكانُهم بين غضبانَ وأيْلةَ دون فلسطين وقيل أصحابُ الرقيم آخرون وكانوا ثلاثةً انطبق عليهم الغارُ فنجَوْا بذكر كلَ منهم أحسنَ عمله على ما فصل في الصحيحين
206
﴿إِذْ أَوَى﴾ ظرفٌ لعجباً لا لحسِبتَ أو مفعولٌ لا ذكر أي حين التجأ ﴿الفتية﴾ أي أصحابُ الكهف أوثر الإظهارُ على الإضمار لتحقيق ما كانُوا عليهِ في أنفسهم من حال الفتوةِ فإنهم كانوا فتيةً من أشراف الرومِ أرادهم دقيانوسُ على الشرك فهربوا منه بدينهم ولأن صاحبيّةَ الكهف من فروع التجائِهم إلى الكهف فلا يناسب اعتبارُها معهم قبل بيانه ﴿إِلَى الكهف﴾ بجبلهم للجلوس واتخذوه مأوى ﴿فَقَالُواْ ربنا آتنا مِن لَّدُنكَ﴾ من خزائن رحمتِك الخاصةِ المكنونةِ عن عيون أهلِ العادات فمن ابتدائية متعلقة بآيتنا أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعوله الثاني قُدِّمت عليهِ لكونِه نكرةٌ ولو تأخرتْ لكانتْ صفةً له أي آتنا كائنةً من لدنك ﴿رَحْمَةً﴾ خاصةً تستوجب المغفرةَ والرزقَ والأمنَ من الأعداء ﴿وهيئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا﴾ الذي نحن عليه من مهاجَرة الكفارِ والمثابرة على طاعتك وأصلُ التهيئةِ إحداثُ هيئةِ الشي أي أصلحْ ورتِّب وأتممْ لنا من أمرنا ﴿رَشَدًا﴾ إصابةً للطريق الموصلِ إلى المطلوب واهتداءً إليه وكِلا الجارين متعلق بهيء لاختلافهما في المعنى وتقديمُ المجرورين على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بهما وإبرازِ الرغبةِ في المؤخَّر بتقديمِ أحوالِه فإن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ عما هو من أحواله المُرَغّبة فيه كما يورث شوقَ السامعِ إلى وروده يُنبىء عن كمال رغبةِ المتكلّمِ فيه واعتنائِه بحصوله لا محالة وكذا الكلامُ في تقديم قوله تعالى مِن لَّدُنْكَ على تقدير تعلّقِه بآتنا وتقديمُ لنا على من أمرنا للإيذانِ من أولِ الأمرِ يكون المسئول مرغوباً فيه لديهم أو اجعل أمرنا رشدا كلَّه على أن من تجريديةٌ مثلُها في قولك رأيتُ منك أسداً
﴿فضربنا على آذانهم﴾ أي أَنَمناهم على طريقة التمثيل المبنيِّ على تشبيه الإنامةِ الثقيلةِ المانعةِ عن وصول الأصواتِ إلى الآذان بضرب الحجابِ عليها وتخصيصُ الآذان بالذكر مع اشتراك سائرِ المشاعرِ لها في الحجْب عن الشعور عند النومِ لما أنها المحتاجُ إلى الحجب عادة إذ هي الطريقةُ للتيقظ غالباً لا سيما عند انفرادِ النائم واعتزالِه عن الخلق وقيل الضربُ على الآذان كنايةٌ عن الإنامة الثقيلةِ وحملُه على تعطيلها كما في قولهم ضرب الأميرُ على يد الرعيةِ أي منعهم من التصرف مع عدم ملاءمتِه لما سيأتي من البعث لا يدل على النوم مع أنه المرادُ قطعاً والفاء في فضربنا كما في قوله عز وجل فاستجبنا لَهُ بعد قوله تعالى إِذْ نادى فإن الضربَ المذكور وما ترتب عليه من التقليب ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال والبعثِ وغير ذلك
206
الكهف ١٢ إيتاءُ رحمةً لدنيّةٍ خافيةٍ عن أبصار المتمسكين بالأسباب العادية استجابةً لدعوتهم ﴿فِى الكهف﴾ ظرف مكان لضربنا ﴿سِنِينَ﴾ ظرفُ زمان له باعتبار بقائِه لا ابتدائِه ﴿عَدَدًا﴾ أي ذواتَ عدد أو تُعدّ عدداً على أنَّه مصدرٌ أو معدودةً على أنَّه بمعنى المفعولِ ووصفُ السنين بذلك إما للتكثير وهو الأنسبُ بإظهار كمالِ القدرةِ أو للتقليل وهو الأليقُ بمقام إنكارِ كون القصةِ عجباً من بين سائر الآياتِ العجيبة فإن مدة لُبثهم كبعض يوم عنده عز وجل
207
﴿ثُمَّ بعثناهم﴾ أي أيقظناهم من تلك النومةِ الثقيلة الشبيهة بالموت ﴿لَنَعْلَمُ﴾ بنون العظمة وقرئ بالياء مبنياً للفاعل بطريق الالتفاتِ وأيا ما كان فهو غايةٌ للبعث لكن لا يجعل العلمِ مجازاً من الإظهار والتمييز أو بحمله على ما يصِح وقوعُه غايةً للبعث الحادثِ من العلم الحالي الذي يتعلق به الجزاءُ كما في قوله تعالى إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يتبعُ الرسولَ مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ وقولُه تعالَى وليعلمَ الله الذين آمنوا ونظائِرهما التي يتحقق فيها العلمُ بتحقق متعلقِه قطعاً فإن تحويلَ القِبلة قد ترتب عليه تحزّبُ الناس إلى متّبعٍ ومنقلب وكذا مداولةُ الأيامِ بين الناس ترتب عليه تحزّبُهم إلى الثابت على الإيمان والمتزلزلِ فيه وتعلق بكل من الفريقين العلمُ الحالي والإظهارُ والتمييزُ وأما بعثُ هؤلاء فلم يترتب عليه تفرقُهم إلى المَحْصيِّ وغيره حتى يتعلق بهما العلم أو الإظهارُ والتمييزُ ويتسنى نظمُ شيء من ذلك في سلك الغاية وإنما الذي تربت عليه تفرقُهم إلى مقدِّر تقديراً غيرَ مصيب ومفوِّض إلى العلم الرباني وليس شيءٌ منهما من الإحصاء في شيء بل يحمل النظمِ الكريمُ على التمثيل المبنيِّ على جعل العلمِ عبارةً عن الاختبار مجازاً بطريق إطلاقِ اسمِ المسبَّب على السبب وليس من ضرورة الاختبارِ صدورُ الفعل المختبَرِ به عن المختبَرِ قطعاً بل قد يكون لإظهار عجزِه عنه على سنن التكاليفِ التعجيزيةِ كقوله تعالى فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب وهو المراد ههنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملةَ من يختبرهم ﴿أَيُّ الحِزْبَيْنِ﴾ أي الفريقين المختلفَين في مدة لُبثهم بالتقدير والتفويض كما سيأتي ﴿أحصى﴾ أي أضبط ﴿لِمَا لَبِثُواْ﴾ أي للبثهم ﴿أَمَدًا﴾ أي غايةً فيظهر لهم عجزُهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير وليتعرفوا حالَهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانِهم وأديانِهم فيزدادوا يقيناً بكمال قدرتِه وعلمِه ويستبصروا به أمرَ البعث ويكون ذلك لطفاً لمؤمني زمانِهم وآيةً بينة لكفارهم وقد اقتصر ههنا من تلك الغايات الجليلةِ على ذكر مبدئِها الصادرِ عنه عز وجل وفيما سيأتي على ما صدرَ عنهُم من التساؤل المؤدّي إليها وهذا أولى من تصوير التمثيلِ بأن يقال بعثناهم بعْثَ من يريد أن يَعلمَ الخ حسبما وقع في تفسيرِ قولِه تعالى وليعلمَ الله الذين آمنوا على أحد الوجوهِ حيث حُمل على معنى فعلنا ذلك فِعْلَ مَن يُريد أنْ يَعلمَ مَن الثابتُ على الإيمان من غير الثابت إذ ربما يتوهم منه استلزامُ الإرادةِ لتحقق المراد فيعود المحذورُ فيصار إلى جعل إرادةِ العلم عبارةً عن الاختبار فاختبر واختر هذا وقد قرئ ليُعْلِمَ مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل من الإعلام على أن المفعولَ الأولَ محذوفٌ والجملة المصدرةُ بأي فِي مَوْقعِ المفعولِ الثانِي فقط إن جعل العلمُ عِرفانياً أوفى موقع المفعولين إن جعل يقينيا أي ليعمل الله الناسَ أيَّ الحزبين أحصى الخ وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أحدَ الحزبين الفتيةُ والآخرَ الملوكُ الذين تداولوا المدينةَ مُلكاً
207
بعد ملك وقيل كلاهما من غيرهم والأولُ هو الأظهرُ فإن اللامَ للعهد ولا عهدَ لغيرهم والأمدُ بمعنى المدى كالغاية في قولهم ابتداءُ الغاية وانتهاءُ الغاية وهو مفعولٌ لأحصي والجارُّ والمجرور حالٌ منه قُدِّمت عليهِ لكونِه نكرةٌ وليس معنى إحصاءِ تلك المدةِ ضبطَها من حيث كميتُها المتصلةُ الذاتيةُ فإنه لا يسمى إحصاءً بل ضبطَها من حيث كميتُها المفصلة العارضةُ لها باعتبار قسمتِها إلى السنينَ وبلوغها من تلك الحيثيةِ إلى مراتبِ الأعداد على ما يرشدك إليه كونُ تلك المدة عبارةٌ عمَّا سبقَ من السنين ويجوز أن يراد بالأمد معناه الوضعيُّ بتقدير المضافِ أي لزمان لُبثِهم وبدونه أيضاً فإن الُلبثَ عبارةٌ عن الكون المستمرِّ المنطبق على الزمان المذكورِ فباعتبار الامتدادِ العارضِ له بسبه يكون له أمدٌ لا محالة لكن ليس المارد به ما يقع غايةً ومنتهًى لذلك الكونِ المستمرِّ باعتبار كميتِه المتصلةِ العارضةِ له بسبب انطباقِه على الزمان الممتدِّ بالذات وهو آنُ انبعاثِهم من نومهم فإن معرفتَه من تلك الحيثيةِ لا تخفى على أحد ولا تسمّى إحصاءكما مر بل باعتبار كميّتِه المفصلة معارضة له بسبب عروضوها لزمانه المنطبقِ هو عليه باعتبار انقسامِه إلى السنين ووصولِه إلى مرتبة معينةٍ من مراتب العددِ كما حقق في الصورة الأولى والفرقُ بين الاعتبارين أن ما تعلق به الإحصاءُ في الصورة السابقةِ نفسُ المدة المقسمة إلى السنين فهو مجموعُ ثلثمائة وتسعِ سنين وفي الصورة الأخيرةِ منتهى تلك المدةِ المنقسمة إلهيا أعني السنةَ التاسعةَ بعد الثلثمائة وتعلقُ الإحصاءِ بالأمد بالمعنى الأول ظاهرٌ وأما تعلقُه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامِه لما تحته من مراتب العددِ واشتمالِه عليها هذا على تقديرِ كونِ ما في قوله تعالى لِمَا لَبِثُواْ مصدريةً ويجوز أن تكون موصولةً حُذف عائدُها من الصلة أي للذي لبثوا فيه من الزمان الذي عبّر عنه فيما قبل بسنينَ عدداً فالأمدُ بمعناه الوضعيِّ على ما تحققْتَه وقيل اللامُ مزيدةٌ والموصولُ مفعولٌ وأمداً نصبٌ على التمييز وأما ما قيل من أن أحصى اسمُ تفضيل لأنه الموافقُ لما وقع في سائر الآيات الكريمةِ نحوُ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً إلى غير ذلك مما لا يحصى ولأن كونَه فعلاً ماضياً يُشعر بأن غايةَ البعث هو العلم بالإحصاء المتقدمِ على البعث لا بالإحصاء المتأخرِ عنه وليس كذلك وادعاءُ أن مجيءَ أفعل التفضيل من المزيدة عليه غيرُ قياسي مدفوعٌ بأنه عند سيبويهِ قياسٌ مطلقاً وعند ابن عصفورٍ فيما ليست همزتُه للنقل ولا ريب في أن ما نحن فيه من ذلك القبيلِ وامتناعُ عمله إنما هو في غير التمييز من المعمولات وأما أن التمييزَ يجب كونُه فاعلاً في المعنى فلمانعٍ أن يمنعَه بصحة أن يقال أيُّهم أحفظُ لهذا الشعر وزناً أو تقطيعاً أو يقالَ إن العاملَ في أمداً فعلٌ محذوفٌ يدلُّ عليه المذكور أي يُحصي لما لبثوا أمداً كما في قوله [وأضرَبُ منا بالسيوف القوانسا] وحديثُ الوقوع في المحذور بلا فائدة مدفوعٌ بما أشير إليه من فائدة الموافقةِ للنظائر فمع ما فيه من الاعتسافِ والخللِ بمعزل من السَّداد لأن مؤداه أن يكون المقصود بالإخبار إظهارَ أفضلِ الحزبين وتمييزَه عن الأدنى مع تحقق أصلِ الإحصاء فيهما ومن البيِّنِ أنْ لا تحقُّقَ له أصلاً وأن المقصودَ بالاختبار إظهارُ عجزِ الكلِّ عنه رأساً فهو فعل ماضٍ قطعاً وتوهُم إيذانِه بأن غاية البعث هو العلمُ بالإحصاء المتقدمِ عليه مردودٌ بأن صيغةَ الماضي باعتبار حالِ الحكايةِ والله تعالى أعلم
208
الكهف
209
١٣ - ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ شروعٌ في تفصيل ما أجمل فيما سلف من قوله تعالى إِذْ أَوَى الفتية الخ أي نحن نخبرك بتفاصيل أخبارِهم وقد مر بيانُ اشتقاقِه في مطلع سورة يوسف عليه السلام ﴿نبَأَهُم﴾ النبأُ الخبرُ الذي له شأنٌ وخطرٌ ﴿بالحق﴾ إما صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضميرِ نقصّ أو من نبأَهم أو صفةٌ له على رأي من يرى حذفَ الموصول مع بعض صلته أي نقصّ قَصصاً ملتبساً بالحق أو نقصّه ملتبسين به أو نقص نبأهم ملتبساً به أو نبأهم الملتبس به أو نبأهم حسبما ذكره محمدُ بن إسحاقَ بنِ يسارَ أنه قد مرَج أهلُ الإنجيل وعظُمت فيهم الخطايا وطغت ملوكُهم فعبدوا الأصنامَ وذبحوا للطواغيت وكان ممن بالغ في ذلك وعتا عتوًّا كبيراً دقيانوس فإنه غلا فيه غلوًّا شديداً فجاس خلالَ الديار والبلاد بالعيث والفسادِ وقتل مَنْ خالفه من المتمسكين بدين المسيحِ عليه السلام وكان يتبع الناسَ فيخيّرهم بين القتل وعبادةِ الأوثانِ فمن رغِب في الحياة الدنيا الدنية يصنع ما يصنع ومن آثر عليها الحياةَ الأبديةَ قتله وقطع آرابه وعلقها في سور المدينةِ وأبوابِها فلما رأى الفتيةُ ذلك وكانوا عظماءَ أهلِ مدينتهم وقيل كانوا من خواصّ الملك قاموا فتضرعوا إلى الله عزَّ وجلَّ واشتغلوا بالصلاة والدعاء فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوانُ الجبار فأحضروهم بين يديه فقال لهم ما قال وخيّرهم بين القتل وبين عبادةِ الأوثان فقالوا إن لنا إلها ملأ السمواتِ والأرضَ عظمتُه وجبورته لن ندعوَ من دونه أحدا ولن نقر لما تدعونا إليه إبداً فاقضِ مَا أَنتَ قاضٍ فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخر وأخرجهم من عنده وخرج هو إلى مدينة نينوى لبعض شأنِه وأمهلهم إلى رجوعه ليتأملوا في أمرهم فإن تبِعوه وإلا فُعل بهم ما فُعل بسائر المسلمين فأزمعت الفتيةُ على الفرار بالدين والالتجاء إلى الكهف الحصين فأخذ كل منهم من بيت أبيه شيئاً فتصدّقوا ببعضه وتزوّدوا بالباقي فأوَوا إلى الكهف فجعلوا يصلّون فيه آناءَ الليل وأطرافَ النهار ويبتهلون إلى الله سبحانه بالأنين والجُؤار وفوّضوا أمرَ نفقتِهم إلى يمليخا فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابَه الحِسانَ ويلبس لباس المساكين ويدخُل المدينة ويشتري ما يُهمّهم ويتحسس ما فيها من الأخبار ويعود إلى أصحابه فلبِثوا على ذلك إلى أنْ قدم الجبارُ إلى المدينةَ فطلبهم وأحضر آباءَهم فاعتذروا بأنهم عصوهم ونهبوا أموالَهم وبذروها في الأسواق وفرّوا إلى الجبل فلما رأى يمليخا ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه قليلٌ من الزاد فأخبرهم بما شهده من الهول ففزعوا إلى الله عزَّ وجلَّ وخرّوا له سُجّداً ثم رفعوا رءوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم فينماهم كذلك إذ ضرب الله تعالى على آذانهم فناموا ونفقتهم عند رءوسهم فخرج دقيانوس في طلبهم بخيله ورَجِلِه فوجدوهم قد دخلوا الكهفَ فأمر بإخراجهم فلم يُطِق أحدٌ أن يدخله فلما ضاق بهم ذرعاً قال قائل منهم أليس لو كنتَ قدَرتَ عليهم قتلتَهم قال بلى قال فابْنِ عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعاً وعطشاً وليكن كهفُهم قبراً لهم ففعل ثم كان من شأنهم ما قص الله عز وجل عنهم ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ﴾ استئنافٌ تحقيقيٌّ مبني على تقدير السؤالِ من قبل المخاطَب والفتيةُ جمعُ قلة للفتى كالصبية للصبي ﴿آمنوا بربهم﴾ أوثر
209
الكهف ١٤ ١٥ الالتفاتُ للإشعار بعلّية وصفِ الربوبية لإيمانهم ولمراعاة ما صدرَ عنهُم من المقالة حسبما سيُحكى عنهم ﴿وزدناهم هُدًى﴾ بأن ثبتناهم على ما كانُوا عليهِ من الدين وأظهرنا لهم مكنوناتِ محاسنِه وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى ما عليه سبكُ النظمِ سباقاً وسياقاً من التكلم
210
﴿وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ﴾ أي قويناها حتى اقتحموا مضايقَ الصبر على هجر الأهلِ والأوطان والنعيم والإخوان واجترؤا على الصدْع بالحق من غير خوف وحذار والرد على دقيانوسَ الجبار ﴿إِذْ قَامُواْ﴾ منصوبٌ بربطنا والمرادُ بقيامهم انتصابُهم لإظهار شعارِ الدين قال مجاهد خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعادٍ فقال أكبرُهم إني لأجد في نفسي شيئاً أن ربي ربُّ السمواتِ والأرض فقالوا نحن أيضاً كذلك فقاموا جميعاً ﴿فقالوا ربنا رب السماوات والأرض﴾ ضمّنوا دعواهم ما يحقق فحواها ويقضي بمقتضاها فإن ربوبيته عز وجل لهما تقتضي ربوبيتَه لما فيهما أيَّ اقتضاءٍ وقيل المراد قيامُهم بين يدي الجبارِ من غير مبالاةٍ به حين عاتبهم على ترك عبادةِ الأصنام فحينئذ يكون ما سيأتِي من قولِه تعالى هَؤُلاء الخ منقطعاً عما قبله صادراً عنهم بعد خروجِهم من عنده ﴿لَن نَّدْعُوَاْ﴾ لن نعبدَ أبداً ﴿مِن دُونِهِ إلها﴾ معبوداً آخرَ لا استقلالاً ولا اشتراكاً والعدولُ عن أن يقال ربًّا للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامَهم آلهةً وللإشعار بأن مدارَ العبادة وصفُ الألوهية وللإيذان بأن ربوبيتَه تعالى بطريق الألوهيةِ لا بطريق المالكية المجازية ﴿لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ أي قولاً ذَا شططٍ أي تجاوزَ عن الحد أو قولاً هو عينُ الشطط على أنه وُصفَ بالمصدر مبالغةً ثم اقتُصر على الوصف مبالغةً على مبالغة وحيث كانت العبادةُ مستلزِمةً للقول لما أنها لا تَعرَى عن الاعتراف بألوهية المعبودِ والتضرّعِ إليه قيل لقد قلنا وإذاً جوابٌ وجزاءٌ أي لو دعَونا من دونه إلها والله لقد قلنا قولاً خارجاً عن حد العقولِ مُفْرِطاً في الظلم
﴿هَؤُلاء﴾ هو مبتدأ وفي اسم الإشارةِ تحقيرٌ لهم ﴿قَوْمُنَا﴾ عطفُ بيانٍ له ﴿اتخذوا من دونه آلهة﴾ خبرُه وفيه معنى الإنكار ﴿لولا يأتون﴾ تحضيض فيه معنى الإنكارِ والتعجيزِ أي هلا يأتون ﴿عَلَيْهِمْ﴾ على ألوهيتهم أو على صحة اتخاذِهم لها آلهةً ﴿بسلطان بَيّنٍ﴾ بحجة ظاهرةِ الدلالةِ على مُدّعاهم وهو تبكيتٌ لهم وإلقامُ حجرٍ ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا﴾ بنسبة الشريكِ إليهِ تعالَى عن ذلكَ عُلواً كبيراً والمعنى أنه أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ وإن كان سبك النظمِ على إنكار الأظلميةِ من غير تعرّضٍ لإنكار المساواة كما مرَّ تحقيقُهُ في سورة هود
210
الكهف
211
١٦ - ١٧ ﴿وَإِذِ اعتزلتموهم﴾ أي فارقتموهم في الاعتقاد أو أردتم الاعتزالَ الجُسمانيَّ ﴿وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله﴾ عطفٌ على الضمير المنصوبِ وما موصولةٌ أو مصدريةٌ أي إذِ اعتزلتموهم ومعبودِيهم إلا الله أو وعبادتَهم إلا عبادةَ الله وعلى التقديرين فالاستثناءُ متصلٌ على تقدير كونِهم مشركين كأهل مكةَ ومنقطعٌ على تقدير تمحضهم في عبادة الأوثان ويجوز كونُ ما نافيةً على أنه إخبارٌ من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترضٌ بين إذْ وجوابِه ﴿فَأْوُواْ﴾ أي التجِئوا ﴿إِلَى الكهف﴾ قال الفراء هو جوابُ إذ كما تقول إذْ فعلتَ فافعل كذا وقيل هو دليلٌ على جوابه أي إذ اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقادياً فاعتزلوهم اعتزالاً جُسمانياً أو إذا أردتم اعتزالَهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف ﴿يَنْشُرْ لَكُمْ﴾ يبسُطْ لكم ويوسِّعْ عليكم ﴿رَبُّكُمْ﴾ مالكُ أمرِكم ﴿مّن رَّحْمَتِهِ﴾ في الدارين ﴿ويهيئ لَكُمْ﴾ يسهلْ لكم ﴿مّنْ أَمْرِكُمْ﴾ الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين ﴿مّرْفَقًا﴾ ما ترتفقون وتنتفعون به وقرئ بفتح الميم وكسر الفاء مصدراً كالمرِجع وتقديمُ لكم في الموضعين لما مر مرارا من الإيذانُ من أول الأمرِ بكون المؤخر من منافعِهم والتشويقِ إلى وروده
﴿وَتَرَى الشمس﴾ بيانٌ لحالهم بعد ما أَوَوا إلى الكهف ولم يصرَّح به إيذانا بعدم الحاجة إليه لظهور جرَيانِهم على موجب الأمرِ به لكونه صادراً عن رأي صائبٍ وتعويلاً على ما سلف من قوله سبحانه إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف وما لحق من إضافة الكهفِ إليهم وكونِهم في فجوة منه والخطاب للرسول صلى لله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب وليس المرادُ به الإخبارَ بوقوع الرؤيةِ تحقيقاً بل الإنباءُ بكون الكهفِ بحيث لو رأيته ترى الشمس ﴿إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ﴾ أي تتزاوَر وتتنحّى بحذف إحدى التاءين وقرئ بإدغام التاء في الزاي وتزور كتخمر وتزوار كتخمار وتزوئر وكلها من الزَّوَر وهو الميل ﴿عَن كَهْفِهِمْ﴾ الذي أووا إليه فالإضافة لأدنى ملابسة ﴿ذَاتَ اليمين﴾ أي جهةَ ذاتِ يمين الكهفِ عند توجه الداخلِ إلى قعره أي جانبه الذي يلي المغرِبَ فلا يقع عليهم شعاعُها فيؤذيهم ﴿وَإِذَا غَرَبَت﴾ أي تراها عند غروبها ﴿تَّقْرِضُهُمْ﴾ أي تقطَعهم من القطيعة والصَّرْم ولا تقربهم ﴿ذَاتَ الشمال﴾ أي جهةَ ذاتِ شمال الكهف أي جانبه الذي يلي المشرِق وكان ذلك بتصريف الله سبحانه على منهاج خرقِ العادةِ كرامةً لهم وقوله تعالى ﴿وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ﴾ جملةٌ حالية مبينةٌ لكون ذلك أمراً بديعاً أي تراها تميل عنهم يميناً وشمالاً ولا تحوم حولهم مع أنهم في متّسع من الكهف معرَّضٍ لإصابتها لولا أن عرفتها عنهم يدُ التقدير ﴿ذلك﴾ أي ما صنع الله بهم من تزاوُر الشمسِ وقَرْضِها حالتي الطلوعِ والغروب
211
الكهف ١٨ مع كونهم في موقع شعاعِها ﴿مِنْ آيات الله﴾ العجيبةِ الدالةِ على كمال علمِه وقدرتِه وحقية التوحيدِ وكرامةِ أهله عنده سبحانه وتعالى وهذا قبل أن سد دقيانوسُ بابَ الكهف وقيل كان بابَ الكهف شمالياً مستقبلَ بناتِ نْعشٍ وأقربُ المشارقِ والمغاربِ إلى محاذاته رأسُ مشرِق السرَطان ومغربِه والشمسُ إذا كان مدارُها مدارَه تطلُع مائلةً عنه مقابلةً لجانبه الأيمن وهو الذين يلي المغربَ وتغرُب محاذيةً لجانبه الأيسرِ فيقع شعاعُها على جنبيه وتحلّل عفونتَه وتعدّل هواءه ولا يقع عليهم فيؤذي أجسادَهم ويُبْلي ثيابَهم ولعل ميلَ الباب إلى جانب الغرب كان أكثر ولذلك أوقع التزاورَ على كهفهم والقرضَ على أنفسهم فذلك حينئذ إشارةٌ إلى إيوائهم إلى كهف هذا شأنُه وأمَّا جعلُه إشارةً إلى حفظ الله سبحانه إياهم في ذلك الكهفِ تلك المدةَ الطويلةَ أو إلى إطلاعه سبحانه لرسوله ﷺ على أخبارهم فلا يساعده إيرادُه في تضاعيف القِصّةِ ﴿مَن يَهْدِ الله﴾ إلى الحق بالتوفيق له ﴿فَهُوَ المهتد﴾ الذي أصاب الفلاحَ والمرادُ إما الثناءُ عليهم والشهادةُ لهم بإصابة المطلوبِ والإخبارُ بتحقيق ما أمّلوه من نشر الرحمةِ وتهيئةِ المرافق أو التنبيهُ على أن أمثالَ هذه الآيةِ كثيرةٌ ولكن المنتفعَ بها من وفقه الله تعالى للاستبصار بها ﴿وَمَن يُضْلِلِ﴾ أي يخلق فيه الضلال لصرف اختيارِه إليه ﴿فَلَن تَجِدَ لَهُ﴾ أبداً وإن بالغتَ في التتبع والاستقصاء ﴿وَلِيّاً﴾ ناصراً ﴿مُّرْشِدًا﴾ يهديه إلى ما ذكر من الفلاح لاستحالة وجودِه في نفسه لا أنك لا تجده مع وجوده أو إمكانه
212
﴿وتحسبهم﴾ بفتح السين وقرئ بكسرها أيضاً والخطابُ فيه كما سبق ﴿أَيْقَاظًا﴾ جمع يَقظ بكسر القاف وفتحها وهو اليقظانُ ومدارُ الحسبانِ انفتاحُ عيونِهم على هيئة الناظرِ وقيل كثرةُ تقلّبهم ولا يلائمه قوله تعالى وَنُقَلّبُهُمْ ﴿وَهُمْ رُقُودٌ﴾ أي نيام وهو تقريرٌ لما لم يُذْكَر فيما سلف اعتماداً على ذكره السابقِ من الضرب على آذانهم ﴿وَنُقَلّبُهُمْ﴾ في رقدتهم ﴿ذَاتَ اليمين﴾ نصبٌ على الظرفية أي جهةً تلي أَيمانهم ﴿وَذَاتَ الشمال﴾ أي جهةً تلي شمائلهم كيلا تأكلَ الأرضُ ما يليها من أبدانهم قال ابن عباس رضي الله عنهما لو لم يقلّبوا لأكلتْهم الأرضُ قيل لهم تقليبتان في السنة وقيل تقليبةٌ واحدةٌ يوم عاشوراءَ وقيل في كل تسع سنين وقرئ يقلبهم على الإسنادِ إلى ضميرِ الجلالة وتقَلُّبَهم على المصدر منصوبا بمضمر ينبئ عنه وتحسبهم أي وترى تقلّبَهم ﴿وَكَلْبُهُمْ﴾ قيل هو كلبٌ مروا به فتبعهم فطروده مرار فلم يرجِع فأنطقه الله تعالى فقال لا تخشَوا جانبي فإني أحب أحباءَ الله تعالى فناموا حتى أحرُسَكم وقيل هو كلبُ راعٍ قد تبعهم على دينهم ويؤيده قراءة كالبُهم إذا الظاهرُ لحوقُه بهم وقيل كلبُ صيد أحدِهم أو زرعِه أو غنمِه واختلف في لونه فقيل كان أنمرَ وقيل أصفرَ وقيل أصهبَ وقيل غير ذلك وقيل كان اسمُه قطمير وقيل ريان وقبل تتوه وقيل قطمورو قيل ثور قال خالدُ بنُ مَعْدان ليس في الجنة من الدواب إلا كلبُ أصحاب الكهف وحمار يلعم وقيل لم يكن ذلك من جنس الكلاب بل كان أسداً ﴿باسط ذِرَاعَيْهِ﴾ حكايةُ حالٍ ماضية ولذلك أعلم اسمُ الفاعل وعند الكسائي وهشام وأبي جعفر من البصريين يجوز
212
الكهف ١٩ إعمالُه مطلقاً والذراعُ من المرفق إلى رأس الأُصبَعِ الوسطى ﴿بالوصيد﴾ أي بموضع الباب من الكهف ﴿لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ﴾ أي لو عاينتَهم وشاهدتَهم وأصلُ الاطّلاع الإشرافُ على الشيء بالمعاينة والمشاهدة وقرئ بضم الواو ﴿لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا﴾ هرباً مما شاهدتَ منهم وهو إما نصبٌ على المصدرية من معنى ما قبله إذ التوليةُ والفِرارُ من واد واحدٍ وإما على الحالية يجعل المصدرِ بمعنى الفاعل أي فارا أو يجعل الفاعلِ مصدراً مبالغة كما في قولها فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ وإما على أنَّه مفعولٌ له ﴿وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ وقرئ بضم العين أي خوفاً يملأ الصدرَ ويُرعِبه وهو إما مفعولٌ ثانٍ أو تمييز ذلك لما ألبسهم الله عزَّ وجلَّ من الهيبة والهيئةِ كانت أعينُهم مفتّحةً كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وقيل لطول أظفارِهم وشعورِهم ولا يساعده قولُهم لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وقوله ولا يشعرون بِكُمْ أَحَدًا فإن الظاهرَ من ذلك عدمُ اختلافِ أحوالِهم في أنفسهم وقيل لعِظم أجرامِهم ولعل تأخيرَ هذا عن ذكر التوليةِ للإيذانِ باستقلالِ كلَ منهُما في الترتب على الاطلاع إذ لو رُوعيَ ترتيبُ الوجودِ لتبادرَ إلى الفهم ترتبُ المجموعِ من حيث هو هو عليه وللإشعار بعدم زوالِ الرعبِ بالفرار كما هو المعتادُ وعن معاوية لما غزا الروم فمرّ بالكهف قال لو كشفتَ لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس رضي الله عنهما ليس لك ذلك قد منع الله تعالى من هو خيرٌ منك حيث قال لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ الآية قال معاوية لا أنتهي حتى أعلمَ علمَهم فبعث ناساً وقال لهم اذهبوا فانظُروا ففعلوا فلما دخلوا الكهفَ بعثَ الله تعالى ريحاً فأحرقتهم وقرئ بتشديد اللام على التكثير وبإبدال الهمزةِ ياءً مع التخفيف والتشديد
213
﴿وكذلك بعثناهم﴾ أي كما أنمناهم وحفِظنا أجسادَهم من البِلى والتحلّل آيةً دالةً على كمال قدرتِنا بعثناهم من النوم ﴿لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ﴾ أي ليسأل بعضُهم بعضاً فيترتب عليه ما فُصّل من الحِكَم البالغةِ وجعلُه غايةً للبعث المعلّل فيما سبق بالاختبار من حيث إنه من أحكامه المترتبةِ عليه والاقتصارُ على ذكره لاستتباعه لسائر آثارِه ﴿قَالَ﴾ استئنافٌ لبيان تساؤلِهم ﴿قَائِلٌ مّنْهُمْ﴾ هو رئيسُهم واسمُه مكسليمنا ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ﴾ في منامكم لعله قاله لِما رأى من مخالفة حالِهم لما هو المعتادُ في الجملة ﴿قَالُواْ﴾ أي بعضُهم ﴿لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ قبل إنما قالوه لما أنهم دخلوا الكهفَ غُدوةً وكان انتباهُهم آخرَ النهار فقالوا لبثنا يوماً فلما رأَوا أن الشمسَ لم تغرُبْ بعْدُ قالوا أو بعضَ يوم وكان ذلك بناءً على الظن الغالب فلم يُعْزوا إلى الكذب ﴿قَالُواْ﴾ أي بعضٌ آخرُ منهم بما سنح لهم من الأدلة أو بإلهام من الله سبحانه ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ﴾ أي أنتم لا تعلمون مدة لبثِكم وإنما يعلمها الله سبحانه وهذا ردٌّ منهم على الأولين بأجملِ ما يكون من مراعاة حسن الأدب وبه يتحقق التحزبُ إلى الحزبين المعهودين فيما سبق وقد قيل القائلون جميعُهم ولكن في حالتين ولا يساعده النظمُ الكريم فإن الاستئنافَ في الحكاية والخطابَ في المحكيّ يقضي بأن الكلامَ جارٍ على منهاج المحاورة
213
الكهف ٢٠ ٢١ والمجاوبةِ وإلا لقيل ثم قالوا ربنا أعلمُ بما لبثنا ﴿فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة﴾ قالوه إعراضاً عن التعمق في البحث وإقبالاً على ما يُهمّهم بحسب الحالِ كما ينبئ عنه الفاءُ والورِقُ الفضةُ مضروبةً أو غيرَ مضروبة ووصفُها باسم الإشارةِ يُشعر بأن القائلَ ناولها بعضَ أصحابه ليشتريَ بها قوتَ يومهم ذلك وقرئ بسكون الراء وإدغام القافِ في الكاف وبكسر الواو وبسكون الراء مع الإدغام وحملُهم لها دليلٌ على أن التزودَ لا ينافي التوكلِ على الله تعالى ﴿فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا﴾ أي أهلِها ﴿أزكى﴾ أحلُّ وأطيبُ أو أكثرُ وأرخصُ ﴿طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ﴾ أي من ذلك الأزكى طعاماً ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾ وليتكلّف اللُّطفَ في المعاملة كيلا يُغبَنَ أو في الاستخفاء لئلا يُعرَف ﴿وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا﴾ من أهل المدينةِ فإنه يستدعي شيوعَ أخبارِكم أي لا يفعلنّ ما يؤدّي إلى ذلك فالنهيُ على الأول تأسيسٌ وعلى الثاني تأكيدٌ للأمر بالتلطف
214
﴿إِنَّهُمْ﴾ تعليلٌ لما سبقَ من الأمرِ والنَّهي أي لِيبالِغْ في التلطف وعدمِ الإشعار لأنهم ﴿إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ﴾ أي يطّلعوا عليكم أو يظفَروا بكم والضميرُ للأهل المقدّر في أيُّها ﴿يَرْجُمُوكُمْ﴾ إن ثبتُّم على ما أنتُم عليهِ ﴿أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ﴾ أي يصيروكم إلهيا ويُدخلوكم فيها كُرهاً من العَوْد بمعنى الصيْرورة كقوله تعالى أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا وقيل كانوا أولاً على دينهم وإيثارُ كلمةِ في على كلمة إلى للدِلالة على الاستقرار الذي هو أشدُّ شيءٍ عندهم كراهة وتقديم احتمال الرجم على احتمال الإعادةِ لأن الظاهرَ من حالهم هو الثباتُ على الدين المؤدي إليه وضميرُ الخطاب في المواضع الأربعة للمبالغة في محل المبعوثِ على الاستخفاء وحثِّ الباقين على الاهتمام بالتوصية فإن محاض النُّصحِ أدخلُ في القَبول واهتمامُ الإنسان بشأن نفسِه أكثروا أوفر ﴿وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا﴾ أي إن دخلتم فيها ولو بالكرُه والإلجاء لن تفوزوا بخير ﴿أَبَدًا﴾ لا في الدنيا ولا في الآخرة وفيه من التشديد في التحذير مالا يخفى
﴿وكذلك﴾ أي وكما أَنَمناهم وبعثناهم لما مرّ من ازديادهم في مراتب اليقينِ ﴿أَعْثَرْنَا﴾ أي أطلعْنا الناسَ ﴿عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ﴾ أي الذين أعثرناهم عليهم بما عاينوا من أحوالهم العجيبة ﴿إِنَّ وَعْدَ الله﴾ أي وعدَه بالبعث أوموعوده الذي هو البعثُ أو أن كل وعده أو كل موعودِه فيدخُل فيه وعدُه بالبعث أو البعث الموعودِ دخولاً أولياً ﴿حَقّ﴾ صادقٌ لا خُلْف فيه أو ثابتٌ لا مردَّ له لأن نومهم وانتباهم كحال من يموت ثم يُبعث ﴿وَأَنَّ الساعة﴾ أي القيامةَ التي هي عبارةٌ عن وقت بعثِ الخلائقِ جميعاً للحساب والجزاء ﴿لاَ رَيْبَ فِيهَا﴾ لا شك في قيامها فإن من شاهد أنه جل وعلا توفي نفوسهم وأمسكها ثلثمائة سنة وأكثرَ حافظاً أبدانَها من التحلل والتفتّت ثم أرسلها إليها لا يبقى له شائبةُ شك في أن وعدَه تعالى حقٌّ وأنه يبعث مَنْ فى القبور فيرد إليهم
214
الكهف ٢٢ أرواحَهم فيحاسبهم ويجزيهم بحسب أعمالم ﴿إِذْ يتنازعون﴾ ظرف لقوله أعثرنا قُدّم عليه الغايةُ إظهاراً لكمال العنايةِ بذكرها لا لقوله ليعلموا كما قيل لدِلالته على أن التنازعَ يحدُث بعد الإعثار وليس كذلك أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون ﴿بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ﴾ ليرتفع الخلافُ ويتبينَ الحقُّ قيل المتنازعُ فيه أمرُ دينهم حيث كانوا مختلفين في البعث فمِن مُقِرّ له وجاحدٍ به وقائلٍ يقول ببعث الأرواحِ دون الأجساد وآخرَ يقول ببعثهما معاً قيل كان ملكُ المدينة حينئذ رجلاً صالحاً مؤمناً وقد اختلف أهلُ مملكته في البعث حسبما فُصّل فدخل الملكُ بيتَه وأغلق بابه ولبس مِسْحاً وجلس على رماد وسأل ربه أن يظهر الحق فألقى الله عزَّ وجلَّ في نفس رجل من رعيانهم فهدَم ما سد به دقيانوسُ بابَ الكهف ليتخذه حظيرةً لغنمه فعند ذلك بعثهم الله تعالى فجرى بينهم من التقاول ما جرى روي أن المبعوثَ لما دخل المدينة أخرج الدرهمَ ليشتريَ به الطعامَ وكان على ضرب دقيانوس فاتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملكِ فقصّ عليه القِصة فقال بعضُهم إن آباءَنا أخبرونا بأن فتيةً فرّوا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاءِ فانطلق الملكُ وأهلُ المدينة من مسلم وكافر وأبصروهم وكلّموهم ثم قالت الفتيةُ للملك نستودعك الله ونعيذك به من شر الإنسِ والجنّ ثم رجعوا إلى مضاجعهم فماتوا فألقى الملكُ عليهم ثيابَه وجعل لكم منهم تابوتاً من ذهب فرآهم في المنام كارهين للذهب فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجداً وقيل لما انتهَوْا إلى الكهف قال لهم الفتى مكانَكم حتى أدخُل أولاً لئلا يفزَعوا فدخل فعمِيَ عليهم المدخلُ فبنَوا ثمةَ مسجداً وقيل المتنازعَ فيه أمرُ الفتية قبل بعثهم أي أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرَهم وما جرى بينهم وبين دقيانوسَ من الأحوال والأهوالِ ويتلقَّوْن ذلك من الأساطير وأفواهِ الرجال وعلى التقديرين فالفاء في قولِه عزَّ وجلَّ ﴿فَقَالُواْ﴾ فصيحةٌ أي أعثرناهم عليهم فرأوا ما رأوا فماتوا فَقَالُواْ أي قال بعضهم ﴿ابنوا عَلَيْهِمْ﴾ أي على باب كهفِهم ﴿بنيانا﴾ لئلا يتطرقَ إليهم الناسُ ضنا يتربتهم ومحافظةً عليها وقوله تعالى ﴿رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ﴾ من كلام المتنازِعين كأنهم لما رأَوا عدم اهتدائِهم إلى حقيقة حالِهم من حيث النسب ومن حيث العددُ ومن حيث اللُّبثُ في الكهف قالوا ذلك تفويضاً للأمر إلى علاّم الغيوب أو من كلام الله تعالى ردًّا لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المنازعين وقيل هو أمرُهم وتدبيرُهم عند وفاتِهم أو شأنُهم في الموت والنومِ حيث اختلفوا في أنهم ماتوا أو ناموا كما في أول مرة فإذا حينئذ متعلق بقوله تعالى ﴿قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ﴾ وهم الملِكُ والمسلمون ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا﴾ وقوله تعالى فَقَالُواْ معطوفٌ على يتنازعون وإيثارُ صيغةِ الماضي للدَلالة على أن هذا القولَ ليس مما يستمر ويتجدد كالتنازُع وقيل متعلقٌ باذكر مضمَراً وأما تعلقُه بأعثرنا فيأباه أن إعثارِهم ليس في زمان تنازُعِهم فيما ذكر بل قبلَه وجعلُ وقتِ التنازع ممتداً يقع في بعضه الإعثارُ وفي بعضه التنازعُ تعسفٌ لا يخفى مع أنه لا مخصَّصَ لإضافته إلى التنازُع وهو مؤخرٌ في الوقوع
215
﴿سيقولون﴾
215
الكهف ٢٣ الضميرُ في الأفعال الثلاثة للخائضين في قصتهم في عهد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من أهل الكتابِ والمسلمين لكنْ لا على وجهِ إسنادِ كلَ منها إلى كلهم بل إلى بعضهم ﴿ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ أي هم ثلاثةُ أشخاص رابعُهم أيْ جاعلُهم أربعةً بانضمامه إليهم كلبُهم قيل قالته اليهودُ وقيل قاله السيد من نصارى نَجرانَ وكان يعقوبيا وقرئ ثلاةٌ بإدغام الثاء في التاء ﴿وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ قيل قالتْه النصارى أو العاقبُ منهم وكان نِسْطورياً ﴿رَجْماً بالغيب﴾ رمياً بالخبر الخفيِّ الذي لا مُطَّلَعَ عليه أو ظنًّا بالغيب من قولهم رجَمَ بالظن إذا ظن وانتصابُه عَلى الحاليةِ من الضمير في الفعلين جميعاً أي راجمين أو على المصدرية منهما فإن الرجْمَ والقولَ واحد أو من محذوف مستأنَفٍ واقعٍ موقعَ الحال من ضمير الفعلين معاً أي يرجُمون رجماً وعدم إيرادِ السينِ للاكتفاء بعطفه على ما فيه ذلك ﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ هو ما يقوله المسلمون بطريق التلقي من هذا الوحي وما فيه مما يرشدهم إلى ذلك من عدم نظمِه في سلك الرجْمِ بالغيب وتغييرُ سبكه بزيادة الواو المفيدةِ لزيادة وكادةِ النسبة فيما بين طرفيها لا بوحي آخرَ كما قيل ﴿قُلْ﴾ تحقيقاً للحق وردًّا على الأولين ﴿رَّبّى أَعْلَمُ﴾ أي أقوى علماً ﴿بِعِدَّتِهِم﴾ بعددهم ﴿مَّا يَعْلَمُهُمْ﴾ أي ما يعلم عِدّتهم أو ما يعلمهم فضلاً عن العلم بعِدتهم ﴿إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ من الناس قد وفقهم الله تعالى للاستشهاد بتلك الشواهد قال ابن عباس رضي الله عنه حين وقعت الواو وانقطعت العِدّةُ وعليه مدارُ قوله رضي الله عنه أنا من ذلك القليل ولو كان في ذلك وحيٌ آخرُ لما خفيَ عليه ولما احتاج إلى الاستشهاد بالواو ولكان المسلمون أسوةً له في العلم بذلك وعن عليٌّ كرم الله وجهه أنهم سبعةُ نفر أسماؤهم بمليخا ومكشليينا ومشليينا هؤلاء أصحابُ يمينِ الملكِ وكان عن يساره مرنوش ودبرنو وشاذنوش وكان يستشير هؤلاء الستةَ في أمره والسابعُ الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس واسمه كفيشططيوش ﴿فَلاَ تُمَارِ﴾ الفاءُ لتفريع النَّهيِ على ما قبله أي إذ قد عرفتَ جهل أصحاب القولين الأولين فلا تجادلهم ﴿فِيهِمْ﴾ في شأن الفتية ﴿إِلاَّ مِرَآء ظاهرا﴾ قدرَ ما تعرّض له الوحيُ من وصفهم بالرجم بالغيب وعدمِ العلم على الوجه الإجمالي وتفويضِ العلم إلى الله سبحانه من غير تصريحٍ بجهلهم وتفضيح لهم فإنه مما يُخِلُّ بمكارم الأخلاق ﴿وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ﴾ في شأنهم ﴿مِنْهُمْ﴾ من الخائضين ﴿أَحَدًا﴾ فإن فيما قُص عليك لمندوحةً عن ذلكَ مع أنَّه لا علمَ لهم بذلك وقال عطاء إلا قليلٌ من أهل الكتابِ فالضمائرُ الثلاثة في الأفعال الثلاثةِ لهم وما ذكر من الشواهد لإرشاد المؤمنين إلى صحة القولِ الثالثِ وفيه محيصٌ عَّما في الأولِ من التكلف في جعل أحدِ الأقوالِ المحكية المنظومةِ في سِمْط واحدٍ ناشئاً عن الحكاية مع كون الأخيرين بخلافه ووضوحٌ في سبب حذف المفعولِ في لا تُمار والمعنى حينئذ وإذ قد وقفتَ على أن كلَّهم ليسوا على خطأ في ذلك فلا تجادِلْهم إلا جدالاً ظاهراً نطَق به الوحيُ المبين من غير تجهيل لجميعهم فإن فيهم مُصيباً وإن قل والنهيُ عن الاستفتاء لدفع ما عسى يُتوهَّم من احتمال جوازِه أو احتمالِ وقوعِه بناءً على إصابة بعضهم فالمعنى لا تراجع إليهم في شأن الفتيةِ ولا تصدّق القولَ الثالثَ من حيث صدورُه عنهم بل من حيث التلقّي من الوحي
216
﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء﴾ أي لأجل شيءٍ تعزم عليه ﴿إِنّى فَاعِلٌ ذلك﴾
216
الشيءَ ﴿غَداً﴾ أي فيما يُستقبل من الزمانِ مطلقاً فيدخُل فيه الغدُ دخولاً أولياً فإنه نزل حين قالت اليهودُ لقريش سلُوه عن الروح وعن أصحاب الكهفِ وذي القرنين فسأوله ﷺ فقال ائتوني غداً أُخبرْكم ولم يستثنِ فأبطأ عليه الوحيُ حتى شق عليه وكذّبته قريشٌ وما قيل من أن المدلولَ بالعبارة هو الغدُ وما بعد ذلك مفهومٌ بطريق دِلالة النصِّ يرده أن ما بعده ليس بمعناه في مناط النهي فإن وسعةَ المجالِ دليلُ القدرة فليتأمل
217
﴿إلا أن يشاء الله﴾ استثناءٌ مفرَّغٌ من النهي أي لا تقولن ذلك في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ ملابستِه بمشيئته تعالى على الوجه المعتادِ وهو أن يقال إن شاء الله أو في وقتٍ من الأوقاتِ إلا وقتَ أنْ يشاءَ الله أن تقوله لا مطلقاً بل مشيئته إذن مشيئته إذن فإن النسيانَ أيضاً بمشيئته تعالى ولا مساغَ لتعليقه بفاعل لعدم سِدادِ استثناءِ اقترانِ المشيئة بالفعل ومنافاةِ استثناءِ اعتراضها النهي وقيل الاستثناءُ جارٍ مَجرى التأييد كأنه قيل لا تقولنّه أبداً كقوله تعالى وَمَا كان لنا أن نعود فهيا إلا أن يشاء الله ﴿واذكر رَّبَّكَ﴾ بقولك إن شاء الله مداركا له ﴿إِذَا نَسِيتَ﴾ إذا فرَطَ منك نسيانٌ ثم ذكرتَه وعن ابن عباس رضي الله عنهما ولو بعد سنةٍ ما لم يحث ولذلك جوّز تأخيرُ الاستثناءِ وعامةُ الفقهاء على خلافه إذ لو صح ذلك لما تقرر إقرارٌ ولا طلاقٌ ولا عَتاقٌ ولم يُعلم صِدقٌ ولا كذِبٌ قال القرطبيُّ هذا في تدارك التبرك والتخلص عن الإثم وأما الاستثناءُ المغير للحكم فلا يكون إلا متصلا ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناءُ مبالغةٌ في الحثِّ عليه أو اذكر ربَّك وعقابَه إذا تركت بعضَ ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارُك أو اذكره إذا اعتراك النسيانُ ليذكِّرك المنسيَّ وقد حُمل على أداء الصلاةِ المنْسية عند ذكرِها ﴿وَقُلْ عسى أن يهدين رَبّى﴾ أي يوفقني ﴿لاِقْرَبَ مِنْ هذا﴾ أي لشيء أقربَ وأظهرَ من نبأ أصحاب الكهف من الآيات والدلائل الدالةِ على نبوتي ﴿رَشَدًا﴾ أي إرشاداً للناس ودلالةً على ذلك وقد فعل عز وجل ذلك حيث آتاه من البينات ما هو أعظمُ من ذلك وأبينُ كقصص الأنبياءِ المتباعدِ أيامُهم والحوادثِ النازلة في الأعصار المستقبلةِ إلى قيام الساعةِ أو لأقربَ رشداً وأدنى خبراً من المنسيّ
﴿وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ﴾ أحياءً مضروباً على آذانهم ﴿ثلاث مائة سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا﴾ وهي جملةٌ مستأنَفةٌ مبينةٌ لما أُجمل فيما سلف وأُشير إلى عزة منالِه وقيل إنه حكايةُ كلامِ أهلِ الكتابِ فإنهم اختلفوا في مدة لُبثِهم كما اختلفوا في عِدّتهم فقال بعضهم هكذا وبعضهم ثلثمائة وروى عن عليَ رضيَ الله عنه أنه قال عند أهلِ الكتاب أنهم لبثوا ثلثمائة سنةٍ شمسيةٍ والله تعالى ذكر السنةَ القمريةَ والتفاوتَ بنيهما في كل مائة سنةٍ ثلاث سنين فيكون ثلثمائة وتسعَ سنين وسنينَ عطفُ بيان ثلثمائة وقيل بدل وقرئ على الإضافة وضعاً للجمع موضعَ المفردِ ومما يحسّنه ههنا أن علامةَ الجمعِ فيه جبر
217
الكهف ٢٦ ٢٨ لما حُذف في الواحد وأن الأصلَ في العدد إضافتُه إلى الجمع
218
﴿قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لبثوا﴾ أي بالزمان الذين لبثوا فيه ﴿لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض﴾ أيْ ما غابَ فيهما وخفيَ من أحوال أهلِهما واللامُ للاختصاص العلميِّ دون التكوينيِّ فإنه غيرُ مختص بالغيب ﴿أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ﴾ دلّ بصيغة التعجبِ على أن شأنَ علمِه سبحانه بالمبصَرات والمسموعاتِ خارجٌ عما عليه إدراكُ المدرِكين لا يحجُبه شيءٌ ولا يحول دونه حائلٌ ولا يتفاوت بالنسبة إليه اللطيفُ والكثيفُ والصغيرُ والكبيرُ والخفيُّ والجليُّ والهاءُ ضميرُ الجلالة ومحلُّه الرفعُ على الفاعلية والباء مَزيدةٌ عند سيبويهِ وكان أصله أبصَرَ أي صار ذا بَصَر ثم نقل إلى صيغة الأمرِ للإنشاء فبرز الضميرُ لعدم لياقة الصيغة له أو لزيادة الباء كما في كفى به والنصبُ على المفعولية عند الأخفشِ والفاعلُ ضميرُ المأمورِ وهو كلُّ أحد والباءُ مزيدة إن كانت الهمزةُ التعدية ومعدية إن كانت للصيرورة ولعل تقديمَ أمرِ إبصارِه تعالى لما أن الذي نحن بصدده من قبيل المبصَرات ﴿مَّا لَهُم﴾ لأهل السمواتِ والأرض ﴿مِن دُونِهِ﴾ تعالى ﴿مِن وَلِىّ﴾ يتولى أمورَهم وينصُرهم استقلالاً ﴿وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ﴾ في قضائه أو في علم الغيب ﴿أَحَدًا﴾ منهم ولا يُجعل له فيه مدخلاً وهو كما ترى أبلغُ في نفي الشريكِ من أن يقال من ولي ولا شريك وقرئ على صيغة نهى الحاضرة على أن الخطابَ لكل أحدٍ ولما دل انتظامُ القرآنِ الكريم لقصة أصحابِ الكهف من يحث إنها بالنسبة إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من المغيبات على أنه وحي معجز أمره ﷺ بالمداومة على دراسته فقال
﴿واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ كتاب رَبّكَ﴾ ولا تسمَعْ لقولهم ائتِ بقرآن غيرِ هذا أو بدِّلْه ﴿لاَ مُبَدّلَ لكلماته﴾ لا قادرَ على تبديله وتغييره غيرُه ﴿وَلَن تَجِدَ﴾ أبدَ الدهر وإن بالغتَ في الطلب ﴿مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ ملجأً تعدل إليه عند إلمام مُلِمّة
﴿واصبر نَفْسَكَ﴾ احبِسها وثبِّتها مصاحِبةً ﴿مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى﴾ أي دائبين على الدعاء في جميع الأوقاتِ وقيل في طرف في النهار وقرئ بالغُدوة على أن إدخال اللام عليها وهي علمٌ في الأغلب على تأويل التنكيرِ بهم والمرادُ بهم فقراءُ المؤمنين مثلُ صُهيبٍ وعمار وخباب ونحوهم رضي الله عنهم وقيل أصحابُ الصُّفَّة وكانوا نحو سبعِمائة رجل قيل إنه قال قومٌ من رؤساء الكفرة لرسول الله ﷺ نحِّ هؤلاء المواليَ الذين كأن ريحَهم ريحُ الضأن حتى نجالسَك كما قال قومُ نوحٍ عليه السلام أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون فنزلت والتعبيرُ عنهم بالموصول لتعليل الأمر بما في حيز
218
الكهف ٢٩ الصلة من الخَصلة الداعيةِ إلى إدامة الصحبة ﴿يُرِيدُونَ﴾ بدعائهم ذلك ﴿وَجْهَهُ﴾ حالٌ من المستكنِّ في يدْعون أي مريدين لرضاه تعالى وطاعته ﴿وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾ أي لا يجاوِزْهم نظرُك إلى غيرهم مِن عدَاه أي جاوزه واستعمالُه بعن لتضمينه معنى النبوِّ أولا تصرِفْ عيناك النظرَ عنهم إلى غيرهم من عدَوتُه عن الأمر أي صرفتُه عنه على أن المفعولَ محذوف لظهوره وقرئ ولا تعد عينيك ولا تُعْدِ عينيك من الإعداء والتعدية ووالمراد نهيه ﷺ عن الازدراء بهم لرثاثة زِيِّهم طموحاً إلى زِيّ الأغنياء ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا﴾ أي تطلب مجالسةَ الأشراف والأغنياءِ وأصحابِ الدنيا وهي حالٌ من الكاف على الوجه الأولِ من القراءة المشهورة ومن الفاعل على الوجه الثاني منها وضمير تريد للعينين وإسنادُ الإرادةِ إليه مجازٌ وتوحيدُه للتلازم كما في قوله... لمن زحلوقة زُل... بها العينان تنهلُّ...
ومن المستكنّ في الفعل على القراءتين الأخيرتين ﴿وَلاَ تطع﴾ في تحية الفقراءِ عن مجالسك ﴿مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ﴾ أي جعلناه غافلاً لبطلان استعدادِه للذكر بالمرة أو وجدناه غافلاً كقولك أجبَنْتُه وأبخلتُه إذا وجدتُه كذلك أو هو مِنْ أَغفلَ إبِلَه أي لم نسمِّه بالذكر ﴿عَن ذِكْرِنَا﴾ كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراءِ عن مجلسك فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقاتِ وفيهِ تنبيهٌ على أن الباعثَ له على ذلك الدعاءِ غفلةُ قلبه عن جناب الله سبحانه وجهته وانهماكُه في الحسيات حتى خفيَ عليه أن الشرفَ بحِلْية النفس لا بزينة الجسد وقرئ أغفلَنا قلبُه على إسنادِ الفعلِ إلى القلب أي حسِبَنا غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة من أغفلتُه إذا وجدتُه غافلاً ﴿واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ ضيَاعاً وهلاكاً أو متقدماً للحق والصواب نا بذاله وراءَ ظهره من قولهم فرسٌ فرُطٌ أي متقدِّمٌ للخيل أو هو بمعنى الإفراط والتفريطِ فإن الغفلةَ عن ذكره سبحانه تؤدّي إلى اتباع الهوى المؤدِّي إلى التجاوز والتباعُدِ عن الحق والصواب والتعبيرُ عنهم بالموصول للإيذان بعلية مَا في حيزِ الصِّلةِ للنهي عن الإطاعة
219
﴿وَقُلْ﴾ لأولئك الغافلين المتبعين هواهم ﴿الحق مِن رَّبّكُمْ﴾ أي ما أوحيَ إليَّ الحقُّ لا غيرُ كائناً من ربكم أو الحقُّ المعهودُ من جهة ربكم لا من جهتي حتى يُتصور فيه التبديلُ أو يُمكنَ الترددُ في اتباعه وقوله تعالى ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ إما من تمام القولِ المأمورِ بهِ والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها بطريق التهديد لا لتفريعه عليهِ كما في قولِهِ تعالى ﴿هذا عَطَاؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وقوله تعالى الحق مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين أي عَقيبَ تحقق أن ما أوحي إليَّ حقٌّ لا ريب فيه وأن ذلك الحقَّ من جهة ربكم فمن شاء أن يؤمن به فليؤمن كسائر المؤمنين ولا يتعللَ بما لا يكاد يصلُح للتعليل ومن شاء أن يكفر به فليفعلْ وفيه من التهديد وإظهارِ الاستغناءِ عن متابعتهم وعدمِ المبالاةِ بهم وبإيمانهم وجودا وعدما مالا يخفى وإما تهديدٌ من جهة الله تعالى والفاءُ لترتيب ما بعدها من التهديد على الأمر لا على مضمون
219
الكهف ٣٠ ٣١ المأمورِ به والمعنى قل لهم ذلك وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدِّقَك فيه فليؤمن ومن شاء أن يكفُر به أو يكذِّبَك فيه فليفعل فقوله تعالى ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا﴾ وعيدٌ شديدٌ وتأكيدٌ للتهديد وتعليلٌ لما يفيده من الزجر عن الكفر أو لما يُفهم من ظاهر التخييرِ من عدم المبالاةِ بكفرهم وقلةِ الاهتمامِ بزجرهم عنه فإن إعدادَ جزائِه من دواعي الإملاءِ والأمهالِ وعلى الوجه الأول هو تعليلٌ للأمر بما ذكر من التخيير التهديديِّ أي قل لهم ذلك إنا أعتدنا ﴿للظالمين﴾ أي هيأنا للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه والتعبيرُ عنهم بالظاليمن للتنبيه على أن مشيئةَ الكفر واختيارَه تجاوزٌ عن الحد ووضعٌ للشيء في غير موضعِه ﴿نَارًا﴾ عظيمةً عجيبة ﴿أَحَاطَ بِهِمْ﴾ أي يحيط بهم وإيثارُ صيغةِ الماضِي للدَلالة على التحققِ ﴿سرادقها﴾ أي فسطاطها شُبّه به ما يحيط بهم من النار وقيل السرادِقُ الحجرةُ التي تكون حول الفُسطاطِ وقيل سرادِقُها دُخانُها وقيل حائط من نار ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُواْ﴾ من العطش ﴿يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل﴾ كالحديد المذاب وقيل كدُرْدِيِّ الزيت وهو على طريقة قوله فاعتُبوا بالصَّيْلم ﴿يَشْوِى الوجوه﴾ إذا قدم ليُشرَب انشوى الوجهُ لحرارته عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم هو كعَكَر الزيت فإذا قُرب إليه سقطت فروةُ وجهه ﴿بِئْسَ الشراب﴾ ذلك ﴿وَسَاءتْ﴾ النار ﴿مُرْتَفَقًا﴾ متكأً وأصل الاتفاق نصبُ المِرْفقِ تحت الخد وأنى ذلك في النار وإنما هو بمقابلة قوله تعالى ﴿وحسنت مرتفقا﴾
220
﴿إن الذين آمنوا﴾ في محل التعليلِ للحث على الإيمان المنفهِم من التخيير كأنه قيل والذين آمنوا ولعل تغييرَ سبكه للإيذان بكمال تنافي مآليْ الفريقين أي إن الذين آمنوا بالحق الذي أوحيَ إليك ﴿وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ حسبما بين في تضاعيفه ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ خبرُ إن الأولى هي الثانيةُ مع ما في حيزها والراجعُ محذوفٌ أي من أحسنَ منهم عملاً أو مستغنًى عنه كما في قولك نعم الرجل زيدا أو واقعٌ موقعَه الظاهرَ فإن من أحسن عملاً في الحقيقة هو الذين آمن وعمِل الصالحات
﴿أولئك﴾ المنعوتون بالنعوت الجليلةِ ﴿لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار﴾ استئنافٌ لبيان الأجر أو هو الخبر وما بنيهما اعتراضٌ أو هو خبرٌ بعد خبر ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾ من الأولى ابتدائيةٌ والثانيةُ بيانية صفةٌ لأساور والتنكيرُ للتفخيم وهو جمعُ أَسوِرة أو أسور جمع سِوار ﴿وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا﴾ خُصت الخُضرة بثيابهم لأنها أحسنُ الألوان وأكثرُها طراوة ﴿مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ أي ممارق من الديباج وما غلظ جمعَ بين النوعين للدِلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفسُ وتلَذّ الأعين ﴿مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك﴾ على السرُر على ما هو شأن المتنعمين ﴿نِعْمَ الثواب﴾ ذلك ﴿وَحَسُنَتْ﴾ أي الآرائك ﴿مرتفقا﴾
220
الكهف ٣٢ ٣٤ أي متكأ
221
﴿واضرب لَهُم﴾ أي للفريقين الكافر والمؤمن ﴿مثلا رجلين﴾ مفعولان لا ضرب أولُهما ثانيهما لأنه المحتاجُ إلى التفصيل والبيان أي اضرب للكافرين والمؤمنين لا من حيث أحوالُهما المستفادةُ مما ذكر آنفاً من أن للأولين في الآخرة كذا وللآخرين كذا بل من حيث عصيانُ الأولين مع تقلبهم في نعم الله تعالى وطاعةِ الآخرين مع مكابدتهم مشاقَّ الفقر مثلاً حالَ رجلين مقدرَين أو محققَين هما أخوان من بني إسرائيلَ أو شريكان كافرٌ اسمُه قطروس ومؤمنٌ اسمه يهوذا اقتسما ثمانيةَ آلافِ دينار فاشترى الكافرُ بنصيبه ضِياعاً وعَقاراً وصرف المؤمن نصيبه إلى وجوه المبارِّ فآل أمرُهما إلى ما حكاه الله تعالى وقيل هما أخوان من نبي مخزومٍ كافرٌ هو الأسودُ بن عبد الأسد ومسلم هو أبو سلمة عبدَ اللَّه بنَ عبدِ الأسد زوجُ أم سلمة رضي الله عنها أولاً ﴿جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا﴾ وهو الكفار ﴿جنتين﴾ بستانين ﴿مّنْ أعناب﴾ من كروم متنوعة والجملة بتمامها بيانٌ للتمثيل أو صفةٌ لرجلين ﴿وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ﴾ أي جعلنا النخل محيطةً بهما مؤزَّراً بها كرومُهما يقال حفّه القومُ إذا طافوا به وحففتُه بهم جعلتُهم حافّين حوله فيزيده الباء مفعولاً آخر كقولك غشَّيتُه به ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا﴾ وسطهما ﴿زَرْعًا﴾ ليكون كلٌّ منهما جامعاً للأفوات والفواكهِ متواصلَ العِمارة على الهيئة الرائقةِ والوضعِ الأنيق
﴿كِلْتَا الجنتين اتَتْ أُكُلَهَا﴾ ثمرَها وبلغت مبلغاً صالحاً للأكل وقرئ بسكون الكاف وقرئ كلُّ الجنتين آتى أكُلَه ﴿وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ﴾ لم تنقُص من أُكُلها ﴿شَيْئاً﴾ كما يعهد ذلك في سائر البساتينِ فإن الثمارَ غالباً تكثُر في عام وتقِلُّ في آخر وكذا بعضُ الأشجارِ يأتي بالثمر في بعض الأعوامِ دون بعض ﴿وَفَجَّرْنَا خلالهما﴾ فيما بين كلَ من الجنتين ﴿نَهَراً﴾ على حِدَة ليدوم شربهما ويزيد بهاؤهما وقرئ بالتخفيف ولعل تأخير ذكر تفجيرِ النهر عن ذكر إيتاء الكل مع أن الترتيب الخارجيَّ على العكس للإيذان باستقلال كلَ من إيتاء الأكل وتفجيرِ النهر في تكميل محاسنِ الجنتين كما في قصة البقرة ونحوها ولو عكس لا نفهم أن المجموعَ خَصلةٌ واحدة بعضُها مترتبٌ على بعض فإن إيتاءَ الأكلِ متفرِّعٌ على السقْي عادةً وفيه إيماءٌ إلى أن إيتاء الأكلِ لا يتوقف على السقى كقوله تعالى ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء﴾ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ
﴿وَكَانَ لَهُ﴾ لصاحب الجنتين ﴿ثَمَرٌ﴾ أنواعٌ من المال غيرُ الجنتين من ثمر مالَه إذا كثّره قال ابن عباس رضي الله عنهما هو جميعُ المال من الذهب والفضة والحيوانِ وغير ذلك وقال مجاهد هو الذهبُ والفضة خاصة ﴿فَقَالَ لصاحبه﴾ المؤمن ﴿وَهُوَ﴾ أي القائلُ ﴿يحاوره﴾ أي صاحبَه المؤمنَ وإن جاز العكسُ أي يراجعه في الكلام من حار إذا رجع ﴿أنا أكثر منك مالا وَأَعَزُّ نَفَراً﴾ حشَماً وأعواناً أو أولاداً ذُكوراً لأنهم الذين ينفرون معه
221
الكهف
222
٣٥ - ٣٨ ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ﴾ التي شُرحت أحوالها وعددها وصفانها وهيآتُها وتوحيدها إما لعدم تعلق الغرض بتعدادها وإما لاتصال إحداهما بالأخرى وإما لأن الدخولَ يكون في واحدة فواحدة ﴿وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ﴾ ضارٌّ لها بعُجبه وكفره ﴿قَالَ﴾ استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من ذكر دخولِ جنته حالَ ظلمِه لنفسه كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ إذ ذاك فقيل قال ﴿مَا أظن أن تبيد هذه﴾ الجنةُ أي تفنى ﴿أَبَدًا﴾ لطول أملِه وتمادي غفلتِه واغترارِه بمُهلته ولعله إنما قاله بمقابلة موعظةِ صاحبِه وتذكيرِه بفناء جنّتيه ونهيِه عن الاغترار بهما وأمره بتحصيل الباقيات الصالحات
﴿وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً﴾ كائنةً فيما سيأتي ﴿وَلَئِن رُّدِدتُّ﴾ بالبعث عند قيامها كما تقول ﴿إلى رَبّى لاجِدَنَّ﴾ يومئذ ﴿خَيْراً مّنْهَا﴾ أي من هذه الجنةِ وقرئ منهما أي من الجنتين ﴿مُنْقَلَباً﴾ مرجعاً وعاقبةً ومدارُ هذا الطمعِ واليمينِ الفاجرةِ اعتقادٌ أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامتِه عليه سبحانه ولم يدرِ أن ذلك استدراجٌ
﴿قَالَ لَهُ صاحبه﴾ استئناف كما سبق ﴿وَهُوَ يحاوره﴾ جملةٌ حاليةٌ كما مر فائدتُها التنبيهُ من أول الأمر على أن ما يتلوه كلامٌ معتنًى بشأنه مسوقٌ للمحاورة ﴿أَكَفَرْتَ﴾ حيث قلت ما أظن الساعةَ قائمةً ﴿بالذى خَلَقَكَ﴾ أي في ضمن خلقِ أصلِك ﴿مّن تُرَابٍ﴾ فإن خلقَ آدمَ عليه السلام منه متضمّنٌ لخلقه منه لِما أن خلقَ كلَّ فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من خلقه عليه السلام إذ لم تكن فطرته الشريفة مقصورةً على نفسه بل كانت أُنموذَجاً منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستنبعا لجَرَيان آثارِها على الكل فكان خلقَه عليه السلامُ من الترابِ خلقا للكل منه وقيل خلقَك منه لأنه أصلُ مادتِك إذ به يحصُل الغذاءُ الذي منه تحصل النطفةُ فتدبر ﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾ هي مادتُك القريبة فالمخلوقُ واحدٌ والمبدأُ متعددٌ ﴿ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾ أي عَدلك وكمّلك إنساناً ذكراً أو صيّرك رجلاً والتعبيرُ عنه تعالى بالموصول للإشعار بعلية مَا في حيزِ الصِّلةِ لإنكار الكفرِ والتلويحِ بدليل البعثِ الذي نطَق به قولُه عز من قائل يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ الخ
﴿لكن هُوَ الله رَبّى﴾ أصله لكن إنا وقد قرئ كذلك فحُذفت الهمزةُ فتلاقت النونان فكان الإدغام وهو ضميرُ الشأن وهو مبتدأٌ خبرُه الله ربي وتلك الجملةُ خبرُ أنا والعائدُ منها إليه الضمير وقرئ بإثبات ألفِ أنا في الوصل وفي الوقف جميعاً وفي الوقف خاصة وقرئ لكنه بالهاء ولكن بطرح أنا ولكن أنا لا إله إلا هو ربي ومدارُ الاستدراك قوله تعالى أَكَفَرْتَ كأنه قال أنت كافرٌ لكني مؤمنٌ موحّد ﴿وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا﴾ فيه إيذانٌ بأن كفرَه كان
222
الكهف ٣٩ ٤٢ بطريق الإشراك
223
﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ﴾ أي هلاّ قلت عندما دخلتَها وتقديمُ الظرف على المحضَّض عليه للإيذان بتحتّم القولِ في آن الدخولِ من غير ريث لا للقصر ﴿مَا شَاء الله﴾ أي الأمرُ ما شاء الله أو ما شاء الله كأن على أن ما موصولةٌ مرفوعةُ المحلِّ أو أيَّ شيء شاء الله كان على أنها شرطيةٌ منصوبةٌ والجوابُ محذوفٌ والمرادُ تحضيضُه على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها ﴿لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله﴾ أي هلا قلت ذلك اعترافاً بعجزك وبأن ما تيسر لك من عِمارتها وتدبيرِ أمرِها إنما هو بمعونته تعالى وإقداره عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم من رأى شيئاً فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضُرَّه ﴿إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا﴾ أنا إما مؤكدٌ لياء المتكلمِ أو ضميرُ فصْلٍ بين مفعولي الرؤيةِ إن جعلت عملية وأقلَّ ثانيهما وحالٌ إن جُعلت بصَريةً فيكون أنا حينئذ تأكيداً لا غيرُ لأن شرطَ كونِه ضميرَ فصلٍ توسطُه بين المبتدأ والخبرِ أو ما أصلُه المبتدأ والخبر وقرئ أقلُّ بالرفع خبراً لأنا والجملةُ مفعولٌ ثانٍ للرؤية أو حالٌ وفي قوله تعالى وَوَلَدًا نُصرةٌ لمن فسر النفرَ بالولد
﴿فعسى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ﴾ هو جوابِ الشرطِ والمعنى إنْ ترنِ أفقرَ منك فأنا أتوقع من صنع الله سبحانه أن يقلِبَ ما بي وما بك من الفقر والغنى فيرزُقني لإيماني جنةً خيراً من جنتك ويسلُبَك لكفرك نعمتَه ويُخْرِب جنتك ﴿وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا﴾ هو مصدرٌ بمعنى الحِساب كالبُطلان والغفران أي مقداراً قدره الله تعالى وحسَبه وهو الحكمُ بتخريبها وقيل عذابَ حُسبانٍ وهو حسابُ ما كسبت يداه وقيل مَراميَ جمعُ حسبانا وهي الصواعقُ ومساعدة النظمِ الكريم فيما سيأتي للأولين أكثر ﴿مِّنَ السماء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾ مصدرٌ أُريد به المفعولُ مبالغةً أي أرض ملساء يُزْلَق عليها لاستئصال ما عليها من البناء والشجر والنبات
﴿أَوْ يُصْبِحَ﴾ عطف على قوله تعالى فَتُصْبِحُ وعلى الوجه الثالث على يرسلَ ﴿مَاؤُهَا غَوْرًا﴾ أي غائراً في الأرض أُطلق عليه المصدر المبالغة ﴿فَلَن تَسْتَطِيعَ﴾ أبداً ﴿لَهُ﴾ أي للماء الغائرِ ﴿طَلَبًا﴾ فضلاً عن وجدانه وردِّه
﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ أُهلك أموالُه المعهودةُ من جنتيه وما فيهما وأصلُه من إحاطة العدوِّ وهو عطفٌ على مقدر كأنه قيل فوقع بعضُ ما توقع من المحذور وأُهلك أمواله وإنما حذف لدلالة السياق والسياقِ عليه كما في المعطوف عليه بالفاء الفصيحة ﴿فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ﴾ ظهراً لبطن وهو كنايةٌ عن الندم كأنه قيل فأصبح يندم ﴿عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا﴾ أي في عِمارتها من المال لعل تخصيصَ الندم به دون ما هلك الآن من الجنة لما أنه إنما يكون على الأفعال الاختياريةِ ولأن ما أتفق في عمارتها كان
223
الكهف ٤٣ ٤٥ مما يمكن صيانتُه عن طوارق الحدَثانِ وقد صرفه إلى مصالحها رجاء أي يتمتع بها أكثر مما يتمتعَ به وكان يرى أنه لا تنالها أيدي الردَى ولذلك قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاكُ ندم على ما صنع بناءً على الزعم الفاسدِ من إنفاق ما يمكن ادخارُه في مثل هذا الشيءِ السريع الزوال ﴿وَهِىَ﴾ أي الجنةُ من الأعناب المحفوفةِ بنخل ﴿خَاوِيَةٍ﴾ ساقطةٌ ﴿على عُرُوشِهَا﴾ أي دعائمها المصنوعةِ للكروم لسقوطها قبل سقوطِها وتخصيصُ حالها بالذكر دون النخل والزرعِ إما لأنها العُمدةُ وهما من متمماتها وإما لأن ذكرَ هلاكِها مغنٍ عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت وهي مُشيَّدةٌ بعروشها فهلاكُ ما عداها بالطريق الأولى وإما لأن الإنفاقَ في عمارتها أكثرُ وقيل أرسل الله تعالى نارا فأحرقتها وغار ماؤُها ﴿وَيَقُولُ﴾ عطف على يقلّب أو حالٌ من ضميرِه أي وهو يقول ﴿يا ليتني لم أشرِك بِرَبّى أَحَدًا﴾ كأنه تذكر موعظةَ أخيه وعلم أنه إنما أُتيَ من قِبل شِرْكِه فتمنى لو لم يكن مشركاً فلم يُصبْه ما أصابه قبل ويحتمل أن يكون ذلك توبةً من الشرك وندَماً على ما فرَط منه
224
﴿ولم تكن له﴾ وقرئ بالتاء التحتانية ﴿فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ﴾ يقدِرون على نصره بدفع الإهلاكِ وعلى رد المهلك والإتيان بمثله وجمعُ الضميرِ باعتبار المعنى كما في قوله عز وعلا يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ ﴿من دون الله﴾ أنه القادرُ على ذلك وحده ﴿وَمَا كَانَ﴾ في نفسه ﴿مُنْتَصِراً﴾ ممتنعاً بقوته عن انتقامه سبحانه
﴿هُنَالِكَ﴾ في ذلك المقامِ وفي تلك الحال ﴿الولاية لله الحق﴾ أي النصر له وحده لا يقدِر عليها أحدٌ فهو تقريرٌ لما قبله وينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة كما نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمنَ ويعضُده قوله تعالى ﴿هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾ أي لأوليائه وقرأ الولاية بكسر الواو ومعناه الملك والسلطان أي هنالك السلطان له عز وجل لا يُغلَب ولا يُمتَنع منه أو لا يُعبد غيره كقوله تعالى فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فيكون تنبيهاً على أن قوله ﴿يا ليتني لم أشرِك﴾ الخ كان عن اضطرار وجزَعٍ عمّا دهاه على أسلوب قوله تعالى الآن وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ من المفسدين وقيل هناك إشارةٌ إلى الآخرة كقوله تعالى ﴿لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الواحد القهار﴾ وقرئ برفع الحقِّ على أنه صفة الولاية وبنصبه على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ وقرئ عقبا بضم القاف وعقبا كرُجعى والكلُّ بمعنى العاقبة
﴿واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا﴾ أي واذكر لهم ما يُشبهها في زَهْرتها ونَضارتها وسرعةِ زوالها لئلا يطمئنوا بها وليعكفوا عليها ولا يَضرِبوا عن الآخرة صفحاً بالمرة أو بيِّنْ لهم صفتَها العجيبة التي هي في الغرابة كالمثَل ﴿كَمَاء﴾ استئنافٌ لبيان المثَل أي هي كَمَاء ﴿أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء﴾ ويجوز كونه مفعولا ثانيا لا ضرب على أنه بمعنى صيّر ﴿فاختلط به﴾ اشتبك بسبيه ﴿نَبَاتُ الارض﴾
224
فالتفّ وخالط بعضه بعضاً من كثرته وتكاثفه أو نجَع الماءُ في النبات حتى رو ورفّ فمقتضى الظاهرِ حينئذ فاختلط بنبات الأرض وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريم عليه للمبالغة بالكثرة فإن كلا المختلِطَين موصوفٌ بصفة صاحبِه ﴿فَأَصْبَحَ﴾ ذلك النباتُ الملتفُّ إثرَ بهجتها ورفيفِها ﴿هَشِيمًا﴾ مهشوماً مكسوراً ﴿تَذْرُوهُ الرياح﴾ تفرقه وقرئ تُذْريه من أذراه وتذروه الريحُ وليس المشبَّهُ به نفسَ الماء بل هو الهيئةُ المنتزَعةُ من الجملة وهي حالُ النبات المُنبَتِ بالماء يكون أخضرَ وارفاً ثم هشيماً تطيِّره الرياحُ كأن لم يغن بالأمس ﴿وَكَانَ الله على كُلّ شىء﴾ من الأشياء التي من جملتها الإنشاءُ والإفناءُ ﴿مُّقْتَدِرًا﴾ قادراً على الكمال
225
﴿المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا﴾ بيانٌ لشأن ما كانوا يفتخِرون به من محسّنات الحياة الدنيا كما قال الأخُ الكافرُ أنا أكثر منك مالا وأعز نفراً إثرَ بيانِ شأن نفسها بما مر من المثَل وتقديمُ المال على البنين مع كونهم أعز منه كما في الآية المحكية آنفاً وقولِه تعالى ﴿وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ﴾ وغيرِ ذلك من الآيات الكريمة لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمدادِ وغيرِ ذلك وعمومِه بالنسبة إلى الأفراد والأوقات فإنه زينةٌ ومُمِدٌّ لكل أحدٍ من الآباء والبنين في كل وقت وحينٍ وأما البنون فزينتُهم وإمدادُهم إنما يكون بالنسبة إلى مَنْ بلغ مبلغَ الأُبوةِ ولأن المالَ مناطٌ لبقاء النفسِ والبنين لبقاء النوع ولأن الحاجةَ إليه أمسُّ من الحاجة إليهم ولأنه أقدم منهم في الوجود ولأنه زينةٌ بدونهم من غير عكس فإن من له بنونَ بلا مال فهو في ضيقِ حالٍ ونكال وإفرادُ الزينة مع أنها مسنَدةٌ إلى الإثنين لما أنها مصدرٌ في الأصل أُطلق على المفعول مبالغة كأنهما نفسُ الزينة والمعنى أن ما يفتخرون به من المال والبنين شيءٌ يُتزيّن به في الحياة الدنيا وقد عُلم شأنُها في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال فكيف بما هو من أوصافها التي شأنُها أن تزول قبل زوالِها ﴿والباقيات الصالحات﴾ هي أعمالُ الخير وقيل هي في الصلواتُ الخمسُ وقيل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبرُ وقيل كلُّ ما أريد به وجهُ الله تعالى وعلى كل تقدير يدخُل فيها أعمالُ فقراءِ المؤمنين الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى يريدون وجهَه دخولاً أولياً أما صلاحُها فظاهر وأما بقاؤها فبقاء عوائدِها عند فناءِ كلِّ ما تطمح إليه النفسُ من حظوظ الدنيا ﴿خَيْرٌ﴾ أي مما نُعت شأنُه من المال والبنين وإخراجُ بقاءِ تلك الأعمالِ وصلاحِها مُخرَجَ الصفات المفروغِ عنها مع أن حقهما أي يكون مقصودَي الإفادةِ لا سيما في مقابلة إثباتِ الفناء لما يقابلها من المال والبنين على طريقة قوله تعالى ما عندكم ينفذ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ للإيذان بأن بقاؤها أمرٌ محقّقٌ لا حاجةَ إلى بيانه بل لفظُ الباقيات اسم له وصفٌ ولذلك لم يُذكر الموصوفُ وإنما الذي يُحتاج إلى التعرض له خيرتها ﴿عِندَ رَبّكَ﴾ أي في الآخرة وهو بيانٌ لما يظهر فيه آثار خيرتها بمنزلة إضافة الزينةِ إلى الحياة الدنيا لا لأفضليتها فيها من المال والبنين مع مشاركة الكلِّ في الأصل إذ لا مشاركةَ لهما في الخيرية في الآخرة ﴿ثَوَاباً﴾ عائدةً تعود إلى صاحبها ﴿وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ حيث ينال بها صاحبُها في الآخرة كلَّ ما كان يؤمله في الدنيا
225
الكهف ٤٧ ٤٨ وأما ما مر من المال والبنين فليس لصاحبه أملا يناله وتكريرُ خيرٌ للإشعار باختلاف حيثية الخيرية والمبالغةِ فيها
226
﴿وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال﴾ منصوبٌ بمضمر أي اذكرْ حين نقلَعُها من أماكنها ونسيّرها في الجوِّ على هيئاتِها كما ينبئ عنه قولُه تعالى وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب أو نسير أجزاءَها بعد أن نجعلها هباءً مُنْبَثّاً والمرادُ بتذكيره تحذيرُ المشركين مما فيه من الدواهي وقيل هو معطوفٌ على ما قبله من قوله تعالى ﴿عِندَ رَبّكَ﴾ أي الباقياتُ الصالحات خيرٌ عند الله ويوم القيامة وقرئ تُسيَّر على صيغة البناءِ للمفعولِ من التفعيلِ جرياً على سَنن الكبرياءِ وإيذانا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لتعينه وقرئ تَسِير ﴿وَتَرَى الأرض﴾ أي جميعَ جوانبها والخطابُ لرسول الله ﷺ أو لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤيا وقرئ تُرَى على صيغة البناء للمفعول ﴿بَارِزَةً﴾ أما بروزُ ما تحت الجبال فظاهرٌ وأما ما عاداه فكانت الجبالُ تحول بينه وبين الناظرِ قبل ذلك فالآن أضحى قاعاً صفْصِفاً لنرى فيها ولا أمة ﴿وحشرناهم﴾ جمعناهم إلى الموقف من كل أَوْب وإيثارُ صيغةِ الماضي بعد نسيّر وتَرى للدِلالة على تحقق الحشْرِ المتفرِّع على البعث الذي يُنكره المنكرون وعليه يدورُ أمرُ الجزاءِ وكذا الكلام فيما عطف عليه منفياً وموجَباً وقيل هو للدَّلالة على أن حشْرهم قبل التسيير والبروزِ ليعاينوا تلك الأهوالَ كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك ﴿فَلَمْ نُغَادِرْ﴾ أي لم نترُك ﴿مّنْهُمْ أَحَداً﴾ يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدْرُ الذي هو تركُ الوفاءِ والغديرُ الذي هو ماءٌ يتركه السيلُ في الأرض الغائرة وقرئ بالياء وبالفوقانية على إسنادِ الفعلِ إلى ضمير الأرض كما في قوله تعالى وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ
﴿وَعُرِضُواْ على رَبّكَ﴾ شُبّهت حالُهم بحال جندٍ عُرضوا على السلطان ليأمُر فيهم بما يأمُر وفي الالتفات إلى الغَيبة وبناءِ الفعل للمفعول مع التعرض لعنوان الربوبيةِ والإضافةِ إلى ضميره ﷺ من تربية المهابةِ والجَرْيِ على سَنن الكِبرياء وإظهار اللطف به ﷺ ما لا يخفى ﴿صَفَّا﴾ أي غيرَ متفرِّقين ولا مختلِطين فلا تعرّض فيه لوَحدة الصفِّ وتعدّدِه وقد ورد في الحديث الصحيح يجمع الله الأولين والآخِرين في صعيد واحد صُفوفاً ﴿لَّقَدْ جِئْتُمُونَا﴾ على إضمار القولِ على وجه يكون حالاً من ضمير عُرضوا أي مقولة لهم أو وقلنا لهم وأما كونُه عاملاً في يومَ نسيّر كما قيل فبعيدٌ من جزالة التنزيلِ الجليلِ كيف لا ويلزم منه أن هذا القولَ هو المقصودُ بالأصالة دون سائر القوارعِ مع أنه خاصُّ التعلق بما قبله من العَرض والحشر دون تسييرِ الجبال وبروزِ الأرض ﴿كَمَا خلقناكم﴾ نعتٌ لمصدر مقدّرٍ أي مجيئاً كائناً مجيئكم عند خلْقِنا لكم ﴿أَوَّلَ مرة﴾ أوحال من ضمير جئتمونا أي كائنين كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ حُفاةً عُراة غُرْلاً أو ما معكم شيءٌ مما تفتخرون به من الأموال والأنصار كقوله تعالى ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا﴾ فرادى ﴿كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم وَرَاء ظُهُورِكُمْ ﴿بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا﴾ إضرابٌ وانتقالٌ من كلام إلى كلام كلاهما للتوبيخ
226
الكهف ٤٩ ٥٠ والتقريعِ أي زعمتم في الدنيا أنه لن نجعلَ لكم أبداً وقتاً نُنْجز فيه ما وعدناه من البعث وما يتبعه وأنْ مخففةٌ من المثقلة فُصِل بحرف النفي بينها وبين خبرِها لكونه جملةً فعليةً متصرِّفةً غيرَ دعاءٍ والظرفُ إما مفعولٌ ثانٍ للجعل وهو بمعنى التصييرِ والأولُ هو موعداً أو حال من موعد أو هو بمعنى الخلق والإبداعِ
227
﴿وَوُضِعَ الكتاب﴾ عطف على عُرضوا داخلٌ تحت الأمورِ الهائلة التي أريد تذكيرُها بتذكير وقتِها أُورد فيه ما أورد في أمثاله من صيغة الماضي دَلالة على التقرر أيضاً أي وُضع صحائفُ الأعمالِ وإيثارُ الإفرادِ للاكتفاء بالجنس والمرادُ بوضعها إما وضعُها في أيدي أصحابِها يميناً وشمالاً وإما في الميزان ﴿فَتَرَى المجرمين﴾ قاطبةً فيدخل فيهم الكفرةُ المنكِرون للبعث دخولاً أولياً ﴿مُشْفِقِينَ﴾ خائفين ﴿مِمَّا فِيهِ﴾ من الجرائم والذنوب ﴿وَيَقُولُونَ﴾ عند وقوفِهم على ما في تضاعيفه نقيراً وقطميرا ﴿يا ويلتنا﴾ منادين لهِلَكتهم التي هلكوها من بين الهلَكات مستدْعين لها ليهلِكوا ولا يرَوا هول ما لقوه أي يا ويلتَنا احضُري فهذا أوانُ حضورِك ﴿مَا لهذا الكتاب﴾ أي أيُّ شيء له وقولُه تعالى ﴿لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ أي حواها وضبطَها جملةٌ حاليةٌ محقِّقةٌ لما في الجملة الاستفهاميةِ من التعجب أو استئنافيةٌ مبنيّةٌ على سؤال نشأ من التعجب كأنه قيل ما شأنُه حتى يُتعجَّب منه فقيل لا يغادر سيئةً صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ﴾ في الدنيا من السيئات أو جزاءَ ما عملوا ﴿حَاضِرًا﴾ مسطوراً عتيداً ﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ فيكتب ما لم يُعمَل من السيئات أو يزيد في عقابه المستحَّقِ فيكون إظهاراً لِمَعْدلة القلمِ الأزلي
﴿وإذ قُلْنَا للملائكة﴾ أي اذكر وقتَ قولِنا لهم ﴿اسجدوا لاِدَمَ﴾ سجودَ تحيةٍ وتكريم وقد مر تفصيلُه ﴿فَسَجَدُواْ﴾ جميعاً امتثالاً بالأمر ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ فإنه لم يسجُد بل أبى واستكبر وقوله تعالى ﴿كَانَ مِنَ الجن﴾ كلام مستئنف سبق مساقَ التعليلِ لما يفيده استثناءُ اللعين من الساجدين كأنه قيل ماله لم يسجُد فقيل كان أصلُه جنيًّا ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ﴾ أي خرج عن طاعته كما ينبئ عنه الفاءُ أو صار فاسقاً كافراً بسبب أمرِ الله تعالى إذ لولاه أبى وتعرض لوصف الربوبيةِ المنافية للفسق لبيان كمال قبح ما فعله والمرادُ بتذكير قصّتِه تجديد النكيرِ على المتكبرين المفتخرين بأنسابهم وأموالِهم المستنكفين عن الانتظامِ في سلكِ فقراءِ المؤمنين ببيان أن ذلك من صنيع إبليس وأنه في ذلك تابعون لتسويله كما ينبئ عنه قوله تعالى ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ﴾ الخ فإن الهمزةَ للإنكار والتعجيب والفاء للتعقيب والفاء أي أعَقيبَ علمِكم بصدور تلك القبائحِ عنه تتخذونه ﴿وذريته﴾ أي وأولاده وأتباعَه جعلوا ذريتَه مجازاً قال قتادة يتوالدون كما يتوالد بنو آدمَ وقيل يُدخل ذنبَه في دُبُره فيبيض فتنفلق البيضةُ عن جماعة من الشياطين ﴿أَوْلِيَاء من دوني﴾ فتستبدلونه بي فتطيعونهم
227
الكهف ٥١ بدَل طاعتي ﴿وَهُمْ﴾ أي والحال أن إبليسَ وذريته ﴿لكم عدو﴾ أي أعداءكما في قولِهِ تعالَى فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ العالمين وقوله تعالى هُمُ العدو وإنما فُعل به ذلك تشبيها له بالمصدر نحو القبول والولوع وتقيد الاتخاذِ بالجملة الحالية لتأكيد الإنكارِ وتشديدِه فإن مضمونَها مانعٌ من وقوع الاتخاذِ ومنافٍ له قطعاً ﴿بِئْسَ للظالمين﴾ أي الواضعين للشيء في غير موضعِه ﴿بَدَلاً﴾ من الله سبحانه إبليسُ وذريتُه وفي الالتفات إلى الغَيبة مع وضع الظالمين موضعَ الضمير من الإيذان بكمال السُخطِ والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلمٌ قبيح ما لا يخفى
228
﴿مَّا أَشْهَدتُّهُمْ﴾ استئنافٌ مَسوق لبيان عدمِ استحقاقِهم للاتخاذ المذكورِ في أنفسهم بعد بيانِ الصوارفِ عن ذلك من خباثة المَحتِد والفسق والعداوة أي ما أحضَرْتُ إبليس وذريته ﴿خلق السماوات والأرض﴾ حيث خلقتُهما قبل خلقِهم ﴿وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ﴾ أي ولا أشهدتُ بعضَهم خلقَ بعض كقوله تعالى ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ﴾ هذا ما أجمع عليه الجمهورُ حِذاراً من تفكيك الضميرين ومحافظةً على ظاهر لفظ الأنفس ولك أن تُرجع الضميرَ الثانيَ إلى الظالمين وتلتزمَ التفكيكَ بناءً على قَوْد المعنى إليه فإن نفيَ إشهادِ الشياطين خلقَ الذين يتولَّونهم هُو الذي يدورُ عليه إنكارُ اتخاذهم أولياء بنا على أن أدنى ما يصحح التوليَ حضورُ الوليِّ خلقَ المتولى وحيث لا حضورَ لا مصحِّحَ للتولي قطعا وأما نفي إشهاد بعضِ الشياطينِ خلقَ بعض منهم فليس من مدارية الإنكارِ المذكور في شيء على أن إشهادَ بعضهم خلقَ بعض إن كان مصحِّحاً لتولي الشاهدِ بناءً على دِلالته على كماله باعتبار أن له مدخلاً في خلق المشهودِ في الجملة فهو مُخِلٌّ بتولي المشهودِ بناء على قصوره عمّن شهِد خلقَه فلا يكون نفيُ الإشهادِ المذكورِ متمحّضاً في نفي الكمالِ المصحِّح للتولي عن الكل والمناط للإنكار المذكور ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين﴾ أي متّخذَهم وإنما وُضع موضعَه المظهرُ ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالإضلال وتأكيداً لما سبق من إنكار اتخاذِهم أولياءَ ﴿عَضُداً﴾ أعواناً في شأن الخلقِ أو في شأن من شئوني حتى يُتوهّم شِرْكتُهم في التولي بناء على الشركة في بعض أحكامِ الربوبية وفيه تهكمٌ بهم وإيذانٌ بكمال ركاكةِ عقولِهم وسخافةِ آرائِهم حيث لا يفهمون هذا الأمرَ الجليَّ الذي لا يكاد يشتبه على البُلْه والصبيان فيحتاجون إلى التصريح به وإيثارُ نفي الإشهاد على نفي شهودِهم ونفي اتخاذِهم أعواناً على نفي كونهم كذلك للإشعار بأنهم مقهورون تحت قدرتِه تعالى تابعون لمشيئته وإرادتِه فيهم وأنهم بمعزل من استحقاق الشهودِ والمعونة من تلقاء أنفسِهم من غير إحضارٍ واتخاذ وإنما قُصارى ما يتوهم في شأنهم أن يبلُغوا ذلك المبلغَ بأمر الله عز وجل ولم يكد ذلك يكون وقيل الضميرُ للمشركين والمعنى ما أشهدتم خلقَ ذلك وما أطلعتُهم على أسرار التكوينِ وما خصَصْتُهم بفضائلَ لا يَحويها غيرُهم حتى يكونوا قدوةً للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعُمون فلا يُلتفت إلى قولهم طمعاً في نُصرتهم الدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضِدَ بالمُضِلّين ويعضُده القراءةُ بفتح التاءِ خطاباً لرسول الله ﷺ والمعنى ما صح لك الاعتضادُ بهم ووصفُهم بالإضلال
228
الكهف ٥٢ ٥٥ لتعليل نفي الاتخاذ وقرئ متّخِذاً المُضلّين على الأصل وقرئ عُضْداً بضم العين وسكون الضاد وبفتح وسكون بالتخفيف وبضمتين بالاتباع وبفتحتين على أنه جمع عاضد كرَصَد وراصد
229
﴿وَيَوْمَ يَقُولُ﴾ أي الله عز وجل للكافرين توبيخا وتعجيزا وقرئ بنون العظمة ﴿نَادُواْ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ﴾ أنهم شفعاؤُكم ليشفعوا لكم والمرادُ بهم كلُّ ما عُبد من دونه تعالى وقيل إبليسُ وذرِّيتُه ﴿فَدَعَوْهُمْ﴾ أي نادَوهم للإغاثة وفيه بيانٌ لكمال اعتنائِهم بإعانتهم على طريقة الشفاعةِ إذ معلومٌ أن لا طريقَ إلى المدافعة ﴿فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ﴾ فلم يُغيثوهم إذ لا إمكان لذلك وفي إراده مع ظهوره تهكمٌ بهم وإيذانٌ بأنهم في الحماقه بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم﴾ بين الداعين والمدعوّين ﴿مَّوْبِقاً﴾ اسمُ مكانٍ أو مصدرٌ من وبَق وُبوقاً كوثب وثوبا أو وبِق وبَقاً كفرح فرحاً إذا هلَك أي مهلِكاً يشتركون فيه وهو النارُ أو عداوة هي في الشدة نفسُ الهلاك كقول عمر رضي الله عنه لا يكن حبُّك كلَفاً ولا بغضُك تلَفاً وقيل البينُ الوصلُ أي وجعلنا تواصلَهم في الدنيا هلاكاً في الآخرة ويجوز أن يكون المرادُ بالشركاء الملائكةَ وعزيراً وعيسى عليهم السلام ومريمَ وبالمَوْبق البرزخَ البعيدَ أي جعلنا بينهم أمداً بعيداً يُهلِك فيه الأشواطُ لفرط بعدهم لأنهم في قعر جهنمَ وهم في أعلى الجنان
﴿وَرَأَى المجرمون النار﴾ وُضع المُظْهر مقامَ المُضْمَر تصريحاً بإجرامهم وذماً لهم بذلك ﴿فَظَنُّواْ﴾ أي فأيقنوا ﴿أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا﴾ مخالطوها واقعون فيها أو ظنوا إذ رأوها من مكان بعيد أنهم مواقعوها الساعةَ ﴿وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا﴾ انصرافاً أو معدِلاً ينصرفون إليه
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا﴾ أي كررنا وأوردنا على وجوه كثيرةٍ من النظم ﴿فِى هذا القرآن لِلنَّاسِ﴾ لمصلحتهم ومنفعتِهم ﴿مِن كُلّ مَثَلٍ﴾ من جملته ما مر مِن مَثَل الرجلين ومثَل الحياةِ الدنيا أو من كل نوعٍ من أنواع المعاني البديعةِ الداعيةِ إلى الإيمان التي هي في الغرابة والحسنِ واستجلابُ النفسِ كالمَثَل ليتلقَّوْه بالقَبول فلم يفعلوا ﴿وَكَانَ الإنسان﴾ بحسب جِبِلّته ﴿أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً﴾ أي أكثرَ الأشياءِ التي يتأتى منها الجدل وهو ههنا شدةُ الخُصومةِ بالباطل والمماراةِ من الجدْل الذي هو الفتْلُ والمجادلةُ الملاواةُ لأن كلاًّ من المجادِلَين يلتوي على صاحبه وانتصابُه على التمييز والمعنى أن جد له أكثرُ من جدَل كلِّ مجادل
﴿وَمَا مَنَعَ الناس﴾ أي أهلَ مكةَ الذين حُكيت أباطيلُهم ﴿أَن يُؤْمِنُواْ﴾ من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا ما هم فيه من الإشراك ﴿إِذْ جَاءهُمُ الهدى﴾ أي القرآنُ العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبةِ له ﴿وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ﴾ عما فرَط منهم من أنواع الذنوب
229
الكهف ٥٦ ٥٧ التي من جملتها مجادلتُهم للحق بالباطل ﴿إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين﴾ أي إلا طلبُ إتيانِ سُنّتهم أو إلا انتظار إيتانها أو إلا تقديرُه فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامَه وسنتُهم الاستئصالُ ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب﴾ أي عذابُ الآخرة ﴿قُبُلاً﴾ أي أنواعاً جمعُ قَبيل أو عِياناً كما في قراءة قِبَلاً بكسر القاف وفتحِ الباء وقرئ بفتحتين أي مستقبَلاً يقال لقِيتُه قُبُلاً وقَبَلاً وقِبَلاً وانتصابُه عَلى الحاليةِ من الضمير أو العذاب والمعنى أن ما تضمنه القرآنُ الكريم من الأمور المستوجبةِ للإيمان بحيث لو لم يكن مثلَ هذه الحكمةِ القوية لما امتنع الناسُ من الإيمان وإن كانوا مجبولين على الجدَل المفْرِط
230
﴿وَمَا نُرْسِلُ المرسلين﴾ إلى الأمم ملتبسين بحال من الأحوالِ ﴿إلا﴾ حالَ كونهم ﴿مُبَشّرِينَ﴾ للمؤمنين بالثواب ﴿وَمُنذِرِينَ﴾ للكفرة والعصاة بالعقاب ﴿ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل﴾ باقتراح الآياتِ بعد ظهور المعجزاتِ والسؤالِ عن قصة أصحاب الكهفِ ونحوها تعنّتاً ﴿لِيُدْحِضُواْ بِهِ﴾ أي بالجدال ﴿الحق﴾ أي يُزيلوه عن مركزه ويُبْطلوه من إدحاض القدمِ وهو إزلاقُها وهو قولهم للرسلِ عليهمْ الصلاةُ والسلامُ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة ونحوُهما ﴿واتخذوا آياتي﴾ التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال ﴿وَمَا أُنْذِرُواْ﴾ أي أُنذروه من القوارع الناعيةِ عليهم العقابَ والعذابَ أو إنذارهم ﴿هزوا﴾ استهزاء وقرئ بسكون الزاي وهو ما يستهزأ به
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بآيات رَبّهِ﴾ وهو القرآنُ العظيم ﴿فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾ ولم يتدبرها ولم يتذكرْ بها وهذا السبكُ وإن كان مدلولُه الوضعيُّ نفيَ الأظلميةِ من غيرِ تعرضٍ لنفي المساواة في الظلم إلا أن مفهومَه العُرْفيَّ أنه أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ وبناءُ الأظلمية على مَا في حيِّز الصِّلةِ من الإعراض عن القرآن للإشعار بأن ظلمَ من يجادل فيه ويتخذُه هزواً خارجٌ عن الحد ﴿وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ أي عملَه من الكفر والمعاصي التي من جملتها ما ذكر من المجادلة بالباطل والاستهزاءِ بالحق ولم يتفكر في عاقبتها ﴿إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ أغطيةً كثيرة جمع كِنان وهو تعليلٌ لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوعٌ على قلوبهم ﴿أَن يَفْقَهُوهُ﴾ مفعولٌ لما دل عليه الكلامُ أي منعناهم أن قفوا على كُنهه أو مفعولٌ له أي كراهةَ أن يفقهوه ﴿وَفِي آذَانِهِم﴾ أي جعلنا فيها ﴿وِقْراً﴾ ثِقَلاً يمنعهم من استماعه ﴿وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً﴾ أي فلن يكون منهم اهتداءٌ البتةَ مدةَ التكليف وإذن جزاءٌ للشرط وجوابٌ عن سؤال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم المدلولِ عليه بكمال عنايتِه بإسلامهم كأنه قال ﷺ مالي لا أدعوهم فقيل إن تدعهم الخ وجمعُ الضميرِ الراجع إلى الموصول في هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه كما أن إفراده في المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار لفظه
230
الكهف
231
٥٨ - ٦٠ ﴿وَرَبُّكَ﴾ مبتدأ وقوله تعالى ﴿الغفور﴾ خبرُه وقوله تعالى ﴿ذُو الرحمة﴾ أي الموصوفُ بها خبرٌ بعد خبرٍ وإيرادُ المغفرة على صيغة المبالغة دون الحرمة للتنبيه على كثرة الذنوب ولأن المغفرةَ تركُ المضارّ وهو سبحانه قادرٌ على ترك ما لا يتناهى من العذاب وأما الرحمةُ فهي فعل وإيجادٌ ولا يدخل تحت الوجود إلا ما يتناهى وتقديمُ الوصف الأولِ لأن التخليةَ قبل التحلية أو لأنه أهمُّ بحسب الحال إذا المقام مقام بيان تأخر العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يُعرب عنه قوله عز وجل ﴿لَوْ يُؤَاخِذُهُم﴾ أي لو يريد مؤاخذتهم ﴿بِمَا كَسَبُواْ﴾ من المعاصي التي من جملتها ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضِهم عن آيات ربهم وعدمِ المبالاة بما اجترحوا من المُوبقات ﴿لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب﴾ لاستيجاب أعمالهم لذلك وإثار المؤاخذةِ المنبئة عن شدة الأخذِ بسرعة على التعذيب والعقوبةِ ونحوهما للإيذان بأن النفيَ المستفادَ من مقدَّم الشرطية متعلقٌ بوصف السرعة كما ينبئ عنه تاليها وإثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن انتفاءَ تعجيلِ العذاب لهم بسبب استمرار عدمِ إرادة المؤاخذة فإن المضارعَ الواقعَ موقعَ الماضي يفيد استمرارَ انتفاءِ الفعل فيما مضى كما حُقّق في موضعه ﴿بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ﴾ اسمُ زمان هو يومُ بدر أو يوم القيامة والجملةُ معطوفةٌ على مقدر كأنه قيل لكنهم ليسوا بمؤاخذين بغتةً ﴿لَّن يَجِدُواْ﴾ البتةَ ﴿مِن دُونِهِ مَوْئِلاً﴾ منْجى أو ملجأً يقال وأل أي نجا ووأل إليه أي لجأ إليه
﴿وَتِلْكَ القرى﴾ أي قرى عاد وثمودَ وأضرابِها وهي مبتدأٌ على تقدير المضافِ أي وأهلُ تلك القرى خبرُه قوله تعالى ﴿أهلكناهم﴾ أو مفعولٌ مضمرٌ مفسر به ﴿لَمَّا ظَلَمُواْ﴾ أي وقت ظلمِهم كما فعلت قريشٌ بما حُكي عنهُم من القبائحِ وتركُ المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلةَ اللازم أي لما فعلوا الظلم ولمّا إما حرفٌ كما قال ابنُ عصفور وإما ظرفٌ استعمل للتعليل وليس المرادُ به الوقتَ المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمانٌ ممتدٌ من ابتداء الظلم إلى آخره ﴿وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم﴾ أي عيّنّا لهلاكهم ﴿مَّوْعِدًا﴾ أي وقتاً معيناً لا محيدَ لهم عن ذلك وهذا استشهاد على ما فُعل بقريش من تعيين الموعد ليتنبهوا لذلك ولا يغتروا بتأخر العذاب وقرئ بضم الميم وفتح اللام أي إهلاكهم وبفتحهما
﴿وَإِذْ قَالَ موسى﴾ نصب بإضمار فعل أي اذكر وقت قوله عليه السلام ﴿لفتاه﴾ وهو يوشَعُ بنُ نونِ بنِ أفرايمَ بنِ يوسفَ عليه السلام سُمّي فتاه إذ كان يخدُمه ويتبعه وقيل كان يتعلم منه ويسمى التلميذُ فتًى وإن كان شيخاً ولعل المرادَ بتذكيره عَقيب بيانِ أن لكل أمة موعداً تذكيرُ ما في القصة من موعد الملاقاة مع ما فيها من سائر المنافعِ الجليلة ﴿لا أَبْرَحُ﴾ من برِح الناقصِ كزال يزال أي لا أزال أسير فحُذف الخبر اعتماداً على
231
الكهف ٦١ ٦٢ قرينة الحالِ إذْ كان ذلك عند التوجه إلى السفر واتكالاً على ما يعقبُه من قوله ﴿حتى أَبْلُغَ﴾ فإن ذلك غايةٌ تستدعي ذا غايةً يؤدّي إليها ويجوز أن يكون أصلُ الكلام لا يبرَح مسيري حاصلاً حتى أبلُغ فيُحذف المضافُ ويقام المضافُ إليه مُقامَه فينقلب الضمير البارزُ المجرورُ المحلِّ مرفوعاً مستكنًّا والفعلُ من صيغة الغَيبة إلى التكلم ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ برح التامِّ كزال يزول أي لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ ﴿مَجْمَعَ البحرين﴾ هو ملتقى بحرِ فارسَ والروم مما يلي المشرِق وقيل طَنْجَةُ وقيل هما الكر والرس بامينية وقيل افريقية وقرئ بكسر الميم كمشرق ﴿أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً﴾ أسير زماناً طويلاً أتيقن معه فواتَ المطلب والحُقب الدهرُ أو ثمانون سنة وكان منشأُ هذه العزيمة أن موسى عليه السلام لما ظهر على مصر مع بني إسرائيلَ واستقروا بها بعد هلاكِ القِبْط أمره الله عزَّ وجلَّ أن يذكّر قومَه النعمةَ فقام فيهم خطيباً بخطبة بديعةٍ رقت بها القلوبُ وذرَفت العيون فقالوا له مَنْ أعلمُ الناس قال أنا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يردّ العلم إليه عز وجل فأوحى إليه بل أعلمُ منك عبدٌ لي عند مجمع البحرين وهو الخِضْرُ عليه السلام وكان في أيام أفريذون قبل موسى عليه السلام وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى وقيل إن موسى عليه السلام سأل ربه أيُّ عبادِك أحبُّ إليك قال الذي يذكرُني ولا ينساني قال فأي عباد أقضى قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال فأيُّ عبادك أعلمُ قال الذي يبتغي علمَ الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمةً تدله على هدى أو تردّه عن ردَى فقال إن كان في عبادك من هو أعلمُ مني فدلَّني عليه قال أعلمُ منك الخِضْرُ قال أين أطلبه قال على ساحل البحر عند الصخرة قال يا رب كيف لي به قال تأخذ حوتاً في مِكْتل فحيثما فقَدته فهو هناك فأخذ حوتاً فجعله في مِكتل فقال لفتاه إذا فقدتَ الحوتَ فأخبرني فذهبا يمشيان
232
﴿فَلَمَّا بَلَغَا﴾ الفاءُ فصيحة كما أشير إليه ﴿مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا﴾ أي مجمعَ البحرين وبينِهما ظرفٌ أضيف إليه اتساعاً أو بمعنى الوصل ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ الذي جُعل فقدانُه أمارةَ وُجدانِ المطلوب أي نسيا تفقّد أمره وما يكون منه وقيل نسي يوشع أن يقدّمه وموسى عليه أن يأمره فيه بشيء روي أنهما لما بلغا مجمع البحرين وفيه الصخرةُ وعينُ الحياة التي لا يصيب ماؤها ميْتاً إلا حي وضعا رؤوسَهما على الصخرة فناما فلما أصاب الحوتَ بردُ الماء ورَوحُه عاش وقد كانا أكلا منه وكان ذلك بعد ما استيقظ يوشع عليه السلام وقيل توضأ عليه السلام من تلك العينِ فانتضح الماءُ على الحوت فعاش فوقع في الماء ﴿فاتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر سَرَباً﴾ مسلَكاً كالسرب وهو النفق قيل امسك الله عز وجل جريةَ الماء على الحوت فصار كالطاق عليه معجزةً لموسى أو للخضر عليهما السلام وانتصابُ سَرباً على أنه مفعولٌ ثانٍ لاتخذ وفي البحر حالٌ منه أو من السبيل ويجوز أن يتعلق باتخذ
﴿فَلَمَّا جَاوَزَا﴾ أي مجمعَ البحرين الذي جُعل موعداً للملاقاة قيل ادلجا وسار الليلةَ والغدَ إلى الظهر وأُلقي على موسى عليه السلام الجوعُ فعند ذلك ﴿قال لفتاه آتنا غَدَاءنَا﴾ أي ما نتغدى به وهو الحوتُ كما ينبئ عنه الجواب ﴿لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا﴾
232
إشارةٌ إلى ما سارا بعد مجاوزةِ الموعد ﴿نَصَباً﴾ تعباً وإعياءً قيل لم ينصب ولم يجمع قبل ذلك والجملةُ في محل التعليل للأمر بإيتاء الغداء إما باعتبار أن النصب إنما يعترى بسب الضعفِ الناشىء عن الجوع وإما باعتبار ما في أثناء التغدي من استراحة ما
233
﴿قَالَ﴾ أي فتاه عليه السلام ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة﴾ أي التجأنا إليها وأقمنا عندها وذكرُ الإِواءِ إليها مع أن المذكور فيما سبق مرتين بلوغُ مجمعِ البحرين لزيادة تعيينِ محلِّ الحادثة فإن المجمَع محلٌ متسعٌ لا يمكن تحقيقُ المراد المذكور بنسبة الحادثة إليه ولتميد العذر فإن الإِواءَ إليها والنومَ عندها مما يؤدي إلى النسيان عادة والرؤيةُ مستعارةٌ للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملةِ ومرادُه بالاستفهام تعجيبُ موسى عليه السلام مما اعتراه هناك من النسيان مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى وقد جُعل فقدانُه علامةً لوجدان المطلوب وهذا أسلوبٌ معتادٌ فيما بين الناس يقول أحدهم لصاحبه إذا نابه خطب أرأيتَ ما نابني يريد بذلك تهويلَه وتعجيبَ صاحبه منه وأنه مما لا يعهد وقوعُه لا استخبارُه عن ذلك كما قيل والمفعولُ محذوفٌ اعتماداً على ما يدلُّ عليهِ من قوله عز وجل ﴿فَإِنّى نَسِيتُ الحوت﴾ وفيه تأكيدٌ للتعجيب وتربيةٌ لاستعظام المنسيِّ وإيقاعُ النسيان على اسم الحوتِ دون ضمير الغَداءِ مع أنه المأمورُ بإتيانه للتنبيه منْ أولِ الأمرِ عَلى أنه ليس من قبيل نِسيان المسافرِ زادَه في المنزل وأن ما شاهده ليس من قبيل الأحوالِ المتعلقة بالغداء من حيث هو غَداءٌ وطعامٌ بل من حيث هو حوتٌ كسائر الحِيتان مع زيادة أي نسِيتُ أن أذكر لك أمرَه وما شاهدتُ منه من الأمور العجيبة ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان﴾ بوسوسته الشاغلةِ عن ذلكَ وقولُه تعالَى ﴿أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ بدلُ اشتمال من الضمير أي ما أنساني أن أذكرَه لك وفي تعليق الإنساء بضمير الحوتِ أولاً وبذكره له ثانياً على طريق الإبدالِ المنبئ عن تنحية المبدَل منه إشارةٌ إلى أن متعلَّقَ النسيان أيضاً ليس نفسَ الحوتِ بل ذكرُ أمره وقرئ أن أذكّره وإيثارُ أن أذكُرَه على المصدر للمبالغة فإن مدلوله نفسُ الحدث عند وقوعه والحالُ وإن كانت غريبةً لا يُعهد نسيانُها لكنه لما تعوّد بمشاهدة أمثالِها عند موسى عليه السلام وألِفَها قل اهتمامه بالمحافظة عليها ﴿واتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر عَجَبًا﴾ بيانٌ لطرف من أمر الحوت منبئ عن طرف آخرَ منه وما بينهما اعتراضٌ قُدم عليه للاعتناء بالاعتذار كأنه قيل حَيِيَ واضطرب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجباً فعجباً ثاني مفعولَي اتخَذ والظرفُ حالٌ من أولهما أو ثانيهما أو هو المفعولُ الثاني وعجباً صفةُ مصدرٍ محذوف أي اتخاذا عجبا وهو كونُ مسلَكه كالطاق والسرَب أو مصدرُ فعلٍ محذوف أي أتعجب منه عجباً وقد قيل إنه من كلام موسى عليه الصلاة والسلام وليس بذاك
﴿قَالَ﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام ﴿ذلك﴾ الذي ذكرتَ من أمر الحوت ﴿مَا كُنَّا نبغ﴾
233
وقرئ بإثبات الياء والضميرُ العائد إلى الموصول محذوفٌ أصلُه نبغيه أي نطلبه لكونه أَمارةً للفوز بالمرام ﴿فارتدا﴾ أي رجعا ﴿على آثارهما﴾ طريقِهما الذي جاءا منه ﴿قَصَصًا﴾ يقُصان قَصصاً أي يتّبعان آثارَهما اتباعاً أو مقتصّين حتى أتيا الصخرة
234
﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا﴾ التنكيرُ للتفخيم والإضافةُ للتشريف والجمهور على أنه الخصر واسُمه بَلْيَا بنُ مَلْكَان وقيل اليسع وقيل إلياس عليهم الصلاة والسلام ﴿آتيناه رحمة من عندنا﴾ هي الوحيُ والنبوةُ كما يُشعِرُ به تنكيرُ الرحمة واختصاصُها بجناب الكبرياء ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ خاصاً لا يُكتنه كُنهُه ولا يُقادَرُ قدرُه وهو علمُ الغيوب
﴿قَالَ لَهُ موسى﴾ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من السباق كأنه قيل فماذا جرى بنيهما من الكلام فقيل قال له موسى ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلّمَنِ﴾ استئذاناً منه في اتّباعه له على وجه التعلم ﴿مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً﴾ أي علماً ذا رُشدٍ أرشُد به في ديني والرشدُ إصابةُ الخير وقرئ بفتحتين وهو مفعولُ تعلّمنِ ومفعول عُلّمت محذوفٌ وكلاهما منقولٌ من عِلم المتعدي إلى مفعول واحد ويجوز كونُه علةً لأتبعُك أو مصدراً بإضمار فعله ولا ينافي نبوتَه وكونَه صاحبَ شريعةٍ أن يتعلم من نبي آخر مالا تعلقَ له بأحكام شريعتِه من أسرار العلومِ الخفية ولقد راعى في سَوق الكلام غايةَ التواضع معه عليهما السلام
﴿قال﴾ أي الخصر ﴿إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً﴾ نفى عنه استطاعةَ الصبر معه على وجه التأكيد كأنه مما لا يصِحّ ولا يستقيم وعلله بقوله
﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ إيذاناً بأنه يتولى أموراً خفيةَ المدارِ مُنْكَرةَ الظواهرِ والرجلُ الصالح لا سيما صاحبِ الشريعة لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها وفي صحيح البخاري قال الخضر يا موسى إنى على علمٍ من علم الله تعالى علَّمنيه لا تعلَمُه وأنت على علمٍ من علم الله علّمكه الله لا أعلمه وخبراً تمييز أي لم يحط به خبرك
﴿قال﴾ موسى عليه الصلاة والسلام ﴿ستجدنى إن شاء الله صَابِرًا﴾ معك غيرَ معترضٍ عليك وتوسيطُ الاستثناء بين مفعولَي الوُجدان لكمال الاعتناءِ بالتيمن ولئلا يتوهم تعلقه بالصبر ﴿وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً﴾ عطف على صابراً أي ستجدني صابراً وغيرَ عاصٍ وفي وعد هذا الوُجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبرِ وتركِ العصيان أو على ستجدني فلا محلَّ له من الإعراب والأولُ هو الأولى لما عرفته ولظهور تعلقِه بالاستثناء حينئذ وفيه دليلٌ على أنَّ أفعالَ العبادِ بمشيئةِ الله سبحانه وتعالى
234
الكهف
235
٧٠ - ٧٤ ﴿قَالَ فَإِنِ اتبعتنى﴾ أذِن له في الاتّباع بعد اللتيا والتي والفاءُ لتفريع الشرطيةِ على ما مر من التزام موسى عليه الصلاة والسلام للصبر والطاعة ﴿فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء﴾ تشاهده من أفعالي أي لا تفاتحْني بالسؤال عن حكمته فضلاً عن المناقشة والاعتراض ﴿حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾ ي حتى أبتدئ ببيانه وفيه إيذانٌ بأن كلَّ ما صدر عنه فله حكمةٌ وغايةٌ حميدةٌ البتةَ وهذا من أدب المتعلم من العالم والتابعِ مع المتبوع وقرئ فلا تسألَنّي بالنون المثقلة
﴿فانطلقا﴾ أي موسى والخضِرُ عليهما الصلاة والسلام على الساحل يطلبان السفينةَ وأما يوشعُ فقد صرفه موسى عليه الصلاة السلام إلى بني إسرائيلَ قيل إنهما مرا بسفينة فكلّما أهلها فعرفوا الخضِرَ فحملوهما بغير نَول ﴿حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة﴾ استعمالُ الركوب في أمثالِ هذهِ المواقعِ بكلمة في مع تجريده عنها في مثل قوله عز وجل لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً على ما يقتضيه تعديتُه بنفسه لِما أشرنا إليه في قوله تعالى وَقَالَ اركبوا فيها لا لما قيلَ من أن في ركوبها معنى الدخول ﴿خَرَقَهَا﴾ قيل خرقها بعد ما لججوا حيث أخذ فأساً فقلع من ألواحها لوحين مما يلي الماء فعند ذلك ﴿قَالَ﴾ موسى عليه السلام ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا﴾ من الإغراق وقرئ بالتشديد من التغريق وليغرَقَ أهلُها من الثلاثي ﴿لَقَدْ جِئْتَ﴾ أتيت وفعلت ﴿شَيْئًا إِمْرًا﴾ أي عظيماً هائلاً من أمرِ الأمرُ إذا عظُم قيل الأصل أَمِراً فخفف
﴿قَالَ﴾ أي الخضِرُ عليه السلام ﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً﴾ تذكير لماقاله من قبلُ وتحقيقٌ لمضمونه متضمنٌ للإنكار على عدم الوفاء وعده
﴿قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نسيت﴾ بنسياني أو بالذي نسيته أو بشيء نسيتُه وهو وصيتُه بأن لا يسألَه عن حكمة ما صدر عنه من الأفعال الخفيةِ الأسبابِ قبلَ بيانه أراد أنه نسِيَ وصيته ولا مؤاخذةَ على الناسي كما ورد في صحيح البخاريّ من أن الأولَ كان من موسى نسياناً أو أَخْرج الكلامَ في معرِض النهي عن المؤاخذة بالنسيان يوهمه أنه قد نسِيَ ليبسُطَ عذرَه في الإنكار وهو من معاريض الكلام التي يتقى بها الكذبُ مع التوصل إلى الغرض أو أراد بالنسيان التركَ أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة ﴿وَلاَ تُرْهِقْنِى﴾ أي لا تُغشِّني ولا تحمّلني ﴿مِنْ أَمْرِى﴾ وهو اتباعه إياه ﴿عُسْراً﴾ أي لا تعسِّرْ عليّ متابعتك ويسِّرها عليّ بالإغضاء وترك المناقشة وقرئ عُسُراً بضمتين
﴿فانطلقا﴾ الفاءُ فصيحةٌ أي فقِبل عذرَه فخرجا من السفينة فانطلقا ﴿حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ﴾
235
قيل كان الغلامُ يلعب مع الغلمان فقتل عُنقَه وقيل ضرب برأسه الحائطَ وقيل أضجعه فذبحه بالسكين ﴿قَالَ﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً﴾ طاهرةً من الذنوب وقرئ زاكيةً ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ أي بغير قتلِ نفسٍ محرمة وتخصيصُ نفْي هذا المبيحِ بالذكر من بين سائر المبيحات من الكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصانِ لأنه الأقربُ إلى الوقوع نظراً إلى حال الغلام ولعل تغييرَ النظمِ الكريم بجعل ما صدر عن الخضر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ههنا من جملة الشرطِ وإبرازِ ما صدر عن موسى عليه الصلاة والسلام في معرض الجزاءِ المقصودِ إفادتُه مع أن الحقيقَ بذلك إنما هو ما صدر عن الخضر عليه الصلاة والسلام من الخوارق البديعة لاستشراف النفسِ إلى ورود خبرِها لقلة وقوعِها في نفس الأمر ونُدرة وصولِ خبرها إلى الأذهان ولذلك روعيت تلك النكتةُ في الشرطيةِ الأولى لِما أن صدورَ الخوارقِ منه عليه الصلاة والسلام خرج بوقوعه مرة مَخرجَ العادة فانصرفت النفسُ عن ترقبّه إلى ترقب أحوالِ موسى عليه الصلاة والسلام هل يحافظ على مراعاة شرطِه بموجب وعدِه الأكيدِ عند مشاهدةِ خارقٍ آخرَ أو يسارع إلى المناقشة كما مر في المرة الأولى فكان المقصودُ إفادةَ ما صدر عنه عليه الصلاة والسلام ففعل ما فعل ولله درُ شأنِ التنزيلِ وأما ما قيل من أن القتلَ أقبحُ والاعتراضَ عليه أدخلُ فكان جديراً بأن يُجعل عمدةً في الكلام فليس من دفع الشبهةِ في شيء بل هو مؤيدٌ لها فإن كونَ القتل أقبحَ من مبادي قلة صدورِه عن المؤمن العاقلِ ونُدرةِ وصولِ خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعي جعلَه مقصوداً بالذات وكونَ الاعتراضِ عليه أدخلَ من موجبات كثرة صدورِه عن كل عاقل وذلك مما لا يقتضي جعله كذلك ﴿لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً﴾ قيل معناه أنكرُ من الأول إذ لا يمكن تدارُكه كما يمكن تداركُ الأول بالسدّ ونحوِه وقيل الأمرُ أعظمُ من النكرة لأن قتلَ نفس واحدةٍ أهونُ من إغراق أهلِ السفينة
236
﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً﴾ زيد لك لزيادة المكافحةِ بالعتاب على رفض الوصيةِ وقلة التثبّتِ والصبرِ لمّا تكرر منه الاشمئزازُ والاستنكار ولم يَرعَوِ بالتذكير حتى زاد في النكير في المرة الثانية
﴿قَالَ﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام ﴿إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا﴾ أي بعد هذه المرة ﴿فلا تصاحبني﴾ وقرئ من الإفعال أي لا تجعلني صاحبك ﴿قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً﴾ أي قد أعذرتَ ووجدتَ من قِبلي عُذراً حيث خالفتُك ثلاثَ مرات عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك لو لبث مع صاحبه لأبصرَ أعجبَ الأعاجيب وقرئ لدني بتخفيف النون وقرئ بسكون الدال كعضْد في عضُد
﴿فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ﴾
236
هي أنطاكيةُ وقيل أَيْلةُ وهي أبعدُ أرض الله من السماء وقيل هي برقة وقيل بلدة بأندلس عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم كانوا أهلَ قرية لئاما وقيل شرُّ القرى التي لا يضاف فيها الضيفُ ولا يُعرف لابن السبيل حقُّه وقوله تعالى ﴿استطعما أَهْلَهَا﴾ في محل الجرِّ على أنه صفةٌ لقرية ولعل العدول عن استطعماهم على أن يكون صفةً لأهل لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعِهم فإن الإباءَ من الضيافة وهم أهلُها قاطنون بها أقبحُ وأشنع روي أيهما طافا في القرية فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافاهم ﴿فَأَبَوْاْ أن يضيفوهما﴾ بالتشديد وقرئ بالتخفيف من الإضافة يقال ضافه إذا كان له ضيفاً وأضافه وضيّفه أنزله وجعله ضيفاً له وحقيقةُ ضاف مال إليه من ضاف السهمُ عن الغرَض ونظيرُه زاره من الازورار ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ﴾ أي يداني أن يسقُط فاستعيرت الإرادةُ للمشارفة للدِلالة على المبالغة في ذلك والانقضاضُ الإسراعُ في السقوط وهو انفعالٌ من القض يقال قضضته فانقضّ ومنه انقضاضُ الطير والكوكبِ لسقوطه بسرعة وقيل هو افْعِلالٌ من النقض كاحمر من الحمرة وقرئ أن ينقُض من النقْض وأن ينقاض من انقاضّت السن إذا انشقت طولاً ﴿فَأَقَامَهُ﴾ قيل مسحه بيده فقام وقيل نقضه وبناه وقيل أقامه بعمود عمَده به قيل كان سَمكُه مائة ذاع ﴿قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ تحريضاً له على أخذ الجُعْل لينتعشا به أو تعريضاً بأنه فضولٌ لما في لو من النفي كأنه لما رأى الحِرمانَ ومِساسَ الحاجة واشتغالَه بما لا يعنيه لم يتمالك الصبرَ واتخذ افتعل من تخِذ بمعنى أخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ عند البصريين وقرئ لتخذت أي لأخذت وقرئ بإدغامِ الذالِ في التَّاءِ
237
﴿قَالَ﴾ أي الخضِرُ عليه الصلاة والسلام ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ﴾ على إضافة المصدر إلى الظرف اتساعا وقد قرئ على الأصل والمشارُ إليه إما نفسُ الفِراق كما في هذا أخوك أو الوقتُ الحاضرُ أي هذا الوقتُ وقتُ فراق بيني وبينِك أو السؤالُ الثالث أي هذا سببُ ذلك الفراقِ حسبما هو الموعودُ ﴿سَأُنَبّئُكَ﴾ السين للتأكيد لعدم تراخي التنبئة ﴿بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ التأويلُ رجْعُ الشيءِ إلى مآله والمراد به ههنا المآلُ والعاقبةُ إذ هو المنبَّأُ به دون التأويل وهو خلاصُ السفينة من اليد العادِيَة وخلاصُ أبوَي الغلام من شره مع الفوز بالبدل الأحسنِ واستخراجُ اليتيمين للكنز وفي جعل صلةِ الموصول عدمَ استطاعةِ موسى عليه الصلاة والسلام للصبر دون أن يقال بتأويل ما فعلتُ أو بتأويل ما رأيتَ ونحوِهما نوع تعريض به عليه الصلاة والسلام وعتاب
﴿أَمَّا السفينة﴾ التي خرقتُها ﴿فَكَانَتْ لمساكين﴾ لضعفاءَ لا يقدرون على مدافعة الظَّلَمة وقيل كانت لعشرة إخوةٍ خمسة منهم زمنى وخمسة ﴿يَعْمَلُونَ فِى البحر﴾ وإسنادُ العمل إلى الكل حينئذ إنما هو بطريق التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكِّلين ﴿فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ أي أجعلها ذاتَ عيب ﴿وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ﴾ أي أمامهم وقد قرئ به أو خلفَهم وكان رجوعهم
237
الكهف ٨٠ عليه لا محالة واسمه جَلَندَي بنُ كركر وقيل منولة بن جلندي الأزْدي ﴿يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ﴾ أي صالحة وقد قرئ كذلك ﴿غَصْباً﴾ من أصحابها وانتصابُه على أنه مصدرٌ مبينٌ لنوع الأخذ ولعل تفريعَ إرادةِ تعييب السفينةِ على مسكنة أصحابِها قبل بيان خوفِ الغصْب مع أن مدارَها كلا الأمرين للاعتناء بشأنها إذ هي المحتاجةُ إلى التأويل وللإيذان بأن الأقوى في المدارية هو الأمرُ الأولُ ولذلك لا يبالي بتخليص سفنِ سائرِ الناس مع تحقق خوفِ الغصبِ في حقهم أيضاً ولأن في التأخير فصلاً بين السفينة وضميرِها مع توهم رجوعِه إلى الأقرب
238
﴿وأما الغلام﴾ الذي قتله ﴿فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ لم يصرح بكفرانه أو بكفره إشعاراً بعدم الحاجة إلى الذكر لظهوره ﴿فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا﴾ فخِفنا أن يغْشَى الوالدَين المؤمنَين ﴿طُغْيَانًا﴾ عليهما ﴿وَكُفْراً﴾ لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعِه ويُلحق بهما شراً وبلاءً أو يُقرَنَ بإيمانهما طغيانُه وكفره فيجتمَع في بيت واحد مؤمنان وطاغٍ كافرٌ أو يُعدِيَهما بدائه ويُضلّهما بضلاله فيرتدّا بسببه وإنما خشي الخضر عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منه ذلك لأن الله سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمره وقرئ فخاف ربك أي كره سبحانه كراهةَ مَن خاف سوء عاقبة الأمر فغيّره ويجوز أن تكون القراءةُ المشهورة على الحكاية بمعنى فكرِهنا كقوله تعالى لاِهَبَ لَكِ
﴿فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً﴾ منه بأن يرزُقهما بدلَه ولداً خيراً ﴿مِنْهُ﴾ وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما مالا يَخفْى من الدلالةِ على إرادة وصولِ الخير إليهما ﴿زكاة﴾ طهارةً من الذنوب والأخلاق الرديئة ﴿وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾ أي رحمةً وعطفاً قيل وُلدت لهما جارية تزوجها نبيا فولدت نبيا هدى الله تعالى على يديه أمةً من الأمم وقيل ولدت سبعين نبياً وقيل أبدلهما ابناً مؤمناً مثلَهما وقرئ يبدلهما بالتشديد وقرئ رُحُماً بضم الحاء أيضاً وانتصابُه على التمييز مثلُ زكاة
﴿وَأَمَّا الجدار﴾ المعهودُ ﴿فَكَانَ لغلامين يَتِيمَيْنِ فِى المدينة﴾ هي القريةُ المذكورة فيما سبق ولعل التعبيرَ عنها بالمدينة لإظهار نوعِ اعتدادٍ بها باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالحِ قيل اسماهما أصرم وصريم واسمُ المقتول جيسور ﴿وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا﴾ من فضة وذهب كما رُوي مرفوعاً والذمُّ على كنزهما في في قولِه عزَّ وجلَّ والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة لمن لا يؤدي زكاتَهما وسائرَ حقوقهما وقيل كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه عجبْتُ لمن يؤمن بالقدر كيف يحزَن وعجبتُ لمن يؤمن بالرزق كيف يتعَب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفُل وعجبت لمن يعرِف الدنيا وتقلُّبَها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله الله محمدٌ رسول الله وقيل
238
الكهف ٨٣ صحفٌ فيها علم ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا﴾ تنبيهٌ على أن سعيَه في ذلك كان لصلاحه قيل كان بينهما وبين الأب الذي حُفظا فيه سبعةُ آباء ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾ أي مالكُك ومدبرُ أمورك ففي إضافة الربِّ إلى ضمير موسى عليه الصلاة والسلام دون ضميرهما تنبيه له عليه الصلاة والسلام على تحتم كمالِ الانقيادِ والاستسلامِ لإرادته سبحانه ووجوبِ الاحترازِ عن المناقشة فيما وقع بحسبها من الأمور المذكورة ﴿أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾ أي حلمهما وكما رأيهما ﴿وَيَسْتَخْرِجَا﴾ بالكلية ﴿كَنزَهُمَا﴾ من تحت الجدار ولولا أنى أقمته لا نقض وخرج الكنزُ من تحته قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميتِه وضاع ﴿رَحْمَةً مّن رَّبّكَ﴾ مصدرٌ في موقعِ الحالِ أي مرحومَين منه عز وجل أو مفعولٌ له أو مصدرٌ مؤكدٌ لأراد فإن إرادةَ الخير رحمةٌ وقيل متعلقٌ بمضمر أي فعلتُ ما فعلتُ من الأمور التي شاهدتَها رحمةً من ربك ويعضُده إضافةُ الرب إلى ضمير المخاطبِ دون ضميرهما فيكون قوله عز وعلا ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى﴾ أي عن رأيي واجتهادي تأكيد لذلك ﴿ذلك﴾ إشارة إلى العواقب المنظومةِ في سلك البيان وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتِها في الفخامة ﴿تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع﴾ أي لم تستطع فحُذف التاء للتخفيف ﴿عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ من الأمور التي رابتْه أي مآلُه وعاقبتُه فيكون إنجازاً للتنبئة الموعودةِ أو إلى البيان نفسه فيكون التأويلُ بمعناه وعلى كل حالٍ فهو فذلكةٌ لما تقدم وفي جعل الصلة عينَ ما مر تكرير للتنكير وتشديدٌ للعتاب تنبيه اختلفوا في حياة الخضر عليهِ الصَّلاة والسَّلام فقيلَ إنه حيٌّ وسببُه أنه كان على مقدمة ذي القرنين فلما دخل الظلماتِ أصاب الخضرُ عينَ الحياة فنزل واغتسل منها وشرب من مائها وأخطأ ذو القرنين الطريقَ فعاد قالوا وإلياسُ أيضاً في الحياة يلتقيان كلَّ سنة بالموسم وقيل إنه ميتٌ لما رُوي أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم صلى العشاءَ ذاتَ ليلة ثم قال أرأيتَكم ليلتَكم هذه فإن رأسَ مائةِ سنة منها لا يبقي ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدٌ ولو كان الخضرُ حينئذ حيًّا لما عاش بعد مائة عام رُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يفارقه قال أوصِني قال لا تطلب العلمَ لتحدّث به واطلبُه لتعمل به
239
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين﴾ هم اليهودُ سألوه على وجه الامتحان أو سأله قريشٌ بتلقينهم وصيغةُ الاستقبال للدلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجوابِ وهو ذو القرنين الأكبرُ واسمه الإسكندر ابن فيلفوس اليوناني وقال ابن إسحاق اسمه مر زبان بنُ مردبةَ من ولد يافثَ بنِ نوحٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وكان أسودَ وقيل اسمُه عبد اللَّه بن الضحاك وقيل مصعبُ بنُ عبد اللَّه بن الضحاك وقيل مصعبُ بنُ عبد اللَّه بنِ فينانَ بنِ منصور بن عبد الله بن الآزَرِ بن عون بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرُبَ بن قحطانَ وقال السهيلي قيل إن اسمه مَرْزُبانُ بنُ مُدرِكةَ ذكره ابن هشام وهو أول التبابِعة وقيل إنه أفريذون بنُ النعمانِ الذي قتل الضحاك وذكر أبو الريحان البيروتي في كتابه المسمى بالآثار الباقية عن القرون الخالية أن ذا القرنين هو أبو كرب سمى ابن عيرين بن أفريقيس الحِمْيري وأن مُلكَه بلغ مشارقَ الأرض ومغاربَها وهو الذي افتخر به التبّعُ اليماني حيث قال
قد كان ذو القرنين جدّي مسلما
ملِكاً علا في الأرض غيرَ مفنَّد بلغ المشارقَ والمغاربَ يبتغي
أسبابَ أمرٍ من حكيم مُرشد
وجعلَ هذا القولَ أقربَ لأن الأذواءَ كانوا من اليمن كذي المنار وذي نواس وذي النون وذي
239
رُعَين وذي يزَن وذي جَدَن قال الإمام الرازي والأولُ هو الأظهر لأن من بلغ ملكَه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيلُ الجليلُ إنما هو الإسكندر اليونانيُّ كما تشهد به كتبُ التواريخ يروى أنه لما مات أبوه جَمع مُلكَ الروم بعد أن كان طوائفَ ثم قصد ملوكَ العرب وقهرَهم ثم أمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصرَ فبنى الاسكندرية وسماها باسمه ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيلَ وورد بيتَ المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينيةَ وبابِ الأبواب ودان له العراقيون والقِبطُ والبربرُ ثم توجه نحو دار ابن دارا وهزمه مراراً إلى أن قتله صاحبُ حرسِه واستولى على ممالك الفرسِ وقصدَ الهند وفتحه وبنى مدينة سرنديبَ وغيرَها من المدن العظامِ ثم قصد الصينَ وغزا الأمم البعيدةَ ورجع إلى خراسانَ وبنى بها مدائنَ كثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات انتهى كلام الإمام وروي أن أهلَ النجوم قالوا له إنك لا تموت إلا على أرض من حديد وتحت سماه من خشب وكان يدفِن كنزَ كل بلدةٍ فيها ويكتب ذلك بصفته وموضعِه فبلغ بابل فرعَف وسقط عن دابته فبُسطت له دروعٌ فنام عليها فآذته الشمس فأظلوه بترس فنظر فقال هذه أرض من حديد وسماءٌ من خشب فأيقن بالموت فمات وهو ابنُ ألفٍ وستمائة سنة وقيل ثلاثةِ آلافِ سنة قال ابن كثير وهذا غريب وأغربُ منه ما قاله ابنُ عساكر من أنه بلغني أنه عاش ستاً وثلاثين سنة أو ثنتين وثلاثين سنة وأنه كان بعد داودُ وسليمانُ عليهما السلام فإن ذلك لا ينطبق إلا على ذي القرنين الثاني كما سنذكره قلت وكذا ما ذكره الإمام من قصد بني إسرائيلَ وورودِ بيت المقدس والذبحِ في مذبحه فإنه مما لا يكاد يتأتى نسبتُه إلى الأول واختُلف في نبوته بعد الاتفاق على إسلامه وولايتِه فقيل كان نبياً لقوله تعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض وظاهر أنه متناولٌ للتمكين في الدين وكمالُه بالنبوة ولقوله تعالى ﴿واتيناه مِن كُلّ شَىْء سَبَباً﴾ ومن جملة الأشياء النبوةُ ولقوله تعالى ﴿قُلْنَا يا ذا القرنين﴾ ونحوِ ذلك وقيل كان ملكاً لما رُوي أن عمر رضي الله عنه سمع رجلاً يقول لآخر يا ذا القرنين فقال اللهم غفراً أما رضِيتم أن تتسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة قال ابن كثير والصحيحُ أنه ما كان نبياً ولا ملكاً وإنما كان ملكاً صالحاً عادلاً ملَك الأقاليَم وقهر أهَلها من الملوك وغيرَهم ودانتْ له البلادُ وأنه كان داعياً إلى الله تعالى سائراً في الخلق بالمَعْدلة التامة والسلطانِ المؤيَّدِ المنصورِ وكان الخضر على مقدمة جيشِه بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير وقد ذكر الأزرقي وغيرُه أنه أسلم على يدَيْ إبراهيمَ الخليلِ عليه الصلاة والسلام فطاف معه بالكعبة هو وإسماعيلُ عليهم السلام ورُوي أنه حج ماشياً فلما سمع إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقدومه تلقاه ودعا له وأوصاه بوصايا ويقال إنه أُتيَ بفرس ليركب فقال لا أركب في بلد فيه الخليل فعند ذلك سخر له السحاب وطوي له الأسباب وبشره إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام بذلك فكانت السحابُ تحمله وعساكرَه وجميعَ آلاتِهم إذا أرادوا غزوةَ قومٍ وقال أبو الطفيل سُئل عنه عليٌّ كرم الله وجهه أكان نبياً أم ملِكاً فقال لم يكن نبياً ولا ملكاً لكن كان عبداً أحب الله فأحبه وناصح الله فناصحه سُخر له السحابُ ومُدّ له الأسباب واختلف في وجه تسميته بذي القرنين فقيل لأنه بلغ قَرني الشمس مشرِقَها ومغربَها وقيل لأنه ملَك الرومَ وفارسَ وقيل الرومَ والتركَ وقيل لأنه كان في رأسه أو في تاجه ما يشبه القرنين وقيل لأنه كان له ذؤابتان وقيل لأنه كانت صفحتا رأسِه من النحاس وقيل لأنه دعا الناس إلى الله عزَّ وجلَّ فضرب
240
الكهف ٨٤ بقرنه الأيمنِ فمات ثم بعثه الله تعالى فضَرب بقرنه الأيسرِ فمات ثم بعثه الله تعالى وقيل لأنه رأى في منامه أنه صعِد الفَلكَ فأخذ بقرني الشمس وقيل لأنه انقرض في عهده قَرنان وقيل لأنه سُخّر له النورُ والظلمة فإذا سرَى يهديه النورُ من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه وقيل لُقّب به لشجاعته هذا وأما ذو القرنين الثاني فقد قال ابن كثير إنه الإسكندر بن فيليس بنِ مصريمَ بنِ هُرمُسَ بنِ ميطونَ بنِ رومي بن ليطى بن يونان ابن يافثَ بن نونه بن شرخونَ بن روميةَ بن ثونط بن نوفيلَ بن رومي بن الأصفرِ بن العنز بن العيصِ بن إسحاقَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ عليهما الصلاة والسلام كذا نسبه ابنُ عساكرَ المقدونيُّ اليوناني المصريُّ باني الإسكندريةِ الذي يؤرِّخ بأيامه الرومُ وكان متأخراً عن الأول بدهر طويلٍ أكثرَ من ألفي سنة كان هذا قبل المسيح عليه السلام بنحو من ثلاثمائة سنة وكان وزيرُه أرسطاطاليس الفيلسوفَ وهو الذي قتل دارا ابن دار أو أذل ملوك الفرس ووطئ أرضهم ثم قال ابن كثير وإنما بيّنا هذا لأن كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحدٌ وأن المذكورَ في القرآن العظيم هو هذا المتأخرُ فيقع بذلك خطأ كبير وفساد كثيرٌ كيف لا والأولُ كان عبداً صالحاً مؤمناً وملكاً عادلاً وزيرُه الخضرُ عليه الصلاةُ والسلامُ وقد قيل إنه كان نبياً وأما الثاني فقد كان كافراً وزيرُه أرسطاطاليس الفيلسوفُ وقد كان ما بينهما من الزمان أكثرَ من ألفي سنة فأين هذا من ذاك انتهى قلت المقدوني نسبةً إلى بلد من بلاد الروم غربيَّ دارِ السلطنة السنية قُسطنطينيةَ المحمية لا زالت مشحونةً بالشعائر الدينية بينهما من السافة مسيرة خمسة عشرة يوماً أو نحوِ ذلك عند مدينة سَيروزَ اسمُها بلغة اليونانيين مقدونيا كانت سريرَ مُلك هذا الإسكندرِ وهي اليوم بلقَعٌ لا يقيم بها أحد ولكن فيها علائمُ تحكي كمالَ عِظَمها في عهد عُمرانها ونهايةِ شوكةِ واليها وسلطانِها ولقد مررتُ بها عند القُفول من بعض المغازي السُّلطانية فعاينتُ فيها من تعاجيب الآثارِ ما فيه عبرةٌ لأولي الأبصار ﴿قُلْ﴾ لهم في الجواب ﴿سأتلو عَلَيْكُمْ﴾ أي سأذكر لَكُمْ ﴿مِنْهُ﴾ أيْ منَ ذي القرنين ﴿ذِكْراً﴾ أي نبأ مذكور أو حيث كان ذلك بطريق الوحي المتلو حكاية عن جهةِ الله عزَّ وجلَّ قيل سأتلو أو سأتلو في شأنه من جهته تعالى ذكراً أي قرآناً والسينُ للتأكيد والدِلالة على التحقيق المناسبِ لمقام تأييدِه عليه الصلاة والسلام وتصديقِه بإنجاز وعدِه أي لا أترك التلاوةَ البتةَ كما في قول من قال... سأشكر عَمْراً إن تراخت منيتى... أيادى لم تمنى وإن هي جلَّتِ...
لا الدلالة على أن التلاوة ستقع فيما يستقبل كما قيل لأن هذه الآيةَ ما نزلت بإنفرادها قبل الوحي بتمام القصة بل موصولةٌ بما بعدها ريثما سألوه ﷺ عنه وعن الروح وعن أصحاب الكهفِ فقال لهم ﷺ ائتوني غداً أخبرْكم فأبطأ عليه الوحي خمسة عشرة يوماً أو أربعين كما ذكر فيما سلف وقوله عز وجل
241
﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض﴾ شروعٌ في تلاوة الذكر المعهودِ حسبما هو الموعود والتمكين ههنا الإقدارُ وتمهيدُ الأسباب يقال مكّنه ومكّن له ومعنى الأولِ جعله قادراً وقوياً ومعنى الثاني جعل له قدرة وقوة ولتلازمها في الوجود وتقاربهما في المعنى يُستعمل كلٌّ منهما في محل الآخر كما في قوله عز وعلا مكناهم فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ أي جعلناهم
241
الكهف ٨٥ ٨٦ قادرين من حيث القُوى والأسبابُ والآلاتُ على أنواع التصرفاتِ فيها ما لم نجعلْه لكم من القوة والسَّعة في المال والاستظهارِ بالعَدد والأسباب فكأنه قيل ما لم نمكنْكم فيها أي ما لم نجعلْكم قادرين على ذلك فيها أو مكنّا لهم فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وهكذا إذا كان التمكينُ مأخوذاً من المكان بناءً على توهّم ميمِه أصليةً كما أشير إليه في سورة يوسف عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمعنى إنا جعلنا له مَكِنةً وقدرةً على التصرف في الأرض من يحث التدبيرُ والرأيُ والأسبابُ حيث سخر له السحاب ومدله في الأسباب وبُسط له النورُ وكان الليلُ والنهار عليه سواءً وسُهِّل عليه السيرُ في الأرض وذُلّلت له طرقها ﴿واتيناه مِن كُلّ شَىْء﴾ أراده من مُهمّات مُلكه ومقاصدِه المتعلقة بسلطانه ﴿سَبَباً﴾ أي طريقاً يوصله إليه وهو كلُّ ما يُتوصَّل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة
242
﴿فَأَتْبَعَ﴾ بالقطع أي فأراد بلوغَ المغرب فأتبع ﴿سَبَباً﴾ يوصله إليه ولعل قصدَ بلوغِ المغرب ابتداءً لمراعاة الحركة الشمسية وقرئ فاتّبع من الافتعال والفرق أن الأولَ فيه معنى الإدراك والإسراعِ دون الثاني
﴿حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس﴾ أي منتهى الأرضِ من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحدٌ من مجاوزته ووقف على حافة البحر المحيطِ الغربي الذي يقال له أو قيانوس الذي فيه الجزائرُ المسماة بالخالدات التي هي مبدأُ الأطوال على أحد القولين ﴿وَجَدَهَا﴾ أي الشمس ﴿تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ أي ذاتِ حَمأة وهي الطينُ الأسود من حمِئت البئرُ إذا كثرت حمأتها وقرئ حامية أي حارّة روي أن معاوية رضي الله عنه قرأ حامية وعنده ابن عباس رضي الله عنهما فقال حَمِئة فقال معاوية لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص كيف تقرأ قال كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمسَ تغرب قال في ماء وطين وروي في ثَأْط فوافق قولُ ابن عباسٍ رضيَ الله عنهما وليس بينهما منافاةٌ قطعية لجواز كون العينِ جامعةً بين الوصفين وكونِ الياء في الثانية منقلبةً عن الهمزة لانكسار ما قبلها وأما رجوعُ معاوية إلى قولُ ابن عباسٍ رضيَ الله عنهم بما سمعه من كعب مع أن قراءته محتمَلةً ولعله لما بلغ ساحلَ المحيط رآها كذلك إذ ليس في مطمح بصره غيرُ الماء كَما يلوحُ بهِ قولُه تعالى وَجَدَهَا تَغْرُبُ ﴿وَوَجَدَ عِندَهَا﴾ عند تلك العين ﴿قَوْماً﴾ قيل كان لباسُهم جلودَ لوحوش وطعامُهم ما لفَظه البحر وكانوا كفاراً فخيّره الله جل ذكره بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوَهم إلى الإيمان وذلك قوله تعالى ﴿قلنا يا ذا القرنين إِمَّا أَن تُعَذّبَ﴾ بالقتل من أول الأمرِ ﴿وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ أي أمراً ذا حُسْن على حذف المضافِ أو على طريقةِ إطلاقِ المصدر على موصوفه مبالغةً وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع ومحلُّ أن مع صلته إمَّا الرفعُ عَلَى الابتداءِ أو الخبرية وإما النصبُ على المفعولية أي إما تعذيبُك واقع أو إما أمرك تعذيبك
242
الكهف ٨٧ ٩٠ أو إما تفعلُ تعذيبَك وهكذا الحال في الاتخاذ ومن لم يقل بنبوته قال كان ذلك الخطابُ بواسطة نبيَ في ذلك العصر أو كان ذلك إلهاماً لا وحياً بعد أن كان ذلك التخييرُ موافقاً لشريعة ذلك النبي
243
﴿قَالَ﴾ أي ذو القرنين لذلك النبيِّ أو لمن عنده من خواصّه بعد ما تلقّى أمرَه تعالى مختار للشق الأخير ﴿أَمَّا مَن ظَلَمَ﴾ أي نفسَه ولم يقبل دعوتي وأصرّ على ما كان عليه من الظلم العظيمِ الذي هو الشركُ ﴿فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ بالقتل وعن قتادة أنه كان يطبُخ مَنْ كفر في القدور ومن آمن أعطاه وكساه ﴿ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبّهِ﴾ في الآخرة ﴿فَيْعَذّبُهُ﴾ فيها ﴿عَذَاباً نُّكْراً﴾ أي مُنكراً فظيعاً وهو عذابُ النار وفيه دِلالةٌ ظاهرةٌ على أن الخطابَ لم يكن بطريق الوحي إليه وأن مقاولتَه كانت مع النبي أو مَعَ مَنْ عنده من أهل مشورتِه
﴿وَأَمَّا مَنْ امَنَ﴾ بموجب دعوتي ﴿وَعَمِلَ﴾ عملاً ﴿صالحا﴾ حسبما يقتضيه الإيمان ﴿فَلَهُ﴾ في الدارين ﴿جَزَاء الحسنى﴾ أي فله المثوبةُ الحسنى أو الفِعلةُ الحسنى أو الجنةُ جزاءً على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لمضمون الجملة قُدّم على المبتدأ اعتناءً به أو منصوب بمضمر أي نجزي بها جزاء والجملةُ حالية أو معترضة بين المبتدأ والخبرِ المتقدمِ عليه أو حال أي مجزياً بها أو تمييز وقرئ منصوباً غيرَ منوّن على أنه سقط تنويه لالتقاء الساكنين ومرفوعاً منوّناً على أنه المبتدأُ والحسنى بدله ولخبر الجارُّ والمجرور وقيل خُيّر بين القتل والأسرِ والجوابُ من باب الأسلوبِ الحكيم لأن الظاهرَ التخييرُ بينهما وهم كفار فقال أما الكافرُ فيراعى في حقه قوةُ الإسلام وأما المؤمنُ فلا يُتعرَّض له إلا بما يجب ويجوز أن تكون إما وأما للتوزيع دون التخيير أي وليكن شأنُك معهم إما التعذيبَ وإما الإحسانَ فالأول لمن بقيَ على حاله والثاني لمن تاب ﴿وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا﴾ أي مما نأمر به ﴿يُسْراً﴾ أي سهلاً متيسراً غيرَ شاقَ وتقديرُه ذا يُسر أو أُطلق عليه المصدر مبالغة وقرئ بضمتين
﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً﴾ أي طريقاً راجعاً من مغرب الشمس موصلاً إلى مشرقها
﴿حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس﴾ يعني الموضِعَ الذي تطلع عليه الشمسُ أولاً من معمورة الأرض وقرئ بفتح اللام على تقديرِ مضافٍ أي مكان طلوعِ الشمس فإنه مصدر قيل ﴿وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً﴾ من اللباس والبناء قيل هم الزَّنْج وعن كعب أن أرضَهم لا تُمسك الأبنية وبها أسرابٌ فإذا طلعت الشمسُ دخلوا الأسرابَ أو البحر فإذا ارتفع النهارُ خرجوا إلى معايشهم وعن بعضهم خرجتُ حتى جاوزت الصينَ فسألت عن هؤلاء فقالوا بينك وبينهم مسيرةُ يومٍ وليلة فبغلتهم فإذا أحدُهم يفرُش أُذنه ويلبَس الأخرى ومعي صاحبٌ يعرِف لسانهم فقالوا له جئتنا تنظر كيف
243
الكهف ٩١ ٩٤ تطلُع الشمس قال فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغُشيَ عليّ ثم أفقتُ وهم يمسحونني بالدُّهن فلما طلعت الشمسُ على الماء إذا هو فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرَباً لهم فلما ارتفع النهارُ خرجوا إلى البحر يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضَج لهم وعن مجاهد من لا يلبَس الثيابَ من السودان عند مطلع الشمس أكثرُ من جميع أهلِ الأرض
244
﴿كذلك﴾ أي أمرُ ذي القرنين كما وصفناه لك في رفعة المحلِّ وبسطةِ المُلك أو أمرُه فيهم كأمره في أهل المغرِب من التخيير والاختيارِ ويجوزُ أن يكونَ صفةَ مصدرٍ محذوف لوجد أو نجعل أو صفةَ قومٍ أي على قوم مثلَ ذلك القَبيل الذي تغرُب عليهم الشمس في الكفر والحُكم أو ستراً مثلَ سترِكم من اللباس والأكنان والجبال وغيرِ ذلك ﴿وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ﴾ من الأسباب والعَدد والعُدد ﴿خُبْراً﴾ يعني أن ذلك من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علمُ اللطيفِ الخبير هذا على الوجه الأولِ وأما على الوجوه الباقيةِ فالمرادُ بما لديه ما يتناول ما جرى عليه وما صدر عنه وما لاقاه فتأمل
﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً﴾ أي طريقا ثلثا معترِضاً بين المشرق والمغرب آخذاً من الجنوب إلى الشمال
﴿حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾ بين الجبلين الذين سُدّ ما بينهما وهو منقطَعُ أرضِ الترك مما يلي المشرِق لا جبلا أرمينيةَ وأَذَرْبيجان كما توهم وقرئ بالضم قيل ما كان من خلقِ الله تعالَى فهو مضموم وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح وانتصاب بين على المفعولية لأنه مبلوغ وهو من الظروف التي تستعمل أسماءً أيضاً كما ارتفع في قولِه تعالَى لَّقَدْ تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وانجرّ في قوله تعالى هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ ﴿وَجَدَ مِن دُونِهِمَا﴾ أي من ورائهما مجاوزاً عنهما ﴿قَوْماً﴾ أي أمة من الناس ﴿لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾ لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم وقرئ من باب الإفعال أي لا يُفهمون السامعَ كلامَهم واختلفوا في أنهم من أي الأقوام فقال الضحاك هم جيلٌ من الترك وقال السدي التّركُ سريةٌ من يأجوم ومأجوم خرجت فضرب ذو القرنين السدّ فبقيت خارجَه فجميعُ الترك منهم وعن قتادة أنهم اثنتان وعشرون قبيلة سدّ ذو القرنين على إحدى وعشرين قبيلةً منهم وبقيت واحدة فسُمّوا التركَ لأنهم تركوا خارجين قال أهل التاريخ أولادُ نوح عليه السلام ثلاثةٌ سامٌ وحام ويافث فسام أبو العرب والعجمِ والروم وحامٌ أبو الحبشةِ والزَّنج والنُّوبة ويافثُ أبو الترك والخَزَر والصقالبة ويأجوجَ ومأجوج
﴿قَالُواْ﴾ أي بواسطة مترجمِهم أو بالذات على أن يكون فهم
244
الكهف ٩٥ ٩٦ ذي القرنين كلامَهم وإفهامُ كلامِه إياهم من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب ﴿يا ذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ﴾ قد ذكرنا أنهما من أولاد يافثَ بنِ نوحٍ عليه السلام وقيل يأجوجُ من الترك ومأجوجُ من الجيل واختلف في صفاتهم فقيل في غاية صِغرِ الجُثة وقِصَر القامة لا يزيد قدُّهم على شبر واحد وقيل في نهاية عِظَم الجسم وطولِ القامة تبلغ قدُودهم نحوَ مِائةٍ وعشرين دراعا وفيهم من عَرضُه كذلك وقيل لهم مخالبُ وأضراسٌ كالسباع وهما اسمانِ أعجميان بدليل منْع الصرفِ وقيل عربيان من أجّ الظليمُ إذا أسرع وأصلهما الهمزة كما قرأ عاصم وقد قرئ بغير همزةٍ ومُنع صرفُهما للتعريف والتأنيث ﴿يفسدون فِى الأرض﴾ أي في أرضنا بالقتل والتخريب وإتلافِ الزروع قيل كانوا يخرُجون أيام الربيع فلا يتركون أخضرَ إلا أكلوه ولا يباسا إلا احتملوه وقيل كانوا يأكلون الناسَ أيضاً ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً﴾ أي جُعْلاً من أموالنا والفاء لتفريع العَرض على إفسادهم في الأرض وقرئ خَراجا وكلاهما واحد كالنَّول والنوال وقيل الخراجُ ما على الأرض والذمة والخَرْجُ المصدر وقيل الخرج ما كان على كل رأس والخراجُ ما كان على البلد وقيل الخرجُ ما تبرعت به والخراج ما لزِمك أداؤُه ﴿على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا﴾ وقرئ بالضم
245
﴿قَالَ مَا مَكَّنّى﴾ بالإدغام وقرئ بالفك أي ما مكّنني ﴿فِيهِ رَبّى﴾ وجعلني فيه مكينا قادرا من المُلك والمال وسائرِ الأسباب ﴿خَيْرٌ﴾ أي مما تريدون أن تبذُلوه إليّ من الخَرْج فلا حاجة بي إليه ﴿فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ﴾ أي بفَعَلة وصُنّاع يُحسنون البناء والعمل وبآلات لابد منها في البناء والفاءُ لتفريع الأمر بالإعانة على خيرية ما مكّنه الله تعالى فيه من مالهم أو على عدم قَبولِ خَرْجهم ﴿أَجَعَلَ﴾ جواب للأمر ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ﴾ تقديمُ إضافةِ الظرف إلى ضمير المخاطبين على إضافته إلى ضمير يأجوج ومأجوج لإظهار كمالِ العناية بمصالحهم كما راعَوْه في قولهم بيننا وبينهم ﴿رَدْمًا﴾ أي حاجزاً حصيناً وبرزخاً متيناً وهو أكبرُ من السدّ وأوثقُ يقال ثوبٌ مُرَدّم أي فيه رِقاع فوق رِقاعٍ وهذا إسعافٌ بمرامهم فوق ما يرجونه
﴿آتوني زُبَرَ الحديد﴾ جمع زُبْره كغرف في غرفة وهي القطعةُ الكبيرة وهذا لا ينافي ردّ خراجِهم لأن المأمورَ به الإيتاءُ بالثمن أو المناولة كما ينبئ عنه القراءة بوصل الهمزة أي جيئوني بزُبَر الحديد على حذف الباء كما في أمرتك الخيرَ ولأن إيتاءَ الآلة من قبيل الإعانةِ بالقوة دون الخَراج على العمل ولعل تخصيصَ الأمر بالإيتاء بها دون سائرِ الآلات من الصخور والحطبِ ونحوِهما لِما أن الحاجة إليها أمسُّ إذ هي الركنُ في السد ووجودُها أعزُّ قيل حفَر للأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساسَ من الصخر والنحاس المذابِ والبنيانَ من زُبر الحديد بينها الحطبُ والفحم حتى سدّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما وكان مائةَ فرسخ وذلك قولُه عز قائلاً ﴿حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين﴾ أي آتَوه إياها فإخذ يبني شيئاً فشيئاً حتى إذا جعل ما بين ناحيتي الجبلين من البنيان مساوياً لهما
245
الكهف ٨٧ ٩٨ في السَّمْك على النهج المحكيِّ قيل كان ارتفاعُه مائتي ذراع وعرضه خمسين ذراعا وقرئ سوّى من التسوية وسُووِيَ على البناء للمجهول ﴿قَالَ﴾ للعَمَلة ﴿انفخوا﴾ أي بالكيران في الحديد المبني ففعلوا ﴿حتى إِذَا جَعَلَهُ﴾ أي المنفوخ فيه ﴿نَارًا﴾ أي كالنار في الحرارة والهيئة وإسنادُ الجعل المذكور إلى ذي القرنين مع أنه فعلُ الفَعَلة للتنبيه علي أنه العُمدة في ذلك وهم بمنزلة الآلةِ ﴿قَالَ﴾ للذين يتولَّوْن أمرَ النحاس من الإذابة ونحوها ﴿اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً﴾ أي آتوني قِطراً أي نُحاساً مذاباً أفرِغْ عليه قطراً فحُذف الأولُ لدِلالة الثاني عليه وقرئ بالوصل أي جيئوني كأنه يستدعيهم للإعانة باليد عند الإفراغ وإسنادُ الإفراغِ إلى نفسه للسر الذي وقفت عليه آنفاً وكذا الكلامُ في قولِه تعالى سَاوِى وقولِه تعالى أَجَعَلَ
246
﴿فَمَا اسطاعوا﴾ بحذف تاء الافتعال تخفيفاً وحذَراً عن تلاقي المتقاربين وقرئ بالإدغام وفيه جمعٌ بين الساكنين على غير حِدَة وقرئ بقلب السين صاداً والفاء فصيحةٌ أي فعلوا ما أُمروا به من إيتاء القِطْر أو الإتيانِ فأفرغَه عليه فاختلط والتصق بعضُه ببعض فصار جبلاً صَلْداً فجاء يأجوجُ ومأجوجُ فقصدوا أن يعلُوه وينقُبوه فما استطاعوا ﴿أَن يَظْهَرُوهُ﴾ أي يعلوه ويرقَوا فيه لارتفاعه وملاسته ﴿وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْبًا﴾ لصلابته وثخانتِه وهذه معجزةٌ عظيمةٌ لأن تلك الزُبَرَ الكثيرةَ إذا أثرت فيها حرارةُ النار لا يقدر الحيوانُ على أن يحومُ حولَها فضلاً عن النفخ فيها إلى أن تكون كالنار أو عن إفراغ القِطر عليها فكأنه سبحانه وتعالى صرف تأثيرَ تلك الحرارةِ العظيمة عن أبدان أولئك المباشرين للأعمال فكان ما كان والله على كُلّ شَيْء قدير وقيل بناه من الصخور مرتبطاً بعضُها ببعض بكلاليب من حديد ونحاسٍ مُذاب في تجاويفها بحيث لم يبق هناك فُرجةٌ أصلاً
﴿قَالَ﴾ أي ذو القرنين لمن عنده من أهل تلك الديارِ وغيرهم ﴿هذا﴾ إشارةٌ إلى السد وقيل إلى تمكينه من بنائه والفضلُ للمتقدم أي هذا الذي ظهر على يدي وحصل بمباشرتي من السد الذي شأنه ما ذكر من المتانة وصعوبةِ المنال ﴿رَحْمَةً﴾ أي أثرُ رحمةٍ عظيمة عبر عنه بها مبالغةً ﴿مّن رَّبّى﴾ على كافة العباد لا سيما على مجاوريه وفيه إيذانٌ بأنه ليس من قبيل الآثارِ الحاصلةِ بمباشرة الخلقِ عادةً بل هو إحسانٌ إلهي محضٌ وإن ظهر بمباشرتي والتعرّضُ لوصف الربوبيةِ لتربية معنى الرحمة ﴿فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى﴾ مصدر بمعنى المفعول وهو يومُ القيامة لا خروجُ يأجوجَ ومأجوجَ كما قيلَ إذْ لا يساعده النظمُ الكريم والمراد بمجيئه ما ينتظم مجيئَه ومجيءَ مباديه من خروجهم وخروجِ الدجالِ ونزولِ عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوِ ذلك لا دنوُّ وقوعِه فقط كما قيل فإن بعضَ الأمور التي ستحكى تقع بعد مجيئِه حتماً ﴿جَعَلَهُ﴾ أي السدَّ المشارَ إليه مع متانته ورصانتِه وفيه من الجزالة ما ليس في توجيه الإشارةِ السابقة إلى التمكين المذكور ﴿دَكَّاء﴾ أي أرضاً مستوية وقرئ دكاً أي مدكوكاً مسوَّى بالأرض وكلُّ ما انبسط بعد ارتفاعٍ فقد اندك ومنه الجملُ الأدكُّ أي المنبسطُ السنام وهذا الجعلُ وقت مجيءِ الوعد بمجيء بعضِ مباديه وفيه بيانٌ لعظم قدرته عز
246
الكهف ٩٩ ١٠١ وجل بعد بيان سعةِ رحمته ﴿وَكَانَ وَعْدُ رَبّى﴾ أي وعدُه المعهودُ أو كلُّ ما وعد به فيدخُل فيه ذلك دخولاً أولياً ﴿حَقّاً﴾ ثابتاً لا محالةَ واقعاً البتة وهذه الجملةُ تذييلٌ من ذي القرنين لما ذكره من الجملة الشرطيةِ ومقرِّرٌ مؤكدٌ لمضمونها وهو آخرُ ما حُكي من قصته وقوله عز وجل
247
﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ﴾ كلامٌ مَسوقٌ من جنابه تعالى معطوفٌ على قوله تعالى جَعَلَهُ دَكَّاء ومحقِّقٌ لمضمونه أي جعلنا بعضَ الخلائق ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أي يوم إذ جاء الوعد بمجيء بعض مباديه ﴿يموج فى بعض﴾ آخر منهم يضطربون اضطرابَ أمواجِ البحر ويختلط إنسُهم وجنُّهم حَيارى من شدة الهول ولعل ذلك قبل النفخةِ الأولى أو تركنا بعضَ يأجوجَ ومأجوجَ يموج في بعض آخرَ منهم حين يخرُجون من السد مزدحمين في البلاد
روي أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابَّه ثم يأكلون الشجرَ ومن ظفِروا به ممن لم يتحصّن منهم من الناس ولا يقدِرون أن يأتوا مكةَ والمدينة وبيتَ المقدسِ ثم يبعث الله عز وجل نَغَفاً في أقفائهم فيدخُل آذانَهم فيموتون موتَ نفس واحدة فيرسل الله تعالى عليهم طيراً فتلقيهم في البحر ثم يرسل مطراً يغسل الأرض ويطهرها من نَتْنهم حتى يترُكها كالزَّلَفة ثم يوضع فيها البركة وذلك بعد نزولِ عيسى عليه الصلاة والسلام وقتْل الدجال ﴿وَنُفِخَ فِى الصور﴾ هيَ النفخة الثانية بقضية الفاء في قوله تعالى ﴿فجمعناهم﴾ ولعل عدمَ التعرضِ لذكر النفخةِ الأولى لأنها داهيةٌ عامةٌ ليس فيها حالةٌ مختصة بالكفار ولئلا يقعَ الفصلُ بين ما يقع في النشأة الأولى من الأحوال والأهوالِ وبين ما يقع منها في النشأة الآخرة أي جمعنا الخلائقَ بعدما تفرقت أوصالُهم وتمزقت أجسادُهم في صعيد واحدٍ للحساب والجزاء ﴿جَمْعاً﴾ أي جمعاً عجيباً لا يُكتَنُه كُنهُه
﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ﴾ أي أظهرناها وأبرزناها ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أي يومَ إذْ جمعنا الخلائقَ كافة ﴿للكافرين﴾ منهم حيث جعلناها بحيث يرَوْنها ويسمعون لها تغيظاً وزفيراً ﴿عَرْضاً﴾ أي عرضاً فظيعاً هائلاً لا يُقادَر قدرُه وتخصيصُ العَرض بهم مع أنها بمرأى من أهل الجمعِ قاطبةً لأن ذلك لأجلهم خاصة
﴿الذين كانت أعينهم﴾ وهم في الدنيا ﴿فِى غِطَاء﴾ كثيف وغشاوةٍ غليظة محاطة بذاك من جميع الجوانب ﴿عَن ذِكْرِى﴾ عن الآيات المؤديةِ لأولي الأبصار المتدبرين فيها إلى ذكري بالتوحيد والتمجيدِ أو كانت أعينُ بصائِرهم في غطاء عن ذكري على وجه يليق بشأني أو عن القرآن الكريم ﴿وَكَانُواْ﴾ مع ذلك ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ لفَرْط تصامِّهم عن الحق وكمالِ عداوتهم للرسول ﷺ ﴿سَمْعاً﴾ استماعاً لذكري وكلامي الحقِّ الذي لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا منْ خلفه وهذا تمثيلٌ لإعراضهم عن الأدلة السمعيةِ كما أن الأولَ تصويرٌ لتعاميهم عن الآيات المشاهَدةِ بالأبصار والموصولُ نعتٌ للكافرين أو بدلٌ منه أو بيانٌ جيء به لذمِّهم بما في حيزِ الصلةِ وللإشعار بعلّيته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم
247
الكهف ١٠٢ ١٠٣ فإن ذلك إنما هو لعدم استعمالِ مشاعرِهم فيما عَرَض لهُم في الدُّنيا من الآيات وإعراضِهم عنها مع كونها أسباباً منجِّيةً عما ابتُلوا به في الآخرة
248
﴿أفحسب الذين كفروا﴾ أي كفروا بي كما يُعرب عنه قوله تعالى عِبَادِى والحُسبان بمعنى الظن وقد قرئ أفظنّ والهمزةُ للإنكار والتوبيخِ على معنى إنكارِ الواقعِ واستقباحِه كما في قولك أضربتَ أباك لا إنكارُ الوقوعِ كما في قوله أأضرِبُ أبي والفاء للعطف على مقدر يُفصِحُ عنه الصلةُ على توجيه الإنكارِ والتوبيخِ إلى المعطوفَين جميعاً كما إذا قُدّر المعطوفُ عليه في قولِه تعالى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ منفياً أي ألا تسمعون فلا تعقلون لا إلى المعطوف فقط كما إذا قُدّر مُثْبتاً أي أتسمعون فلا تعقلون والمعنى أكفروا بي مع جلالة شأني فحسِبوا ﴿أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى﴾ من الملائكة وعيسى وعُزيرٍ عليهم السلام وهم تحت سلطاني وملكوتي ﴿أَوْلِيَاء﴾ معبودين ينصُرونهم من بأسي وما قيل إنها للعطف على ما قبلها من قوله تعالى كَانَتْ الخ وَكَانُواْ الخ دَلالةً على أن الحُسبانَ ناشىءٌ من التعامي والتصامِّ وأُدخل عليها همزةُ الإنكار ذماً على ذم وقطعاً له عن المعطوف عليهما لفظاً لا معنى للإيذان بالاستقلال المؤكّدِ للذم يأباه تركُ الإضمار والتعرضُ لوصف آخرَ غيرِ التعامي والتصامِّ على أنهما أُخرجا مُخرَجَ الأحوال الجِبِلّية لهم ولم يذكروا منْ حيثُ إنَّهما منَ أفعالهم الاختيارية الحادثة كحُسبانهم ليحسُن تفريعُه عليهما وأيضاً فإنه دينٌ قديمٌ لهم لا يمكن جعلُه ناشئاً عن تصامّهم عن كلام الله عز وجل وتخصيصُ الإنكار بحُسبانهم المتأخرِ عن ذلك تعسفٌ لا يخفى وما في حيز صلةِ أن سادٌّ مسدَّ مفعولَيْ حسِب كما في قوله تعالى وَحَسِبُواْ أَن لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ أي أفحسبوا أنهم يتخذونهم أولياءَ على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شيء لِما أنه إنما يكون من الجانبين وهم عليهم الصلاة والسلام منزَّهون عن وَلايتهم بالمرة لقولهم سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ وقيل مفعولُه الثاني محذوفٌ أي أفحسبوا اتخاذَهم نافعاً لهم والوجهُ هو الأولُ لأن في هذا تسليماً لنفس الاتخاذِ واعتداداً به في الجملة وقرئ أفحسب الذين كفروا أي أفحسبُهم وكافيهم أن يتخذوهم أولياءَ على الابتداء والخبرِ أو الفعلِ والفاعل فإن النعتَ إذا اعتمد الهمزةَ ساوى الفعلَ في العمل فالهمزة حينئذ بمعنى إنكار الوقوع ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ﴾ أي هيأناها ﴿للكافرين﴾ المعهودين عدلَ عن الإضمار ذمًّا لهم وإشعاراً بأن ذلك الاعتادَ بسبب كفرهم المتضمّنِ لحسبانهم الباطل ﴿نُزُلاً﴾ أي شيئاً يتمتعون به عند ورودِهم وهو ما يقام للنزيل أي الضيفِ مما حضر من الطعامِ وفيه تخطئةٌ لهم في حسبانهم وتهكّمٌ بهم حيث كان اتخاذُهم إياهم أولياءَ من قبيل إعتاد العتادِ وإعدادِ الزاد ليوم المعاد فكأنه قيل إنا أعتدنا لهم مكان ما أعدّوا لأنفسهم من العُدة والذُّخْر جهنمَّ عُدّةً وفي إيراد النُزُل إيماءٌ إلى أن لهم وراءَ جهنمَ من العذاب ما هو أنموذجٌ له وقيل النزلُ موضعُ النزول ولذلك فسره ابن عباس رضي الله عنهما بالمثوى
﴿قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم﴾ الخطابُ الثاني للكفرة على وجه
248
الكهف ١٠٤ ١٠٥ التوبيخِ والجمعُ في صيغة المتكلم لتعيينه من أول الأمر وللإيذان بمعلومية النبأ للمؤمنين أيضاً ﴿بالأخسرين أعمالا﴾ نصبٌ على التمييز والجمعُ للإيذان بتنوعها وهذا بيانٌ لحال الكفرة باعتبار ما صدرَ عنهُم من الأعمال الحسَنةِ في أنفسها وفي وحسبانهم أيضاً حيث كانوا معجَبين بها واثقين بنيل ثوابِها ومشاهدةِ آثارِها غِبَّ بيان حالِهم باعتبار أعمالِهم السيئةِ في أنفسها مع كونها حسنةً في حسبانهم
249
﴿الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾ في إقامة تلك الأعمالِ أي ضاع وبطل بالكلية ﴿في الحياة الدنيا﴾ متعلقٌ بالسعي لا بالضلال لأن بُطلاَن سعيِهم غيرُ مختصَ بالدنيا قيل المرادُ بهم أهلُ الكتابين قاله ابن عباس وسعدُ بنُ أبي وقاص ومجاهد رضي الله عنهم ويدخُل في الأعمال حينئذ ما عمِلوه من الأحكام المنسوخةِ المتعلقةِ بالعبادات وقيل الرهابنةُ الذين يحبِسون أنفسَهم في الصوامع ويحمِلونها على الرياضات الشاقّة ولعله ما يُعمهم وغيرَهم من الكفرة ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على أنه خبر مبتدأ محذوف لأنه جوابٌ للسؤال كأنه قيل مَنْ هم فقيل الذين الخ وجعلُه مجروراً على أنه نعتٌ للأخسرين أو بدلٌ منه أو منصوباً على الذم على أن الجوابَ ما سيأتِي من قولِه تعالى أولئك الآية يأباه أن صدرَه ليس مُنْبئاً عن خُسران الأعمالِ وضلالِ السعي كما يستدعيه مقامُ الجواب والتفريعُ الأولُ وإن دل على حبوطها لكنه ساكتٌ عن إنباء ما هو العُمدة في تحقيق معنى الخسرانِ من الوثوق بترتب الربحِ واعتقاد النفعِ فيما صنعوا على أن التفريعَ الثانيَ مما يقطع ذلك الاحتمالَ رأساً إذ لا مجال لإدراجه تحت الأمرِ بقضية نونِ العظمة ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ الإحسانُ الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ وهو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي أي يحسبَون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائقِ وذلك لإعجابهم بأعمالهم التي سعَوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها والجملة حال من فاعل ضل أي بطل سعيُهم المذكورُ والحالُ أنهم يحسَبون أنهم يُحسنون في ذلك وينتفعون بآثاره أو من المضاف إليه لكونه في محل الرفعِ نحوُ قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً أي بطل سعيُهم والحالُ أنهم الخ والفرقُ بينهما أن المقارِنَ لحال حُسبانِهم المذكورِ في الأول ضلالُ سعيهم وفي الثاني نفسُ سعيهم والأولُ أدخلُ في بيان خطئهم
﴿أولئك﴾ كلامٌ مستأنفٌ من جنابه تعالى مَسوقٌ لتكميل تعريفِ الأخسرين وتبيينِ سبب خسرانِهم وضلالِ سعيهم وتعيينِهم بحيث ينطبق التعريفُ على المخاطبين غيرُ داخلٍ تحت الأمر أي أولئكَ المنعوتونَ بما ذكر من ضلال السعي مع الحسبان المزبورِ ﴿الذين كفروا بآيات ربِّهم﴾ بدلائله الداعيةِ إلى التوحيد عقلاً ونقلاً والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ لزيادة تقبيحِ حالِهم في الكفر المذكور ﴿وَلِقَائِهِ﴾ بالبعث وما يتبعه من أمور الآخرة على ما هي عليه ﴿فَحَبِطَتْ﴾ لذلك ﴿أعمالهم﴾ المعهودةُ حبوطاً كلياً ﴿فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ﴾
249
أي لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمالِ وقرئ بالياء ﴿يَوْمَ القيامة وَزْناً﴾ أي فنزدريهم ولا نجعل لهم مقداراً واعتباراً لأن مدارَه الأعمالُ الصالحة وقد حبِطت بالمرة وحيث كان هذا الازدراءُ من عواقب حبوطِ الأعمال عُطف عليه بطريق التفريعِ وأما ما هو من أجزية الكفرِ فسيجئ بعد ذلك أولا نضع لأجل وزنِ أعمالِهم ميزاناً لأنه إنما يوضع لأهل الحسناتِ والسيئاتِ من الموحدين ليتميز به مقاديرُ الطاعات والمعاصي ليترتب عليه التكفير أو عدمُه لأن ذلك في الموحدين بطريق الكمية وأما الكفرُ فإحباطه للحسنات بحسب الكيفيةِ دون الكمية فلا يوضع لهم الميزانُ قطعاً
250
﴿ذلك﴾ بيانٌ لمآل كفرهم وسائرِ معاصيهم إثرَ بيان مآلِ أعمالِهم المحبَطة بذلك أي الأمرُ ذلك وقوله عز وجل ﴿جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ﴾ جملةٌ مبيِّنةٌ له أو ذلك مبتدأٌ والجملةُ خبرُه والعائدُ محذوفٌ أي جزاؤُهم به أو جزاؤهم بدلَه وجهنمُ خبرُه أو جزاؤهم خبرُه وجهنمُ عطفُ بيانٍ للخبر ﴿بِمَا كَفَرُواْ﴾ تصريحٌ بأن ما ذكر جزاءٌ لكفرهم المتضمن لسائر القبائحِ التي أنبأ عنها قوله تعالى ﴿واتخذوا آياتي وَرُسُلِى هُزُواً﴾ أي مهزوًّا بهما فإنهم لم يقتنعوا بمجرد الكفرِ بالآيات والرسل بل ارتكبوا مثلَ تلك العظيمة أيضاً
﴿إن الذين آمنوا﴾ بيانٌ بطريق الوعدِ لمآل الذين اتصفوا بأضداد ما اتصف به الكفرةُ إثرَ بيان مآلهم بطريق الوعيد أي آمنوا بآيات ربِّهم ولقائه ﴿وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ من الأعمال ﴿كَانَتْ لَهُمْ﴾ فيما سبق من حكم الله تعالى ووعدِه وفيه إيماءٌ إلى أن أثرَ الرحمةِ يصل إليهم بمقتضى الرأفةِ الأزليةِ بخلاف ما مر من جعل جهنم للكافرين نزلاً فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارِهم ﴿جنات الفردوس﴾ عن مجاهد أن الفردوسَ هو البستانُ بالرومية وقال عكرمة هو الجنةُ بالحبشية وقال الضحاك هو الجنة الملتفّةُ الأشجار وقيل هي الجنةُ التي تُنبتُ ضروباً من النبات وقيل هي الجنةُ من الكرم خاصة وقيل ما كان غالبة كَرْماً وقال المبرد هو فيما سمعتُ من العرب الشجر الملتفِّ والأغلب عليه أن يكون من العنب وعن كعب أنه ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وعن رسول الله ﷺ في الجنةِ مائةَ درجةٍ ما بين كلِّ درجةٍ مسيرةُ مائة عام والفردوسُ أعلاها وفيها الأنهارُ الأربعةُ فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفِردوسَ فإن فوقه عرشَ الرحمن ومنه تفجّر أنهار الجنة ﴿نُزُلاً﴾ خبرُ كانت والجار والمجرور متعلقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من نزلاً أو على أنه بيانٌ أو حالٌ من جنات الفردوس والخبرُ هو الجارُّ والمجرورُ فإن جعل النزول بمعنى ما يُهيَّأ للنازل فالمعنى كانت لهم ثمارُ جناتِ الفردوس نزلاً أو جُعلت نفسُ الجنّات نزلاً مبالغةً في الإكرام وفيه إيذانٌ بأنها عند ما أعد الله لهم على ما جرى على لسان النبوة من قوله أَعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين مالا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر بمنزلة النزلِ بالنسبة إلى الضيافة وإن جُعل بمعنى المنْزِل فالمعنى ظاهر
250
الكهف
251
١٠٨ - ١١٠ (خالدين فِيهَا) نصبٌ على الحالية (لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) مصدرٌ كالعِوج والصِّغر أي لا يطلبون تحوّلاً عنها إذ لا يُتصوّر أن يكونَ شيءٌ أعزَّ عندهم وأرفعَ منها حتى تُنازِعَهم إليه أنفسُهم وتطمَح نحوه أبصارُهم ويجوز أن يراد نفيُ التحول وتأكيدُ الخلود والجملة حالٌ من صاحب خالدين أو من ضميره فيه فيكون حالاً متداخِلةً
(قُل لَّوْ كَانَ البحر) أي جنسُ البحر (مِدَاداً) وهو ما تُمِدُّ به الدواةُ من الحبر (لكلمات رَبّى) لتحرير كلماتِ علمِه وحكمتِه التي من جملتها ما ذكر من الآيات الداعيةِ إلى التوحيد المحذّرة من الإشراك (لنفذ البحر) مع كثرته ولم يبقَ منه شيء لتناهيه (قبل أن تنفد) وقرئ بالياء والمعنى من غير أَن تَنفَدَ (كلمات رَبّى) لعدم تناهيها فلا دِلالةَ للكلام على نفادها بعد نفادِ البحرِ وفي إضافة الكلماتِ إلى اسم الرب المضاف إلى ضميره ﷺ في الموضعين من تفخيم المضافِ وتشريفِ المضاف إليه ما لا يخفى وإظهارُ البحر والكلماتِ في موضعِ الإضمارِ لزيادةِ التقرير (وَلَوْ جِئْنَا) كلامٌ من جهتِه تعالى غيرُ داخلٍ في الكلامِ الملقنِ جيء به لتحقيق مضمونِه وتصديقِ مدلولِه مع زيادة مبالغةٍ وتأكيد والواوُ لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفةِ المقابلةِ لها المحذوفة لدِلالة المذكورةِ عليها دَلالةً واضحة أي لنفد البحرُ من غير نفادِ كلماته تعالى لو لم نجيء بمثله مدادا ولو جئنا بقدرتنا الباهرة (بمثله مدادا) عوناً وزيادةً لأن مجموعَ المتناهيَيْن متناهٍ بل مجموعُ ما يدخُل تحت الوجودِ من الأجسام لا يكون إلا متناهياً لقيام الأدلةِ القاطعة على تناهي الأبعادِ وقرئ مدادا جمع مُدّة وهي ما يستمده الكاتب وقرئ مِداداً
(قُلْ) لهم بعد ما بينْتَ لهم شأن كلماتِه تعالى (إِنَّمَا أَنَاْ بشرٌ مثلُكم) لا أدّعي الإحاطةَ بكلماته التامة (بوحي إِلَىَّ) من تلك الكلماتِ (أنما إلهكم إله واحد) لا شريكَ له في الخلق ولا في سائر أحكامِ الألوهيةِ وإنما تميزْتُ عنكم بذلك (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ) الرجاءُ توقعُ وصولِ الخير في المستقبل والمرادُ بلقائه تعالى كرامتُه وإدخالُ الماضي على المستقبل للدِلالة على أن اللائقَ بحال المؤمن الاستمرارُ والاستدامةُ على رجاء اللقاءِ أي فمن استمر على رجاء كرامتِه تعالى (فَلْيَعْمَلِ) لتحصيل تلك الطِّلْبةِ العزيزة (عَمَلاً صالحا) في نفسه لائقاً بذلك المرجوِّ كما فعله الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا) إشراكاً جلياً كما فعله الذين كفروا بآيات ربِّهم ولقائه ولا إشراكا خفيا كما يفعله أهلُ الرياء ومَنْ يطلبُ به أجراً وإيثارُ وضعِ المُظهَر موضعَ المُضمر في الموضعين مع التعرض لعنوان الربوبيةِ لزيادة التقريرِ وللإشعار بعلية العنوانِ للأمر والنهي ووجوبِ الامتثالِ فعلاً وتركاً روي أن جندب بن زهير رضيَ الله عنْهُ قالَ لرسول الله ﷺ إني لأعمل العملَ لله تعالى فإذا اطّلع عليه سرني فقال ﷺ إن الله لا يقبل ما شورك فيه
251
سورة مريم عليها السلام مكية وآياتها ثمان وتسعون

بسم الله الرحمن الرحيم

مريم ١ ٢ فنزلت تصديقاً له وروي أنه ﷺ قال له لك أجران أجرُ السرِّ وأجرُ العلانية وذلك إذا قصد أن يقتدي به وعنه ﷺ اتقوا الشركَ الأصغرَ قيل وما الشركُ الأصغرُ قال الرياء عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الكهفِ من آخرها كانت له نوراً من قَرنه إلى قدمه ومن قرأها كلَّها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء وعنه ﷺ من قرأ عند مضجعه قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بشرٌ مثلُكم يوحى إِلَىَّ الخ كان له مضجعه نوراً يتلألأ إلى مكةَ حشْوُ ذلك النورِ ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعُه بمكةَ كان له نوراً يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمورِ حشوُ ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ الحمد لله سبحانه على نعمه العِظام
سورة مريم عليها السلام مكية إلا الآيات ٥٨ و ٧١ فمدنيتان وآيتها ٩٨

بسم الله الرحمن الرحيم

252
Icon