تفسير سورة البقرة

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قوله تعالى :﴿ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ﴾ يتضمن الأمرَ بالصلاة والزكاة، لأنه جعلهما من صفات المتقين ومن شرائط التقوى ؛ كما جعل الإيمان بالغيب، وهو الإيمان بالله وبالبعث والنشور وسائر ما لزمنا اعتقادُه من طريق الاستدلال، من شرائط التقوى. فاقتضى ذلك إيجاب الصلاة والزكاة المذكورتين في الآية.
وقد قيل في إقامة الصلاة وجوهٌ، منها إتمامها من تقويم الشيء وتحقيقه، ومنه قوله :﴿ وأقيموا الوزن بالقسط ﴾ [ الرحمن : ٩ ] وقيل يؤدونها على ما فيها من قيام وغيره، فعبر عنها بالقيام، لأن القيام من فروضها، وإن كانت تشتمل على فروض غيره، كقوله :﴿ فاقرؤوا ما تيسر من القرآن ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] والمراد الصلاة التي فيها القراءة وقوله تعالى :﴿ وقرآن الفجر ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] المراد القراءة في صلاة الفجر، وكقوله :﴿ وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ﴾ [ المرسلات : ٤٨ ] وقوله :﴿ اركعوا واسجدوا ﴾ [ الحج : ٧٧ ] وقوله :﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾ [ البقرة : ٤٣ ] فذكر ركناً من أركانها الذي هو من فروضها، ودلَّ به على أن ذلك فرضٌ فيها وعلى إيجاب ما هو من فروضها، فصار قوله :﴿ يقيمون الصلاة ﴾ موجباً للقيام فيها ومخبراً به عن فرض الصلاة. ويحتمل ﴿ يقيمون الصلاة ﴾ يديمون فروضها في أوقاتها، كقوله تعالى :﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ﴾ [ النساء : ١٠٣ ] أي فرضاً في أوقات معلومة لها، ونحوه قوله تعالى :﴿ قائماً بالقسط ﴾ [ آل عمران : ١٨ ] يعني يقيم القسط ولا يفعل غيره. والعرب تقول في الشيء الراتب الدائم : قائم، وفي فاعله : مقيم. يقال : فلان يقيم أرزاق الجند. وقيل : هو من قول القائل : قامت السوق، إذا حضر أهلها ؛ فيكون معناه الاشتغال بها عن غيرها. ومنه : قد قامت الصلاة. وهذه الوجوه على اختلافها تجوز أن تكون مرادة بالآية وقوله :﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ في فحوى الخطاب دلالة على أن المراد المفروض من النفقة، وهي الحقوق الواجبة لله تعالى من الزكاة وغيرها، كقوله تعالى :﴿ وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدَكم الموت ﴾ [ المنافقون : ١٠ ] وقوله :﴿ وأنفقوا في سبيل الله ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ] وقوله :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ﴾ [ التوبة : ٣٤ ]. والذي يدل على أن المراد المفروض منها أنه قرنها إلى الصلاة المفروضة وإلى الإيمان بالله وكتابه، وجعل هذا الإنفاق من شرائط التقوى ومن أوصافها. ويدل على أن المراد المفروض من الصلاة والزكاة أن لفظ الصلاة إذا أطلق غير مقيدٍ بوصفٍ أو شرطٍ يقتضي الصلوات المعهودة المفروضة كقوله :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] و ﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ [ البقرة : ٢٣٨ ] ونحو ذلك. فلما أراد بإطلاق اللفظ الصلاة المفروضة كان فيه دلالة على أن المراد بالإنفاق ما فرض عليه منه. ولما مُدح هؤلاء بالإنفاق ممّا رزقهم الله دلَّ ذلك على أن إطلاق اسم الرزق إنما يتناول المباح منه دون المحظور، وأن ما اغتصبه وظلم فيه غيره لم يجعله الله له رزقاً، لأنه لو كان رزقاً له لجاز إنفاقه وإخراجه إلى غيره على وجه الصدقة والتقرب به إلى الله تعالى. ولا خلاف بين المسلمين أن الغاصب محظورٌ عليه الصدقة بما اغتصبه، وكذلك قال النبي عليه السلام :" لا تُقبل صَدَقةٌ من غَلُول ". والرزق الحظُّ في اللغة. قال الله تعالى :﴿ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ﴾ [ الواقعة : ٨٢ ] أي حظكم من هذا الأمر التكذيب به، وحظ الرجل هو نصيبه وما هو خالص له دون غيره، ولكنه في هذا الموضع هو ما منحه الله تعالى عباده وهو المباح الطيب.
وللزرق وجه آخر، وهو ما خلقه الله تعالى من أقوات الحيوان ؛ فجائز إضافة ذلك إليه لأنه جعله قوتاً وغذاء.
قوله تعالى في شأن المنافقين وإخبارُه عنهم بإظهار الإيمان للمسلمين من غير عقيدة وإظهار الكفر لإخوانهم من الشياطين في قوله :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ﴾ وقوله :﴿ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون ﴾ إلى قوله :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خَلَوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءُون ﴾ يحتج به في استتابة الزنديق الذي اطُّلِعَ منه على أسرار الكفر متى أظهر الإيمان، لأن الله تعالى أخبر عنهم بذلك ولم يأمر بقتلهم، وأمر النبي عليه السلام بقبول ظاهرهم دون ما علمه هو تعالى من حالهم وفساد اعتقادهم وضمائرهم. ومعلوم أن نزول هذه الآيات بعد فرض القتال لأنها نزلت بالمدينة، وقد كان الله تعالى فرض قتال المشركين بعد الهجرة. ولهذه الآية نظائرُ في سورة براءة وسورة محمد عليه السلام وغيرهما في ذكر المنافقين وقبول ظاهرهم دون حملهم على أحكام سائر المشركين الذين أمرنا بقتالهم. وإذا انتهينا إلى موضعها ذكرنا أحكامَها واختلاف الناس في الزنديق واحتجاج من يحتج بها في ذلك، وهو يظهر من قوله عليه السلام :" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابُهم على الله " وأنكر على أسامة بن زيد حين قتل في بعض السرايا رجلاً قال لا إله إلا الله، حين حمل عليه ليطعنه، فقال :" هلاَّ شقَقْتَ عن قلبه " يعني أنه محمولٌ على حكم الظاهر دون عقد الضمير، ولا سبيل لنا إلى العلم به.
قال أبو بكر : وقوله تعالى :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ﴾ يدل على أن الإيمان ليس هو الإقرار دون الاعتقاد، لأن الله تعالى قد أخبر عن إقرارهم بالإيمان ونفى عنهم سمته بقوله :﴿ وما هم بمؤمنين ﴾. ويُروى عن مجاهد أنه قال : في أول البقرة أربعُ آيات في نَعْت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين. والنفاق اسم شرعي جُعل سمةً لمن يُظهر الإيمان ويُسِرُّ الكفرَ، خصوا بهذا الاسم للدلالة على معناه وحكمه وإن كانوا مشركين إذ كانوا مخالفين لسائر المبادين بالشرك في أحكامهم. وأصله في اللغة من نافقاء اليربوع، وهو الجحر الذي يخرج منه إذا طُلب، لأن له أجحرة يدخل بعضها عند الطلب ثم يراوغ الذي يريد صيده فيخرج من جحر آخر قد أعدَّه.
قوله تعالى :﴿ يخادعون الله والذين آمنوا ﴾ هو مجازٌ في اللغة، لأن الخديعة في الأصل هي الإخفاء ؛ وكأن المنافق أخفى الإشراك وأظهر الإيمان على وجه الخداع والتمويه والغرور لمن يخادعه. والله تعالى لا يخفى عليه شيء ولا يصح أن يخادَع في الحقيقة. وليس يخلو هؤلاء القوم الذين وصفهم الله تعالى بذلك من أحد وجهين : إما أن يكونوا عارفين بالله تعالى، قد علموا أنه لا يُخادَع بتَسَاتُر بشيء، أو غير عارفين، فلذلك أبعد، إذ لا يصح أن يقصده لذلك، ولكنه أطلق ذلك عليهم لأنهم عملوا عمل المخادع، ووبالُ الخداع راجعٌ عليه، فكأنهم إنما يخادعون أنفسهم. وقيل : إن المراد : يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحذف ذكر النبي عليه السلام، كما قال :﴿ إن الذين يؤذون الله ورسوله ﴾ [ الأحزاب : ٥٧ ] والمراد يؤذون أولياء الله. وأيّ الوجهين كان فهو مجاز وليس بحقيقة، ولا يجوز استعماله إلا في موضع يقوم الدليلُ عليه. وإنما خادعوا رسول الله تقيَّة لتزول عنهم أحكام سائر المشركين الذين أمر النبي عليه السلام والمؤمنون بقتلهم ؛ وجائز أن يكونوا أظهروا الإيمان للمؤمنين ليوالوهم كما يوالي المؤمنون بعضهم بعضاً ويتواصلون فيما بينهم ؛ وجائز أن يكونوا يظهرون لهم الإيمان ليُفشوا إليهم أسرارهم فينقلوا ذلك إلى أعدائهم.
ولما كانت أجرام المنافقين أعظم من أجرام سائر الكفَّار المبادين بالكفر، لأنهم جمعوا الاستهزاء والمخادعة بقوله :﴿ يخادعون الله ﴾ وقولهم :﴿ إنما نحن مستهزءون ﴾ وذلك زيادة في الكفر، وكذلك أخبر الله تعالى أنهم ﴿ في الدَّرك الأسفل من النار ﴾، ومع ما أخبر بذلك من عقابهم وما يستحقُّونه في الآخرة، خالف بين أحكامهم في الدنيا وأحكام سائر المظهرين للشرك في رفع القتل عنهم بإظهارهم الإيمان وأجراهم مجرى المسلمين في التوارث وغيره، ثَبَت أن عقوبات الدنيا ليست موضوعة على مقادير الأجرام، وإنما هي على ما يعلم الله من المصالح فيها. وعلى هذا أجرى الله تعالى أحكامَه فأوجب رَجْمَ الزاني المحصِن ولم يُزِلْ عنه الرجم بالتوبة. ألا ترى إلى قوله عليه السلام في ماعز بعد رجمه وفي الغامدية بعد رجمها :" لقد تاب توبةً لو تابها صاحبُ مَكْس لغفر له ". والكفرُ أعظم من الزنا، ولو كفر رجل ثم تاب قبلت توبته. وقال تعالى ﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ] وحكم في القاذف بالزنا بجلد ثمانين ولم يوجب على القاذف بالكفر الحدَّ، وهو أعظمُ من الزنا، وأوجب على شارب الخمر الحدَّ، ولم يوجب على شارب الدم وآكل الميتة. فثبت بذلك أن عقوبات الدنيا غيرُ موضوعةٍ على مقادير الأجرام. ولأنه لما كان جائزاً في العقل أن لا يوجب في الزنا والقذف والسرقة حداً رأساً ويكل أمرهم إلى عقوبات الآخرة، جاز أن يخالف بينها فيوجب في بعضها أغلظ ما يوجب في بعض. ولذلك قال أصحابنا : لا يجوز إثبات الحدود من طريق المقاييس، وإنما طريق إثباتها التوقيفُ أو الاتفاق. وما ذكره الله تعالى من أمرِ المنافقين في هذه الآية وإقرارهم من غير أمرٍ لنا بقتالهم أصلٌ فيما ذكرنا ولأن الحدودَ والعقوبات التي أوجبها من فعل الإمام ومنْ قام بأمور الشريعة جاريةٌ مجرى ما يفعله هو تعالى من الآلام على وجه العقوبة. فلما جاز أن لا يُعاقَب المنافقُ في الدنيا بالآلام من جهة الأمراض والأسقام والفقر والفاقة، بل يُفعل به أضداد ذلك، ويكون عقابه المستحق بكفره ونفاقه مؤجلاً إلى الآخرة، جاز أن لا يتعبَّدنا بقتله في الدنيا وتعجيلِ عقوبة كفره ونفاقه.
وقد غبر النبي عليه السلام بمكة بعد ما بعثه الله تعالى ثلاث عشرة سنة يدعو المشركين إلى الله وتصديق رسله غيرَ متعبِّد بقتالهم، بل كان مأموراً بدعائهم في ذلك بألينِ القول وألطفه فقال تعالى :﴿ اُدْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] وقال :﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ] وقال :﴿ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه ولي حميم وما يلقَّاها إلا الذين صبروا وما يلقَّاها إلا ذو حظ عظيم ﴾ [ فصلت : ٣٤ و ٣٥ ] في نظائر ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالدعاء إلى الدين بأحسن الوجوه، ثم فرض القتالَ بعد الهجرة لعلمه تعالى بالمصلحة من كلا الحالين بما تُعبد به، فجاز من أصل ما وصفنا أن يكون الأمر بالقتل خاصاً في بعض الكفار وهم المجاهرون بالكفر دون من يُظهر الإيمان ويُسِرُّ الكفر، وإن كان المنافق أعظمَ جُرْماً من غيره.
وكذلك قول الله تعالى :﴿ الله يستهزىء بهم ﴾ مجاز ؛ وقد قيل فيه وجوه : أحدها على جهة مقابلة الكلام بمثله، وإن لم يكن في معناه، كقوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] والثانية ليست بسيئة بل حسنة، ولكنه لما قابل بها السيئة أجرى عليها اسمها. وقوله تعالى :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] والثاني ليس باعتداء. وقوله تعالى :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾ [ النحل : ١٢٦ ] والأول ليس بعقاب وإنما هو على مقابلة اللفظ بمثله مزاوجته له. وتقول العرب : الجزاء بالجزاء، والأول ليس بجزاء، ومنه قول الشاعر :
* ألا لا يجهلن أحدٌ علينا * فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا *
ومعلوم أنه لم يمتدح بالجهل، ولكنه جرى على عادتهم في ازدواج الكلام ومقابلته. وقيل : إن ذلك أطلقه الله تعالى على طريق التشبيه ؛ وهو انه لما كان وبال الاستهزاء راجعاً عليهم ولاحقاً لهم كان كأنه استهزأ بهم. وقيل : لما كانوا قد أمهلوا في الدنيا ولم يعاجلوا بالعقوبة والقتل كسائر المشركين وأُخِّر عقابُهم فاغتروا بالإمهال كانوا كالمستهزىء بهم.
قوله تعالى :﴿ الذي جعل لكم الأرض فراشاً ﴾ يعني والله أعلم قراراً، كقوله :﴿ الذي جعل لكم الأرض قراراً ﴾ [ غافر : ٦٤ ] وقوله :﴿ ألم نجعل الأرض مهاداً ﴾ [ النبأ : ٦ ] فسماها فراشاً ؛ والإطلاق لا يتناولها، وإنما يسمى به مقيداً، كقوله تعالى :﴿ والجبال أوتاداً ﴾ [ النبأ : ٧ ] وإطلاق اسم الأوتاد لا يفيد الجبال، وقوله :﴿ وجعل الشمس سراجاً ﴾ [ نوح : ١٦ ]. ولذلك قال الفقهاء : إن مَن حلف لا ينام على فراش فنام على الأرض لا يحنث، وكذلك لو حلف لا يقعد في سراج فقعد في الشمس ؛ لأن الأيمان محمولة على المعتاد المتعارَف من الأسماء، وليس في العادة إطلاقُ هذا الاسم للأرض والشمس. وهذا كما سمى الله تعالى الجاحد له كافراً، وسمَّى الزارع كافراً، والشاك السلاح كافراً، ولا يتناولهما هذا الاسم في الإطلاق، وإنما يتناول الكافر بالله تعالى. ونظائرُ ذلك من الأسماء المطلقة والمقيدة كثيرة، ويجب اعتبارها في كثير من الأحكام، فما كان في العادة مطلقاً فُهم على إطلاقه، والمقيَّدَ فيها على تقييده، ولا يتجاوز به موضعه.
وفي هذه الآية دلالةٌ على توحيد الله تعالى، وإثباتُ الصانع الذي لا يشبهه شيء، القادرِ الذي لا يعجزه شيء، وهو ارتفاعُ السماء ووقوفها بغير عمد، ثم دوامها على طول الدهر غير متزايلة ولا متغيرة، كما قال تعالى :﴿ وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً ﴾ [ الأنبياء : ٣٢ ]. وكذلك ثباتُ الأرض ووقوفُها على غير سند فيه أعظمُ الدلالة على التوحيد وعلى قدرة خالقها، وأنه لا يُعجزه شيء، وفيها تنبيه وحث على الاستدلال بها على الله وتذكيرٌ بالنعمة.
قوله تعالى :﴿ فأخرجَ به من الثمرات رزقاً لكم ﴾ نظير قوله :﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ﴾ وقوله :﴿ وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ﴾ [ الجاثية : ١٣ ] وقوله :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ﴾ [ الأعراف : ٣٢ ] يحتج بجميع ذلك في أن الأشياء على الإباحة مما لا يحظره العقل، فلا يحرَّم منه شيء إلا ما قام دليلُه.
وقوله تعالى :﴿ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ فيه أكبر دلالة على صحة نبوَّة نبينا عليه السلام من وجوه : أحدها أنه تحداهم بالإتيان بمثله، وقرَّعهم بالعجز عنه مع ما هم عليه من الأنفة والحميَّة، وأنه كلام موصوف بلغتهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم تعلم اللغة العربية، وعنهم أخذ، فلم يعارضه منهم خطيب، ولا تكلفه شاعر، مع بذلهم الأموال والأنفس في توهين أمره، وإبطال حججه، وكانت معارضته لو قدروا عليها أبلغ الأشياء في إبطال دعواه وتفريق أصحابه عنه ؛ فلما ظهر عجزُهم عن معارضته دلَّ ذلك على أنه من عندِ الله الذي لا يُعجزه شيء، وأنه ليس في مقدور العباد مثله، وإنما أكبر ما اعتذروا به أنه من أساطير الأولين، وأنه سحرٌ، فقال تعالى :﴿ فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ﴾ [ الطور : ٣٤ ] وقال :﴿ فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ﴾ [ هود : ١٣ ] فتحداهم بالنظم دون المعنى في هذه الصورة، وأظهر عجزهم عنه فكانت هذه معجزةً باقية لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قيام الساعة، أبان الله تعالى بها نبوَّة نبيّه وفضَّله بها على سائر الأنبياء، لأن سائرَ معجزات الأنبياء تقضَّت بانقضائهم، وإنما يُعلم كونُها معجزة من طريق الأخبار، وهذه معجزة باقية بعده، كل من اعترض عليها بعد قرّعناه بالعجز عنه، فتبين له حينئذ موضع الدلالة على تثبيت النبوة، كما كان حكم من كان في عصره من لزوم الحجة به وقيام الدلالة عليه.
والوجه الآخر من الدلالة أنه معلوم عند المؤمنين بالنبي عليه السلام وعند الجاحدين لنبوته أنه كان من أتم الناس عقلاً، وأكملهم خلقاً، وأفضلهم رأياً، فما طعن عليه أحدٌ في كمال عقله ووُفور حلمه وصحة فهمه وجودة رأيه ؛ وغيرُ جائز على من كان هذا وصفه أن يدَّعي أنه نبي الله قد أرسله إلى خلقه كافةً، ثم جعل علامة نبوته ودلالة صدقه كلاماً يُظهره ويقرِّعهم به، مع علمه بأن كل واحد منهم يقدر على مثله، فيظهر حينئذ كذبه وبطلانُ دعواه، فدلَّ ذلك على أنه لم يتحدَّهم بذلك ولم يقرِّعهم بالعجز عنه إلا وهو من عند الله لا يقدر العبادُ على مثله.
الثالث قوله تعالى في نسق التلاوة :﴿ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ﴾ فأخبر أنهم لا يعارضونه ولا يقع ذلك منهم ؛ وذلك إخبار بالغيب ووجد مخبره على ما هو به. ولا تتعلق هذه بإعجاز النظم، بل هي قائمة بنفسها في تصحيح نبوَّته، لأنه إخبارٌ بالغيب، كما لو قال لهم :" الدلالة على صحة قولي أنكم مع صحة أعضائكم وسلامة جوارحكم لا يقع من أحد منكم أن يمسَّ رأسَه وأن يقوم من موضعه " فلم يقع ذلك منهم، مع سلامة أعضائهم وجوارحهم، وتقريعهم به مع حرصهم على تكذيبه، كان ذلك دليلاً على صحة نبوته، إذ كان مثل ذلك لا يصح إلا كونه من قبل القادر الحكيم الذي صرفهم عن ذلك في تلك الحال.
قال أبو بكر : وقد تحدى الله الخلقَ كلهم من الجن والإنس بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن بقوله تعالى :﴿ قل لئن اجتمعت الإنسُ والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ]. فلما ظهر عجزهم قال :﴿ فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ﴾ [ هود : ١٣ ]. فلما عجزوا قال :﴿ فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ﴾ [ الطور : ٣٤ ]. فتحداهم بالإتيان بمثل أقصر سورة منه، فلما ظهر عجزهم عن ذلك وقامت عليهم الحجة وأعرضوا عن طريق المحاجة وصمموا على القتال والمغالبة، أمر الله نبيَّه بقتالهم. وقيل في قوله تعالى :﴿ وادعوا شهداءكم من دون الله ﴾ أنه أراد به أصنامهم وما كانوا يعبدونهم من دون الله، لأنهم كانوا يزعمون أنها تشفع لهم عند الله. وقيل إنه أراد جميع من يصدِّقكم ويوافقكم على قولكم، وأفاد بذلك عجز الجميع عنه في حال الاجتماع والانفراد، كقوله :﴿ لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ].
فقد انتظمت فاتحة الكتاب من ابتدائها إلى حيث انتهينا إليه من سورة البقرة الأمر والتبدئة بسم الله تعالى، وتعليمنا حمده والثناء عليه، والدعاء له، والرغبة إليه في الهداية إلى الطريق المؤدي إلى معرفته وإلى جنته ورضوانه دون طريق المستحقين لغضبه والضالين عن معرفته، وشكره على نعمته، ثم ابتدأ في سورة البقرة بذكر المؤمنين ووصفهم، ثم ذكر الكافرين وصفتهم، ثم ذكر المنافقين ونعتهم وتقريب أمرهم إلى قلوبنا بالمثل الذي ضربه بالذي استوقد ناراً وبالبرق الذي يضيء في الظلمات من غير بقاء ولا ثبات، وجعل ذلك مثلاً لإظهارهم الإيمان، وأن الأصل الذي يرجعون إليه وهم ثابتون عليه هو الكفر، كظلمة الليل والمطر اللذين يعرض في خلالهما برق يضيء لهم ثم يذهب فيبقون في ظلمات لا يبصرون. ثم ابتدأ بعد انقضاء ذكر هؤلاء بإقامة الدلالة على التوحيد بما لا يمكن أحداً دفعه : من بسطِهِ الأرض وجعلِها قراراً ينتفعون بها، وجَعْلِ معايشهم وسائر منافعهم وأقواتهم منها، وإقامتها على غير سند، إذ لا بد أن يكون لها نهاية لما ثبت من حدوثها، وأن ممسكَها ومُقيمَها كذلك هو الله خالقُها وخالقكم المنعمُ عليكم بما جعل لكم فيها من أقواتكم وسائر ما أخرج من ثمارها لكم ؛ إذ لا يجوز أن يقدر على مثل ذلك إلا القادرُ الذي لا يُعجزه ولا يشبهه شيء، فحثهم على الاستدلال بدلائله، ونبههم على نعمه، ثم عقب ذلك بالدلالة على نبوَّة النبي عليه السلام بما أظْهَرَ مِنْ عجزهم عن الإتيان بمثل سورة من القرآن، ودعاهم في ذلك كله إلى عبادة الله تعالى وحده المنعم علينا بهذه النعم، فقال :﴿ فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ﴾ يعني والله أعلم تعلمون أن ما تدعونه آلهة لا تقدرُ على شيءٍ من ذلك، وأن الله هو المنعم عليكم به دونها، وهو الخالق لها. وقيل في معنى قوله ﴿ وأنتم تعلمون ﴾ إنكم تعلمون الفصل بين الواجب وغير الواجب، ويكون معناه أن الله تعالى قد جعل لكم من العقل ما يمكنكم به الوصول إلى معرفة ذلك فوجب تكليفكم ذلك، إذ غير جائز في العقل إباحة الجهل بالله تعالى مع إزاحة العلّة والتمكن من المعرفة، فلما قرر جميع ذلك عندهم بدلائله الدالة عليه عَطَفَ عليه بذكر الوعيد بقوله :﴿ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ﴾ ثم عقب بذكر ما وعد المؤمنين في الآخرة بقوله :﴿ وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ إلى آخر ما ذكر.
قال أبو بكر رحمه الله : وقد تضمنت هذه الآية مع ما ذكرنا من التنبيه على دلائل التوحيد وإثبات النبوة الأمر باستعمال حجج العقول والاستدلال بدلائلها، وذلك مبطل لمذهب من نفي الاستدلال بدلائل الله تعالى واقتصر على الخبر بزعمه في معرفة الله والعلم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى لم يقتصر فيما دعا الناس إليه من معرفة توحيده وصدق رسوله على الخبر دون إقامة الدلالة على صحته من جهة عقولنا.
وقوله تعالى :﴿ وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ يدل على أن البشارة هي الخبر السار، والأظهر والأغلب أن إطلاقه يتناول
من الأخبار ما يحدث عنده الاستبشار والسرور وإن كان قد يجري على غيره مقيداً كقوله ﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ آل عمران : ٢١ ] وكذلك قال أصحابنا فيمن قال :" أي عبد بشَّرني بولادة فلانة فهو حر " فبشروه جماعة واحداً بعد واحد ؛ أن الأول يعتق دون غيره لأن البشارة حصلت بخبره دون غيره، ولم يكن هذا عندهم بمنزلة ما لو قال :" أي عبد أخبرني بولادتها " ؛ فأخبروه واحداً بعد واحد أنهم يعتقون جميعاً، لأنه عقد اليمين على خبر مطلق فيتناول سائر المخبرين، وفي البشارة عقدها على خبر مخصوص بصفة وهو ما يحدث عنده السرور والاستبشار. ويدل على أن موضوع هذا الخبر ما وصفنا قولهم : رأيت البِشْرَ في وجهه ؛ يعني الفرح والسرور. قال الله في صفة وجوه أهل الجنة ﴿ وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة ﴾ [ عبس : ٣٨ و٣٩ ] فأخبر عما ظهر في وجوههم من آثار السرور والفرح بذكر الاستبشار ؛ ومنه سموا الرجل بشيراً تفاؤلاً منهم إلى الأخبار بالخير دون الشر. وسمّوا ما يُعطى البشير على هذا الخبر بُشْرَى ؛ وهذا يدل على أن الإطلاق يتناول الخبر المفيد سروراً فلا ينصرف إلى غيره إلا بدلالة، وأنه متى أطلق في الشر فإنما يراد به الخبر فحسب، وكذلك قوله تعالى ﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ آل عمران : ٢١ ] معناه أخبرهم. ويدل على ما وصفنا من أن البشير هو المخبر الأول فيما ذكرنا من حكم اليمين قولهم :" ظهرت لنا تباشير هذا الأمر " يعنون أوله ؛ ولا يقولون ذلك في الشر وفيما يَغُمُّ، وإنما يقولونه فيما يسر ويفرح. ومن الناس من يقول إن أصله فيما يسرّ ويَغُمُّ، لأن معناه ما يظهر أولاً في بَشَرةِ الوجه من سرور أو غم، إلا أنه كثر فيما يسرّ فصار الإطلاق أخص به منه بالشر.
قوله تعالى :﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ﴾ يدل على أنه علم الأسماء كلها لآدم، أعني الأجناس بمعانيها لعموم اللفظ في ذكر الأسماء. وقوله :﴿ ثم عرضهم على الملائكة ﴾ فيه دلالة على أنه أراد أسماء ذريته على ما رُوي عن الربيع بن أنس، إلا أنه قد رُوي عن ابن عباس ومجاهد أنه علمه أسماء جميع الأشياء. وظاهر اللفظ يُوجب ذلك.
فإن قيل : لمَّا قال ﴿ عرضهم ﴾ دلَّ على أنه أسماء من يعقل، لأن " هُمْ " إنما يطلق فيما يعقل دون ما لا يعقل.
قيل له : لما أراد ما يعقل وما لا يعقل جاز تغليب اسم ما يعقل، كقوله تعالى :﴿ خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع ﴾ [ النور : ٤٥ ] لما دخل في الجملة من يعقل أجرى الجميع مجرى واحداً.
وهذه الآية تدل على أن أصول اللغات كلها توقيف من الله تعالى لآدم عليه السلام عليها على اختلافها، وأنه علمه إياها بمعانيها ؛ إذ لا فضيلة في معرفة الأسماء دون المعاني، وهي دلالة على شرف العلم وفضيلته، لأنه تعالى لما أراد إعلام الملائكة فضيلة آدم علمه الأسماء بمعانيها حتى أخبر الملائكة بها ولم تكن الملائكة علمت منها ما علمه آدم فاعترفت له بالفضل في ذلك.
ومن الناس من يقول إن لغة آدم وولده كانت واحدة إلى زمان الطوفان، فلما أغرق الله تعالى أهل الأرض وبقي من نسل نوح من بقي وتوفي نوح عليه السلام وتوالدوا وكثروا، أرادوا بناء صَرْحٍ ببابل يمتنعون به من طوفان إذ كان بلبل الله ألسنتهم فنسي كلُّ فرقة منهم اللسان الذي كان عليه، وعلمها الله الألسنة التي توارثها بعد ذلك ذريتهم عنهم، وتفرقوا في البلدان وانتشروا في الأرض.
ومن الناس من يأبى ذلك ويقول : لا يجوز أن ينسى إنسانٌ كاملُ العقل جميعَ لغته التي كان يتكلم بها بالأمس، وإنهم قد كانوا عارفين بجميع اللغات إلى أن تفرقوا، فاقتصر كل أُمة منهم على اللسان الذي هم عليه اليوم وتركوا سائر الألسنة التي كانوا عرفوها ولم تأخذها عنهم أولادهُمء ونسلُهم، فلذلك لم يعرف من نشأ بعدهم سائر اللغات.

باب السجود لغير الله تعالى


قال الله تعالى :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا ﴾ روى شعبة عن قتادة : أن الطاعة كانت لله تعالى في السجود لآدم، أكرمه الله بذلك. وروى معمر عن قتادة في قوله ﴿ وخرّوا له سجداً ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] قال :" كانت تحيتهم السجود ". وليس يمتنع أن يكون ذلك السجود عبادة لله تعالى وتكرمة وتحية لآدم عليه السلام، وكذلك سجود إخوة يوسف عليهم السلام وأهله له ؛ وذلك لأن العبادة لا تجوز لغير الله تعالى، والتحية والتكرمة جائزان لمن يستحق ضرباً من التعظيم.
ومن الناس من يقول : إن السجود كان لله وآدم كان بمنزلة القِبلةَ لهم. وليس هذا بشيء ؛ لأنه يوجب أن لا يكون لآدم في ذلك حظ من التفضيل والتكرمة. وظاهر ذلك يقتضي أن يكون آدم مفضلاً مكرماً ؛ فذلك كظاهر الحمد إذا وقع لمن يستحق ذلك يحمل على الحقيقة ولا يحمل على ما يطلق من ذلك مجازاً، كما يقال : أخلاق فلان محمودة ومذمومة ؛ لأن حكم اللفظ أن يكون محمولاً على بابه وحقيقته.
ويدل على أن الأمر بالسجود قد كان أراد به تكرمة آدم عليه السلام وتفضيله، قول إبليس فيما حكى الله عنه ﴿ أأسجد لمن خلقت طيناً قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي ﴾ [ الإسراء : ٦١ و٦٢ ] فأخبر إبليس أن امتناعَهُ كان من السجود لأجل ما كان من تفضيل الله وتكرمته بأمره إياه بالسجود له، ولو كان الأمر بالسجود له على أنه نُصِبَ قِبْلَةً للساجدين من غير تكرمة له ولا فضيلة لما كان لآدم في ذلك حظّ ولا فضيلة تُحسد، كالكعبة المنصوبة للقِبْلة. وقد كان السجود جائزاً في شريعة آدم عليه السلام للمخلوقين، ويشبه أن يكون قد كان باقياً إلى زمان يوسف عليه السلام، فكان فيما بينهم لمن يستحق ضرباً من التعظيم ويراد إكرامه وتبجيله بمنزلة المصافحة والمعانقة فيما بيننا وبمنزلة تقبيل اليد، وقد رُوي عن النبي عليه السلام في إباحة تقبيل اليد أخبارٌ، وقد رُوي الكراهةُ، إلا أن السجود لغير الله تعالى على وجه التكرمة والتحية منسوخ بما روت عائشة وجابر بن عبد الله وأنس، أن النبي عليه السلام قال :" ما ينبغي لِبَشَرٍ أنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، ولو صَلُحَ لبَشَرٍ أنْ يَسْجُدَ لبَشَرٍ لأمرَتِ المرأةُ أنْ تسْجُدَ لزَوْجها مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عليها " لفظ حديث أنس بن مالك.
قوله تعالى :﴿ وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ﴾. قيل إن فائدة قوله ﴿ ولا تكونوا أول كافر به ﴾ وإن كان الكفر قبيحاً من الأول والآخر منهياً عنه، الجميع أن السابق إلى الكفر يقتدي به غيره فيكون أعظم لمأثمه وجرمه، كقوله تعالى ﴿ وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ] وقوله :﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ﴾ [ المائدة : ٣٢ ]. وروي عن النبي عليه السلام :" أن على ابنِ آدَمَ القَاتِل كفْلاً من الإثم في كُلِّ قَتِيلٍ ظُلْماً ؛ لأنه أولُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ ". وقال عليه السلام :" من سَنَّ سُنَّة حَسَنة فله أَجْرُها وأجرُ من عمل بها إلى يوم القيامة ".
قوله تعالى :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ﴾. لا يخلو من أن يكون راجعاً إلى صلاة معهودة وزكاة معلومة وقد عرفها، أو أن يكون متناولاً صلاة مجملة وزكاة مجملة موقوفة على البيان ؛ إلا أنا قد علمنا الآن أنه قد أُريد بهما فيما خوطبنا به من هذه الصلوات المفروضة والزكوات الواجبة، إما لأنه كان ذلك معلوماً عند المخاطبين في حال ورود الخطاب، أو أن يكون كان ذلك مجملاً ورد بعده بيان المراد فحصل ذلك معلوماً. وأما قوله ﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾ فإنه يفيد إثبات فرض الركوع في الصلاة، وقيل إنه إنما خصّ الركوع لأن أهل الكتاب لم يكن لهم ركوع في صلاتهم فنصّ على الركوع فيها. ويحتمل أن يكون قوله :﴿ واركعوا ﴾ عبارة عن الصلاة نفسها كما عبّر عنها بالقراءة في قوله :﴿ فاقرؤوا ما تيسر من القرآن ﴾ [ المزمل : ٢٠ ]، وقوله :﴿ وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] والمعنى صلاة الفجر ؛ فينتظم وجهين من الفائدة : أحدهما إيجاب الركوع، لأنه لم يعبر عنها بالركوع إلا وهو من فرضها، والثاني : الأمر بالصلاة مع المصلين.
فإن قيل : قد تقدم ذكر الصلاة في قوله :﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ فغير جائز أن يريد بعطف الركوع عليها الصلاة بعينها.
قيل له : هذا جائز إذا أريد بالصلاة المبدوء بذكرها الإجمال دون صلاة معهودة فيكون حينئذٍ قوله :﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾ إحالةً لهم على الصلاة التي بَيَّنها بركوعها وسائر فروضها. وأيضاً لما كانت صلاة أهل الكتاب بغير ركوع وكان في اللفظ احتمال رجوعه إلى تلك الصلاة بَيَّن أنه لم يُرِدْ الصلاة التي يتعبَّدُ بها أهل الكتاب بل التي فيها الركوع.
وقوله تعالى :﴿ استعينوا بالصبر والصلاة ﴾ ينصرف الأمر بالصبر على أداء الفرائض التي فرضها الله واجتناب معاصيه وفعل الصلاة المفروضة، وقد روى سعيدٌ عن قتادة أنهما مَعُونتان على طاعة الله تعالى. وفعل الصلاة لطفٌ في اجتناب معاصيه وأداء فرائضه، كقوله ﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ [ العنكبوت : ٤٥ ] ويحتمل أن يريد به الصبر والصلاة المندوب إليهما لا المفروضَيْنِ، وذلك نحو صوم التطوع وصلاة النفل ؛ إلا أنّ الأظْهَرَ أن المراد المفروضُ منهما لأن ظاهر الأمر للإيجاب ولا يُصْرف إلى غيره إلا بدلالة.
وقوله تعالى :﴿ وإنها لكبيرة ﴾ فيه ردُّ الضمير على واحد مع تقدم ذكر اثنين، كقوله :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ [ التوبة : ٦٢ ] وقال :﴿ وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها ﴾ [ الجمعة : ١١ ] وقول الشاعر :
* فَمَنْ يكُ أمْسَى بالمَدِينَةِ رَحْلُهُ * فإني وقيَّارٌ بها لَغَرِيبُ *
قوله تعالى :﴿ فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم ﴾. يحتجّ بها فيما ورد من التوقيف في الأذكار والأقوال بأنه غير جائز تغييرها ولا تبديلها إلى غيرها. وربما احتجَّ به علينا المخالف في تجويزنا تحريمة الصلاة بلفظ التعظيم والتسبيح، وفي تجويز القراءة بالفارسية على مذهب أبي حنيفة، وفي تجويز النكاح بلفظ الهِبَة، والبيع بلفظ التمليك، وما جرى مجرى ذلك. وهذا لا يلزمنا فيما ذكرنا لأن قوله تعالى :﴿ فبدل الذين ظلموا ﴾ إنما هو في القوم الذين قيل لهم :﴿ ادخلوا الباب سُجَّدا وقولوا حطة ﴾ يعني حُطَّ عنا ذنوبنا. قال الحسن وقتادة : قال ابن عباس :" أُمروا أن يستغفروا ". وروي عنه أيضاً أنهم أمروا أن يقولوا : هذا الأمر حقّ، كما قيل لكم. وقال عكرمة :" أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله فقالوا بدل هذا حنطة حمراء تجاهلاً واستهزاء ". ورُوي عن ابن عباس وغيره من الصحابة وعن الحسن " إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى لفظ في ضد المعنى الذي أمروا به " إذ كانوا مأمورين بالاستغفار والتوبة فصاروا إلى الإصرار والاستهزاء، فأما من غير اللفظ مع اتفاق المعنى فلم تتناوله الآية إذ كانت الآية إنما تضمنت الحكاية عن فعل قوم غيروا اللفظ والمعنى جميعاً فألحق بهم الذم بهذا القول. وإنما يشاركهم في الذم من يشاركهم في الفعل مثلاً بمثل، فأما من غير اللفظ وأتى بالمعنى فلم تتضمنه الآية، وإنما نظير فعل القوم إجازة من يجيز المتعة مع قوله تعالى ﴿ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ﴾ [ المعارج : ٣٠ ]، فقصر استباحة البضع على هذين الوجهين، فمن استباحه بلفظ المتعة مع مخالفة النكاح وملك اليمين من جهة اللفظ والمعنى فهذا الذي يجوز أن يلحقه الذم بحكم الآية.
قوله تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أَتتخِذُنا هزواً ﴾ إلى قوله ﴿ وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ إلى آخر الآية، قال أبو بكر : في هذه الآيات وما اشتملت عليه من قصة المقتول وذبح البقرة ضروبٌ من الأحكام والدلائل على المعاني الشريفة.
وقوله :﴿ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴾ قد دلّ على جواز ورود الأمر بذبح البقرة : بقرة مجهولة غير معروفة ولا موصوفة، ويكون المأمور مخيراً في ذبح أدنى ما يقع الاسم عليه.
وقد تنازع معناه الفريقان من نفاة العموم ومن مثبتيه، واحتج به كل واحد من الفريقين لمذهبه، فأما القائلون بالعموم فاحتجوا به من جهة وروده مطلقاً فكان ذلك أمراً لازماً في كل واحد من آحاد ما تناوله العموم، وأنهم لما تعنَّتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المراجعة مرة بعد أخرى شدّد الله عليهم التكليف وذمّهم على مراجعته بقوله :﴿ فذبحوها وما كادوا يفعلون ﴾. وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" والذي نفسُ محمدٍ بيَدِهِ لو اعْتَرَضُوا أدْنَى بَقَرَةٍ فَذَبَحُوها لأَجْزَتْ عَنْهُمْ ولكنّهم شدَّدوا فَشَدّد الله عليهم ". وروي نحو ذلك عن ابن عباس وعبيدة وأبي العالية والحسن ومجاهد.
واحتج من أبى القول بالعموم بأن الله تعالى لم يعنفهم على المراجعة بدءاً ؛ ولو كان قد لزمهم تنفيذ ذلك على ما ادعيتموه من اقتضاء عموم اللفظ، لورد النكير في بدء المراجعة ؛ وهذا ليس بشيء، لأن النكير ظاهر عليهم في اللفظ من وجهين، أحدهما : تغليظ المحنة عليهم، وهذا ضرب من النكير كما قال الله تعالى ﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾ [ النساء : ١٦ ]. والثاني : قوله ﴿ وما كادوا يفعلون ﴾. وهذا يدل على أنهم كانوا تاركين للأمر بدءاً وأنه قد كان عليهم المسارعة إلى فعله.
فقد حصلت الآية على معان :
أحدها : وجوب اعتبار عموم اللفظ فيما يمكن استعماله.
والثاني : أن الأمر على الفور وأن على المأمور المسارعة إلى فعله على حسب الإمكان حتى تقوم الدلالة على جواز التأخير.
والثالث : جواز ورود الأمر بشيء مجهول الصفة مع تخيير المأمور في فعل ما يقع الاسم عليه منه.
والرابع : وجوب الأمر وأنه لا يصار إلى الندب إلا بدلالة، إذ لم يلحقهم الذم إلا بترك الأمر المطلق من غير ذكر وعيد.
والخامس : جواز النسخ قبل وقوع الفعل بعد التمكن منه ؛ وذلك أن زيادة هذه الصفات في البقرة كل منها قد نسخ ما قبلها، لأن قوله تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴾ اقتضى ذبح بقرة أيها كانت، وعلى أي وجه شاؤوا وقد كانوا متمكنين من ذلك. فلما قالوا :﴿ ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ﴾ فقال :﴿ إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون ﴾ نسخ التخيير الذي أوجبه الأمر الأول في ذبح البقرة الموصوفة بهذه الصفة وذبح غيرها، وقصروا على ما كان منها بهذه الصفة وقيل لهم افعلوا ما تؤمرون، فأبان أنه كان عليهم أن يذبحوا من غير تأخير على هذه الصفة أي لون كانت وعلى أي حال كانت من ذلول أو غيرها، فلما قالوا :﴿ ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ﴾ نسخ التخيير الذي كان في ذبح أي لون شاؤوا منها وبقي التخيير في الصفة الأخرى من أمرها، فلما راجعوا نُسِخ ذلك أيضاً وأمروا بذبحها على الصفة التي ذكر واستقر الفرض عليها بعد تغليظ المحنة وتشديد التكليف.
وهذا الذي ذكرنا في أمر النسخ دل أن الزيادة في النص بعد استقرار حكمه يوجب نسخه، لأن جميع ما ذكرنا من الأوامر الواردة بعد مراجعة القوم إنما كان زيادة في نص كان قد استقر حكمه فأوجب نسخه. ومن الناس من يحتج بهذه القصة في جواز نسخ الفرض قبل مجيء وقته، لأنه قد كان معلوماً أن الفرض عليهم بَدْءاً قد كان بقرة معينة فنسخ ذلك عنهم قبل مجيء وقت الفعل، وهذا غلط ؛ لأن كل فرض من ذلك قد كان وقت فعله عقيب ورود الأمر في أول أحوال الإمكان واستقر الفرض عليهم وثبت ثم نسخ قبل الفعل، فلا دلالة فيه إذاً على جواز النسخ قبل مجيء وقت الفعل ؛ وقد بيّنا ذلك في أصول الفقه.
والتاسع : دلالة قوله :﴿ أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ﴾ على أن المستهزىء يستحق سِمَةَ الجهل، لانتفاء موسى عليه السلام أن يكون من أهل الجهل بنفيه الاستهزاء عن نفسه، ويدل أيضاً على أن الاستهزاء بأمر الدين من كبائر الذنوب وعظائمها، لولا ذلك لم يبلغ مأْثَمُهُ النسبة إلى الجهل.
وذكر محمد بن مسعر أنه تقدم إلى عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي قال -وعليَّ جبة صوف وكان عبيد الله كثير المزح- قال : فقال له : أصوف نعجة جُبَّتك أم صوف كبش ؟ فقلت له : لا تجهل أبقاك الله ! قال : وأنى وجدت المزاح جهلاً ؟ فتلوت عليه ﴿ أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ﴾ قال : فأعرض واشتغل بكلام آخر.
وفيه دلالة على أن موسى عليه السلام لم يكن متعبداً بقتل من ظهر منه الكفر، وإنما كان مأموراً بالنظر بالقول، لأن قولهم لنبي الله ﴿ أتتخذنا هزواً ﴾ كفر وهو كقولهم لموسى ﴿ اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ﴾ [ الأعراف : ١٣٨ ]. ويدل أيضاً على أن كفرهم هذا لم يوجب فرقة بين نسائهم وبينهم، لأنه لم يأمرهم بفراقهن ولا تقرير نكاح بينهم وبينهن.
قوله تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أَتتخِذُنا هزواً ﴾ إلى قوله ﴿ وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ إلى آخر الآية، قال أبو بكر : في هذه الآيات وما اشتملت عليه من قصة المقتول وذبح البقرة ضروبٌ من الأحكام والدلائل على المعاني الشريفة.
والسادس : دلالة قوله :﴿ لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ﴾ على جواز الاجتهاد  واستعمال غالب الظن في الأحكام ؛ إذ لا يُعلم أنها بين البكر والفارض إلا من طريق الاجتهاد.
قوله تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أَتتخِذُنا هزواً ﴾ إلى قوله ﴿ وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ إلى آخر الآية، قال أبو بكر : في هذه الآيات وما اشتملت عليه من قصة المقتول وذبح البقرة ضروبٌ من الأحكام والدلائل على المعاني الشريفة.
والثامن : ما حكى الله عنهم في المراجعة الأخيرة :﴿ وإنا إن شاء الله لمهتدون ﴾ لما قرنوا الخبر بمشيئة الله وُفِّقوا لترك المراجعة بعدها ولوجود ما أمروا به، وقد روي أنهم لو لم يقولوا " إن شاء الله " لما اهتدوا لها أبدا ولدام الشر بينهم، وكذلك قوله :﴿ وما كادوا يفعلون ﴾ فأعلمنا الله ذلك لنطلب نجاح الأمور عند الإخبار عنها في المستقبل بذكر الاستثناء الذي هو مشيئة الله، وقد نص الله تعالى لنا في غير هذا الموضع على الأمر به في قوله :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ﴾ ففيه استعانة بالله وتفويض الأمر إليه والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته وأنه مالكه والمدبر له.
قوله تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أَتتخِذُنا هزواً ﴾ إلى قوله ﴿ وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ إلى آخر الآية، قال أبو بكر : في هذه الآيات وما اشتملت عليه من قصة المقتول وذبح البقرة ضروبٌ من الأحكام والدلائل على المعاني الشريفة.
والسابع : استعمال الظاهر مع تجويز أن يكون في الباطن خلافه بقوله :﴿ مسلمة لا شية فيها ﴾ يعني والله أعلم مسلمة من العيوب بريئة منها، وذلك لا نعلمه من طريق الحقيقة، وإنما نعلمه من طريق الظاهر مع تجويز أن يكون بها عيب باطن.
قوله تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أَتتخِذُنا هزواً ﴾ إلى قوله ﴿ وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ إلى آخر الآية، قال أبو بكر : في هذه الآيات وما اشتملت عليه من قصة المقتول وذبح البقرة ضروبٌ من الأحكام والدلائل على المعاني الشريفة.
فأولها أن قوله تعالى :﴿ وإذ قتلتم نفساً ﴾ وإن كان مؤخراً في التلاوة فهو مقدَّم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة، لأن الأمر بذبح البقرة إنما كان سَبَبُهُ قتل النفس.
وقد قيل فيه وجهان، أحدهما : أن ذكر القتل وإن كان مؤخراً في التلاوة فهو مقدم في النزول. والآخر : أن ترتيب نزولها على حسب ترتيب تلاوتها ونظامها وإن كان مقدماً في المعنى ؛ لأن الواو لا توجبُ الترتيب، كقول القائل :" اذكر إذ أعطيت ألف درهم زيداً إذ بَنَى داري " والبناء مقدم على العطية.
والدليل على أن ذكر البقرة مقدم في النزول قوله تعالى :﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ فدلّ على أن البقرة قد ذكرت قبل ذلك ولذلك أضمرت. ونظير ذلك قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام بعد ذكر الطوفان وانقضائه ﴿ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ﴾ [ هود : ٤٠ ] ومعلوم أن ذلك كان قبل هلاكهم ؛ لأن تقديم الكلام وتأخيره إذا كان بعضه معطوفاً على بعض بالواو غير موجب ترتيب المعنى على ترتيب اللفظ.
قوله تعالى :﴿ والله مخرج ما كنتم تكتمون ﴾ يدلّ على أن ما يُسره العبد من خير وشرّ ودام ذلك منه أن الله سيظهره ؛ وهو كما روي عن النبي عليه السلام :" إنَّ عَبْداً لو أطاع الله مِنْ وَرَاءِ سَبْعَيْنَ حِجَاباً لأظْهَرَ الله لَهُ ذَلِكَ عَلى أَلْسِنَة الناسِ وكَذَلِكَ المَعْصِيَةُ ". ورُوي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام :" قل لبني إسرائيلَ يُخْفُوا لي أعمالَهُمْ وعلي أن أُظْهِرَها ".
وقوله تعالى :﴿ والله مخرج ما كنتم تكتمون ﴾ عام والمراد خاص، لأن كلهم ما علموا بالقاتل بعينه ولذلك اختلفوا. وجائز أن يكون قوله :﴿ والله مخرج ما كنتم تكتمون ﴾ عاماً في سائر الناس لأنه كلام مستقل بنفسه وهو عام فيهم وفي غيرهم.
وفي هذه القصة - سوى ما ذكرنا- حرمان ميراث المقتول، روى أبو أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني " أن رجلاً من بني إسرائيل كان له ذو قرابة وهو وارثه، فقتله ليرثه، ثم ذهب فألقاه على باب قوم آخرين وذكر قصة البقرة وذكر بعدها فلم يُوَرَّثْ بعدها قاتل.
وقد اختلف في ميراث القاتل، ورُوي عن عمر وعلي وابن عباس وسعيد بن المسيب أنه لا ميراث له سواء كان القتل عمداً أو خطأ، وأنه لا يرث من دِيَتِهِ ولا من سائر ماله. وهو قول أبي حنيفة والثوري وأبي يوسف ومحمد وزُفَر. إلا أن أصحابنا قالوا : إن كان القاتل صبيّاً أو مجنوناً ورث. وقال عثمان البتيّ : قاتل الخطأ يرث دون قاتل العمد. وقال ابن شبرمة : لا يرث قاتل الخطأ. وقال ابن وهب عن مالك : لا يرث القاتل عمداً من دية من قتل شيئاً ولا من ماله، وإن قتله خطأ وَرِثَ من ماله ولم يرث من دِيته. ورُوي مثله عن الحسن ومجاهد والزهري، وهو قول الأوزاعي. وقال المزني عن الشافعي : إذا قتل الباغي العادل أو العادل الباغي لا يتوارثان لأنهما قاتلان.
قال أبو بكر : لم يختلف الفقهاء في أن قاتل العمد لا يرث المقتول إذا كان بالغاً عاقلاً بغير حقّ ؛ واختلف في قاتل الخطأ على الوجوه التي ذكرنا، وقد حدثنا عبد الباقي قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عنبسة بن لقيط الضبي قال : حدثنا علي بن حجر قال : حدثنا إسماعيل بن عياش عن ابن جريج والمثنى ويحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لَيْسَ للقَاتِلِ مِنَ المِيراثِ شَيْءٌ ".
وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا موسى بن زكريا التستري قال : حدثنا سليمان بن داود قال : حدثنا حفص بن غياث عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب عن النبي عليه السلام قال :" لَيْسَ للقَاتِل شَيْءٌ ".
وروى الليث عن إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" القاتلُ لا يَرثُ ".
وروى يزيد بن هارون قال : حدثنا محمد بن راشد عن مكحول قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" القَاتِلُ عمداً لا يَرِثُ مِنْ أخيه ولا مِنْ ذي قَرَابَتِهِ شيئاً ويَرِثُ أقْرَبُ الناسِ إليه نَسَباً بَعْدَ القَاتِلِ ".
وروى حصن بن ميسرة قال : حدثني عبد الرحمن بن حرملة عن عدي الجذامي قال : قلت : يا رسول الله كان لي امرأتان فاقتتلتا فرميت إحديهما ؟ فقال :" اعْقِلْها ولا تَرِثْها ".
فثبت بهذه الأخبار حرمان القاتل ميراثه من سائر مال المقتول ؛ وأنه لا فرق في ذلك بين العامد والمخطىء لعموم لفظ النبي عليه السلام فيه.
وقد استعمل الفقهاء هذا الخبر وتلقوه بالقبول فجرى مجرى التواتر، كقوله عليه السلام :" لا وَصِيّةَ لوارِثٍ ". وقوله :" لا تُنكحُ المرأةُ عَلَى عَمَّتها ولا عَلَى خَالَتها ". و " إذا اختلف البَيعان فالقَوْلُ ما قاله البائع أو يترادَّان ". وما جرى مجرى ذلك من الأخبار التي مخرجها من جهة الإفراد وصارت في حيز التواتر لتلقّي الفقهاء لها بالقبول من استعمالهم إياها فجاز تخصيص آية المواريث بها.
ويدلّ على تسوية حكم العامد والمخطىء في ذلك ما روي عن عليّ وعمر وابن عباس من غير خلاف من أحد من نظرائهم عليهم. وغيرُ جائزٍ فيما كان هذا وَصْفُه من قول الصحابة في شُيُوعه واستفاضته أن يُعْترض عليه بقول التابعين.
ولما وافق مالك على أنه لا يرث من دِيَتِه وَجَبَ أن يكون ذلك حكم سائر ماله من وجوه، أحدها : أن ديَتَه مَالُه وميراثٌ عنه بدليل أنه تُقْضَى منها ديونُهُ وتنفذ منها وصاياه ويرثها سائر ورثته على فرائض الله تعالى كما يرثون سائر أمواله، فلما اتفقوا على أنه لا يرث من دِيتَهِ كان ذلك حكم سائر ماله في الحرمان كما أنه إذا ورث من سائر ماله ورث من ديته ؛ فمن حيث كان حكم سائر ماله حكم ديته في الاستحقاق وجب أن يكون حكم سائر ماله حكم ديته في الحرمان، إذ كان الجميع مستحقاً على سهام ورثته وأنه مبدوء به في الدين على الميراث.
ومن جهة أخرى أنه لما ثبت أنه لا يرث من ديته لما اقتضاه الأثرُ، وَجَبَ أن يكون حكم سائر ماله كذلك، لأن الأثر لم يفصل في وروده بين شيء من ذلك. وقال مالك : إنما ورث قاتل الخطأ من سائر ماله سوى الدية لأنه لا يُتَّهم أن يكون قتله لِيَرِثَهُ. وهذه العلة موجودة في ديته، لأنها من التهمة أبْعَدُ، فواجب على مقتضى علّته أن يرث من ديته.
ومن جهة أخرى أنهم لا يختلفون في قاتل العمد وشبه العمد أنه لا يرث سائر ماله كما لا يرث من ديته إذا وجبت، فوجب أن يكون ذلك حكم قاتل الخطأ لا تفاقهما في حرمان الميراث من ديته. وأيضاً إذا كان قتل العمد وشبه العمد إنما حُرِما الميراث للتُّهمةِ في إحراز الميراث بقلته فهذا المعنى موجود في قتل الخطأ، لأنه يجوز أن يكون إنما أظهر رَمْيَ غيره وهو قاصدٌ به قَتْلَهُ لئلا يقاد منه ولا يحرم الميراث، فلما كانت التهمة موجودة من هذا الوجه وجب أن يكون في معنى العمد وشبهه. وأيضاً توريثه بعض الميراث دون بعض خارج من الأصول، لأن فيها أن من ورِثَ بعض تَرِكَةٍ ورث جميعها ومن حُرِم بعضها حرم جميعها. وإنما قال أصحابنا : إن الصبيّ والمجنون لا يُحرمان الميراث بالقتل من قِبَل أنهما غير مكلَّفيْنِ وحرمان الميراث على وجه العقوبة في الأصول فأُجريَ قاتل الخطأ مجراه وإن لم يستحق العقاب بقتل الخطأ تغليظاً لأمر الدم، ويجوز أن يكون قد قصد القتل برميه أو بضربه وأنه أوهم أنه قاصد لغيره فاُجْرِيَ في ذلك مجرى من عُلم منه ذلك، والصبيُّ والمجنونُ على أي وجه كان منهما ذلك لا يَستحقّان الدم، قال النبي عليه السلام :" رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ : عن النائِمِ حتَّى يَنْتَبِهَ، وعن المجنونِ حتى يفيقَ وعَنِ الصبيِّ حتى يَحْتَلِم ".
قال أبو بكر رحمه الله : فظاهر هذا الخبر يقتضي سقوط حكم قتله رأساً من سائر الوجوه، ولولا قيام الدلالة لما وجبت الدية أيضاً.
فإن قيل : فإنه يحرم النائم الميراث إذا انقلب على صبي فقتله ؟ قيل له : هو مثل قاتل الخطأ يجوز أن يكون أظهر أنه نائم ولم يكن نائماً في الحقيقة. وأما قول الشافعي في العادل إذا قتل الباغي حرم الميراث، فلا وَجْهَ له، لأنه قتله بحق وقد كان الباغي مستحقّاً للقتلِ، فغير جائز أن يُحرمَ الميراث. ولا نعلم خلافاً أن من وجب له القَوَدُ على إنسان فقتله قَوَداً أنه لا يحرم الميراث. وأيضاً فلو كان قتل العادل الباغي يحرمه الميراث لوجب أنه إذا كان محارباً فاستحقَّ القتل حَدّاً أن لا يكون ميراثُهُ لجماعة المسلمين، لأن الإمام قام مقام الجماعة في إجراء الحكم عليه فكأنهم قتلوه، فلما كان المسلمون هم المستحقين لميراث من ذكرنا أمره وإن كان الإمام قام مقامَهُمْ في قَتْلِهِ ثَبَتَ بذلك أنّ من قتل بحقٍّ لا يحرم قاتله ميراثه.
وقال أصحابنا في حافر البئر وواضع الحجر في الطريق إذا عطب به إنسان : إنه لا يحرم الميراث، لأنه غير قاتل في الحقيقة، إذ لم يكن فاعلاً للقتل ولا لسبب اتصل بالمقتول ؛ والدليل على ذلك أن القتل على ثلاثة أوجه : عمد، وخطأ، وشبه العمد ؛ وحافر البئر وواضع الحجر خارج عن ذلك، فإن قيل : حفر البئر ووضع الحجر سبب للقتل كالرامي والجارح أنهما قاتلان لفعلهما السبب ؟ قيل له : الرمْيُ وما تولّج منه من مرور السهم هو فعله وبه حصل القتل، وكذلك الجرح فعله فصار قاتلاً به لاتصال فعله بالمقتول ؛ وعثار الرجل بالحجر ووقوعه في البئر ليس من فعله فلا يجوز أن يكون به قاتلاً.
وقوله تعالى :﴿ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ﴾ يدل على أن العالم بالحق المعاند فيه أبعد من الرشد وأقرب إلى اليأس من الصلاح من الجاهل، لأن قوله تعالى :﴿ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ﴾ يفيد زوال الطمع في رشدهم لمكابرتهم الحق بعد العلم به.
وقوله تعالى :﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ﴾ ؛ قيل في معنى معدودة : إنها قليلة، كقوله :﴿ وشَرَوْهُ بثمن بخس دراهم معدودة ﴾ [ يوسف : ٢٠ ] أي قليلة. وقال ابن عباس وقتادة في قوله ﴿ أياماً معدودة ﴾ إنها أربعون يوماً مقدار ما عَبَدُوا العِجْلَ. وقال الحسن ومجاهد : سبعة أيام. وقال تعالى :﴿ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياماً معدودات ﴾ [ البقرة : ١٨٣ و ١٨٤ ]، فسمى أيام الصوم في هذه الآية معدودات وأيام الشهر كله.
وقد احتج شيوخنا لأقَلِّ مدة الحيض وأكثره أنها ثلاثة وعشرة بقول النبي صلى الله عليه وسلم :" المُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصلاةَ أيّامَ أقْرائها " وفي بعض الألفاظ :" دَعي الصلاةَ أيامَ حَيْضِكِ " واستدلوا بذلك على أن مدة الحيض تسمى أياماً وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة، لأن ما دون الثلاثة يقال يوم أو يومان وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوماً ؛ وإنما يتناول هذا الاسم ما بين الثلاثة إلى العشرة، فدل ذلك على مقدار أقله وأكثره، فمن الناس من يعترض على هذا الاستدلال بقوله :﴿ أياماً معدودات ﴾، وهي أيام الشهر، وقوله ﴿ إلا أياماً معدودة ﴾ وقد قيل فيه أربعون يوماً. وهذا عندنا لا يقدح في استدلالهم ؛ لأن قوله تعالى ﴿ أياماً معدودات ﴾ [ البقرة : ١٨٤ ] جائز أن يريد به أياماً قليلة كقوله ﴿ دراهم معدودة ﴾
[ يوسف : ٤٢ ] يعني قليلة، ولم يُرِدْ به تحديد العدد وتوقيت مقداره، وإنما المراد به أنه لم يفرض عليهم من الصوم ما يشتد ويصعب. ويحتمل أن يريد به وقتاً مبهماً كقولهم : أيام بني أمية، وأيام الحجاج، ولا يراد به تحديد الأيام وإنما المراد به زمان ملكهم، وقوله عليه السلام :" دعي الصلاةَ أيامَ أقرَائِكِ " قد أريد به لا مَحَالَةَ تحديد الأيام، إذ لا بد من أن يكون للحَيْض وقت معين مخصوص لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، فمتى أضيف ذكر الأيام إلى عدد مخصوص يتناول ما بين الثلاثة إلى العشرة.
قوله تعالى :﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ ؛ قد عقل منه استحقاق النار بما يكسب من السيئة وإحاطتها به، فكان الجزاء مستحقّاً بوجود الشرطين غير مستحقّ بوجود أحدهما ؛ وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في عِتَاقٍ أو طلاق أو غيرهما أنه لا يَحْنُثُ بوجود أحدهما دون وجود الآخر.
قوله تعالى :﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً ﴾ ؛ يدل على تأكيد حق الوالدين ووجوب الإحسان إليهما كافرين كانا أو مؤمنين، لأنه قَرَنَهُ إلى الأمر بعبادته تعالى.
وقوله :﴿ وذي القربى ﴾ يدل على وجوب صلة الرحم والإحسان إلى اليتامى والمساكين. ﴿ وقولوا للناس حسناً ﴾ روي عن أبي جعفر محمد بن علي :﴿ وقولوا للناس حسناً كلهم ﴾.
قال أبو بكر : وهذا يدل على أنهم كانوا متعبدين بذلك في المسلم والكافر. وقد قيل : إن ذلك على معنى قوله تعالى ﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ [ النحل : ١٢٥ ]. والإحسان المذكور في الآية إنما هو الدعاء إليه والنصح فيه لكل أحد. ورُوي عن ابن عباس وقتادة أنها منسوخة بالأمر بالقتال، وقد قال تعالى :﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ﴾ [ النساء : ١٤٨ ]. وقد أمر الله تعالى بلعن الكفار والبراءة منهم والإنكار على أهل المعاصي، وهذا مما لا يختلف فيه شرائع الأنبياء عليهم السلام، فدلّ ذلك على أن المأمور به من القول الحسن أحد وجهين : إما أن يكون ذلك خاصّاً في المسلمين ومن لا يستحق اللعن والنكير، وإن كان عامّاً فهو الدعاء إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك كله حسن. وأخبرنا الله تعالى أنه كان أخذ الميثاق على بني إسرائيل بما ذكر، والميثاق هو العقد المؤكد إما بوعيد أو بيمين، وهو نحو أمر الله الصحابة بمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم على شرائطها المذكورة.
قوله تعالى :﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ﴾ يحتمل وجهين أحدهما أن لا يقتل بعضكم بعضاً، كقوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ [ النساء : ٢٩ ] وكذلك إخراجهم من ديارهم ؛ وكقوله :﴿ وقاتلوا وقتلوا ﴾ [ آل عمران : ١٩٥ ] والآخر : أن لا يقتل كل واحدٍ نفسه، إما بأن يباشر ذلك كما يفعله الهند وكثير ممن يغلب عليه اليأس عند الخلاص من شدَةٍ هو فيها، أو بأن يقتل غيره فيقتل به فيكون في معنى قتل نفسه. واحتمال اللفظين المعنيين يُوجِبُ أن يكون عليهما جميعاً. وهذا الذي أخبر الله به من حكم شريعة التوراة مما كان يكتمه اليهود لما عليهم في ذلك من الوكس ويلزمهم في ذلك من الذمّ، فأطْلَع الله نبيَّهُ عليه وجعله دلالة وحجة عليهم في جحْدِهم نبوته، إذ لم يكن عليه السلام ممن قرأ الكتب ولا عرف ما فيها إلا بإعلام الله تعالى إياه. وكذلك جميع ما حكى الله بعد هذه الآيات عنهم من قوله :
﴿ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ﴾ وسائر ما ذمّهم هو توْقِيفٌ منه له على ما كانوا يكتمون وتقريعٌ لهم على ظلمهم وكفرهم وإظهار قبائحهم، وجميعه دلالة على نبوته عليه السلام.
قوله تعالى :﴿ وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ﴾ دالّ على أن فداء أساراهم كان واجباً عليهم، وكان إخراج فريق منهم من ديارهم محرماً عليهم، فإذا أسر بعضهم عدوهم كان عليهم أن يفادوهم، فكانوا في إخراجهم كافرين ببعض الكتاب لفعلهم ما حظره الله عليهم، وفي مفاداتهم مؤمنين ببعض الكتاب بقيامهم بما أوجبه الله عليهم.
وهذا الحكم من وجوب مفاداة الأسارى ثابت علينا : روى الحجاج بن أرطاة عن الحكم عن جده :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَتَب كتاباً بين المهاجرين والأنصار ؛ أن يعقلوا معاقلهم، ويفدُوا عَانِيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين ". وروى منصور عن شقيق بن سلمة عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أطْعِمُوا الطَّعَامَ وأفْشُوا السَّلامَ وعُودُوا المريضَ وفكُّوا العَاني ". فهذان الخبران يدلاّن على فكاك الأسير، لأن العاني هو الأسير. وقد روى عمران بن حصين وسلمة بن الأكوع :" أن النبي عليه السلام فدى أسارى من المسلمين بالمشركين ". وروى الثوري عن عبدالله بن شريك عن بشر بن غالب قال :" سئل الحسين بن علي عليهما السلام : على مَنْ فِدَى الأسير ؟ قال : على الأرض التي يقاتل عنها ".
قوله تعالى :﴿ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ﴾ روي أن النبي عليه السلام قال :" لو أنّ اليهودَ تمنَّوا الموت لماتوا ولرََأَوا مقاعِدَهُمْ مِنَ النار، ولو خَرَجَ الذين يُبَاهِلُونَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَرجِعُوا لا يَجدُونَ أهلاً ولا مالاً ". وقال ابن عباس :" لو تمنوا الموت لشرقُوا به ولماتوا ".
وقيل في تمني الموت وجهان : أحدهما قول ابن عباس أنهم تحدوا بأن يدعوا بالموت على أي الفريقين كان كاذباً. وقال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس : لما قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، قيل لهم : فَتَمنّوا الموت ! فمن كان بهذه الصفة فالموت خير له من الحياة في الدنيا، فتضمنت الآية معنيين، أحدهما : إظهار كذبهم وتَبكيتهم به، والثاني : الدلالة على نبوة النبي عليه السلام ؛ وذلك أنه تحداهم بذلك كما أمر الله تعالى بتحدّي النصارى بالمباهلة، فلولا علمهم بصدقه صلى الله عليه وسلم وكذبهم لسارعوا إلى تمني الموت، ولسَارَعَت النَّصَارى إلى المباهلة، لا سيّما وقد أخبر الفريقين أنهم لو فعلوا ذلك لنزل الموت والعذاب بهم، وكان يكون في إظهارهم التمني والمباهلة تكذيبٌ له ودَحْضٌ لحجته إذا لم ينزل بهم ما أوْعَدَهُم، فلما أحجموا عن ذلك مع التحدي والوعيد مع سهولة هذا القول، دلّ ذلك على علمهم بصحة نبوته بما عرفوه من كتبهم من نعته وصفته، كما قال تعالى :﴿ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ﴾.
فيه دلالة أخرى على صحة نبوته، وهو إخبارهم أنهم لا يتمنون الموت مع خفة التمني وسهولته على المتلفظ وسلامة ألسنتهم، فكان ذلك بمنزلة لو قال لهم : الدلالة على صحة نبوتي أن أحداً منكم لا يمسّ رأسه مع صحة جوارحه، وأنه إن مسَّ أحدٌ منكم رأسه فأنا مبطل ! فلا يمس أحد منهم رأسه مع شدة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه ومع سلامة أعضائهم وصحة جوارحهم ؛ فَيُعْلَمُ بذلك أنه من عند الله تعالى من وجهين : أحدهما : أن عاقلاً لا يتحدَّى أعداءه بمثله مع علمه بجواز وقوع ذلك منهم. والثاني : أنه إخبار بالغيب، إذ لم يتمنَّ واحدٌ منهم الموت ؛ وكون مخبره على ما أخبر به، وهذا كقوله حين تحداهم بالقرآن وقرّعهم بالإتيان بسورة مثله وإخباره أنهم لا يفعلون بقوله :﴿ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ﴾ [ البقرة : ٢٤ ].
فإن قال قائل : إنهم لم يتمنّوا لأنهم لو تمنّوا لكان ذلك ضميراً مغيباً علمه عن الناس، وكان يمكنه أن يقولوا إنكم قد تمنيتم بقلوبكم ؟ قيل له : هذا يبطل من وجهين، أحدهما : أن للتمني صيغة معروفة عند العرب ؛ وهو قول القائل : ليت الله غفر لي، وليت زيداً قدم ؛ وما جرى هذا المجرى، وهو أحد أقسام الكلام. ومتى قال ذلك قائلٌ كان ذلك عندهم متمنياً من غير اعتبار لضميره واعتقاده، كقولهم في الخبر والاستخبار والنداء ونحو ذلك من أقسام الكلام. والتحدّي بتمني الموت إنما توجَّه إلى العبارة التي في لغتهم أنها تَمَنٍّ. والوجه الآخر أنه يستحيل أن يتحداهم عند الحاجة والتكذيب والتوقيف على علمهم بصحة نبوته وبَهتهم ومكابرتهم في أمره فيتحدّاهم بأن يتمنوا ذلك بقلوبهم مع علم الجميع بأن التحدّي بالضمير لا يَعْجَزُ عنه أحدٌ فلا يدلّ على صحة مقالة ولا فسادها، وأن المتحدي بذلك يمكنه أن يقول قد تمنيت بقلبي ذلك ولا يمكن خصمه إقامة الدليل على كذبه. وأيضاً فلو انصرف ذلك إلى التمني بالقلب دون العبارة باللسان لقالوا : قد تمنينا ذلك بقلوبنا ؛ فكانوا مساوين له فيه ويسقط بذلك دلالته على كذبهم وعلى صحة نبوته، فلما لم يقولوا ذلك لأنه لو قالوه لنُقِل كما لو عارضوا القرآن بأي كلام كان لنُقِلَ، فعلم أن التحدي وقع بالتمني باللفظ والعبارة دون الضمير والاعتقاد.

باب السحر وحكم الساحر


قال الله تعالى :﴿ وَاتَّبِعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ﴾ إلى آخر القصة.
قال أبو بكر : الواجب أن نقدم القول في السحر لخفائه على كثير من أهل العلم فضلاً عن العامة، ثم نعقبه بالكلام في حكمه في مقتضى الآية في المعاني والأحكام، فنقول : إن أهل اللغة يذكرون أن أصله في اللغة لما لَطُفَ وخَفِيَ سَبَبُهُ، والسَّحَرُ عندهم بالفتح هو الغذاءُ لخفائه ولطف مجاريه، قال لبيد :
* أرانا موضعين لأمر غيّب * ونُسْحَر بالطعام وبالشراب *
قيل : فيه وجهان : نعلل ونخدع كالمسحور والمخدوع، والآخر : نُغذَّى، وأي الوجهين كان فمعناه الخفاء. وقال آخر :
* فإن تَسْألِينا فِيمَ نحنُ فإننا * عَصَافِيرُ مِنْ هذا الأنامِ المُسَحَّرِ *
وهذا البيت يحتمل من المعنى ما احتمله الأول، ويحتمل أيضاً أنه أراد بالمسَحَّرَ أنه ذو سحر.
والسَّحْرُ الرئة وما يتعلق بالحلقوم، وهذا يرجع إلى معنى الخفاء، ومنه قول عائشة :" توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين سَحْرِي ونَحْرِي ". وقوله تعالى ﴿ إنما أنت من المسحرين ﴾ [ الشعراء : ١٥٣، ١٨٥ ] يعني من المخلوق الذي يُطْعم ويُسقَى ؛ ويدل عليه قوله تعالى ﴿ وما أنت إلا بشر مثلنا ﴾ [ الشعراء : ١٥٤ ] ؛ وكقوله تعالى :﴿ مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ﴾ [ الفرقان : ٧ ]. ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا. وإنما يُذكر السحر في مثل هذه المواضع لضعف هذه الأجساد ولطافتها ورقّتها وبها مع ذلك قَوَامُ الإنسان، فمن كان بهذه الصفة فهو ضعيف محتاج ؛ وهذا هو معنى السحر في اللغة، ثم نقل هذا الاسم إلى كل أمر خَفِيَ سَبَبُهُ ؛ وتُخُيِّلَ على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخِداع، ومتى أُطلق ولم يُقَيَّدْ أفاد ذمّ فاعله. وقد أجري مقيداً فيما يُمتدح ويُحمد كما روي :" إِنَّ منَ البَيَانِ لَسِحْراً ".
حدثنا عبد الباقي قال : حدثنا إبراهيم الحراني قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن زيد عن محمد بن الزبير قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم، فقال لعمرو :" خَبِّرْني عَن الزّبرقَان ! " فقال : مُطَاعٌ في ناديه، شَديدُ العارضة، مانعٌ لما وراء ظهره. فقال الزبرقان : هو والله يعلم أني أفضل منه ! فقال عمرو : إنه زَمِرُ المروءة ضَيّقُ العَطَن أحمقُ الأبِ لئيم الخال يا رسول الله ! صدقت فيهما ؛ أرضاني فقلت أحسن ما علمتُ، وأسخطني فقلت أسوأ ما علمتُ. فقال عليه السلام :" إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً ".
وحدثنا إبراهيم الحراني قال : حدثنا مصعب بن عبدالله قال : حدثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال : قدم رجلان فخطب أحدهما فعجب الناس لذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا ". قال : وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال : حدثنا سعيد بن محمد قال : حدثنا أبو تميلة قال : حدثنا أبو جعفر النحوي عبدالله بن ثابت قال : حدثني صخر بن عبدالله بن بريدة عن أبيه عن جده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً، وإنّ من العِلْمِ جهلاً، وإن من الشِّعْرِ حكماً، وإنّ من القولِ عيالاً " قال صعصعة بن صوحان : صدق نبي الله. أما قوله :" إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا ". فالرجل يكون عليه الحقّ وهو ألْحَنُ بالحجج من صاحب الحق فيَسْحَرُ القوم ببيانه فيذهب بالحق. وأما قوله :" من العلم جهلاً " فيتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم فيجهله ذلك. وأما قوله :" إن من الشعر حكماً " فهي هذه الأمثال والمواعظ التي يَتَّعِظُ بها الناس. وأما قوله :" إن من القول عيالاً " فعرضُك كلامك وحديثك على من ليس من شأنه ولا يريده. فسمى النبي عليه السلام بعض البيان سحراً، لأن صاحبه بين أن ينبىء عن حق فيوضحه ويجليه بحسن بيانه بعد أن كان خفياً -فهذا من السحر الحلال الذي أقرّ النبي عليه السلام عمرو بن الأهتم عليه ولم يَسْخَطْهُ منه.
ورُوي أن رجلاً تكلم بكلام بليغ عند عمر بن عبدالعزيز فقال عمر :" هذا والله السحر الحلال " - وبين أن يصور الباطل في صورة الحق ببيانه ويخدع السامعين بتمويهه.
ومتى أُطلق فهو اسم لكل أمر مُمَوَّهٍ باطل لا حقيقة له ولا ثبات، قال الله تعالى :﴿ سحروا أعين الناس ﴾ [ الأعراف : ١١٦ ] يعني مَوَّهُوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعِصِيَّهم تسعى. وقال :﴿ يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ﴾ [ طه : ١٦٦ ] فأخبر أن ما ظنوه سَعياً منها لم يكن سعياً وإنما كان تخييلاً. وقد قيل : إنها كانت عِصِيّاً مجوفة قد مُلئت زئبقاً، وكذلك الحبال كانت معمولة من أدم محشوَّة زئبقاً، وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسراباً وجعلوا آزاجاً وملؤوها ناراً، فلما طُرحت عليه وحَمِي الزئبقُ حَرّكها، لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فأخبر الله أن ذلك كان مموّهاً على غير حقيقته. والعرب تقول لضرب من الحلي " مسحور " أي مُمَوَّهٌ على من رآه مسحور به عينُه. فما كان من البيان على حق ويوضحه فهو من السحر الحلال، وما كان منه مقصوداً به إلى تمويه وخديعة وتصويرِ باطلٍ في صورة الحق فهو من السحر المذموم.
فإن قيل : إذا كان موضوع السحر التمويه والإخفاء فكيف يجوز أن يسمَّى ما يوضح الحق وينبىء عنه سحراً، وهو إنما أظهر بذلك ما خَفِيَ ولم يقصد به إلى إخفاء ما ظهر وإظهاره غير حقيقة ؟ قيل له : سمِّي ذلك سحراً من حيث كان الأغلب في ظن السامع أنه لو ورد عليه المعنى بلفظ مستنكر غير مبين لما صادف منه قبولاً ولا أصغى إليه، ومتى سمع المعنى بعبارة مقبولة عذبة لا فساد فيها ولا استنكار وقد تأتى لها بلفظه وحسن بيانه بما لا يتأتى له الغبي الذي لا بيان له أصغى إليه وسمعه وقبله، فسمَّى استمالته للقلوب بهذا الضرب من البيان سحراً كما يستميل الساحر قلوب الحاضرين إلى ما موَّهَ به ولبسه، فمن هذا الوجه سُمِّي البيان سِحْرًا لا من الوجه الذي ظننتَ. ويجوز أن يكون إنما سُمِّي البيانُ سِحْراً لأن المقتدر على البيان ربما قَبَّحَ بيانه بعض ما هو حسن وحَسَّنَ عنده بعض ما هو قبيح فسماه لذلك سحراً، كما سمى ما مَوَّه به صاحبه وأظهر على غير حقيقة سحراً.
قال أبو بكر رحمه الله : واسم السحر إنما أُطلق على البيان مجازاً لا حقيقةً، والحقيقةُ ما وصفنا، ولذلك صار عند الإطلاق إنما يتناول كل أمرٍ مموَّهٍ قد قُصد به الخديعة والتلبيس وإظهار ما لا حقيقة له ولا ثبات.
وإذ قد بيّنا أصل السحر في اللغة وحكمه عند الإطلاق والتقييد، فَلْنَقُلْ في معناه في التعارف، والضروب الذي يشتمل عليها هذا الاسم، وما يقصد به كل فريق من منتحليه، والغرض الذي يجري إليه مُدَّعُوهُ، فنقول وبالله التوفيق :
إن ذلك ينقسم إلى أنحاء مختلفة : فمنها سحر أهل بابل الذين ذكرهم الله تعالى في قوله ﴿ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ ببَابِلَ هَاروتَ وَمَارُوتَ ﴾ وكانوا قوماً صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمّونها آلهة ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها وهم مُعَطِّلةٌ لا يعترفون بالصانع الواحد المبدع للكواكب وجميع أجرام العالم، وهم الذين بعث الله تعالى إليهم إبراهيم خليله صلوات الله عليه ؛ فدعاهم إلى الله تعالى وحاجَّهم بالحجاج الذي بهرهم به، وأقام عليهم به الحجة من حيث لم يمكنهم دَفْعُهُ، ثم ألقوه في النار فجعلها الله تعالى برداً وسلاماً، ثم أمره الله تعالى بالهجرة إلى الشام. وكان أهل بابل وإقليم العراق والشام ومصر والروم على هذه المقالة إلى أيام بيوراسب الذي تسميه العرب " الضحّاك " وإن أفريدون وكان من أهل دنباوند استجاش عليه بلاده وكَاتَبَ سائِرَ من يطيعه وله قصص طويلة حتى أزال ملكه وأسره. وجهّالُ العامة والنساء عندنا يزعمون أن أفريدون حَبَسَ بيوراسب في جبل دنباوند العالي على الجبال، وأنه حيٌّ هناك مقيّد، وأن السَّحرةَ يأتونه هناك فيأخذون عنه السحر، وأنه سيخرج فيغلب على الأرض، وأنه هو الدجال الذي أخبر به النبي عليه السلام وحَذَّرَناهُ ؛ وأحسبهم أخذوا ذلك عن المجوس. وصارت مملكة إقليم بابل للفرس فانتقل بعض ملوكهم إليها في بعض الأزمان فاستوطنوها، ولم يكونوا عبدة أوثان بل كانوا مُوَحِّدين مُقِرِّين بالله وَحْدَهُ، إلا أنّهم مع ذلك يعظّمون العناصر الأربعة : الماء، والنار، والأرض، والهواء ؛ لما فيها من منافع الخلق وأن بها قوام الحيوان. وإنما حدثت المجوسية فيهم بعد ذلك في زمان كشتاسب حين دعاه زرادشت فاستجاب له على شرائط وأمورٍ يطولُ شرحها، وإنما غرضنا في هذا الموضع الإبانة عما كانت عليه سَحَرَةُ بابل. ولما ظهرت الفرسُ على هذا الإقليم كانت تتديّنُ بقتل السَّحَرَةِ وإبادتها، ولم يزل ذلك فيهم ومن دينهم بعد حدوث المجوسية فيهم وقبله إلى أن زال عنهم الملك. وكانت علوم أهل بابل قبل ظهور الفرس عليهم الحيل والنيرنجيات وأحكام النجوم، وكانوا يعبدون أوثاناً قد عملوها على أسماء الكواكب السبعة وجعلوا لكل واحد منها هيكلاً فيه صَنَمُهُ، ويتقربون إليها بضروب من الأفعال على حسب اعتقاداتهم من موافقة ذلك للكوكب الذي يطلبون منه بزعمهم فعل خير أو شر : فمن أراد شيئاً من الخير والصلاح بزعمه يتقرب إليه بما يوافق المشتري من الدخن والرُّقَى والعقد والنَّفْتِ عليها، ومن طلب شيئاً من الشرّ والحرب والموت والبوار لغيره تقرّب بزعمه إلى زُحَلَ بما يوافقه من ذلك ؛ ومن أراد البرق والحرق والطاعون تقرّب بزعمه إلى المريخ بما يوافقه من ذلك من ذبح بعض الحيوانات، وجميع تلك الرُّقَى بالنبطيّة تشتمل على تعظيم تلك الكواكب إلى ما يريدون من خير أو شرّ ومحبة وبُغض، فيعطيهم ما شاؤوا من ذلك، فيزعمون أنهم عند ذلك يفعلون ما شاؤوا في غيرهم من غير مماسة ولا ملامسة سوى ما قدموه من القربات للكوكب الذي طلبوا ذلك منه ؛ فمن العامة من يَزْعُمُ أنه يقلب الإنسانَ حماراً أو كلباً ثم إذا شاء أعاده، ويركب البيضة والمكنسة والخابية، ويطير في الهواء فيمضي من العراق إلى الهند وإلى ما شاء من البلدان ثم يرجع من ليلته، وكانت عوامهم تعتقد ذلك لأنهم كانوا يعبدون الكواكب، وكل ما دعا إلى تعظيمها اعتقدوه. وكانت السحرة تحتال في خلال ذلك بحيل تُمَوِّهُ بها على العامة إلى اعتقاد صحّته بأن يزعم أن ذلك لا ينفذ ولا ينتفع به أحدٌ ولا يبلغ ما يريد إلا من اعتقد صحة قولهم وتصديقهم فيما يقولون. ولم تكن ملوكهم تعترض عليهم في ذلك، بل كانت السحرة عندها بالمحلِّ الأجلِّ لما كان لها في نفوس العامة من محلّ التعظيم والإجلال ؛ ولأن الملوك في ذلك الوقت كانت تعتقد ما تدَّعيه السحرة للكواكب، إلى أن زالت تلك الممالك. ألا ترى أن الناس في زمن فرعون كانوا يتبارَوْنَ بالعلم والسحر والحيل والمخاريق، ولذلك بعث إليهم موسى عليه السلام بالعصا والآيات التي علمت السحرة أنها ليست من السحر في شيء، وأنها لا يقدر ع
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا ﴾ قال قطرب :" هي كلمة أهل الحجاز على وجه الهزء ". وقيل : إن اليهود كانت تقولها كما قال الله في موضع آخر :﴿ ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليّاً بألسنتهم وطعناً في الدين ﴾ [ النساء : ٤٦ ]. وكانوا يقولون ذلك عن مواطأة بينهم يريدون الهزء، كما قال الله تعالى :﴿ وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ﴾ [ المجادلة : ٨ ] لأنهم كانوا يقولون " السَّامُ عليك " يوهمون بذلك أنهم يسلّمون عليه، فأطْلَعَ الله نبيه عليه السلام على ذلك من أمْرِهم ونَهَى المسلمين أن يقولوا مثله. وقوله :﴿ راعنا ﴾ وإن كان يحتمل المراعاة والانتظار، فإنه لما احتمل الهزء على النحو الذي كانت اليهود تطلقه نُهوا عن إطلاقه لما فيه من احتمال المعنى المحظور إطلاقه. وجائز أن يكون الإطلاق مقتضياً لمعنى الهزء وإن احتمل الانتظار، ومثله موجود في اللغة، ألا ترى أن اسم الوعد يطلق على الخير والشر ؟ قال الله تعالى :
﴿ النار وعدها الله الذين كفروا ﴾ [ الحج : ٧٢ ] وقال تعالى :﴿ ذلك وعد غير مكذوب ﴾ [ هود : ٦٥ ] ومتى أطلق عقل به الخير دون الشر ؛ فكذلك قوله ﴿ راعنا ﴾ فيه احتمال الأمرين، وعند الإطلاق يكون بالهزء أخصّ منه بالانتظار. وهذا يدل على أن كل لفظ احتمل الخير والشر فغير جائز إطلاقه حتى يقيد بما يفيد الخير، ويدل على أن الهزء محظور في الدين، وكذلك اللفظ المحتمل له ولغيره هو محظور ؛ والله أعلم بمعاني كتابه.

باب في نسخ القرآن بالسنة وذكر وجوه النسخ


قال الله تعالى :﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ قال قائلون :" النسخ هو الإزالةُ " وقال آخرون :" هو الإبدال " قال الله تعالى :﴿ فينسخ الله ما يلقي الشيطان ﴾ [ الحج : ٥٢ ] أي يزيله ويبطله ويبدل مكانه آيات محكمات. وقيل : هو النقل، من قوله :﴿ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ﴾ [ الجاثية : ٢٩ ]. وهذا الاختلاف إنما هو في موضوعه في أصل اللغة، ومهما كان في أصل اللغة معناه ؛ فإنه في إطلاق الشرع إنما هو بيان مدة الحكم والتلاوة، والنسخ قد يكون في التلاوة مع بقاء الحكم ؛ ويكون في الحكم مع بقاء التلاوة دون غيره.
قال أبو بكر : زعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقه أنه لا نَسْخَ في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جميع ما ذُكر فيها من النسخ فإنما المراد به نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب ؛ قال : لأن نبينا عليه السلام آخر الأنبياء وشريعته ثابتة باقية إلى أن تقوم الساعة. وقد كان هذا الرجل ذا حظّ من البلاغة وكثير من علم اللغة، غير محظوظ من علم الفقه وأصوله، وكان سليم الاعتقاد غير مظنون به غير ظاهر أمره ؛ ولكنه بَعُدَ من التوفيق بإظهار هذه المقالة إذ لم يسبقه إليها أحدٌ. بل قد عقلت الأمة سلفها وخلفها من دين الله وشريعته نسخ كثير من شرائعه ؛ ونقل ذلك إلينا نقلاً لا يرتابون به ولا يجيزون فيه التأويل. كما قد عقلت أن في القرآن عاماً وخاصاً ومحكما ومتشابهاً، فكان دافع وجود النسخ في القرآن والسنة كدافع خاصِّهِ وعامِّهِ ومحكمِهِ ومتشابهه، إذ كان ورود الجميع ونقله على وجه واحد. فارتكب هذا الرجل في الآي المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أموراً خرج بها عن أقاويل الأمة مع تعسف المعاني واستكراهها. وما أدري ما الذي ألجأه إلى ذلك، وأكثر ظني فيه أنه إنما أتى به من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك واستعمال رأيه فيه من غير معرفة منه بما قد قال السلف فيه ونقلته الأمة. وكان ممن رُويَ فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ قَالَ في القُرْآنِ بِرَأيِهِ فأصابَ فَقَدْ أخطأ " والله يغفر لنا وله ! وقد تكلمنا في أصول الفقه في وجوه النسخ وما يجوز فيه وما لا يجوز بما يُغني ويكفي.
وأما :﴿ أَوْ نُنْسِهَا ﴾ قيل إنه من النسيان، و " ننسأها " من التأخير، يقال : نسأتُ الشيء أخَّرته، والنسيئة : الدين المتأخر، ومنه قوله تعالى :﴿ إنما النسيء زيادة في الكفر ﴾ [ التوبة : ٣٧ ] يعني تأخير الشهور، فإذا أريد به النسيان، فإنما هو أن ينسيهم الله تعالى التلاوة حتى لا يقرؤوا ذلك، ويكون على أحد وجهين : إما أن يؤمروا بترك تلاوته فينسوه على الأيام، وجائز أن ينسوه دفعة ويرفع من أوهامهم ويكون ذلك معجزة للنبي عليه السلام. وإما معنى قراءة " أو ننسأها " فإنما هو بأن يؤخرها فلا ينزلها وينزل بدلاً منها ما يقوم مقامها في المصلحة أو يكون أصلح للعباد منها، ويحتمل أن يؤخر إنزالها إلى وقت يأتي فيأتي بدلاً منها لو أنزلها في الوقت المتقدم فيقوم مقامها في المصلحة.
وأما قوله :﴿ نَأْتِ بخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ فإنه رُوي عن ابن عباس وقتادة :" بخير منها لكم في التسهيل والتيسير " كالأمر بأن لا يولي واحد من عشرة في القتال ثم قال :﴿ الآن خفف الله عنكم ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ]. أو مثلها كالأمر بالتوجه إلى الكعبة بعدما كان إلى البيت المقدس. ورُوي عن الحسن :﴿ بخير منها ﴾ في الوقت في كثرة الصلاح ﴿ أو مثلها ﴾. . فحصل من اتفاق الجميع أن المراد " خير لكم إما في التخفيف أو في المصلحة " ولم يقل أحد منهم : خير منها في التلاوة ؛ إذ غير جائز أن يقال إن بعض القرآن خير من بعض في معنى التلاوة والنظم، إذ جميعه معجزٌ كلام الله.
قال أبو بكر وقد احتجّ بعض الناس في امتناع جواز نسخ القرآن بالسنّة ؛ لأن السنة على أي حال كانت ؛ لا تكون خيراً من القرآن. وهذا إغفال من قائله من وجوه ؛ أحدها : أنه غير جائز أن يكون المراد :" بخير منها في التلاوة والنظم " لاستواء الناسخ والمنسوخ في إعجاز النظم. والآخر اتفاق السلف على أنه لم يرد النظم ؛ لأن قولهم فيه على أحد المعنيين ؛ إما التخفيف أو المصلحة، وذلك قد يكون بالسنة كما يكون بالقرآن، ولم يقل أحد منهم إنه أراد التلاوة. فدلالة هذه الآية على جواز نسخ القرآن بالسنّة أظهر من دلالتها على امتناع جوازه بها. وأيضاً فإن حقيقة ذلك إنما تقتضي نسخ التلاوة، وليس للحكم في الآية ذكر، لأنه قال تعالى :﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾ والآية إنما هي اسم للتلاوة، وليس في نسخ التلاوة ما يُوجبُ نسخ الحكم، وإذا كان كذلك جاز أن يكون معناه :" ما ننسخ من تلاوة أية أو ننسها نأت بخير منها لكم من محكم من طريق السنة أو غيرها ". وقد استقصينا القول في هذه المسألة في أصول الفقه بما فيه كفاية، فمن أرادها فليطلبها هناك إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ فَاعفُوا وَاصْفَحُوا حَتَى يَأْتِيَ اللهُ بَأَمْرِه ﴾ روى معمر عن قتادة في هذه الآية قال : نَسَختها ﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾
[ التوبة : ٥ ]. وحدثنا أبو محمد جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان قال : قرىء على أبي عبيد محمد الواسطي قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ لست عليهم بمصيطر ﴾ [ الغاشية : ٢٢ ] وقوله تعالى :﴿ وما أنت عليهم بجبار ﴾ [ ق : ٤٥ ] وقوله تعالى :﴿ فاعفُ عنهم واصفح ﴾ [ المائدة : ١٣ ] وقوله تعالى :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ﴾ [ الجاثية : ١٤ ] قال : نسخ هذا كله قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ] وقوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] الآية. ومثله قوله تعالى
﴿ فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ﴾ وقوله تعالى :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ﴾
[ النحل : ١٢٥ ] وقوله تعالى :﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ] يعني والله أعلم متاركة. فهذه الآيات كلها أنزلت قبل لزوم فرض القتال، وذلك قبل الهجرة ؛ وإنما كان الغرض الدعاء إلى الدين حينئذ بالحِجَاجِ والنظر في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وما أظهره الله على يده، وأن مثله لا يوجد مع غير الأنبياء. ونحوه قوله تعالى :﴿ قل إنما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا، ما بصاحبكم من جنة ﴾ [ سبأ : ٤٦ ] وقوله تعالى :﴿ أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ﴾ [ طه : ١٣٣ ] ﴿ أفلا تعقلون ﴾ [ البقرة : ٤٤ ] ﴿ فأنى تصرفون ﴾ [ يونس : ٣٢ ] ونحوها من الآي التي فيها الأمر بالنظر في أمر النبي عليه السلام وما أظهره الله تعالى له من أعلام النبوة والدلائل الدالة على صدقه. ثم لما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى بالقتال بعد قطع العذر في الحجاج وتقريره عندهم حين استقرت آياته ومعجزاته عند الحاضر والبادي والداني والقاصي بالمشاهدة والأخبار المستفيضة التي لا يكذب مثلها. وسنذكر فرض القتال عند مصيرنا إلى الآيات الموجبة له إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا، أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ ﴾ ؛ روى معمر عن قتادة قال : هو بخت نَصْر، خرّب بيت المقدس وأعان على ذلك النصارى. وقوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ ﴾ قال : هم النصارى لا يدخلونها إلا مسارقة، فإن قدر عليهم عوقبوا ﴿ لهم في الدنيا خِزْي ﴾، قال :﴿ يعطوا الجزية عن يَدٍ وهم صاغرون ﴾. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية قال : هم النصارى خربوا بيت المقدس.
قال أبو بكر : ما رُوي في خبر قتادة يشبه أن يكون غلطاً من راويه، لأنه لا خلاف بين أهل العلم بأخبار الأولين أن عهد بخت نصّر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل، والنصارى إنما كانوا بعد المسيح وإليه ينتمون، فكيف يكونون مع بخت نصر في تخريب بيت المقدس والنصارى إنما استفاض دينهم في الشام والروم في أيام قسطنطين الملك، وكان قبل الإسلام بمائتي سنة وكسور ؟ وإنما كانوا قبل ذلك صابئين عبدة أوثان وكان من ينتحل النصرانية منهم مغمورين مستخفين بأديانهم فيما بينهم ؛ ومع ذلك فإن النصارى تعتقد من تعظيم بيت المقدس مثل اعتقاد اليهود فكيف أعانوا على تخريبه مع اعتقادهم فيه ؟ ومن الناس من يقول : إن الآية إنما هي في شأن المشركين حيث منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام، وإن سعيهم في خرابه إنما هو منعهم من عمارته بذكر الله وطاعته.
قال أبو بكر : في هذه الآية دلالة على منع أهل الذمة دخول المساجد من وجهين، أحدهما : قوله :﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ﴾، والمنع يكون من وجهين، أحدهما : بالقهر والغلبة، والآخر : الاعتقاد والديانة والحكم، لأن من اعتقد من جهة الديانة المنع من ذكر الله في المساجد فجائز أن يقال فيه قد منع مسجداً أن يذكر فيه اسمه، فيكون المنع ههنا معناه الحظر، كما جائز أن يقال منع الله الكافرين من الكفر والعصاة من المعاصي بأن حظرها عليهم وأوعدهم على فعلها ؛ فلما كان اللفظ منتظماً للأمرين وجب استعماله على الاحتمالين. وقوله :﴿ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ﴾ يدلّ على أن على المسلمين إخراجهم منها إذا دخلوها، لولا ذلك ما كانوا خائفين بدخولها. والوجه الثاني : قوله ﴿ وسعى في خرابها ﴾ وذلك يكون أيضاً من وجهين : أحدهما : أن يخربها بيده، والثاني : اعتقاده وجوب تخريبها، لأن دياناتهم تقتضي ذلك وتوجبه. ثم عطف عليه قوله :﴿ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ﴾ وذلك يدلّ على منعهم منها على ما بينا.
ويدلّ على مثل دلالة هذه الآية قوله تعالى :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾ [ التوبة : ١٧ ] وعمارتها تكون من وجهين، أحدهما : بناؤها وإصلاحها، والثاني : حضورها ولزومها، كما تقول : فلان يعمر مجلس فلان ؛ يعني يحضره ويلزمه. وقال النبي عليه السلام :" إذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ المَسْجِدَ فَاشْهَدُوا له بالإيمان " وذلك لقوله عز وجل ﴿ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله ﴾ فجعل حضوره المساجد عمارة لها. وأصحابنا يجيزون لهم دخول المساجد، وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومما يدل على أنه عام في سائر المساجد وأنه غير مقصور على بيت المقدس خاصة أو المسجد الحرام خاصة، إطلاقه ذلك في المساجد ؛ فلا يخصّ شيء منه إلا بدلالة.
فإن قيل : جائز أن يقال لكل موضع من المسجد مسجد ؛ كما يقال لكل موضع من المجلس مجلس، فيكون الاسم واقعاً على جملته تارةً ؛ وعلى كل موضع سجود فيه أخرى ؟ قيل له : لا تنازع بين أهل اللسان أنه لا يقال للمسجد الواحد مساجد، كما لا يقال إنه مسجدان، وكما لا يقال للدار الواحدة إنها دُور ؛ فثبت أن الإطلاق لا يتناوله وإن سمى موضع السجود مسجداً، وإنما يقال ذلك مقيداً غير مطلق وحكم الإطلاق فيما يقتضيه ما وصفنا، وعلى أنك لا تمتنع من إطلاق ذلك في جميع المساجد وإنما تريد تخصيصه ببعضها دون بعض ؛ وذلك غير مسلم لك بغير دلالة.
قوله تعالى :﴿ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ ؛ روى أبو أشعث السمان، عن عاصم بن عبيدالله، عن عبدالله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فلم نَدْرِ أين القبلة، فصلّى كل رجل منا على حياله، ثم أصبحنا فذكرنا ذلك للنبي عليه السلام، فأنزل الله تعالى :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾. وروى أيوب بن عتبة عن قيس بن طلق عن أبيه : أن قوماً خرجوا في سفر فصلوا فتاهوا عن القبلة، فلما فرغوا تبين لهم أنهم كانوا على غير القبلة، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :" تَمَّتْ صَلاَتُكُمْ ". وروى ابن لهيعة عن بكر بن سوادة، عن رجل سأل ابن عمر عمّن يخطىء القبلة في السفر ويصلي، قال :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾. وحدثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ قال : حدثنا محمد بن سليمان الواسطي قال : حدثني أحمد بن عبدالله بن الحسن العنبري، قال : وجدت في كتاب أبي عبيدالله بن الحسن : قال عبدالله بن أبي سليمان العرزمي، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبدالله قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّة كنت فيها، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا : قد عرفنا القبلة ههنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطاً. قالت طائفة : القبلة ههنا قِبَلَ الجنوب، وخطّوا خطوطاً. فلما أصبحنا وطلعت الشمس وأصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي عليه السلام عن ذلك فسكت، فأنزل الله :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ أي حيث كنتم.
قال أبو بكر : ففي هذه الأخبار أن سبب نزول الآية كان صلاة هؤلاء الذين صلّوا لغير القبلة اجتهاداً.
ورُوي عن ابن عمر في خبر آخر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته وهو مقبل من مكة نحو المدينة حيث توجهت، وفيه أنزلت :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾. وروى معمر عن قتادة في قوله :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ قال : هي القبلة الأولى ثم نسختها الصلاة إلى المسجد الحرام. وقيل فيه : إن اليهود أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة بعد ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلّي إلى بيت المقدس، فأنزل الله ذلك، ومن الناس من يقول : إن النبي عليه السلام كان مخيَّراً في أن يصلي إلى حيث شاء، وإنما كان توجَّه إلى بيت المقدس على وجه الاختيار لا على وجه الإيجاب حتى أمر بالتوجه إلى الكعبة، وكان قوله :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ في وقت التخيير قبل الأمر بالتوجه إلى الكعبة.
قال أبو بكر : اختلف أهل العلم فيمن صلى في سفر مجتهداً إلى جهة ثم تبيَّن أنه صلى لغير القبلة، وقال أصحابنا جميعاً والثوري إن وجد من يسأله فيعرّفه جهة القبلة فلم يفعل لم تَجُزْ صلاته، وإن لم يجد من يعرّفه جهتها فصلاها باجتهاده أجزأته صلاته، سواء صلاها مستدبر القبلة أو مشرّقاً أو مغرّباً عنها. ورُوي نحو قولنا عن مجاهد وسعيد بن المسيب وإبراهيم وعطاء والشعبي. وقال الحسن والزهري وربيعة وابن أبي سلمة : يعيد في الوقت، فإذا فات الوقت لم يُعِدْ، وهو قول مالك، رواه ابن وهب عنه. وروى أبو مصعب عنه :" إنما يعيد في الوقت إذا صلاها مستدبر القبلة أو شَرَّقَ أو غرَّبَ، وإن تيامن قليلاً أو تياسر قليلاً فلا إعادة عليه ". وقال الشافعي :" من اجتهد فصلى إلى المشرق ثم رأى القبلة في المغرب استأنف، فإن كانت شرقاً ثم رأى أنه منحرف فتلك جهة واحدة وعليه أن ينحرف ويعتدّ بما مضى ".
قال أبو بكر : ظاهر الآية يدل على جوازها إلى أي جهة صلاها ؛ وذلك أن قوله :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ معناه : فثم رضوان الله ؛ وهو الوجه الذي أُمرتم بالتوجه إليه، كقوله تعالى :﴿ إنما نطعمكم لوجه الله ﴾ [ الإنسان : ٩ ] يعني لرضوانه ولما أراده منا، وقوله :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾ [ القصص : ٨٨ ] يعني ما كان لرضاه وإرادته، وقد رُوي في حديث عامر بن ربيعة وجابر اللذين قدمنا أن الآية في هذا أنزلت.
فإن قيل : روي أنها نزلت في التطوع على الراحلة، ورُوي أنها نزلت في بيان القبلة ! قيل له : لا يمتنع أن تتفق هذه الأحوال كلها في وقت واحد ويسأل النبي عليه السلام عنها، فينزل الله تعالى الآية ويريد بها بيان حكم جميعها، ألا ترى أنه لو نصّ على كل واحدة منها بأن يقول : إذا كنتم عالمين بجهة القبلة ممكنين من التوجه إليها فذلك وجه الله فصلوا إليها، وإذا كنتم خائفين أو في سفر فالوجه الذي يمكنكم التوجه إليه فهو وجه الله، وإذا اشتبهت عليكم الجهات فصليتم إلى أي جهة كانت فهي وجه الله ؟ وإذا لم تَتَنَافَ إرادة جميع ذلك وَجَبَ حمل الآية عليه، فيكون مراد الله تعالى بها جميع هذه المعاني على الوجه الذي ذكرنا، لا سيما وقد نصّ حديث جابر وعامر بن ربيعة أن الآية نزلت في المجتهد إذا أخطأ، وأخبر فيه أن المستدبر للقبلة والمتياسر والمتيامن عنها سواء، لأن فيه بعضهم صلى إلى ناحية الشمال والآخر إلى ناحية الجنوب وهاتان جهتان متضادتان، ويدلّ على جوازها أيضاً حديث رواه جماعة عن أبي سعيد مولى بني هاشم قال : حدثنا عبدالله بن جعفر، عن عثمان بن محمد، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما بَيْنَ المشرق والمغربِ قِبلة " وهذا يقتضي إثبات جميع الجهات قبلة، إذ كان قوله :" ما بين المشرق والمغرب " كقوله : جميع الآفاق ؛ ألا ترى أن قوله :﴿ رب المشرق والمغرب ﴾ أنه أراد به جميع الدنيا ؟ وكذلك هو في معقول خطاب الناس متى أُريد الإخبار عن جميع الدنيا ذكر المشرق والمغرب فيشمل اللفظ جميعها. وأيضاً ما ذكرنا من قول السلف يوجب أن يكون إجماعاً لظهوره واستفاضته من غير خلاف من أحد من نظرائهم عليهم. ويدلّ أيضاً أن من غاب عن مكة فإنما صلاته إلى الكعبة لا تكون إلا عن اجتهاد، لأن أحداً لا يوقن بالجهة التي يصلي إليها في محاذاة الكعبة غير منحرف عنها، وصلاة الجميع جائزة، إذ لم يكلف غيرها، فكذلك المجتهد في السفر قد أدّى فرضه إذ لم يكلف غيرها. ومن أوجب الإعادة فإنما يلزمه فرضاً آخر، وغير جائز إلزامه فرضاً بغير دلالة ؛ فإن ألزمونا عليه بالثوب يصلى فيه ثم تُعلم نجاسته أو الماء يتطهر به ثم يُعلم أنه نجس، قيل لهم : لا فرق بينهم في أن كلاًّ منهم قد أدَّى فرضه، وإنما ألزمناه بعد العلم فرضاً آخر بدلالة قامت عليه، ولم تَقُمْ دلالة على إلزام المجتهد في جهة القبلة فرضاً آخر، لأن الصلاة تجوز إلى غير جهة القبلة من غير ضرورة وهي صلاة النفل على الراحلة، ومعلوم أنه لا ضرورة به لأنه ليس عليه فعلها، فلما جازت إلى غير القبلة من غير ضرورة فإذا صلّى الفرض إلى غير جهتها على ما كُلِّفْ لم يكنْ عليه عند التبين غيرها. ولما لم تَجُز الصلاة في الثوب النجس إلا لضرورة ولم تجز الطهارة بماء نجس بحال، لزمته الإعادة. ومن جهة أخرى وهي أن المجتهد بمنزلة صلاة المتيمم إذا عَدِمَ الماء، فلا يلزمه الإعادة ؛ لأن الجهة التي توجَّه إليها قد قامت له مقام القِبْلة كالتيمم قائم مقام الوضوء، ولم يوجد للمصلّي في الثوب النجس والمتطهر بماء نجس ما يقوم مقام الطهارة فهو بمنزلة المصلي بغير تيمم ولا ماء، ويدلّ على ذلك وهو أصل يرد إليه مسألتُنا صلاة الخائف لغير القبلة، ويبنى عليها من وجهين، أحدهما : أنها جهة لم يكلف غيرها في الحال، والثاني : قيام هذه الجهة مقام القبلة فلا إعادة عليه كالمتيمم. ويدلّ على أن المراد من قوله تعالى :﴿ فثم وجه الله ﴾ الصلاة لغير القبلة، أنه معلوم أن مقدار مساحة الكعبة لا يتّسعُ لصلاة الناس الغائبين عنها حتى يكون كل واحد منهم مصلّياً لمحاذاتها، ألا ترى أن الجامع مساحته أضعاف مساحة الكعبة وليس جميع من يصلّي فيه محاذِياً لِسَمْتِها وقد أجيزت صلاة الجميع ؟ فثبت أنهم إنما كُلِّفُوا التوجه إلى الجهة التي هي في ظنهم أنها محاذية الكعبة، لا محاذاتها بعينها. وهذا يدلّ على أن كل جهة قد أُقيمت مقام جهة الكعبة في حال العذر.
فإن قيل : إنما جازت صلاة الجميع في الأصل الذي ذكرت ؛ لأن كل واحد منهم يجوز أن يكون هو المحاذي للكعبة دون من بَعُدَ منه ؛ ولم يظهر في الثاني توجّهه إلى غير جهة الكعبة، فأجزأته صلاته من أجل ذلك، وليس هذه نظير مسألتنا، من قِبَل أن المجتهد في مسألتنا قد تبين أنه صلى إلى غيرها ! قيل له : لو كان هذا الاعتبار سائغاً في الفرق بينهما لوجب أن لا تجيز صلاة الجميع ؛ لأنه إذا كان محاذاة الكعبة مقدار عشرين ذراعاً إذا كان مُسامِتَها، ثم قد رأينا أهل الشرق والغرب قد أجزأتهم صلاتهم، مع العلم بأن الذين حاذوها هم القليل الذين يقصر عددهم عن النسبة إلى الجميع لقلتهم، وجائز مع ذلك أن يكون ليس فيهم من يحاذي الكعبة حين لم يغادرها ثم أجزأت صلاة الجميع، ولم يعتبر حكم الأعمّ الأكثر مع تعلّق الأحكام في الأصول بالأعمّ الأكثر ؛ ألا ترى أن الحكم في كل من في دار الإسلام ودار الحرب يتعلق بالأعمّ الأكثر دون الأخص الأقل ؛ حتى صار مَنْ في دار الإسلام محظوراً قتله، مع العلم بأن فيها من يستحق القتل من مرتدٍّ وملحد وحربيّ ؛ ومن في دار الحرب يُستباح قتله مع ما فيها من مسلم تاجر أو أسير ؟ وكذلك سائر الأصول على هذا المنهاج يُجْرَى حكمها، ولم يكن للأكثر الأعمّ حكم في بطلان الصلاة مع العلم بأنهم على غير محاذاة الكعبة، ثبت أن الذي كلف كل واحد منهم في وقته هو ما عنده أنه جهة الكعبة وفي اجتهاده في الحال التي يسوغ الاجتهاد فيها، وأنْ لا إعادة على واحد منهم في الثاني.
فإن قيل : فأنت توجب الإعادة على من صلى باجتهاده مع إمكان المسألة عنها إذا تبين له خلافها.
قيل له : ليس هذا الموضع الاجتهاد مع وجود من يسأله عنها، وإنما أجَزْنا فيما وصفنا صلاة من اجتهد في الحال التي يسوغ الاجتهاد فيها، وإذا وجد من يسأله عن جهة الكعبة لم يكلَّفْ فعل الصلاة باجتهاده وإنما كُلِّف المسألة عنها. ويدلّ على ما ذكرنا ؛ أنه معلوم أنه من غاب عن حضرة النبي عليه السلام فإنما يؤدي فرضَهُ باجتهاده مع تجويزه أن يكون ذلك الفرضُ فيه نَسْخٌ. وقد ثبت أن أهل قُبَاء كانوا يصلّون إلى بيت المقدس، فأتاهم آت فأخبرهم أن القِبلة قد حوِّلت، فاستداروا في صلاتهم إلى الكعبة ؛ وقد كانوا قبل ذلك مُستَدْبِرين لها ؛ لأن من استقبل بيت المقدس وهو بالمدينة فهو مستدبرٌ للكعبة، ثم لم يؤمروا بالإعادة حين فعلوا بعض الصلاة إلى بيت المقدس مع ورود النسخ، إذ الأغلبُ أنهم ابتدأوا الصلاة بعد النسخ ؛ لأن النسخ نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة، ثم سار المخبر إلى قُبَاء بعد النسخ وبينهما نحو فرسخ. فهذا يدلّ على أن ابتداء صلاتهم كان بعد النسخ لامتناع أن يطول مُكْثُهُمْ في الصلاة هذه المدة، ولو كان ابتداؤها قبل النسخ كانت دلالته قائمة لأنهم فعلوا بعض الصلاة إلى بيت المقدس بعد النسخ.
فإن قيل : إنما جاز ذلك لأنهم ابتدأوها قبل النسخ وكان ذلك فرضهم ولم يكن عليهم فرض غيره ! قيل له : وكذلك المجتهد فرضه ما أداه إليه اجتهاده ليس عليه فرض غيره.
فإن قيل : إذا تبين أنه صلى إلى غير الكعبة كان بمنزلة
قوله تعالى :﴿ وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السماوات والأرض ﴾ ؛ قال أبو بكر : فيه دلالة على أن ملْكَ الإنسان لا يبقى على ولده، لأنه نَفَى الولد بإثبات الملك بقوله تعالى :﴿ بل له ما في السماوات والأرض ﴾ يعني ملكه وليس بولده ؛ وهو نظير قوله :﴿ وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً ﴾ [ مريم : ٩٢ و ٩٣ ] فاقتضى ذلك عتق ولده عليه إذا ملكه. وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك في الوالد إذا ملكه ولده، فقال عليه السلام :" لا يَجْزي وَلَدٌ والِدهُ إلا أنْ يَجِدَهُ مملوكاً فيَشْتَرِيهِ فيُعْتِقَهُ " فدلّت الآية على عِتْقِ الولد إذا ملكه أبوه، واقتضى خبر النبي صلى الله عليه وسلم عِتقَ الوالد إذا ملكه ولده. وقال بعض الجهال : إذا ملك أباه لم يُعْتَقْ عليه حتى يعتقَهُ لقوله :" فيشتريه فيعتقه " وهذا يقتضي عِتقاً مستأنفاً بعد الملك. فجهل حكم اللفظ في اللغة والعُرْف جميعاً، لأن المعقول منه فيشتريه فيعتقه بالشِّرى، إذ قد أفاد أن شِرَاهُ مُوجبٌ لِعَتْقِهِ ؛ وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم :" الناسُ عَادِيانِ : فبائعٌ نَفْسَه فمُوبِقُها، ومُشْتَرٍ نَفْسَهُ فمُعتِقُها " يريد أنه معتقها بالشِّرى لا باستئناف عِتْقٍ بعده.
قوله تعالى :﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربُّه بكلمات فأتمهن ﴾ ؛ اختلف المفسرون، فقال ابن عباس :" ابتلاه بالمناسك ". وقال الحسن :" ابتلاه بقتل ولده والكواكب ". ورَوَى طاوس عن ابن عباس قال :" ابتلاه بالطهارة ؛ خمس في الرأس وخمس في الجسد. فالخمسة في الرأس : قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس ؛ وفي الجسد : تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء ". ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" عَشْرٌ مِنَ الفِطْرَة " وذكر هذه الأشياء ؛ إلا أنه قال مكان الفرق :" إعفاء اللحية " ولم يذكر فيه تأويل الآية، ورواه عمار وعائشة وأبو هريرة على اختلاف منهم في الزيادة والنقصان، كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وسياقة ألفاظها، إذ هي المشهورة، وقد نقلها الناس قولاً وعملاً وعرفوها من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما ذكر فيه من تأويل الآية ما قدمنا من اختلاف السلف فيه فجائز أن يكون الله تعالى ابتلى إبراهيم بذلك كله، ويكون مراد الآية جميعه، وأن إبراهيم عليه السلام أتمّ ذلك كلَّه ووفّى به وقام به على حسب ما أمره الله تعالى به من غير نقصان، لأن ضد الإتمام النقص، وقد أخبر الله بإتمامهن. وما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العشر الخصال في الرأس والجسد من الفطرة، فجائز أن يكون فيها مقتدياً بإبراهيم عليه السلام ؛ بقوله تعالى :﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملّة إبراهيم حنيفاً ﴾ [ النحل : ١٢٣ ] وبقوله :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ].
وهذه الخصال قد ثبتت من سُنّة إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهي تقتضي أن يكون التنظيف ونفي الأقذار والأوساخ عن الأبدان والثياب مأموراً بها ؛ ألا ترى أن الله تعالى لما حظر إزالة التفث والشعر في الإحرام أمر به عند الإحلال بقوله :﴿ ثم ليقضوا تفثهم ﴾ [ الحج : ٢٩ ] ومن نحو ذلك ما رُوي عن النبي عليه السلام في غسل يوم الجمعة " أن يَسْتَاكَ وأن يَمَسَّ مِنْ طِيب أهلِهِ " فهذه كلّها خصالٌ مستحسنة في العقول محمودة مستحبة في الأخلاق والعادات، وقد أكدها التوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد حدثنا عبد الباقي قال : حدثنا محمد بن عمر بن حيان التمار قال : حدثنا أبو الوليد وعبد الرحمن بن المبارك قالا : حدثنا قريش بن حيان العجلي قال : حدثنا سليمان فروخ أبو واصل قال : أتيت أبا أيوب فصافحته فرأى في أظفاري طولاً فقال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن خبر السماء، فقال :" يَجِيءُ أحَدُكُمْ يسْألُ عَنْ خَبَرِ السّماءِ وأظْفَارُهُ كأنّها أظْفَارُ الطَّيْر يَجْتَمعُ فيها الخَبَاثَةُ والتَّفَثُ " وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب قال : حدثنا عبدالملك بن مروان الحذاء قال : حدثنا الضحاك بن زيد الأهوازي عن إسماعيل بن خالد عن قيس بن أبي حازم عن عبدالله بن مسعود قال : قلنا يا رسول الله إنك تهم قال :" وما لي لا أهمُ ورَفْعُ أحَدِكُمْ بين أظْفَارِهِ وأنامِلِه ! " وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " كان يقلِّم أظفاره ويقصّ شاربه يوم الجمعة قبل أن يروح إلى الجمعة ". وحدثنا محمد بن بكر البصري قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن وكيع، عن الأوزاعي، عن حسان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلاً شِعثاً قد تفرّقَ شعرُهُ فقال :" أما كانَ يَجِدُ هذا ما يُسكِّنُ به شَعرَهُ ؟ " ورأى رجلاً آخر عليه ثيابٌ وسِخَةٌ فقال :" أما كان يَجدُ هذا ما يَغْسِلُ بهِ ثَوْبَهُ ؟ " حدثنا عبد الباقي قال : حدثنا حسين بن إسحاق فقال : حدثنا محمد بن عقبة السدوسي قال : حدثنا أبو أمية بن يعلى قال : حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت :" خمس لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يَدَعُهُنَّ في سَفَرٍ ولا حَضَرٍ : المرآة والمكحلة والمشط والمِدْرَى والسواك ".
وقد رُوي أنه وقّت في ذلك أربعين يوماً ؛ حدثنا عبدالباقي قال : حدثنا الحسين بن المثنى عن معاذ قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا صدقة الدقيقي قال : حدثنا أبو عمران الجوني عن أنس بن مالك قال :" وقَّتَ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حَلْقِ العانة وقصِّ الشارب ونَتْفِ الإبطِ أربعين يوماً ".
ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يَتَنَوَّرُ ؛ حدثنا عبدالباقي قال : حدثنا إدريس الحداد قال : حدثنا عاصم بن علي قال : حدثنا كامل بن العلاء قال : حدثنا حبيب بن أبي ثابت عن أم سلمة قالت :" كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أطلَى وَلِيَ مَغَابِنَهُ بيَده ". حدثنا عبدالباقي : حدثنا مطير : حدثنا إبراهيم بن المنذر : حدثنا معن بن عيسى عمن حدثه عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال : اطَّلَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَطَلاَهُ رَجُلٌ فَسَتَرَ عَوْرَتَهُ بثوْبٍ وطَلَى الرجلُ سائرَ جَسَدِهِ، فلما فرغ قال له النبي عليه السلام :" اخْرُجْ عَنِّي " ثم طلى النبيّ صلى الله عليه وسلم عَورَتَهُ بيَدِهِ.
وقد روى حبيبُ بن أبي ثابت عن أنس قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يَتَنَورُ، فإذا كَثُرَ شَعرُهُ حَلَقَهُ ". وهذا يحتمل أن يريد به أنّ عَادَتَهُ كانت الحلقْ، وأن ذلك كان الأكثر الأعمّ ليصحّ الحديثان. وأما ما ذكر من توقيت الأربعين في الحديث المتقدم فجائز أن تكون الرخصة في التأخير مقدرة بذلك وأن تأخيرها إلى ما بعد الأربعين محظور يستحقّ فاعله اللوم لمخالفة السنّة، لا سيما في قص الشارب وقص الأظفار.
قال أبو بكر : ذكر أبو جعفر الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة وزُفَرَ وأبي يوسف ومحمد في شَعر الرأْس والشارب أن الإحفاء أفضلُ من التقصير، عنه : وإن كان معه حَلْق بعض الشعر. قال : وقال ابن الهيثم عن مالك : إحفاءُ الشارب عندي مُثْلَة. قال مالك : وتفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم في إحفاء الشارب الإطار، وكان يكره أن يؤخذ من أعلاه، وإنما كان يوسع في الإطار منه فقط. وذكر عن أشهب قال : وسألت مالكاً عَمن أحْفَى شَارِبَهُ قال : أرى أن يُوجَعَ ضَرْباً، ليس حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الإحفاء كان يقول ليس بيدي حرف الشفتين الإطار، ثم قال : لم يحلق شاربه، هذه بدعٌ تظهر في الناس، كان عُمَرُ إذا حَزَبَه أمرٌ نفخ فجعل يفتل شاربه. وسئل الأوزاعي عن الرجل يحلق رأسه، فقال : أما في الحضر لا يعرف إلا في يوم النحر، وهو في العُرْفِ. وكان عبدة بن أبي لبابة يذكر فيه فضلاً عظيماً، وقال الليث : لا أحب أن يحلق أحدٌ شاربه حتى يبدو الجلد، وأكرهه ؛ ولكن يقصّ الذي على طرف الشارب، وأكره أن يكون طويل الشارب. وقال إسحاق بن أبي إسرائيل : سألت عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي داود عن حلق الرأس فقال : أما بمكة فلا بأس به ؛ لأنه بلد الحلق، وأما في غيره من البلدان فلا.
قال أبو جعفر : ولم نجد في ذلك عن الشافعي شيئاً منصوصاً ؛ وأصحابه الذين رأيناهم : المزني والربيع، كان يُحْفِيَانِ شواربهما، فدلّ على أنهما أخذا ذلك عن الشافعي.
وقد روت عائشة وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :" الفِطرةُ عشرة " منها قَصُّ الشَّارِب. وروى المغيرة بن شعبة " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخَذَ من شواربه على سِواكٍ ". وهذا جائز مباح، وإن كان غيره أفضل. وجائز أن يكون فعله لعدم آلة الإحفاء في الوقت. وروى عكرمة عن ابن عباس قال :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزُّ شاربه " ؛ وهذا يحتمل الأحفاء. وروى عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أحِفّوا الشّاربَ وأعْفُوا اللِّحَى " وروى العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" جُزُّوا الشّوارِبَ وأرْخُوا اللِّحَى " وهذا يحتمل الإحفاء أيضاً. وروى عمر بن سلمة عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أحِفُّوا الشوارِبَ وأعْفُوا اللِّحَى " وهذا يدلّ على أن مراده بالخبر الأول الأحفاء، والإحفاء يقتضي ظهور الجلد بإزالة الشعر، كما يقال : رجلٌ حاف، إذا لم يكن في رجله شيء، ويقال حَفِيَتْ رِجْلُهُ وحَفِيَتِ الدابّة ؛ إذا أصاب أسفل رجلها وَهْنٌ من الحَفَاء. قال : ورُوي عن أبي سعيد الخدري وأبي أسيد ورافع بن خديج وسهل بن سعد وعبدالله بن عمر وجابر بن عبدالله وأبي هريرة، أنهم كانوا يحفون شواربهم. وقال إبراهيم بن محمد بن خطاب : رأيت ابن عمر يحلق شارِبَهُ كأنه ينتفه ؛ وقال بعضهم : حتى يُرى بياضُ الجلد.
قال أبو بكر : ولما كان التقصير مسنوناً في الشارب عند الجميع كان الحلقُ أفضل ؛ قال النبي عليه السلام :" رَحِمَ اللهُ المُحَلِّقِينَ ثلاثاً " ودعا للمُقَصِّرِينَ مَرَّةً. فجعل حَلْقَ الرأس أفضلُ من التقصير. وما احتجّ به مالك أن عمر كان يفتل شاربه إذا غضب فجائزٌ أن يكون كان يتركه حتى يمكن فتله ثم يحلقه ؛ كما ترى كثيراً من الناس يفعله.
قوله تعالى :﴿ إني جاعلك للناس إماماً ﴾ فإن الإمام من يُؤتمّ به في أمور الدين من طريق النبوة، وكذلك سائر الأنبياء أئمة عليهم السلام لما ألزم الله تعالى الناس من اتباعهم والائتمام بهم في أمور دينهم. فالخلفاء أئمة لأنهم رتبوا في المحلّ الذي يلزم الناس اتباعهم وقبول قولهم وأحكامهم، والقضاة والفقهاء أئمة أيضاً، ولهذا المعنى الذي يصلي بالناس يسمَّى إماماً ؛ لأن من دخل في صلاته لزمه الاتّباع له والائتمام به. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنّما جُعِلَ الإمَامُ إماماً ليُؤتَمَّ به ؛ فإذا رَكَع فارْكَعُوا، وإذا سَجَدَ فاسْجُدُوا ". وقال :" لا تَخْتَلِفُوا على إمَامِكُمْ ". فثبت بذلك أن اسم الإمامة مُسْتَحَقٌّ لمن يلزم اتباعه والاقتداء به في أمور الدين أو في شيء منها. وقد يسمّى بذلك من يؤتمّ به في الباطل، إلا أن الإطلاق لا يتناوله، قال الله تعالى ﴿ وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ﴾ [ القصص : ٤١ ] فسُموا أئمة لأنهم أنزلوهم بمنزلة من يُقْتَدى بهم في أمور الدين وإن لم يكونوا أئمة يجب الاقتداء بهم كما قال الله تعالى :﴿ فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون ﴾ [ هود : ١٠١ ] وقال :﴿ وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً ﴾ [ طه : ٩٧ ] يعني في زعمك واعتقادك. وقال النبي عليه السلام :" أخْوَفُ ما أخَافُ على أُمَّتي أئمةً مُضِلُّون ". والإطلاق إنما يتناول من يجب الائتمام به في دين الله تعالى وفي الحق والهدى، ألا ترى أن قوله تعالى :﴿ إني جاعلك للناس إماماً ﴾ قد أفاد ذلك من غير تقييد، وأنه لما ذكر أئمة الضلال قيده بقوله ﴿ يدعون إلى النار ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ].
وإذا ثبت أن اسم الإمامة يتناول ما ذكرناه، فالأنبياء عليهم السلام في أعلى رتبة الإمامة، ثم الخلفاء الراشدون بعد ذلك، ثم العلماء والقضاة العدول، ومن ألزم الله تعالى الاقتداء بهم، ثم الإمامة في الصلاة ونحوها. فأخبر الله تعالى في هذه الآية عن إبراهيم عليه السلام أنه جاعله للناس إماماً، وأن إبراهيم سأله أن يجعل من ولده أئمة بق
قوله تعالى :﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ﴾ ؛ أما البيت فإنه يريد بيت الله الحرام، واكتفى بذكر البيت مطلقاً لدخول الألف واللام عليه إذ كانا يدخلان لتعريف المعهود أو الجنس، وقد علم المخاطَبُون أنه لم يرد الجنس فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة. وقوله :﴿ مثابة للناس ﴾ رُوي عن الحسن أن معناه أنهم يثوبون إليه في كل عام. وعن ابن عباس ومجاهد : أنه لا ينصرف عنه أحد وهو يرى أنه قد قَضَى وَطَراً منه، فهم يعودون إليه. وقيل فيه : إنهم يحجّون إليه فيثابون عليه.
قال أبو بكر : قال أهل اللغة : أصله من ثَابَ يَثُوبُ مَثَابَة وثَوَاباً : إذا رجع ؛ قال بعضهم : إنما أدخل الهاء عليه للمبالغة لما كثر من يثوب إليه، كما يقال نسّابة وعلاّمة وسيّارة. وقال الفراء : هو كما قيل المَقَامة والمَقَام. وإذا كان اللفظ محتملاً لها تأوّله السلف من رجوع الناس إليه في كل عام، ومن قول من قال إنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يحبّ العَوْدَ إليه ومن أنهم يحجّون إليه فيثابون ؛ فجائز أن يكون المراد ذلك كله. ويشهد لقول من قال إنهم يحبون العَوْدَ إليه بعد الانصراف قوله تعالى :﴿ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ] وقد نصّ هذا اللفظ على فعل الطواف، إذ كان البيت مقصوداً ومثابةً للطواف. ولا دلالة فيه على وجوبه، وإنما يدل على أنه يستحقّ الثواب بفعله.
وربما احتج موجِبُوا العمرة بهذه الآية، فقالوا : إذا كان الله تعالى قد جعله مثابةً للناس يعودون إليه مَرة بعد أخرى، فقد اقتضى العود إليه للعمرة بعد الحج.
وليس هذا بشيء ؛ لأنه ليس في اللفظ دليلُ الإيجاب، وإنما فيه أنه جعل لهم العَوْدَ إليه ووعدهم الثواب عليه، وهذا إنما يقتضي النَّدْبَ لا الإيجاب ؛ ألا ترى أن القائل : لك أن تَعْتَمِرَ ولَكَ أن تصلي، لا دلالة فيه على الوجوب وعلى أنه لم يخصص العود إليه بالعمرة دون الحج ؟ ومع ذلك فإن الحج فيه طواف القدوم وطواف الزيارة وطواف الصَّدرِ، ويحصل بذلك كله العود إليه مرة بعد أخرى، فإذا فعل ذلك فقد قضى عهدة اللفظ. فلا دلالة فيه إذاً على وجوب العمرة.
وأما قوله تعالى :﴿ وأمناً ﴾ فإنه وصف البيت بالأمن، والمراد جميع الحرم كما قال الله تعالى :﴿ هدياً بالغ الكعبة ﴾ [ المائدة : ٩٥ ] والمراد الحرم لا الكعبة نفسها، لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد ؛ وكقوله :﴿ والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ﴾ [ الحج : ٢٥ ] قال ابن عباس :" وذلك أن الحرم كله مسجد ". وكقوله تعالى :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ [ التوبة : ٢٨ ] والمراد والله أعلم منعهم من الحج وحضورهم مواضع النسك، ألا ترى إلى قوله عليه السلام حين بعث بالبراءة مع علي رضي الله عنه :" وأنّ لا يَحُجَّ بَعدَ العَامِ مُشركٌ " منبئاً عن مراد الآية ؟ وقوله تعالى في آية أخرى :﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ] وقال حاكياً عن إبراهيم عليه السلام :﴿ رب اجعل هذا بلداً آمناً ﴾ يدلّ ذلك على أن وَصْفه البيت بالأمن اقتضى جميع الحرم ؛ ولأن حرمة الحرم لما كانت متعلقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت لوقوع الأمن به وحظر القتال والقَتْل فيه ؛ وكذلك حرمة الأشهر الحرم متعلقة بالبيت ؛ فكان أمْنهم فيها لأجل الحج وهو معقود بالبيت.
وقوله :﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ﴾ إنما هو حكم منه بذلك لا خبر، وكذلك قوله تعالى ﴿ رب اجعل هذا بلداً آمناً ﴾ ﴿ ومن دخله كان آمناً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] كل هذا من طريق الحكم، لا على وجه الإخبار بأن من دخله لم يلحقه سوء ؛ لأنه لو كان خبراً لوجد مخبره على ما أخبر به، لأن أخبار الله تعالى لا بدّ من وجودها على ما أخبر به. وقد قال في موضع آخر :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] فأخبر بوقوع القتل فيه، فدلّ أن الأمر المذكور إنما هو من قبل حكم الله تعالى بالأمن فيه ؛ وأن لا يقتل العائذ به واللاجىء إليه، وكذلك كان حكم الحرم منذ عهد إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا.
وقد كانت العرب في الجاهلية تعتقد ذلك للحرم وتستعظم القتل فيه على ما كان بقي في أيديهم من شريعة إبراهيم عليه السلام ؛ حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا الأوزاعي قال : حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال : لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :" إن الله حَبَسْ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْها رَسُولَهُ والمؤمنين، وإنّما أُحلَّتْ لي سَاعَةً مِنْ نَهَار ثمّ هي حَرامٌ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَجَرُهَا ولا يُنَفَّرُ صَيْدُها ولا تَحِلُّ لُقَطَتُها إلاّ لمُنْشِدِها " فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقبورنا وبيوتنا. فقال صلى الله عليه وسلم :" إلاّ الإذْخِرَ ".
حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد وطاوس، عن ابن عباس في هذه القصة :" ولا يُخْتَلَى خَلاَها ". وقال :" إِنَّ الله حَرَّمَ مَكَّة يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ، لَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبلي ولم تَحِلَّ لي إلا ساعَة مِنْ نَهارٍ ".
وروى ابن أبي ذيب عن سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنّ الله تَعَالَى حَرَّم مَكَّةَ ولَمْ يُحرِّمْها الناسُ، فلا يُسْفَكَنَّ فيها دَمٌ ! وإنّ الله أحَلَّهَا لي سَاعَةً مِنْ نهارٍ وَلمْ يُحِلَّها للنَّاسِ ". وأخبر النبي عليه السلام أن الله حرمها يوم خلق السموات والأرض وحظر فيها سفَك الدماء، وأن حُرمتَها باقيةٌ إلى يوم القيامة. وأخبر أنّ منْ تحريمها تحريم صيدها وقطْع الشجر والخلا.
فإن قال قائل : ما وجه استثنائه الإذْخِرَ من الحَظْر عند مسألة العباس وقد أطلق قبل ذلك حظر الجميع، ومعلوم أن النسخ قبل التمكين من الفعل لا يجوز ؟ قيل له : يجوز أن يكون الله تعالى خَيّر نبيه عليه السلام في إباحة الإذْخر وحظره عن سؤال من يسأله إباحته، كما قال تعالى :﴿ فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ﴾ [ النور : ٦٢ ] فخيّره في الإذن عند المسألة. ومع ما حرّم الله تعالى من حرمتها بالنصّ والتوقيف، فإن من آياتها ودلالاتها على توحيد الله تعالى واختصاصه لها ما يوجب تعظيمها ما يُشاهد فيها من أمن الصيد فيها ؛ وذلك أن سائر بقاع الحرم مشبهة لبقاع الأرض ويجتمع فيها الظبي والكلب فلا يهيج الكلب الصيد ولا ينفر منه، حتى إذا خرجا من الحرم عَدَا الكلب عليه وعاد هو إلى النفور والهرب. وذلك دلالة على توحيد الله سبحانه وتعالى، وعلى تفضيل إسماعيل عليه السلام وتعظيم شأنه. وقد رُوي عن جماعة من الصحابة حَظْرُ صَيْدِ الحرم وشجره ووجوب الجزاء على قتله أو قطعه.
قوله تعالى :﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ يدلّ على لزوم ركعتي الطواف، وذلك لأن قوله تعالى ﴿ مثابة للناس ﴾ لما اقتضى فعل الطواف ثم عطف عليه قوله :﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ وهو أمر ظاهره الإيجاب، دلّ ذلك على أن الطواف موجب للصلاة. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدلّ على أنه أراد به صلاة الطواف ؛ وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل قال : حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وذكر حجة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله :" استلم النبي صلى الله عليه وسلم الركن فَرَمَلَ ثلاثاً ومشى أربعاً ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ :﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ فجعل المقام بينه وبين البيت وصلّى ركعتين ". فلما تلا عليه السلام عند إرادته الصلاة خلف المقام :﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ دلّ على أن المراد بالآية فعل الصلاة بعد الطواف، وظاهره أمر فهو على الوجوب.
وقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاهما عند البيت ؛ وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن عمر القواريري قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا السائل عن محمد المخزومي قال : حدثني محمد بن عبدالله بن السائب عن أبيه، أنه كان يقود ابن عباس فيقيمه عند الشقة الثالثة مما يلي الركن الذي يلي الحجر مما يلي الباب فيقول ابن عباس :" أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ههنا " فيقوم فيصلي. فدلت هذه الآية على وجوب صلاة الطواف، ودلّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها تارة عند المقام وتارة عند غيره على أن فعلها عنده ليس بواجب.
وروى عبدالرحمن القاري عن عمر أنه طاف بعد صلاة الصبح، ثم ركب وأناخ بذي طِوى، فصلى ركعتي طوافه. وعن ابن عباس أنه صَلاها في الحطيم. وعن الحسن وعطاء أنه إنْ لم يصلّ خلف المقام أجزأ.
قد اختلف السلف في المراد بقوله تعالى :﴿ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ ﴾ فقال ابن عباس :" الحج كله مقام إبراهيم ". وقال عطاء :" مقام إبراهيم عرفَة والمزدلفة والجمار ". وقال مجاهد :" الحرم كله مقام إبراهيم ". وقال السدي :" مقام إبراهيم هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب فغسلت شِقّة ثم رفعته من تحت وقد غابت رجله في الحجر، فوضعته تحت الشقّ الآخر فغسلته فغابت رجله أيضاً فيه، فجعله الله من شعائره فقال :﴿ وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾. وروي نحوه عن الحسن وقتادة والربيع بن أنس.
والأظهر أن يكون هو المراد ؛ لأن الحرم يسمَّى على الإطلاق مقام إبراهيم، وكذلك سائر المواضع التي تأوله غيرهم عليها مما ذكرناه. ويدلّ على أنه هو المراد ما رَوَى حميد عن أنس قال : قال عمر : قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ! فأنزل الله تعالى :﴿ وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ ثم صلّى. فدلّ على أن مراد الله تعالى بذكر المقام هو الحجر. ويدل عليه أمره تعالى إيانا بفعل الصلاة، وليس للصلاة تعلق بالحرم ولا سائر المواضع الذي تأوله عليها من ذَكَرْنا قوله، وهذا المقام دلالة على توحيد الله ونبوة إبراهيم، لأنه جعل للحجر رطوبة الطين حتى دخلت قدمه فيه، وذلك لا يقدر عليه إلا الله ؛ وهو مع ذلك معجزة لإبراهيم عليه السلام فدلّ على نبوته.
قد اختلف في المعنى المراد بقوله :﴿ مُصَلًّى ﴾ فقال فيه مجاهد :" مَدْعًى " وجعله من الصلاة إذ هي الدعاء لقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه ﴾ [ الأحزاب : ٥٦ ]. وقال الحسن :" أراد به قبْلةً ". وقال قتادة والسدي :" أُمروا أن يصلوا عنده ". وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ، لأن لَفظ الصلاة إذا أُطلق تعقل منه الصلاة المفعولة بركوع وسجود، ألا ترى أن مصلَّى المِصْر هو الموضع الذي يُصلَّى فيه صلاة العيد ؟ وقال النبي عليه السلام لأسامة بن زيد :" المُصَلَّى أمامَكَ " يعني به موضع الصلاة المفعولة. وقد دلّ عليه أيضاً فعلُ النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلاوته ا
قوله تعالى :﴿ وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلداً آمِناً ﴾ الآية ؛ يحتمل وجهين، أحدهما : معنى " مأمونٌ فيه " كقوله تعالى :﴿ في عيشة راضية ﴾
[ الحاقة : ٢١ ] يعني مرضية. والثاني : أن يكون المراد " أهل البلد " كقوله تعالى :﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ] معناه : أهلها ؛ وهو مجاز، لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد وإنما يلحقان مَنْ فيه.
وقد اختلف في الأمن المسؤول في هذه الآية، فقال قائلون : سأل الأمن من القَحْطِ والجَدْب، لأنه أسْكَنَ أهله بوادٍ غير ذي زرع ولا ضَرْع، ولم يسأله الأمْنَ من الخَسْفِ والقَذْفِ، لأنهُ كان آمناً من ذلك قَبْلُ. وقد قيل إنه سأل الأمرين جميعاً.
قال أبو بكر : هو كقوله تعالى ﴿ مَثَابَةً للنَّاسِ وأَمْناً ﴾. وقوله :﴿ ومن دخله كان آمناً ﴾ [ آل عمران : ٦٧ ]. وقوله :﴿ وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِنَاً ﴾ والمراد والله أعلم بذلك الأمن من القتل، وذلك أنه قد سأله مع رزقهم من الثمرات ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ وقال عقيب مسألة الأمن في قوله تعالى ﴿ رَبِّ اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام ﴾ [ إبراهيم : ٣٥ ]، ثم قال في سياق القصة :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ﴾ إلى قوله ﴿ وارزقهم من الثمرات ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ] فذكر مع مسألته الأمن ؛ وأن يرزقهم من الثمرات. فالأولى حمل معنى مسألة الأمن على فائدة جديدة غير ما ذكره في سياق القصة ونَصَّ عليه من الرزق.
فإن قال قائل : إن حكم الله تعالى بأمنها من القتل قد كان متقدّماً لعهد إبراهيم عليه السلام، لقول النبي عليه السلام :" إنّ الله حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاواتِ والأَرْضَ لَمْ تَحِلّ لأحَدٍ قَبْلي ولا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدي، وإنما أُحِلَّتْ لي سَاعَةً مِن نَهَارٍ " يعني القتال فيها ؛ قيل : له : هذا لا ينفي صحة مسألته لأنه قد يجوز نسخ تحريم القتل والقتال فيها فسأله إدامة هذا الحكم فيها وتبقيته على ألسنة رُسُلِه وأنبيائه بعده.
ومن الناس من يقول إنها لم تكن حَرَماً ولا أمْناً قبل مسألة إبراهيم عليه السلام، لما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إنّ إبراهيمَ عليه السلام حَرَّمَ مَكَّةَ وإنّي حَرَّمْت المَدِينَةَ ". والأخبار المَرْويَّةُ عن النبي عليه السلام في أن الله تعالى حَرَّم مكة يوم خلق السموات والأرض وأنها لم تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحد بعدي، أقوى وأصحُّ من هذا الخبر، ومع ذلك فلا دلالة فيه أنه لم تكُنْ حَراماً قبل ذلك ؛ لأن إبراهيم عليه السلام حَرَّمها بتحريم الله تعالى إياها قبل ذلك فاتّبع أمر الله تعالى فيها، ولا دلالة فيه على نَفْي تحريمها قبل عهد إبراهيم من غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة، والوجه الأوّل بمنع من اصْطِلام أهلها ومن الخَسْف بهم والقَذْف الذي لحق غيرها وبما جعل في النفوس من تعظيمها والهَيبة لها، والوجه الثاني بالحكم بأمنها على ألسنة رسله، فأجابه الله تعالى إلى ذلك.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ كَفَرَ ﴾ قد تَضَمَّن استجابته لدعوته وإخباره أنه يفعل ذلك أيضاً بمن كَفَرَ منهم في الدنيا. وقد كانت دعوة إبراهيم خاصة لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر، فدلّت " الواو " التي في قوله ﴿ وَمَنْ كَفَرَ ﴾ على إجابة دعوة إبراهيم وعلى استقبال الأخبار بمَتْعِهِ من كفر قليلاً. ولولا الواو لكان كلاماً منقطعاً من الأول غير دالّ على استجابة دعوته فيما سأله. وقيل في معنى ﴿ أمتعه ﴾ أنه إنما يمتّعه بالرزق الذي يرزقه إلى وقت مماته. وقيل :" أُمتعُهُ بالبقاء في الدنيا " وقال الحسن :" أمتّعه بالرزق والأمن إلى خروج محمد صلى الله عليه وسلم فيقتله إنْ أقام على كفره أو يُجْليه عنها ". فتضمنت الآية حَظْرَ قتل من لجأ إليه من وجهين، أحدهما : قوله :﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً ﴾ مع وقوع الاستجابة له.
والثاني : قوله ﴿ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتعُهُ قَلِيلاً ﴾ لأنه قد نَفَى قتله بذكر المتعة إلى وقت الوفاة.
﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ﴾ الآية ؛ قواعد البيت أسَاسُهُ. وقد اخْتُلِفَ في بناء إبراهيم عليه السلام هل بناه على قواعد قديمة أو أنشأها هو ابتداءً ؟ فرَوَى معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله﴿ القواعد من البيت ﴾ قال :" القواعد التي كانت قبل ذلك قواعد البيت ". ورُوي نحوه عن عطاء. ورَوَى منصور عن مجاهد عن عبدالله بن عمر قال :" خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام ثم دُحيَت الأرضُ من تحته ". ورُوي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إنّ المَلاَئِكَةَ كَانَتْ تَحُجُّ البَيْتَ قَبْلَ آدَمَ، ثُمَّ حَجَّهُ آدَمُ عليه السلام ". وروي عن مجاهد وعمرو بن دينار ؛ أن إبراهيم عليه السلام أنشأه بأمر الله إياه. وقال الحسن :" أول من حَجّ البيت إبراهيم ".
واختلف في الباني منهما للبيت، فقال ابن عباس :" كان إبراهيمُ يبني وإسماعيل يناوله الحجارة " وهذا يدلّ على جواز إضافة فعل البناء إليهما وإن كان أحدهما معنياً فيه، ومن أجل ذلك قلنا في قوله عليه السلام لعائشة :" لَوْ قَدْ متِّ قَبْلي لَغَسَلْتُكِ وَدَفَنْتُكِ " يعني أعَنْتُ في غُسْلِكِ. وقال السدي وعبيد بن عمير :" هما بنياه جميعاً ". وقيل في رواية شاذة : إن إبراهيم عليه السلام وحده رفعها وكان إسماعيل صغيراً في وقت رفعها ؛ وهو غَلَطٌ لأن الله تعالى قد أضاف الفعل إليهما، وذلك يطلق عليهما إذا رفعاه جميعاً، أو رفع أحدهما وناوله الآخر الحجارة. والوجهان الأولان جائزان، والوجه الثالث لا يجوز. ولما قال تعالى :﴿ طهرا بيتي للطائفين ﴾ وقال في آية أخرى :﴿ وليطوفوا بالبيت العتيق ﴾ [ الحج : ٢٩ ] اقتضى ذلك الطواف بجميع البيت.
وروى هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إنّ أَهْلَ الجاهِليَّةِ اقْتَصَرُوا في بناء الكعبة، فادْخُلي الحجرَ وصَلِّي عِنْدَهُ " ولذلك طَافَ النبيّ عليه السلام وأصحابه حول الحجر ليحصل اليقين بالطواف بجميع البيت ؛ ولذلك أدْخَله ابنُ الزبير في البيت لما بناه حين احترق ثم لما جاء الحَجَّاجُ أخرجه منه.
قوله تعالى :﴿ ربنا تقبّل منّا ﴾ معناه : يقولان ربنا تقبل فحذف لدلالة الكلام عليه، كقوله تعالى :﴿ والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم ﴾ يعني :" يقولون أخرجوا أنفسكم ". والتقبّلُ هو إيجاب الثواب على العمل. وقد تضمن ذلك كون بناء المساجد قربة، لأنهما بنياه لله تعالى فأُخبروا باستحقاق الثواب به ؛ وهو كقوله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ بَنَى مَسْجِداً ولَوْ مِثْلَ مَفْحَصٍ قَطَاةٍ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاُ في الجَنَّة ".
قوله تعالى :﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ ؛ يقال إن أصل النسك في اللغة الغسل، يقال منه : نَسَك ثَوْبَةُ إذا غسله، وقد أنشد فيه بيت شعر :
* ولا ينبت المرعى سباخ عراعر * ولو نسكت بالماء ستة أشهر *
وفي الشرع : اسم للعبادة، يقال : رجل ناسك، أي عابد. وقال البراء بن عازب : خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى فقال " إنّ أوّل نُسْكِنا في هذا اليومِ الصَّلاَةَ ثم الذَّبْحَ " فسَمَّى الصلاة نُسْكاً. والذبيحة على وجه القربة تُسَمَّى نُسْكاً، قال الله تعالى :﴿ ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] يعني ذبح شاة. ومناسك الحج ما يقتضيه من الذبح وسائر أفعاله، قال النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة :" خُذُوا عَنِّي مناسِكَكُمْ " والأظْهَرُ من معنى قوله :﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ سائر أعمال الحج، لأن الله تعالى أمرهما ببناء البيت للحج. وقد رَوَى ابن أبي ليل عن ابن أبي مليكة عن عبدالله بن عمر عن النبي عليه السلام قال :" أتى جِبْريلُ إبْراهيمَ عليهما السلام فَرَاحَ بِهِ إلى مَكّةَ ثُمّ مِنىً " وذكر أفعال الحج على نحو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حجته، قال : ثم أوْحى اللهُ إلى نَبيِّه صلى الله عليه وسلم ﴿ أن اتّبع ملة إبراهيم حنيفاً ﴾ [ النحل : ١٢٣ ]. وكذلك أُرسل النبي عليه السلام إلى قوم بعرفات وقُوفٍ خلفه وهو واقف بها فقال :" كُونُوا على مَشَاعِرِكُمْ فإنَّكُمْ على إرْثٍ مِنْ إرْثِ إبراهيمَ عليه السلام ".
قوله تعالى :﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ﴾ يدل على لزوم اتّباع إبراهيم في شرائعه فيما لم يثبتْ نَسْخُهُ، وأفاد بذلك أنّ من رغب عن ملة محمد صلى الله عليه وسلم فهو راغب عن ملة إبراهيم، إذ كانت ملة النبي عليه السلام منتظمة لملة إبراهيم وزائدة عليها.

باب ميراث الجد


قال الله تعالى :﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ﴾ فسمَّى الجد والعم كل واحد منهما أباً. وقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام :﴿ واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴾ [ يوسف : ٣٨ ] ؛ وقد احتج ابن عباس بذلك في توريث الجد دون الإخوة. وروى الحجاج عن عطاء عن ابن عباس قال :" من شاء لاعَنْتُهُ عند الحجر الأسود أن الجد أبٌ ! واللهِ ما ذكر جدّاً ولا جدة إلا أنهم الآباء ﴿ واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴾ ".
واحتجاج ابن عباس في توريث الجد دون الإخوة وإنزالِه منزلة الأب في الميراث عند فقده يقتضي جواز الاحتجاج بظاهر قوله تعالى :﴿ وورثه أبواه فلأمه الثلث ﴾ [ النساء : ١١ ] في استحقاقه الثلثين دون الإخوة كما يستحق الأب دونهم إذا كان باقياً ؛ ودل ذلك على أن إطلاق اسم الأب يتناول الجدّ، فاقتضى ذلك أن لا يختلف حكمه وحكم الأب في الميراث إذا لم يكن أب ؛ وهو مذهب أبي بكر الصديق في آخرين من الصحابة، قال عثمان : قضى أبو بكر أن الجد أبٌ وأطلق اسم الأبوة عليه. وهو قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي بقول زيد بن ثابت في الجد أنه بمنزلة الإخوة ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث فيُعْطَى الثلث ولم ينقص منه شيئاً. وقال ابن أبي ليلى بقول علي بن أبي طالب عليه السلام في الجد أنه بمنزلة أحد الإخوة ما لم تنقصه المقاسمة من السدس فيُعطَى السّدسَ ولم ينقص منه شيئاً.
وقد ذكرنا اختلاف الصحابة فيه في شرح مختصر الطحاوي والحِجَاجَ للفرق المختلفين فيه. إلا أنّ الحِجَاجَ بالآية فيه من وجهين، أحدهما ظاهر تسْمِيَة الله تعالى إياه أباً. والثاني : احتجاج ابن عباس بذلك وإطلاقه أن الجد أبٌ وكذلك أبو بكر الصديق ؛ لأنهما من أهل اللسان لا يَخْفَى عليهما حكم الأسماء من طريق اللغة ؛ وإن كانا أطلاقاه من جهة الشرع فحجته ثابتة، إذ كانت أسماء الشرع طريقها التوقيف. ومن يدفع الاحتجاج بهذا الظاهر يقول : إن الله تعالى قد سَمَّى العم أباً في الآية لذكره إسماعيل فيها وهو عمُّه ولا يقوم مقام الأب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" رُدُّوا عَليَّ أبي " يعني العباس وهو عمه.
قال أبو بكر : ويُعْتَرَضُ عليه من جهة أن الجدَّ إنما سُمّي أباً على وجه المجاز لجواز انتفاء اسم الأب عنه، لأنك لو قلت للجد إنه ليس بأب لكان ذلك نَفْياً صحيحاً، وأسماء الحقائق لا تَنْتَفي عن مُسَمَّياتها بحال. ومن جهة أخرى إن الجدّ إنما سُمّي أباً بتقييد، والإطلاق لا يتناوله، فلا يصح الاحتجاج فيه بعموم لفظ الأبوين في الآية. ومن جهة أخرى إن الأب الأدنى في قوله تعالى ﴿ وورثه أبواه ﴾ [ النساء : ١١ ] مرادٌ بالآية فلا جائز أن يُراد به الجدّ لأنه مجازٌ ولا يتناول الإطلاق للحقيقة والمجاز في لفظ واحد.
قال أبو بكر : فأما دَفْعُ الاحتجاج بعموم لفظ الأب في إثبات الجدّ أباً من حيث سَمَّى العم أباً في الآية مع اتفاق الجميع على أنه لا يقوم مقام الأب بحال، فإنه مما لا يُعْتمد ؛ لأن إطلاق اسم الأب إنْ كان يتناول الجدّ والعم في اللغة والشرع فجائزٌ اعتبارُ عمومه في سائر ما أُطلق فيه، فإن خُصَّ العم بحكم دون الجد لا يمنع ذلك بقاء حكم العموم في الجدّ. ويختلفان أيضاً في المعنى من قِبَلِ أن الأبَ إنما سُمِّي بهذا الاسم لأن الابن منسوب إليه بالولاد، وهذا المعنى موجود في الجدّ، وإن كانا يختلفان من جهة أخرى أن بينه وبين الجد واسطة وهو الأب ولا واسطة بينه وبين الأب ؛ والعم ليست له هذه المنزلة إذ لا نسبة بينه وبينه من طريق الولاد، ألا ترى أن الجدّ وإن بَعُدَ في المعنى بمنعى مَنْ قَرُبَ في إطلاق الاسم وفي الحكم جميعاً إذا لم يكن من هو أقرب منه، فكان للجدّ هذا الضرب من الاختصاص، فجائز أن يتناوله إطلاق اسم الأب. ولما لم يكن للعم هذه المزية لم يسم به مطلقاً، ولا يعقل منه أيضاً إلا بتقييد. والجدّ مساو للأب في معنى الولاد فجائز أن يتناوله اسم الأب وأن يكون حُكْمُهُ عند فَقْدِهِ حُكْمَهُ. وأما مَنْ دَفَعَ إرادة الجدّ به لانتفاء أن يكون اسمٌ واحدٌ مجازاً حقيقةً ؛ فغير واجب من قِبَل أنه جائزٌ أن يقال إن المعنى الذي من أجله سُمّي الأب بهذا الاسم وهو النسبة إليه من طريق الولاد موجود في الجدّ، ولم يختلف المعنى الذي من أجله قد سُمّي كلُّ واحد منهما، فجاز إطلاق الاسم عليهما وإنْ كان أحدهما أخصُّ به من الآخر كالإخوة يتناول جميعهم هذا الاسم لأب كانوا أو لأبٍ وأمّ، ويكون الذي للأب والأم أوْلَى بالميراث وسائر أحكام الأُخُوّة من الذين للأب والاسم فيهما جميعاً حقيقة. وليس يمتنع أن يكون الاسم حقيقة في معنيين وإن كان الإطلاق إنما يتناول أحدهما دون الآخر، ألا تَرَى أنّ اسم النجم يقع على كل واحد من نجوم السماء حقيقة والإطلاق عند العرب يتناول النجم الذي هو الثريّا ؟ يقول القائل منهم : فعلتُ كذا وكذا والنجم على قمة الرأس ؛ يعني الثريا. ولا تعقل العرب بقولها " طلع النجم " عند الإطلاق غير الثريا ؛ وقد سَمّوا هذا الاسم لسائر نجوم السماء على الحقيقة، فكذلك اسم الأب لا يمتنع عند المحتجّ بما وصفنا أن يتناول الأب والجدّ على الحقيقة وإن اختصّ الأب به في بعض الأحوال، ولا يكون في استعمال اسم الأب في الأب الأدنى والجد إيجابُ كون لفظة واحدة حقيقة مجازاً.
فإن قيل : لو كان اسم الأب مختصّاً بالنسبة من طريق الولاد لَلَحِقَ الأُمَّ هذا الاسمُ لوجود الولاد فيها، فكان الواجب أن تُسَمَّى الأمُّ أباً، وكانت الأم أوْلَى بذلك من الأب والجد لوجود الولادة حقيقة منها ! قيل له : لا يجب ذلك، لأنهم قد خصّوا الأمَّ باسم دونه ليفرقوا بينها وبينه وإن كان الولد منسوباً إلى كل واحد منهما بالولاد، وقد سمَّى الله تعالى الأم أباً حين جمعها مع الأب فقال تعالى :﴿ ولأبويه لكل واحد منهما السدس ﴾
[ النساء : ١١ ].
ومما يُحتجُّ لأبي بكر الصديق وللقائلين بقوله إن الجدّ يجتمع له الاستحقاق بالنسبة والتعصيب معاً، ألا ترى أنه لو ترك بنتاً وجدّاً كان للبنت النصف وللجد السدس وما بقي بالنسبة والتعصيب، كما لو ترك بنتاً وأباً يستحقّ بالنسبة والتعصيب معاً في حال واحدة ؟ فوجب أن يكون بمنزلته في استحقاق الميراث دون الإخوة والأخوات. ووجه آخر : وهو أن الجدّ يستحقّ بالتعصيب من طريق الولاد، فوجب أن يكون بمنزلة الأب في نَفْي مشاركة الإخوة، إذ كانت الإخوة إنما تستحقّه بالتعصيب منفرداً عن الولاد. ووجه آخر في نفي الشركة بينه وبين الإخوة على وجه المقاسمة. وهو أن الجدّ يستحقُّ السُّدُسَ مع الابن كما يستحقّه الأبُ معه، فلما لم يستحقّ الإخوة مع الأب بهذه العلّة وجب أن لا يجب لهم ذلك مع الجد.
فإن قيل : الام تستحقّ السدس مع الابن ولم ينتف بذلك توريث الإخوة معها ! قيل له : إنما نصف بهذه العلة لنفي الشركة بينه وبين الإخوة على وجه المقاسمة، وإذا انتفت الشركة بينهم وبينه في المقاسمة إذا انفردوا معه سَقَطَ الميراثُ ؛ لأن كل من ورثهم معه يوجب القسمة بينه وبينهم إذا لم يكن غيرهم على اعتبار منهم في الثلث أو السدس، وأما الأم فلا تقع بينها وبين الإخوة مقاسمة بحال، ونَفْي القسمة لا يَنْفي ميراثهم، ونَفْيُ مقاسمة الإخوة للجدّ إذا انفردوا يُوجبُ إسقاط ميراثهم معه ؛ إذْ كان من يورثهم معه ؛ إنما يورثهم بالمقاسمة وإيجاب الشركة بينهم وبينه، فلما سقط المقاسمة بما وصفنا سقط ميراثهم معه ؛ إذ ليس فيه إلا قولان : قول من يُسْقِطُ معه ميراثهم رأساً، وقول من يُوجبُ المقاسمة، فلما بطلت المقاسمة بما وصفنا ثبت سقوط ميراثهم معه.
فإن قال قائل : إنّ الجدّ يُدْلي بابنه وهو أبو الميت، والأخَ يُدْلي بأبيه، فوجبت الشركة بينهما كمن ترك أباه وابنه ! قيل له هذا غلط من وجهين، أحدهما : أنه لو صحّ هذا الاعتبار لما وَجَبَتِ المقاسمةُ بين الجد والأخ، بل كان الواجب أن يكون للجد السدس وللأخ ما بقي، كمن ترك اباً وابناً للأب السدس والباقي للابن. والوجه الآخر : أنه يوجب أن يكون الميت إذا ترك جَدَّ أبٍ وعمّاً أن يقاسمه العمُّ، لأن جدّ الأبِ يُدْلي بالجد الأدنى والعمّ أيضاً يُدْلي به، لأنه ابنه، فلما اتفق الجميع على سقوط ميراث العم مع جد الأب مع وجود العلة التي وصفت ؛ دلّ ذلك على انتقاضها وفسادها. ويلزمه أيضاً على هذا الاعتلال أن ابن الأخ يشاركُ الجدَّ في الميراث ؛ لأنه يقول أنا ابن الأبِ، والجدّ أبُ الأبِ، ولو ترك أباً وابنَ ابن كان للأب السدس وما بقي لابن الابن.
قوله تعالى :﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾ يدلُّ على ثلاثة معان، أحدها : أن الأبناء لا يُثابون على طاعة الآباء ولا يُعَذَّبون على ذنوبهم. وفيه إبطالُ مذهب من يجيز تعذيب أولاد المشركين بذنوب الآباء، ويبطل مذهب من يَزْعُمُ من اليهود أن الله تعالى يغفر لهم ذنوبهم بصلاح آبائهم. وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في نظائر ذلك من الآيات نحو قوله تعالى :﴿ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ] ﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ]، وقال :﴿ فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ﴾
[ النور : ٥٤ ]. وقد بيّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي رمثة ورآه مع ابنه " أهُوَ ابْنُكَ " ؟ فقال : نعم ! قال :" أمَا إنّه لا يَجْني عَلَيْكَ ولا تجني عليه ". وقال عليه السلام :" يا بني هَاشم ! لا يأتيني الناسُ بأعْمالِهمْ وتَأتُوني بأنسَابكُمْ فأقول لا أُغْني عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شيئاً " وقال عليه السلام :" مَنْ بطأ به عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ ".
قوله تعالى :﴿ فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ﴾ إخبار بكفاية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أمْرَ أعدائه، فكفاه مع كثرة عددهم وحِرْصِهِمْ، فوجد مخبره على ما أخبر به ؛ وهو نحو قوله تعالى :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ [ المائدة : ٦٧ ] فعصمه منهم وحَرَسَهُ من غوائلهم وكيدِهِمْ، وهو دلالةٌ على صحة نبوَّته، إذ غير جائز اتفاقُ وجود مخبره على ما أخبر به في جميع أحواله إلاّ وهو من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة، إذ غير جائز وجود مخبر أخبار المتخرصين والكاذبين على حسب ما يخبرون، بل أكثر أخبارهم كَذبٌ وزُورٌ يَظْهَرُ بُطْلاَنُهُ لسامعيه، وإنما يتّفق لهم ذلك في الشاذّ النادر إن اتّفق.
قوله تعالى :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهُمْ عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ ؛ قال أبو بكر : لم يختلف المسلمون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بمكة إلى بيت المقدس وبعد الهجرة مدة من الزمان ؛ فقال ابن عباس والبراء بن عازب :" كان التحويل إلى الكعبة بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم لسبعة عشر شهراً "، وقال قتادة :" لستة عشر "، ورُوي عن أنس بن مالك أنه تسعة أشهر أو عشرة أشهر، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة. وقد نصّ الله في هذه الآيات على أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة ثم حَوّلها إليها بقوله تعالى :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهُمْ عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ﴾ وقوله تعالى :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ﴾. فهذه الآيات كلها دالّة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يصلّي إلى غير الكعبة وبعد ذلك حوله إليها. وهذا يبطل قول من يقول : ليس في شريعة النبي ناسخٌ ولا منسوخٌ.
ثم اختلف في توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره أو كان مُخَيّراً في توجهه إليها وإلى غيرها. فقال الربيع بن أنس :" كان مخيّراً في ذلك "، وقال ابن عباس :" كان الفرض التوجه إليه بلا تخيير ". وأيّ الوجهين كان فقد كان التوجُّهُ فرضاً لمن يفعله، لأن التخيير لا يخرجه من أن يكون فرضاً ككفّارة اليمين أيها كفر به فهو الفرض، وكفعل الصلاة في أول الوقت وأوسطه وآخره.
وحدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا عبدالله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال :" أول ما نُسِخَ من القرآن شأن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود بذلك، فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام ويدعو الله تعالى وينظر إلى السماء، فأنزل الله ﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] الآية " وذكر القصة. فأخبر ابن عباس أن الفرض كان التوجه إلى بيت المقدس وأنه نسخ بهذه الآية. وهذا لا دلالة فيه على قول من يقول : إن الفرض كان التوجه إليه بلا تخيير ؛ لأنه جائز أن يكون كان الفرضُ على وجه التخيير وورد النسخ على التخيير وقصروا على التوجه إلى الكعبة بلا تخيير. وقد رُوي أن النفر الذين قصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة كان فيهم البراء بن معرور، فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه وأبى الآخرون وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى بيت المقدس ؛ فلما قدموا مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا له ؛ فقال :" قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ ـ يعني بيت المقدس ـ لو ثَبَتَّ عليها أجْزَأكَ " ولم يأمره باستئناف الصلاة. فدلّ على أنهم كانوا مُخَيَّرين وإن كان اختار التوجه إلى بيت المقدس.
فإن قيل : قال ابن عباس :" إن ذلك أول ما نسخ من القرآن الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس ". قيل له : جائز أن يكون المراد من القرآن المنسوخ التلاوة، وجائز أن يكون قوله :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهُمْ عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ وكان نزول ذلك قبل النسخ وفيه إخبار بأنهم على قبلة غيرها، وجائز أن يريد أول ما نُسِخَ من القرآن فيكون مراده الناسخ من القرآن دون المنسوخ. وروى ابنُ جريج عن عطاء عن ابن عباس قال :" أوَّلُ ما نُسخ من القرآن شأن القبلة، قال الله تعالى :﴿ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ [ البقرة : ١١٥ ] ثم أنزل الله تعالى :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهُم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ إلى قوله ﴿ فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام ﴾. وهذا الخبر يدلّ على معنيين، أحدهما : أنهم كانوا مُخَيّرين في التوجه إلى حيث شاؤوا. والثاني : أن المنسوخ من القرآن هذا التخيير المذكور في هذه الآية بقوله :﴿ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ﴾.
وقوله تعالى :﴿ سيقول السفهاء من الناس ﴾ قيل فيه : إنه أراد بذكر السفهاء ههنا اليهود وإنهم الذين عابوا تحويل القبلة ؛ ورُوي ذلك عن ابن عباس والبراء بن عازب. وأرادوا به إنكار النسخ، لأن قوماً منهم لا يَرونَ النَّسْخَ. وقيل إنهم قالوا : يا محمد ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها ؟ ارجع إليها نَتْبعكَ ونؤمنْ بك ! وإنما أرادوا فتنته. فكان إنكار اليهود لتحويله عن القبلة الأولى إلى الثانية على أحد هذين الوجهين. وقال الحسن :" لما حوِّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة من بيت المقدس قال مشركو العرب : يا محمد رغبت عن ملة آبائك ثم رجعت إليها آنفاً، والله لترجعن إلى دينهم ! وقد بيّن الله تعالى المعنى الذي من أجله نقلهم الله تعالى عن القبلة الأولى إلى الثانية بقوله تعالى :﴿ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ﴾.
وقيل : إنهم كانوا أُمروا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا من المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجهون إلى الكعبة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت اليهود المجاورون للمدينة يتوجّهون إلى بيت المقدس، فنقلوا إلى الكعبة ليتميزوا من هؤلاء كما تميزوا من المشركين بمكة باختلاف القِبلتين، فاحتجّ الله تعالى على اليهود في إنكارها النسخ بقوله تعالى :﴿ قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾. وَجْهُ الاحتجاج به أنه إذا كان المشرق والمغرب لله فالتوجه إليهما سواء لا فرق بينهما في العقول، والله تعالى يخصّ بذلك أي الجهات شاء على وجه المصلحة في الدين والهداية إلى الطريق المستقيم. ومن جهة أخرى إن اليهود زعمت أن الأرض المقدسة أوْلى بالتوجه إليها، لأنها من مواطن الأنبياء عليهم السلام وقد شَرّفها تعالى وعظّمها، فلا وَجْهَ للتولّي عنها. فأبطل الله قولهم ذلك بأن الموَاطِنَ من المشرق والمغرب لله تعالى يخصّ منها ما يشاء في كل زمان على حسب ما يعلم من المصلحة فيه للعباد، إذ كانت المَوَاطِنُ بأنفسها لا تستحقّ التفضيل وإنما توصف بذلك على حسب ما يوجب الله تعالى تعظيمها لتفضيل الأعمال فيها.
قال أبو بكر : هذه الآية يَحْتجُّ بها من يُجَوِّزُ نَسْخَ السنّة بالقرآن، لأن النبي عليه السلام كان يصلّي إلى بيت المقدس، وليس في القرآن ذكر ذلك، ثم نُسخ بهذه الآية. ومن يأبى ذلك يقول : ذكر ابن عباس أنه نسخ قوله تعالى :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ [ البقرة : ١١٥ ] فكان التوجه إلى حيث كان من الجهات في مضمون الآية، ثم نسخ بالتوجه إلى الكعبة.
قوله تعالى :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهُمْ عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ ؛ قال أبو بكر : لم يختلف المسلمون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بمكة إلى بيت المقدس وبعد الهجرة مدة من الزمان ؛ فقال ابن عباس والبراء بن عازب :" كان التحويل إلى الكعبة بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم لسبعة عشر شهراً "، وقال قتادة :" لستة عشر "، ورُوي عن أنس بن مالك أنه تسعة أشهر أو عشرة أشهر، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة. وقد نصّ الله في هذه الآيات على أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة ثم حَوّلها إليها بقوله تعالى :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهُمْ عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ﴾ وقوله تعالى :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ﴾. فهذه الآيات كلها دالّة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يصلّي إلى غير الكعبة وبعد ذلك حوله إليها. وهذا يبطل قول من يقول : ليس في شريعة النبي ناسخٌ ولا منسوخٌ.
ثم اختلف في توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره أو كان مُخَيّراً في توجهه إليها وإلى غيرها. فقال الربيع بن أنس :" كان مخيّراً في ذلك "، وقال ابن عباس :" كان الفرض التوجه إليه بلا تخيير ". وأيّ الوجهين كان فقد كان التوجُّهُ فرضاً لمن يفعله، لأن التخيير لا يخرجه من أن يكون فرضاً ككفّارة اليمين أيها كفر به فهو الفرض، وكفعل الصلاة في أول الوقت وأوسطه وآخره.
وحدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا عبدالله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال :" أول ما نُسِخَ من القرآن شأن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود بذلك، فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام ويدعو الله تعالى وينظر إلى السماء، فأنزل الله ﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] الآية " وذكر القصة. فأخبر ابن عباس أن الفرض كان التوجه إلى بيت المقدس وأنه نسخ بهذه الآية. وهذا لا دلالة فيه على قول من يقول : إن الفرض كان التوجه إليه بلا تخيير ؛ لأنه جائز أن يكون كان الفرضُ على وجه التخيير وورد النسخ على التخيير وقصروا على التوجه إلى الكعبة بلا تخيير. وقد رُوي أن النفر الذين قصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة كان فيهم البراء بن معرور، فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه وأبى الآخرون وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى بيت المقدس ؛ فلما قدموا مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا له ؛ فقال :" قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ ـ يعني بيت المقدس ـ لو ثَبَتَّ عليها أجْزَأكَ " ولم يأمره باستئناف الصلاة. فدلّ على أنهم كانوا مُخَيَّرين وإن كان اختار التوجه إلى بيت المقدس.
فإن قيل : قال ابن عباس :" إن ذلك أول ما نسخ من القرآن الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس ". قيل له : جائز أن يكون المراد من القرآن المنسوخ التلاوة، وجائز أن يكون قوله :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهُمْ عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ وكان نزول ذلك قبل النسخ وفيه إخبار بأنهم على قبلة غيرها، وجائز أن يريد أول ما نُسِخَ من القرآن فيكون مراده الناسخ من القرآن دون المنسوخ. وروى ابنُ جريج عن عطاء عن ابن عباس قال :" أوَّلُ ما نُسخ من القرآن شأن القبلة، قال الله تعالى :﴿ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ [ البقرة : ١١٥ ] ثم أنزل الله تعالى :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهُم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ إلى قوله ﴿ فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام ﴾. وهذا الخبر يدلّ على معنيين، أحدهما : أنهم كانوا مُخَيّرين في التوجه إلى حيث شاؤوا. والثاني : أن المنسوخ من القرآن هذا التخيير المذكور في هذه الآية بقوله :﴿ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ﴾.

باب القول في صحة الإجماع


قوله تعالى :﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ﴾. قال أهل اللغة : الوَسَطُ العَدْلُ، وهو الذي بين المقصر والغالي. وقيل : هو الخيار : والمعنى واحد، لأن العدل هو الخيار، قال زهير :
* هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الأنَامُ بحُكْمِهِمُ * إذا طَرَقَتْ إحْدى الليالي بمُعظم *
وقوله تعالى :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ معناه : كي تكونوا، ولأن تكونوا كذلك. وقيل في الشهداء : إنهم يشهدون على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى :﴿ وجيء بالنبيين والشهداء ﴾ [ الزمر : ٦٩ ]. وقيل فيه : إنهم يشهدون للأنبياء عليهم السلام على أممهم المكذبين بأنهم قد بلغوهم لإعلام النبي عليه السلام إياهم. وقيل : لتكونوا حجة فيما تشهدون كما أن النبي صلى الله عليه شهيد بمعنى حجة دون كل واحد منها.
قال أبو بكر : وكلّ هذه المعاني يحتملها اللفظ، وجائز أن يكون بأجمعها مراد الله تعالى، فيشهدون على الناس بأعمالهم في الدنيا والآخرة، ويشهدون للأنبياء عليهم السلام على أممهم بالتكذيب لإخبار الله تعالى بذلك، وهم مع ذلك حجة على من جاء بعدهم في نقل الشريعة وفيما حكموا به واعتقدوه من أحكام الله تعالى.
وفي هذه الآية دلالةٌ على صحة إجماع الأمَّة من وجهين، أحدهما : وَصْفُهُ إياها بالعدالة وأنها خيار، وذلك يقتضي تصديقها والحكم بصحة قولها ونافٍ لإجماعها على الضلال. والوجه الآخر قوله :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ بمعنى الحجة عليهم، كما أن الرسول لما كان حجة عليهم وصفه بأنه شهيد عليهم ؛ ولما جعلهم الله تعالى شهداء على غيرهم فقد حَكَمَ لهم بالعدالة وقبول القول، لأن شهداء الله تعالى لا يكونون كفّاراً ولا ضُلاّلاً ؛ فاقتضت الآية أن يكونوا شهداء في الآخرة على من شاهدوا في كل عصر بأعمالهم دون من مات قبل زمنهم، كما جُعِلَ النبي صلى الله عليه وسلم شهيداً على من كان في عصره. هذا إذا أُريدَ بالشهادة عليهم بأعمالهم في الآخرة، فأما إذا أريد بالشهادة الحجة فذلك حجة على من شاهدوهم من أهل العصر الثاني وعلى من جاء بعدهم إلى يوم القيامة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم حجة على جميع الأمّة أولها وآخرها، ولأن حجة الله إذا ثبتت في وقت فهي ثابتة أبداً. ويدلّك على فرق ما بين الشهادة على الأعمال في الآخرة والشهادة التي هي الحجة قولُهُ تعالى :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ﴾ [ النساء : ٤١ ] لما أراد الشهادة على أعمالهم خصّ أهل عصره ومن شاهده بها، وكما قال تعالى حاكياً عن عيسى صلوات الله عليه :﴿ وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ﴾ [ المائدة : ١١٧ ]. فتبين أن الشهادة بالأعمال إنما هي مخصوصة بحال الشهادة، وأما الشهادة التي هي الحجة فلا تختصّ بها أول الأمة وآخرها في كون النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليهم. كذلك أهل كل عصر لمّا كانوا شهداء الله من طريق الحجّة وجب أن يكونوا حجة على أهل عصرهم الداخلين معهم في إجماعهم وعلى من بعدهم من سائر أهل الأعصار. فهو يدلّ على أن أهل عَصْرٍ إذا أجْمَعُوا على شيء ثم خرج بعضهم عن إجماعهم أنه محجوجٌ بالإجماع المتقدم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لهذه الجماعة بصحة قولها وجعلها حجة ودليلاً، فالخارج عنها بعد ذلك تاركٌ لحكم دليله وحجته ؛ إذْ غير جائز وجود دليل الله تعالى عارياً عن مدلوله.
يستحيل وجود النسخ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم فيترك حكمه من طريق النسخ ؛ فدلّ ذلك على أن الإجماع في أي حال حصل من الأمّة فهو حجة لله عز وجل غير سائغ لأحَدٍ تركه ولا الخروج عنه، ومن حيث دلّت الآية على صحة إجماع الصدر الأول، فهي دالةٌ على صحة إجماع أهل الأعصار، إذ لم يخصص بذلك أهل عصر دون عصر. ولو جَازَ الاقتصارُ بحكم الآية على إجماع الصدر الأول دون أهل سائر الأعصار لجاز الاقتصارُ به على إجماع أهل سائر الأعصار دون الصدر الأول.
فإن قال قائل : لما قال :﴿ وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً ﴾ فوجّه الخطاب إلى الموجودين في حال نزوله، دلّ ذلك على أنهم هم المخصوصون به دون غيرهم، فلا يدخلون في حكمهم إلا بدلالة ! قيل له : هذا غلطٌ ؛ لأن قوله تعالى :﴿ وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً ﴾ هو خطابٌ لجميع الأمة : أولها وآخرها، من كان منهم موجوداً في وقت نزول الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة ؛ كما أن قوله تعالى :﴿ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ [ البقرة : ١٨٣ ] وقوله :﴿ كتب عليكم القصاص ﴾ [ البقرة : ٨٧ ] ونحو ذلك من الآي خطابٌ لجميع الأمة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى جميعها : من كان منهم موجوداً في عصره ومن جاء بعده، قال الله تعالى :﴿ إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ﴾ [ الأحزاب : ٤٥ ]، وقال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ]. وما أحسب مسلماً يستجيز إطلاق القول بأن النبي عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى جميع الأمة أوّلها وآخرها، وأنه لم يكن حجة عليها وشاهداً، وأنه لم يكن رحمة لكافتها.
فإن قال قائلٌ : لما قال الله تعالى :﴿ وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً ﴾ واسم الأمة يتناول الموجودين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة، فإنما حَكَمَ لجماعتها بالعدالة وقبول الشهادة، وليس فيه حُكْمٌ لأهل عصر واحد بالعدالة وقبول الشهادة ؛ فمن أين حَكَمْتَ لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم ؟ قيل له : لما جعل من حكم له بالعدالة حجة على غيره فيما يخبر به أو يعتقده من أحكام الله تعالى، وكان معلوماً أن ذلك صفة قد حصلت له في الدنيا وأخبر تعالى بأنهم شهداء على الناس ؛ فلو اعتبر أول الأمة وآخرها في كونها حجة له عليهم، لَعَلِمْنا أن المراد أهل كل عصر، لأن أهل كل عصر يجوز أن يُسَمُّوْا أمةً إذْ كانت الأمة اسماً للجماعة التي تؤمُّ جهة واحدة، وأهل كل عصر على حِيَالِهمْ يتناولهم هذا الاسم ؛ وليس يمنع إطلاق لفظ الأمة والمراد أهل عصر، ألا ترى أنك تقول : أجمعت الأمة على تحريم الله تعالى الأمهات والأخوات، ونقلت الأمة القرآن، ويكون ذلك إطلاقاً صحيحاً قبل إن يوجد آخر القوم ؟ فثبت بذلك أن مراد الله تعالى بذلك أهل كل عصر، وأيضاً فإنما قال الله تعالى :﴿ جعلناكم أمة وسطاً ﴾ فعبّر عنهم بلفظ منكر حين وصفهم بهذه الصفة وجعلهم حجة ؛ وهذا يقتضي أهل كل عصر، إذْ كان قوله :﴿ جعلناكم ﴾ خطاباً للجميع، والصفة لاحقة بكل أمة من المخاطبين، ألا ترى إلى قوله :﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق ﴾ [ الأعراف : ١٥٩ ] وجميع قوم موسى أمة له وسُمّي بعضهم على الانفراد أمة لما وصفهم بما وصفهم به ؟ فثبت بذلك أن أهل كل عصر جائز أن يسموا أمة وإن كان الاسم قد يلحق أول الأمة وآخرها.
وفي الآية دلالة على أن مَنْ ظهر كفرُهُ نحو المشبهة ومن صرح بالجبر وعرف ذلك منه، لا يُعْتَدُّ به في الإجماع. وكذلك من ظهر فسقه لا يعتدّ به في الإجماع، من نحو الخوارج والروافض. وسواء من فسق من طريق الفعل أو من طريق الاعتقاد ؛ لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخير، وهذه الصفة لا تلحق الكفار ولا الفساق. ولا يختلف في ذلك حكم من فسق أو كفر بالتأويل أو بردِّ النّص، إذ الجميع شملهم صفة الذمّ ولا يلحقهم صفة العدالة بحال. والله أعلم.
قوله تعالى :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهُمْ عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ ؛ قال أبو بكر : لم يختلف المسلمون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بمكة إلى بيت المقدس وبعد الهجرة مدة من الزمان ؛ فقال ابن عباس والبراء بن عازب :" كان التحويل إلى الكعبة بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم لسبعة عشر شهراً "، وقال قتادة :" لستة عشر "، ورُوي عن أنس بن مالك أنه تسعة أشهر أو عشرة أشهر، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة. وقد نصّ الله في هذه الآيات على أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة ثم حَوّلها إليها بقوله تعالى :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهُمْ عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ﴾ وقوله تعالى :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ﴾. فهذه الآيات كلها دالّة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يصلّي إلى غير الكعبة وبعد ذلك حوله إليها. وهذا يبطل قول من يقول : ليس في شريعة النبي ناسخٌ ولا منسوخٌ.
ثم اختلف في توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره أو كان مُخَيّراً في توجهه إليها وإلى غيرها. فقال الربيع بن أنس :" كان مخيّراً في ذلك "، وقال ابن عباس :" كان الفرض التوجه إليه بلا تخيير ". وأيّ الوجهين كان فقد كان التوجُّهُ فرضاً لمن يفعله، لأن التخيير لا يخرجه من أن يكون فرضاً ككفّارة اليمين أيها كفر به فهو الفرض، وكفعل الصلاة في أول الوقت وأوسطه وآخره.
وحدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا عبدالله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال :" أول ما نُسِخَ من القرآن شأن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود بذلك، فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام ويدعو الله تعالى وينظر إلى السماء، فأنزل الله ﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] الآية " وذكر القصة. فأخبر ابن عباس أن الفرض كان التوجه إلى بيت المقدس وأنه نسخ بهذه الآية. وهذا لا دلالة فيه على قول من يقول : إن الفرض كان التوجه إليه بلا تخيير ؛ لأنه جائز أن يكون كان الفرضُ على وجه التخيير وورد النسخ على التخيير وقصروا على التوجه إلى الكعبة بلا تخيير. وقد رُوي أن النفر الذين قصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة كان فيهم البراء بن معرور، فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه وأبى الآخرون وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى بيت المقدس ؛ فلما قدموا مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا له ؛ فقال :" قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ ـ يعني بيت المقدس ـ لو ثَبَتَّ عليها أجْزَأكَ " ولم يأمره باستئناف الصلاة. فدلّ على أنهم كانوا مُخَيَّرين وإن كان اختار التوجه إلى بيت المقدس.
فإن قيل : قال ابن عباس :" إن ذلك أول ما نسخ من القرآن الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس ". قيل له : جائز أن يكون المراد من القرآن المنسوخ التلاوة، وجائز أن يكون قوله :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهُمْ عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ وكان نزول ذلك قبل النسخ وفيه إخبار بأنهم على قبلة غيرها، وجائز أن يريد أول ما نُسِخَ من القرآن فيكون مراده الناسخ من القرآن دون المنسوخ. وروى ابنُ جريج عن عطاء عن ابن عباس قال :" أوَّلُ ما نُسخ من القرآن شأن القبلة، قال الله تعالى :﴿ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ [ البقرة : ١١٥ ] ثم أنزل الله تعالى :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهُم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ إلى قوله ﴿ فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام ﴾. وهذا الخبر يدلّ على معنيين، أحدهما : أنهم كانوا مُخَيّرين في التوجه إلى حيث شاؤوا. والثاني : أن المنسوخ من القرآن هذا التخيير المذكور في هذه الآية بقوله :﴿ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ﴾.

باب استقبال القِبْلة


قال الله تعالى :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلةً ترضاها ﴾. قيل : إن التقلُّبَ هو التحول، وإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يقلّب وجهه في السماء لأنه كان وُعِدَ بالتحويل إلى الكعبة، فكان منتظراً لنزول الوحي به وكان يسأل الله ذلك، فأَذِنَ الله تعالى له فيه ؛ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يسألون الله إلاّ بعد الإذن، لأنهم لا يأمنون أن لا يكون فيه صلاحٌ ولا يجيبهم الله فيكون فتنة على قومه. فهذا هو معنى تقلب وجهه في السماء.
وقد قيل فيه : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبّ أن يُحَوِّلَهُ الله تعالى إلى الكعبة مخالفةً لليهود وتميزاً منهم، ويُرْوَى ذلك عن مجاهد. وقال ابن عباس :" أَحَبَّ ذلك لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام ". وقيل : إنه أَحَبَّ ذلك استدعاءً للعرب إلى الإيمان، وهو معنى قوله :﴿ فلنولينك قبلةً ترضاها ﴾.
وقوله :﴿ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ﴾. فإن أهل اللغة قد قالوا : إن الشَّطْرَ اسمٌ مشترك يقع على معنيين، أحدهما : النصف، يقال : شطرت الشيء أي جعلته نصفين ؛ ويقولون في مَثَلٍ لهم :" احْلِبْ حَلَباً لك شَطْرُهُ " أي نصفه. والثاني : نحوه وتلقاؤه. ولا خلاف أن مراد الآية هو المعنى الثاني ؛ قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس. ولا يجوز أن يكون المراد المعنى الأول، إذ ليس من قول أحد أن عليه استقبال نصف المسجد الحرام.
واتفق المسلمون أنه لو صلى إلى جانبٍ منه أجْزأه. وفيه دلالة على أنه لو أتى ناحيةً من البيت فتوجه إليها في صلاته أجْزَأه، لأنه متوجه شطره ونحوه. وإنما ذكر الله تعالى التوجه إلى ناحية المسجد الحرام ومراده البيت نفسه، لأنه لا خلاف أنه من كان بمكة فتوجه في صلاته نحو المسجد أنه لا يُجْزيه إذا لم يكن محاذياً للبيت.
وقوله تعالى :﴿ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾ خطابٌ لمن كان معايناً للكعبة ولمن كان غائباً عنها، والمراد لمن كان حاضرها إصابة عينها ؛ ولمن كان غائباً عنها النحو الذي هو عنده أنه نحو الكعبة وجهتها في غالب ظنّه ؛ لأنه معلوم أنه لم يُكَلَّفْ إصابة العين، إذ لا سبيل له إليها ؛ وقال تعالى :﴿ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] فمن لم يجد سبيلاً إلى إصابة عين الكعبة لم يُكَلفْها. فعلمنا أنه إنما هو مُكَلَّفٌ ما هو في غالب ظنّه أنه جهتها ونحوها دون المغيب عند الله تعالى.
وهذا أحد الأصول الدّالة على تجويز الاجتهاد في أحكام الحوادث، وأن كل واحد من المجتهدين فإنما كُلِّف ما يؤديه إليه اجتهاده ويستولي على ظنّه. ويدلّ أيضاً على أن للمشتبه من الحوادث حقيقة مطلوبة كما إن القبلة حقيقة مطلوبة بالاجتهاد والتحرّي، ولذلك صحّ تكليف الاجتهاد في طلبها كما صح تكليف طلب القبلة بالاجتهاد لأن لها حقيقة ؛ ولو لم يكن هناك قبلة رأساً لما صَحَّ تكليفنا طلبها.
وفي هذه الآية حكم آخر، وهو ما روى حمادُ بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك :" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّي نحو بيت المقدس فنزلت :﴿ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أمرتم أن تُوجّهوا وجوهكم شطر المسجد الحرام " فحوّلت بنو سلمة وجوهها نحو البيت وهم ركوع. وقد روى عبدالعزيز بن مسلم، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر قال :" بينما الناس في صلاة الصبح بقبَاء إذ جاءهم رجل فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه قرآن وأُمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها ! فاستداروا كهيئتهم إلى الكعبة، وكان وجه الناس إلى الشام ". وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال :" لما صُرِفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة بعد نزول قوله تعالى :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء ﴾ مَرّ رجل صلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم على نَفَر من الأنصار وهم يصلّون نحو بيت المقدس فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صَلّى إلى الكعبة ! فانحرفوا قبل أن يركعوا وهم في صلاتهم ".
قال أبو بكر : وهذا خبر صحيح مستفيض في أيدي أهل العلم قد تلقّوه بالقبول فصار في حَيّز التواتر الموجب للعلم، وهو أصل في المجتهد إذا تبين له جهة القبلة في الصلاة أنه يتوجه إليها ولا يستقبلها، وكذلك الأمة إذا أعتقت في الصلاة إنها تأخذ قناعها وتبني. وهو أصلٌ في قبول خبر الواحد في أمر الدين، لأن الأنصار قبلت خبر الواحد المخبر لهم بذلك فاستداروا إلى الكعبة بالنداء في تحويل القبلة. ومن جهة أخرى أمر النبي عليه السلام المنادي بالنداء في تحويل القبلة، ولولا أنهم لزمهم قبول خبر الواحد لم يكن لأمر النبي عليه السلام بالنداء وجهٌ ولا فائدة.
فإن قال قائل : مِن أصْلكم أن ما يَثْبُتُ من طريقٍ يوجبُ العلم لا يجوز قبول خبر الواحد في رفعه ؛ وقد كان القوم متوجهين إلى بيت المقدس بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم إياهم عليه ثم تركوه إلى غيره بخبر الواحد ! قيل له : لأنهم لم يكونوا على يقين من بقاء الحكم الأول بعد غيبتهم عن حضرته، لتجويزهم ورود النسخ، فكانوا في بقاء الحكم الأول على غالب الظن دون اليقين ؛ فلذلك قبلوا خبر الواحد في رفْعه.
فإن قال قائل : هلاّ أجَزْتُمْ للمتيمم البناء على صلاته إذا وجد الماء كما بنى هؤلاء عليها بعد تحويل القبلة ؟ قيل له : هو مفارقٌ لما ذكرت، مِنْ قِبَلِ أن تجويز البناء للمتيمم لا يوجب عليه الوضوء ويجيز له البناء بالتيمم مع وجود الماء، والقوم حين بلغهم تحويل القبلة استداروا إليها ولم يبقوا على الجهة التي كانوا متوجهين إليها. فنظير القبلة أن يُؤمر المتيمم بالوضوء والبناء، ولا خلاف أن المتيمم إذا لزمه الوضوء لم يَجُزِ البناء عليه. ومن جهة أخرى إن أصل الفرض للمتيمم إنما هو الطهارة بالماء والترابُ بَدَلٌ منه، فإذا وجد الماء عاد إلى أصل فرضه، كالماسح على الخفين إذا خرج وقت مسحه فلا يبني، فكذلك المتيمم. ولم يكن أصلُ فرض المصلين إلى بيت المقدس حين دخلوا فيها الصلاة إلى الكعبة، وإنما ذلك فرضٌ لزمهم في الحال. وكذلك الأمَةُ إذا أُعتقت في الصلاة لم يكن عليها قبل ذلك فرض السّتْر، وإنما هو فرضٌ لَزِمها في الحال، فأشبهت الأنصار حين علمت بتحويل القبلة. وكذلك المجتهد فَرْضُهُ التوجه إلى الجهة التي أدّاه إليها اجتهاده لا فرض عليه غير ذلك بقوله :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ [ البقرة : ١١٥ ]، فإنما انتقل من فرض إلى فرض ولم ينتقل مِنْ بَدَلٍ إلى أصل الفرض.
وفي الآية حكم آخر، وهو : أن فعل الأنصار في ذلك على ما وصَفْنا أصلٌ في أن الأوامر والزواجر إنما يتعلق أحكامها بالعلم، ومن أجل ذلك قال أصحابنا فيمن أسْلَمَ في دار الحرب ولم يعلم أن عليه صلاة ثم خرج إلى دار الإسلام : إنه لا قضاء عليه فيما تَرَكَ ؛ لأن ذلك يلزم من طريق السمع، وما لم يعلمه لا يتعلق عليه حكمه كما لم يتعلق حكم التحويل على الأنصار قبل بلوغهم الخبر، وهو أصلٌ في أن الوكالات والمضاربات ونحوهما من أوامر العباد لا يُنْسَخُ شيءٌ منها إذا فَسَخَها مَنْ لَهُ الفَسْخُ إلا بعد عِلم الآخر بها. وكذلك لا يتعلق حكم الأمر بها على من لم يبلغه، ولذلك قالوا : لا يجوز تصرف الوكيل قبل العلم بالوكالة. والله أعلم بالصواب.
قوله تعالى :﴿ ولكلّ وجهة هو موليها ﴾. والوجهة قيل فيها :" قِبْلة " ؛ رُوي ذلك عن مجاهد. وقال الحسن :" طريقة " وهو ما شرع الله تعالى من الإسلام. ورُوي عن ابن عباس ومجاهد والسّدي :" لأهل كل ملّة من اليهود والنصارى وجهة ". وقال الحسن :" لكل نبي " فالوجهة واحدة وهي الإسلام وإن اختلفت الأحكام كقوله تعالى :﴿ لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ﴾ [ المائدة : ٤٨ ] قال قتادة :" هو صلاتهم إلى البيت المقدس وصلاتهم إلى الكعبة ". وقيل فيه : لكل قوم من المسلمين من أهل سائر الآفاق التي جهات الكعبة وراءها أو قدّامها أو عن يمينها أو عن شمالها ؛ كأنه أفاد أنه ليس جهة من جهاتها بأوْلى أن تكون قبلة من غيرها. وقد رُوي أن عبدالله بن عمر كان جالساً بإزاء الميزاب فتلا قوله تعالى :﴿ فلنولينك قبلة ترضاها ﴾ قال :" هذه القبلة ". فمن الناس من يظنّ أنه عَنَى الميزاب ؛ وليس كذلك، لأنه إنما أشار إلى الكعبة ولم يُرْد به تخصيص جهة الميزاب دون غيرها، وكيف يكون ذلك مع قوله تعالى :﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ] وقوله تعالى :﴿ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ مع اتفاق المسلمين على أن سائر جهات الكعبة قبلة لموليها.
وقوله تعالى :﴿ ولكل وجهة هو موليها ﴾ يدلّ على أن الذي كُلِّفَ به من غاب عن حضرة الكعبة إنما هو التوجه إلى جهتها في غالب ظنه لا إصابة محاذاتها غير زائل عنها، إذْ لا سبيل له إلى ذلك وإذْ غيرُ جائز أن يكون جميع من غاب عن حضرتها محاذياً لها.
وقوله تعالى :﴿ فاستبقوا الخيرات ﴾ يعني والله أعلم المبادرة والمسارعة إلى الطاعات. وهذا يُحْتَجُّ به في أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها ما لم تَقُم الدلالة على فضيلة التأخير، نحو تعجيل الصلوات في أول أوقاتها وتعجيل الزكاة والحجّ وسائر الفروض بعد حضور وقتها ووجود سببها. ويُحْتَجُّ به بأن الأمْرَ على الفَوْرِ، وأن جواز التأخير يحتاج إلى دلالة ؛ وذلك أن الأمْرَ إذا كان غير مؤقت فلا محالة عند الجميع أن فعله على الفور من الخيرات ؛ فوجب بمضمون قوله تعالى :﴿ فاستبقوا الخيرات ﴾ إيجابُ تعجيله، لأنه أمرٌ يقتضي الوجوب.
قوله تعالى ﴿ لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم ﴾ ؛ من الناس من يحتجّ به في الاستثناء من غير جنسه. وقد اختلف أهل اللغة في معناه، فقال بعضهم : هو استثناء منقطع ومعناه : لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعون موضع الحجة، وهو كقوله تعالى :﴿ ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ﴾ [ النساء : ١٥٧ ] معناه : لكن اتباع الظن ؛ قال النابغة :
* ولا عَيْبَ فِيهمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ * بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاع الكَتَائِبِ *
معناه : لكن بسيوفهم فُلُولٌ ؛ وليس بعيب.
وقيل فيه :" إنه أراد بالحجة المحاجّة والمجادلة، فقال : لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا فإنهم يحاجونكم بالباطل ". وقال أبو عبيدة :" إلاّ " ههنا بمعنى الواو، وكأنه قال : لئلا يكون للناس عليكم حجة ولا الذين ظلموا. وأنكر ذلك الفراء وأكثر أهل اللغة، قال الفراء : لا تجيء " إلا " بمعنى الواو إلا إذا تقدم استثناء كقول الشاعر :
* ما بالمدينة دارٌ غَيْرُ واحِدَةٍ * دارُ الخليفة إلاّ دارُ مَرْوانِ *
كأنه قال : ما بالمدينة دارٌ إلا دار الخليفة ودارُ مروان.
وقال قطرب : معناه لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا. وأنكر هذا بعض النحاة.

باب وجوب ذكر الله تعالى


قوله تعالى :﴿ فاذكروني أذكركم ﴾ قد تضمن الأمر بذكر الله تعالى ؛ وذكرنا إياه على وجوه. وقد رُوي فيه أقاويل عن السلف، قيل فيه :" اذكروني بطاعتي أذكُرْكُمْ برحمتي "، وقيل فيه :" اذكروني بالثناء بالنعمة أذكركم بالثناء بالطاعة "، وقيل :" اذكروني بالشكر أذكركم بالثواب "، وقيل فيه :" اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة ". واللفظ محتمل لهذه المعاني، وجميعها مُرادُ الله تعالى لشمول اللفظ واحتماله إياه.
فإن قيل : لا يجوز أن يكون الجميعُ مُرَادَ الله تعالى بلفظ واحد لأنه لفظ مشترك لمعان مختلفة ! قيل له : ليس كذلك، لأن جميع وجوه الذكر على اختلافها راجعة إلى معنى واحد، فهو كاسم الإنسان يتناول الأنثى والذكر، والأخوة تتناول الإخوة المتفرقين، وكذلك الشركة ونحوها. وإن وقع على معانٍ مختلفة فإن الوجه الذي سُمّي به الجميع معنى واحد. وكذلك ذكر الله تعالى لما كان المعنى فيه طاعته ؛ والطاعة تارة بالذكر باللسان ؛ وتارة بالعمل بالجوارح ؛ وتارة باعتقاد القلب ؛ وتارة بالفكر في دلائله وحججه ؛ وتارة في عظمته ؛ وتارة بدعائه ومسألته، جاز إرادة الجميع بلفظ واحد. كلفظ الطاعة نفسها جاز أن يُرادَ بها جميع الطاعات على اختلافها إذا ورد الأمر بها مطلقاً ؛ نحو قوله تعالى :﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾ [ النساء : ٥٩ ] وكالمعصية يجوز أن يتناول جميعها لفظ النهي، فقوله :﴿ فاذكروني ﴾ قد تضمن الأمر بسائر وجوه الذكر، منها سائر وجوه طاعته وهو أعم الذكر، ومنها ذكره باللسان على وجه التعظيم والثناء عليه، والذكر على وجه الشكر والاعتراف بنعمه.
ومنها ذِكْره بدعاء الناس إليه، والتنبيه على دلائله وحججه ووحدانيته وحكمته، وذكره بالفكر في دلائله وآياته وقدرته وعظمته، وهذا أفضل الذكر. وسائر وجوه الذكر مبنية عليه وتابعة له وبه يصح معناها، لأن اليقين والطمأنينة به تكون، قال الله تعالى :﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾ [ الرعد : ٢٨ ] يعني والله أعلم ذكر القلب الذي هو الفكر في دلائل الله تعالى وحججه وآياته وبيناته، وكلما ازددت فيها فكراً ازددت طمأنينة وسكوناً ؛ وهذا هو أفضل الذكر لأن سائر الأذكار إنما يصح ويثبت حكمها بثبوته. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قال :" خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ " حدثنا ابن قانع قال : حدثنا عبد الملك بن محمد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن أسامة بن زيد، عن محمد، عن عبدالرحمن، عن سعد بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ وخيرُ الرِّزْقِ ما يكفي ".
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ﴾ عقيب قوله :﴿ فاذكروني أذكركم ﴾ يدلّ على أن الصبر وفعل الصلاة لطفٌ في التمسك بما في العقول من لزوم ذكر الله تعالى ؛ الذي هو الفكر في دلائله وحججه وقدرته وعظمته، وهو مثل قوله تعالى :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ [ العنكبوت : ٤٥ ] ثم عقبه بقوله :﴿ ولذكر الله أكبر ﴾ [ العنكبوت : ٤٥ ] والله أعْلَمَ أنّ ذكر الله تعالى بقلوبكم وهو التفكر في دلائله أكبرُ من فعل الصلاة، وإنما هو معونة ولطف في التمسك بهذا الذكر وإدامته.
وقوله تعالى :﴿ ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ﴾ فيه إخبار بإحياء الله تعالى الشهداء بعد موتهم ؛ ولا يجوز أن يكون المراد أنهم سيحيون يوم القيامة، لأنه لو كان هذا مراده لما قال :﴿ ولكن لا تشعرون ﴾ لأن قوله :﴿ ولكن لا تشعرون ﴾ إخبارٌ بفَقْدِ علمنا بحياتهم بعد الموت ؛ ولو كان المراد الحياة يوم القيامة لكان المؤمنون قد شعروا به وعرفوه قبل ذلك. فثبت أن المراد الحياة الحادثة بعد موتهم قبل يوم القيامة. وإذا جاز أن يكون المؤمنون قد أحيوا في قبورهم قبل يوم القيامة وهم منعَّمون فيها ؛ جاز أن يحيا الكفار في قبورهم فيعذَّبوا ؛ وهذا يبطل قول من ينكر عذاب القبر.
فإن قيل : لمّا كان المؤمنون كلهم مُنَعَّمين بعد الموت فكيف خص المقتولين في سبيل الله ؟
قيل له : جائز أن يكون اختصهم بالذكر تشريفاً لهم على جهة تقديم البشارة بذكر حالهم، ثم بين بعد ذلك ما يختصون به في آية أخرى وهو قوله تعالى :﴿ أحياء عند ربهم يرزقون ﴾ [ آل عمران : ١٦٩ ].
فإن قيل : كيف يجوز أن يكونوا أحياء ونحن نراهم رميماً في القبور بعد مرور الأزمان عليهم ؟ قيل له : الناس في هذا على قولين ؛ منهم من يجعل الإنسان هو الروح وهو جسم لطيف، والنعيم والبؤس إنما هو له دون الجثة. ومنهم من يقول : إن الإنسان هذا الجسم الكثيف المشاهد ؛ فهو يقول إن الله تعالى يلطّف أجزاء منه بمقدار ما تقوم به البنية الحيوانية ؛ ويوصل النعيم إليه ؛ وتكون تلك الأجزاء اللطيفة بحيث يشاء الله تعالى أن تكون تعذب أو تنعم على حسب ما يستحقه، ثم يفنيه الله تعالى كما يفني سائر الخلق قبل يوم القيامة، ثم يحييه يوم القيامة للحشر. وقد حدثنا أبو القاسم عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن يحيى بن أبي الربيع الجرجاني : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن الزهري عن كعب بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" نَسَمَةُ المُسْلِمِ طَيْرٌ تَعْلُقُ في شَجَرِ الجَنّة حَتَّى يُرجِعَها إلى جَسَدِهِ ".
قوله تعالى :﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وأولئك هم المهتدون ﴾. رُوي عن عطاء والربيع وأنس بن مالك أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة.
قال أبو بكر : جائزٌ والله أعلم أن يكون قدّم إليهم ذكر ما علم أنه يصيبهم في الله من هذه البلايا والشدائد لمعنيين، أحدهما : ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت ؛ فيكون ذلك أبعد من الجزع وأسهل عليهم بعد الورود. والثاني : ما يتعجلون به من ثواب توطين النفس.
ومن المصائب والشدائد المذكورة في الآية ما هو من فعل المشركين بهم، ومنها ما هو من فعل الله تعالى، فأما ما كان من فعل المشركين فهو أن العرب كلها كانت قد اجتمعت على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم غير من كان بالمدينة من المهاجرين والأنصار، وكان خوفهم من قِبَلِ هؤلاء لقلة المسلمين وكثرتهم. وأما الجوع فلقلة ذات اليد والفقر الذي نالهم. وجائز أن يكون الفقر تارةً من الله تعالى بأن يفقرهم بتلف أموالهم، وجائز أن يكون من قِبَلِ العدو بأن يغلبوا عليه فيتلف. ونقص من الأموال والأنفس والثمرات يحتمل الوجهين جميعاً ؛ لأن النقص من الأموال جائز أن يكون سببه العدو. وكذلك الثمرات لشغلهم إياهم بقتالهم عن عمارة أراضيهم، وجائز أن يكون من فعل الله تعالى بالجوائح التي تصيب الأموال والثمار. ونقص الأنفس جائز أن يكون المراد به من يُقتل منهم في الحرب، وأن يريد به من يميته الله منهم من غير قتل.
قوله تعالى :﴿ وبشر الصابرين ﴾ يعني والله أعلم على ما قدم ذكره من الشدائد.
فأما الصبرُ على ما كان من فعل الله، فهو التسليم والرضا بما فعله ؛ والعلم بأنه لا يفعل إلا الصلاح والحسن وما هو خير لهم، وأنه ما منعهم إلا ليعطيهم، وأن منعه إياهم إعطاءٌ منه لهم. وأما ما كان من فِعْلِ العدوّ فإن المراد به الصبر على جهادهم وعلى الثبات على دين الله تعالى ولا يَنْكُلونَ عن الحرب ولا يزولون عن طاعة الله بما يصيبهم من ذلك. ولا يجوز أن يريد بالابتلاء ما كان منهم من فعل المشركين، لأن الله تعالى لا يبتلي أحداً بالظلم والكفر ولا يريده ولا يوجب الرضا به، ولو كان الله تعالى يبتلي بالظلم والكفر لَوَجَبَ الرِضا به كما رضيه بزعمهم حين فعله والله يتعالى عن ذلك.
قوله تعالى :﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وأولئك هم المهتدون ﴾. رُوي عن عطاء والربيع وأنس بن مالك أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة.
وقوله تعالى :﴿ الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ يعني إقرارهم في تلك الحال بالعبودية والملك له، وأنّ له أن يبتليهم بما يشاء ؛ تعريضاً منه لثواب الصبر واستصلاحاً لهم لما هو أعلم به، إذْ هو تعالى غير متّهم في فعل الخير والصلاح، إذ كانت أفعاله كلها حكمة. ففي إقرارهم بالعبودية تفويضُ الأمر إليه ورِضًى بقضائه فيما يبتليهم به، إذْ لا يقضي إلا بالحق كما قال تعالى :﴿ والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء ﴾ [ غافر : ٢٠ ]. وقال عبدالله بن مسعود :" لأنْ أخِرَّ من السماء أحَبُّ إليّ من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى ليته لم يكن ".
وقوله تعالى :﴿ إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ إقرارٌ بالبعث والنشور واعتراف بأنّ الله تعالى سيجازي الصابرين على قدر استحقاقهم فلا يضيع عنده أجر المحسنين.
قوله تعالى :﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وأولئك هم المهتدون ﴾. رُوي عن عطاء والربيع وأنس بن مالك أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة.
ثم أخبر بما لهم عند الله تعالى عند الصبر على هذه الشدائد في طاعة الله تعالى فقال :﴿ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ﴾ يعني الثناء الجميل والبركات والرحمة وهي النعمة التي لا يعلم مقاديرها إلا الله تعالى، كقوله في آية أخرى :﴿ إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾ [ الزمر : ١٠ ].
وقد تضمنت الآيةُ مَدْحَ الصابرين على شدائد الدنيا وعلى مصائبها على الوجوه التي ذكر، والوعد بالثواب والثناء الجميل والنفع العظيم لهم في الدنيا والدين ؛ فأما في الدنيا فما يحصل له به من الثناء الجميل والمحل الجليل في نفوس المؤمنين ؛ لائتماره لأمر الله تعالى، ولأن في الفكر في ذلك تسلية عن الهمّ ونفي الجزع الذي ربما أدّى إلى ضرر في النفس وإلى إتلافها في حال ما يعقبه ذلك في الدنيا من محمود العاقبة، وأما في الآخرة فهو الثواب الجزيل الذي لا يعلم مقداره إلا الله.
قال أبو بكر : وقد اشتملت هذه الآية على حكمين : فرض، ونفل، فأما الفرض فهو التسليم لأمر الله والرضا بقضاء الله والصبر على أداء فرائضه لا يثنيه عنها مصائب الدنيا ولا شدائدها. وأما النفلُ فإظهار القول ب ﴿ إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ فإن في إظهاره فوائد جزيلة، منها فعل ما ندب الله إليه ووعده الثواب عليه، ومنها أن غيره يقتدي به إذا سمعه، ومنها غيظ الكفار، وعلمهم بجدّه واجتهاده في دين الله تعالى والثبات على طاعته ومجاهدة أعدائه. ويُحكى عن داود الطائي قال :" الزاهد في الدنيا لا يحب البقاء فيها، وأفضل الأعمال الرضا عن الله، ولا ينبغي للمسلم أن يحزن للمصيبة لأنه يعلم أن لكل مصيبة ثواباً " والله تعالى أعلم بالصواب.

باب السَّعْي بين الصفا والمروة


قال الله تعالى :﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾ رُوي عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة قال :" قرأت عند عائشة رضي الله عنها :﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله ﴾ فقلت : لا أُبالي أن لا أفعل، قالت : بئسما قلت يا ابن أختي ! قد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون فكانت سُنَّة ؛ إنما كان من أهَلَّ لمناة الطاغية لا يطوف بهما، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بهما حتى نزلت هذه الآية، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت سُنَّةً ". قال : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبدالرحمن، فقال : إنّ هذا لعِلْمٌ، ولقد كان رجالٌ من أهل العلم يقولون : إنما سأل عن هذا الرجالُ الذين كانوا يطوفون بين الصفا والمروة، فأحسبها نزلت في الفريقين ". ورُوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله ﴾ قال :" كان على الصفا تماثيلُ وأصنامٌ وكان المسلمون لا يطوفون عليها لأجل الأصنام والتماثيل، فأنزل الله تعالى :﴿ فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾.
قال أبو بكر : كان السبب في نزول هذه الآية عند عائشة سؤال من كان لا يطوف بهما في الجاهلية لأجل إهلاله لمناة. وعلى ما ذكر ابن عباس وأبو بكر بن عبدالرحمن أنّ ذلك كان لسؤال من كان يطوف بين الصفا والمروة، وقد كان عليهما الأصنام، فتجنَّب الناسُ الطواف بهما بعد الإسلام. وجائز أن يكون سبب نزول هذه الآية سؤال الفريقين. وقد اختلف في السعي بينهما، فروى هشام بن عروة عن أبيه، وأيوب عن ابن أبي مليكه، جميعاً عن عائشة قالت :" ما أتمَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لامرىءٍ حجّاً ولا عمرةً ما لم يَطُفْ بين الصفا والمروة ". وذكر أبو الطفيل عن ابن عباس : أن السَّعْيَ بينهما سنّة وأن النبي عليه السلام فعله. وروى عاصم الأحول عن أنس قال :" كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة حتى نزلت هذه الآية، والطواف بينهما تطوعٌ ". ورُوي عن عطاء عن ابن الزبير قال :" من شاء لم يَطُفْ بين الصفا والمروة ". ورُوي عن عطاء ومجاهد :" إن من تركه فلا شيء عليه ".
وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك، فقال أصحابنا والثوري ومالك :" إنه واجب في الحج والعمرة وتَرْكُهُ يُجْزي عنه الدم ". وقال الشافعي :" لا يجزي عنه الدم إذا تركه وعليه أن يرجع فيطوف ".
قال أبو بكر : هو عند أصحابنا من توابع الحج يُجْزي عنه الدم لمن رجع إلى أهله مثل الوقوف بالمزدلفة ورمي الجمار وطواف الصَّدر. والدليل على أنه ليس من فروضه قوله عليه السلام في حديث الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة فقلت : يا رسول الله جئت من جبل طيّ ما تركت جَبَلاً إلا وقفت عليه، فهل لي من حجّ ؟ فقال عليه السلام :" مَنْ صَلَّى مَعَنا هَذِه الصّلاةَ وَوَقَفَ مَعَنَا هَذَا المَوْقِفَ وَقَدْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبلُ لَيلاً أو نهاراً فقد تَمَّ حَجُّهُ وقَضَى تَفَثَهُ ". فهذا القول منه عليه السلام ينفي كون السعي بين الصفا والمروة فَرضاً في الحج من وجهين، أحدهما : إخباره بتمام حجته وليس فيه السعي بينهما. والثاني : أن ذلك لو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله بالحُكْم.
فإن قيل : لم يذكر طواف الزيارة مع كونه من فروضه ! قيل له : ظاهر اللفظ يقتضي ذلك، وإنما أثبتناه فرضاً بدلالة.
فإن قيل : فهذا يوجب أن لا يكون مسنوناً ويكون تطوعاً، كما رُوي عن أنس وابن الزبير ! قيل له : كذلك يقتضي ظاهر اللفظ، وإنما أثبتناه مسنوناً في توابع الحج بدلالةٍ. ومما يحتج به لوُجُوبِهِ أن فرض الحج مُجْمَلٌ في كتاب الله، لأن الحج في اللغة القصد : قال الشاعر :
* يَحُجُّ مأمومةً في قَعْرِها لَجَفُ *
يعني أنه يقصد. ثم نُقل في الشرع إلى معان أُخَر لم يكن اسماً موضوعاً لها في اللغة، وهو مُجْمَلٌ مفتقر إلى البيان. فمهما ورد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو بيان للمراد بالجملة، وفِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب. فلما سَعَى بينهما النبي عليه السلام كان ذلك دلالة الوجوب حتى تقوم دلالةُ النَّدْب. ومن جهة أخرى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" خُذُوا عني مَنَاسِكَكمْ " وذلك أمرٌ يقتضي إيجاب الاقتداء به في سائر أفعال المناسك، فوجب الاقتداء به في السعي بينهما. وقد روى طارق بن شهاب عن أبي موسى قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالبطحاء فقال :" بم أهْلَلتَ ؟ " فقلت : أهْلَلْتُ بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال :" أحْسَنْتَ ! طُفْ بالبَيْتِ والصَّفَا والمَرْوةِ ثمّ أحِل ! " فأمره بالسعي بينهما ؛ وهذا أمر يقتضي الإيجاب. وقد رُوي فيه حديث مضطرب السند والمتن جميعاً مجهول الراوي، وهو ما رواه معمر عن واصل مولى أبي عيينة، عن موسى بن أبي عبيد، عن صفية بنت شيبة، عن امرأة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول :" كُتِبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيُ فاسْعَوْا ! فذكرت في هذا الحديث أنها سمعته يقول ذلك بين الصفا والمروة ولم تذكر اسم الراوية. وقد رَوَى محمد بن عبدالرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبي رباح قال : حدثتني صفية بنت شيبة عن امرأة يقال لها حبيبة بنت أبي تجزءة قالت : دخلت دار أبي حسين ومعي نسوة من قريش والنبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت حتى إن ثوبه ليدور به وهو يقول لأصحابه :" اسْعَوْا ! فإنّ الله تعالى قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْي " فذكر في هذا الحديث أن النبي عليه السلام قال ذلك وهو في الطواف، فظاهر ذلك يقتضي أن يكون مراده السَّعْيَ في الطواف وهو الرَّمَلُ والطواف نفسه، لأن المشي يسمَّى سعياً، قال الله تعالى :﴿ فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ [ الجمعة : ٩ ] وليس المراد إسراع المشي، وإنما هو المصير إليه. والخبر الأول الذي ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وهو يسعى بين الصفا والمروة لا دلالة فيه على أنه أراد السعي بينهما ؛ إذْ جائزٌ أن يكون مراده الطواف بالبيت والرَّمل فيه، وهو سَعْيٌ لأنه إسراعُ المشي. وأيضاً فإن ظاهره يقتضي جواز أي سعي كان، وهو إذا رمل فقد سَعَى، ووجوب التكرار لا دلالة عليه. فالأخبار الأُوَلُ التي ذكرناها دالّة على وجوب السعي، لأنه سنّة لا ينبغي تركها، ولا دلالة فيها على أن مَنْ تركها لا ينوبُ عنه دم ؛ والدليل على أن الدم ينوب عنه لمن تركه حتى يرجع إلى أهله اتفاقُ السلف على جواز السعي بعد الإحلال من جميع الإحرام ؛ كما يصحّ الرمي وطوافُ الصَّدَرِ، فوجب أن ينوب عنه الدم كما ناب عن الرمي وطواف الصدر.
فإن قيل : طواف الزيارة يُفعل بعد الإحلال ولا ينوب عنه الدم ! قيل له : ليس كذلك، لأن بقاء طواف الزيارة يوجب كونه محرماً عن النساء ؛ وإذا طاف فقد حلّ له كل شيء بلا خلاف بين الفقهاء، وليس لبقاء السعي تأثير في بقاء شيء من الإحرام كالرمي وطواف الصدر.
فإن قال قائل : فإن الشافعي يقول : إذا طاف للزيارة لم يحلّ من النساء وكان حراماً حتى يسعى بالصفا والمروة ؟ قيل له : قد اتفق الصَّدْرُ الأول من التابعين والسلف بعدهم أنه يحل بالطواف بالبيت، لأنهم على ثلاثة أقاويل بعد الحلق ؛ فقال قائلون : هو محرم من اللباس والصيد والطيب حتى يطوف بالبيت. وقال عمر بن الخطاب : هو محرم من النساء والطيب. وقال ابن عمر وغيره : هو محرم من النساء حتى يطوف. فقد اتفق السلف على أنه يحلّ من النساء بالطواف بالبيت دون السعي بين الصفا والمروة. وأيضاً فإنّ السعي بينهما لا يُفعل إلا تبعاً للطواف، ألا ترى أن من لا طواف عليه لا سَعْيَ عليه، وأنه لا يتطوع بالسعي بينهما كما لا يتطوع بالرمي ؟ فدل على أنه من توابع الحج والعمرة.
فإن قيل الوقوف بعرفة لا يفعل إلا بعد الإحرام، وطواف الزيارة لا يفعل إلا بعد الوقوف، وهما من فروض الحج ! قيل له : لم نقل إن من لا يفعل إلا بعد غيره فهو تَبَعٌ فيلزمنا ما ذكرت، وإنما قلنا : ما لا يُفعل إلاّ على وجه التَّبَع لأفعال الحج أو العمرة فهو تابعٌ ليس بفرض، فأما الوقوف بعرفة فإنه غير مفعول على وجه التّبَع لغيره بل يفعل منفرداً بنفسه، ولكن من شروطه شيئان : الإحرام والوقت. وما كان شرطه الإحرام أو الوقت ؛ فلا دلالة على أنه مفعول على وجه التبع. وكذلك ما تعلق جوازه بوقت دون غيره ؛ فلا دلالة فيه على أنه تبع فرض غيره. وطواف الزيارة إنما يتعلق جوازه بالوقت، والوقوف بعرفة إنما تعلق جوازه بالإحرام والوقت ؛ وليس صحته موقوفة على وقوع فعل آخر غير الإحرام، فليس هو إذاً تبعاً لغيره. وأما السعي بين الصفا والمروة فإنه مع حضور وقته هو موقوف على فعل آخر غيره وهو الطواف، فدلّ على أنه من توابع الحج والعمرة وأنه ليس بفرض، فأشبه طواف الصدر لما كانت صحته موقوفة على طواف الزيارة كان تَبَعاً في الحج ينوب عن تركه دم.
وقوله تعالى :﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله ﴾ قد دلّ على أنه قربة، لأن الشعائر هي معالم للطاعات والقُرَبِ، وهو مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام، ومن ذلك قولك : شَعَرْتُ بكذا وكذا أي علمته ؛ ومنه إشعار البَدَنة أي إعلامها للقُرْبة ؛ وشعار الحرب علاماتها التي يتعارفون بها. فالشعائر هي المعالم للقرب، قال الله تعالى :﴿ ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ﴾ [ الحج : ٣٢ ] وشعائر الحج معالم نسكه، ومنه المشعر الحرام. فقد دلت الآية بفحواها على أن السعي بينهما قربة إلى الله تعالى في قوله :﴿ من شعائر الله ﴾ ثم قوله :﴿ فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾، فقد أخبرت عائشة وغيرها أنه خرج مخرج الجواب لمن سأل عنهما، وأن ظاهر هذا اللفظ لم يَنْفِ إرادة الوجوب وإن لم يدلّ عليه، وقد قامت الدلالة من غير الآية على وجوبه وهو ما قدمنا ذكره.
وقد اختلف أهل العلم في السعي في بطن الوادي، ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أخبار مختلفة ؛ ومذهب أصحابنا أن السعْيَ فيه مسنونٌ لا ينبغي تركه كالرَّملِ في الطواف. ورَوَى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر :" أن النبي عليه السلام لما تصوبت قدماه في الوادي سَعَى حتى خرج منه ". ورَوَى سفيان بن عيينة عن صدقة قال : سئل ابن عمر : أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمل بين الصفا والمروة ؟ قال :" كان في الناس فرملوا ولا أراهم فعلوا إلا برمله ". وقال نافع :" كان ابن عمر يسعى في بطن الوادي ". وروى مسروق " أن عبدالله بن مسعود سَعَى في بطن الوادي ". وروى عطاء عن ابن عباس قال :" من شاء يسعى بمسيل مكة ومن شاء لم يَسْعَ " وإنما يعني الرمل في بطن الوادي. وروى سعيد بن جبير قال :" رأيت ابن عمر يمشي بين الصفا والمروة وقال : إن مشيت فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وإن سعيت فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى ". وروى عمرو عن عطاء عن ابن عباس قال :" إنما سَعَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة ليُرِيَ المشركين قوته " فأتيت ابن عباس فقال :" سَعَى النبي صلى الله عليه وسلم في بطن الوادي " وذكر السبب الذي من أجله فعل ذلك ؛ وهو إظهارُ الجَلَدِ والقوة للمش

باب في النهي عن كتمان العلم


قال الله تعالى ﴿ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ﴾ الآية وقال في موضع آخر ﴿ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً ﴾ [ آل عمران : ١٨٧ ] الآية وقال ﴿ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ﴾ [ آل عمران : ١٨٧ ] هذه الآي كلها موجبة لإظهار علوم الدين وتبيينه للناس ؛ زاجرة عن كتمانها. ومن حيث دلت على لزوم بيان المنصوص عليه فهي، موجبة أيضاً لبيان المدلول عليه منه وترك كتمانه لقوله تعالى ﴿ يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ﴾ وذلك يشتمل على سائر أحكام الله في المنصوص عليه والمستنبط لشمول اسم الهدى للجميع. وقوله تعالى ﴿ يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ﴾ يدل على أنه لا فرق في ذلك بين ما علم من جهة النص والدليل ؛ لأن في الكتاب الدلالة على أحكام الله تعالى كما فيه النص عليها، وكذلك قوله تعالى ﴿ لتبيننه للناس ولا تكتمونه ﴾ عام في الجميع. وكذلك ما علم من طرق إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم قد انطوت تحت الآية ؛ لأن في الكتاب الدلالة على قبول أخبار الآحاد عنه عليه السلام. فكل ما اقتضى الكتاب إيجاب حكمه من جهة النص أو الدلالة فقد تناولته الآية. ولذلك قال أبو هريرة لولا أية في كتاب الله عز وجل ما حدثتكم، ثم تلا :﴿ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ﴾. فأخبر أن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى الذي أنزله الله تعالى. وقال شعبة عن قتادة في قوله تعالى ﴿ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ﴾ الآية، فهذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم ؛ فمن علم علماً فليعلمه، وإياكم وكتمان العلم فإن كتمانه هلكة. ونظيره في بيان العلم وإن لم يكن فيه ذكر الوعيد لكاتمه قول تعالى :﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ﴾ وقد روى حجاج عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من كتم علماً يعلمه جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار ".
فإن قيل : رُوي عن ابن عباس أن الآية نزلت في شأن اليهود حين كتموا ما في كتبهم من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قيل له : نزول الآية على سَبَبٍ، غَيْرُ مانعٍ من اعتبار عمومها في سائر ما انتظمته ؛ لأن الحكمَ عندنا للفظ لا للسبب، إلاّ أنْ تقوم الدلالةُ عندنا على وجوب الاقتصار به على سببه.
ويُحْتَجُّ بهذه الآيات في قبول الأخبار المُقَصِّرة عن مرتبة إيجاب العلم لمخبرها في أمور الدين ؛ وذلك لأن قوله تعالى :﴿ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ﴾ وقوله تعالى :﴿ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ﴾ [ آل عمران : ١٨٧ ] قد اقتضى النهي عن الكتمان ووقوع البيان بالإظهار، فلو لم يلزم السامعين قبوله لما كان المخبر عنه مبيناً لحكم الله تعالى، إذْ ما لا يوجب حكماً فغير محكوم له بالبيان، فثبت بذلك أن المَنْهيِّينَ عن الكتمان متى أظهروا ما كتموا وأخبروا به لزم العمل بمقتضى خبرهم وموجبه. ويدلّ عليه قوله في سياق الخطاب :﴿ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ﴾ فحكم بوقوع العلم بخبرهم.
فإن قال قائل : لا دلالة فيه على لزوم العمل به، وجائز أن يكون كل واحد منهم كان منهيّاً عن الكتمان ومأموراً بالبيان ؛ ليكثر المخبرون ويتواتر الخبر ! قيل له : هذا غَلَطٌ ؛ لأنهم ما نُهوا عن الكتمان إلاّ وهُمْ ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان ؛ جاز منهم التواطؤ على التقول، فلا يكون خبرهم موجباً للعلم. فقد دلّت الآثار على قبول الخبر المقصِّر عن المنزلة الموجبة للعلم بمخبره، وعلى أن ما ادَّعيته لا برهان عليه، فظواهر الآي مقتضية لقبول ما أُمروا به لوقوع بيان حكم الله تعالى به.
وفي الآية حكم آخر، وهو أنها من حيث دلّت على لزوم إظهار العلم وترك كتمانه فهي دالة على امتناع جواز أخذ الأجرة عليه، إذْ غير جائز استحقاق الأجر على ما عليه فعله، ألا ترى أنه لا يصحّ استحقاقُ الأجر على الإسلام ؟ وقد رُوي أن رجلاً قال للنبي عليه السلام : إني أعطيت قومي مائة شاة على أن يُسْلموا، فقال صلى الله عليه وسلم :" المائة شَاة ردّ عَلَيَك، وإنْ تَرَكُوا الإسْلامَ قاتَلُنَاهُمْ ". ويدل على ذلك من جهة أخرى قوله تعالى :﴿ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً ﴾ [ البقرة : ١٧٤ ]، وظاهر ذلك يمنع أخذ الأجر على الإظهار والكتمان جميعاً، لأن قوله تعالى :﴿ ويشترون به ثمناً قليلاً ﴾ [ البقرة : ١٧٤ ] مانعٌ أخْذَ البدل عليه من سائر الوجوه، إذْ كان الثمنُ في اللغة هو البدل، قال عمر بن أبي ربيعة :
* إنْ كُنْتَ حَاوَلتَ دُنْيا أوْ رَضِيتَ بها * فما أَصَبْتَ بتَركِ الحَجِّ مِنْ ثَمَنِ *
فثبت بذلك بطلان الإجارة على تعليم القرآن وسائر علوم الدين.
قوله تعالى :﴿ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ﴾ يدلّ على أن التوبة من الكتمان إنما يكون بإظهار البيان، وأنه لا يُكْتَفَى في صحة التوبة بالندم على الكتمان فيما سلف دون البيان فيما استقبل.

بابُ لَعْنِ الكفّار


قال الله تعالى :﴿ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ﴾ فيه دلالة على أن على المسلمين لَعْنُ من مات كافراً، وأن زوال التكليف عنه بالموت لا يُسْقِطُ عنه لَعْنَه والبراءة منه، لأن قوله :﴿ والناس أجمعين ﴾ قد اقتضى أمرنا بلعنه بعد موته. وهذا يدل على أن الكافر لو جُنّ لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مُسْقِطاً للعنه والبراءة منه. وكذلك سبيلُ ما يُوجِبُ المدحَ والموالاة من الإيمان والصلاح ؛ أن موتَ من كان كذلك أو جنونه ؛ لا يغير حكمه عما كان عليه قبل حدوث هذه الحادثة.
فإن قيل : رُوي عن أبي العالية أن مراد الآية أن الناس يلعنونه يوم القيامة، كقوله تعالى :﴿ ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ] ! قيل له : هذا تخصيص بلا دلالة، ولا خلاف أنه يستحق اللعن من الله تعالى والملائكة في الدنيا بالآية فكذلك من الناس. وإنما يشتبه ذلك على من يظنّ أن ذلك إخبارٌ من الله تعالى أن الناس يلعنونه، وليس كذلك، بل هو إخبارٌ باستحقاقه اللعن من الناس لعنوه أو لم يلعنوه.
قوله تعالى :﴿ وإلهكم إله واحد ﴾ وَصْفُهُ تعالى لنفسه بأنه واحد انتظم معاني كلها مرادة بهذا اللفظ، منها : أنه واحدٌ لا نظير له ولا شبيه ولا مثل ولا مساوي في شيء من الأشياء ؛ فاستحقّ من أجل ذلك أن يُوصَفَ بأنه واحدٌ دون غيره. ومنها : أنّه واحدٌ في استحقاق العبادة. والوصف له بالإلهية لا يشاركه فيها سواه. ومنها : أنه واحدٌ ليس بذي أبْعَاضَ ولا يجوز عليه التَّجَزِّي والتقسيم، لأن من كان ذا أبعاض وجاز عليه التجزِّي والتقسيم فليس بواحد على الحقيقة. ومنها : أنه واحدٌ في الوجود قديماً لم يزل منفرداً بالقِدَمِ لم يكن معه وجود سواه، فانتظم وصفه لنفسه بأنه واحد هذه المعاني كلها.
قوله تعالى :﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ﴾ الآية. قد انتظمت هذه الآية ضروباً من الدلالات على توحيد الله تعالى، وأنه لاشَبِيهَ له ؛ ولا نظير. وفيها أمْرٌ لنا بالاستدلال بها، وهو قوله :﴿ لآيات لقوم يعقلون ﴾ يعني والله تعالى أعلم : أنه نصبها ليُسْتَدَلَّ بها ويُتَوصّلَ بها إلى معرفة الله تعالى وتوحيده، ونَفْي الأشباه عنه والأمثال. وفيه إبطالٌ لقول من زعم أنه إنما يُعْرَفُ الله تعالى بالخبر، وأنه لاحَظّ للعقول في الوصول إلى معرفة الله تعالى.
فأما دلالة السموات والأرض على الله، فهو قيام السماء فوقنا على غير عَمَدٍ مع عِظَمِها ساكنةً غير زائلة، وكذلك الأرض تحتنا مع عِظَمِها ؛ فقد عَلِمْنا أن لكل واحد منهما منتهى من حيث كان موجوداً في وقت واحد محتملاً للزيادة والنقصان، وعلمنا أنه لو اجتمع الخلق على إقامة حجر في الهواء من غير علاقة ولا عَمَد لما قدروا عليه. فعلمنا أن مقيماً أقام السماءَ على غير عَمَد، والأرْضَ على غير قرار، فدلّ ذلك على وجود الباري تعالى الخالق لهما، ودلّ أيضاً على أنه لا يشبه الأجسامَ وأنه قادرٌ لا يُعْجِزُهُ شيءٌ، إذْ كانت الأجسام لا تقدر على مثل ذلك. وإذا صحّ ذلك ثبت أنه قادر على اختراع الأجسام، إذ ليس اختراع الأجسام واختراع الأجرام بأبْعَدَ في العقول والأوهام من إقامتها مع عِظَمِها وكثافتها على غير قرارٍ وعَمَدٍ. ومن جهة أخرى تدلّ على حدوث هذه الأجسام وهي امتناع جواز تَعَريِّها من الأعراض المتضادة، ومعلوم أن هذه الأعراض مُحْدَثة ؛ لوجود كل واحد منها بعد أنْ لم يكنْ، وما لم يوجدْ قبل المحدث فهو مُحْدَثٌ، فصحّ بذلك حدوث هذه الأجسام، والمُحْدَثُ يقتضي مُحدِثاً، كاقتضاء البناء للباني ؛ والكتابة للكاتب ؛ والتأثير للمؤثر، فثبت بذلك أن السموات والأرض وما بينهما من آيات الله ؛ دالةٌ عليه.
وأما دلالةُ اختلاف الليل والنهار على الله تعالى، فمن جهة أن كلَّ واحد منهما حادثٌ بعد الآخر، والمحدَثُ يقتضي مُحْدِثاً ؛ فدلَّ ذلك على محدثهما وأنه لا يشبههما، إذْ كل فاعل فغير مشبه لفعله، ألا ترى أن الباني لا يشبه بناءه والكاتب لا يشبه كتابته ؟ ومن جهة أخرى أنه لو أشبهه لجَرَى عليه ما يَجْري عليه من دلالة الحدوث، فكان لا يكون هو أولى بالحدوث من مُحْدِثِهِ. ولَمّا صحّ أن مُحْدِثَ الأجسام والليل والنهار قديمٌ ؛ صَحَّ أنه لا يشبهها. وهي تدلّ على أن مُحْدثَها قادر ؛ لاستحالة وجود الفعل إلاّ من القادر. ويدل أن مُحْدِثَها حيٌّ لاستحالة وجود الفعل إلا من قادر حيّ. ويدلّ أيضاً على أنه عالم ؛ لاستحالة الفعل المُحْكَمِ المُتقَنِ المتسق إلا من عالم به قبل إحداثه. ولما كان اختلاف الليل والنهار جارياً على منهاج واحد ؛ لا يختلف في كل صُقْعٍ ؛ في الطول والقِصَر أزْمانَ السنة على المقدار الذي عُرِف منهما الزيادة والنقصان، دلّ على أن مخترعهما قادر على ذلك عالم، إذْ لو لم يكن قادراً لم يوجد منه الفعل ؛ ولو لم يكن عالماً لم يكن فعله مُتْقَناً منتظماً.
وأما دلالة الفُلْك التي تجري في البحر على توحيد الله، فمن جهة أنه معلوم أن الأجسام لو اجتمعت على أن تُحْدِثَ مثل هذا الجسم الرقيق السيّال الحامل للفُلْكِ ؛ وعلى أن تُجْرِيَ الرياح المجرية للفلك ؛ لما قدرت على ذلك، ولو سكنت الرياح بقيت راكدة على ظهر الماء ؛ لا سبيل لأحَدٍ من المخلوقين إلى إجرائها وإزالتها، كما قال تعالى في موضع آخر :﴿ إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ﴾ [ الشورى : ٣٣ ]. ففي تسخير الله تعالى الماء لحمل السفن، وتسخيره الرياح لإجرائها ؛ أعظمُ الدلائل على إثبات توحيد الله تعالى القديم القادر العالم الحيّ الذي لا شِبْهَ له ولا نظير، إذْ كانت الأجسامُ لا تقدر عليه ؛ فسخّر الله الماء لحمل السفن على ظهره، وسخّر الرياح لإجرائها ونقلها لمنافع خلقه، ونبّههم على توحيده وعظم نعمته، واستدْعَى منهم النظر فيها ليعلموا أن خالقهم قد أنْعَمَ بها فيشكروه على نِعَمِهِ ويستحقُّوا به الثواب الدائم في دار السلام.
قال أبو بكر : وأما دلالة إنزاله الماء على توحيده فمن قِبَلِ أنه قد علم كلُّ عاقلٍ أن مِنْ شأن الماء النزول والسيلان، وأنه غير جائز ارتفاعُ الماء من سُفْل إلى عُلوٍ إلا بجاعل يجعله كذلك، فلا يخلو الماء الموجود في السحاب من أحد معنيين : إما أن يكون مُحْدِثٌ أحدثه هناك في السحاب، أو رفعه من معادنه من الأرض والبحار إلى هناك. وأيهما كان فدلّ ذلك على إثبات الواحد القديم الذي لا يُعْجِزُه شيء. ثم إمساكه في السحاب غير سائل منه حتى ينقله إلى المواضع التي يريدها بالرياح المسخرة لنقله فيه ؛ أدَلُّ دليل على توحيده وقدرته، فجعل السحاب مَرْكباً للماء، والرياح مَرْكباً للسحاب حتى تَسُوقَهُ من موضع إلى موضع ؛ ليعم نفعه لسائر خلقه كما قال تعالى :﴿ أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم ﴾ [ السجدة : ٢٧ ] ثم أنزل ذلك الماء قطرةً قطرةً لا تلتقي واحدة مع صاحبتها في الجوّ مع تحريك الرياح لها حتى تنزل كل قطرة على حياله إلى موضعها من الأرض. ولولا أن مدبّراً حكيماً عالماً قادراً دبّره على هذا النحو ؛ وقَدَّره بهذا الضَّرْبِ من التقدير، كيف كان يجوز أن يوجد نزول الماء في السحاب مع كثرته، وهو الذي تسيل منه السيول العظام على هذا النظام والترتيب ؟ ولو اجتمع القَطْرُ في الجوّ وائْتَلَفَ ؛ لقد كان يكون نزولُها مثل السيول المجتمعة منها بعد نزولها إلى الأرض، فيؤدي إلى هلاك الحَرْثِ والنسل وإبادة جميع ما على الأرض من شجر وحيوان ونبات. وكان يكون كما وَصَفَ الله تعالى من حال الطوفان في نزول الماء من السماء في قوله تعالى :﴿ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ﴾ [ القمر : ١١ ] فيقال إنه كان صَباً كنحو السيول الجارية في الأرض. ففي إنشاء الله تعالى السحابَ في الجوّ، وخَلْقِ الماء فيه وتصريفه من موضع إلى موضع، أدَلُّ دليلٍ على توحيده وقدرته وأنه ليس بجسم ولا مُشْبه الأجسام، إذ الأجسامُ لا يمكنها فعل ذلك ولا تَرومُهُ ولا تطمع فيه.
وأما دلالةُ إحياء الله الأرض بعد موتها على توحيده، فهي من جهة أن الخَلْقَ كلهم لو اجتمعوا على إحياء شيءٍ منها لما قَدِرُوا عليه ولما أمكنهم إنباتُ شيء من النبات فيها، فإحياءُ الله تعالى الأرض بالماء وإنباته أنواع النبات فيها التي قد علمنا يقيناً ومشاهدة أنه لم يكن فيها شيء منه. ثم كل شيء من النبات لو فكرت فيه على حياله لوجدته دالاً على أنه من صُنْعِ صانع حكيم قادر عالم بما قدَّره عليه من ترتيب أجزائه ونظمها على غاية الإحكام ؛ من أدلّ الدليل على أن خالقِ الجميع واحدٌ، وأنه قادرٌ عالم، وأنه ليس من فِعْلِ الطبيعة على ما يدَّعيِهِ الملحدون في آيات الله تعالى ؛ إذ الماءُ النازل من السماء على طبيعة واحدة، وكذلك أجزاء الأرض والهواء ويخرج منه أنواع النبات والأزهار والأشجار المثمرة والفواكه المختلفة الطعوم والألوان والأشكال، فلو كان ذلك مِنْ فِعْلِ الطبيعة لوجَبَ أن يتّفق مُوجِبُها إذ المتفقُ لا يُوجِبُ المختلف، فدلّ ذلك على أنه من صُنعِ صانع حكيم ؛ قد خلقه وقدّره على اختلاف أنواعه وطعومه وألوانه ؛ رزقاً للعباد ودلالة لهم على صنعه ونِعَمِهِ.
وأما دلالةُ ما بَثَّ فيها ما دابّة على توحيده، فهي كذلك في الدلالة أيضاً في اختلاف أنواعه ؛ إذْ غير جائز أن تكون الحيوانات هي المحدثةُ لأنفسها، لأنها لا تخلو من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو معدومة، فإن كانت موجودة فوجودها قد أغْنَى عن إحداثها، وإن كانت معدومة فإنه يستحيل إيجادُ الفعل من المعدوم، ومع ذلك فقد علمنا أنها بعد وجودها غير قادرة على اختراع الأجسام وإنشاء الأجرام، فهي في حال عدمها أحْرَى أن لا تكون قادرةً عليها. وأيضاً فإنه لا يقدر أحدٌ من الحيوان على الزيادة في أجزائه، فهو بنفي القدرة على إحداث جميعه أولَى ؛ فثبت أن المحْدِثَ لها هو القادرُ الحكيمُ الذي لا يشبهه شيء، ولو كان محدث هذه الحيوانات مشبهاً لها ومن وَجْهٍ لكان حكمُهُ حكمها في امتناع جواز وقوع إحداث الأجسام.
وأما دلالةُ تصريف الرياح على توحيده، فهي أن الخَلْقَ لو اجتمعوا على تصريفها لما قدروا عليه، ومعلوم أن تصريفها تارة جنوباً وتارةً شمالاً وتارة صَباً وتارة دَبُوراً مُحْدَثٌ، فعلمنا أن المُحْدِثَ لتصريفها هو القادرُ الذي لا شِبْهَ له، إذْ كان معلوماً استحالة إحداث ذلك من المخلوقين.
فهذه دلائلُ قد نبه الله تعالى العقلاء عليها وأمرهم بالاستدلال بها. وقد كان الله تعالى قادراً على إحداث النبات من غير ماء ولا زراعة، وإحداث الحيوانات بلا نتاج ولا زواج، ولكنه تعالى أجْرَى عادته في إنشاء خلقه على هذا تنبيهاً لهم عند كل حادث من ذلك على قدرته والفِكْرِ في عظمته، وليُشْعِرهُمْ في كل وقت ما أغفلوه، ويزعج خواطرهم للفكر فيما أهملوه. فَخَلَقَ تعالى الأرض والسماءَ ثابتتين دائمتين لا تزولان ولا تتغيران عن الحال التي جعلهما وخَلَقَهما عليها بَدْءاً إلى وقت فنائهما، ثم أنشأ الحيوان من الناس وغيرهم من الأرض، ثم أنشأ للجميع رزقاً منها وأقواتاً بها تبقي حياتهم، ولم يُعْطِهِمْ ذلك الرزق جملةً فيظنون أنهم مُسْتَغْنُونَ بما أُعْطُوا بل جعل لهم قوتاً معلوماً في كل سنة بمقدار الكفاية لئلا يبطروا ويكونوا مستشعرين للافتقار إليه في كل حال، ووكل إليهم في بعض الأسباب التي يتوصلون بها إلى ذلك من الحَرْثِ والزراعة ؛ ليشعرهم أن الأعمال ثمرات من الخير والشر ؛ فيكون ذلك داعياً لهم إلى فعل الخير ؛ فيجتَنُون ثمرته، واجتناب الشر ليَسْلَمُوا من شرِّ مَغَبَّتِهِ. ثم تولى هو لهم من إنزال الماء من السماء ما لم يكن في وُسْعهم وطاقتهم أن يُنزلوه لأنفسهم، فأنشأ سحاباً في الجو وخلق فيه الماء، ثم أنزله على الأرض بمقدار الحاجة، ثم أنبت لهم به سائر أقواتهم وما يحتاجون إليه لملابسهم. ثم لم يقتصر فيما أنزله من السماء على منافعه في وقت منافعه حتى جعل لذلك الماء مخازن وينابيع في الأرض يجتمع فيه ذلك الماء ؛ فيجري أولاً فأولاً على مقدار الحاجة كما قال تعالى :﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض ﴾ [ الزمر : ٢١ ] ولو كان على ما نزل من السماء من غير حَبْسٍ له في الأرض لوقت الحاجة ؛ لسَالَ كلُّه وكان في ذلك تَلَفُ سائر الحيوان الذي على ظهرها لعدمه الماء. فتبارك الله رب العالمين الذي جعل الأرض بمنزلة البيت الذي يأوي إليه الإنسان، وجعل السماء بمنزلة السقف، وجعل سائر ما يحدثه من المطر والنبات والحيوان بمنزلة ما ينقله الإنسان إلى بيته لمصالحه ! ثم سخّر هذه الأرضَ لنا وذَلَّلها للمَشْي عليها وسلوك طرقها، ومكّننا من الانتفاع بها في بناء البيوت والدُّور ؛ لنسكن من المطر والحرّ والبرد، وتحصُّناً من الأعداء لم تخرجنا إلى غيرها، فأيّ موضع منها أردنا الانتفاع به في إنشاء الأبن

بابُ تحريم الميتة


قال الله تعالى :﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ به لغير الله ﴾. قال أبو بكر : الميتة في الشرع اسم للحيوان الميت غير المذكَّى. وقد يكون ميتة بأن يموت حَتْفَ أنفه من غير سبب لآدمي فيه، وقد يكون ميتةً لسبب فِعْلِ آدميّ ؛ إذا لم يكن فعلُه فيه على وجه الذكاة المبيحة له. وسنبين شرائط الذكاة في موضعها إن شاء الله تعالى. والميتةُ وإن كانت فعلاً لله تعالى وقد علّق التحريم بها مع عِلْمِنا بأن التحريم والتحليلَ والحَظْرَ والإباحة ؛ إنما يتناولان أفعالنا ولا يجوز أن يتناولا فِعْلَ غيرنا، إذْ غيرُ جائز أن يُنْهى الإنسانُ عن فعل غيره ولا أن يُؤمَرَ به، فإن معنى ذلك لمّا كان معقولاً عند المخاطبين ؛ جاز إطلاقُ لفظ التحريم والتحليل فيه وإن لم يكن حقيقةً، وكان ذلك دليلاً على تأكيد حكم التحريم، فإنه يتناول سائر وجوه المنافع ؛ ولذلك قال أصحابنا : لا يجوز الانتفاع بالميتة على وجه ولا يُطْعِمَها الكلاب والجوارح، لأن ذلك ضَرْبٌ من الانتفاع بها، وقد حَرّم الله الميتة تحريماً مطلقاً معلقاً بعينها مؤكداً به حكم الحَظْرِ، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها إلا أن يخصّ شيء منها بدليل يجب التسليم له.
وقد رُوي عن النبي عليه السلام تخصيصُ ميتة السمك والجراد من هذه الجملة بالإباحة، فرَوَى عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أُحِلَّتْ لَنَا مِيتتان ودَمانِ ؛ فأما المِيتتان فالجَرَادُ والسَّمَكُ، وأما الدَّمَانِ فالطّحَالُ والكبدُ ". وروى عمرو بن دينار عن جابر في قصة جَيْش الخَبَطِ أن البحر ألْقى إليهم حوتاً فأكلوا منه نصف شهر، ثم لما رجعوا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ تُطْعِمُوني ؟ ". ولا خلاف بين المسلمين في إباحة السمك غير الطافي وفي الجراد.
ومن الناس من استدلَّ على تخصيص عموم آية تحريم الميتة بقوله تعالى :﴿ أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم ﴾ [ المائدة : ٩٦ ] ويقول النبي عليه السلام في حديث صفوان بن سليم الزرقي، عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر :" هُوَ الطَّهُورُ مَاؤهُ الحِلُّ ميتَتُهُ ". وسعيد بن سلمة مجهول غير معروف بالثبت ؛ وقد خالفه في سَنَده يحيى بن سعيد الأنصاري، فرواه عن المغيرة بن عبدالله بن أبي بردة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا الاختلاف في السند يوجب اضطرابَ الحديث، وغير جائز تخصيص آية محكمة به.
وقد رَوَى ابنُ زياد بن عبدالله البكائي قال : حدثنا سليمان الأعمش قال : حدثنا أصحابنا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر :" ذَكيٌّ صَيْدُهُ طَهُورٌ ماؤهُ ". وهذا أضعف عند أهل النقل من الأول. وقد رُوي فيه حديث آخر، وهو ما رواه يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة، وعمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة، عن أبي معاوية العلوي، عن مسلم بن مخشبي المدلجي، عن الفراسي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في البحر :" هو الطَّهُورُ مَاؤهُ الحِلُّ مِيتَتُهُ ". وهذا أيضاً لا يُحْتَجُّ به لجهالة رواته، ولا يخص به ظاهر القرآن.
وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبو القاسم بن أبي الزناد قال : حدثنا إسحاق بن حازم، عن عبدالله بن مقسم، عن عطاء، عن جابر بن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن البحر فقال :" هُوَ الطَّهُوْرُ ماؤهُ الحِلُّ مِيتَتُهُ ".
قال أبو بكر : وقد اخْتُلف في السمك الطافي، وهو الذي يموت في الماء حَتْف أنفه ؛ فكرهه أصحابنا والحسن بن حيّ. وقال مالك والشافعي :" لا بأس به ". وقد اخْتَلَفَ السلفُ فيه أيضاً، فرَوَى عطاء بن السائب عن ميسرة عن علي عليه السلام قال :
" ما طفا من ميتة البحر فلا تأكُلْه ". وروى عمر بن دينار عن جابر بن عبدالله، وعبدالله بن أبي الهذيل عن ابن عباس :" إنهما كرها الطافي، فهؤلاء الثلاثة من الصحابة قد رُوي عنهم كراهته. ورُوي عن جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وإبراهيم كراهِيَتُهُ. ورُوي عن أبي بكر الصديق وأبي أيوب إباحةُ أكْل الطافي من السمك.
والذي يدلّ على حَظْرِ أكله ظاهرُ قوله تعالى :﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾ [ المائدة : ٣ ] واتفق المسلمون على تخصيص غير الطافي من الجملة فخصصناه ؛ واختلفوا في الطافي فوجب استعمال حكم العموم فيه. وقد حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود. قال : حدثنا أحمد بن عبدة : حدثنا يحيى بن سليم الطائفي قال : حدثنا إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما ألْقى البَحْرُ أوْ جَزَرَ عَنْهُ فكُلُوهُ، وما مَاتَ فيه وطَفَا فلا تأكُلُوهُ ! ". وَرَوى إسماعيل بن عياش قال : حدثني عبدالعزيز بن عبدالله عن وهب بن كيسان، ونعيم بن عبدالله المجمّر عن جابر بن عبدالله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما جَزَرَ عَنْهُ البَحْرُ فلا تأْكُلْ وما ألْقَى فَكُلْ، وما وَجَدْتَهُ مَيتاً طافياً فلا تأكُلْهُ ! " وقد رَوَى ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام مثله. وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا موسى بن زكريا قال : حدثنا سهل بن عثمان : قال : حدثنا حفص، عن يحيى بن أبي أنيسة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا وَجَدْتُمُوهُ حَيّاً فكُلُوهُ، وما ألْقَى البَحْرُ حَيّاً فمات فكُلُوهُ، وما وَجَدْتُمُوه مَيْتاً طَافِياً فلا تأكُلُوهُ ! " وحدثنا ابن قانع قال : حدثنا عبدالله بن موسى بن أبي عثمان الدهقان قال : حدثنا الحسين بن يزيد الطحان : حدثنا حفص بن غياث، عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما صِدْتُمُوه وهُوَ حَيٌّ فمات فكُلُوهُ، وما ألْقَى البَحْرُ مَيْتاً طافِياً فلا تأكُلُوهُ ! ".
فإن قيل : قد رَوَى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبي الزبير موقوفاً على جابر ! قيل له : هذا لا يفسده عندنا، لأنه جائز أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم تارةً ثم يرسل عنه فيفتي به، وفتياه بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير مفسدٍ له بل يؤكده. على أن إسماعيل بن أمية فيما يرويه عن أبي الزبير ليس بدون من ذكرت، وكذلك ابن أبي ذئب، فزيادتهما في الرفع مقبولة على هؤلاء.
فإن قيل : قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أُحِلَّتْ لنا مِيتَتَان ودَمَانِ السّمَكُ والجَرَادُ " وذلك عمومٌ في جميعه ! قيل له : يخصه ما ذكرنا وروينا في النهي عن الطافي، ويُلْزَمُ مُخالِفُنا على أصله في ترتيب الأخبار أن يبني العام على الخاصّ فيستعملهما ؛ وأن لا يُسْقِطَ الخاصّ بالعام ؛ وعلى أن هذا خبر في رفعه اختلاف، فرواه مرحوم العطار عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر موقوفاً عليه، ورواه يحيى الحماني عن عبدالرحمن بن زيد مرفوعاً، فيلزمك فيه مثل ما رُمْتَ إلزامنا إياه في خبر الطافي.
فإن احتجّ بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال :" الطّهُورُ ماؤه الحِلُّ مِيتَتُهُ " ولم يخصّص الطافي من غيره ؛ قيل له : نستعملهما جميعاً ونجعلهما كأنهما وردا معاً، نستعمل خبر الطافي في النهي، ونستعمل خبر الإباحة فيما عدا الطافي.
فإن قيل : فإنّ من أصل أبي حنيفة في الخاص والعام أنه متى أتّفق الفقهاءُ على استعمال أحد الخبرين واختلفوا في استعمال الآخر ؛ كان ما اتُّفِقَ في استعماله قاضياً على ما اختلف فيه، وقوله صلى الله عليه وسلم :" هو الحِلُّ ميتَتُهُ " و " أُحلّت لنا ميتتان " متفقٌ على استعمالهما، وخبر الطافي مختلفٌ فيه، فينبغي أن يُقْضَى عليه بالخبرين الآخرين ! قيل له : إنما يعرف ذلك من مذهبه وقوله فيما لم يَعْضُدْهُ نصُّ الكتاب، فأما إذا كان عموم الكتاب معاضداً للخبر المختلف في استعماله فإنا لا نعرف قوله فيه. وجائز أن يقال إنه لا يعتبر وقوع الخلاف في استعماله بعد أن يعضده عموم الكتاب، فيستعمل حينئذ مع العام المتفق على استعماله، ويكون ذلك مخصوصاً منه. فإن احتجّوا بحديث جابر في قصة جَيْشِ الخَبَطِ وإباحة النبي عليه السلام أكْلَ الحوتِ الذي ألقاه البحر، فليس ذلك عندنا بطافٍ وإنما الطافي ما مات حَتْفَ أنفه في الماء من غير سببٍ حادثٍ.
ومن الناس من يظن أن كراهة الطافي ؛ من أجل بقائه في الماء حتى طَفَا عليه، فيلزموننا عليه الحيوان المذكَّى إذا أُلقي في الماء حتى طفا عليه. وهذا جَهْلٌ منهم بمعنى المقالة وموضع الخلاف، لأن السمك لو مات ثم طفا على الماء لأُكِلَ، ولو مات حَتْفَ أنفه ولم يَطْفُ على الماء لم يُؤْكَلْ، والمعنى فيه عندنا هو موته في الماء حَتْفَ أنفه لا غير. وقد روى لنا عبدالباقي حديثاً وقال لنا إنه حديث منكر ؛ فذكر أنه حدثه به عبيد بن شريك البزاز قال : حدثنا أبو الجماهر قال : حدثنا سعيد بن بشير، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" كُلْ مَا طَفَا عَلَى البَحْرِ " ! وأبان بن عياش ليس هو ممن يثبت ذلك بروايته، قال شعبة : لأن أزني سبعين زنْيَةً أحَبُّ إليّ من أن أروي عن أبان بن عياش.
فإن احتجّ محتجٌّ بقوله تعالى :﴿ أحلّ لكم صيد البحر وطعامه ﴾ [ المائدة : ٩٦ ] وأنه عُمومٌ في الطافي وغيره ؛ قيل له : الجواب عنه من وجهين، أحدهما : أنه مخصوصٌ بما ذكرنا من تحريم الميتة، والأخبار الواردة في النهي عن أكل الطافي. والثاني : أنه رُوي في التفسير في قوله تعالى :﴿ وطعامه ﴾ [ المائدة : ٩٦ ] أنه ما ألقاه البحر فمات " وصَيْدُهُ " ما اصطادوا وهو حيّ، والطافي خارج منهما لأنه ليس مما ألقاه البحر ولا مما صِيدَ، إذْ غير جائز أن يقال : اصطاد سمكاً ميتاً، كما لا يقال : اصطاد ميتاً. فالآية لم تنتظم الطافي ولم تتناوله، والله أعلم.

بابُ أكل الجراد


قال أصحابنا والشافعي رضي الله عنهم : لا بأس بأكل الجراد كلِّه ما أخَذْتَه وما وَجَدْتَه ميتاً. ورَوَى ابن وهب عن مالك أنه إذا أخذه حيّاً ثم قطع رأسه وشواه أُكل، وما أُخذ حيّاً فغُفل عنه حتى مات لم يؤكل، وإنما هو بمنزلة ما لو وجده ميتاً قبل أن يصطاده فلا يؤكل ؛ وهو قول الزُّهري وربيعة. وقال مالك :" وما قتله مجوسي لم يؤكَلْ ". وقال الليث بن سعد :" أكْرَهُ أكل الجراد ميتاً، فأما الذي أخذته حيّاً فلا بأس به ".
قال أبو بكر : قول النبي عليه السلام في حديث ابن عمر :" أُحِلَّتْ لنا ميتتان ودَمانِ السَّمكُ والجرَادُ " يوجبُ إباحته جميعه، مما وُجد ميتاً ومما قتله آخذه. وقد استعمل الناس جميعهم هذا الخبر في إباحة أكْل الجراد ؛ فوجَبَ استعمالُه على عمومه من غير شرطٍ لقتل آخذه، إذْ لم يشترطه النبي صلى الله عليه وسلم. حدثنا عبدالباقي قال : حدثنا الحسن بن المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدث

باب هل في المال حقّ واجب سِوَى الزكاة


قال الله تعالى :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ﴾ الآية. قيل في قوله تعالى :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق ﴾ إنه يريد به اليهودَ والنصارَى حين أنكرت نَسْخَ القِبْلة، فأعلم الله تعالى أن البِرَّ إنما هو في طاعة الله تعالى واتّباع أمره ؛ لا في التوجُّه إلى المشرق والمغرب إذا لم يكن فيه اتّباع أمره. وإن طاعة الله الآن في التوجه إلى الكعبة، إذْ كان التوجُّهُ إلى غيرها منسوخاً.
وقوله تعالى ﴿ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ﴾ قيل إن فيه حذفاً، ومعناه :" إن البِرَّ بِرُّ مَنْ آمن بالله " وقيل : إنه أراد به أن البارَّ من آمن بالله، كقول الخنساء :
* تَرْتَعُ ما رَتَعَتْ حَتَّى إذا ادَّكَرَتْ * فإنما هي إقْبالٌ وإدْبَارُ *
يعني مقبلة ومدبرة.
وقوله تعالى :﴿ وآتى المال على حبه ﴾ يعني أن البارّ مَنْ آتى المال على حبه. قيل فيه : إنه يعني حب المال، كقوله تعالى :﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ [ آل عمران : ٩٢ ] وقيل : إنه يعني حب الإيتاء، وأن لا يكون متسخِّطاً عند الإعطاء. ويحتمل أن يكون أراد على حُبّ الله تعالى كقوله تعالى :﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ﴾ [ آل عمران : ٣١ ]. وجائز أن يكون مرادُهُ جميع هذه الوجوه.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما يدلّ على أنه أراد حُبَّ المال، وهو ما رواه جرير بن عبدالحميد، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال : جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أيُّ الصدقة أفضل ؟ فقال :" أنْ تَصَدَّقَ وأنْتَ صَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ وتَأْمَلُ الغِنَى ولا تُمْهِلُ حَتّى إذا بَلَغَتِ الحَلْقُومَ قُلْتَ لفُلانٍ كذا ولفُلانٍ كذا وقد كان لفُلانٍ ". وحدثنا أبو القاسم عبدالله بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري، عن زبيد، عن مُرَّة، عن عبدالله بن مسعود في قول تعالى :﴿ وآتى المال على حبه ﴾ قال :" أَنْ تؤتيه وأنت صحيح تَأْمَلُ العيش وتخشى الفقر ".
وقوله تعالى :﴿ وآتى المال على حبه ذوي القربى ﴾ يحتملُ به أن يريد به الصدقة الواجبة ؛ وأن يريد به التطوع. وليس في الآية دلالة على أنها الواجبة، وإنما فيها حَثٌّ على الصدقة ووَعدٌ بالثواب عليها ؛ لأن أكثر ما فيها أنها من البِرِّ، وهذا لفظ ينطوي على الفَرْضِ والنَّفْلِ، إلا أن في سياق الآية ونَسَقِ التلاوة ما يدلّ على أنه لم يُرِدْ به الزكاة ؛ لقوله تعالى :﴿ وأقام الصلاة وآتى الزكاة ﴾ فلما عطف الزكاة عليها دلَّ على أنه لم يُرِدْ الزكاة بالصدقة المذكورة قبلها.
ومن الناس من يقول : أراد به حقوقاً واجبة في المال سِوَى الزكاةِ نَحْوَ وُجُوبِ صِلَة الرَّحِمِ إذا وجده ذا ضُرٍّ شديد. ويجوز أن يريد من قد أجْهَدَهُ الجوع حتى يُخَافَ عليه التَّلَفُ فيلزمه أن يعطيه ما يسدّ جَوْعته.
وقد روى شريك عن أبي حمزة، عن عامر، عن فاطمة بنت قيس، عن النبي عليه السلام أنه قال :" في المَالِ حَقٌّ سِوَى الزّكَاةِ " وتلا قوله تعالى :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ﴾ الآية. وروى سفيان عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر الإبل فقال :" إنّ فيها حَقّاً " فسئل عن ذلك، فقال :" إطْرَاقُ فَحْلِها وإعَارَةُ ذَلُولِها ومِنْحَةُ سَمِينِها ". فذكر في هذين الحديثين أن في المال حقّاً سوى الزكاة ؛ وبين في الحديث الأول أنه تأويل قوله تعالى :﴿ ليس البر أن تولّوا وجوهكم ﴾ الآية. وجائز أن يريد بقوله :" في المال حقّ سوى الزكاة " ما يلزم من صلة الرحم بالإنفاق على ذَوِي المحارم الفقراء، ويحكم به الحاكم عليه لوالديه وذوي محارمه إذا كانوا فقراء عاجزين عن الكسب. وجائز أن يريد به ما يلزمُهُ من طعام الجائع المضطر. وجائز أن يريد به حقاً مندوباً إليه لا واجباً، إذ ليس قوله :" في المال حقّ " يقتضي الوجوب، إذ من الحقوق ما هو نَدْبٌ ومنها ما هو فرض.
وحدثنا عبدالباقي : حدثنا أحمد بن حماد بن سفيان قال : حدثنا كثير بن عبيد : حدثنا بقية عن رجل من بني تميم يُكْنَى أبا عبدالله، عن الضبي الشعبي، عن مسروق، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" نَسَخَتِ الزّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال : حدثنا علي بن سعيد قال : حدثنا المسيب بن شريك، عن عبيد المكتّب، عن عامر، عن مسروق، عن علي قال :" نسخت الزكاة كل صدقة ".
فإن صحّ هذا الحديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم فسائر الصدقات الواجبة منسوخةٌ بالزكاة، وإن لم يصحَّ ذلك مَرْفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لجهالة رَاوِيهِ فإن حديث علي عليه السلام حَسَنُ السند، وهو يوجب أيضاً إثباتَ نَسْخِ الصدقات التي كانت واجبةً بالزكاة، وذلك لا يُعلم إلا من طريق التوقيف ؛ فيُعلم بذلك أن ما قاله علي هو بتوقيف من النبي عليه السلام إياه عليه. وحينئذ يكون المنسوخُ من الصدقات صدقاتٍ قد كانت واجبةً ابتداءً بأسبابٍ مِنْ قِبَل مَنْ يجب عليه تقتضي لزوم إخراجها ثم نُسخَت بالزكاة نحو قوله تعالى :﴿ وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ﴾ [ النساء : ٨ ] ونحو ما رُوي في قوله تعالى :﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ] أنه منسوخ عند بعضهم بالعُشْرِ ونصف العُشْرِ، فيكون المنسوخ بالزكاة مثل هذه الحقوق الواجبة في المال من غير ضرورة. وأما ما ذكرنا من الحقوق التي تلزم من نحو الإنفاق على ذوي الأرحام عند العَجْز عن التكسُّب وما يلزم من إطعام المضطرّ، فإن هذه فروضٌ لازمةٌ ثابتةٌ غيرُ منسوخةٍ بالزكاة. وصدقةُ الفِطْرِ واجبةٌ عند سائر الفقهاء ولم تُنسخ بالزكاة مع أن وجوبها ابتداءً من قِبَلِ الله تعالى غيرُ متعلقٍ بسبب مِنْ قِبَل العبد، فهذا يدلّ على أن الزكاة لم تَنْسَخْ صدقَة الفطر. وقد رَوى الواقدي عن عبدالله بن عبدالرحمن عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت :" أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر قبل أن تفرض الزكاة، فلما فُرِضَت الزكاةُ لم يأمرْهم ولم يَنْهَهُمْ وكانوا يخرجونها ". فهذا الخبر لو صحَّ لم يَدُلَّ على نسخها، لأن وجوب الزكاة لا يَنْفي بقاء وجوب صدقة الفطر، وعلى أن الأوْلى أن فرض الزكاة متقدم على صدقة الفطر لأنه لا خلاف بين السلف في أن " حَمَ السجدة " مكية وأنها من أوائل ما نزل من القرآن، وفيها وعيد تارك الزكاة عند قوله :﴿ وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ﴾ [ فصلت : ٧ ] والأمرُ بصدقة الفطر إنما كان بالمدينة، فدلّ ذلك على أن فرض الزكاة متقدمٌ لصدقة الفطر. وقد رُوي عن ابن عمر ومجاهد في قوله تعالى :﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ] أنها محكمة وأنه حَقٌّ واجب عند القوم غير الزكاة.
وأما الحقوق التي تجب بأسباب مِنْ قِبَلِ العبد نحو الكفارات والنذور، فلا خلاف أن الزكاة لم تنسخها.
واليتامى المرادون بالآية هم الصغار الفقراء الذين مات آباؤهم، والمساكين مختلف فيه، وسنذكر ذلك في سورة براءة إن شاء الله تعالى، وابن السبيل رُوِيَ عن مجاهد أنه المسافر، وعن قتادة أنه الضيف. والقول الأول أشْبَهُ لأنه إنما سُمِّي ابن السبيل لأنه على الطريق، كما قيل لطير الإوَزِّ ابن ماءٍ لملازمته له ؛ قال ذو الرُّمة :
* وَرَدْتُ اعْتِسافاً والثريّا كأنها على قمة الرأسِ ابنُ ماءٍ مُحلِّقُ *
والسائلين يعني به الطالبين للصدقة، قال الله تعالى :﴿ وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ﴾ [ المعارج : ٢٤ و ٢٥ ] حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا مصعب بن محمد قال : حدثنا يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت حسين بن علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" للسَّائِلِ حَقٌّ وإنْ جَاءَ عَلى فَرَسٍ ". حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا عبيد بن شريك : حدثنا أبو الجماهر قال : حدثنا عبدالله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أَعْطُوا السّائلَ وإنْ أَتَى على فَرَسٍ ". والله تعالى أعلم.

بابُ القِصاص


قال الله تعالى ﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ هذا كلامٌ مُكْتَفٍ بنفسه غيرُ مفتقرٍ إلى ما بعده، ألا ترى أنه لو اقتصر عليه لكان معناه مفهوماً من لفظه ؛ واقتضى ظاهره وجوب القصاص على المؤمنين في جميع القتلى ؟ والقصاص هو أن يُفعل به مثل ما فَعَلَ به، من قولك :" اقْتَصَّ أَثَرَ فلان " إذا فعل مثل فِعْلِهِ ؛ قال الله تعالى :﴿ فارتدا على آثارهما قَصَصاً ﴾ [ الكهف : ٦٤ ] وقال تعالى ﴿ وقالت لأخته قصّيه ﴾ [ القصص : ١١ ] أي ابتغي أثره.
وقوله :﴿ كتب عليكم ﴾ معناه : فُرض عليم، كقوله تعالى :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ [ البقرة : ١٨٣ ]، و ﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين ﴾ [ البقرة : ١٨٠ ] وقد كانت الوصية واجبة. ومنه : الصلوات المكتوبات ؛ يعني بها المفروضات. فانتظمت الآيةُ إيجابَ القصاص على المؤمنين إذا قتلوا لمن قتلوا من سائر المقتولين لعموم لفظ المقتولين. والخصوص إنما هو في القاتلين، لأنه لا يكون القصاص مكتوباً عليهم إلا وهم قاتلون، فاقتضى وجوب القصاص على كل قاتل عمداً بحديدة إلاَّ ما خصَّه الدليل، سواء كان المقتول عبداً أو ذِمِّيّاً، ذكراً أو أنثى، لشمول لفظ القتلى للجميع.
وليس توجيهُ الخطاب إلى المؤمنين بإيجاب القصاص عليهم في القتلى بموجب أن يكون القتلى مؤمنين ؛ لأن علينا اتباع عموم اللفظ ما لم تَقُمْ دلالة الخصوص، وليس في الآية ما يوجب خصوص الحكم في بعض القتلى دون بعض.
فإن قال قائل : يدلّ على خصوص الحكم في القتلى وجهان، أحدهما : في نسق الآية :﴿ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف ﴾ والكافر لا يكون أخاً للمسلم، فدل على أن الآية خاصة في قتلى المؤمنين. والثاني قوله :﴿ الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ﴾. قيل له : هذا غلطٌ من وجهين، أحدهما : أنه إذا كان أول الخطاب قد شمل الجميع فما عُطِفَ عليه بلفظ الخصوص لا يوجب تخصيص عموم اللفظ، وذلك نحو قوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ]. وهو عموم في المطلقة ثلاثاً وما دونها، ثم عطف قوله تعالى ﴿ فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ﴾ [ الطلاق : ٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] وهذا حكم خاص في المطلق لما دون الثلاث، ولم يوجب ذلك تخصيص عموم اللفظ في إيجاب ثلاثة قروء من العدة على جميعهن ؛ ونظائر هذا كثيرة في القرآن. والوجه الآخر : أن يريد الإخوة من طريق النَّسَبِ لا من جهة الدين، كقوله تعالى :﴿ وإلى عاد أخاهم هوداً ﴾. وأما قوله :﴿ الحر بالحر والعبد بالعبد ﴾ فلا يوجب تخصيص عموم اللفظ في القتلى، لأنه إذا كان أول الخطاب مكتفياً بنفسه غير مفتقر إلى ما بعده لم يَجُزْ لنا أن نَقْصره عليه.
وقوله :﴿ الحر بالحر ﴾ إنما هو بيان لما تقدم ذكره على وجه التأكيد وذكر الحال التي خرج عليها الكلام، وهو ما ذكره الشعبي وقتادة : أنه كان بين حَيَّيْنِ من العرب قتالٌ وكان لأحدهما طوْل على الآخر، فقالوا : لا نرضى إلا أن نقتل بالعبد منا الحرَّ منكم وبالأنثى منا الذكَرَ منكم ! فأنزل الله :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد ﴾ مبطلاً بذلك ما أرادوه ومؤكداً عليهم فرض القصاص على القاتل دون غيره، لأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، فنهاهم الله عن ذلك، وهو معنى ما رُوي عنه عليه السلام أنه قال :" مِنْ أَعْتَى النّاس عَلَى الله يَوْمَ القِيَامَةِ ثَلاثةٌ : رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، ورَجُلٌ قَتَلَ في الحَرَم، ورَجُلٌ أَخَذَ بذُحُولِ الجاهِلِيَّة ". وأيضاً فإن قوله تعالى :﴿ الحر بالحر والعبد بالعبد ﴾ تفسيرٌ لبعض ما انتظمه عموم اللفظ، ولا يوجب ذلك تخصيص اللفظ، ألا ترى أن قول النبي عليه السلام :" الحِنْطَةُ بالحِنْطَةِ مِثْلاً بِمثْلٍ " وذِكْرَهُ الأصناف الستة لم يوجب أن يكون حكم الربا مقصوراً عليها ولا نفي الربا عما عداها ؟ كذلك قوله ﴿ الحر بالحر ﴾ لا ينفي اعتبار عموم اللفظ في قوله :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾. ويدلّ على أن قوله :﴿ الحر بالحر ﴾ غيرُ مُوجِب لتخصيص عموم القصاص ولم ينفِ القصاص عن غير المذكور اتفاقُ الجميع على قتل العبد بالحر والأنثى بالذكر، فثبت بذلك أن تخصيص الحر بالحرِ لم يَنْفِ موجب حكم اللفظ في جميع القتلى.
فإن قال قائل : كيف يكون القصاص مفروضاً والوليّ مخيرٌ بين العفو وبين القصاص ؟ قيل له : لم يجعله مفروضاً على الوليّ وإنما جعله مفروضاً على القاتل للوليّ بقوله تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ وليس القصاص على الوليّ وإنما هو حقٌّ له، وهذا لا ينفي وجوبه على القاتل وإن كان الذي له القصاص مخيراً فيه.
وهذه الآية تدلّ على قتل الحر بالعبد ؛ والمسلم بالذمي ؛ والرجل بالمرأة، لما بيَّنا من اقتضاء أول الخطاب إيجاب عموم القصاص في سائر القتلى، وأن تخصيصه الحرَّ بالحرِّ ومَنْ ذُكِرَ معه لا يوجبُ الاقتصار بحكم القصاص عليه دون اعتبار عموم ابتداء الخطاب في إيجاب القصاص.
ونظيرها من الآي في إيجاب القصاص عامّاً قوله تعالى :﴿ ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً ﴾ [ الإسراء : ٣٣ ] فانتظم ذلك جميع المقتولين ظلماً وجعل لأوليائهم سلطاناً وهو القَوَدُ، لاتّفاقِ الجميع على أن القَوَدَ مُرادٌ بذلك في الحر المسلم إذا قتل حرّاً مسلماً، فكان بمنزلة قوله تعالى : فقد جعلنا لوليه قَوَداً ؛ لأن ما حَصَل الاتفاقُ عليه من معنى الآية مرادٌ فكأنه منصوص عليه فيها، فلفظ السلطان وإن كان مُجْمَلاً فقد عُرِفَ معنى مراده من طريق الاتفاق. وقوله :﴿ ومن قتل مظلوماً ﴾ هو عمومٌ يصح اعتباره على حسب ظاهره ومقتضى لفظه.
ونظيرها أيضاً من الآي قوله تعالى :﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] فأخبر أن ذلك كان مكتوباً على بني إسرائيل. وهو عُمُومٌ في إيجاب القِصَاص في سائر المقتولين. وقد احتجّ أبو يوسف بذلك في قتل الحرّ بالعبد ؛ وهذا يدلّ على أن من مذهبه أن شريعة من كان قبلنا من الأنبياء ثابتةٌ علينا ؛ ما لم يَثْبُتْ نَسْخُها على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا نجد في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخ ذلك، فوجب أن يكون حكمه ثابتاً علينا ؛ على حسب ما اقتضاه ظاهرُ لفظه ؛ من إيجاب القصاص في سائر الأنفس.
ونظيره أيضاً قوله تعالى :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] ؛ لأن من قُتِلَ وليُّه يكون مُعْتَدى عليه، وذلك عمومٌ في سائر القتلى. وكذلك قوله :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾ [ النحل : ١٢٦ ] يقتضي عمومُهُ وجوبَ القصاص في الحرّ والعبد والذكر والأنثى والمسلم والذمي.
مسألة في قتل الحر بالعبد
قال أبو بكر : وقد اختلف الفقهاء في القصاص بين الأحرار والعبيد ؛ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزُفَر رضي الله عنهم :" لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في الأنفس ؛ ويُقْتَلُ الحرُّ بالعبد والعبدُ بالحرِّ ". وقال ابن أبي ليلى :" القصاصُ واجبٌ بينهم في جميع الجراحات التي نستطيع فيها القصاص ". وقال ابن وهب عن مالك :" ليس بين الحرّ والعبد قَوَدٌ في شيء من الجراح، والعبدُ يُقتل بالحرِّ، ولا يُقتل الحرُّ بالعبدِ ". وقال الليث بن سعد :" إذا كان العبدُ هو الجاني اقْتُصَّ منه، ولا يُقْتَصُّ من الحرِّ للعبد "، وقال :" إذا قَتَلَ العبدُ الحرَّ فلوليّ المقتول أن يأخذ بها نفس العبد القاتل فيكون له، وإذا جَنَى على الحر فيما دون النفس فللمجروح القصاص إن شاء ". وقال الشافعي :" من جرى عليه القصاص في النفس جَرَى عليه في الجراح، ولا يُقتل الحرُّ بالعبدِ ولا يُقْتَصُّ له منه فيما دون النفس ".
وجه دلالة الآية في وجوب القصاص بين الأحرار والعبيد في النفس، أن الآية مقصورةُ الحكم على ذِكْرِ القتلى ؛ وليس فيها ذِكْرٌ لما دون النفس من الجراح. وسائرُ ما ذكرنا من عموم آي القرآن في بيان القتلى والعقوبة والاعتداء ؛ يقتضي قَتْلَ الحرِّ بالعبد، ومن حيث اتفق الجميع على قتل العبد بالحرّ وَجَبَ قتلُ الحرِّ بالعبد، لأن العبد قد ثبت أنه مرادٌ بالآيةِ، والآيةُ لم يفرِّقْ مقتضاها بين العبد المقتول والقاتل، فهي عموم فيهما جميعاً. ويدل أيضاً على ذلك قوله تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ﴾ فأخبر أنه أوجب القصاص، لأن فيه حياة لنا. وذلك خطابٌ شاملٌ للحرّ والعبد، لأن صفة أولي الألباب تشملهم جميعاً، فإذا كانت العلّة موجودة في الجميع لم يَجُز الاقتصارُ بحكمها على بعض مَنْ هي موجودة فيه دون غيره. ويدلّ عليه من جهة السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم :" المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ " وهو عامٌّ في العبيد والأحرار فلا يُخَصُّ منه شيء إلا بدلالة. ويدل عليه من وجه آخر : وهو اتّفاقُ الجميع على أن العبد إذا كان هو القاتِلَ فهو مرادٌ به، كذلك إذا كان مقتولاً ؛ لأنه لم يفرق بينه إذا كان قاتلاً أو مقتولاً.
فإن قيل : لما قال في سياق الحديث :" ويَسْعَى بذمَّتِهِمْ أدْنَاهُمْ " وهو العبد، يدلّ على أنه لم يُردْهُ بأول الخطاب ؟ قيل له : هذا غلط من قِبَلِ أنه لا خلاف أن العبد إذا كان قاتلاً فهو مراد، ولم يمنع قوله :" ويسعى بذمتهم أدناهم " أن يكون مراداً إذا كان قاتلاً، كذلك لا يمنع إرادته إذا كان مقتولاً ؛ على أن قوله :" ويسعى بذمتهم أدناهم " ليس فيه تخصيصُ العبد من غيره، وإنما المراد أدناهم عَدَداً، هو كقوله : واحد منهم ؛ فلا تَعَلُّقَ لذلك في إيجاب اقتصار حكم أول اللفظ على الحر دون العبد. وعلى أنه لو قال : ويسعى بذمتهم عَبْدُهم ؛ لو يوجب تخصيص حكمه في مكافأة دمه لدم الحرِّ، لأن ذلك حكمٌ آخر استأنف له ذكراً وخَصَّ به العبد ليدلّ على أن غير العبد أوْلَى بالسعي بذمتهم. فإذا كان تخصيصُ العبد بالذكر في هذا الحكم لم يوجبْ أن يكون مخصوصاً به دون الآخر، فلأن لا يوجب تخصيص حكم القصاص أوْلى.
فإن قيل : قوله :" المسلمون تَتكافأ دِماؤُهُم " يقتضي التماثُلَ في الدماء، وليس العبد مِثْلاً للحرّ. قيل له : فقد جعله النبي عليه السلام مِثْلاً له في الدم إذْ عَلَّقَ حكم التكافؤ منهم بالإسلام، ومن قال ليس بمكافٍ له فهو خارج على حكم النبي عليه السلام مخالف بغير دلالة. ويدلّ عليه أيضاً ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا معاذ بن المثنَّى قال : حدثنا محمد بن كثيرٍ قال : حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبدالله بن مرة، عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يَحلُّ دَمُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أنْ لا إله إلاّ الله وأنِّي رسولُ الله إلاّ في إحْدَى ثَلاثٍ : التاركُ للإسلامِ المفارِقُ للجَمَاعَةِ، والثَّيِّبُ الزاني، والنَّفْسُ بالنَّفْسِ " فلم يفرِّقْ بين الحرّ والعبد، وأوجب القصاص في النفس بالنفس. وذلك مُوافقٌ لما حَكى الله مما كتبه على بني إسرائيل. فَحْوَى هذا الخبر معنيين، أحدهما : أن ما كان على بني إسرائيل من ذلك فحُكْمُهُ باق علينا، والثاني : أنه مُكْتَفٍ بنفسه في إيجاب القصاص عامّاً في سائر النفوس. وي
قوله تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ﴾ فيه إخبار من الله تعالى في إيجاب القصاص حياةً للناس وسبباً لبقائهم، لأن من قَصَدَ قَتْلَ إنسان رَدَّهُ عن ذلك عِلْمُه بأنه يُقتل به. ودلّ على وجوب القصاص عموماً بين الحرّ والعبد والرجل والمرأة والمسلم والذميّ، إذ كان الله تعالى مريداً لتبقية الجميع، فالعلة الموجبة للقصاص بين الحرَّين المسلمين موجودة في هؤلاء، فوجب استواء الحكم في جميعهم وتخصيصه لأولي الألباب بالمخاطبة غير نافٍ مساواة غيرهم لهم في الحكم، إذْ كان المعنى الذي حكم من أجله في ذوي الألباب موجوداً في غيرهم، وإنما وَجْهُ تخصيصه لهم ؛ أن ذوي الألباب هم الذين ينتفعون بما يخاطَبُون به وينتهون إلى ما يؤمَرُون به ويزدجرون عما يُزجَرون عنه. وهذا كقوله تعالى :﴿ إنما أنت منذر من يخشاها ﴾ [ النازعات : ٤٥ ] وهو منذر لجميع المكلفين ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ﴾ [ سبأ : ٤٦ ] ونحو قوله :﴿ هدى للمتقين ﴾ [ البقرة : ٢ ] وهو هدىً للجميع، وخصَّ المتقين لانتفاعهم به ؛ ألا ترى إلى قوله في آية أخرى :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] ؟ فعمّ الجميع به. وكقوله :﴿ قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّاً ﴾ [ مريم : ١٨ ] لأن التقيّ هو الذي يُعِيذُ من استعاذ بالله.
وقد ذُكر عن بعض الحكماء أنه قال :" قَتْل البعض إحياءُ الجميع ". وعن غيره :" القتل أقَلُّ للقتل " و " أكْثِروُا القَتْلَ ليقلّ القتلُ " وهو كلام سائر على ألْسِنَةِ العقلاء وأهل المعرفة، وإنما قصدوا المعنى الذي في قوله تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾. ثم إذا مثَّلْتَ بينه وبينه وجدت بينهما تفاوتاً بعيداً من جهة البلاغة وصحة المعنى ؛ وذلك يظهر عند التأمل من وجوه، أحدها : أن قوله تعالى :﴿ في القصاص حياة ﴾ هو نظير قولهم :" قَتْلُ البعض إحياءٌ للجميع والقتل أقَلُّ للقتل " وهو مع قلة عدد حروفه ونقصانها عما حُكي عن الحكماء ؛ قد أفاد من المعنى الذي يحتاج إليه ؛ ولا يستغني عنه الكلام ما ليس في قولهم ؛ لأنه ذَكَرَ القَتْلَ على وجه العدل لذكره القصاص وانتظم مع ذلك الغَرَضَ الذي إليه أُجْرِيَ بإيجابه القصاص وهو الحياة. وقولهم :" القتل أقل للقتل " و " قتل البعض إحياء الجميع " و " القتل أنْفَى للقتل " إنْ حُمِلَ على حقيقته لم يصحَّ معناه ؛ لأنه ليس كلُّ قتل هذه صفته، بل ما كان منه على وجه الظلم والفساد، فليست هذه منزلته ولا حكمه. فحقيقةُ هذا الكلام غير مستعملة ومجازُهُ يحتاج إلى قرينة وبيان ؛ في أن أيّ قتل هو إحياء للجميع. فهذا كلام ناقص البيان مختلُّ المعنى غيرُ مُكْتَفٍ بنفسه في إفادة حكمه، وما ذكره الله تعالى من قوله :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ مُكْتَفٍ بنفسه مُفِيدٌ لحُكْمِهِ على حقيقته من مقتَضى لفظه مع قلة حروفه، ألا ترى أن قوله تعالى :﴿ في القصاص حياة ﴾ أقل حروفاً من قولهم " قتل البعض إحياء للجميع " و " القتل أقل للقتل وأنفى للقتل " ؟ ومن جهة أخرى يظهر فضل بيان قوله :﴿ في القصاص حياة ﴾ على قولهم " القتل اقلّ للقتل وأنفى للقتل " أنّ في قولهم تكرار اللفظ وتكرار المعنى بلفظ غيره أحسن في حدّ البلاغة، ألا ترى أنه يصحّ تكرارُ المعنى الواحد بلفظين مختلفين في خطاب واحد، ولا يصحّ مثله بلفظ واحد نحو قوله تعالى :﴿ وغرابيب سود ﴾ [ فاطر : ٢٧ ] ونحو قول الشاعر :
*وألْفَى قَوْلَها كِذباً ومَيْنا *
كرّر المعنى الواحد بلفظين وكان ذلك سائغاً، ولا يصح مثله في تكرار اللفظ وكذلك قوله :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ لا تكرار فيه مع إفادته للقتل من جهة القاتل، إذْ كان ذكْرُ القصاص يفيد ذلك، ألا ترى أنه لا يكون قصاصاً إلا وقد تقدمه قتلٌ من المقتصِّ منه ؟ وفي قولهم ذكْرٌ للقتل وتكرارٌ له في اللفظ، وذلك نقصان في البلاغة، فهذا واشباهه مما يظهر به للمتأمل إبانة القرآن في جهة البلاغة والإعجاز من كلام البشر، إذ ليس يوجد في كلام الفصحاء من جمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة مثل ما يوجد في كلام الله تعالى.

باب القول في وجوب الوصية


قال الله تعالى :﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتقين ﴾.
قال أبو بكر : لم يختلف السلف ممن رُوي عنه أن قوله :﴿ خيراً ﴾ أراد به مالاً، واختلفوا في المقدار المراد بالمال الذي أوجب الله الوصية فيه حين كانت الوصية فرضاً، لأن قوله :﴿ كتب عليكم ﴾ معناه فُرِضَ عليكم، كقوله تعالى :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ [ البقرة : ١٨٣ ] وقوله :﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ﴾ [ النساء : ١٠٣ ] يعني فرضاً موقتاً. ورُوي عن عليّ كرم الله وجهه أنه دخل على مولىً له في مرضه وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم فقال : ألا أوصي ؟ قال : لا ! إنما قال الله تعالى ﴿ إن ترك خيراً ﴾ وليس لك كثيرُ مالٍ. ورُوي عن علي أنه قال :" أربعة آلاف درهم وما دونها نفقةٌ ". وقال ابن عباس :" لا وصية في ثمان مائة درهم ". وقالت عائشة رضي الله عنها في امرأة أرادت الوصية فمنعها أهلُها، وقالوا : لها ولد ومالُها يسير، فقالت : كم ولدُها ؟ قالوا : أربعة. قالت : فكم مالُها ؟ قالوا : ثلاثة آلاف. فكأنها عذرتهم وقالت : ما في هذا المال فضل. وقال إبراهيم :" ألف درهم إلى خمس مائة درهم ". وروى همام عن قتادة ﴿ إن ترك خيراً ﴾ قال :" كان يقال خير المال ألف درهم فصاعداً ". وقال الزهري :" هي في كل ما وقع عليه اسم المال من قليل أو كثير ". وكل هؤلاء القائلين فإنما تأوّلو تقدير المال على وجه الاستحباب لا على وجه الإيجاب للمقادير المذكورة، وكان ذلك منهم على طريق الاجتهاد فيما تلحقه هذه الصفة من المال، ومعلوم في العادة أن مَنْ ترك درهماً لا يقال ترك خيراً، فلما كانت هذه التسميةُ موقوفةً على العادة وكان طريقُ التقدير فيها على الاجتهاد وغالب الرأي مع العلم بأن القدر اليسير لا تلحقه هذه التسمية وأن الكثير تلحقه، فكان طريق الفصل فيها الاجتهادَ وغالِبَ الرأي، مع ما كانوا عرفوا من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله :" الثُلْثَ والثَلُثُ كَثِيرٌ " و " أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أنْ تَدَعَهُمْ عالَةً يتكَفَّفُونَ الناس ".
واختلف الناس في الوصية المذكورة في هذه الآية هل كانت واجبة أم لا ؟ فقال قائلون :" إنها لم تكن واجبة، وإنما كانت نَدْباً وإرشاداً ". وقال آخرون :" قد كانت فَرضاً ثم نُسخت " على الاختلاف منهم في المنسوخ منها. واحتجّ من قال :" إنها لم تكن واجبة " بأنّ في سياق الآية وفَحْواها دلالة على نَفْي وجوبها، وهو قوله :﴿ الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ﴾ فلما قيل فيها ﴿ بالمعروف ﴾ وإنها على المتقين ؛ دلّ على أنها غير واجبة من ثلاثة أوجه، أحدها : قوله ﴿ بالمعروف ﴾ لا يقتضي الإيجاب، والآخر : قوله ﴿ على المتقين ﴾ وليس يحكم على كل أحد أن يكون من المتقين، الثالث : تخصيصه للمتّقين بها، والواجبات لا يختلف فيها المتقون وغيرهم.
قال أبو بكر : ولا دلالة فيما ذكره هذا القائل على نَفْي وجوبها، لأن إيجابها بالمعروف لا ينفي وُجُوبَها، لأن المعروف معناه العَدْلُ الذي لا شَطَطَ فيه ولا تقصير، كقوله تعالى :﴿ وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] ولا خلاف في وجوب هذا الرزق والكسوة، وقوله تعالى :﴿ وعاشروهن بالمعروف ﴾ [ النساء : ١٩ ] بل المعروف هو الواجب، قال الله تعالى :﴿ وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر ﴾ [ لقمان : ١٧ ] وقال :﴿ يأمرون بالمعروف ﴾ [ التوبة : ٧١ ]. فذِكْرُ المعروف فيما أوجب الله تعالى من الوصية ؛ لا ينفي وجوبها ؛ بل هو يؤكد وجوبها، إذ كان جميع أوامِر الله معروفاً غير مُنْكَرٍ. ومعلوم أيضاً أن ضِدَّ المعروف هو المنكر، وأن ما ليس بمعروف هو منكر، والمنكر مذمومٌ مزجورٌ عنه، فإذاً المعروف واجب. وأما قوله :﴿ حقاً على المتقين ﴾ ففيه تأكيد لإيجابها، لأن على الناس أن يكونوا متّقين، قال الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] ولا خلاف بين المسلمين أن تَقْوَى الله فرضٌ، فلما جعل تنفيذ هذه الوصية من شرائط التقوى فقد أبان عن إيجابها. وأما تخصيصه المتّقين بالذكر فلا دلالة فيه على نَفْي وُجُوبها، وذلك لأن أقلَ ما فيه اقتضاء الآية وجوبها على المتقين، وليس فيه نفيها عن غير المتّقين، كما أنه ليس في قوله :﴿ هدى للمتقين ﴾ [ البقرة : ٢ ] نفْي أن يكون هُدًى لغيرهم. وإذا وجبت على المتقين بمقتضى الآية وجبت على غيرهم ؛ وفائدة تخصيصه المتقين بالذكر أن فِعْلَ ذلك مِنْ تقوى الله، وعلى الناس أن يكونوا كلهم متّقين، فإذاً عليهم فعل ذلك.
ودلالة الآية ظاهرة في إيجابها وتأكيد فرضها، لأن قوله :﴿ كتب عليكم ﴾ معناه فُرِضَ عليكم على ما بيّنا فيما سلف، ثم أكّده بقوله ﴿ بالمعروف حقّاً على المتقين ﴾ ولا شيء في ألفاظ الوجوب آكدُ من قول القائل " هذا حقّ عليك " وتخصيصه المتقين بالذكر على وجه التأكيد كما بيناه آنفاً، مع اتفاق أهل التفسير من السلف أنها كانت واجبة بهذه الآية.
وقد رُوي عن النبي عليه السلام ما يدلّ على أنها كانت واجبة، وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا سليمان بن الفضل بن جبريل قال : حدثنا عبدالله بن أيوب قال : حدثنا عبد الوهاب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يَحلُّ لمؤمنٍ يبيتُ ثلاثاً إلاّ ووَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا أيوب قال : سمعت نافعاً عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما حَقُّ امرِىءٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ يُوصِي فيه تَمُرُّ عَلَيْهِ لَيلَتَانَ إلاّ ووَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ ". وقد رواه هشام بن الغازي عن نافع عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما يَنْبَغي لمُسْلِمٍ أن يَبِيتَ لَيلَتَانَ إلاّ ووَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ ". وهذا يدلّ على أن الوصية قد كانت واجبة.
ثم اختلف القائلون بوجوبها بَدِيّاً، فقالت منهم طائفة :" جميع ما في هذه الآية من إيجاب الوصية منسوخٌ " منهم ابن عباس ؛ حدثنا أبو محمد جعفر بن محمد بن أحمد الواسطي قال : حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال : حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج، وعثمان بن عطاء الخراساني عن بن عباس في هذه الآية :﴿ إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين ﴾ قال : نسختها هذه الآية ﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلّ منه أو كثر نصيباً مفروضاً ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ]. وروى ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ إن ترك خيراً ﴾ قال :" نُسِخَ من ذلك من يَرِثُ ولم ينسخْ من لا يرث ". فاختلفت الرواية عن ابن عباس في ذلك : في أحديهما أن الجميع منسوخ، وفي الأخرى أنه منسوخ ممن يرث من الأقربين دون من لا يرث.
وحدثنا أبو محمد جعفر بن محمد قال : حدثنا أبو الفضل المؤدب قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا أبو مهدي عن عبدالله بن المبارك عن عمارة أبي عبدالرحمن قال : سمعت عكرمة يقول في هذه الآية :﴿ إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين ﴾ :" نسختها الفرائض ". وقال ابن جريج عن مجاهد :" كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين فهي منسوخة ".
وقالت طائفة أخرى :" قد كانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين فنسخت عمن يَرِثُ وجُعلت للوالدين والأقربين الذين لا يرثون "، رواه يونس وأشعث عن الحسن. ورُوي عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى في الرجل يوصي لغير ذي القرابة ؛ وله ذو قرابة ممن لا يرثه " أن ثلثي الثلث لذي القرابة وثُلثَ الثلثِ لمن أوصى له ". وقال طاوس :" يردّ كله إلى ذوي القرابة ". وقال الضحاك :" لا وصية إلا لذي قرابة إلا أن لا يكون له ذو قرابة ".
وقالت طائفة أخرى :" قد كانت الوصية في الجملة واجبة لذي القرابة ولم يكن على الموصي أن يُوصي بها لجميعهم، بل كان له الاقتصارُ على الأقربين منهم، فلم تكن واجبة للأبعدين، ثم نسخت الوصية للأقربين فبقي الأبعدون على ما كانوا عليه من جواز الوصية لهم أو تركها ".
ثم اختلف القائلون بنَسْخِها فيما نُسِخَت به، وقد روينا عن ابن عباس وعكرمة أن آية المواريث نَسَخَتْها، وذكر ابن عباس قوله تعالى :﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ [ النساء : ٧ ] وقال آخرون : نسخها ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا وَصِيَّةَ لوَارِثٍ " رواه شهر بن حوشب، عن عبدالرحمن بن عثمان، عن عمرو بن خارجة، عنه عليه السلام قال :" لا وصية لوارث ". ورَوَى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يَجُوزُ لوارِثٍ وَصِيَّةٌ "، وإسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال : سمعت أبا أمامة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوادع :" ألا إنّ الله قد أعْطَى كُلَّ ذي حَقٍّ حَقَّهِ فلا وَصِيَّةَ لوَارِثٍ " وحجاج بن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يَجُوزُ لوارِثٍ وَصِيَّةٌ إلاّ أنْ يُجِيزها الوَرَثةُ " وروي ذلك عن جماعة من الصحابة، رواه حجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال :" لا وصية لوارث " وعبدالله بن بدر عن ابن عمر قال :" لا يجوز لوارث وصية ".
وهذا الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وورودُهُ من الجهات التي وصفنا هو عندنا في حَيِّزِ التواتر، لاستفاضته وشُهْرته في الأمّة وتلقّي الفقهاء إياه بالقبول واستعمالهم له. وجائز عندنا نَسْخُ القرآن بمثله، إذ كان في حيز ما يوجب العلم والعمل من الآيات، فأما إيجاب الله تعالى الميراث للورثة فغير موجب نسخ الوصية لجواز اجتماع الميراث والوصية معاً، ألا ترى أنه عليه السلام قد أجازها للوارث إذا أجازتها الورثة ؟ فلم يكن يستحيل اجتماعُ الميراث والوصية لواحد لو لم يكن إلا آية الميراث ؛ على أن الله إنما جعل الميراث بعد الوصية، فما الذي كان يمنع أن يُعْطَى قِسْطَهُ من الوصية ثم يُعْطَى الميراث بعدها ؟
وقال الشافعي في كتاب الرسالة :" يحتمل أن تكون المواريث ناسخةً للوصية، ويحتمل أن تكون ثابتةً معها ؛ فلما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق مجاهد وهو منقطع أنه قال :" لا وصية لوارث " استدْلَلْنا بما رُوي عن النبي عليه السلام من ذلك على أن المواريث ناسخةٌ للوصية للوالدين والأقربين مع الخبر المنقطع ".
قال أبو بكر : قد أعْطَى القول باحتمال اجتماع الوصية والميراث، فإذاً ليس في نزول آية الميراث ما يُوجِبُ نَسْخَ الوصية للوارث، فلم تكن الوصيةُ منسوخةً بالميراث لجواز اجتماعهما، والخبر لم يثبت عنده لأنه ورد من طريق منقطع وهو لا يقبل المرسل، ولو ورد من جهة الاتصال والتواتر لما قَضَى به على حُكْم الآية، إذ غير جائزٍ عندَهُ نسخُ القرآن بالسنة، فواجب أن تكون الوصية للوالدين والأقربين ثابتة الحكم غير منسوخة، إذ لم يرد ما يوجب نسخها.
قال الشافعي :" وحكم النبيّ عليه السلام في ستة مملوكين أع

باب تبديل الوصية


قال الله تعالى :﴿ فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ﴾ قيل إن الهاء التي في قوله ﴿ فمن بدله ﴾ عائدة على الوصية، وجائز فيها التذكير، لأن الوصية والإيصاء واحدٌ. وأما الهاء في قوله ﴿ إثمه ﴾ فإنما هي عائدة على التبديل المدلول عليه بقوله :﴿ فمن بدله ﴾. وقوله :﴿ فمن بدله بعدما سمعه ﴾ يحتمل أن يريد به الشاهِدَ على الوصية، فيكون معناه زَجْرَهُ عن التبديل، على نحو قوله تعالى :﴿ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ﴾ [ المائدة : ١٠٨ ] ويحتمل أن يريد الوصيّ لأنه هو المتولَي لإمضائها والمالك لتنفيذها، فمن أجل ذلك قد أمكنه تغييرها. ويبعد أن يكون ذلك عموماً في سائر الناس، إذ لا مدخل لهم في ذلك ولا تصرف لهم فيه. وهو عندنا على المعنيين الأولين من الشاهد والوصيّ لاحتمال اللفظ لهما، والشاهدُ إذا احتيج إليه مأمورٌ بأداء ما سمع على وجهه ؛ من غير تغيير ولا تبديل، والوصيُّ مأمورٌ بتنفيذها على حسب ما سمعه مما تجوز الوصية به.
ورُوي عن عطاء ومجاهد قالا :" هي الوصية تصيب الولي الشاهد ". وقال الحسن :" هي الوصية ؛ من سمع الوصية ثم بدّلها بعدما سمعها فإنما إثمها على من بدلها ".
قال أبو بكر : وجائز أن يكون الحاكمُ مراداً بذلك، لأن له فيه ولاية وتصرفاً إذا رُفع إليه، فيكون مأموراً بإمضائها إذا جازت في الحكم منهيّاً عن تبديلها، وفيها الأمر بإمضائها وتنفيذها على الحق والصدق.
وقوله :﴿ فمن بدله بعدما سمعه ﴾ قد اقتضى جواز تنفيذ الوصيِّ ما سمعه من وصية الموصي، كان عليها شهودٌ أو لم تكن. وهو أصلٌ في كل من سمع شيئاً ؛ فجائزٌ له إمضاؤه عند الإمكان على مقتضاه وموجبه ؛ من غير حُكْمِ حاكم ولا شهادةِ شُهُودٍ. فقد دلّ على أن الميت متى أقرَّ بديْنٍ لرجُلٍ بعينه عند الوصيّ ؛ فَجائزٌ له أن يقضيه من غير علم وارث ولا حاكم ولا غيره، لأن في تركه ذلك بعد السماع تبديلاً لوصية الموصي.
وقوله :﴿ فإنما إثمه على الذين يبدلونه ﴾ قد حَوَى معاني، أحدها : أنه معلوم أن ذلك عطفٌ على الوصية المفروضة كانت للوالدين والأقربين، وهي لا محالة مضمرةٌ فيه، لولا ذلك لم يستقم الكلام لأن قوله :﴿ فمن بدّله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ﴾ غير مستقلّ بنفسه في إيجاب الفائدة لما انتظم من الكناية والضمير ؛ اللذين لا بُدّ لهما من مظهر مذكور، وليس في الآية مظهر غير ما تقدم ذِكْرُهُ في أولها. وإذا كان كذلك فقد أفادت الآيةُ سقوطَ الفَرْضِ عن الموصي بنفس الوصية، وأنه لا يلحقه بعد ذلك من مأثم التبديل شيءٌ بعد موته.
وفيه دلالةٌ على بُطْلاَنِ قول من أجاز تعذيب الأطفال بذنوب آبائهم، وهو نظير قوله :﴿ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ]. وقد دلّت الآية أيضاً على أن من كان عليه دَيْنٌ فأوْصَى بقضائه أنه قد برىء من تبعَتِهِ في الآخرة، وإن تَرْكَ الوَرَثَة قَضَاءَهُ بعد موته لا يلحقه تَبِعةٌ ولا إثم وأنّ إثمه على من بدّله دون من أوصى به.
وفيه الدلالة على أن من كان عليه زكاة ماله فمات ولم يُوصِ به أنه قد صار مُفَرِّطاً مانعاً مستحقّاً لحكم مانعي الزكاة، لأنها لو كانت قد تحولت في المال حسب تحوّل الديون لكان بمنزلة من أوْصَى بها عند الموت فينجو من مأثمها، ويكون حينئذ المبدل لها مستحقّاً لمأثمها. وكذلك حكى الله تعالى عن مانع الزكاة عند الموت سُؤالَ الرجعة في قوله :﴿ وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصّدق وأكن من الصالحين ﴾ [ المنافقون : ١٠ ] فأخبر بحصول التفريط وفوات الأداء، إذ لو كان الأداءُ باقياً على الوارث أو الوصيّ من ميراث الميت لكانوا هم المستحقّين للّوْمِ والتعنيف في تركه وكان الميت خارجاً عن حكم التفريط ؛ فدلّ ذلك على صحة ما وَصفنا من امتناع وجوب أداء زكاته من ميراثه من غير وصية منه به.
فإن قيل : هل يفترق حكم الموصي عند الله في حال تنفيذ وصيته أو تبديلها، وهل يكون ما يستحقه من الثواب في الحالين سواء ؟ قيل له : إن وصية الموصي قد تضمّنت شيئين، أحدهما : استحقاقه الثواب على الله بوصيته، والآخر : أن وصول ذلك إلى الموصَى له يستوجب منه الشكر لله والدعاء للموصي، وذلك لا يكون ثواباً للموصِي ولكن الموصِي يصل إليه من دعاء الموصَى له وشكره لله تعالى جزاء له لا للموصي، فينتفع الموصي بذلك من وجهين إذا أنْفِذَت الوصية. ومتى لم تُنْفَذ كان نفعه مقصوراً على الثواب الذي استحقّه بوصيته دون غيرها.
فإن قيل : فمن كان عليه دين فلم يوص بقضائه وقضاه الورثة هل يبرأ الميت من تبعته ؟ قيل له : امتناعه من قضاء الدين قد تضمن شيئين، أحدهما : حقّ الله تعالى، والآخر : حقّ الآدمي ؛ فإذا اسْتَوفَى الآدميُّ حقه فقد برىء من تبعَتِهِ وبقي من حق الآدميّ ما أدخل عليه من الظلم والضرر بتأخيره، فإذا لم يَتُبْ منه كان مؤاخذاً به في الآخرة، وبقي حق الله وهو الظلم الواقع منه في حياته ؛ لم تكن توبة منه فيه، فهو مؤاخذٌ به فيما بينه وبين الله تعالى، ألا ترى أن من غَصَبَ من رجل مالاً وأصَرَّ على منعه ؛ كان مكتسباً بذلك المأثَمَ من وجهين، أحدهما : حق الله بارتكاب نهيه، والآخر : حق الآدمي بظلمه له وإضراره به ؟ فلو أن الآدمي أخذ حقه منه من غير إرادة الغاصب لذلك ؛ لكان قد برىء من حقه، وبقي حقّ الله يحتاج إلى التوبة منه، فإذا مات غير تائب كانت تبعته باقية عليه لاحقة به.
وقوله تعالى :﴿ فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ﴾ إنما هو فيمن بدلّ ذلك إذا وقع على وجه الصحة والجواز والعدل، فأما إذا كانت الوصية جوراً فالواجب تبديلها وردّها إلى العدل، قال الله تعالى :﴿ غير مضار وصية من الله ﴾ [ النساء : ١٢ ] فإنما تنفذ الوصية إذا وقعت عادلةً غير جائرةٍ، وقد بيّن الله تعالى ذلك في الآية التي تليها.

باب الشاهد والوصي إذا علما الجور في الوصية


قال الله تعالى :﴿ فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه ﴾.
قال أبو بكر : حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى :﴿ فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً ﴾ قال :" هو الرجل يوصي فيجنف في وصيته، فيردها الولي إلى العدل والحق ". وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال :" الجنف الخطأ والإثم العَمْد ". وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد، وابن طاوس عن أبيه :﴿ فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً ﴾ قال :" هو الموصي لابن ابنه يريد لبنيه ". وروى المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن في الرجل يوصي للأباعد ويترك الأقارب قال :" يجعل وصيته ثلاثة أثلاث : للاقارب الثلثين، وللأباعد الثلث ". ورُوي عن طاوس في الرجل يُوصي للأباعد قال :" ينزع منهم فيدفع للأقارب إلاّ أن يكون فيهم فقير ".
قال أبو بكر : الجَنَفُ الميل عن الحق، وقد حكينا عن الربيع بن أنس أنه قال :" الجنف الخطأ " ويجوز أن يكون مراده الميل عن الحق على وجه الخطأ، والإثمُ مَيْلُه عنه على وجه العمد ؛ وهو تأويل مستقيم. وتأوله الحسن على الوصية للأجنبي وله أقرباء أن ذلكَ جَنَفٌ وَمَيْلٌ عن الحق ؛ لأن الوصية كانت عنده للأقارب الذين لا يرثون، وتأوله طاوس على معنيين، أحدهما : الوصية للأباعد فتردّ إلى الأقارب، والآخر : أن يوصي لابن ابنته يريد ابنته. وقد نسخ وجوب الوصية للوالدين والأقربين :﴿ فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً ﴾ غير موجب أن يكون هذا الحكم مقصوراً على الوصية المذكورة قبلها، لأنه كلام مستقلٌّ بنفسه يصحّ ابتداءُ الخطاب به غير مُضَمَّن بما قبله، فهو عامٌّ في سائر الوصايا إذا عُدِلَ بها عن جهة العَدْل إلى الجور، منتظمةٌ للوصية التي كانت واجبة للوالدين والأقربين في حال بقاء وجوبها، وشاملةٌ لسائر الوصايا غيرها ؛ فمن خاف من سائر الناس من مُوصٍ مَيْلاً عن الحق وعُدولاً إلى الجور فالواجب عليه إرشادُهُ إلى العدل والصلاح. ولا يختص بذلك الشاهد والوصيّ والحاكم دون سائر الناس، لأن ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإن قيل : فما معنى قوله تعالى :﴿ فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم ﴾ والخوف إنما يختص بما يمكن وقوعه في المستقبل وأما الماضي فلا يكون فيه خوف ؟ قيل له : يجوز أن يكون قد ظهر له من أحوال الموصي ما يغلبُ معه على ظنِّه أنه يريد الجور وصرف الميراث عن الوارث، فعلى من خاف ذلك منه ردُّه إلى العدل ويخوِّفه ذميم عاقبة الجور أو يدخل بين الموصَى له وبين الورثة على وجه الصلاح. وقد قيل إن معنى قوله ﴿ فمن خاف ﴾ أنه علم أن فيها جوراً فيردها إلى العدل. وإنما قال تعالى :﴿ فلا إثم عليه ﴾ ولم يقل " فعليه ردها إلى العدل والصلاح " ولا ذكر له فيه استحقاق الثواب، لأن أكثر أحوال الداخلين بين الخصوم على وجه الإصلاح أن يَسْألوا كلَّ واحد منهما تَرْكَ بعض حقّه، فيسبق مع هذه الحال إلى ظن المصلح أن ذلك غير سائغ له، ولأنه إنما يعمل في كثير منه على غالب ظنه دون الحقيقة، فرخّص الله تعالى في الإصلاح بينهم وأزال ظنَّ الظانِّ لامتناع جواز ذلك، فلذلك قال :﴿ فلا إثم عليه ﴾ في هذا الموضع، وقد وعد بالثواب على مثله في غيره فقال تعالى :﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ﴾ [ النساء : ١١٤ ].
ورُوي في تغليظ الجَنَفِ في الوصية ؛ ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أحمد بن الحسن قال : حدثنا عبدالصمد بن حسان قال : حدثنا سفيان الثوري عن عكرمة عن ابن عباس قال :" الإضرار في الوصية من الكبائر " ثم قرأ :﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ].
وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا القاسم بن زكريا ومحمد بن الليث قالا : حدثنا عبدالله بن يوسف قال : حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الإضْرَارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكبَائِرِ ".
وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا طاهر بن عبدالرحمن بن إسحاق القاضي : حدثنا يحيى بن معين قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن أشعث عن شَهْر بن حَوْشَبَ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلٍ أهْلِ الجنّةِ سَبْعِينَ سَنَةً، فإذا أَوْصَى حَافَ في وَصِيّتِهِ، فيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فيَدْخُلُ النَّار، وإنّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النّارِ سَبْعِينَ سَنَةً، فيَعْدِلُ في وَصِيَّتِهِ فيُخْتَمُ بخَيْرِ عَمَلِهِ فيَدْخُلُ الجنّةَ ".
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدة بن عبدالله قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثنا نصر بن علي الحدّاني قال : حدثني الأشعث بن جابر قال : حدثني شهر بن حوشب، أن أبا هريرة حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إنّ الرّجُلَ والمرْأَةَ لَيَعمَلاَنِ بطَاعَةِ الله سِتّينَ سَنَةً، ثم يَحْضُرُهما المَوْتُ فيُضَارَّانِ في الوَصِيَّةِ، فتَجِبُ لهما النَّارُ "، ثم قرأ عليّ أبو هريرة من ههنا :﴿ من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ﴾ حتى بلغ :﴿ ذلك الفوز العظيم ﴾.
فهذه الأخبارُ مع ما قدّمنا توجِبُ على من علم جَنَفاً في الوصية من مُوصٍ ؛ أن يردَّهُ إلى العدل إذا أمكنه ذلك.
فإن قيل : على ماذا يعود الضمير الذي في قوله ﴿ بينهم ﴾ ؟ قيل له : لما ذكر الله الموصي أفاد بفَحْوَى الخطاب أن هناك موصًى له ووارثاً تنازعوا، فعاد الضمير إليهم بفحوى الخطاب في الإصلاح بينهم ؛ وأنشد الفراء :
* وما أدري إذا يممت أرضاً * أريد الخير أيهما يليني *
* أالخير الذي أنا أبتغيه * أم الشر الذي هو يبتغيني *
فكنَّى في البيت الأول عن الشرّ بعد ذِكْرِ الخير وَحْدَهُ لما في فَحْوَى اللفظ من الدلالة عليه عند ذكر الخير وغيره.
وقد قيل : إن الضمير عائد على المذكورينَ في ابتداء الخطاب، وهم الوالدان والأقربون. وقد أفادت هذه الآية على أن على الوصي والحاكم والوارث وكل من وقف على جور في الوصية من جهة الخطأ أو العمد رَدُّها إلى العدل، ودلّ على أن قوله تعالى :﴿ فمن بدّله بعد ما سمعه ﴾ خاصٌّ في الوصية العادلة دون الجائرة.
وفيها الدلالةُ على جواز اجتهاد الرأي والعمل على غالب الظن، لأن الخوف من المَيْل يكون في غالب ظنّ الخائف. وفيها رخصة في الدخول بينهم على وجه الإصلاح مع ما فيه من زيادة أو نقصان عن الحق بعد أن يكون ذلك بتراضيهم. والله الموفق.

باب فرض الصيام


قال الله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ﴾ فالله تعالى أوجب علينا فَرْضَ الصيام بهذه الآية، لأن قوله ﴿ كتب عليكم ﴾ معناه فُرِضَ عليكم، كقوله :﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم ﴾ [ البقرة : ٢١٦ ] وقوله :﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ﴾ [ النساء : ١٠٣ ] يعني فرضاً موقتاً. والصيامُ في اللغة هو الإمساكُ، قال الله تعالى :﴿ إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيّاً ﴾ [ مريم : ٢٦ ] يعني صَمْتاً، فسمّى الإمساك عن الكلام صوماً. ويقال :" خَيْلٌ صيام " إذا كانت ممسكةً عن العلف، و " صامت الشمس نصف النهار " لأنها ممسكة عن السير والحركة، فهذا حكم هذا اللفظ في اللغة.
وهو في الشرع اسمٌ للكَفِّ عن الأكل والشرب وما في معناه، وعن الجماع في نهار الصوم مع نية القربة أو الفرض. وهو لفظٌ مُجْمَلٌ مفتقر إلى البيان عند وروده، لأنه اسم شرعي موضوع لمعانٍ لم تكن معقولةً في اللغة، إلا أنه بعد ثبوت الفرض واستقرار أمر الشريعة قد عقل معناه الموضوع له فيها بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم الأمة عليها.
وقوله تعالى :﴿ كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ يَعْتَوِرُهُ معانٍ ثلاثة كلّ واحد منها مَرْوِيٌّ عن السلف ؛ قال الحسن والشعبي وقتادة :" إنه كتب على الذين من قبلنا وهم النصارى شهرُ رمضان أو مقداره من عدد الأيام، وإنما حَوّلوه وزادوا فيه ". وقال ابن عباس والربيع بن أنس والسدي :" كان الصوم من العتمة إلى العتمة، ولا يحلّ بعد النوم مأكلٌ أو مشربٌ ولا منكحٌ، ثم نُسِخ ". وقال آخرون، :" معناه أنه كُتِبَ علينا صيام أيام كما كتب عليهم صيام أيام، ولا دلالة فيه على مساواته في المقدار، بل جائز فيه الزيادة والنقصان ". ورُوي عن مجاهد وقتادة :" الذين من قبلكم أهل الكتاب ". ورَوَى عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال :" أُحِيلَ الصيامُ ثلاثة أحوالٍ، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فجعل الصَّوْمَ كل شهر ثلاثة أيام ويوم عاشوراء، ثم إن الله تعالى فرض الصيام بقوله :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾. وذكر نحو قول ابن عباس الذي قدمنا.
قال أبو بكر : لما لم يكن في قوله :﴿ كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ دلالة على المراد في العدد ؛ أو في صفة الصيام ؛ أو في الوقت ؛ كان اللفظ مجملاً، ولو علمنا وقت صيام من قبلنا وعدده ؛ كان جائزاً أن يكون مراده صفة الصيام، وما حظر على الصائم فيه بعد النوم، فلم يكن لنا سبيل إلى استعمال ظاهر اللفظ في احتذاء صوم من قبلنا.
وقد عقبه تعالى بقوله :﴿ أياماً معدودات ﴾ وذلك جائز وقوعه على قليل الأيام وكثيرها، فلما قال تعالى في نسق التلاوة :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ بين بذلك عدد الأيام المعدودات ووقتها وأمر بصومها. ، وقد رُوي هذا المعنى عن ابن أبي ليلى. ورُوي عن ابن عباس وعطاء أن المراد بقوله تعالى :﴿ أياماً معدودات ﴾ صَوْمُ ثلاثة أيام من كل شهر قبل أن ينزل رمضان، ثم نسخ برمضان.
قوله تعالى :﴿ فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ﴾. قال أبو بكر : ظاهره يقتضي جواز الإفطار لمن لحقه الاسم سواء كان الصوم يضره أو لا ؛ إلا أنّا لا نعلم خلافاً أن المريض الذي لا يضره الصوم غير مرخَّص له في الإفطار، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد :" إذا خاف أن تزداد عَيْنُه وجعاً أو حُمَّاهُ شدة أفطر ". وقال مالك في الموطأ :" من أجهده الصومُ أفطر وقَضَى ولا كفارة عليه، والذي سمعته أن المريض إذا أصابه المرضُ وشُقَّ عليه فيه الصيام فيبلغ منه ذلك، فله أن يفطر ويقْضي "، قال مالك :" وأهل العلم يرون على الحامل إذا اشتدّ عليها الصيام الفطر والقضاء، ويرون ذلك مرضاً من الأمراض ". وقال الأوزاعي :" أي مَرَضٍ إذا مَرِضَ الرجلُ حلّ له الفطر، فإن لم يُطِقْ أفطر، فأما إذا أطاق وإن شُقَّ عليه فلا يفطر ". وقال الشافعي :" إذا ازداد مَرَضُ المريض شِدَّةً زيادةً بَيِّنَةً أفطر، وإن كانت زيادة محتملة لم يفطر ". فثبت باتفاق الفقهاء أن الرخصة في الإفطار للمريض موقوفةٌ على زيادة المرض بالصوم، وأنه ما لم يَخْشَ الضرر فعليه أن يصوم.
ويدل على أن الرخصة في الإفطار للمريض متعلقةٌ بخوف الضرر ؛ ما رَوَى أنس بن مالك القشيري عن النبي عليه السلام :" إنّ الله وَضَعَ عن المُسَافِرِ شَطْرَ الصّلاَةِ والصَّوْم، وعَنِ الحَاملِ والمُرْضِعِ " ومعلوم أن رخصتهما موقوفةٌ على خَوْف الضرر على أنفسهما أو على ولديهما، فدل ذلك على أن جواز الإفطار في مثله متعلقٌ بخوف الضرر ؛ إذْ الحاملُ والمرضعُ صحيحتان لا مَرَضَ بهما، وأُبيح لهما الإفطار لأجل الضرر.
وأباح الله تعالى للمسافر الإفطار، وليس للسفر حدّ معلوم في اللغة يفصل به بين أقلّه وبين ما هو دونه، فإذا كان ذلك كذلك ؛ وقد اتفقوا على أن للسفر المبيح للإفطار مقداراً معلوماً في الشرع واختلفوا فيه، فقال أصحابنا :" مسيرة ثلاثة أيام ولياليها " وقال آخرون :" مسيرة يومين " وقال آخرون :" مسيرة يوم " ولم يكن للّغة في ذلك حظٌّ ؛ إذْ ليس فيها حَصْرُ أقلِّهِ بوقت لا يجوز النقصان منه، لأنه اسم مأخوذ من العادة، وكلُّ ما كان حكمه مأخوذاً من العادة فغير ممكن تحديده بأقلّ القليل ؛ وقد قيل إن السفر مشتقٌّ من السَّفْر الذي هو الكَشْفُ من قولهم " سَفَرَتِ المرأةُ عن وجهها، وأسْفَرَ الصُّبْحُ إذا أضاء، وسَفَرَتِ الريحُ السَّحَابَ إذا قَشَعَتْهُ " والمُسْفِرَةُ المكنسة لأنها تُسْفِرُ عن الأرض بكَنْس التراب، وأسْفَرَ وَجْهُهُ إذا أضاء وأشرق، ومنه قوله تعالى :﴿ وجوه يومئذ مسفرة ﴾ [ عبس : ٣٨ ] يعني مشرقة مضيئة ؛ فسمَّى الخروج إلى الموضع البعيد سَفَراً ؛ لأنه يكشف عن أخلاق المسافر وأحواله ؛ ومعلوم أنه إذا كان معنى السفر ما وصفنا أن ذلك لا يتبين في الوقت اليسير واليوم واليومين، لأنه قد يتصنّعُ في الأغلب لمثل هذه المسافة فلا يظهر فيه ما يكشفه البعيد من أخلاقه، فإن اعتبر بالعادة علمنا أن المسافة القريبة لا تُسَمَّى سَفَراً والبعيدة تسمَّى، إلا أنهم اتفقوا على أن الثلاثة سفر صحيح فيما يتعلق به من أحكام الشرع، فثبت أن الثلاث سَفَرٌ، وما دونها لم يثبتْ لعدم معنى الاسم فيه وفقد التوقيف والاتفاق بتحديده. وأيضاً قد رُوي عن النبي عليه السلام أخبارٌ تقتضي اعتبار الثلاث في كونها سفراً في أحكام الشرع، فمنها حديثُ ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نَهَى أن تسافر امرأةٌ ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ". واختلف الرواة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم :" ثلاثة أيام " وقال بعضهم :" يومين " فهذه الألفاظ المختلفة قد رُويت في حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. واختُلف أيضاً عن أبي هريرة، فرَوَى سفيان عن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلاثَةِ أيّامٍ إلاّ وَمَعَها ذو مَحْرَمٍ ". ورَوَى كثيرُ بن زيد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا نِسَاءَ المُؤْمِنَاتِ لا تَخْرُجِ امْرَأَةٌ مِنْ مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ إلاّ مَع ذي مَحْرَمٍ ". وكلّ واحد من أخبار أبي سعيد وأبي هريرة إنما هو خبرٌ واحد اختلفت الرواية في لفظه، ولم يثبت أنه عليه السلام قال ذلك في أحوال، فالواجب أن يكون خبر الزائد أوْلى وهو الثلاث، لأنه متفق على استعماله وما دونها مختلف فيه فلا يثبت لاختلاف الرواة فيه. وأخبار ابن عمر لا اختلاف فيها، فهي ثابتة وفيها ذِكْرُ الثلاث، ولو أثبتنا ذكر أخبار أبي سعيد وأبي هريرة على اختلافها لكان أكْثَرُ أحوالها أن تتضادّ وتسقط كأنها لم تَرِدْ، وتبقى لنا أخبارُ ابن عمر في اعتبار الثلاث من غير معارض.
فإن قيل : أخبار أبي سعيد وأبي هريرة غير متعارضة لأنا نُثْبِتُ جميع ما رُوي فيها من التوقيت، فنقول : لا تسافر يوماً ولا يومين ولا ثلاثة. قيل له : متى استعملتَ ما دون الثلاث فقد ألغيتَ الثلاث وجعلت ورودها وعدمها بمنزلةٍ، فأنت غير مستعمل لخبر الثلاث مع استعمالك خبر ما دونها، وإذا لم يكن إلا استعمال بعضها وإلغاء البعض ؛ فاستعمال خبر الثلاث أوْلى لما فيه من ذِكْرِ الزيادة ؛ وأيضاً قد يمكن استعمال الثلاث مع إثبات فائدة الخبر في اليوم واليومين، وهو أنها متى أرادت سَفَرَ الثلاث لم تخرج اليوم ولا اليومين من الثلاث إلاّ مع ذي محرم. وقد يجوز أن يظنَّ ظانٌّ أنه لما حدّ الثلاث فمباحٌ لها الخروج يوماً أو يومين مع غير ذي محرم وإن أرادت سفر الثلاث، فأبان عليه السلام حَظْرَ ما دونها متى أرادتها.
وإذا ثبت تقديرُ الثلاث في حظر الخروج إلاّ مع ذي محرم ؛ ثبت ذلك تقديراً في إباحة الإفطار في رمضان من وجهين، أحدهما : أن كلّ من اعتبر في خروج المرأة الثلاث اعتبرها في إباحة الإفطار، وكلّ مَنْ قدّره بيوم أو يومين كذلك قدّره في الإفطار. والوجه الآخر : أن الثلاث قد تعلَّقَ بها حكمٌ، وما دونها لم يتعلقْ به حكمٌ في الشرع، فوجب تقديرها في إباحة الإفطار، لأنه حكمٌ متعلق بالوقت المقدر، وليس فيما دون الثلاث حكم يتعلق به، فصار بمنزلة خروج ساعة من النهار. وأيضاً ثبت عن النبي عليه السلام أنه رخّص في المسح للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها، ومعلوم أن ذلك وَرَدَ مَوْرِدَ بيان الحكم لجميع المسافرين، لأن ما ورد مورد البيان ؛ فحكمُهُ أن يكون شاملاً لجميع ما اقتضى البيان من التقدير، فما من مسافر إلا وهو الذي يكون سَفَرُهُ ثلاثاً، ولو كان ما دون الثلاث سفراً في الشرع لكان قد بقي مسافر لم يتبين حكمه ولم يكن اللفظ مستوعباً لجميع ما اقتضى البيان وذلك يخرجه عن حكم البيان. ومن جهة أخرى أن المسافر اسمٌ للجنس لدخول الألف واللام عليه، فما من مسافر إلاّ وقد انتظمه هذا الحكم، فثبت أن من خرج عنه فليس بمسافر يتعلق بسفره حكمٌ، وفي ذلك أوْضَحُ الدلالة على أن السفر الذي يتعلق به الحكم هو سَفَرُ ثلاثٍ، وأنّ ما دونه لا حُكْمَ له في إفطار ولا قَصْرٍ. ومن جهة أخرى أن هذا الضرب من المقادير لا يؤخذ من طريق المقاييس، وإنما طريقُ إثباته الاتفاق أو التوقيفُ، فلما عدمنا فيما دون الثلاث الاتفاقَ والتوقيفَ ؛ وجب الوقوفُ عند الثلاث لوجود الاتفاق فيه أنه سفرٌ يبيح الإفطار. وأيضاً لما كان لزومُ فرض الصوم هو الأصل واختلفوا في مدة رخصة الإفطار، لم يَجُزْ لنا عند الاختلاف ترك الفرض إلا بالإجماع وهو الثلاث، لأن الفروض يُحتاط لها ولا يُحتاط عليها ؛ وقد رُوي عن عبدالله بن مسعود وعمار وابن عمر أنه لا يفطر في أقلّ من الثلاث.
قوله تعالى :﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ﴾ اختلف الفقهاءُ من السلف في تأويله، فرَوَى المسعودي عن عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال :" أحِيلَ الصيامُ على ثلاثة أحوالٍ ثم أنزل الله :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ إلى قوله :﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ﴾ فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً وأجْزَى عنه، ثم أنزل الله الآية الأخرى :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ﴾ إلى قوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ فأثبت الله تعالى صيامه على المقيم الصحيح، ورخّص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام ". وعن عبدالله بن مسعود وابن عمر وابن عباس وسلمة بن الأكوع وعلقمة والزهري وعكرمة في قوله :﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ﴾ قال :" كان من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى وأطعم كل يوم مسكيناً، حتى نزل :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ ". ورُوي فيه وجه آخر، وهو ما رَوى عبدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي كرّم الله وجهه قال :" من أتى عليه رمضانُ وهو مريضٌ أو مسافر فليُفْطِرْ وليطعم كل يوم مسكيناً صاعاً، فذلك قوله ﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ﴾ " ووجه آخر، وهو ما رَوَى منصور عن مجاهد عن ابن عباس : أنه كان يقرأها :" وعلى الذين يطوْقونه فدية طعام مسكين " قال :" الشيخ الكبير الذي كان يطيق الصوم وهو شاب فأدركه الكِبَرُ وهو لا يستطيع أن يصوم من ضُعْفٍ، ولا يقدر أن يترك الطعام فيفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً نِصْفَ صاع ". وعن سعيد بن المسيب مثله. وكانت عائشة تقرأ :" وعلى الذين يطوقونه ". وروى خالد الحذاء عن عكرمة أنه كان يقرأ :﴿ وعلى الذين يطيقونه ﴾ قال " إنها ليست بمنسوخة ". ورَوَى الحجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي :﴿ وعلى الذين يطيقونه ﴾ قال :" الشيخة ".
قال أبو بكر : فقالت الفرقةُ الأولى من الصحابة والتابعين وهم الأكثرون عدداً " إن فرض الصوم بدياً نزل على وجه التخيير لمن يطيقه بين الصيام وبين الفدية، وإنه نسخ عن المطيق بقوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ " وقالت الفرقة الثانية :" هي غير منسوخة، بل هي ثابتة على المريض والمسافر يفطران ويقضيان وعليهما الفدية مع القضاء ". وكان ابن عباس وعائشة وعكرمة وسعيد بن المسيب يقرؤونها :" وعلى الذين يطوّقونه " فاحتمل هذا اللفظ معاني، منها ما بيّنهُ ابنُ عباس أنه أراد الذين كانوا يطيقونه ثم كبروا فعجزوا عن الصوم فعليهم الإطعام. والمعنى الآخر أنهم يُكَلَّفُونه على مَشَقَّة فيه وهم لا يطيقونه لصعوبته، فعليهم الإطعام. ومعنى آخر، وهو أن حكم التكليف يتعلق عليهم وإن لم يكونوا مطيقين للصوم فيقوم لهم الفدية مقام ما لحقهم من حكم تكليف الصوم، ألا ترى أن حكم تكليف الطهارة بالماء قائم على
قوله تعالى :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ﴾ الآية قال أبو بكر : قد بينا فيما سلف قَوْلَ من قال : إن الفرض الأوّل كان صوم ثلاثة أيام من كل شهر ؛ بقوله :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾، وقوله تعالى :﴿ أياما معدودات ﴾، وأنه نسخ بقوله :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ﴾. وقَوْلَ من قال : إن شهر رمضان بيان للموجب بقوله :﴿ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ وقوله :﴿ أياما معدودات ﴾ فيصير تقديره " أياماً معدودات هي شهر رمضان " فإن كان صوم الأيام المعدودات منسوخاً بقوله :﴿ شهر رمضان ﴾ إلى قوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ فقد انتظم قوله :﴿ شهر رمضان ﴾ نَسْخَ حكمين من الآية الأولى، أحدهما : الأيام المعدودات التي هي غير شهر رمضان، والآخر : التخيير بين الصيام والإطعام في قوله :﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ﴾، على نحو ما قدَّمنا ذكره عن السلف، وإن كان قوله :﴿ شهر رمضان ﴾ بياناً لقوله :﴿ أياماً معدودات ﴾ فقد كان لا محالة بعد نزول فرض رمضان التخييرُ ثابتاً بين الصوم والفدية في أول أحوال إيجابه، فكان هذا الحكم مستقرّاً ثابتاً، ثم ورد عليه النسخ بقوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ ؛ إذْ غير جائز ورودُ النسخ قبل وقت الفعل والتمكُّن منه. والصحيح هو القول الثاني، لاسْتِفَاضَةِ الرواية عن السَّلَفِ بأن التخيير بين الصوم والفدية كان في شهر رمضان وأنه نسخ بقوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾.
فإن قيل : في فحوى الآية دلالة على أن المراد بقوله :﴿ أياما معدودات ﴾ غير شهر رمضان، لأنه لم يَرِدْ إلاّ مقروناً بذكر التخيير بينه وبين الفدية، ولو كان قوله :﴿ أياماً معدودات ﴾ فرضاً مُجْمَلاً موقوفَ الحكم على البيان لما كان لذكر التخيير قبل ثبوت الفرض معنى، قيل له : لا يمتنع ورودُ فَرْضٍ مجملاً مضمناً بحكم مفهوم المعنى موقوف على البيان، فمتى ورد البيان بما أُرِيدَ منه كان الحكمُ المضمن به ثابتاً معه، فيكون تقديره : أياماً معدودات حكمها إذا بين وقتها ومقدارها أن يكون المخاطبون به مخبرين بين الصوم والفدية كما قال تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ] فاسم الأموال عمومٌ يصحّ اعتباره فيما عُلِّقَ به من الحكم، والصدقة مجملة مفتقرة إلى البيان ؛ فإذا ورد بيان الصدقة كان اعتبار عموم اسم الأموال سائغاً فيها، ولذلك نظائر كثيرة. ويحتمل أن يكون قوله :﴿ وعلى الذين يطيقونه ﴾ متأخراً في التنزيل وإن كان مقدَّماً في التلاوة، فيكون تقدير الآيات وترتيب معانيها :" أياما معدودات هي شهر رمضان، ومن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " فيكون هذا حكماً ثابتاً مستقرّاً مدة من الزمان، ثم نزل قوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ فنسخ به التخيير بين الفدية والصوم على نحو ما ذكرنا في قوله عز وجل :﴿ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴾ [ البقرة : ٦٧ ] مؤخراً في اللفظ، وكان ذلك يَعْتَوِرُهُ مَعْنيان، أحدهما أنه وإن كان مؤخَّراً في التلاوة فهو مقدَّم في التنزيل، والثاني : أنه معطوف عليه بالواو وهي لا توجب الترتيب، فكأن الكل مذكور معاً. فكذلك قوله :﴿ أياماً معدودات ﴾ إلى قوله :﴿ شهر رمضان ﴾ يحتمل ما احتملته قصة البقرة.
وأما قوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ ففية عدة أحكام ؛ منها : إيجاب الصيام على من شهد الشهر دون من لم يشهد، فلو كان اقتصر على قوله :﴿ كتب عليكم ﴾ إلى قوله :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ﴾ لاقْتَضَى ذلك لزوم الصوم سائر الناس المكلفين، فلما عقب ذلك بقوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ بيَّن أن لزوم صوم الشهر مقصورٌ على بعضهم دون بعض، وهو من شهد الشهر دون من لم يشهَدْهُ. وقوله تعالى :﴿ فمن شهد منكم الشهر ﴾ يَعْتَوِرُهُ معانٍ، منها : من كان شاهداً يعني مقيماً غير مسافر، كما يقال للشاهد والغائب المقيم والمسافر، فكان لزوم الصوم مخصوصاً به المقيمون دون المسافرين. ثم لو اقتصر على هذا لكان المفهومُ منه الاقتصار بوجوب الصوم عليهم دون المسافرين، إذ لم يُذكروا، فلا شيء عليهم من صوم ولا قضاء، فلما قال تعالى :﴿ ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ﴾ بيَّن حكم المريض والمسافر في إيجاب القضاء عليهم إذا أفطروا، هذا إذا كان التأويل في قوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر ﴾ الإقامة في الحَضَرِ. ويحتمل قوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ أن يكون معنى شَاهَدَ الشهر أي عَلِمَهُ، ويحتمل قوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر ﴾ فمن شَهِدَهُ بالتكليف، لأن المجنون ومَنْ لَيْسَ من أهل التكليف في حكم من ليس بموجود في انتفاء لزوم الفرض عنه، فأطلق اسم شهود الشهر عليهم وأراد به التكليف، كما قال تعالى :﴿ صمّ بكم عمي ﴾ [ البقرة : ١٨، ١٧١ ] لما كانوا في عدم الانتفاع بما سمعوا بمنزلة الأصمّ الذي لا يسمع سمّاهم بُكْماً عُمْياً، وكذلك قوله :﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ﴾ [ ق : ٣٧ ] يعني عقلاً، لأن من لم ينتفعْ بعقله فكأنه لا قلب به، إذْ كان العقلُ بالقلب ؛ فكذلك جائز أن يكون جَعَل شُهُودَ الشهر عبارةً عن كونه من أهل التكليف، إذ كان من ليس من أهل التكليف بمنزلة من ليس بموجود فيه في باب سقوط حكمه عنه.
ومن الأحكام المستفادة بقوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ غير ما قدمنا ذكره تعيين فرض رمضان، فإن المراد بشهود الشهر كونه فيه من أهل التكليف، وأن المجنون ومن ليس من أهل التكليف ؛ غير لازم له صوم الشهر. والله أعلم بالصواب.

باب ذكر اختلاف الفقهاء فيمن جن في رمضان كله أو بعضه


قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزُفر والثوري :" إذا كان مجنوناً في رمضان كله فلا قضاء عليه، وإن أفاق في شيء منه قضاه كله ". وقال مالك بن أنس فيمن بلغ وهو مجنون مطبق فمكث سنين ثم أفاق " فإنه يقضي صيام تلك السنين ولا يقضي الصلاة ". وقال عبيدالله بن الحسن في المعتوه يفيق وقد ترك الصلاة والصوم " فليس عليه قضاء ذلك " وقال في المجنون الذي يجن ثم يفيق أو الذي يصيبه المِرَّة ثم يفيق :" أرى على هذا أن يقضي ". وقال الشافعي في البويطي :" ومن جُنَّ في رمضان فلا قضاء عليه، وإن صحّ في يوم من رمضان قبل أن تغيب الشمس كذلك لا قضاء عليه ".
قال أبو بكر : قوله تعالى :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ يمنع وجوب القضاء على المجنون الذي لم يفق في شيء من الشهر، إذْ لم يكن شَاهَدَ الشهرَ، وشهوده الشهر كونه مكلَّفاً فيه، وليس المجنون من أهل التكليف لقوله عليه السلام :" رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ : عَنِ النَّائم حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ ".
فإن قيل : إذا احتمل قوله ﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ شهوده بالإقامة وترك السفر دون ما ذكرتَهُ من شهوده بالتكليف، فما الذي أوجب حمله على ما ادعيت دون ما ذكرنا من حال الإقامة ؟ قيل له : لما كان اللفظُ محتَملاً للمعنيين وهما غير متنافيين بل جائزٌ إرادتهما معاً وكونهما شرطاً في لزوم الصوم، وَجَبَ حمله عليهما ؛ وهو كذلك عندنا لأنه لا يكون مكلَّفاً بالصوم غير مرخص له في تركه إلا أن يكون مقيماً من أهل التكليف، ولا خلاف أن كونه من أهل التكليف شرطٌ في صحة الخطاب به، وإذا ثبت ذلك ولم يكن المجنون من أهل التكليف في الشهر ؛ لم يتوجّه إليه الخطاب بالصوم، ولم يلزمه القضاء. ويدلّ عليه ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم :" رُفع القلمُ عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يحتلم "، ورَفْعُ القلم هو إسقاط التكليف عنه. ويدلّ عليه أيضاً أن الجنون مَعْنى يستحقّ به الولاية عليه إذا دام به، فكان بمنزلة الصغير إذا دام به الشهر كله في سقوط فرض الصوم. ويفارق الإغماء هذا المعنى بعينه لأنه لا يستحق عليه الولاية بالإغماء وإن طال، وفَارَقَ المغمى عليه المجنونَ والصغير، وأشْبَهَ الإغماءُ النَّوْمَ في باب نَفْي ولاية غيره عليه من أجله.
فإن قيل : لا يصحّ خطاب المغمى عليه كما لا يصح خطاب المجنون، والتكليف زائل عنهما جميعاً، فوجب أن لا يلزمه القضاء بالإغماء. قيل له : الإغماء وإن منع الخطاب بالصوم في حال وجوده ؛ فإن له أصلاً آخر في إيجاب القضاء، وهو قوله :﴿ ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ﴾ وإطلاق اسم المريض على المغمى عليه جائز سائغ، فوجب اعتبار عمومه في إيجاب القضاء عليه وإن لم يكن مخاطباً به حال الإغماء ؛ وأما المجنون فلا يتناوله اسم المريض على الإطلاق، فلم يدخل فيمن أوجب الله عليه القضاء. وأما من أفاق من جنونه في شيء من الشهر، فإنما ألزموه القضاء بقوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ وهذا قد شهد الشهر، إذْ كان من أهل التكليف في جزء منه، إذ لا يخلو قوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر ﴾ أن يكون المراد به شهود جميع الشهر أو شهود جزء منه ؛ وغير جائز أن يكون شرط لزوم الصوم شهود الشهر جميعه من وجهين، أحدهما : تناقض اللفظ به، وذلك لأنه لا يكون شاهداً لجميع الشهر إلا بعد مُضِيِّه كله، ويستحيل أن يكون مُضِيُّه شرطاً للزوم صومه كله، لأن الماضي من الوقت يستحيل فعل الصوم فيه، فعلمنا أنه لم يُرِدْ شهود الشهر جميعه. والوجه الآخر : أنه لا خلاف أن من طرأ عليه شهر رمضان وهو من أهل التكليف أن عليه الصوم في أول يوم منه لشهوده جزء طرأ من الشهر، فثبت بذلك أن شرط تكليف صوم الشهر كونه من أهل التكليف في شيء منه.
فإن قيل : فواجب إذا كان ذلك على ما وصفْتَ من أن المراد إدراك جزء من الشهر أن لا يلزمه إلاّ صوم الجزء الذي أدركه دون غيره، إذ قد ثبت أن المراد شهود بعض الشهر شرطاً للزوم الصوم، فيكون تقديره : فمن شهد بعض الشهر فليصم ذلك البعض.
قيل له : ليس ذلك على ما ظننتَ، مِنْ قِبَلِ أنه لولا قيام الدلالة على أن شرط لزوم الصوم شهود بعض الشهر لكان الذي يقتضيه ظاهر اللفظ استغراق الشهر كله في شرط اللزوم، فلما قامت الدلالة على أن المراد البعض دون الجميع في شرط اللزوم حملناه عليه وبقي حكم اللفظ في إيجاب الجميع إذْ كان الشهر اسماً لجميعه، فكان تقديره : فمن شهد منكم شيئاً من الشهر فليصم جميعه.
فإن قيل : فإذا أفاق وقد بقيت أيامٌ من الشهر، يلزمك أن لا توجب عليه قضاء ما مضى لاستحالة تكليفه صوم الماضي من الأيام، وينبغي أن يكون الوجوب منصرفاً إلى ما بقي من الشهر قيل له : إنما يلزمه قضاء الأيام الماضية لا صومها بعينها، وجائز لزوم القضاء مع امتناع خطابه بالصوم فيما أُمر به من القضاء، ألا ترى أن الناسي والمغمَى عليه والنائم كلّ واحد من هؤلاء يستحيل خطابه بفعل الصوم في هذه الأحوال، ولم تكن استحالة تكليفهم فيها مانعة من لزوم القضاء ؟ وكذلك ناسي الصلاة والنائم عنها، فإن الخطاب بفعل الصوم يتوجه إليه على معنيين، أحدهما : فِعْلُهُ في وقت التكليف، والآخر : قضاؤه في وقت غيره، وإن لم يتوجه إليه الخطاب بفعله في حال الإغماء والنسيان. والله أعلم.

باب الغلام يبلغ والكافر يُسْلم في بعض رمضان


قال الله تعالى :{ فمن شهد منكم الشهر فليصم

باب الأكل والشرب والجماع ليلة الصيام


قال الله تعالى :﴿ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ﴾ إلى قوله :﴿ ثم أتموا الصيام إلى الليل ﴾. ورُوي عن ابن عباس أن ذلك كان في الفرض الأول من الصيام بقوله تعالى :﴿ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ وأنه كان صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأنه كان من حين يصلي العتمة يَحْرُمُ عليهم الطعامُ والشرابُ والجماعُ إلى القابلة ؛ رواه عطية عن ابن عباس. ورَوَى عكرمة عن ابن عباس مثله، ولم يذكر أنه كان في الصوم الأول. وروى عطاء عن ابن عباس " أنه كان إذا صلى العتمة ورقد حرَّم عليه الطعام والشراب والجماع ". وروى الضحاك " أنه كان يحرّم ذلك عليهم من حين يصلّون العتمة ". وعن معاذ " أنه كان يحرم ذلك عليهم بعد النوم ". وكذلك ابن أبي ليلى عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا : ثم إن رجلاً من الأنصار لم يأكل ولم يشربْ حتى نام، فأصبح صائماً فأجهده الصوم، وجاء عمر وقد أصاب امرأته بعدما نام فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى، ﴿ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ﴾ ونَسَخَ به تحريم الأكل والشرب والجماع بعد النوم.
والرَّفثُ المذكور هو الجِمَاعُ لا خلاف بين أهل العلم فيه. واسم الرَّفَثِ يقع على الجماع، وعلى الكلام الفاحش، ويُكْنَى به عن الجماع، قال ابن عباس في قوله :﴿ فلا رفث ولا فسوق ﴾ [ البقرة : ١٩٧ ] إنه مراجعة النساء بذكر الجماع، قال العجاج :
* عن اللَّغَا ورَفْثِ التكلُّمِ *
فأولى الأشياء بمعنى الآية هو الجماع نفسه ؛ لأن رَفَثَ الكلام غير مباح، ومراجعة النساء بذكر الجماع ليس لها حكم يتعلق بالصوم ؛ لا فيما سلف ولا في المستأنف، فعُلِمَ أن المراد هو ما كان محرماً عليهم من الجماع فأبيح لهم بهذه الآية، ونُسخ به ما تقدم من الحظر.
وقوله تعالى :﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾ بمعنى هنّ كاللباس لكم في إباحة المباشرة وملابسة كل واحد منهما لصاحبه ؛ قال النابغة الجعدي :
* إذا ما الضجيعُ ثَنَى عِطْفَهُ * تَثَنَّتْ عليه فكَانتْ لِبَاسا *
ويحتمل أن يريد باللباس الستر ؛ لأن اللباس هو ما يَسْتُرُ. وقد سمَّى الله تعالى الليل لباساً، لأنه يسْتُرُ كلَّ شيء يشتمل عليه بظلامه، فإن كان المعنى ذلك، فالمراد كل واحد منهما سَتَرَ صاحِبَهُ عن التخطِّي إلى ما يَهْتكه من الفواحش، ويكون كل واحد منهما متعففاً بالآخر مستتراً به.
وقوله تعالى :﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ﴾ ذِكْرٌ للحال التي خرج عليها الخطاب واعتداد بالنعمة علينا بالتخفيف بإباحة الجماع والأكل والشرب في ليالي الصوم واستدعاء لشكره عليها.
ومعنى قوله :﴿ تختانون أنفسكم ﴾ أي يستأثر بعضكم بعضاً في مواقعة المحظور من الجماع والأكل والشرب بعد النوم في ليالي الصوم، كقوله :﴿ تقتلون أنفسكم ﴾ [ البقرة : ٨٥ ] يعني يقتل بعضكم بعضاً.
ويحتمل أن يريد به كل واحد في نفسه بأنه يخونها، وسمّاه خائناً لنفسه من حيث كان ضرره عائداً عليه.
ويحتمل أن يريد به أنه يعمل عمل المستأثر له، فهو يعامل نفسه بعمل الخائن لها، والخيانة هي انتقاص الحق على جهة المساترة.
وقوله تعالى :﴿ فتاب عليكم ﴾ يحتمل معنيين، أحدهما : قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم، والآخر : التخفيف عنكم بالرخصة والإباحة، كقوله تعالى :﴿ علم أن لن تحصوه فتاب عليكم ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] يعني والله أعلم : خفف عنكم. وكما قال عقيب ذكر حكم قتل الخطأ :﴿ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله ﴾ [ النساء : ٩٢ ] يعني تخفيفه، لأن قاتل الخطأ لم يفعل شيئاً تلزمه التوبة منه.
وقوله تعالى :﴿ وعفا عنهم ﴾ يحتمل أيضاً العفو عن الذنب الذي اقترفوه بخيانتهم لأنفسهم، ثم لما أحدثوا التوبة منه عفا عنهم في الخيانة، ويحتمل أيضاً التوسعة والتسهيل بإباحة ما أباح من ذلك، لأن العفو يعبّر به في اللغة عن التسهيل، كقول النبي صلى الله عليه وسلم :" أوّلُ الوَقْتِ رِضْوَانُ الله وآخِرُهُ عَفْوُ الله " يعني تسهيله وتوسعته.
وقوله تعالى :﴿ فالآن باشروهن ﴾ إباحة للجماع المحظور ؛ كان قبل ذلك في ليالي الصوم. والمباشرة هي إلصاق البشرة بالبشرة، وهي في هذا الموضع كناية عن الجماع ؛ قال زيد بن أسلم :" هي المواقعة والجماع " وقال في المباشرة مرة :" هي إلصاق الجلد بالجلد "، وقال الحسن :" المباشرة النكاح "، وقال مجاهد :" الجماع ". وهو مثل قوله عز وجل :﴿ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ﴾.
وقوله :﴿ وابتغوا ما كتب الله لكم ﴾. قال عبدالوهاب عن أبيه عن ابن عباس قال :" الولد ". وعن مجاهد والحسن والضحاك والحكم مثله. وروى معاذ بن هشام قال : حدثني أبي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس ﴿ وابتغوا ما كتب الله لكم ﴾ قال :" ليلة القدر ". وقال قتادة في قوله :﴿ وابتغوا ما كتب الله لكم ﴾ قال :" الرخصة التي كتب الله لكم ".
قال أبو بكر : إذا كان المراد بقوله :﴿ فالآن باشروهن ﴾ الجماع، فقوله :﴿ وابتغوا ما كتب الله لكم ﴾ لا ينبغي أن يكون محمولاً على الجماع لما فيه من تكرار المعنى في خطاب واحد، ونحن متى أمكننا استعمال كل لفظ على فائدة مجددة فغير جائز الاقتصار بها على فائدة واحدة، وقد أفاد قوله :﴿ فالآن باشروهن ﴾ إباحة الجماع، فالواجب أن يكون قوله :﴿ وابتغوا ما كتب الله لكم ﴾ على غير الجماع.
ثم لا يخلو من أن يكون المراد به ليلة القدر على ما رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس، أو الولد على ما رُوي عنه وعن غيره ممن قدمنا ذكره، أو الرخصة على ما رُوي عن قتادة. فلما كان اللفظ محتملاً لهذه المعاني ولولا احتماله لها لما تأوّله السلف عليها وجب أن يكون محمولاً على الجميع، وعلى أن الكل مراد الله تعالى، فيكون اللفظ منتظماً لطلب ليلة القدر في رمضان ولاتّباع رخصة الله تعالى ولطلب الولد، فيكون العبد مأجوراً على ما يقصده من ذلك، ويكون الأمر بطلب الولد على معنى ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ فإنّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ القيامة "، وكما سأل زكريا ربه أن يرزقه ولداً بقوله :﴿ فهب لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب ﴾ [ مريم : ٦ ].
وقوله :﴿ وكلوا واشربوا ﴾ إطلاقٌ مِنْ حَظْرٍ، كقوله :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾ [ الجمعة : ١٠ ]، وقوله :﴿ وإذا حللتم فاصطادوا ﴾ [ المائدة : ٢ ]، ونظائر ذلك من الإباحة الواردة بعد الحظر، فيكون حكم اللفظ مقصوراً على الإباحة لا على الإيجاب ولا الندب.
وأما قوله :﴿ حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ﴾ قال أبو بكر : قد اقتضت الآية إباحة الأكل والشرب والجماع إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. رُوي أن رجالاً منهم حملوا ذلك على حقيقة الخيط الأبيض والأسود، وتَبَيُّنِ أحدهما من الآخر. منهم عدي بن حاتم ؛ حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا حصين بن نمير قال وحدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا ابن إدريس المعنيّ عن حصين عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية :﴿ حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ﴾ قال : أخذت عقالاً أبيض وعقالاً أسود فوضعتها تحت وسادتي، فنظرت فلم أتبين، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال :" إنّ وِسَادَك إذاً لعَرِيضٌ طَوِيلٌ، إنّما هو اللّيلُ والنَّهار " قال عثمان :" إنّما هُوَ سَوَادُ اللَّيل وبَيَاضُ النهار ". قال وحدثنا أبو محمد جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد اليماني قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا ابن أبي مريم عن أبي غسان محمد بن مطرف قال : أخبرنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال : لما نزل قوله :﴿ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ﴾ ولم ينزل ﴿ من الفجر ﴾ قال : فكان رجالٌ إذا أرادوا الصوم رَبَط أحدُهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، فأنزل الله بعد ذلك :﴿ من الفجر ﴾ فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار.
قال أبو بكر : إذا كان قوله ﴿ من الفجر ﴾ مبيناً فيه فلا إلباس على أحد في أنه لم يُرِدْ به حقيقة الخيط، لقوله :﴿ من الفجر ﴾ ويشبه أن يكون إنما اشتبه على عدي وغيره ممن حمل اللفظ على حقيقته قبل نزول قوله ﴿ من الفجر ﴾ وذلك لأن الخيط اسم للخيط المعروف حقيقة، وهو مجاز واستعارة في سواد الليل وبياض النهار. وجائز أن يكون ذلك قد كان شائعاً في لغة قريش ومن خُوطبوا به ممن كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية، وأن عدي بن حاتم ومن أشكل عليه ذلك لم يكونوا عرفوا هذه اللغة ؛ لأنه ليس كل العرب تعرف سائر لغاتها، وجائز مع ذلك أن يكونوا عرفوا ذلك اسماً للخيط حقيقة ؛ ولبياض النهار وسواد الليل مجازاً، ولكنهم حملوا اللفظ على الحقيقة، فلما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بمراد الله تعالى منه، وأنزل الله تعالى بعد ذلك :﴿ من الفجر ﴾ فزال الاحتمال وصار المفهوم من اللفظ سواد الليل وبياض النهار، وقد كان ذلك اسماً لسواد الليل وبياض النهار في الجاهلية قبل الإسلام مشهوراً ذلك عندهم ؛ قال أبو داود الإيادي :
* ولما أضاءَتْ لنا ظُلْمَةٌ * ولاَحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أنارَا *
وقال آخر في الخيط الأسود :
* قد كان يبدُو أو بدتْ تباشِرُهْ * وسِدْفُ الخيطِ البَهِيمِ ساتِرُه *
فقد كان ذلك مشهوراً في اللسان قبل نزول القرآن به، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : الخيط الأبيض هو الصبح والخيط الأسود الليل ؛ قال : والخيط هو اللون.
فإن قيل : كيف شَبَّهَ الليل بالخيط الأسود وهو مشتمل على جميع العالم، وقد علمنا أن الصبح إنما شُبِّهَ بالخيط لأنه مستطيل أو مستعرض في الأفق، فأما الليل فليس بينه وبين الخيط تشابه ولا مشاكلة ؟ قيل له : إن الخيط الأسود هو السواد الذي في الموضع قبل ظهور الخيط الأبيض فيه، وهو في ذلك الموضع مساوٍ للخيط الأبيض الذي يظهر بعده، فمن أجل ذلك سُمِّي الخيط الأسود.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحديد الوقت الذي يَحْرُمُ به الأكل والشرب على الصائم، ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا حماد بن زيد عن عبدالله بن سوادة القشيري عن أبيه قال : سمعت سمرة بن جندب يخطب وهو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بلالٍ ولا بَيَاضُ الأُفُقِ الذي هكذا حتى يَسْتَطِيرَ ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن عيسى قال : حدثنا ملازم بن عمرو عن عبدالله بن النعمان قال : حدثني قيس بن طلق عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كُلُوا واشْرَبُوا ولا يَهِيدَنَّكُمُ السَّاطِعُ المُصْعِدُ فكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمُ الأحمرَ ". فذكر في هذا الخبر الأحمر، ولا خلاف بين المسلمين أن الفجر الأبيض المعترض في الأفق قبل ظهور الحمرة ؛ يحرم به الطعام والشراب على الصائم ؛ وقال عليه السلام لعدي

باب ما يحله حكم الحاكم وما لا يحله


قال الله تعالى :﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم ﴾ والمراد والله أعلم : لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، كما قال تعالى ﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ [ النساء : ٢٩ ] وقوله :﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾ [ الحجرات : ١١ ] يعني بعضكم بعضاً، وكما قال عليه السلام :" أمْوَالُكمْ وأعْراضُكُمْ عَلَيْكُم حَرَامٌ " يعني أموال بعضكم على بعض. وأكل المال بالباطل على وجهين : أحدهما أخْذُه على وجه الظلم والسرقة والخيانة والغصب وما جرى مجراه، والآخر : أخْذُهُ من جهة محظورة، نحو القمار وأجرة الغناء والقيان والملاهي والنائحة وثمن الخمر والخنزير والحر، وما لا يجوز أن يتملكه وإن كان بطيبة نفس من مالكه. وقد انتظمت الآية حَظْرَ أكلها من هذه الوجوه كلها. ثم قوله :﴿ ولا تدلوا بها إلى الحكام ﴾ فيما يرفع إلى الحاكم فيحكم به في الظاهر ليحلّها، مع علم المحكوم له أنه غير مستحق له في الظاهر ؛ فأبان تعالى أن حكم الحاكم به لا يُبِيحُ أخْذَه، فزجر عن أكْلِ بعضنا لمال بعض بالباطل. ثم أخبر أن ما كان منه بحكم الحاكم فهو في حَيِّز الباطل الذي هو محظور عليه أخْذُهُ، وقال في آية أخرى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ﴾ [ النساء : ٢٩ ] فاستثنى من الجملة ما وقع من التجارة بتراض منهم به ولم يجعله من الباطل، وهذا هو في التجارة الجائزة دون المحظورة.
وما تَلَوْنا من الآي أصلٌ ؛ في أن حكم الحاكم له بالمال لا يبيح له أخْذَ المال الذي لا يستحقه. وبمثله وردت الأخبارُ والسّنةُ عن النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا عبدالعزيز بن أبي حازم، عن أسامة بن زيد، عن عبدالله بن رافع، عن أم سلمة قالت : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد دَرَسَتْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنّما أقْضِي بَيْنَكُما برَأْي فيما لم يَنْزِلْ عَلَيَّ فيه، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحُجّةٍ أراها فاقْتَطَعَ بها قِطْعَةً ظُلْماً فإنّما يَقْتَطِعُ قِطْعَة مِنَ النّارِ يأتي بها إسطاماً يوم القيامة في عُنُقِهِ " فبكى الرجلان، فقال كل واحد منهما : يا رسول الله حقّي له، فقال عليه السلام :" لا، ولكن اذْهَبَا فتوخّيا للحَقِّ ثم اسْتهمَا وليُحْلِلْ كلُّ واحدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ ". ومعنى هذا الخبر مواطىءٌ لما ورد به نصّ التنزيل في أن حكم الحاكم له بالمال لا يُبِيحُ له أخذه. وقد حَوَى هذا الخبر معاني أُخر، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يقضي برأيه واجتهاده فيما لم ينزل به وَحيٍ لقوله عليه السلام :" أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل عليَّ فيه ". وقد دلّ ذلك أيضاً على أن الذي كُلِّفَ الحاكمُ من ذلك الأمر الظاهر، وأنه لم يكلَّف المُغَيَّبَ عند الله تعالى. وفيه الدلالة على أن كل مجتهد فيما يَسُوغ فيه الاجتهاد مُصِيبٌ، إذْ لم يكلف غير ما أدّاه إليه اجتهاده، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه مُصِيبٌ، في حكمه بالظاهر وإن كان الأمْرُ في المغيب خلافه ولم يُبِحْ مع ذلك للمقضيِّ له أخْذَ ما قَضَى له به ؟ ودلّ أيضاً على أن الحاكم جائزٌ له أن يُعطي إنساناً مالاً ويأمر له به وإن لم يَسَعِ المحكومُ له أخْذه إذا علم أنه غير مستحق. ودلّ أيضاً على جواز الصلح عن غير إقرار، لأن واحداً منهما لم يُقِرَّ بالحق ؛ وإنما بذل ماله لصاحبه، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم بالصلح وأن يَسْتَهِمَا عليه، والاسْتِهامُ هو الاقتسام. ويدلّ على أن القسمة في العقار وغيره واجبة إذا طلبها أحدهما. ويدلّ أيضاً على أن الحاكم يأمر بالقسمة. ويدلّ على جواز البراءة من المجاهيل أيضاً، لأنه أخبر بجهالة المواريث التي قد دَرَسَتْ ؛ ثم أمرهما مع ذلك بالتحليل، وعلى أنه لو لم يذكر فيه أنها مواريث قد دَرَسَتْ لكان يقتضي قوله :" وليحلل كل واحد منكما صاحبه " جواز البراءة من المجاهيل لعموم اللفظ، إذْ لم يفرق بين المجهول من ذلك والمعلوم. ودلّ أيضاً على جواز تراضي الشريكين على القسمة من غير حكم الحاكم. ودلّ أيضاً على أن مَنْ له قِبَلَ رجلٍ حقٌّ فوهبه له فلم يقبله أنه لا يصحّ ويعود الملك إلى الواهب، لأن كل واحد منهما ردَّ ما وهبه الآخر وجعل حقَّ نفسه لصاحبه، ولما لم يفرّقْ في ذلك بين الأعيان والديون ؛ وجب أن يستوي حكم الجميع إذا ردّ البراءة والهبة في وجوب بطلانهما. ويدلّ أيضاً على أن قول القائل :" لفلان مِنْ مالي ألفُ درهم " أنه هِبَةٌ منه وليس بإقرار ؛ لأنه عليه السلام لم يجعل قول كل واحد منهما :" الذي لي له " إقراراً ؛ لأنه لو جعل إقراراً لجاز عليه ولم يحتاجا بعد ذلك إلى الصلح والتحليل والقسمة ؛ وكذلك قال أصحابنا فيمن قال :" لفلان من مالي ألف درهم ". ويدل أيضاً على جواز التحرِّي والاجتهاد في موافقة الحق وإن لم يكن يقيناً، لقوله عليه السلام :" وتَوَخَّيا للحقِّ " أي تحرِّيا واجتهدا. ويدلّ أيضاً على أن الحاكم جائزٌ له أن يردّ الخصوم للصلح إذا رأى ذلك، وأن لا يحملهما على مُرِّ الحكم ؛ ولهذا قال عمر :" ردوا الخصوم كي يصطلحوا ".
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن كثير قال : أخبرنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنّما أنا بَشَرٌ وإنكُمْ تَخْتَصِمُونَ إليَّ، ولَعَلَّ بَعْضكُمْ أنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ فأقْضِيَ له على نحو مما أسْمَعُ منه، فمن قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أخِيهِ بشيءٍ فلا يَأخُذْ منه شيئاً ؛ فإنما أقْطعُ له قِطْعَةً مِنَ النّارِ ".
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الربيع بن نافع قال : حدثنا ابن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن عبدالله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما لم تكن لهما بَيّنةٌ إلاّ دعواهما، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما :" حقِّي لك "، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم :" أمّا إذْ فَعَلْتُما ما فَعَلْتُما فاقْتَسِما وتَوَخَّيا الحَقُّ ثُمَّ اسْتهمَا ثم تَحَالا ".
وهذان الحديثان في معنى الحديث الذي قدّمناه في حَظْرِ أخْذِ ما يحكم له به الحاكم إذا علم أنه غير مستحقّ له، وفيهما فوائد أخر، منها : أن قوله في حديث زينب بنت أم سلمة :" أقضي له على نحوٍ مما أسْمَعُ " يدلّ على جواز إقرار المقرّ بما أقرَّ به على نفسه، لإخباره أنه يقضي بما يسمع، وكذلك قد اقتضى الحكم بمقتضى ما يسمعه من شهادة الشهود واعتبار لفظهما فيما يقتضيه ويوجبه. وقال في حديث عبدالله بن رافع هذا :" اقْتَسِما وتَوَخَّيَا الحقَّ ثم اسْتَهما " وهذا الاسْتِهامُ هو القُرْعَةُ التي يقرع بها عند القسمة ؛ وفيه دلالة على جواز القرعة في القسمة.
والذي ورد التنزيل من حَظْرِ ما حكم له به الحاكم إذا علم المحكوم له أنه غير محكوم له بحقّ ؛ قد اتفقت الأمة عليه فيمن ادّعَى حقّاً في يدي رجل وأقام بَيِّنة فقضى له، أنه غير جائز له أخْذُهُ، وأنّ حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل ذلك محظوراً عليه.
واختلفوا في حُكْمِ الحاكم بعقد أو فَسْخِ عَقْدٍ بشهادة شهود ؛ إذا علم المحكوم له أنهم شهود زور، فقال أَبو حنيفة :" إذا حكم الحاكم بِبَيِّنَةٍ بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يُبتدأ فهو نافذ ؛ ويكون كعقد نافذ عَقَدَاه بينهما وإن كان الشهود شهود زور ". وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي :" حُكْمُ الحاكم في الظاهر كهو في الباطن ". وقال أبو يوسف :" فإن حكم بفرقة لم تحلّ للمرأة أن تتزوج ولا يَقْرَبُها زوجها أيضاً ".
قال أبو بكر : رُوي نحو قول أبي حنيفة عن عليّ وابن عمر والشعبي، ذَكَرَ أبو يوسف عن عمرو بن المقدام عن أبيه أن رجلاً من الحيّ خطب امرأة وهو دونها في الحسب، فأبت أن تتزوجه، فادّعَى أنه تزوجها وأقام شاهدين عند عليّ، فقالت : إني لم أتزوجه، قال : قد زَوَّجكِ الشاهدان ؛ فأمْضَى عليهما النكاح. قال أبو يوسف : وكَتب إلى شعبة بن الحجاج يرويه عن زيد أن رجلين شَهِدَا على رجل أنه طلّق امرأته بزور، ففرّق القاضي بينهما، ثم تزوجها أحد الشاهدين. قال الشعبي : ذلك جائز. وأما ابن عمر فإنه باع عبداً بالبراءة، فرفعه المشتري إلى عثمان، فقال عثمان : أتحلف بالله ما بِعْتَهُ وبه داءٌ كَتَمْتَهُ ؟ فأبى أن يحلف ؛ فردَّه عليه عثمان، فباعه من غيره بفضل كثير. فاستجاز ابنُ عمر بَيْعَ العبد مع علمه بأن باطن ذلك الحكم خلاف ظاهر، وأن عثمان لو علم منه مثل علم ابن عمر لما ردّه، فثبت بذلك أنه كان من مذهبه أنّ فَسْخَ الحاكم العَقْدَ يوجب عَوْدَهُ إلى ملكه وإن كان في الباطن خلافه.
ومما يدلّ على صحة قول أبي حنيفة في ذلك حديثُ ابن عباس في قصة هلال بن أمية ولِعانُ النبي صلى الله عليه وسلم بينهما : ثم قال :" إنْ جَاءَتْ به عَلَى صِفَة كَيْتَ وكَيْتَ فهو لِهلالِ بن أمَيَّةَ، وإن جَاءَتْ به عَلَى صِفَةٍ أخْرَى فهو لشَريك بن سَحْمَاءَ الذي رُميتْ به " فجاءت به على الصفة المكروهة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لولا ما مَضَى مِنَ الأيْمانِ لكان لي ولها شَأنٌ " ولم تَبْطُلِ الفرقة الواقعة بلعانهما مع علمه بكذب المرأة وصدق الزوج، فصار ذلك أصلاً في أن العقود وفسخها متى حَكَم بها الحاكم مما لو ابتدأ أيضاً بحكم الحاكم وقع.
ويدلّ على ذلك أيضاً أن الحاكم مأمور بإمضاء الحكم عند شهادة الشهود الذين ظَاهِرُهُم العدالة، ولو توقّف عن إمضاء الحكم بما شهد به الشهود من عقد أو فَسْخِ عَقْدٍ لكان آثماً تاركاً لحكم الله تعالى، لأنه إنما كُلِّفَ الظاهر ولم يكلف عِلْمَ الباطن المغَيَّب عند الله تعالى. وإذا مضى الحكم بالعقد صار ذلك كعقد مبتدأ بينهما، وكذلك إذا حكم بالفسخ صار كفسخ فيما بينهما ؛ وإنما نفذ العقد والفسخ إذا تراضى المتعاقدان بحكم الله عز وجل بذلك، وكذلك حكم الحاكم.
فإن قيل : فلو حكم بشهادة عبيد لم ينفذ حكمه إذا تبين مع كونه مأموراً بإمضاء الحكم به. قيل له : إنما لم ينفذ حكمه مِنْ قِبَلِ أن الرِّقَّ مَعْنَى يصح ثبوته من طريق الحكم، وكذلك الشرك والحدّ في القذف، فجاز فسخ حكم الحاكم به بعد وقوعه ؛ ألا ترى أنه يصحّ قيام البينة به والخصومة فيه عند الحاكم ؟ فلذلك جاز أن لا ينفذ حكم الحاكم بشهادة هؤلاء، لوجود ما ذكرنا من المعاني التي يصحّ إثباتها من طريق الحكم. وأما الفسق وجرح الشهادة من قبل أنهم شهود زور، فليس هو معنى يصحّ إثباته من طريق الحكم ولا تقبل فيه الخصومة، فلم ينفسخ ما أمضاه الحاكم. فإن ألزمنا على العقد ؛ وفسخه الحكم بملك مطلق ؛ ولم نُبِحْ له أخْذَهُ ؛ لم يلزمنا ذلك، لأن الحاكم عندنا إنما يحكم له بالتسلي
قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الأهِلّة قل هي مواقيت للناس والحج ﴾ وإنما يسمَّى هلالاً في أول ما يُرى وما قرب منه لظهوره في ذلك الوقت بعد خفائه ؛ ومنه الإهلال بالحجِّ، وهو إظهار التلبية، واستهلالُ الصبيّ : ظهورُ حياته بصوت أو حركة. ومن الناس من يقول : إن الإهلال هو رَفْعُ الصوت، وإن إهلال الهلال من ذلك لرفع الصوت بذكره عند رؤيته. والأوّل أبْيَنُ وأظْهَرُ، ألا ترى أنهم يقولون : تهلل وجهه، إذا ظهر منه البشر والسرور وليس هناك صوت مرفوع ؟ وقال تأبّط شرّاً :
* وإذا نَظَرْتَ إلى أسِرّةِ وَجْهِهِ * بَرَقَتْ كَبَرْقِ العَارِضِ المُتَهلل *
يعني الظاهر.
وقد اختلف أهلُ اللغة في الوقت الذي يسمَّى هلالاً، فمنهم من قال : يسمَّى هلالاً لليلتين من الشهر، ومنهم من قال : يُسمَّى لثلاث ليال ثم يُسمَّى قمراً. وقال الأصمعي : يسمَّى هلالاً حتى يحجر، وتحجيره أن يستدير بخطة دقيقة، ومنهم من يقول : يسمَّى هلالاً حتى يبهر ضوءه سوادَ الليل، فإذا غلب ضوءه سُمِّي قمراً ؛ قالوا : وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة. وقال الزجّاج : الأكثر يسمونه هلالاً لابن ليلتين.
وقيل إن سؤالهم وقع عن وجه الحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها، فأجابهم أنها مقادير لما يحتاج إليه الناس في صومهم وحجهم وعُدَدِ نسائهم ومحلّ الديون وغير ذلك من الأمور، فكانت هذه منافع عامة لجميعهم، وبها عرفوا الشهور والسنين وما لا يحصيه من المنافع والمصالح غيرُ الله تعالى.
وفي هذه الآية دلالة على جواز الإحرام بالحج في سائر السنة، لعموم اللفظ في سائر الأهِلَّةِ أنها مواقيت للحج، ومعلوم أنه لم يرد به أفعال الحج، فوجب أن يكون المراد الإحرام.
وقوله تعالى :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ لا ينفي ما قلنا، لأن قوله :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ فيه ضمير لا يَسْتَغْني عنه الكلام، وذلك لاستحالة كون الحج أشهراً، لأن الحجّ هو فعل الحاجِّ، وفعلُ الحاجِّ لا يكون أشهراً، لأن الأشهر إنما هي مرور الأوقات، ومرور الأوقات هو فعل الله ليس بفعل للحاجّ، والحجُّ فعل الحاج ؛ فثبت أن في الكلام ضميراً لا يَسْتَغني عنه ؛ ثم لا يخلو ذلك الضمير من أن يكون فعل الحج أو الإحرام بالحج، وليس لأحد صَرْفُهُ إلى أحد المعنيين دون الآخر إلاّ بدلالة، فلما كان في اللفظ هذا الاحتمال لم يَجُزْ تخصيص قوله تعالى :﴿ قل هي مواقيت للناس والحج ﴾ به، إذ غير جائز لنا تخصيص العموم بالاحتمال. والوجه الآخر : أنه إن كان المراد إحرام الحج فليس فيه نفيٌ لصحة الإحرام في غيرها، وإنما فيها إثبات الإحرام فيها ؛ وكذلك نقول إن الإحرام جائز فيها بهذه الآية وجائز في غيرها بالآية الأخرى، إذ ليس في إحداهما ما يوجِبُ تخصيص الأخرى به، والذي يقتضيه ظاهر اللفظ أن يكون المراد أفعال الحج لا إحرامه، إلا أن فيه ضمير حرف الظرف وهو " في " فمعناه حينئذ " الحج في أشهر معلومات " وفيه تخصيص أفعال الحج في هذه الأشهر دون غيرها. وكذلك قال أصحابُنا فيمن أحرم بالحج قبل أشْهُرِ الحج فطاف له وسَعَى بين الصفا والمروة قبل أشهر الحج " إن سَعْيَهُ ذلك لا يجزيه وعليه أن يعيده، لأن أفعال الحج لا تجزى قبل أشهر الحج " فعلى هذا يكون معنى قوله :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ أن أفعاله في أشهر الحج معلومات.
وقوله تعالى :﴿ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ﴾ عمومٌ في إحرام الحج لا في أفعال الحج الموجبة، وغير جائز أن يكون مراده في قوله :﴿ قل هي مواقيت للناس والحج ﴾ أهلة مخصوصة بأشهر الحج، كما لا يجوز أن تكون هذه الأهلّة في مواقيت الناس وآجال ديونهم وصومهم وفطرهم ؛ مخصوصة بأشهر الحج دون غيرها ؛ فلما ثبت عموم المراد في سائر الأهِلّة فيما تضمنه اللفظ من مواقيت الناس، وجب أن يكون ذلك حكمه في الحجّ، لأن الأهلة المذكورة لمواقيت الناس هي بعينها الأهلة المذكورة للحج. وعلى أنّا لو حملناه على أفعال الحج وجعلناها مقصورة المعنى على المذكور في الآية في قوله تعالى :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ لأدَّى ذلك إلى إسقاط فائدته ؛ وإزالة حكمه ؛ وتخصيص لفظه بغير دلالة توجب الاقتصار به على معنى قوله :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾، فلما وجب أن يُوفى كل لفظ حقه مما اقتضاه من الحكم والفائدة ؛ وجب أن يكون محمولاً على سائر الأهلة، وأنها مواقيت لإحرام الحج. وسنتكلم في المسألة عند بلوغنا إليها إن شاء الله.
وقوله :﴿ قل هي مواقيت للناس ﴾ قد دلّ على أن العدتين إذا وجبتا من رجلٍ واحد يُكْتَفَى فيهما بمضيِّها لهما جميعاً ؛ ولا تستأنف لكل واحد منهما حيضاً ولا شهوراً غير مدة الأخرى، لأن الله تعالى لم يخصص إحداهما حين جعلها وقتاً لجميع الناس ببعضه دون بعض، ومضيُّ مدة العدة هو وقت لكل واحدة منهما لقوله :﴿ فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ﴾ فجعل العدة حقّاً للزوج. ثم لما كانت العدّة مرور الأوقات، وقد جعل الله الأهلة وقتاً للناس كلهم، وَجَبَ أن يُكْتَفَى بمضيِّ مدة واحدة للعدتين، ألا ترى أن قوله تعالى :﴿ قل هي مواقيت للناس ﴾ قد عُقِلَ من مفهوم خطابه أنها تكون مدة لإجارة جميع الناس ومحلاً لجميع ديونهم، وإن كان واحد منهم لا يحتاج إلى أن يختص لنفسه ببعض الأهلة دون بعض ؟ كذلك مفهوم الآية في العدة قد اقتضى مضيَّ مدة واحدة لرجلين. وقد دل قوله تعالى :﴿ قل هي مواقيت للناس ﴾ على أن العدة إذا كان ابتداؤها بالهلال ؛ وكانت بالشهور ؛ أنه إنما يجب استيفاؤها بالأهلة ثلاثة أشهر إن كانت ثلاثة، وإن كانت عدة الوفاة فأربعة أشهر بالأهلة وأن لا تعتبر عدد الأيام. وكذلك يدلّ على أن شهر الصوم معتبرٌ بالهلال في ابتدائه وانتهائه، وأنه إنما يرجع إلى العدد عند فقد رؤية الهلال. ويدلّ أيضاً على أن من آلى من امرأته في أول الشهر ؛ أن مُضِيّ الأربعة الأشهر معتبرٌ بالأهلة في إيقاع الطلاق دون اعتبار الثلاثين، وكذلك هذا في الإجارات والأيمان وآجال الديون، متى كان ابتداؤها بالهلال كان جميعها كذلك وسقط اعتبار عدد الثلاثين ؛ وبذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم :" صُومُوا لرُؤْيَتِهِ وأفْطِرُوا لرُؤْيَتِهِ فإنْ غُمَّ عليكم فعُدّوا ثلاثين " بالرجوع إلى اعتبار العدد عند فقد الرؤية.
أما قوله تعالى :﴿ وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ﴾ فإنه قد قيل فيه ما حدثنا عبدالله بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن الزهري قال :" كان ناسٌ من الأنصار إذا أهلّوا بالعمرة لم يَحُلْ بينهم وبين السماء شيءٌ ويتحرجون من ذلك، وكان الرجل يخرج مُهِلاًّ بالعمرة فيبدو له الحاجة بعدما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يَحُول بينه وبين السماء، فيفتح الجدار من ورائه ثم يقوم على حجرته فيأمر بحاجته فيخرج من بيته ". وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَّ من الحديبية بالعمرة فدخل حجرته، فدخل في أثْرِهِ رجلٌ من الأنصار من بني سلمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" إنّي أحْمَس " قال الزهري : وكانت الحُمْسُ لا يبالون ذلك فقال الأنصاري : وأنا أحمس يقول وأنا على دينك فأنزل الله تعالى :﴿ ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ﴾.
وروى ابن عباس والبراء وقتادة وعطاء :" أنه كان قوم من الجاهلية إذا أحرموا نَقَبُوا في ظهور بيوتهم نَقْباً يدخلون منه ويخرجون، فنُهوا عن التديُّن بذلك وأمُرِوا أن يأتوا البيوت من أبوابها ". وقيل فيه إنه مَثلٌ ضربه الله لهم بأن يأتوا البِرَّ من وجهه، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به. وليس يمتنع أن يكون مراد الله تعالى به جميع ذلك، فيكون فيه بيان أن إتيان البيوت من ظهورها ليس بقربة إلى الله تعالى، ولا هو مما شَرَعَهُ ولا ندب إليه، ويكون مع ذلك مثلاً أرشدنا به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي أمر الله تعالى به وندب إليه، وفيه بيان أن ما لم يشرعه قربة ولا ندب إليه ؛ لا يصير قربة ولا ديناً بأن يتقرب به متقرب ويعتقده دِيناً.
ونظيره من السنّة ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ نَهيِه عن صَمْتِ يوم إلى الليل، وأنه رأى رجلاً في الشمس فقال :" ما شأنه ؟ " فقيل : إنه نَذَرَ أن يقوم في الشمس ؛ فأمره بأن يتحَوّل إلى الفيء. وأنه عليه السلام نهى عن الوصال لأن الليل لا صوم فيه، فنهى أن يُعتقد صَوْمُهُ وتَرْكُ الأكل فيه قربة. وهذا كله أصلٌ في أن من نذر ما ليس بقربة لم يلزمه بالنذر ولا يصير قربة بالإيجاب. ويدل أيضاً على أن ما ليس له أصل في الوجوب وإن كان قربة لا يصير واجباً بالنذر، نحو عيادة المريض وإجابة الدعوة والمشْي إلى المشجد والقعود فيه ؛ والله تعالى أعلم.

باب فرض الجهاد


قال الله تعالى :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين ﴾.
قال أبو بكر : لم تختلف الأمة أن القتال كان محظوراً قبل الهجرة بقوله :﴿ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم وما يُلَقّاها إلاّ الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ﴾ [ فصلت : ٣٤ و ٣٥ ] وقوله :﴿ فاعف عنهم واصفح ﴾ [ المائدة : ١٣ ] وقوله ﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] وقوله :﴿ فإن تولّوا فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾ [ آل عمران : ٢٠ ] وقوله :﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ]. ورَوَى عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن عبدالرحمن بن عوف وأصحاباً له كانت أموالهم بمكة فقالوا : يا رسول الله كنا في عِزّة ونحن مشركون ؛ فلما آمنّا صرنا أذلاّء ! فقال عليه السلام :" إني أمرتُ بالعَفْوِ فلا تُقَاتِلُوا القَوْمَ " فلما حَوَّله إلى المدينة أُمِرُوا بالقتال فكَفّوا، فأنزل الله :﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس ﴾ [ النساء : ٧٧ ]. وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله عز وجل :﴿ لست عليهم بمصيطر ﴾ [ الغاشية : ٢٢ ] وقوله :﴿ وما أنت عليهم بجبار ﴾ [ ق : ٥ ] وقوله :﴿ فاعف عنهم واصفح ﴾ [ المائدة : ١٣ ] وقوله :﴿ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ﴾ [ الجاثية : ١٤ ] قال : نسخ هذا كله قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ] وقوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] إلى قوله :﴿ صاغرون ﴾ [ التوبة : ٢٩ ].
وقد اختلف السلف في أول آية نزلت في القتال، فرُوي عن الربيع بن أنس وغيره أن قوله :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ أول آية نزلت. ورُوي عن جماعة آخرين، منهم أبو بكر الصديق والزهري وسعيد بن جبير : أن أول آية نزلت في القتال :﴿ أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ﴾ [ الحج : ٣٩ ] الآية ؛ وجائز أن يكون ﴿ وقاتلوا في سبيل الله ﴾ أول آية نزلت في إباحة قتال من قاتلهم، والثانية في الإذْن في القتال عامّة لمن قاتلهم ومن لم يقاتلهم من المشركين.
وقد اختلف في معنى قوله :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ فقال الربيع ابن أنس :" هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقاتل من قاتله من المشركين، ويكفّ عمن كفَّ عنه إلى أن أُمِرَ بقتال الجميع ".
قال أبو بكر : وهو عنده بمنزلة قوله :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ وقال محمد بن جعفر بن الزبير :" أمر أبو بكر بقتال الشمامسة لأنهم يشهدون القتال وأن الرهبان من رأيهم أن لا يقاتلوا، فأمر أبو بكر رضي الله عنه بأن لا يقاتلوا " وقد قال الله تعالى ﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ فكانت الآية على تأويله ثابتة الحكم ليس فيها نسخ، وعلى قول الربيع بن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا مأمورين بعد نزول الآية بقتال من قاتل دون من كفَّ، سواء كان ممن يتدين بالقتال أو لا يتديّن. ورُوْي عن عمر بن عبدالعزيز في قوله :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ أنه في النساء والذرية ومن لم يَنْصُبْ لك الحرب منهم. كأنه ذهب إلى أن المراد به من لم يكن من أهل القتال في الأغلب لضعفه وعجزه، لأن ذلك حال النساء والذرية ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في آثار شائعة النهي عن قتل النساء والولدان، وروي عنه أيضاً النهي عن قتل أصحاب الصوامع، رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان معنى الآية على ما قال الربيع بن أنس أنه أمر فيها بقتال من قاتل والكفّ عمن لا يقاتل، فإن قوله :﴿ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ﴾ [ التوبة : ١٢٣ ] ناسخٌ لمن يَلي، وحكم الآية كان باقياً فيمن لا يلينا منهم، ثم لما نزل قوله :﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ﴾ إلى قوله :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ﴾ فكان ذلك أعمّ من الأول الذي فيه الأمر بقتال من يلينا دون من لا يلينا، إلا أن فيه ضرباً من التخصيص بحظره القتال عند المسجد الحرام إلا على شرط أن يقاتلونا فيه بقوله :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ﴾ ثم أنزل الله فرض قتال المشركين كافة بقوله :﴿ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] وقوله :﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم ﴾ [ البقرة : ٢١٦ ] وقوله تعالى :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ]. فمن الناس من يقول إن قوله :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ﴾ منسوخٌ بقوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾. ومنهم من يقول : هذا الحكم ثابت، لا يقاتل في الحرم إلا من قاتل. ويؤيد ذلك ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة :" إنّ مَكةَ حَرَامٌ حَرَّمَها الله يَوْمَ خَلَقَ السّماوَاتِ والأرْضَ " فإن ترخّص مترخِّصٌ بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فإنما أُحِلّت له ساعة من نهار ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة، فدلّ ذلك على أن حكم الآية باقٍ غير منسوخ، وأنه لا يحل أن نبتدىء فيها بالقتال لمن لم يقاتل. وقد كان القتال محظوراً في الشهر الحرام بقوله :﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدّ ﴾ [ البقرة : ٢١٧ ] ثم نسخ بقوله :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ]. ومن الناس من يقول : هو غير منسوخ والحظر باقٍ.
أما قوله :﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ﴾ فإنه أمر بقتل المشركين إذا ظفرنا بهم، وهي عامة في قتال سائر المشركين ؛ من قَاتَلَنا منهم ومن لم يقاتلنا ؛ بعد أن يكونوا من أهل القتال، لأنه لا خلاف أن قتل النساء والذراري محظور، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعن قَتْل أهل الصوامع. فإن كان المراد بقوله :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ الأمر بقتال من قاتلنا ممن هو من أهل القتال دون من كفّ عنا منهم، وكان قوله :﴿ ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ﴾ نهيٌ عن قتال من لم يقاتلنا، فهي لا محالة منسوخة بقوله :﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ لإيجابه قتل من حظر قتله في الآية الأولى بقوله :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ﴾ إذ كان الاعتداء في هذا الموضع هو قتال من لم يقاتل.
وقوله :﴿ وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ﴾ يعني والله أعلم : من مكة إن أمكنكم ذلك، لأنهم قد كانوا آذوا المسلمين بمكة حتى اضطروهم إلى الخروج فكانوا مخرجين لهم، وقد قال الله تعالى :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] فأمرهم الله تعالى عند فَرْضِهِ القتال بإخراجهم إذا تمكنوا من ذلك، إذ كانوا مَنْهِيِّين عن القتال فيها إلا أن يقاتلوهم، فيكون قوله :﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ عامّاً في سائر المشركين إلا فيمن كان بمكة، فإنهم أُمِرُوا بإخراجهم منها إلا لمن قاتلهم، فإنه أمر بقتالهم حينئذ ؛ والدليل على ذلك قوله في نسق التلاوة :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ﴾ فثبت أن قوله :﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ فيمن كان بغير مكة.
وقوله :﴿ والفتنة أشد من القتل ﴾ رُوي عن جماعة من السلف أن المراد بالفتنة هاهُنا الكفر، وقيل إنهم كانوا يفتنون المؤمنين بالتعذيب ويكرهونهم على الكفر، ثم عَيَّروا المؤمنين بأن قَتَلَ واقد بن عبدالله وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عَمْرو بن الحضرمي وكان مشركاً في الشهر الحرام، وقالوا : قد استحلّ محمد القتال في الشهر الحرام ؛ فأنزل الله :﴿ والفتنة أشدّ من القتل ﴾ يعني كفرهم وتعذيبهم المؤمنين في البلد الحرام وفي الشهر الحرام ؛ أشدّ وأعظم مأثماً من القتل في الشهر الحرام.
وأما قوله :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ﴾ فإن المراد بقوله :﴿ حتى يقاتلوكم فيه ﴾ حتى يقتلوا بعضكم، كقوله :﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾ [ الحجرات : ١١ ] يعني بعضكم بعضاً، إذ غير جائز أن يأمر بقتلهم بعد أن يقتلوهم كلهم. وقد أفادت الآية حظر القتل بمكة لمن لم يقتل فيها، فيُحتجّ بها في حظر قتل المشرك الحربي إذا لجأ إليها ولم يقاتل. ويُحتج أيضاً بعمومها فيمن قتل ولجأ إلى الحرم في أنه لا يقتل، لأن الآية لم تفرّق بين من قتل وبين من لم يقتل في حَظْر قتل الجميع، فلزم بمضمون الآية أن لا نقتل من وجدنا في الحرم، سواء كان قاتلاً أو غير قاتل إلاّ أن يكون قد قَتَل في الحرم، فحينئذ يقتل بقوله :﴿ فإن قاتلوكم فاقتلوهم ﴾.
فإن قيل : هو منسوخ بقوله :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ﴾ قيل له : إذا أمكن استعمالهما لم يثبت النسخ، لا سيما مع اختلاف الناس في نسخه، فيكون قوله :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ في غير الحَرَمِ. ونظيره في حَظْرِ قتل من لجأ إلى الحرم وإن كان جانياً، قوله :﴿ ومن دخله كان آمناً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] وقد تضمن ذلك أمناً من خوف القتل، فدلّ على أن المراد : من دخله وقد استحقّ القتل أنه يأمن بدخوله. وكذلك قوله :﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ] كلّ ذلك دالٌ على أن اللاجىء إلى الحرم ؛ المستحق للقتل ؛ يأمن به ويزول عنه القتل بمصيره إليه. ومع ذلك فإن قوله :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ﴾ إذا كان نازلاً مع أول الخطاب عند قوله :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ﴾ فغير جائز أن يكون ناسخاً له، لأن النسخ لا يصحّ إلا بعد التمكّن من الفعل، وغيرُ جائز وجود الناسخ والمنسوخ في خطاب واحد. وإذا كان الجميع مذكوراً في خطاب واحد على ما يقتضيه نسق التلاوة ونظام التنزيل، فغير جائز لأحد إثباتُ تاريخ الآيتين وتراخي نزول إحداهما عن الأخرى إلا بالنقل الصحيح، ولا يمكن أحد دعوى نقل صحيح في ذلك ؛ وإنما رُوي ذلك عن الربيع بن أنس فقال : هو منسوخ بقوله :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ وقال قتادة : هو منسوخ بقوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ] وجائز أن يكون ذلك تأويلاً منه ورأياً، لأن قوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ] لا محالة نزل بعد سورة البقرة لا يختلف أهل النقل في ذلك، وليس فيه مع ذلك دلالة على النسخ لإمكان استعمالهما بأن يكون قوله :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ [ التوبة : ٥ ] مرتباً على قوله :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ﴾ فيصير قوله : اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلاّ عند المسجد الحرام، إلا أن يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم. ويدل عليه أيضاً حديث ابن عباس وأبي شريح الخزاعي وأبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال :" أيُّها النّاسُ إنّ الله تَعَالَى حَرَّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّماواتِ والأرْضَ لم تَحِلُّ لأحدٍ قَبْلي ولا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدي، وإنّما أُحِلَّتْ لي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثمَّ عَادَتْ حَرَاماً إلى يَوْمِ القِيَامَةِ " وفي بعض الأخبار :" فإنْ تَرخَّصَ مَتَرَخِّصٌ بِقِتَالِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فإنما أُحِلّت لي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ " فثبت بذلك حظر القتال في الحرم إلا أن يقاتلوا. وقد روى عبدالله بن إدريس عن محمد بن إسحاق قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الخزاعي هذا الحديث، وقال فيه :" وإنّما أُحِلَّ لي القِتَالُ بها سَاعَةً مِنْ نِهَارٍ ". ويدلّ عليه أيضاً ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب يومئذٍ حين قَتَلَ رجل من خزاعة رجلاً من هذيل، ثم قال :" إنّ أعتَى النّاسِ على الله ثَلاثةٌ : رَجلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، ورَجُلٌ قَتَلَ في الحَرَمِ، ورَجُلٌ قَتَلَ بذَحْلِ الجَاهِلِيّةِ " وهذا يدلّ على تحريم القتل في الحرم لمن لم يَجْنِ فيه من وجهين، أحدهما : عموم الذمّ للقاتل في الحرم، والثاني : قد ذكر معه قتل من لم يستحقّ القتل، فثبت أن المراد قتلُ مَن استحق القتل فلجأ، وأن ذلك إخبارٌ منه بأن الحرم يحظر قتل من لجأ إليه.
وهذه الآي التي تَلَوْناها في حَظْرِ قتل من لجأ إلى الحرم ؛ فإنّ دلالتها مقصورةٌ على حظر القتل فحسب، ولا دلالة فيها على حكم ما دون النفس، لأن قوله :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ﴾ مقصورٌ على حُكْمِ القتل ؛ وكذلك قوله :﴿ ومن دخله كان آمناً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] وقوله :﴿ مثابة للناس وأمناً ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ] ظاهره الأمن من القتل، وإنما يدخل ما سواه فيه بدلالةٍ لأن قوله :﴿ ومن دخله ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] اسم للإنسان، وقوله :﴿ كان آمناً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] راجعٌ إليه، فالذي اقتضت الآية أمانه هو الإنسان لا أعضاؤه. ومع ذلك فإن كان اللفظ مقضياً للنفس فما دونها، فإنما خَصَصْنا ما دونها بدلالةٍ ؛ وحُكْمُ اللفظ باقٍ في النفس. ولا خلاف أيضاً أن من لجأ إلى الحرم وعليه دَيْن أنه يحبس به، وأن دخوله الحرم لا يعصمه من الحبس، كذلك كل ما لم يكن نفساً من الحقوق فإن الحرم لا يعصمه منه قياساً على الديون.
أما قوله عز وجل :﴿ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ﴾ يعني فإن انتهوا عن الكفر فإن الله يغفر لهم، لأن قوله ﴿ فإن انتهوا ﴾ شَرْطٌ يقتضي جواباً. وهذا يدلّ على أن قاتل العَمْدِ له توبة، إذ كان الكفر أعظم مأثماً من القتل، وقد أخبر الله أنه يقبل التوبة منه ويغفر له.
قوله تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ﴾ يوجب فَرْضَ قِتال الكفار حتى يتركوا الكفر ؛ قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع بن أنس :" الفتنة هاهُنا الشرك ". وقيل : إنما سُمّي الكفر فتنة لأنه يؤدي إلى الهلاك ؛ كما تؤدي إليه الفتنة. وقيل : إن الفتنة هي الاختبار، والكفر عند الاختبار إظهار الفساد، وأما الدِّين فهو الانقياد لله بالطاعة، وأصله في اللغة ينقسم إلى معنيين، أحدهما : الانقياد، كقول الأعشى :
* هُوَ دَانَ الرَّبَابَ إذْ كرّ هو الدِّي * نُ دِرَاكاً بَغزْوَةٍ وصِيَالٍ *
* ثمّ دَانَتْ بَعْدَ الرّبابِ وكَانَتْ * كَعذَابِ عُقُوبَةِ الأقوالِ *
والآخر : العادة، من قول الشاعر :
* تَقُولُ وقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِيني * أهَذَا دِينُهُ أبداً وَدِيني *
والدين الشرعي هو الانقياد لله عز وجل والاستسلام له على وجه المداومة والعادة، وهذه الآية خاصة في المشركين دون أهل الكتاب، لأن ابتداء الخطاب جَرَى بذكرهم في قوله عز وجل :﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ﴾ وذلك صفة مشركي أهل مكة الذين أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلم يدخل أهل الكتاب في هذا الحكم ؛ وهذا يدلّ على أن مشركي العرب لا يُقْبل منهم إلا الإسلام أو السيف، لقوله :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ يعني كفراً ﴿ ويكون الدين لله ﴾ ودِينُ الله هو الإسلام، لقوله :﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ [ آل عمران : ١٩ ].
وقوله :﴿ فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ﴾ المعنى : فلا قَتْلَ إلاّ على الظالمين. يعني والله أعلم : القتل المبدوء بذكره في قوله ﴿ وقاتلوهم ﴾ وسمَّى القتل الذي يستحقونه بكفرهم عدواناً ؛ لأنه جزاء الظلم فسُمِّي باسمه، كقوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ [ الشورة : ٤٠ ] وقوله :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ وإن لم يكن الجزاء اعتداء ولا سيِّئة.
قوله تعالى :﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ﴾ رُوي عن الحسن أن مشركي العرب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أَنَهيت عن قتالنا في الشهر الحرام قال :" نعم ". وأراد المشركون أن يغيروه في الشهر الحرام فيقاتلوه، فأنزل الله تعالى :﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ﴾ يعني إن استحلّوا منكم في الشهر الحرام شيئاً فاسْتَحِلّوا منهم مثله، ورَوَى ابن عباس والربيع بن أنس وقتادة والضحاك : أن قريشاً لما ردَّتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية مُحْرِماً في ذي القعدة عن البلد الحرام في الشهر الحرام، فأدخله الله مكة في العام المقبل في ذي القعدة، فقضى عمرته وأقصَّه بما حيل بينه وبينه في يوم الحديبية. ويمتنع أن يكون المراد الأمرين، فيكون إخباراً بما أقصّه الله من الشهر الحرام الذي صدّه المشركون عن البيت بشهر مثله في العام القابل. وقد تضمن مع ذلك إباحة القتال في الشهر الحرام إذا قاتلهم المشركون، لأن لفظاً واحداً لا يكون خبراً وأمراً، ومتى حصل على أحد المعنيين انتفى الآخر، إلا أنه جائز أن يكون إخباراً بما عَوَّضَ الله نبيه من فوات العمرة في الشهر الحرام الذي صدّه المشركون عن البيت شهراً مثله في العام القابل، وكانت حرمة الشهر الذي أبدل ؛ كحرمة الشهر الذي فات ؛ فلذلك قال :﴿ والحرمات قصاص ﴾ ثم عقب تعالى ذلك بقوله :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ فأفاد أنهم إذا قاتلوهم في الشهر الحرام فعليهم أن يقاتلوهم فيه، وإن لم يَجُزْ لهم أن يبتدؤوهم بالقتال. وسمَّى الجزاء اعتداءً ؛ لأنه مثله في الجنس، وقدر الاستحقاق على ما يوجبه فسُمّي باسمه على وجه المجاز، لأن المعتدي في الحقيقة هو الظالم.
وقوله تعالى :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ عمومٌ في أن من استهلك لغيره مالاً كان عليه مثله، وذلك المثل ينقسم إلى وجهين، أحدهما : مثله في جنسه وذلك في المكيل والموزون والمعدود، والآخر : مثله في قيمته ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى في عَبْدٍ بين رجلين أعتقه أحدهما وهو مُوسِرٌ أنّ عليه ضمان نصف قيمته، فجعل المثل اللازم بالاعتداء هو القيمة، فصار أصلاً في هذا الباب، وفي أن المثل قد يقع على القيمة ويكون اسماً لها. ويدلّ على أن المثل قد يكون اسما لِمَا ليس هو من جنسه إذا كان في وزانه وعروضه في المقدار المستحق من الجزاء، أن من اعتدى على غيره بقذفٍ لم يكن المثل المستحق عليه أن يُقْذَفَ بمثل قذفه، بل يكون المثل المستحقّ عليه هو جَلْدُ ثمانين، وكذلك لو شتمه بما دون القذف كان عليه التعزير ؛ وذلك مِثْلٌ لما نال منه. فثبت بذلك أن اسم المثل قد يقع على ما ليس من جنسه بعد أن يكون في وزانه وعروضه في المقدار المستحق من طريق الجزاء. ويُحْتَجّ بذلك في أن من غصب ساحة فأدخلها في بنائه ؛ أن عليه قيمتها، لأن القيمة قد تناولها اسم المثل، فمن حيث كان الغاصب معتدياً بأخذها كان عليه مثلها لحق العموم.
فإن قيل : إذا نقصنا بناءه وأخذناها بعينها ؛ فقد اعتدينا عليه بمثل ما اعتدى. قيل له : أخذ ملكه بعينه لا يكون اعتداءً على الغاصب، كما أن من له عند رجل وديعة فأخذها ؛ لم يكن معتدياً عليه، وإنما الاعتداء عليه ؛ أن يُزيلَ مِنْ ملكه مثل ما أزال، أو يزيل يده عن مثل ما أزال عنه يد المغصوب منه، فأما أخْذُ ملكه بعينه فليس فيه اعتداء على أحد، ولا فيه أخْذُ المثل. ويحتجّ به في إيجاب القصاص فيما يمكن استيفاء المماثلة والمساواة فيه ؛ دون ما لم يُعلم فيه استيفاء المماثلة، وذلك نحو قطع اليد من نصف الساعد والجائفة والآمَّةِ في سقوط القصاص فيها لتعذر استيفاء المثل، إذ كان الله تعالى إنما أمرنا باستيفاء المثل. ويحتجُّ به أبو حنيفة فيمن قطع يد رجل وقتله أن لوليه أن يقطع يده ثم يقتله، لقوله :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ فله أن يفعل به مثل ما فعل بمقتضى الآية.
قوله تعالى :﴿ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ قال أبو بكر : قد قيل فيه وجوه : أحدها ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح : قال حدثنا ابن وهب عن حيوة بن شريح، وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران قال : غزونا بالقسطنطينية وعلى الجماعة عبدالرحمن بن الوليد والروم مُلْصِقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رَجُلٌ على العدوّ، فقال الناس : مه مه ! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة ! فقال أبو أيوب : إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه وأظهر دينه الإسلام قلنا : هلم نقيم في أموالنا ونصلحها ! فأنزل الله تعالى :﴿ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا فنصلحها ونَدَعَ الجهاد ؛ قال أبو عمران : فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية، فأخبر أبو أيوب أن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو تَرْكُ الجهاد في سبيل الله، وأن الآية في ذلك نزلت. ورُوي مثله عن ابن عباس وحذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك. ورُوي عن البراء بن عازب وعبيدة السلماني :" الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو اليأس من المغفرة بارتكاب المعاصي ". وقيل :" هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يجد ما يأكل ويشرب فيتلف ". وقيل :" هو أن يتقحَّم الحرب من غير نكاية في العدوّ " وهو الذي تأوله القوم الذي أنكر عليهم أبو أيوب وأخبر فيه بالسبب. وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادةً بالآية لاحتمال اللفظ لها وجواز اجتماعها من غير تضادّ ولا تناف. فأما حَمْلُهُ على الرجل الواحد يَحْمِلُ على حلبة العدوّ، فإن محمد بن الحسن ذكر في السِّيَرِ الكبير أن رجلاً لو حمل على ألف رجل وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية فإني أكره له ذلك، لأنه عرّض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين ؛ وإنما ينبغي للرجل أن يفعل هذا إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ؛ ولكنه يجرِّىء المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل فيقتلون ويُنْكُون في العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله، لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو ولا يطمع في النجاة لم أرَ بأساً أن يحمل عليهم، فكذلك إذا طمع أن ينكي غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك، وأرجو أن يكون فيه مأجوراً ؛ وإنما يكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه، وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، ولكنه مما يرهب العدو، فلا بأس بذلك، لأن هذا أفضل النكاية وفيه منفعة للمسلمين. والذي قال محمد من هذه الوجوه صحيحٌ لا يجوز غيره ؛ وعلى هذه المعاني يُحمل تأويل من تأول في حديث أبي أيوب أنه أَلْقَى بيده إلى التهلكة بحَمْلِهِ على العدوّ إذْ لم يكن عندهم في ذلك منفعة، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يتلف نفسه من غير منفعة عائدة على الدين ولا على المسلمين. فأما إذا كان في تَلَفِ نفسه منفعة عائدة على الدين فهذا مقام شريف مدح الله به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون ﴾ [ التوبة : ١١١ ] وقال :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون ﴾ [ آل عمران : ١٦٩ ] وقال :﴿ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ﴾ [ البقرة : ٢٠٧ ] في نظائر ذلك من الآي التي مدح الله فيها من بذل نفسه لله. وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ أنه متى رَجَا نفْعاً في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل ؛ كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى :﴿ وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ﴾ [ لقمان : ١٧ ]. وقد رُوي عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أفْضَلُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِب، ورَجُلٌ تكَلَّمَ بكَلِمَةِ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَقَتَلَهُ ". وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أفْضلُ الجهَادِ كَلِمَةُ حقٍّ عِندَ سُلطَانٍ جَائِرٍ ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن الجراح، عن عبدالله بن يزيد، عن موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عبدالعزيز بن مروان قال : سمعت أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" شَرُّ ما في الرَّجُل شُحٌّ هالع وجُبْنٌ خَالِعٌ " وذمُّ الجبن يوجب مَدْحَ الإقدام والشجاعة فيما يعود نفعه على الدين ؛ وإن أيقن فيه بالتلف ؛ والله تعالى أعلم بالصواب.

باب العمرة هي فرض أم تطوع


قال الله تعالى :﴿ وأتموا الحج والعمرة لله ﴾ واختلف السلف في تأويل هذه الآية، فرُوي عن علي وعمر وسعيد بن جبير وطاوس قالوا :" إتمامهما أن تُحْرِمَ بهما من دُوَيْرة أهلك ". وقال مجاهد :" إتمامهما بلوغ آخرهما بعد الدخول فيهما ". وقال سعيد بن جبير وعطاء :" هو إقامتهما إلى آخر ما فيهما لله تعالى، لأنهما واجبان " كأنهما تأوّلا ذلك على الأمر بفعلهما، كقوله لو قال :" حجّوا واعتمروا ". ورُوي عن ابن عمر وطاوس قالا :" إتمامهما إفرادُهُما ". وقال قتادة :" إتمام العمرة الاعتمار في غير أشهر الحج ". ورُوي عن علقمة في قوله تعالى :﴿ العمرة لله ﴾ قال :" لا تجاوز بها البيت ".
وقد اختلف السلف في وجوب العمرة، فرُوي عن عبدالله بن مسعود وإبراهيم النخعي والشعبي أنها تطوع. وقال مجاهد في قوله :﴿ وأتموا الحج والعمرة لله ﴾ قال :" ما أمِرْنا به فيهما ". وقالت عائشة وابن عباس وابن عمر والحسن وابن سيرين :" هي واجبة " ورُوي نحوه عن مجاهد. ورُوي عن طاوس عن أبيه قال :" العمرة واجبة ".
واحتجّ من أوجبها بظاهر قوله :﴿ وأتموا الحج والعمرة لله ﴾ قالوا : واللفظ يحتمل إتمامَهُما بعد الدخول فيهما، ويحتمل الأمر بابتداء فعلهما، فالواجب حمله على الأمرين، بمنزلة عموم يشتمل على مشتمل فلا يخرج منه شيء إلا بدلالة.
قال أبو بكر : ولا دلالة في الآية على وجوبها، وذلك لأن أكثر ما فيها الأمر بإتمامهما، وذلك إنما يقتضي نفي النقصان عنهما إذا فعلت، لأن ضد التمام هو النقصان لا البطلان، ألا ترى أنك تقول للناقص إنه غير تام، ولا تقول مثله لما لم يوجد منه شيء ؟ فعلمنا أن الأمر بالإتمام إنما اقتضى نفي النقصان، ولذلك قال علي وعمر :" إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك " يعني الأبلَغُ في نفي النقصان الإحرام بهما من دويرة أهلك. وإذا كان ذلك على ما وصفنا كان تقديره : أن لا يفعلهما ناقِصيْن. وقوله :" لا يفعلهما ناقصين " لا يدل على الوجوب لجواز إطلاق ذلك على النوافل، ألا ترى أنك تقول :" لا تفعل الحج التطوع ولا العمرة التطوع ناقصين ولا صلاة النفل ناقصة ؟ " فإذا كان الأمْرُ بالإتمام يقتضي نفي النقصان ؛ فلا دلالة فيه إذاً على وجوبها. ويدلّ على صحة ذلك أن العمرة التطوّع والحجَّ النفْلَ مُرادان بهذه الآية في النهي عن فعلهما ناقصين، ولم يدلّ ذلك على وجوبهما في الأصل. وأيضاً فإن الأظهر من لفظ الإتمام إنما يطلق بعد الدخول فيه، قال الله عز وجل :﴿ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ﴾ فأطلق عليه لفظ الإتمام بعد الدخول ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم :" ما أدْرَكتُمْ فصَلّوا، وما فَاتَكُمْ فأَتِمُّوا " فأطلق لفظ الإتمام عليها بعد الدخول فيها. ويدل على أن المراد إيجاب إتمامهما بعد الدخول فيهما، أن الحج والعمرة النافلتين يلزمه إتمامهما بعد الدخول فيهما بالآية، فكان بمنزلة قوله :" أتموهما بعد الدخول فيهما " فغير جائز إذا ثبت أن المراد لزوم الإتمام بعد الدخول حَمْلُه على الابتداء لتضادّ المعنيين، ألا ترى أنه إذا أراد به الإلزام بالدخول انتفى أن يريد به الإلزام قبل الدخول ؟ لأن إلزامه قبل الدخول نافٍ لكونه واجباً بالدخول، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال إن حجّة الإسلام إنما تلزم بالدخول، وإن صلاة الظهر متعلق لزومها بالدخول فيها ؟ وهذا يدلّ على أنه غير جائز إرادة إيجابهما بالدخول وإيجابهما ابتداء قبل الدخول فيهما ؛ فثبت بما وصفنا أنه لا دلالة في هذه الآية على وجوب العمرة قبل الدخول فيها.
ومما يدلّ على أنها ليست بواجبة ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" العُمْرَةُ هي الحجُّ الأصْغَرُ ". ورُوي عن عبدالله بن شداد ومجاهد قالا :" العمرة هي الحج الأصغر ". وإذا ثبت أن اسم الحج يتناول العمرة، ثم ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا : حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي سنان الدؤلي، عن ابن عباس : أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة ؟ قال :" بل مَرَّة واحِدَةً فمن زادَ فَتَطوُّعٌ " فلما سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم العمرة في الخبر الأول حجَّاً، وقال للأقرع " الحج مرة واحدة فمن زاد فتطوع " انتفى بذلك وجوب العمرة، إذ كانت قد تسمَّى حَجّاً.
ويدلّ عليه ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا يعقوب بن يوسف المطوعي قال : حدثنا أبو عبدالرحمن عن عبدالله بن عمر قال : حدثنا عبدالرحمن بن سليمان، عن حجاج بن أرطاة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله قال : سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والحج أواجبٌ ؟ قال :" نعم " وسأله عن العمرة أهي واجبة ؟ قال :" لا ! ولأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ ". ورواه أيضاً عباد بن كثير عن محمد بن المنكدر مثل حديث الحجاج. وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا ابن الأصبهاني قال : حدثنا شريك وجرير وأبو الأحوص عن معاوية بن إسحاق عن أبي صالح قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الحَجُّ جِهادٌ والعُمْرَةٌ تَطَوُّعٌ ". ويدل عليه أيضاً حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إلى يَوْم القِيَامَةِ " ومعناه أنه ناب عنها، لأن أفعال العمرة موجودة في أفعال الحج وزيادة ؛ ولا يجوز أن يكون المراد أنّ وجوبها كوجوب الحج، لأنه حينئذ لا تكون العمرة بأوْلى أن تدخل في الحج ؛ من الحج بأن يدخل في العمرة، إذْ هما جميعاً واجبان، كما لا يقال دخلت الصلاة في الحج، لأنها واجبة كوجوب الحج.
ويدلّ عليه حديث جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه حين أحْرَموا بالحج أن يحلّوا منه بعمرة، وأن سراقة بن مالك قال : أعُمْرتُنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال :" بل للأبد ". ومعلوم أن هذه كانت عمل عمرة يحلل بها من إحرام الحج كما يتحلّل الذي يفوته الحج بعمل عمرة، وهي غير مجزية عن فرض العمرة عند من يراها فرضاً، فدل ذلك على أن العمرة غير مفروضة ؛ لأنها لو كانت مفروضة لما قال :" عمرتكم هذه للأبد ". وفيه إخبار بأنه لا عمرة عليهم غيرها. ويدلّ على أن ما يتحلل به من إحرام الحجّ ليس بعمرة ؛ أنه لو بقي الذي يفوته الحج على إحرامه حتى تحلل منه بعمرة في أشهر الحرم وحجّ من عامه ؛ أنه لا يكون متمتعاً.
ومما يحتج به لذلك من طريق النظر بأن الفروض مخصوصة بأوقات يتعلق وجوبها بوجودها، كالصلاة والصيام والزكاة والحجّ، فلو كانت العمرة فرضاً لوجب أن تكون مخصوصة بوقت، فلما لم تكن مخصوصة بوقت كانت مطلقة ؛ له أن يفعلها متى شاء، فأشبهت الصلاة التطوع والصوم النفل.
فإن قيل : إن الحجَّ النّفْلَ مخصوصٌ بوقت ولم يدلّ ذلك على وجوبه. قيل له : هذا لا يلزم ؛ لأنا قلنا إن من شرط الفروض التي تلزم كل أحد في نفسه كونها مخصوصة بأوقات، وما ليس مخصوصاً بوقت فليس بفرض، وليس يمتنع على ذلك أن يكون بعض النوافل مخصوصاً بوقت، وبعضها مُطْلَقٌ غير مخصوص بوقت، فكلُّ ما كان غير مخصوص بوقت فهو نافلة، وما هو مخصوص بوقت فعلى ضربين : منه فرض، ومنه نفل.
ومما يُحْتَجُّ به أيضاً من طريق الأثر، ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إسماعيل بن الفضل قال : حدثنا هشام بن عمار قال : حدثنا الحسن بن يحيى الحسني قال : حدثنا عمر بن قيس قال : حدثني طلحة بن موسى، عن عمه إسحاق بن طلحة، عن طلحة بن عبدالله، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" الحجُّ جِهَادٌ والعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا أحمد بن بحتر العطار قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا محمد بن الفضل بن عطية، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الحَجُّ جِهَادٌ والعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ ".
واحتجّ من رآها واجبة بما روى ابن لهيعة عن عطاء عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الحجُّ والعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ وَاجِبَتَان ". وبما رَوَى الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أقِيمُوا الصّلاة وآتوا الزكاةَ وحُجُّوا واعْتَمِروا واسْتَقِيمُوا يَسْتَقِمْ لكم " وأمْرُهُ على الوجوب. وبما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الإسلام، فذكر الصلاة وغيرها ثم قال :" وأنْ تَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ " ويقول صُبَيّ بن معبد :" وجدت الحج والعمرة مكتوبتين عليَّ " قال ذلك لعمر فلم ينكر عليه، وقال له :" اجمعهما ". وبحديث أبي رزين رجل من بني عامر أنه قال : يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحجّ والعمرة ولا الظعن ؟ قال :" احْجُجْ عَنْ أَبِيكَ واعْتَمِرْ ".
فأما حديث جابر في وجوب العمرة من طريق ابن لهيعة فهو ضعيف كثير الخطأ، يقال احترقت كتبه فَعوَّل على حفظه وكان سيّىء الحفظ، وإسناد حديث جابر الذي رويناه في عدم وجوبها أحسن من إسناد حديث ابن لهيعة، ولو تساويا لكان أكبر أحوالهما أن يتعارضا فيسقطا جميعاً، ويبقى لنا حديث طلحة وابن عباس من غير معارض.
فإن قال قائل : ليس حديث الحجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر الذي رويته في نفي الإيجاب بمعارض لحديث ابن لهيعة عن عطاء عن جابر في إيجابها ؛ لأن حديث الحجاج واردٌ على الأصل، وحديث ابن لهيعة ناقلٌ عنه، ومتى ورد خبر أن أحدهما نافٍ والآخر مثبت فالمثبت منها أوْلى، وكذلك إذا كان أحدهما موجباً والآخر غير موجب ؛ لأن الإيجاب يقتضي حَظْرَ تَرْكِهِ، ونَفْيُهُ لا حَظْرَ فيه، والخبر الحاظر أوْلى من المبيح. قيل له : هذا لا يجب من قِبَلِ أنّ حديث ابن لهيعة في إيجابها لو كان ثابتاً لورد النقل به مستفيضاً لعموم الحاجة إليه، ولوجب أن يعرفه كل من عرف وجوب الحج، إذ كان وجوبها كوجوب الحج، ومن خوطب به فهو مخاطب بها، فغير جائز فيما كان هذا وصفه أن يكون وروده من طريق الآحاد مع ما في سنده من الضعف ومعارضة غيره إياه. وأيضاً فمعلوم أن الروايتين وردتا عن رجل واحد، فلو كان خبر الوجوب متأخراً في التاريخ عن خبر نفيه لبينه جابر في حديثه، ولقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة إنها تطوع، ثم قال بعد ذلك إنها واجبة، إذ غير جائز أن يكون عنده الخبران جميعاً مع علمه بتاريخهما ؛ فيطلق الرواية تارة بالإيجاب وتارة بضدّه من غير ذكر تاريخ ؛ فدل ذلك على أن هذين الخبرين وردا متعارضين، وإنما يعتبر خبر المثبت والنافي على ما ذكرنا من الاعتبار ؛ إذا وردت الروايتان من جهتين. وأما حديث سمرة وقوله " فاعتمروا " فإنه على الندْب بالدلائل التي قدّمنا. فأما قوله حين سئل عن الإسلام فذكر الصلاة وغيرها ثم قال :" وأنْ تَحج وتعتمر " فإن النوافل من الإسلام، وكذلك كل ما يُتَقَرَّب به إلى الله تعالى، لأنه من شرائعه ؛ وقد رُوي أن الإسلام بضع وسبعون خصلة، منها إماطة الأذى عن الطريق. وأ
قوله تعالى :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ قال أبو بكر قد اختلف السلف في أشهر الحج ما هي، فروي عن ابن عباس وابن عمر والحسن وعطاء ومجاهد أنها شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة، وروي عن عبدالله بن مسعود أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة، وروي عن ابن عباس وابن عمر في رواية أخرى مثله، وكذلك روي عن عطاء ومجاهد، وقال قائلون : وجائز أن لا يكون ذلك اختلافاً في الحقيقة ؛ وأن يكون مراد من قال :" وذو الحجة " أنه بعضه ؛ لأن الحج لا محالة إنما هو في بعض الأشهر لا في جميعها ؛ لأنه لا خلاف أنه ليس يبقى بعد أيام مني شيء من مناسك الحج. وقالوا : ويحتمل أن يكون من تأوله على ذي الحجة كله ؛ مراده أنها لما كانت هذه أشهر الحج كان الاختيار عنده فعل العمرة في غيرها، كما روي عن عمر وغيره من الصحابة استحبابهم لفعل العمرة في غير أشهر الحج على ما قدمنا، وحكى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف قال شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة ؛ لأن من لم يدرك الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فحجه فائت.
ولا تنازع بين أهل اللغة في تجويز إرادة الشهرين وبعض الثالث بقوله :﴿ أشهر معلومات ﴾ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أيام منى ثلاثة " وإنما هي يومان وبعض الثالث، ويقولون حججت عام كذا ؛ وإنما الحج في بعضه، ولقيت فلاناً سنة كذا ؛ وإنما كان لقاؤه في بعضها، وكلمته يوم الجمعة ؛ والمراد البعض، وذلك من مفهوم الخطاب ؛ إذا تعذر استغراق الفعل للوقت ؛ كان المعقول منه البعض.
قال أبو بكر : ولقول من قال إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة وجه آخر ؛ وهو شائع مستقيم ؛ وهو ينتظم القولين من المختلفين في معنى الأشهر المعلومات ؛ وهو أن أهل الجاهلية قد كانوا ينسئون الشهور فيجعلون صفر المحرم، ويستحلون المحرم على حسب ما يتفق لهم من الأمور التي يريدون فيها القتال، فأبطل الله تعالى النسيء وأقر وقت الحج على ما كان ابتداؤه عليه يوم خلق السموات، كما قال عليه السلام يوم حجة الوداع :" إلا أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم : شوال وذو القعدة وذو الحجة ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ".
قال الله تعالى :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ يعني بها هذه الأشهر التي ثبت وقت الحج فيها دون ما كان أهل الجاهلية عليه من تبديل الشهور وتأخير الحج وتقديمه، وقد كان وقت الحج معلقاً عندهم بأشهر الحج ؛ وهذه الثلاثة التي يأمنون فيها واردين وصادرين ؛ فذكر الله هذه الأشهر وأخبرنا باستقرار أمر الحج وحظر بذلك تغييرها وتبديلها إلى غيرها.
وفيه وجه آخر وهو أن الله لما قدم ذكر التمتع بالعمرة إلى الحج ؛ ورخص فيه وأبطل به ما كانت العرب تعتقده من حظر العمرة في هذه الأشهر ؛ قال :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ فأفاد بذلك أن الأشهر التي يصح فيها التمتع بالعمرة إلى الحج وثبت حكمه فيها هذه الأشهر، وأن من اعتمر في غيرها ثم حج ؛ لم يكن له حكم التمتع والله أعلم.

باب الإحرام بالحج قبل أشهر الحج


قال أبو بكر : قد اختلف السلف في جواز الإحرام قبل أشهر الحج، فروى مقسم عن ابن عباس قال :" من سنة الحج أن لا يحرم بالحج قبل أشهر الحج ". وأبو الزبير عن جابر قال :" لا يحرم الرجل بالحج قبل أشهر الحج " وروي مثله عن طاوس وعطاء ومجاهد وعمرو بن ميمون وعكرمة. وقال عطاء :" من أحرم بالحج قبل أشهر الحج فليجعلها عمرة ". وقال علي رضي الله عنه في قوله تعالى :﴿ وأتموا الحج والعمرة لله ﴾ :" إن إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك " ولم يفرق بين من كان بين دويرة أهله وبين مكة مسافة بعيدة أو قريبة، فدل ذلك على أنه كان من مذهبه جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج. وما رواه مقسم عن ابن عباس أن من سنة الحج أن لا يحرم بالحج قبل أشهر الحج، يدل ظاهره على أنه لم يرد بذلك حتماً واجباً. وروي عن إبراهيم النخعي وأبي نعيم جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، وهو قول أصحابنا جميعاً ومالك والثوري والليث بن سعد. وقال الحسن بن صالح بن حي :" إذا أحرم بالحج قبل أشهر الحج جعله عمرة، فإذا أدركته أشهر الحج قبل أن يجعلها عمرة مضى في الحج وأجزأه ". وقال الأوزاعي :" يجعلها عمرة " وقال الشافعي :" يكون عمرة ".
قال أبو بكر قد قدما فيما سلف ذكر وجه الدلالة على جواز ذلك من قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ﴾ وإن ذلك عموم في كون الأهلة كلها وقتاً للحج، ولما كان معلوماً أنها ليست ميقاتاً لإفعال الحج ؛ وجب أن يكون حكم اللفظ مستعملاً في إحرام الحج ؛ فاقتضى ذلك جوازه عند سائر الأهلة ؛ وغير جائز الاقتصار على بعضها دون بعض ؛ لاتفاق الجميع على أن إرادة الله تعالى عموم جميع الأهلة فيما جعله مواقيت للناس، وأنه لم يرد به بعض الأهلة دون بعض، فمن حيث انتظم فيما جعله مواقيت للناس جميعاً ؛ وجب أن يكون ذلك حكمها في جعله للحج منها ؛ إذ هما جميعاً قد انطويا تحت لفظ واحد.
فإن قيل لما جعلها مواقيت للحج ؛ والحج في الحقيقة هو الأفعال الموجبة بالإحرام، ولم يكن الإحرام هو الحج ؛ وجب أن يحمل على حقيقته ؛ فتكون الأهلة التي هي مواقيت للحج شوالاً وذا القعدة وذا الحجة ؛ لأن هذه الأشهر هي التي تصح فيها أفعال الحج ؛ لأنه لو طاف وسعى للحج قبل أشهر الحج ؛ لم يصح عند الجميع فيكون لفظ الحج مستعملاً على حقيقته.
قيل له هذا غلط لما فيه من إسقاط حكم اللفظ رأساً، وذلك لأن قوله :﴿ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ﴾ يقتضي أن تكون الأهلة نفسها ميقاتاً للحج، وفروض الحج ثلاثة الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيارة، ومعلوم أن الأهلة ليست ميقاتاً للوقوف ولا لطواف الزيارة ؛ إذ هما غير مفعولين في وقت الهلال ؛ فلم تبق الأهلة ميقاتاً إلا للإحرام دون غيره من فروضه، ولو حملناه على ما ذكرت لم يكن شيء من هذه الفروض متعلقاً بالأهلة، ولا كانت الأهلة ميقاتاً لها فيؤدي ذلك إلى إسقاط ذكر الأهلة وزوال فائدته.
فإن قيل إذا كانت معرفة وقت الوقوف متعلقة بالهلال جاز أن يقال إن الهلال ميقات له.
قيل له ليس ذلك كما ظننت لأن الهلال له وقت معلوم على ما قدمنا فيما سلف، ولا يسمى بعد مضي ذلك الوقت هلالاً، ألا ترى أنه لا يقال للقمر ليلة الوقوف هلالاً، والله تعالى إنما جعل الهلال نفسه ميقاتاً للحج، وأنت إنما تجعل غير الهلال ميقاتاً، وفي ذلك إسقاط حكم اللفظ ودلالته، ألا ترى أنه إذا جعل محل الدين هلال شهر كذا ؛ كان الهلال نفسه وقتاً لثبوت حق المطالبة ؛ ووجوب أدائه إليه ؛ لا ما بعده من الأيام ؟ وكذلك الإجارات إذا عقدت على الأهلة فإنما يعتبر فيها وقت رؤية الهلال، وذلك مفهوم من اللفظ، لا يشكل مثله على ذي فهم، وأما قوله :" إن الحج هو اسم للأفعال الموجبة بالإحرام، وإن الإحرام لا يسمى حجاً " فإن الإحرام إذا كان سبباً لتلك الأفعال ولا يصح حكمها إلا به ؛ فجائز أن يسمى باسمه على ما بينا في أول الكتاب من تسمية الشيء باسم غيره ؛ إذا كان سبباً أو مجاوراً فسمي الإحرام حجا على هذا الوجه. وأيضاً فإنه إذا كان جائزاً إضمار الإحرام حتى يكون في معنى :﴿ قل هي مواقيت للناس ﴾ ولإحرام الحج على نحو قوله :﴿ واسأل القرية ﴾ ومعناه أهل القرية وقوله :﴿ ولكن البر من اتقى ﴾ ومعناه ولكن البر بر من اتقى، وجب استعماله على هذا المعنى ليصح إثبات حكم اللفظ في جعله الأهلة مواقيت الحج، وأيضاً لما كان الحج في اللغة اسماً للقصد ؛ وإن كان في الشرع قد علق به أفعال أخر ؛ يصح إطلاق الاسم عليه ؛ لم يمتنع أن يسمى الإحرام حجاً ؛ لأن أول قصد يتعلق به حكم هو الإحرام، وقبل الإحرام لا يتعلق بذلك القصد حكم، فجائز من أجل ذلك أن يسمي الإحرام حجا ؛ إذ هو أوله ؛ فيكون قوله :﴿ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ﴾ منتظماً للإحرام وغيره من أفعال الحج ومناسكه لو خلينا وظاهره، فلما خصت الأفعال بأوقات محصورة ؛ خصصناها من الجملة ؛ وبقي حكم اللفظ في الإحرام. ويدل على أن الحج في اللغة هو القصد قول الشاعر
* يحج مأمومة في قعرها لجف *
يعني يقصدها ليعرف مقدارها، وليس يجب من حيث علق بالقصد أفعال أخر ؛ لا يستحق القصد اسم الحج في الشرع إلا بها ؛ إسقاط اعتبار القصد فيه، ألا ترى أن الصوم في أصل اللغة اسم للإمساك وهو في الشرع إسم لمعان أخر معه ؛ ولم يسقط مع ذلك اعتبار الإمساك في صحته، وكذلك الاعتكاف اسم اللبث، وهو في الشرع اسم لمعان أخر مع اللبث، فكان معنى الاسم الموضوع له معتبراً ؛ وإن ألحقت به في الشرع معان أخر لا يثبت حكم الاسم في الشرع إلا بوجودها، وكذلك الحج لما كان اسماً في اللغة للقصد ثم كان حكم ذلك القصد متعلقاً بالإحرام ؛ وما قبله لا حكم له ؛ جاز أن يكون الإحرام مسمى بهذا الاسم، كما سمي به الطواف والوقوف بعرفة وأفعال المناسك، فوجب بحق العموم كون الأهلة كلها ميقاتاً للإحرام، وقد اقتضى العموم ذلك لسائر أفعال الحج لولا قيام الدلالة على تخصيصها بأوقات محصورة. دليل آخر وهو قوله :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ وقد قدمنا ذكر أقاويل السلف في الأشهر، وإن منهم من قال شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وقال آخرون :" شوال وذو القعدة وذو الحجة " فحصل من اتفاقهم أن يوم النحر من أشهر الحج، فوجب بعموم قوله :﴿ أشهر معلومات ﴾ جواز الإحرام بالحج يوم النحر، وإذا صح يوم النحر جاز في سائر السنة ؛ لأن أحداً لم يفرق في جوازه بين يوم النحر وبين سائر أيام السنة.
فإن قيل إن من قال عشر من ذي الحجة إنما أراد به عشر ليال ولم يجعل يوم النحر منها لأنه يكون الحج فائتاً بطلوع الفجر من يوم النحر.
قيل له : قول من قال " عشراً " إن كان مراده عشر ليال ؛ فإن ذكر الليالي يقتضي دخول ما بإزائها من الأيام، كقوله في موضع :﴿ ثلاث ليال سوياً ﴾ وقد أراد الأيام، ألا ترى إلى قوله في موضع آخر عند ذكر هذه القصة بعينها :﴿ ثلاثة أيام إلا رمزاً ﴾ وقال تعالى :﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ﴾ وهي أربعة أشهر وعشرة أيام. وقد روي عن علي بن أبي طالب وعبدالله بن شداد وعبدالله بن أبي أوفى في آخرين : أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر. ويستحيل أن يكون يوم النحر يوم الحج الأكبر ؛ ولا يكون من أشهر الحج، ومع ذلك فإن قوله :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ يقتضي ظاهره استيعاب الشهور الثلاثة، ولا ينقص شيء منه إلا بدلالة، فثبت بذلك أن يوم النحر من أشهر الحج، وقد أباح الله الإحرام فيه بقوله :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ فوجب أن يصح ابتداء الإحرام فيه، وإذا صح فيه صح في سائر أيام السنة بالاتفاق.
وفي هذه الآية دلالة من وجه آخر على جواز الإحرام قبل دخول أشهر الحج، وهو قوله في سياق الخطاب :﴿ فمن فرض فيهن الحج ﴾ ومعنى فرض الحج فيهن ؛ إيجابه فيهن ؛ لأن سائر الأفعال موجبة به، ولم يوقت للفرض وقتاً وإنما وقته للفعل ؛ لأن الفرض المذكور في هذا الموضع هو لا محالة غير الحج الذي علقه به، وإذا كان كذلك كان الوقت وقتاً لأفعال المناسك ؛ وألزمه إياها ؛ بفرض غير موقت ؛ وجب أن يصح فعل إحرام الحج قبل أشهر الحج يوجب أفعال المناسك.
ويدلك على ما ذكرنا أنه يصح أن يبدأ

باب التجارة في الحج


قال الله عقيب ذكر الحج والتزوَّدِ له :﴿ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ﴾ يعني المخاطبين بأول الآية، وهم المأمورون بالتزود للحجّ وأباح لهم التجارة فيه، ورَوَى أبو يوسف عن العلاء بن السائب عن أبي أمامة قال : قلت لابن عمر : إني رجل أكْرِي الإبل إلى مكة أفَيُجْزي مِنْ حَجَّتي ؟ قال : ألَسْتَ تلبيّ فتقف وترمي الجمار ؟ قلت : بلى ! قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل ما سألتني، فلم يجبه حتى أنزل الله هذه الآية :﴿ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ﴾ فقال عليه السلام :" أنْتُمْ حَاجُّ ". وقال عمرو بن دينار : قال ابن عباس : كانت ذو المجاز وعكاظ متجراً للناس في الجاهلية، فلما كان الإسلام تركوا حتى نزلت :﴿ ليس عليكم جُناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ﴾ في مواسم الحج. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتاني رجلٌ فقال : إني آجرتُ نفسي من قوم على أن أخدمهم ويحجّون بي، فهل لي من حج ؟ فقال ابن عباس : هذا من الذين قال الله تعالى :﴿ لهم نصيب مما كسبوا ﴾ [ البقرة : ٢٠٢ ]. ورُوي نحوُ ذلك عن جماعة من التابعين، منهم الحسن وعطاء ومجاهد وقتادة، ولا نعلم أحداً رُوي عنه خلاف ذلك إلاّ شيئاً رواه سفيان الثوري عن عبدالكريم عن سعيد بن جبير قال : سأله رجل أعرابي فقال : إني أكْري إبلي وأنا أريد الحج، أفيجزيني ؟ قال : لا ولا كرامة. وهذا قول شاذّ خلافُ ما عليه الجمهور وخلافُ ظاهر الكتاب في قوله :﴿ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ﴾ فهذا في شأن الحاجّ، لأن أول الخطاب فيهم، وسائر ظواهر الآي المبيحة لذلك دالّةٌ على مثل ما دلّت عليه هذه الآية، نحو قوله :﴿ وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] وقوله :﴿ وأذّنْ في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر ﴾ [ الحج : ٢٧ ] إلى قوله :﴿ ليشهدوا منافع لهم ﴾ [ الحج : ٢٨ ] ولم يخصص شيئاً من المنافع دون غيرها، فهو عامٌ في جميعها من منافع الدنيا والآخرة. وقال تعالى :﴿ وأحل الله البيع وحرم الربا ﴾ [ البقرة : ٢٧٥ ] ولم يخصص منه حال الحج. وجيمع ذلك يدلّ على أن الحج لا يمنع التجارة، وعلى هذا أمر الناس من عَصْرِ النبي عليه السلام إلى يومنا هذا في مواسم مِنّى ومكة في أيام الحج ؛ والله أعلم.

باب الوقوف بعرفة


قال الله تعالى :﴿ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ﴾ قال أبو بكر : قد دلّ على أن مناسك الحج الوقوفُ بعرفة، وليس في ظاهره دلالة على أنه من فروضه، فلما قال في سياق الخطاب :﴿ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ﴾ أبان بذلك عن فرض الوقوف ولزومه ؛ وذلك لأن أمره بالإفاضة مقتضٍ للوجوب، ولا تكون الإفاضة فرضاً إلاّ والكون بها فرضاً حتى يفيض منها، إذ لا يتوصل إلى الإفاضة إلا بكونه قبلها هناك.
واتفقت الأمة مع ذلك على أن تارك الوقوف بعرفة لا حجَّ له، ونَقَلَتْه عن النبي عليه السلام قولاً وعملاً. ورَوَى بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف الحج ؟ قال :" الحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ، مَنْ جَاءَ عَرَفَةَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ الصُّبْحِ أَوْ يَوْمَ جَمْعٍ فَقَدَ تَمَّ حَجُّهُ ". ورَوَى الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بالمزدلفة :" مَنْ صلَّى مَعَنَا هذه الصلاةَ وَوَقَفَ مَعَنَا هَذَا المَوْقِفَ وقَدْ وَقَفَ بعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أوْ نَهَاراً فَقَد تَمَّ حَجُّهُ وقَضَى تَفَثَهُ ". وقد رُوي عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجابر :" إذا وقف قبل طلوع الفجر فقد تم حجه " والفقهاء مجمعون على ذلك.
وقد اختلف الفقهاءُ فيمن لم يقف بعرفة ليلاً، فقال سائرهم : إذا وقف نهاراً فقد تم حجُه، وإن دَفَعَ منها قبل غروب الشمس فعليه دم عند أصحابنا إن لم يرجع قبل الإمام ؛ وقال مالك بن أنس :" إن لم يرجع حتى طلع الفجر بطل حجه " وأصحابه يزعمون أنه قال ذلك لأن مذهبه أن فرض الوقوف بالليل دون النهار، وأن الوقوف نهاراً غير مفروض، وإنما هو مسنونٌ. ورُوي عن ابن الزبير أن من دفع من عرفات قبل غروب الشمس فسد حجه.
والدليل على صحة القول الأوّل قوله عليه السلام في حديث عروة بن مضرس :" وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمَّ حجه وقضى تفثه " فحكم بصحة حجّه وإتمامه بوقوفه في أحد الوقتين من ليل أو نهار. ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ﴾ و " حيث " اسمٌ للموضع، وهو عرفات، فكان بمنزلة قوله :" أفيضوا من عرفات " ولم يخصصه بليل ولا نهار، وليس فيه ذكر للوقت، فاقتضى ذلك جوازه في أيّ وقت وقف فيه. ويدل عليه من جهة النظر أنّا وجدنا سائر المناسك ابتداؤها بالنهار، وإنما يدخل فيه الليل تَبَعاً، ولم نجد شيئاً منها يختص بالليل حتى لا يصح فعله في غيره. فَقٌولُ من جعل فرض الوقوف بالليل خارج عن الأصول، ألا ترى أن طواف الزيارة والوقوف بالمزدلفة والرمي والذبح والحلق كل ذلك مفعول بالنهار ؟ وإنما يفعل بالليل على أنه يؤخر عن وقته على وجه التَّبَعِ للنهار، فوجب أن يكون ذلك حكم الوقوف بعرفة. وأيضاً قد نقلت الأمة وقوف النبي عليه السلام نهاراً إلى يومنا هذا، وأنه دفع منها عند سقوط الفرض ؛ وهذا يدل على أن وقت الوقوف هو النهار ووقت الغروب هو الدفع، فاستحال أن يكون الدفع هو وقت الفرض، ووقت الوقوف لا يكون وقتاً للفرض. وأيضاً لما قيل " يوم عرفة " ونُقلت هذه التسمية عن النبي عليه السلام في أخبار كثيرة، منها :" إن الله تَعَالَى يُبَاهي مَلاَئِكَتَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ " ومنها :" إنّ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ يَعْدِلُ صِيَامَ سَنَةٍ " ولذلك أطلقت الأمة ذلك عليه، دل على أن النهار وقت الفرض فيه، وأن الوقوف ليلاً إنما يفعله من وقف فائتاً ؛ ألا ترى أنه لما قيل " يوم الجمعة، ويوم الأضحى، ويوم الفطر " كانت هذه الأفعال واقعة في هذه الأيام نهاراً ولذلك أُضيفت إليها ؟ فدل ذلك على أن فَرْضَ الوقوف يَوْمَ عرفة، وأنه يُفعل ليلاً على وجه القضاء لما فاته، كما يرمي الجمار ليلاً على وجه القضاء لما فاته نهاراً، وكذلك الطواف والذبح والحلق.
واختُلف في موضع الوقوف، فرَوَى جبير بن مطعم أن النبي عليه السلام قال :" كُلُّ عَرَفَاتَ مَوْقِفٌ وارْفَعُوا عَنْ عُرَنَةَ، وكُلُّ مُزْدَلفَةَ مَوْقِفٌ وارْفَعُوا عَنْ مُحْسِرٍ ". ورَوَى جابر عن النبي عليه السلام أنه قال :" كل عرفة موقف ". وقال ابن عباس :" ارتفعوا عن وادي عرفة والمنبر عن مسيله فما فوق ذلك موقف ". ولم يختلف رواة الأخبار أن النبي عليه السلام دَفَعَ من عَرَفَةَ بعد غروب الشمس ؛ وقد رُوي أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون منها إذا صارت الشمس على رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم، وأنهم كانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس، فخالفهم النبي عليه السلام ودَفَعَ من عرفات بعد الغروب ومن المزدلفة قبل الطلوع. ورَوَى سلمة بن كهيل عن الحسن العرنيّ عن ابن عباس قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم عرفة فقال :" يا أيّها الناسُ لَيْسَ البِرُّ في إيجَافِ الخَيْلِ ولا في إيضَاع الإبل ولَكِنْ سَيْراً حَسَناً جَمِيلاً، ولا توطِئوا ضعيفاً ولا تُؤْذوا مُسْلِماً ". ورَوَى هشام بن عروة عن أبيه عن أسامة بن زيد قال :" كان سيرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يدفع من عرفات العَنَقَ، غير أنه كان إذا وَجَدَ فَجوة نَصَّ ". والله أعلم.

باب الوقوف بجمع


قال الله تعالى :﴿ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ﴾ ولم يختلف أهلُ العلم أن المشعر الحرام هو المزدلفة وتسمَّى جمعاً. فمن الناس من يقول إن هذا الذكر هو صلاة المغرب والعشاء اللتين يُجمع بينهما بالمزدلفة، والذكر الثاني في قوله :﴿ واذكروه كما هداكم ﴾ هو الذكر المفعول عند الوقوف بالمزدلفة غداة جُمْع، فيكون الذكر الأول غير الثاني، والصلاة تسمَّى ذكراً، قال النبي عليه السلام :" مَنْ نَامَ عَنْ صلاةٍ أو نَسِيَها فَلْيُصَلِّها إذا ذَكَرَهَا " وتلا عند ذلك قوله تعالى :﴿ وأقم الصلاة لذكري ﴾ [ طه : ٢١٤ ] فسمَّى الصلاة ذكراً، فعلى هذا قد اقتضت الآية تأخير صلاة المغرب إلى أن تجمع مع العشاء بالمزدلفة. وروى أسامة بن زيد وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى المزدلفة أنه قال للنبي عليه السلام في طريق المزدلفة : الصلاة ! فقال :" الصلاةُ أمَامَك " فلما أتى المزدلفة صلاّها مع العشاء الآخرة، والأخبار عن النبي عليه السلام متواترة في جَمْع النبي عليه السلام بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.
وقد اختُلف فيمن صلَّى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة، فقال أبو حنيفة ومحمد :" لا تجزيه ". وقال أبو يوسف :" تجزيه ". وظاهر قوله تعالى :﴿ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ﴾ إذا كان المراد به الصلاة يمنع جوازها قبله، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :" الصلاة أمامك " وحَمْلُه على ذلك أوْلى من حمله على الذكر المفعول في حال الوقوف بجمع ؛ لأن قوله تعالى :﴿ واذكروه كما هداكم ﴾ هو الذكر في مواقف جمع، فواجب أن نحمل الذكر الأوّل على الصلاة حتى نكون قد وفينا كل واحد من الذِّكْرِين حظه من الفائدة ولا يكون تكراراً. وأيضاً فإن قوله :﴿ فاذكروا الله عند المشعر الحرام ﴾ هو أمْرٌ يقتضي الإيجاب، والذكرُ المفعول بجمع ليس بواجب عند الجميع، ومتى حمل على فعل صلاة المغرب بجمع كان محمولاً على مقتضاه من الوجوب، فوجب حمله عليه.
وقد اختلف أهل العلم في الوقوف بالمزدلفة، هل هو من فروض الحج أم لا ؛ فقال قائلون :" هو من فروض الحج ومَنْ فاته فلا حَجَّ له كمن فاته الوقوف بعرفة ". وقال جمهور أهل العلم :" حَجُّهُ تامٌّ ولا يفسده ترك الوقوف بالمزدلفة ". واحتج من لم يجعله من فروضه بما رُوي عن النبي عليه السلام في حديث عبدالرحمن بن يعمر الديلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" الحَجُّ عَرَفَةُ فَمَنْ وقَفَ قَبْلَ أنْ يَطْلعَ الفَجْرُ فقد تَمَّ حَجُّهُ ". وقال في بعض الأخبار :" مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أدْرَكَ الحَجَّ، ومَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الحجُّ " فحكم بصحة حجّه بإدراك عرفة ولم يشترط معه الوقوف بجمع. ويدل عليه ما رَوَى ابن عباس وابن عمر، ونقله الناس، قائلين له : إن النبي عليه السلام قدم ضَعَفَةَ أهله بلَيْل وفي بعض الأخبار : ضعفة الناس من المزدلفة ليلاً وقال لهم :" لا تَرْمُوا جَمْرَةَ العَقَبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ". فلو كان الوقوف بها فرضاً لما رخص لهم في تركه للضعف، كما لا يرخص في الوقوف بعرفة لأجل الضعف.
فإن قيل : لأنهم كانوا وقفوا ليلاً وهو وقت الوقوف بها، وروى سالم بن عمر وهو أحد من روى حديث تقديم ضعفة الناس من المزدلفة : فكان يقدم ضعفة أهله من المزدلفة فيقفون عند المشعر الحرام بليل، فيذكرون ما بدا لهم ثم يدفعون. قيل له : وقتُ الوقوف بها بعد طلوع الفجر، وقد نقل الناس وقوف النبي عليه السلام بها بعد طلوع الفجر ولم يأم
وقد اختُلف في تأويل قوله :﴿ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ﴾ فرُوي عن عائشة وابن عباس وعطاء والحسن ومجاهد وقتادة والسدي : أنه أراد الإفاضة من عرفة، قالوا : وذلك لأن قريشاً ومن دان دِينَها يقال لهم الحُمْس كانوا يقفون بالمزدلفة ويقف سائر العرب بعرفات، فلما جاء الإسلام أنزل الله تعالى على نبيه :﴿ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ﴾ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ومن دان دينها أن يأتوا عرفات فيقفوا بها مع الناس، ويفيضوا من حيث أفاض الناس. وحُكي عن الضحاك أنه أراد به الوقوف بالمزدلفة وأن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام. وقيل إنه إنما قال :﴿ الناس ﴾ وأراد إبراهيم وحده، كما قال تعالى :﴿ الذين قال لهم الناس ﴾ [ آل عمران : ١٧٣ ] وكان رجلاً واحداً. ولأن إبراهيم عليه السلام لما كان الإمام المقتدَى به سماه الله تعالى أمّةً كان بمنزلة الأمّة التي تتبع سنّته، جاز إطلاق اسم الناس، والمراد به هو وحده. والتأويل الأوّل هو الصحيح، لاتفاق السلف عليه، والضحاك لا يزاحم به هؤلاء، فهو قول شاذّ. وإنما ذكر الناس هاهنا وأمر قريشاً بالإفاضة من حيث أفاض الناس، لأنهم كانوا أعظم الناس، وكانت قريش ومن دان دينها قليلة بالإضافة إليهم، فلذلك قال :﴿ من حيث أفاض الناس ﴾.
فإن قيل : لما قال :﴿ فإذا أفضتم من عرفات ﴾ ثم عقب ذلك بقوله :﴿ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ﴾ و " ثُمَّ " يقتضي الترتيب لا محالة، علمنا أن هذه الإفاضة هي بعد الإفاضة من عرفات، وليس بعدها إفاضة إلا من المزدلفة وهي المشعر الحرام، فكان حمله على ذلك أوْلى منه على الإفاضة من عرفة ؛ ولأن الإفاضة من عرفة قد تقدم ذكرها فلا وجه لإعادتها. قيل له : إن قوله تعالى :﴿ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ﴾ عائدٌ إلى أول الكلام، وهو الخطاب بذكر الحج وتعليم مناسكه وأفعاله، فكأنه قال :" يا أيها المأمورون بالحجّ من قريش بعد ما تقدم ذكرنا له أفيضوا من حيث أفاض الناس " فيكون ذلك راجعاً إلى صلة خطاب المأمورين، وهو كقوله تعالى :﴿ ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن ﴾ [ الأنعام : ١٥٤ ] والمعنى : بعد ما ذكرنا لكم أخبرناكم أنا آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن. ويجوز أن يكون " ثم " بمعنى " الواو " فيكون تقديره : وأفيضوا من حيث أفاض الناس ؛ كما قال تعالى :﴿ ثم كان من الذين آمنوا ﴾ [ البلد : ١٧ ] معناه : وكان من الذين آمنوا، وقوله :﴿ ثم الله شهيد على ما تفعلون ﴾ [ يونس : ٤٦ ] معناه : والله شهيد. فإذا كان ذلك سائغاً في اللغة ثم رُوي عن السلف ما ذكرنا، لم يجز العدول عنه إلى غيره. وأما قولك :" إن ذكر عرفات قد تقدم في قوله :﴿ فإذا أفضتم من عرفات ﴾ فلا يكون لقوله :﴿ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ﴾ وجه " فليس كذلك، لأن قوله :﴿ فإذا أفضتم من عرفات ﴾ لا دلالة فيه على إيجاب الوقوف، وقوله :﴿ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ﴾ وهو أمْرٌ لمن لم يكن يقف بعرفة من قريش، فقد أفاد به من إيجاب الوقوف ما لم يتضمنه قوله :﴿ فإذا أفضتم من عرفات ﴾ إذْ لا دلالة في قوله :﴿ فإذا أفضتم من عرفات ﴾ على فرض الوقوف. ومع ذلك فلو اقتصر على قوله :﴿ فإذا أفضتم من عرفات ﴾ لكان جائزاً أن يظن ظانّ أنه خطاب لمن كان يقف بها دون من لم يكن يرى الوقوف بها، فيكون التاركون للوقوف على جملة أمرهم في الوقوف بالمزدلفة دون عرفات، فأبطل ظنَّ الظانّ لذلك بقوله :﴿ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ﴾.
قوله تعالى :﴿ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم ﴾ قضاءُ المناسك هو فِعْلُها على تمامٍ، ومثله قوله :﴿ فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً ﴾ [ النساء : ١٠٣ ] وقوله :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ﴾ [ الجمعة : ١٠ ]، ومنه قوله عليه السلام :" فما أدْرَكتُمْ فَصَلُّوا، وما فَاتَكُمْ فاقْضُوا " يعني افعلوه على التمام.
وقوله :﴿ فاذكروا الله كذكركم آباءكم ﴾ قد قيل فيه وجهان : أحدهما الأذكار المفعولة في سائر أحوال المناسك، كقوله :﴿ إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ﴾ [ الطلاق : ١ ] وهو مأمورٌ به قبل الطلاق، على مجرى قولهم :" إذا حججْتَ فطُفْ بالبيت، وإذا أحرمتَ فاغتسل، وإذا صليتَ فتوضأ " وقوله تعالى :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ﴾ [ المائدة : ٦ ] وإنما هو قبل الصلاة ؛ وكذلك قوله :﴿ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله ﴾ جائز أن يريد الأذكار المسنونة بعرفات والمزدلفة وعند الرمي والطواف. وقيل فيه إن أهل الجاهلية كانوا يقفون عند قضاء المناسك فيذكرون مآثرهم ومفاخر آبائهم، فأبدلهم الله به ذكره وشكره على نعمه والثناء عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات :" إنّ الله قد أذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الجَاهِلِيَّةِ وتَعَظُّمَهَا بالآباء، النّاسُ مِنْ آدَمُ وآدَمُ مِنْ تُرَابٍ لا فَضْلَ لعَرَبِيٍّ على عَجَميّ إلاّ بالتّقوَى " ثم تلا :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ [ الحجرات : ١٣ ] فكان خروج الكلام على حال لأهل الجاهلية في ذكرهم آباءهم ؛ والله أعلم.

باب أيام مِنًى والنفر فيها


قال الله عز وجل :﴿ واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ﴾. قال أبو بكر : روى سفيان وشعبة عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيّامُ مِنًى أيّام التَّشْرِيق، فمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فلا إثْمَ عَلَيْهِ، ومَنْ تَأَخَّرَ فلا إثْمَ عَلَيْهِ ". واتفق أهل العلم على أن قوله بيانٌ لمرادِ الآية في قوله :﴿ أيام معدودات ﴾. ولا خلاف بين أهل العلم أن المعدودات أيامُ التشريق ؛ وقد رُوي ذلك عن علي وعمر وابن عباس وابن عمر وغيرهم، إلاّ شيءٌ رواه ابن أبي ليلى عن المنهال عن زرّ عن عليّ قال :" المعدودات يوم النحر ويومان بعده اذْبَحْ في أيّها شئت ". وقد قيل إن هذا وهمٌ، والصحيح عن عليّ أنه قال ذلك في المعلومات. وظاهر الآية ينفي ذلك أيضاً، لأنه قال :﴿ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ﴾، وذلك لا يتعلق بالنحر وإنما يتعلق برمي الجمار المفعول في أيام التشريق. وأما المعلومات، فقد رُوي عن عليّ وابن عمر :" أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده، واذْبَحْ في أيّها شئت " قال ابن عمر :" المعدودات أيام التشريق "، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس :" المعلومات العشرُ والمعدوداتُ أيام التشريق ". وقد رَوَى ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس :" المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده أيام التشريق، والمعدودات يوم النحر وثلاثة أيام بعده التشريق ". ورَوَى عبدالله بن موسى : أخبرنا عمارة بن ذكوان عن مجاهد عن ابن عباس قال :" المعدودات أيام العَشْرِ والمعلومات أيام النحر ". فقوله المعدودات إنها أيام العشر، لا شكّ في أنه خطأ ولم يقلْ به أحدٌ ؛ وهو خلاف الكتاب، قال الله تعالى :﴿ فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ﴾ وليس في العَشْرِ حكمٌ يتعلق بيومين دون الثلاث. وقد رُوي عن ابن عباس بإسناد صحيح أن المعلوماتِ العشرُ والمعدوداتِ أيامُ التشريق ؛ وهو قول الجمهور من التابعين، منهم الحسن ومجاهد وعطاء والضحاك وإبراهيم في آخرين منهم. وقد رُوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد : أن المعلومات العشرُ والمعدودات أيامُ التشريق. وذكر الطحاوي عن شيخه أحمد بن أبي عمران، عن بشر بن الوليد قال : كتب أبو العباس الطوسي إلى أبي يوسف يسأله عن الأيام المعلومات، فأمْلَى عليَّ أبو يوسف جوابَ كتابه : اختلف أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُوي عن عليّ وابن عمر أنها أيام النحر، وإلى ذلك أذْهَبُ، لأنه قال :﴿ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ﴾ [ الحج : ٢٨ و ٣٤ ]، وذكر شيخنا أبو الحسن الكرخي، عن أحمد القاري، عن محمد، عن أبي حنيفة، أن المعلوماتِ العشرُ ؛ وعن محمد، أنها أيام النحر ثلاثة يومُ الأضحى ويومان بعده.
قال أبو بكر : فحصل من رواية أحمد القاري عن محمد، ورواية بشر بن الوليد عن أبي يوسف، أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده، ولم تختلف عن أبي حنيفة أن المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق ؛ وهو قول ابن عباس المشهور. وقوله تعالى :﴿ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ﴾ [ الحج : ٢٨ و ٣٤ ] لا دلالة فيه على أن المراد أيام النحر، لاحتماله أن يريد : لما رزقهم من بهيمة الأنعام، كقوله :﴿ ولتكبروا الله على ما هداكم ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] والمعنى : لما هداكم. وأيضاً يحتمل أن يريد بها أيام العشر، لأن فيها يوم النحر، وفيه الذبحُ، ويكون بتكرار السنين عليه أياماً. وذكر أهل اللغة أن المعدودات منفصلةٌ عن المعلومات بدلالة اللفظ على افتراقهما في باب العدد، وذلك لأن وَصْفَها بالمعدودات دلالةُ التقليل، كقوله تعالى :﴿ بخس دراهم معدودة ﴾ [ يوسف : ٢٠ ] وإنما يوصف بالعدد إذا أُريد به التقليل، لأنه يكون نقيض كثرة ؛ فهو كقولك : قليل وكثير ؛ فعرفت المعدودات بالتقليل، وقيل للأخرى " معلومات " فعُرِفَتْ بالشهرة، لأنها عشرة، ولم يختلف أهل العلم أن أيام منًى ثلاثةٌ بعد يوم النحر، وأنّ للحاجّ أن يتعجل في اليوم الثاني منها إذا رمى الجمار وينفر، وأنّ له أن يتأخر إلى اليوم الثالث حتى يرمي الجمار فيه ثم ينفر. واختُلف فيمن لم ينفر حتى غابت الشمس من اليوم الثاني، فرُوي عن عمر وابن عمر وجابر بن زيد والحسن وإبراهيم :" أنه إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل أن ينفر فلا ينفر حتى يرمي الجمار من الغد ". ورُوي عن الحسن البصري :" أن له أن ينفر في اليوم الثاني إذا رَمَى وقت الظهر كله، فإن أدركته صلاة العصر بمنًى فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث ". وقال أصحابنا :" إنه إذا لم ينفر حتى غابت الشمس فلا ينبغي له أن ينفر حتى يرمي جمرة اليوم الثالث، ولا يلزمه ذلك إلا أن يصبح بمنًى فحينئذ يلزمه رَمْيُ اليوم الثالث ولا يجوز تركه ". ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء أن من أقام بمنى إلى اليوم الثالث أنه لا يجوز له النفر حتى يرمي، وإنما قالوا : إنه لا يلزمه رَمْيُ اليوم الثالث بإقامته بمنًى إلى أن يمسي، مِنْ قِبَل أن الليلة التي تلي اليوم الثاني هي تابعة له ؛ حُكْمُها حُكْمُه، وليس حكمها حكم الذي بعدها، ألا ترى أنه لو ترك الرمي في اليوم الأول رماه في ليلته ولم يكن مؤخراً له عن وقته ؟ لأنه عليه السلام رخّص للرعاة أن يرموا ليلاً، فكان حكم الليلة حكم اليوم الذي قبلها ؛ ولم يكن حكمها حكم الذي بعدها ؛ فلذلك قالوا : إن إقامته في اليوم الثاني بمنًى إلى أن يُمْسي بمنزلة إقامته بها نهاراً، وإذا أقام حتى يصبح من اليوم الثالث لزمه الرمْيُ بلا خلاف. وهذا مما يستدل به على صحة قول أبي حنيفة في تجويزه رمي اليوم الثالث قبل الزوال، إذ قد صار وقتاً للزوم الرمي، ويستحيل أن يكون وقتاً لوجوبه ثم لا يصح فعله فيه.
وأما قوله تعالى :﴿ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ﴾ فإنه قد قيل فيه وجهان : أحدهما : فلا إثم عليه لتكفير سيِّئاته وذنوبه بالحج المبرور ؛ ورُوي نحوه عن عبدالله بن مسعود، ومثله ما رُوي عن النبي عليه السلام أنه قال :" مَنْ حَجَّ فلم يَرْفِثْ ولم يَفْسُقْ رَجِعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّهُ ". والوجه الثاني : أنه لا مأثم عليه في التعجيل ؛ وروي نحوه عن الحسن وغيره، وقال :﴿ ومن تأخر فلا إثم عليه ﴾ لأنه مباح له التأخير. وقوله :﴿ لمن اتقى ﴾ يحتمل لمن اتقى ما نَهَى الله عنه في الإحرام بقوله :﴿ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ﴾ وإن لم يتّق فغير موعود بالثواب.
قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ﴾ الآية. قال أبو بكر : فيه تحذيرٌ من الاغترار بظاهر القول، وما يبديه من حلاوة المنطق، والاجتهاد في تأكيد ما يظهره، فأخبر الله تعالى أن مِنَ الناس من يُظْهِرُ بلسانه ما يعجبك ظاهره ﴿ ويشهد الله على ما في قلبه ﴾ وهذه صفة المنافقين، مثل قوله تعالى :﴿ قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ﴾ [ المنافقون : ١ ] ﴿ اتخذوا أيمانهم جنةً ﴾ [ المجادلة : ٦ ] وقوله :﴿ وإذا رأيتهم تعجبك إجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ﴾ [ المنافقون : ٤ ] فأعلم الله تعالى نبيه ضمائرهم لئلا يغترّ بظاهر أقوالهم، وجعله عبرة لنا في أمثالهم لئلا نتكل على ظاهر أمور الناس وما يبدونه من أنفسهم. وفيه الأمرُ بالاحتياط فيما يتعلق بأمثالهم من أمور الدين والدنيا، فلا نقتصر فيما أمرنا بائتمان الناس عليه من أمر الدين والدنيا على ظاهر حال الإنسان دون البحث عنه. وفيه دليل على أن عليه استبراء حال من يراد للقضاء والشهادة والفُتْيا والإمامة، وما جرى مجرى ذلك في أن لا يقبل منهم ظاهرهم حتى يسأل ويبحث عنهم، إذ قد حَذَّرَنا الله تعالى أمثالهم في توليتهم على أمور المسلمين، ألا ترى أنه عقبه بقوله :﴿ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ﴾ ؟ فكان ذكر التولِّي في هذا الموضع إعلاماً لنا أنه غير جائز الاقتصارُ على ظاهر ما يظهره دون الاستبراء لحاله من غير جهته.
قوله تعالى :﴿ وهو ألدّ الخصام ﴾ هو وَصْفٌ له بالمبالغة في شدة الخصومة والفَتْلِ للخصم بها عن حقه وإحالته إلى جانبه ؛ ويقال " لدَّه عن كذا " إذا حبسه ؛ وعلى هذا المعنى قال النبي عليه السلام :" إنكمُ تَخْتَصِمُونَ إليَّ ولعلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وإنّما أقْضِي بما أسْمَعُ، فمَنْ قَضَيْتُ له مِنْ حَقِّ أخِيهِ بشيءٍ فإنّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النّارِ " فكان معنى قوله :﴿ وهو ألد الخصام ﴾ أنه أشدّ المخاصمين خصومة.
قوله :﴿ والله لا يحب الفساد ﴾ نصٌّ على بطلان مذهب أهل الإجبار، لأن ما لا يحبه الله فهو لا يريده، وما لا يريده فهو لا يحبه ؛ فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يحبّ الفساد، وهذا يوجب أن لا يفعل الفساد، لأنه لو فعله لكان مريداً له ومحبّاً له ؛ وهو مثل قوله :﴿ وما الله يريد ظلماً للعباد ﴾ [ غافر : ٣١ ] فنَفَى عن نفسه فِعْلَ الظلم، لأنه لو فعله لكان مريداً له، لاستحالة أن يفعل ما لا يريد. ويدلّ على أن محبته لكون الفعل هي إرادته له، أنه غير جائز أن يحب كونه ولا يريد أن يكون، بل يكره أن يكون ؛ وهذا هو التناقض، كما لو قال :" يريد الفعل ويكرهه " لكان مناقضاً مختلاً في كلامه ؛ ويدل عليه قوله تعالى :﴿ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم ﴾ [ النور : ١٩ ] والمعنى " إن الذين يريدون " فدلّ على أن المحبة هي الإرادة ؛ وقد رُوي عن النبي عليه السلام أنه قال :" إنّ الله أحبَّ لكم ثَلاثاً وكَرِهَ لكم ثلاثاً : أحبّ لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ ولاّهُ اللهُ أمْرَكُمْ ؛ وكَرِهَ لَكُمُ القِيلَ والقَالَ وكثَرْةَ السّؤالِ وإضاعةَ المالِ "، فجعل الكراهة في مقابلة المحبة، فدلّ أن ما أراده فقد أحبه، كما أن ما كرهه فلم يُرِدْه، إذ كانت الكراهة في مقابلة الإرادة كما هي في مقابلة المحبة، فلما كانت الكراهة نقيضاً لكل واحدة من الإرادة والمحبة دلّ على أنهما سواء.
قوله تعالى :﴿ فاعلموا أن الله عزيز حكيم ﴾ فإن العزيز هو المنيع القادر على أن يَمْنَعُ ولا يمنع، لأن أصل العزة الامتناع، ومنه يقال : أرضٌ عَزَارٌ، إذا كانت ممتنعة بالشدة والصعوبة، وأما الحكيم فإنه يطلق في صفة الله تعالى على معنيين : أحدهما العالم، إذا أريد به ذلك جاز أن يقال :" لم يزل حكيماً " والمعنى الآخر : من الفعل المتقن المحكم، وإذا أريد به ذلك لم يَجُزْ أن يقال :" لم يزل حكيماً " كما لا يجوز أن يقال :" لم يزل فاعلاً " فوَصْفُه لنفسه بأنه حكيم يدلّ على أنه لا يفعل الظلم والسفه والقبائح ولا يريدها، لأن من كان كذلك فليس بحكيم عند جميع أهل العقل ؛ وفيه دليل على بطلان قول أهل الجبر.
قوله تعالى :﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ﴾ هذا من المتشابه الذي أمرنا الله بردّه إلى المحكم في قوله :﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ﴾ [ آل عمران : ٧ ]. وإنما كان متشابهاً لاحتماله حقيقة اللفظ، وإتيان الله واحتماله أن يريد أمر الله ودليل آياته، كقوله في موضع آخر :﴿ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ﴾ [ الأنعام : ١٥٨ ]. فجميع هذه الآيات المتشابهة محمولة على ما بينه في قوله ﴿ أو يأتي ربك ﴾ [ الأنعام : ١٥٨ ]، لأن الله تعالى لا يجوز عليه الإتيان ولا المجيءٌ ولا الانتقالُ ولا الزوالُ، لأن ذلك من صفات الأجسام ودلالات الحدث. وقال تعالى في آية محكمة :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ [ الشورى : ١١ ]، وجعل إبراهيم عليه السلام ما شهده من حركات النجوم وانتقالها وزوالها دليلاً على حدثها، واحتج به على قومه، فقال الله عز وجل :﴿ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ﴾ [ الأنعام : ٨٣ ] يعني في حدث الكواكب والأجسام ؛ تعالى الله عن قول المشبهة علوّاً كبيراً.
فإن قيل : فهل يجوز أن يقال :" جاء ربك " بمعنى جاء كتابه أو جاء رسوله أو ما جرى مجرى ذلك ؟ قيل له : هذا مجازٌ، والمجاز لا يستعمل إلا في موضع يقوم الدليل عليه، وقد قال تعالى :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها ﴾ [ يوسف : ٨٢ ] وهو يريد أهل القرية، وقال :﴿ إن الذين يؤذون الله ورسوله ﴾ [ الأحزاب : ٥٧ ] وهو يعني أولياء الله، والمجازُ إنما يُستعمل في الموضع الذي يقوم الدليل على استعماله فيه أو فيما لا يشتبه معناه على السامع.
وقوله عز وجل :﴿ وإلى الله تُرجع الأمور ﴾ فيه وجهان : أحدهما أنه لما كانت الأمور كلها قبل أن يملك العباد شيئاً منها له خاصة، ثم ملكهم كثيراً من الأمور، ثم تكون الأمور كلها في الآخرة إليه دون خلقه، جاز أن يقول : ترجع إليه الأمور، والمعنى الآخر : أن يكون بمعنى قوله :﴿ ألا إلى الله تصير الأمور ﴾ [ الشورى : ٥٣ ] يعني أنه لا يملكها غيره، لا على أنها لم تكن إليه ثم صارت إليه، لكن على أنه لا يملكها أحدٌ سواه، كما قال لَبِيدٌ :
* ومَا المَرْءُ إلا كالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ * يَحُور رَمَاداً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ *
وإنما عَنَى أنه يصير رماداً لا على أنه كان رماداً مرة ثم رجع إلى ما كان.
قوله تعالى :﴿ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين ﴾ الآية، قيل فيه : إنهم كانوا أمةً واحدةً على الكفر وإن كانوا مختلفين في مذاهبهم. وجائز أن يكون فيهم مسلمون إلا أنهم قليلون في نفسهم، وجائز إذا كان كذلك إطلاقُ اسم الأمّة على الجماعة لانصرافه إلى الأعمِّ الأكْثَرِ. وقال قتادة والضحاك :" كانوا أمةً واحدةً على الحق فاختلفوا ".
وقوله :﴿ فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ﴾ فإن عبدالله بن طاوس يروي عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" نَحْنُ الآخِرُونَ السّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أنّ كُلَّ أمَةٍ أوتُوا الكِتَابَ قَبْلَنا وأوتِيناهُ مِنْ بَعْدِهِم، فهذا يَوْمُهُمُ الّذي اخْتَلَفُوا فِيه، فَهَدَانا الله له، ولليهُودِ غَدٌ وللنّصَارَى بَعْدَ غَدٍ ". ورَوَى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام نحوه ؛ إلا أنه قال :" هدانا الله له، يَوْمُ الجُمُعَةِ لنا وغَدَاً لليَهُودِ وبَعْدَ غَدٍ للنّصَارَى ". ففي هذا الحديث أن المراد بقوله :﴿ فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه ﴾ هو يوم الجمعة ؛ وعمومُ اللفظ يقتضي سائر الحق الذي هُدِيَ له المؤمنون، ويكون يوم الجمعة أحدها ؛ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

باب من يبدأ به في النفقة عليه


قال الله تعالى :﴿ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين ﴾ الآية. فالسؤالُ واقعٌ عن مقدار ما ينفق، والجوابُ صَدَرَ عن القليل والكثير مع بيان مَنْ تُصْرَفُ إليه النفقة، فقال تعالى :﴿ قل ما أنفقتم من خير ﴾ فذاك يتناول القليل والكثير لشمول اسم الخير لجميع الإنفاق الذي يطلب به وجه الله. وبيَّن فيمن تصرف إليه بقوله :﴿ فللوالدين والأقربين ﴾ ومَن ذُكر في الآية، وأن هؤلاء أولى من غيرهم ممن ليس هو في منزلتهم بالقرب والفقر.
وقد بيّن في آية أخرى ما يجب عليه في النفقة. وهو قوله :﴿ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ﴾ فرُوي عن ابن عباس قال :" ما يَفْضُلُ عن أهلك "، وقال قتادة :" العفو الفضل ". فأخبر في هذه الآية أن النفقة فيما يفضل عن نفسه وأهله وعياله ؛ وعلى هذا المعنى قال عليه السلام :" خَيْرُ الصَّدَقَةِ ما كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنى " وفي خبر آخر :" خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أبْقَتْ غِنًى، وابَدأْ بمَنْ تَعُولُ " ؛ فهذا موافق لقوله :﴿ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ]. وقد رُوي عن النبي عليه السلام أخبار في التبدئة بالأقرب فالأقرب في النفقة، فمنها حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم :" اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى وابْدَأ بمَنْ تَعُولُ ؛ أمُّكَ وأبوَكَ وأخْتُكَ وأخُوكَ وأدْنَاكَ فأدْنَاكَ " ؛ ورَوَى مثله ثعلبة بن زهدم وطارق عن النبي عليه السلام. وقد دلّ ذلك على معنى الآية في قوله :﴿ قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين ﴾ وإنما المراد بها تقديم الأقرب فالأقرب في الإنفاق. ورُوي عن الحسن البصري أن الآية في الزكاة والتطوع جميعاً، وأنها ثابتة الحكم غير منسوخة عليه. وقال السدي : هي منسوخة بفرض الزكاة. قال أبو بكر : هي ثابتة الحكم عامّة في الفرض والتطوع، أما الفرض فلم يُردْ به الوالدين ولا الولد وإن سفلوا لقيام الدلالة عليه، وأما التطوع فهي عامة في الجميع، ومتى أمكننا استعمالهما مع فرض الزكاة فغيرُ جائز الحكم بنسخها، وكذلك حكم سائر الآيات ؛ متى أمكن الجمع بين جميعها في أحكامها من غير إثبات نَسْخ لها لم يَجُزْ لنا الحكم بنسخ شيء منها، وليس يمتنع أن يكون المرادُ به النفقةَ على الوالدين والأقربين إذا كانوا محتاجين، وذلك إذا كان الرجل غنيّاً ؛ لأن قوله تعالى :﴿ قل العفو ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] قد دلّ على أن النفقة إنما تجب عليه فيما يفضل ؛ فإذا كان هو وعياله محتاجين لا يفضل عنهم شيء فليس عليه نفقة.
وقد دلّت الآية على معانٍ : منها أن القليل والكثير من النفقة يستحق به الثواب على الله تعالى إذا أراد بها وجه الله، وينتظم ذلك الصدقاتِ مِن النوافل والفروض. ومنها أن الأقرب فالأقرب أوْلى بذلك، بقوله :﴿ فللوالدين والأقربين ﴾ مع بيان النبي عليه السلام لمراد الله بقوله :" ابدأ بمن تعول أمَّك وأباك وأختك وأخاك وأدناك فأدناك " وفيه الدلالة على وجوب نفقة الوالدين والأقربين عليه.
فإن قيل : فينبغي أن يلزمه نفقة المساكين وابن السبيل وجميع من ذكر في الآية، قيل له : قد اقتضى ظاهرُها ذلك، وخصصنا بعضها من النفقة التي تستحقها الأقارب بدلالة، وهم داخلون في الزكاة والتطوع. وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا سفيان، عن مزاحم بن زفر، عن مجاهد، عن أبي هريرة قال :" دينار أعطيته في سبيل الله، ودينار أعطيته مسكيناً، ودينار أعطيته في رقبة، ودينار أنفقته على أهلك، فإن الدينار الذي أنفقته على أهلك أعظمها أجراً ". وقد رُوي ذلك مرفوعاً إلى النبي عليه السلام ؛ حدثنا عبدالباقي قال : حدثنا محمد بن يحيى المروزي قال : حدثنا عاصم بن علي قال : حدثنا المسعودي، عن مزاحم بن زفر، عن مجاهد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا شعبة، عن عديّ بن ثابت، عن عبدالله بن زيد، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إنّ المُسْلِمَ إذا أنْفَقَ نَفَقَةً على أهْلِهِ كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً " فهذه الآثار موافقة لمعنى قوله :﴿ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ﴾ وقد اختلف في المراد به، فقال ابن عباس وقتادة :" الفضل عن الغنى ". وقال الحسن وعطاء :" الوسط من غير إسراف ". وقال مجاهد :" أراد به الصدقة المفروضة ".
قال أبو بكر : إذا كان العفوُ ما فضل فجائز أن يريد به الزكاة المفروضة في أنها لا تجب إلاّ فيما فضل عن مقدار الحاجة وحصل به الغنى، وكذلك سائر الصدقات الواجبة، ويجوز أن يريد به الصدقة التطوع، فيتضمن ذلك الأمر بالإنفاق على نفسه وعياله والأقرب فالأقرب منه، ثم بعد ذلك ما يفضل يصرفه إلى الأجانب. ويحتجّ به في أن صدقة الفطر وسائر الصدقات لا تجب على الفقير ؛ إذ كان الله تعالى إنما أمرنا بالإنفاق من العفو والفاضل عن الغنى.
قوله تعالى :﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم ﴾ وهذا يدلّ على فرض القتال، لأن قوله :﴿ كتب عليكم ﴾ بمعنى فُرِضَ عليكم، كقوله :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ [ البقرة : ١٨٦ ]. ثم لا يخلو القتال المذكور في الآية من أن يرجع إلى معهودٍ قد عرفه المخاطبون أو لم يرجع إلى معهود ؛ لأن الألف واللام تدخلان للجنس أو للمعهود، فإن كان المراد قتالاً قد عرفوه رجع الكلام إليه، نحو قوله تعالى :﴿ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] وقوله :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ﴾ [ البقرة : ١٩١ ]. فإن كان كذلك، فإنما هو أمْرٌ بقتالٍ على وصفٍ، وهو أن نقاتل المشركين إذا قاتلونا، فيكون حينئذ كلاماً مبنيّاً على معهود قد عُلِمَ حكمه مكرر ذكره تأكيداً، وإن لم يكن راجعاً إلى معهود فهو لا محالة مجملٌ مفتقر إلى البيان، وذلك أنه معلوم عند وروده أنه لم يأمرنا بقتال الناس كلهم فلا يصح اعتقاد العموم فيه، وما لا يصح اعتقاد العموم فيه فهو مجمل مفتقر إلى البيان. وسنبين اختلاف أهل العلم في فرض الجهاد وكيفيته عند مصيرنا إلى قوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ] إن شاء الله تعالى.
وقوله :﴿ وهو كره لكم ﴾ معناه : مكروه لكم ؛ أقيم فيه المصدر مقام المفعول، كقولك " فلان رِضًى " أي : مَرْضيّ.
قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام ﴾ قد تضمنت هذه الآية تحريم القتال في الشهر الحرام، ونظيره في الدلالة على مثله قوله :﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] وقوله :﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ﴾ [ التوبة : ٣٦ ]. وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن الليث بن سعد قال : حدثني أبو الزبير عن جابر بن عبدالله قال :" لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزَى، فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ ".
وقد اختُلف في نسخ ذلك، فقالت طائفة : حكمه باقٍ لم ينسخ ؛ وممن قال ذلك عطاء بن أبي رباح، حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : ما لهم ! إن ذلك لم يكن يحلّ لهم أن يغزوا في الشهر الحرام ثم غزوهم بعد فيه ! قال : فحلف لي ما يحلّ للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتَلُوا ؛ قال : وما نسخت. وروى سليمان بن يسار وسعيد بن المسيب :" أن القتال جائز في الشهر الحرام " وهو قول فقهاء الأمصار. والأول منسوخ بقوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ] وقوله :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] الآية ؛ لأنها نزلت بعد حظر القتال في الشهر الحرام.
وقد اختُلف في السائلين عن ذلك من هم، فقال الحسن وغيره :" إن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك على جهة العَيْبِ للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام ". وقال آخرون :" المسلمون سألوا عن ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه ". وقيل : إنها نزلت على سَبَبٍ وهو قتل واقد بن عبدالله عمرو بن الحضرمي مشركاً، فقال المشركون قد استحلّ محمدٌ القتال في الشهر الحرام، وقد كان أهل الجاهلية يعتقدون تحريم القتال في هذه الأشهر، فأعلمهم الله تعالى بقاء حظر القتال في الشهر الحرام، وأرَى المشركين مناقضةً بإقامتهم على الكفر مع استعظامهم القتل في الشهر الحرام، مع أنّ الكفرَ أعظمُ الإجرام ومع إخراج أهل المسجد الحرام منه وهم المؤمنون، لأنهم أوْلى بالمسجد الحرام من الكفار، لقوله :﴿ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ﴾ [ التوبة : ١٨ ] فأعلمهم الله أن الكفر بالله وبالمسجد الحرام، وهو أن الله جعل المسجد للمؤمنين ولعبادتهم إياه فيه، فجعلوه لأوثانهم ومنعوا المسلمين منه، فكان ذلك كفراً بالمسجد الحرام، وأخرجوا أهله منه وهم المؤمنون لأنهم أوْلى به من الكفار، فأعلمهم الله أن الكفار مع هذه الأجرام أوْلى بالعيب من قتل رجل من المشركين في الشهر الحرام.

باب تحريم الخمر


قال الله تعالى :﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾. هذه الآية قد تضمنت تحريم الخمر، لو لم يَرِدْ غيرُها في تحريمها لكانت كافية مغنية ؛ وذلك لقوله :﴿ قل فيهما إثم كبير ﴾ والإثمُ كله محرم بقوله تعالى :﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم ﴾ [ الأعراف : ٣٣ ] فأخبر أن الإثم محرمٌ، ولم يقتصر على إخباره بأن فيها إثماً حتى وصفه بأنه كبير، تأكيداً لحظرها.
وقوله :﴿ ومنافع للناس ﴾ لا دلالة فيه على إباحتها، لأن المراد منافع الدنيا ؛ وإن في سائر المحرمات منافع لمرتكبيها في دنياهم، إلا أن تلك المنافع لا تفي بضررها من العقاب المستحقّ بارتكابها. فذِكْرُهُ لمنافعها غير دالّ على إباحتها لا سيما وقد أكّد حظرها مع ذكر منافعها بقوله في سياق الآية :﴿ وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ يعني أن ما يستحق بهما من العقاب أعظم من النفع العاجل الذي ينبغي منهما.
ومما نزل في شأن الخمر قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾ [ النساء : ٤٣ ].
وليس في هذه الآية دلالةٌ على تحريم ما لم يُسكر منها، وفيها الدلالة على تحريم ما يسكر منها ؛ لأنه إذا كانت الصلاة فرضاً نحن مأمورون بفعلها في أوقاتها، فكلّ ما أدّى إلى المنع منها فهو محظور، فإذا كانت الصلاة ممنوعة في حال السكر وكان شربها مؤدياً إلى ترك الصلاة، كان محظوراً ؛ لأن فعل ما يمنع من الفرض محظور.
ومما نزل في شأن الخمر مما لا مساغ للتأويل فيه قوله تعالى :﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ﴾ [ المائدة : ٩٠ ] إلى قوله :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ [ المائدة : ٩٠ ]. فتضمنت هذه الآيات ذكر تحريمها من وجوه : أحدها قوله :﴿ رجس من عمل الشيطان ﴾ [ المائدة : ٩١ ]، وذلك لا يصح إطلاقه إلاّ فيما كان محظوراً محرماً، ثم أكّده بقوله :﴿ فاجتنبوه ﴾ [ المائدة : ٩١ ] وذلك أمْرٌ يقتضي لزومَ اجتنابه ؛ ثم قال تعالى :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ [ المائدة : ٩١ ] ومعناه : فانتهوا.
فإن قيل : ليس في قوله تعالى :﴿ فيهما إثم كبير ﴾ دلالة على تحريم القليل منها، لأن مراد الآية ما يلحق من المأثم بالسكر وترك الصلاة والمواثبة والقتال، فإذا حصل المأثم بهذه الأمور فقد وفينا ظاهر الآية مقتضاها من التحريم، ولا دلالة فيه على تحريم القليل منها. قيل له : معلومٌ أن في مضمون قوله :﴿ فيهما إثم كبير ﴾ ضمير شُرْبِها، لأن الخمر هو فعل الله تعالى ولا مأثم فيها، وإنما المأثم مستحقّ بأفعالنا فيها، فإذا كان الشربُ مضمراً ؛ كان تقديره : في شربها وفعل الميسر إثمٌ كبير، فيتناول ذلك شرب القليل منها والكثير، كما لو قال : حرمتُ الخمر، لكان معقولاً أن المراد به شربها والانتفاع بها، فيقتضي ذلك تحريم قليلها وكثيرها. وقد رُوي في ذلك حديثٌ ؛ حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد اليمان قال : حدثنا أبو عبيد : حدثنا عبدالله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله :﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ﴾ قال :" الميسر هو القمار، كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله " قال : وقوله تعالى :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾ [ النساء : ٤٣ ] قال :" كانوا لا يشربونها عند الصلاة، فإذا صلّوا العشاء شربوها ؛ ثم إن ناساً من المسلمين شربوها فقاتل بعضهم بعضاً وتكلموا بما لا يرضي الله عز وجل، فأنزل الله :﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ﴾ [ المائدة : ٩٠ ]، قال : فالميسر : القمار، والأنصاب : الأوثان، والأزلام : القداح ؛ كانوا يستقسمون بها. قال : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال : قال عمر :" اللهمّ بَينْ لنا في الخمر ! " فنزلت :﴿ ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾ [ النساء : ٤٣ ]، فقال : اللهم بَيِّنْ لنا في الخمر ! فنزلت :﴿ قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾، فقال :" اللهم بَيِّنْ لنا في الخمر ! " فنزلت :﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ﴾ [ المائدة : ٩٠ ] إلى قوله :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ [ المائدة : ٩١ ] فقال عمر :" انتهينا إنها تذهب المال وتذهب العقل ". قال : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا المغيرة عن أبي رزين قال : شربتُ الخمر بعد الآية التي نزلت في البقرة وبعد الآية التي في النساء، فكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة فإذا حضرت تركوها، ثم حرِّمت في المائدة في قوله :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ [ المائدة : ٩١ ]، فانتهى القوم عنها فلم يعودوا فيها.
فمن الناس من يظن أن قوله :﴿ قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ﴾ لم يدلّ على التحريم، لأنه لو كان دالاًّ لما شربوه، ولما أقرَّهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سأل عمر البيان بعد، وليس هذا كذلك عندنا، وذلك لأنه جائزٌ أن يكونوا تأوّلوا في قوله :﴿ ومنافع للناس ﴾ جَوَازَ استباحة منافعها، فإنّ الإثم مقصورٌ على بعض الأحوال دون بعض، فإنما ذهبوا عن حكم الآية بالتأويل. وأما قوله :" إنها لو كانت حراماً لما أقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم على شربها " فإنه ليس في شيء من الأخبار عِلْمُ النبي صلى الله عليه وسلم بشربها ولا إقرارهم عليه بعد علمه. وأما سؤال عمر رضي الله عنه بياناً بعد نزول هذه الآية، فلأنه كان للتأويل فيه مساغٌ، وقد علم هو وجه دلالتها على التحريم، ولكنه سأل بياناً يزول معه احتمال التأويل، فأنزل الله تعالى :﴿ إنما الخمر والميسر ﴾ [ المائدة : ٩٠ ] الآية.
ولم يختلف أهلُ النقل في أن الخمر قد كانت مباحةً في أول الإسلام، وأن المسلمين قد كانوا يشربونها بالمدينة ويتبايعون بها مع علمِ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وإقرارهم عليه، إلى أن حرمها الله تعالى. فمن الناس من يقول : إن تحريمها على الإطلاق إنما ورد في قوله :﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ﴾ إلى قوله ﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ [ المائدة : ٩١ ]، وقد كانت محرمة قبل ذلك في بعض الأحوال، وهي أوقات الصلاة، بقوله :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ [ النساء : ٤٣ ] وأن بعض منافعها قد كان مباحاً وبعضها محظوراً بقوله :﴿ قل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس ﴾ : إلى أن أتمّ تحريمها بقوله :﴿ فاجتنبوه ﴾ [ المائدة : ٩٠ ] وقوله :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ [ المائدة : ٩١ ]. وقد بيّنا ما يقتضيه ظاهر كل واحد من حكم الآيات من حكم التحريم.
وقد اختُلف فيما يتناوله اسم الخمر من الأشربة، فقال الجمهور الأعظم من الفقهاء :" اسم الخمر في الحقيقة يتناول النيَّ المشتدّ من ماء العنب ". وزعم فريق من أهل المدينة ومالك والشافعي أن كل ما أسكر كثيره من الأشربة فهو خَمْر. والدليلُ على أن اسم الخمر مخصوص بالنّيِّ المشتدّ من ماء العنب دون غيره وأن غيره إن سُمِّي بهذا الاسم فإنما هو محمول عليه ومشبه به على وجه المجاز، حديثُ أبي سعيد الخدري قال : أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بنشوان فقال له :" أشَرِبْتَ خمراً ؟ " فقال : ما شربتها منذ حرّمها الله ورسوله، قال :" فماذا شَربتَ ؟ " قال : الخليطين ؛ قال : فحرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخليطين. فنَفَى الشاربُ اسم الخمر عن الخليطين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليه، ولو كان ذلك يسمَّى خمراً من جهة لغة أو شرع لما أقرَّه عليه، إذ كان من نفي التسمية التي عُلِّقَ بها حُكْم نَفْي الحُكْمِ ؛ ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُقِرُّ أحداً على حَظْرِ مباحٍ ولا على استباحة محظورٍ ؛ وفي ذلك دليل على أن اسم الخمر مُنْتَفٍ عن سائر الأشربة إلا من النيّ المشتد من ماء العنب، لأنه إذا كان الخليطان لا يسميان خمراً مع وجود قوة الإسكار منهما عَلِمْنَا أن الاسم مقصور على ما وصفنا. ويدلّ عليه ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن زكريا العلائي قال : حدثنا العباس بن بكار قال : حدثنا عبدالرحمن بن بشير الغطفاني، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأشربة عام حجة الوداع، فقال :" حَرَامٌ الخَمْرُ بعَيْنِها والسُّكْرُ مِنْ كلّ شَرَابٍ ". قال عبدالباقي : وحدثنا محمد بن زكريا العلائي قال : حدثنا شعيب بن واقد قال : حدثنا قيس، عن قطن، عن منذر، عن محمد ابن الحنفية، عن عليّ، عن النبي صلى الله عليه السلام نحوه. وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا حسين بن إسحاق قال : حدثنا عياش بن الوليد قال : حدثنا علي بن عباس قال : حدثنا سعيد بن عمارة قال : حدثنا الحارث بن النعمان قال : سمعت أنس بن مالك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الخَمْرُ بعَيْنِها حَرَامٌ والسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ ". وقد رَوَى عبدالله بن شداد عن ابن عباس من قوله مثل ذلك، ورُوي عنه أيضاً مَرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد حوى هذا الخبر معاني : منها أن اسم الخمر مخصوصٌ بشراب بعينه دون غيره، وهو الذي لم يُختلف في تسميته بها دون غيرها من ماء العنب، وأن غيرها من الأشربة غير مسمَّى بهذا الاسم، لقوله :" السّكْرُ مِنْ كل شراب " وقد دلّ أيضاً على أن المحرَّمَ من سائر الأشربة هو ما يَحْدُثُ عنده السكرُ، لولا ذلك لما اقتصر منها على السكر دون غيره، ولما فصل بينها وبين الخمر في جهة التحريم، ودلّ أيضاً على أن تحريم الخمر حكمٌ مقصور عليها غير متعدٍّ إلى غيرها قياساً ولا استدلالاً، إذ علق حكم التحريم بعين الخمر دون معنى فيها سواها، وذلك ينفي جواز القياس عليها، لأن كل أصْلٍ ساغ القياسُ عليه فليس الحكم المنصوص عليه مقصوراً عليه ولا متعلقاً به بعينه، بل يكون الحكم منصوباً على بعض أوصافه مما هو موجود في فروعه فيكون الحكم تابعاً للوصف جارياً معه في معلولاته.
ومما يدلّ على أن سائر الأشربة المسكرة لا يتناولها اسم الخمر قولُه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة عنه :" الخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ : النَّخْلَةِ والعِنَبَةِ "، فقوله :" الخمر " اسم للجنس لدخول الألف واللام عليه، فاستوعب به جميع ما يسمَّى بهذا الاسم، فلم يَبْقَ شيءٌ من الأشربة يسمَّى به إلاّ وقد استغرقه ذلك، فانتفى بذلك أن يكون ما يخرج من غير هاتين الشجرتين يسمَّى خمراً. ثم نظرنا فيما يخرج منهما هل جميع الخارج منهما مسمًّى باسم الخمر أم لا ؟ فلما اتفق الجميع على أن كل ما يخرج منهما من الأشربة غير مسمًّى باسم الخمر، لأن العصير والدبس والخلّ ونحوه من هاتين الشجرتين ولا يسمَّى شيءٌ منه خمراً، علمنا أن مراده بعض الخارج من هاتين الشجرتين، وذلك البعض غير مذكور في الخبر، فاحْتَجْنَا إلى الاستدلال على مراده من غيره في إثبات اسم الخمر للخارج منهما، فسقط الاحتجاجُ به في تحريم جميع الخارج منهما وتسميته باسم الخمر. ويحتمل مع ذلك أن يكون مراده أن الخمر أحدهما، كقوله تعالى :{ يخرج منهما اللؤلؤ

باب التصرف في مال اليتيم


قال الله تعالى :﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾. قال أبو بكر : اليتيمُ المنفردُ عن أحد أبويه، فقد يكون يتيماً من الأم مع بقاء الأب، وقد يكون يتيماً من الأب مع بقاء الأم ؛ إلاّ أن الأظهر عند الإطلاق هو اليتيم من الأب وإن كانت الأم باقية، ولا يكاد يوجد الإطلاق في اليتيم من الأم إذا كان الأب باقياً. وكذلك سائر ما ذكر الله من أحكام الأيتام إنما المراد بها الفاقدون لآبائهم وهم صغار، ولا يطلق ذلك عليهم بعد البلوغ إلاّ على وجه المجاز لقُرْبِ عهدهم باليُتْم. والدليل على أن اليتيم اسم للمنفرد ؛ تسميتهم للمرأة المنفردة عن الزوج يتيمةً سواء كانت كبيرة أو صغيرة ؛ قال الشاعر :
* إنّ القُبُورَ تَنْكِحُ الأيَامَى * النِّسْوَةَ الأَرَامِلَ اليَتَامَى *
وتسمَّى الرابيةُ يتيمةً لانفرادها عما حواليها ؛ قال الشاعر يصف ناقته :
* قَوْدَاءُ يَمْلِكُ رَحْلَها * مِثْلَ اليَتِيمِ مِنَ الأرَانِب *
يعني الرابية. ويقال : درّة يتيمة، لأنها مفردة لا نظير لها. وكتابٌ لابن المقفع في مدح أبي العباس السفّاح واختلاف مذاهب الخوارج وغيرهم يسمَّى اليتيمة ؛ قال أبو تمام :
* وكَثِيرُ عزَّة يَوْمَ بَيْنٍ يَنْسُبُ * وابنُ المُقَفعَ في اليَتِيمَةِ يُسْهِبُ *
وإذا كان اليتيم اسماً للانفراد كان شاملاً لمن فقد أحد أبويه صغيراً أو كبيراً، إلا أنّ الإطلاق إنما يتناول ما ذكرنا من فَقْدِ الأب في حال الصِّغَرِ. حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله عز وجل :﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ﴾ قال : إن الله تعالى لما أنزل :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ﴾ [ النساء : ١٠ ] كره المسلمون أن يضمّوا اليتامى إليهم وتحرَّجوا أن يخالطوهم وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، فأنزل الله :﴿ ويسألونك عن اليتامى ﴾ إلى قوله ﴿ ولو شاء الله لأعنتكم ﴾، قال : لو شاء الله لأحرجكم وضيَّق عليكم، ولكنه وسَّع ويسَّر فقال :﴿ ومن كان غنيّاً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف ﴾ [ النساء : ٦ ]. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" ابْتَغُوا بأمْوَالِ اليَتَامَى لا تَأْكُلها الصَّدَقَةُ "، ويُرْوى ذلك موقوفاً على عمر. وعن عمر وعائشة وابن عمر وشريح وجماعة من التابعين :" دَفْعُ مال اليتيم مضاربةٌ والتجارةُ به ".
وقد حَوَتْ هذه الآية ضروباً من الأحكام، أحدها قوله :﴿ قل إصلاح لهم خير ﴾ فيه الدلالة على جواز خَلْطِ ماله بماله، وجواز التصرف فيه بالبيع والشِّرَى إذا كان ذلك صلاحاً، وجوازُ دفعه مضاربة إلى غيره، وجواز أن يعمل وليّ اليتيم مضاربة أيضاً. وفيه الدلالة على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث، لأن الإصلاح الذي تضمّنته الآية إنما يُعلم من طريق الاجتهاد وغالب الظنّ ؛ ويدلّ على أن لوليّ اليتيم أن يشتري من ماله لنفسه إذا كان خيراً لليتيم وذلك بأن ما يأخذه اليتيم أكثر قيمة مما يخرج عن ملكه، وهو قول أبي حنيفة ؛ ويبيع أيضاً من مال نفسه لليتيم لأن ذلك من الإصلاح له. ويدلّ أيضاً على أن له تزويج اليتيم إذا كان ذلك من الإصلاح، وذلك عندنا فيمن كان ذا نَسَبٍ منه دون الوصيّ الذي لا نَسَبَ بينه وبينه ؛ لأن الوصية نفسها لا يستحق بها الولاية في التزويج، ولكنه قد اقتضى ظاهره أن للقاضي أن يزوجه ويتصرف في ماله على وجه الإصلاح. ويدلّ على أن له أن يعلمه ما له فيه صلاحٌ من أمر الدين والأدب ويستأجر له على ذلك وأن يؤاجره ممن يعلمه الصناعات والتجارات ونحوها، لأن جميع ذلك قد يقع على وجه الإصلاح ؛ ولذلك قال أصحابنا :" إن كل من كان اليتيم في حجْره من ذوي الرحم المحرم فله أن يؤاجره ليعلم الصناعات ". وقال محمد :" له أن ينفق عليه من ماله ". وقالوا :" إنه إذا وهب لليتيم مال فلمن هو في حجره أن يقبضه له لما له فيه من الصلاح ". فظاهر الآية قد اقتضى جميع ذلك كله.
وقوله :﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ﴾ إنما عُني بالمضمرين في قوله ﴿ ويسألونك ﴾ القُوَّامُ على الأيتام الكافلين لهم، وذلك ينتظم كل ذي رحم محرم لأن له إمساك اليتيم وحفظه وحياطته وحضانته. وقد انتظم قوله :﴿ قل إصلاح لهم خير ﴾ سائر الوجوه التي ذكرنا من التصرف في ماله على وجه الإصلاح والتزويج والتقويم والتأديب.
وقوله :﴿ خير ﴾ قد دلّ على معانٍ : منها إباحة التصرف على اليتامى من الوجوه التي ذكرنا، ومنها أن ذلك مما يستحق به الثواب، لأنه سماه خيراً وما كان خيراً فإنه يستحق به الثواب. ومنها أنه لم يوجبه وإنما وعد به الثواب، فدلّ على أنه ليس بواجب عليه التصرف في ماله بالتجارة ولا هو مُجْبَرٌ على تزويجه، لأن ظاهر اللفظ يدل على أن مراده النّدب والإرشاد.
وقوله :﴿ وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾ فيه إباحة خَلْطِ ماله بماله والتجارة والتصرف فيه، ويدلّ على أنه له أن يخالط اليتيم بنفسه في الصِّهْر والمناكحة وأن يزوجه بنته أو يزوج اليتيمة بعض ولده، فيكون قد خلط اليتامى بنفسه وعياله واختلط هو بهم. فقد انتظم قوله :﴿ وإن تخالطوهم ﴾ إباحة خلط ماله بماله والتصرف فيه وجواز تزويجه بعض ولده ومن يلي عليه، فيكون قد خلطه بنفسه. والدليل على أن اسم المخالطة يتناول جميع ذلك قولهم :" فلانٌ خليطُ فلانٍ " إذا كان شريكاً، وإذا كان يعامله ويبايعه ويشاريه ويداينه وإن لم يكن شريكاً. وكذلك يقال :" قد اختلط فلانٌ بفلانٍ " إذا صاهره ؛ وذلك كله مأخوذ من الخِلْطَةِ التي هي الاشتراك في الحُقُوقِ من غير تمييز بعضهم من بعض فيها.
وهذه المخالطةُ معقودةٌ بشريطة الإصلاح من وجهين، أحدهما : تقديمه ذكر الإصلاح فيما أجاب به من أمر اليتامى، والثاني : قوله عقيب ذكر المخالطة :﴿ والله يعلم المفسد من المصلح ﴾.
وإذا كانت الآية قد انتظمت جوازَ خلطه مال اليتيم بماله ؛ في مقدار ما يغلب في ظنه أن اليتيم يأكله على ما رُوي عن ابن عباس، فقد دلّ على جواز المناهدة التي يفعلها الناس في الأسفار ؛ فيخرج كل واحد منهم شيئاً معلوماً فيخلطونه ثم ينفقونه وقد يختلف أكل الناس، فإذا كان الله قد أباح في أموال الأيتام فهو في مال العقلاء البالغين بطيبة أنفسهم أجْوَزُ ؛ ونظيره في تجويزه المناهدة قوله تعالى في قصة أهل الكهف :﴿ فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً ﴾ [ الكهف : ١٩ ] فكان الوَرِقُ لهم جميعاً لقوله :﴿ بورقكم ﴾ فأضافه إلى الجماعة وأمره بالشراء ليأكلوا جميعاً منه.
وقوله :﴿ وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾ قد دلّ على ما ذكرنا من جواز المشاركة والخلطة، على أنه يستحق الثواب بما يتحرَّى فيه الإصلاح من ذلك، لأن قوله :﴿ فإخوانكم ﴾ قد دلّ على ذلك، إذ هو مندوبٌ إلى معونة أخيه وتَحَرِّي مصالحه لقوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ﴾ [ الحجرات : ١٠ ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" والله في عَوْنِ العَبْدِ ما دَامَ العَبْدُ في عَوْنِ أخِيه ". فقد انتظم قوله :﴿ فإخوانكم ﴾ الدلالةَ على الندب والإرشاد واستحقاق الثواب بما يليه منه.
وقوله :﴿ ولو شاء الله لأعنتكم ﴾ يعني به لضيَّق عليكم في التكليف فيمنعكم من مخالطة الأيتام والتصرف لهم في أموالهم، ولأمَرَكُم بإفراد أموالكم عن أموالهم، أو لأَمَرَكُم على جهة الإيجاب بالتصرف لهم وطلب الأرباح بالتجارات لهم ؛ ولكنه وسَّع ويسَّر وأباح لكم التصرف لهم على وجه الإصلاح ووعدكم الثواب عليه ولم يُلْزِمْكم ذلك على جهة الإيجاب فيضيَّق عليكم، تذكيراً بِنعَمِهِ وإعلاماً منه اليُسْرَ والصلاح لعباده.
وقوله :﴿ فإخوانكم ﴾ يدل على أن أطفال المؤمنين هم مؤمنون في الأحكام، لأن الله تعالى سماهم إخوانا لنا، والله تعالى قد قال :﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ [ الحجرات : ١٠ ]. والله تعالى أعلم.

باب نكاح المشركات


قال الله تعالى :﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ﴾ حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله :﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ﴾ قال : ثم استثنى أهل الكتاب فقال :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ﴾ [ المائدة : ٥ ]، قال : عفائف غير زَوَانٍ. فأخبر ابن عباس أن قوله :﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ﴾ مرتب على قوله :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ [ المائدة : ٥ ] وأن الكتابيات مستثناة منهن. ورُوي عن ابن عمر أنها عامة في الكتابيات وغيرهن ؛ حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيدالله بن نافع عن ابن عمر :" أنه كان لا يرى بأساً بطعام أهل الكتاب، وكره نكاح نسائهم ". قال أبو عبيد : وحدثنا عبدالله بن صالح عن الليث قال : حدثني نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية قال :" إن الله حرَّم المشركات على المسلمين " قال :" فلا أعلم من الشرك شيئاً أكبر " أو قال :" أعظم من أن تقول ربها عيسى أو عَبْدٌ من عبيد الله ". فكرهه في الحديث الأول ولم يذكر التحريم، وتلا في الحديث الثاني الآية ولم يقطع فيها بشيء، وإنما أخبر أن مذهب النصارى شِرْكٌ. قال : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا علي بن سعد عن أبي المليح عن ميمون بن مهران قال : قلت لابن عمر : إنّا بأرض يخالطنا فيها أهل الكتاب فننكح نساءهم ونأكل طعامهم ؟ قال : فقرأ عليَّ آية التحليل وآية التحريم، قال : قلت : إني أقرأ ما تقرأ فننكح نساءهم ونأكل طعامهم ؟، قال : فأعاد عليَّ آية التحليل وآية التحريم. قال أبو بكر : عدوله بالجواب بالإباحة والحظر إلى تلاوة الآية ؛ دليلٌ على أنه كان واقفاً في الحكم غير قاطع فيه بشيء، وما ذُكر عنه من الكراهة يدلّ على أنه ليس على وجه التحريم ؛ كما يُكْره تزوج نساء أهل الحرب من الكتابيات لا على وجه التحريم.
وقد رُوي عن جماعة من الصحابة والتابعين إباحةُ نكاح الكتابيات ؛ حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثني سعيد بن أبي مريم عن يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد عن عمر مولى عفرة قال : سمعت عبدالله بن علي بن السائب يقول : إن عثمان تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية وهي نصرانية على نسائه ؛ وبهذا الإسناد من غير ذكر نافع : أن طلحة بن عبيدالله تزوج يهودية من أهل الشام. ورُوي عن حذيفة أيضاً أنه تزوج يهودية وكتب إليه عمر أنْ خَلِّ سبيلها، فكتب إليه حذيفة : أحرام هي ؟ فكتب إليه عمر : لا، ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهم. ورُوي عن جماعة من التابعين إباحةُ تزويج الكتابيات، منهم الحسن وإبراهيم والشعبي ؛ ولا نعلم عن أحد من الصحابة والتابعين تحريم نكاحهن، وما رُوي عن ابن عمر فيه فلا دلالة فيه على أنه رآه محرَّماً وإنما فيه عنه الكراهة، كما رُوي كراهة عمر لحذيفة تزويج الكتابية من غير تحريم. وقد تزوج عثمان وطلحة وحذيفة الكتابيات، ولو كان ذلك محرماً عند الصحابة لظهر منهم نكيرٌ أو خلاف، وفي ذلك دليل على اتفاقهم على جوازه.
وقوله :﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ﴾ غير موجب لتحريم الكتابيات من وجهين ؛ أحدهما : أن ظاهر لفظ المشركات إنما يتناول عَبَدَةَ الأوثان منهم عند الإطلاق ولا يدخل فيه الكتابيات إلا بدلالة، ألا ترى إلى قوله :﴿ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ﴾ [ البقرة : ١٠٥ ] وقال :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ﴾ [ البينة : ١ ] ففرق بينهم في اللفظ، وظاهره يقتضي أن المعطوف غير المعطوف عليه إلاّ أن تقوم الدلالة على شمول الاسم للجميع، وأنه أفرد بالذكر لضرب من التعظيم أو التأكيد كقوله تعالى :﴿ من كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] فأفردهما بالذكر تعظيماً لشأنهما مع كونهما من جملة الملائكة. إلا أن الأظهر أن المعطوف غير المعطوف عليه إلاّ أن تقوم الدلالة على أنه من جنسه، فاقتضى عطفه أهل الكتاب على المشركين أن يكونوا غيرهم، وأن يكون التحريم مقصوراً على عبدة الأوثان من المشركين. والوجه الآخر : أنه لو كان عموماً في الجميع، لوجب أن يكون مرتباً على قوله :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ [ المائدة : ٥ ] وأن لا تُنسخ إحداهما بالأخرى ما أمكن استعمالهما.
فإن قيل : قوله :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ [ المائدة : ٥ ] إنما أراد به اللاتي أسلمن من أهل الكتاب، كقوله تعالى :﴿ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ﴾ [ آل عمران : ١٩٩ ] :﴿ وإن من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ﴾ [ آل عمران : ١١٣ ] قيل له : هذا خُلْفٌ من القول دالٌّ على غباوة قائله والمحتج به، وذلك من وجهين، أحدهما : أن هذا الاسم إذا أطلق فإنما يتناول الكفار منهم، كقوله :﴿ من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] وقوله :﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ﴾ [ آل عمران : ٧٥ ] وما جرى مجرى ذلك من الألفاظ المطلقة، فإنما يتناول اليهود والنصارى، ولا يعقل به من كان من أهل الكتاب فأسلم إلا بتقييد ذِكْرِ الإيمان، ألا ترى أن الله تعالى لما أراد به من أسلم منهم ذكر الإسلام مع ذكره أنهم من أهل الكتاب فقال :﴿ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ﴾ [ آل عمران : ١١٣ ] ﴿ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ﴾ [ آل عمران : ١٩٩ ]. والوجه الآخر : أنه ذكر في الآية المؤمنات، وقد انتظم ذِكْرَ المؤمنات اللاتي كنّ من أهل الكتاب فأسلمن ومن كنّ مؤمنات في الأصل، لأنه قال :﴿ والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ [ المائدة : ٥ ] فكيف يجوز أن يكون مراده بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من المؤمنات المبدوء بذكرهن ! وربما احتجّ بعض القائلين بهذه المقالة بما رُوي عن عليّ بن أبي طلحة قال : أراد كعب بن مالك أن يتزوج امرأة من أهل الكتاب، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه وقال :" إنّها لا تُحْصِنُكَ " قال : فظاهر النهي يقتضي الفساد. فيقال : إن هذا حديثٌ مقطوعٌ من هذا الطريق ولا يجوز الاعتراض بمثله على ظاهر القرآن في إيجاب نسخه ولا تخصيصه، وإن ثبت فجائز أن يكون على وجه الكراهية، كما روي عن عمر من كراهته لحذيفة تزويج اليهودية لا على وجه التحريم ؛ ويدل عليه قوله :" إنها لا تحصنك " ونفي التحصين غير موجب لفساد النكاح، لأن الصغيرة لا تحصنه وكذلك الأمة ويجوز نكاحهما.
وقد اختُلف في تزويج الكتابية الحربية، فحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال :" لا تحل نساء أهل الكتاب إذا كانوا حرباً " قال : وتلا هذه الآية :﴿ وقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ إلى قوله :﴿ وهم صاغرون ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] قال الحكم : فحدثت به إبراهيم فأعجبه. قال أبو بكر : يجوز أن يكون ابن عباس رأى ذلك على وجه الكراهية، وأصحابنا يكرهونه من غير تحريم ؛ وقد رُوي عن عليّ أنه كره نساء أهل الحرب من أهل الكتاب. وقوله تعالى :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ [ المائدة : ٥ ] لم يفرق فيه بين الحربيات والذميات ؛ وغير جائز تخصيصه بغير دلالة. وقوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] لا تعلّق له بجواز النكاح ولا فساده، ولو كان وجوب القتال علة لفساد النكاح لوجب أن لا يجوز نكاح نساء الخوارج وأهل البغي لقوله تعالى :﴿ فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ﴾ [ الحجرات : ٩ ]، فبان بما وصفنا أنه لا تأثير لوجوب القتال في إفساد النكاح، وأن ما كرهه أصحابنا لقوله تعالى :﴿ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ﴾ [ المجادلة : ٢٢ ]، والنكاح يوجب المودة لقوله تعالى :﴿ وجعل بينكم مودة ورحمة ﴾ [ الروم : ٢١ ] فلما أخبر أن النكاح سبب المودة والرحمة ونهانا عن موادة أهل الحرب، كرهوا ذلك. وقوله :﴿ يوادّون من حادّ الله ورسوله ﴾ [ المجادلة : ٢٢ ] إنما هو في أهل الحرب دون أهل الذمة، لأنه لفظٌ مشتقٌّ من كونهم في حَدٍّ ونحن في حَدٍّ، وكذلك المشاقّة وهو أن يكونوا في شقٍّ ونحن في شقٍّ، وهذه صفة أهل الحرب دون أهل الذمة، فلذلك كرهوه. ومن جهة أخرى وهو أن ولده ينشأ في دار الحرب على أخلاق أهلها، وذلك منهيٌّ عنه، قال صلى الله عليه وسلم :" أنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ بَيْنَ ظَهْرَاني المُشْرِكِينَ " وقال صلى الله عليه وسلم :" أنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ ".
فإن قيل : ما أنكرت أن يكون قوله تعالى :﴿ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ﴾ [ المجادلة : ٢٢ ] مخصصاً لقوله :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ [ المائدة : ٥ ] قاصراً لحكمه على الذميات منهن دون الحربيات ؟ قيل له : الآية إنما اقتضت النهي عن الوداد والتحابّ، فأما نفس عقد النكاح فلم تتناوله الآية وإن كان قد يصير سبباً للموادة والتحابّ، فنفس العقد ليس هو الموادة والتحابّ إلا أنه يؤدي إلى ذلك فاستحسنوا له غيرهن.
فإن قيل : لما قال عقيب تحريم نكاح المشركات :﴿ أولئك يدعون إلى النار ﴾ دلّ على أنه لهذه العلة حرَّم نكاحهن، وذلك موجود في نكاح الكتابيات الذميات والحربيات منهن، فوجب تحريم نكاحهن لهذه العلة كتحريم نكاح المشركات. قيل له : معلومٌ أن هذه ليست علّة موجبة لتحريم النكاح، لأنها لو كانت كذلك لكان غير جائز إباحتهنّ بحال، فلما وجدنا نكاح المشركات قد كان مُباحاً في أول الإسلام إلى أن نزل تحريمهن مع وجود هذا المعنى وهو دعاء الكافرين لنا إلى النار، دلّ على أن هذا المعنى ليس بعلة موجبة لتحريم النكاح ؛ وقد كانت امرأة نوح وامرأة لوط كافرتين تحت نبيين من أنبياء الله تعالى، قال الله تعالى :﴿ ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين ﴾ [ التحريم : ١٠ ] فأخبر بصحة نكاحهما مع وجود الكفر منهما، فثبت بذلك أن الكفر ليس بعلة موجبة لتحريم النكاح ؛ وإن كان الله تعالى قد قال في سياق تحريم المشركات :﴿ أولئك يدعون إلى النار ﴾ فجعله عَلَمَاً لبطلان نكاحهن، وما كان كذلك من المعاني التي تجري مجرى العلل الشرعية، فليس فيه تأكيد فيما يتعلق به الحكم من الاسم فيجوز تخصيصه كتخصيص الاسم. وإذا كان قوله :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ﴾ [ المائدة : ٥ ] يجوز به تخصيص التحريم الذي علق بالاسم، جاز أيضاً تخصيص الحكم المنصوب على المعنى الذي أجْرِيَ مجرى العلل الشرعية، ونظي

باب الحيض


قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ﴾ والمحيض قد يكون اسماً للحيض نفسه، ويجوز أن يسمَّى به موضع الحيض، كالمَقِيلِ والمَبِيتِ هو موضع القيلولة وموضع البيتوتة. ولكن في فَحْوَى اللفظ ما يدل على أن المراد بالمحيض في هذا الموضع هو الحيض، لأن الجواب ورد بقوله :﴿ هو أذًى ﴾ وذلك صفة لنفس الحيض لا للموضع الذي فيه، وكانت مسألة القوم عن حكمه وما يجب عليهم فيه، وذلك لأنه قد كان قومٌ من اليهود يجاورونهم بالمدينة وكانوا يجتنبون مؤاكلة النساء ومشاربتهن ومجالستهن في حال الحيض، فأرادوا أن يعلموا حكمه في الإسلام، فأجابهم الله بقوله هذا :﴿ هو أذًى ﴾ يعني أنه نجس وقذر. ووَصْفُه له بذلك قد أفاد لزوم اجتنابه، لأنهم كانوا عالمين قبل ذلك بلزوم اجتناب النجاسات، فأطلق فيه لفظاً عقلوا منه الأمر بتجنبه. ويدلّ على أن الأذى اسمٌ يقع على النجاسات قول النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا أصَابَ نَعلَ أحَدِكُمْ أذًى فلْيَمْسَحْها بالأرْضِ وليُصَلِّ فيها فإنه لَهَا طُهُورٌ " فسمَّى النجاسة أذى ؛ وأيضاً لما كان معلوماً أنه لم يُرِدْ بقوله :﴿ قل هو أذى ﴾ الإخبار عن حاله في تأذّي الإنسان به لأن ذلك لا فائدة فيه، علمنا أنه أراد الإخبار بنجاسته ولزوم اجتنابه، وليس كلّ أذًى نجاسة، قال الله تعالى :﴿ ولا جناح عليكم إن كان بكم أذًى من مطر ﴾ [ النساء : ١٠٢ ] والمطر ليس بنجس، وقال :﴿ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً ﴾ [ آل عمران : ١٨٦ ] وإنما كان الأذى المذكور في الآية عبارةً عن النجاسة، ومفيداً لكونه قذراً يجب اجتنابه، لدلالة الخطاب عليه ومقتضى سؤال السائلين عنه.
وقد اختلف الفقهاء فيما يلزم اجتنابه من الحائض بعد اتفاقهم على أن له أن يستمتع منها بما فوق المئزر، وورد به التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم، رَوَتْه عائشة وميمونة :" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشر نساءه وهُن حُيّضٌ فوق الإزار ". واتفقوا أيضاً أن عليه اجتناب الفَرْجِ منها، واختلفوا في الاستمتاع منها بما تحت الإزار بعد أن يجتنب شعار الدم ؛ فرُوي عن عائشة وأم سلمة :" أن له أن يطأها فيما دون الفرج "، وهو قول الثوري ومحمد بن الحسن، وقالا :" يُجتنب موضع الدم " ورُوي مثله عن الحسن والشعبي وسعيد بن المسيب والضحاك. ورُوي عن عمر بن الخطاب وابن عباس :" أن له منها ما فوق الإزار " وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف والأوزاعي ومالك والشافعي.
قال أبو بكر : قوله تعالى :﴿ فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ﴾ قد انتظم الدلالة من وجهين على حظر ما تحت الإزار، أحدهما : قوله :﴿ فاعتزلوا النساء في المحيض ﴾ ظاهره يقتضي لزوم اجتنابها فيما تحت المئزر وفوقه، فلما اتفقوا على إباحة الاستمتاع منها بما فوقه سلمناه للدلالة، وحكم الحظر قائم فيما دونه، إذ لم تقم الدلالة عليه. والوجه الآخر قوله :﴿ ولا تقربوهن ﴾ وذلك في حكم اللفظ الأول في الدلالة على مثل ما دلّ عليه، فلا يخصّ منه عند الاختلاف إلاّ ما قامت الدلالة عليه. ويدلّ عليه أيضاً من جهة السنّة حديثُ يزيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق عن عمير مولى عمر بن الخطاب : أن نفراً من أهل العراق سألوا عُمَرَ عما يحلّ لزوج الحائض منها وغير ذلك، فقال : سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" لَكَ مِنْها مَا فَوْقَ الإِزَارِ ولَيْسَ لك مِنْها ما تَحْتَهُ ". ويدل عليه أيضاً حديثُ الشيباني عن عبدالرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت :" كانت إحدانا إذا كانت حائضاً أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتَّزِرَ في فَوْرِ حَيْضِها ثم يباشرها، فأيكم يملك إرْبَهُ كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إرْبَه ؟ ". وروى الشيباني أيضاً عن عبدالله بن شداد عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عنه مثله.
ومن أباح له ما دون المئزر احتجّ بحديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس : أن اليهود كانوا يُخْرِجون الحائض من البيت ولا يؤاكلونها ولا يجامعونها في بيت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى :﴿ ويسألونك عن المحيض ﴾ الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" جَامِعُوهُنَّ في البُيُوتِ واصْنَعُوا كلَّ شيءٍ إلاّ النّكَاحَ ". وبما رُوي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها :" ناوليني الخُمْرَةَ " فقالت : إني حائضٌ، فقال :" لَيْسَتْ حَيْضَتُكِ في يَدِكِ " قالوا : وهذا يدلّ على أن كل عضوٍ منها ليس فيه الحيض حُكْمُهُ حُكْمُ ما كان من قبل الحيض في الطهارة ؛ وفي جواز الاستمتاع. والجواب عن ذلك لمن رأى حظر ما دون مئزرها، أن قوله في حديث أنس إنما فيه ذِكْرُ سبب نزول الآية وما كانت اليهود تفعله، فأخبر عن مخالفتهم في ذلك، وأنه ليس علينا إخراجُها من البيت وتركُ مجالستها، وقوله :" اصْنَعُوا كلّ شيءٍ إلا النكاح " جائزٌ أن يكون المراد به الجماع فيما دون الفَرْج، لأنه ضَرْبٌ من النكاح والمجامعة، وحديث عمر الذي ذكرناه قاضٍ عليه متأخرٌ عنه، والدليلُ على ذلك أن في حديث أنس إخباراً عن حال نزول الآية، وحديث عمر بعد ذلك، لأنه لم يخبر عن حال نزول الآية، وقد أخبِر فيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما يحلّ من الحائض، وذلك لا محالة بعد حديث أنس من وجهين : أحدهما : أنه لم يسأل عما يحل منها إلاّ وقد تقدم تحريم إتيان الحائض. والثاني : أنه لو كان السؤال في حال نزول الآية عقيبها لاكتفى بما ذكره أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" اصنعوا كل شيء إلاّ النكاح ". وفي ذلك دليل على أن سؤال عمر كان بعد ذلك. ومن جهة أخرى أنه لو تعارض حديث عمر وحديث أنس لكان حديث عمر أوْلى بالاستعمال لما فيه من حظر الجماع فيما دون الفرج، وفي ظاهر حديث أنس الإباحة، والحظرُ والإباحةُ إذا اجتمعا فالحظرُ أوْلى. ومن جهة أخرى، وهو أن خبر عمر يَعْضُدُهُ ظاهر القرآن، وهو قوله تعالى :﴿ فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ﴾، وخبرُ أنس يوجب تخصيصه وما يوافق القرآن من الأخبار فهو أولى مما يخصه. ومن جهة أخرى، وهو أن خبر أنس مجملٌ عامٌّ ليس فيه بيان إباحة موضعٍ بعينه، وخبر عمر مفسَّرٌ فيه بيانٌ لحكم الموضعين مما تحت الإزار وما فوقه ؛ والله أعلم.

باب بيان معنى الحيض ومقداره


قال أبو بكر : الحيضُ اسمٌ لمقدار من الدم يتعلق به أحكام، منها : تحريمُ الصلاة والصومِ وحظرُ الجماع وانقضاء العدة واجتنابُ دخول المسجد ومسّ المصحف وقراءة القرآن، وتصير المرأة به بالغةً. فإذا تعلق بوجود الدم هذه الأحكام كان له مقدار ما سمِّي حيضاً، وإذا لم يتعلق به هذه الأحكام لم يسم حيضاً، ألا ترى أن الحائض ترى الدم في أيامها وبعد أيامها على هيئة واحدة ؛ فيكون ما في أيامها منه حيضاً لتعلق هذه الأحكام به مع وجوده، وما بعد أيامها فليس بحيض لفقد هذه الأحكام مع وجوده ؟ وكذلك نقول في الحامل : إنها لا تحيض وهي قد ترى الدم، ولكن ذلك الدم لما لم يتعلق به ما ذكرنا من الأحكام لم يسمَّ حيضاً، فالمستحاضة قد ترى الدم السائل دَهْراً ولا يكون حيضاً، وإن كان كهيئة الدم الذي يكون مثله حيضاً إذا رأته في أيامها ؛ فالحيض اسم لدم يفيد في الشرع تعلق هذه الأحكام به إذا كان له مقدارٌ ما.
والنفاس والحيض فيما يتعلق بهما من تحريم الصلاة والصوم وجماع الزوج واجتناب ما يجتنبه الحائض سواءٌ، وإنما يختلفان من وجهين، أحدهما : أن مقدار مدة الحيض ليس هو مقدار مدة النفاس، والثاني : أن النفاس لا تأثير له في انقضاء العدة ولا في البلوغ. وكان أبو الحسن يحدّ الحيض بأنه الدم الخارج من الرحم الذي تكون به المرأة بالغة في ابتدائه بها وما تعتاده النساء في الوقت بعد الوقت. وإنما أراد بذلك عندنا أن تكون بالغةً في ابتدائه بها ؛ إذا لم يكن قد تقدم بلوغها قبل ذلك من جهة السنّ أو الاحتلام أو الإنزال عند الجماع، فأما إذا تقدم بلوغها قبل ذلك بما وصفنا ثم رأت دماً، فهو حيضٌ إذا رأته مقدار مدة الحيض وإن لم تَصِرْ بالغةً في ابتدائه بها.
وقد اختلف الفقهاء في مقدار مدة الحيض، فقال أصحابنا :" أقل مدة الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة " وهو قول سفيان الثوري، وهو المشهور عن أصحابنا جميعاً. وقد رُوي عن أبي يوسف ومحمد :" إذا كان يومين وأكثر اليوم الثالث فهو حيضٌ " والمشهور عن محمد مثل قول أبي حنيفة. وقال مالك :" لا وقت لقليلِ الحيْضِ ولا لكثيره ". وحَكَى عبدالرحمن بن مهدي عن مالك أنه كان يرى أن أكثر الحيض خمسة عشرَ يوماً، حدثنا عبدالله بن جعفر بن فارس قال : حدثنا هارون بن سليمان الجزار قال : حدثنا عبدالرحمن بن مهدي بذلك. وقال الشافعي :" أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً ". وروى عبدالرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن علي بن ثابت، عن محمد بن زيد، عن سعيد بن جبير قال :" الحيض إلى ثلاثة عشر، فإذا زادت فهي استحاضة ". وقال عطاء :" إذا زادت على خمسة عشر فهي استحاضة ". وقد كان أبو حنيفة يقول بقول عطاء :" إن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر ". ثم رجع عنه إلى ما ذكرنا.
ومما يُحْتَجُّ به للقائلين بأن أقلّة ثلاثة أيام وأكثره عشرة، حديثُ القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أقَلُّ الحَيْضِ ثلاثَةُ أَيّامٍ وأكْثَرُهُ عَشْرَةٌ " فإن صحّ هذا الحديثُ فلا مَعْدِلَ عنه لأحد. ويدلّ عليه أيضاً حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك أنهما قالا :" الحيض ثلاثة أيام، أربعة أيام، إلى عشرة أيام، وما زاد فهو استحاضة ". ويدل ذلك على ما وصفنا من وجهين، أحدهما : أن القول إذا ظهر عن جماعة من الصحابة واستفاض ولم يوُجَدْ له منهم مخالفٌ فهو إجماعٌ وحجَّةٌ على من بعدهم ؛ وقد رُوي ما وَصَفْنا عن هذين الصحابيين من غير خلاف ظهر من نظرائهم عليهم، فثبت حجته، والثاني : أن هذا الضرب من المقادير التي هي حقوق الله تعالى وعبادات محضة طريقُ إثباتها التوقيف أو الاتفاق، مثل أعداد ركعات الصلوات المفروضات وصيام رمضان ومقادير الحدود وفرائض الإبل في الصدقات، ومثله مقدار مدة الحيض والطُّهْر، ومنه مقدار المهر الذي هو مشروط في عقد النكاح، والقعود قدر التشهد في آخر الصلاة، فمتى رُوي عن صحابيّ فيما كان هذا وصفه قولٌ في تحديد شيء من ذلك وإثبات مقداره فهو عندنا توقيفٌ، إذ لا سبيل إلى إثباته من طريق المقاييس.
فإن قيل : ليس يمتنع أن يكون مقدار الحيض معتبراً بعادات النساء، فيجب الرجوع إليها فيه ؛ ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش :" تَحِيضي في عِلْمِ الله سِتّاً أو سَبْعاً كما تَحِيضُ النّسَاءُ في كُلِّ شَهْرٍ " فردها إلى العادة وأثبتها ستّاً أو سبعاً. فجائز على هذا أن يكون قول من قال بالعشرة في أكثره وبالثلاث في أقلّه إنما صَدَرَ عن العادة عنده. قيل له : إنما الكلامُ بيننا وبين مخالفينا في الأقلّ الذي لا نَقْصَ عنه، وفي الأكثر الذي لا يُزاد عليه، وقد اتّفق الجميع على المذكور من العدد، وفي قصة
قوله تعالى :﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنَّى شئتم ﴾ الحرث : المُزْدَرَعُ ؛ وجعل في هذا الموضع كناية عن الجماع. وسمَّى النساء حرثاً لأنهن مزدرع الأولاد. وقوله :﴿ فأتوا حرثكم أنى شئتم ﴾ يدلّ على أن إباحة الوطء مقصورةٌ على الجماع في الفَرْجِ لأنه موضع الحرث.
واختلف في إتيان النساء في أدبارهن، فكان أصحابنا يحرّمون ذلك وينهون عنه أشد النهي، وهو قول الثوري والشافعي فيما حكاه المزني. قال الطحاوي : وحَكَى لنا محمد بن عبدالله بن عبدالحكيم، أنه سمع الشافعي يقول :" ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريمه ولا تحليله شيءٌ والقياسُ أنه حلالٌ ". وروى أصبغ بن الفرج عن ابن القاسم عن مالك : قال :" ما أدركتُ أحداً أقتدي به في ديني يشكّ فيه أنه حلالٌ " يعني وطء المرأة في دبرها ؛ ثم قرأ :﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم ﴾ قال :" فأيّ شيء أبْيَنُ من هذا ؟ وما أشكّ فيه ". قال ابن القاسم : فقلت لمالك بن أنس : إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدثنا عن الحارث بن يعقوب، عن أبي الحباب سعيد بن يسار قال : قلت لابن عمر : ما تقول في الجواري أنُحَمِّضُ لهنّ ؟ فقال : وما التحميض ؟ فذكرت الدُّبُرَ، قال : ويفعل ذلك أحْدٌ من المسلمين ؟ فقال مالك : فأشهد على ربيعة بن أبي عبدالرحمن يحدثني عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عنه، فقال : لا بأس به. قال ابن القاسم : فقال رجل في المجلس : يا أبا عبدالله فإنك تذكر عن سالم أنه قال :" كذب العبد أو كذب العِلْجُ على أبي يعني نافعاً كما كذب عكرمة على ابن عباس " ؟ فقال مالك : وأشهد على يزيد بن رومان يحدثني عن سالم عن أبيه أنه كان يفعله.
قال أبو بكر : قد روى سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر : أن رجلاً أتى امرأته في دبرها، فوجد في نفسه من ذلك، فأنزل الله تعالى :﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم ﴾، إلا أنّ زيد بن أسلم لا يعلم له سماع من ابن عمر. ورَوَى الفضل بن فضالة، عن عبدالله بن عباس، عن كعب بن علقمة، عن أبي النضر، أنه قال لنافع مولى ابن عمر : إنه قد أكثر عليك القول إنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى أن تُؤْتَى النساء في أدبارهن، قال نافع : كذبوا عليّ ! إن ابن عمر عَرَضَ المصحف يوماً حتى بلغ :﴿ نساؤكم حرث لكم ﴾ فقال : يا نافع هل تعلم من أمر هذه الآية ؟ قلت : لا ! قال : إنا كنا معشر قريش نجبي النساء، وكانت نساء الأنصار قد أخذن عن اليهود أنما يُؤْتَيْنَ على جنوبهنّ، فأنزل الله هذه.
فهذا يدلّ على أن السبب غير ما ذكره زيد بن أسلم عن ابن عمر، لأن نافعاً قد حُكي عنه غير ذلك السبب، وقال ميمون بن مهران أيضاً : قال ذلك نافع يعني تحليل وطء النساء في أدبارهن بعدما كبر وذهب عقله.
قال أبو بكر : المشهورُ عن مالك إباحةُ ذلك وأصحابهُ ينفون عنه هذه المقالة لقبحها وشناعتها، وهي عنه أشهر من أن يندفع بنفيهم عنه، وقد حكى محمد بن سعيد عن أبي سليمان الجوزجاني قال : كنت عند مالك بن أنس، فسئل عن النكاح في الدبر، فضرب بيده إلى رأسه وقال :" الساعة اغتسلت منه ". وقد رواه عنه ابن القاسم على ما ذكرنا ؛ وهو مذكور في الكتب الشرعية. ويروى عن محمد بن كعب القرظي : أنه كان لا يرى بذلك بأساً، ويتأول فيه قوله تعالى :﴿ أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم ﴾ [ الشعراء : ١٦٥ ] مثل ذلك إن كنتم تشتهون. ورُوي عن ابن مسعود أنه قال :" مَحَاشُّ النساء حرامٌ ". وقال عبدالله بن عمر :" وهي اللوطية الصغرى ". وقد اختلف عن ابن عمر فيه، فكأنه لم يُرْوَ عنه فيه شيء، لتعارض ما رُوي عنه فيه. وظاهر الكتاب يدلّ على أن الإباحة مقصورة على الوطء في الفرج الذي هو موضع الحرث، وهو الذي يكون منه الولد. وقد رُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار كثيرة في تحريمه، رواه خزيمة بن ثابت وأبو هريرة وعلي بن طلق كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لا تَأْتَوا النِّسَاءَ في أدْبَارِهِنَّ ". وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لا تَأْتَوا النّسَاءَ في أدْبَارِهِنَّ ". وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" هي اللوطيّةُ الصُّغْرَى " يعني إتيان النساء في إدبارهن. وروى حماد بن سلمة، عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ أَتَى حَائِضاً أو امْرَأَةً في دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ بما أُنْزِلَ عَلَى مُحَمّد ". ورَوَى ابن جريج عن محمد بن المنكدر عن جابر، أن اليهود قالوا للمسلمين : من أتى امرأته وهي مُدْبرةٌ جاء وَلَدُه أحولَ ؛ فأنزل الله تعالى :﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم ﴾ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مُقْبِلَةً ومُدْبِرَةً ما كان في الفَرْجِ " وروت حفصة بنت عبدالرحمن عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" في صِمَامٍ واحدٍ ". ورَوَى مجاهد عن ابن عباس مثله في تأويل الآية، قال :" إنما يعني كيف شئت في موضع الولد ". وروى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يَنْظُرُ الله إلى رَجُلٍ أَتَى امْرَأَتَهُ في دُبُرِهَا ". وذكر ابن طاوس عن أبيه قال : سئل ابن عباس عن الذي يأتي امرأته في دبرها، فقال :" هذا يسألني عن الكفر ! " وقد رُوي عن ابن عمر في قوله :﴿ نساؤكم حرث لكم ﴾ قال :" كيف شِئْتَ إن شئت عَزْلاً أو غير عزل " رواه أبو حنيفة عن كثير الرياحي الأصم عن ابن عمر، ورَوَى نحوه عن ابن عباس. وهذا عندنا في ملك اليمين وفي الحرة إذا أذنت فيه ؛ وقد رُوي ذلك على ما ذكرنا من مذهب أصحابنا عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود وابن عباس وآخرين غيرهم.
فإن قيل : قوله عز وجل :﴿ والذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ﴾ [ المؤمنون : ٥ و ٦ ] يقتضي إباحة وَطْئهن في الدُّبُرِ، لورود الإباحة مطلقة غير مقيدة ولا مخصوصة. قيل له : لما قال الله تعالى :﴿ فأتوهن من حيث أمركم الله ﴾ ثم قال في نسق التلاوة :﴿ فأتوا حرثكم أنى شئتم ﴾ أبان بذلك موضع المأمور به وهو موضع الحرث، ولم يُرِدْ إطلاق الوطء بعد حظره إلا في موضع الولد، فهو مقصور عليه دون غيره، وهو قاضٍ مع ذلك على قوله تعالى :﴿ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ﴾ [ المؤمنون : ٦ ] كما كان حظر وَطْءِ الحائض قاضياً على قوله :﴿ إلا على أزواجهم ﴾ [ المؤمنون : ٦ ] فكانت هذه الآية مرتبة على ما ذُكر من حكم الحائض.
ومن يحظر ذلك يحتج بقوله :﴿ قل هو أذى ﴾ فحظر وَطْءِ الحائض للأذى الموجود في الحيض وهو القَذَرُ والنجاسة، وذلك موجود في غير موضع الولد في جميع الأحوال، فاقتضى هذا التعليل حَظْرَ وطئهن إلا في موضع الولد. ومن يبيحه يجيب عن ذلك بأن المستحاضة يجوز وطؤها باتفاق من الفقهاء مع وجود الأذى هناك وهو دم الاستحاضة وهو نجس كنجاسة دم الحيض وسائر الأنجاس. ويجيبون أيضاً على تخصيصه إباحة مَوْضِع الحرث، باتّفاق الجميع على إباحة الجماع فيما دون الفرج وإن لم يكن موضعاً للولد، فدلّ على أن الإباحة غير مقصورة على موضع الولد، ويجابون عن ذلك بأن ظاهر الآية يقتضي كون الإباحة مقصورةً على الوطء في الفرج، وأنه هو الذي عناه الله تعالى بقوله :﴿ من حيث أمركم الله ﴾ إذ كان معطوفاً عليه، ولولا قيام دلالة الإجماع لما جاز الجماع فيما دون الفرج، ولكنا سلمناه للدلالة وبقي حكم الحظر فيما لم تقم الدلالة عليه.
قوله تعالى :﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ﴾ الآية. قد قيل : فيه وجهان، أحدهما : أن تجعل يمينه مانعة من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فإذا طلب منه ذلك قال :" قد حلفتُ " فيجعل اليمين معترضة بينه وبين ما هو مندوب إليه أو هو مأمورٌ به من البرِّ والتقوى والإصلاح، فإن حلف حالفٌ أن لا يفعل ذلك فليفعلْ وليَدَعْ يمينه. ويُرْوَى ذلك عن مجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم والحسن وطاوس، وهو نظير قوله تعالى :﴿ ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ﴾ [ النور : ٢٢ ]. ورَوَى أشعثُ عن ابن سيرين قال : حلف أبو بكر في يتيمين كانا في حجره كانا فيمن خاض في أمر عائشة، أحدهما مِسْطَحٌ وقد شهد بدراً، أن لا يصلهما وأن لا يصيبا منه خيراً، فنزلت هذه الآية :﴿ ولا يأتل أولوا الفضل منكم ﴾ [ النور : ٢٢ ] فكسا أحدهما وحمل الآخر. وقد ورد معناه في السنَّة أيضاً. وقد روى أنس بن مالك وعديّ بن حاتم وأبو هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال :" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمين فَرَأى غَيْرَها خَيْراً مِنْها فلْيأتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ ولْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " وهذا هو معنى قوله تعالى :﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ﴾ على التأويل الذي ذكرنا ؛ لأن معناه على هذا التأويل : أن لا يمنع بيمينه من فعل ما هو خير بل يفعل الذي هو خير ويدع يمينه. والوجه الثاني : أن يكون قوله :﴿ عرضة لأيمانكم ﴾ يريد به كثرة الحلف، وهو ضَرْبٌ من الجرأة على الله تعالى وابتذالٌ لاسمه في كل حقّ وباطل، لأن تبرّوا في الحلف بها وتتقوا المأثم فيها. ورُويَ نحوه عن عائشة، مَنْ أكثر ذكر شيء فقد جَعَلَه عُرْضَةً، يقول القائل : قد جعلني عُرْضَةً للّوْمِ، وقال الشاعر :
* لا تَجْعَلِيني عُرْضَةَ اللّوائِم *
وقد ذم الله تعالى مُكْثِرِي الحلف بقوله :﴿ ولا تطع كل حلاّف مهين ﴾ [ القلم : ١٠ ] فالمعنى : لا تعترضوا اسم الله وتبذلوه في كل شيء لأن تبرّوا إذا حلفتم وتتقوا المأثم فيها إذا قلّت أيمانكم، لأن كثرتها تبعد من البر والتقوى وتقرّب من المآثم والجرأة على الله تعالى. فكأن المعنى : أن الله ينهاكم عن كثرة الأيمان والجرأة على الله تعالى لِمَا في توقّي ذلك من البر والتقوى والإصلاح فتكونون بررة أتقياء، لقوله :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ]. وإذا كانت الآية محتملةً للمعنيين وليسا متضادّين، فالواجب حملها عليهما جميعاً، فتكون مُفيدةً لحظر ابتذاله اسْمَ الله تعالى واعتراضه باليمين في كل شيء حقّاً كان أو باطلاً، ويكون مع ذلك محظوراً عليه أن يجعل يمينه عُرْضَةً مانعةً من البر والتقوى والإصلاح وإن لم يكثر، بل الواجب عليه أن لا يكثر اليمين، ومتى حلف لم يحتجر بيمينه عن فعل ما حلف عليه إذا كان طاعة وبرّاً وتقوى وإصلاحاً، كما قال صلى الله عليه وسلم :" مَنْ حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفِّرْ عن يمينه ".
قوله تعالى :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ الآية. قال أبو بكر رحمه الله : قد ذكر الله تعالى اللّغْوَ في مواضع، فكان المراد به معاني مختلفة على حسب الأحوال التي خرج عليها الكلام، فقال تعالى :﴿ لاتسمع فيها لاغية ﴾ [ الغاشية : ١١ ] يعني : كلمة فاحشة قبيحة. و ﴿ لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً ﴾ [ الواقعة : ٢٥ ] على هذا المعنى. وقال :﴿ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ﴾ [ القصص : ٥٥ ] يعني : الكفر والكلام القبيح. وقال :﴿ والغوا فيه ﴾ يعني : الكلام لا يفيد شيئاً ليشغلوا السامعين عنه. وقال :﴿ وإذا مروا باللغو مروا كراماً ﴾ [ الفرقان : ٧٢ ] يعني الباطل. ويقال : لَغَا في كلامه يَلْغُو، إذا أتى بكلام لا فائدة فيه.
وقد رُوي في لَغْوِ اليمين معانٍ عن السلف، فرُوي عن ابن عباس أنه قال :" هو الرجل يحلف على الشيء يراه كذلك فلا يكون ". وكذلك رُوي عن مجاهد وإبراهيم، قال مجاهد :﴿ ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ﴾ :" أن تحلف على الشيء وأنت تعلم وهذا في معنى قوله :﴿ بما كسبت قلوبكم ﴾ وقالت عائشة :" هو قول الرجل لا والله وبلى والله " ورُوي عنها مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك عندنا في النهي عن اليمين على الماضي، رواه عنها عطاء أنها قالت :" قول الرجل فعلنا والله كذا وصنعنا والله كذا " ورُوي مثله عن الحسن والشعبي. وقال سعيد بن جبير :" هو الرجل يحلف على الحرام فلا يؤاخذه الله بتركه ". وهذا التأويل موافقٌ لتأويل من تأول قوله :﴿ عرضة لأيمانكم ﴾ أن يمتنع باليمين من فعل مباح أو يُقْدِمَ بها على فعل محظور.
وإذا كان اللغْوُ محتملاً لهذه المعاني، ومعلوم أنه لما عطف قوله :﴿ ولكن يؤاخذكم بما كسبت ﴾ أن مراده ما عقد قلبه فيه على الكذب والزور، وَجَب أن تكون هذه المؤاخذة هي عقاب الآخرة وأن لا تكون الكفارة المستحقة بالحنث، لأن تلك الكفارة غير متعلقة بكسب القلب، لاستواء حال القاصد بها للخير والشر وتساوي حكم العمد والسهو ؛ فَعُلِمَ أن مراده : ما يستحق من العقاب بقصده إلى اليمين الغَمُوسِ، وهي اليمين على الماضي قال القاصدُ بها خِلاَفَها إلى الكذب ؛ فينبغي أن يكون اللغو هي التي لا يُقصد بها إلى الكذب وهي على الماضي ويظنّ أنه كما حلف عليه، فسماها لغواً من حيث لم يتعلق بها حكم في إيجاب كفّارة ولا في استحقاق عقوبة ؛ وهي التي رُوي معناها عن ابن عباس وعائشة أنها قول الرجل :" لا والله وبلى والله " في عرض كلامه وهو يظنّ أنه صادقٌ، فكان بمنزلة اللغو من الكلام الذي لا فائدة فيه ولا حكم له. ويحتمل أن يريد به ما قال سعيد بن جبير فيمن حلف على الحرام :" فلا يؤاخذه الله بتركه " يعني به عقابَ الآخرة وإن كانت الكفّارةُ واجبةً إذا حَنَثَ. وقال مسروق :" كل يمين ليس له الوفاء بها فهي لغوٌ لا تجب فيها كفّارةٌ " وهذا موافق لقول سعيد بن جبير، والأوْلى الذي قَدّمْنا، إلا أن سعيداً يوجب الكفارة ومسروقاً لا يوجبها وإن حنث. وقد رُوي عن ابن عباس رواية أخرى، وهي أن لغو اليمين ما تجب فيه الكفارة منها. ورُوي مثلُه عن الضحاك. ورُوي عن ابن عباس أن لغو اليمين حِنْثُ النسيان.

باب الإيلاء


قال الله تعالى :﴿ للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ﴾ قال أبو بكر : الإيلاء في اللغة هو الحَلْفُ يقولون : آلى يُؤلي إيلاءً وأَلِيَّةً قال كثير :
* قَلِيلُ الألايا حَافِظٌ ليَمِينِهِ * وإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الأليَّةُ بَرَّتِ *
فهذا أصله في اللغة. وقد اختص في الشرع بالحلف على ترك الجماع الذي يكسب الطلاق بمضيّ المدة، حتى إذا قيل آلى فلان من امرأته عقل به ذلك.
وقد اختلف فيما يكون به مُولياً على وجوه، أحدها : ما روي عن عليّ وابن عباس رواية الحسن وعطاء : أنه إذا حلف أن لا يَقْرَبها لأجل الرضاع لم يكن مُولياً، وإنما يكون مولياً إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار والغضب. والثاني : ما رُوي عن ابن عباس : أن كل يمينٍ حالت دون الجماع إيلاءٌ ؛ ولم يفرق بين الرضا والغضب، وهو قول إبراهيم وابن سيرين والشعبي. والثالث : ما رُوي عن سعيد بن المسيب : أنه في الجماع وغيره من الصفات، نحو أن يحلف أن لا يكلمها فيكون مُولياً. وقد رَوَى جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم قال : تزوجتُ امرأة فلقيتُ ابن عباس فقال : بلغني أن في حلقها شيئاً ! قال : تالله لقد خرجت وما أكملها ! قال : عليك بها قبل أن تمضي أربعة أشهر. فهذا يدلّ على موافقة قول سعيد بن المسيب، ويدلّ على موافقة ابن عمر في أن الهجران من غير يمين هو الإيلاء. والرابع : قول ابن عمر : إنه إن هجرها فهو إيلاءٌ ؛ ولم يذكر الحلف. فأما من فرق بين حَلْفِهِ على ترك جماعها ضراراً وبينه على غير وجه الضرار، فإنه ذهب إلى أن الجماع حقٌّ لها ولها المطالبة به وليس له منعها حقها من ذلك، فإذا حلف على ترك حقها من الجماع كان مُولِياً حتى تصل إلى حقها من الفرقة، إذْ ليس له إلاّ إمساكها بمعروف أو تسريحٌ بإحسان. وأما إذا قصد الصلاح في ذلك، بأن تكون مُرْضِعَةً فحلف أن لا يجامعها لئلا يضرّ ذلك بالصبيّ، فهذا لم يقصد منع حقها ولا هو غير ممسك لها بمعروف فلا يلزم التسريح بالإحسان ولا يتعلق بيمينه حكم الفرقة.
وقوله :﴿ فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم ﴾ يستدل به من اعتبر الضرار، لأن ذلك يقتضي أن يكون مذنباً يقتضي الفَيءَ غفرانه. وهذا عندنا لا يدلّ على تخصيصه من كان هذا وصفه، لأن الآية قد شملت الجميع، وقاصدُ الضرر أحدُ من شمله العموم، فرجع هذا الحكم إليه دون غيره. ويدل على استواء حال المطيع والعاصي في ذلك أنهما يستويان في وجوب الكفارة بالحنث، كذلك يجب أن يستويا في إيجاب الطلاق بمضيِّ المدة. وأيضاً سائر الأيمان المعقودة لا يختلف فيها حكم المطيع والعاصي فيما يتعلق بها من إيجاب الكفّارة، وجب أن يكون كذلك حكم الطلاق ؛ لأنهما جميعاً يتعلقان باليمين. وأيضاً لا يختلف حكم الرّجْعة على وجه الضِّرار وغيره، كذلك الإيلاء ؛ وفقهاء الأمصار على خلاف ذلك، لأن الآية لم تفرق بين المطيع والعاصي فهي عامة في الجميع. وأما قول من قال :" إنه إذا قصد ضِرارَها بيمين على الكلام ونحوه " فلا معنى له، لأن قوله :﴿ للذين يؤلون من نسائهم ﴾ لا خلاف أنه قد أضمر فيه اليمين على ترك الجماع، لاتّفاق الجميع على أن الحالف على ترك جماعها مُولٍ، فَترْكُ الجماع مضمر في الآية عند الجميع فأثبتناه، وما عدا ذلك من تَرْكِ الكلام ونحوه لم تقم الدلالة على إضماره في الآية فلم يضمره. ويدلّ على ما بيناه قوله :﴿ فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم ﴾ ومعلوم عند الجميع أن المراد بالفَيءِ هو الجماع ولا خلاف بين السلف فيه، فدل ذلك على أن المضمر في قوله :﴿ للذين يؤلون من نسائهم ﴾ هو الجماع دون غيره. وأما ما رُوي عن ابن عمر من أن الهجران يوجب الطلاق، فإنه قول شاذٌ، وجائز أن يكون مراده إذا حلف ثم هجرها مدة الإيلاء ؛ وهو مع ذلك خلاف الكتاب، قال الله تعالى :﴿ للذين يؤلون من نسائهم ﴾ والأليَّةُ اليمينُ على ما بينّا، وهجرانُها ليس بيمين، فلا يتعلق به وجوب الكفارة. ورَوَى أشعث عن الحسن : أن أنس بن مالك كانت عنده امرأة في خُلُقِها سوءٌ، فكان يهجرها خمسة أشهر وستة أشهر ثم يرجع إليها ولا يرى ذلك إيلاءً.
وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار بعدهم في المدة التي إذا حلف عليها يكون مولياً، فقال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء :" إذا حلف على أقلّ من أربعة أشهر ثم تركها أربعة أشهر لم يجامعها لم يكن مُولياً ". وهو قول أصحابنا ومالك والشافعي والأوزاعي. ورُوي عن عبدالله بن مسعود وإبراهيم والحكم وقتادة وحماد :" أنه يكون مولياً، إن تركها أربعة أشهر بانت " وهو قول ابن شبرمة والحسن بن صالح، قال الحسن بن صالح :" وكذلك إن حلف أن لا يقربها في هذا البيت فهو مُولٍ، فإن تركها أربعة أشهر بانت بالإيلاء، وإن قربها في غيره قبل المدة سقط الإيلاء، ولو حلف أن لا يدخل هذه الدار وفيها امرأته ومن أجلها حَلَفَ فهو مُولٍ ".
قال أبو بكر : قال الله تعالى :﴿ للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ﴾ والإيلاء هو اليمين، وقد ثبت بما قدّمنا أن ترك جماعها بغير يمين لا يكسبه حكم الإيلاء، وإذا حلف على أقلّ من أربعة أشهر فمضت مدة اليمين كان تاركاً لجماعها فيما بقي من مدة الأربعة الأشهر التي هي التربُّصُ بغير يمين ؛ وتَرْكُ جماعها بغير يمين لا تأثير له في إيجاب البينونة، وما دون الأربعة أشهر لا يكسبه حكم البينونة لأن الله تعالى قد جعل له تربص أربعة أشهر، فلم يبق هناك معنى يتعلق به إيجاب الفرقة، فكان بمنزلة تارك جماعها بغير يمين فلا يلحقه حكم الإيلاء. وأما قول الحسن بن صالح :" إنه إذا حلف أن لا يَقْرَبَها في هذا البيت أنه يكون مولياً فلا معنى له، لأن الإيلاء كلُّ يمين في زوجة يمنع جماعها أربعة أشهر لا يحنث على ما بيّنا، وهذه اليمين لم تمنعه جماعها هذه المدة لأنه يمكنه الوصول إلى جماعها بغير حِنْثٍ بأن يقربها في غير ذلك البيت.
وقد اختلف أيضاً فيمن حلف على أربعة أشهر سواءٍ، فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والثوري :" هو مُولٍ، فإن لم يقربها في المدة حتى مضت بانت بالإيلاء ". ورَوَى عطاءٌ عن ابن عباس قال :" كان إيلاءُ أهل الجاهلية السَّنَةَ والسنتين، فوقّت الله تعالى لهم أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه دون ذلك فليس بمُولٍ ". وقال مالك والشافعي :" إذا حلف على أربعة أشهر فليس بمُولٍ حتى يحلف على أكثر من ذلك ". قال أبو بكر : هذا قولٌ يدفعه ظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى :﴿ للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة اشهر ﴾ فجعل هذه المدة تربصاً للفيء فيها ولم يجعل له التربص أكثر منها، فمن امتنع من جماعها باليمين هذه المدة أكسبه ذلك حكم الإيلاء الطلاق ؛ ولا فرق بين الحلف على الأربعة الأشهر وبينه على أكثر منها، إذ ليس له تربص أكثر من هذه المدة، ومع ذلك فإن ظاهر الكتاب يقتضي كونه مولياً في حلفه على أربعة أشهر وأقل منها وأكثر منها ؛ لأن مدة الحلف غير مذكورة في الآية، وإنما خصصنا ما دونها بدلالة وبقي حكم اللفظ في الأربعة الأشهر وما فوقها.
فإن قيل : إذا حلف على أربعة أشهر سواءٍ لم يصحّ تعلق الطلاق بها، لأنك توقع الطلاق بمضيّها ولا إيلاء هناك. قيل له : لا يمتنع، لأن مُضِيَّ المدة إذا كان سبباً للإيقاع لم يجب اعتبار بقاء اليمين في حال وقوعه، ألا ترى أن مضي الحَوْلِ لما كان سبباً لوجوب الزكاة فليس بواجب أن يكون الحَوْلُ موجوداً في حال الوجوب بل يكون معدوماً منقضياً ؟ وأن من قال لامرأته :" إن كلمتِ فلاناً فأنتِ طالقٌ " كانت هذه يميناً معقودة ؟ فإن كلمته طلقت في الحال، وقد انحلّت فيها اليمين، وبطلت كذلك مضي مدة الإيلاء لما كان سبباً لوقوع الطلاق لم يمتنع وقوعه واليمين غير موجودة.
وقوله تعالى :﴿ فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم ﴾ قال أبو بكر : الفَيْءُ في اللغة هو الرجوعُ إلى الشيء، ومنه قوله تعالى :﴿ حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ﴾ [ الحجرات : ٩ ] يعني حتى ترجع من البَغْي إلى العدل الذي هو أمر الله. وإذا كان الفيءُ الرجوعَ إلى الشيء اقتضى ظَاهرُ اللفظ أنه إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرر ثم قال لها :" قد فئت إليك وقد أعرضت عما عزمت عليه من هجران فراشك باليمين " أن يكون قد فاء إليها، سواءٌ كان قادراً على الجماع أو عاجزاً. هذا هو مقتضى ظاهر اللفظ، إلاّ أن أهل العلم متّفقون على أنه إذا أمكنه الوصول إليها لم يكن فَيْئُهُ إلاّ الجماع.
واختلفوا فيمن آلى وهو مريض أو بينه وبينها مسيرة أربعة أشهر أو هي رتقاءُ أو صغيرة أو هو مجبوبٌ، فقال أصحابنا :" إذا فاء إليها بلسانه ومضت المدة والعذر قائمٌ فذلك فيءٌ صحيحٌ ولا تُطَلَّقُ بمضيّ المدة، ولو كان مُحْرِماً بالحجّ وبينه وبين الحج أربعة أشهر لم يكن فيئه إلا الجماع ". وقال زفر :" فيئه بالقول ". وقال ابن القاسم :" إذا آلى وهي صغيرة لا تُجَامَعُ مِثْلُها لم يكن مُولياً حتى تبلغ الوَطْءَ، ثم يوقف بعد مضي أربعة أشهر مذ بلغت الوطء "، وهو رأي ابن القاسم بن عمرو، ولم يروه عن مالك. وقال ابن وهب عن مالك في المُولي إذا وقف عند انقضاء الأربعة الأشهر ثم راجع امرأته :" إنه إن لم يُصِبْها حتى تنقضي عدتُها فلا سبيل له إليها ولا رجعة، إلاّ أن يكون له عذر من مرض أو سجن أو ما أشبه ذلك، فإنّ ارتجاعه إياها ثابت عليها وإن مضت عدتها ثم تزوجها بعد ذلك، فإن لم يُصِبْها حتى ينقضي أربعة أشهر وقف أيضاً ". وقال إسماعيل بن إسحاق : قال مالك :" إنْ مَضَى الأربعةُ الأشهر وهو مريض أو محبوس لم يوقف حتى يبرأ، لأنه لا يكلَّفُ ما لا يطيق ". وقال مالك :" لو مضت أربعة أشهرٍ وهو غائب إن شاء كَفَّرَ عن يمينه وسقط عنه الإيلاء ". قال إسماعيل : وإنما قال ذلك في هذا الموضع لأن الكفارة قبل الحنث جائزة عنده، وإن كان لا يستحبّ أن يكون إلاّ بعد الحنث. وقال الأشجعي عن الثوري في المُولي إذا كان له عذرٌ مِنْ مرض أو كبر أو حبس أو كانت حائضاً أو نفساء :" فليفىء بلسانه، يقول : قد فئت إليكِ، يجزيه ذلك، وهو قول الحسن بن صالح. وقال الأوزاعي :" إذا آلى من امرأته ثم مرض أو سافر فأشهد على الفيء من غير جماع وهو مريض أو مسافر ولا يقدر على الجماع، فقد فاء فليكفِّر عن يمينه وهي امرأته، وكذلك إن ولدت في الأربعة الأشهر أو حاضت أو طرده السلطان فإنه يشهد على الفيء ولا إيلاء عليه ". وقال الليث بن سعد :" إذا مرض بعد الإيلاء ثم مضت أربعة أشهر فإنه يوقف كما يوقف صحيح، فإمّا فاء وإمّا طلّق، ولا يؤخَّر إلى أن يصحّ ". وقال المزني عن الشافعي :" إذا آلى المجبوبٌ ففيئه بلسانه " وقال في الإملاء :" لا إيلاء على المجبوب " قال :" ولو كانت صبية فآلى منها استؤنفت به أربعة أشهر بعدما تصير إلى حال يمكن جماعها، والمحبوس يفيء باللسان، ولو أحرم لم يكن فيئه إلا الجماع، ولو آلى وهي بكر فقال لا أقدر على افتضاضها أُجِّلَ العِنِّين ".
قال أبو بكر : الدليل على أنه إذا لم يقدر على جماعها في المدة كان فيئه باللسان قوله :﴿ فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم ﴾ وهذا قد فاء لأن الفيء الرجوعُ إلى الشيء، وهو قد كان ممتنعاً من وطئها بالقول وهو اليمين، فإذا فاء بالقول فقال :" قد ف
قوله تعالى :﴿ وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ﴾ قال أبو بكر : اختلف السلف في عزيمة الطلاق إذا لم يَفىءْ على ثلاثة أوجه : فقال ابن عباس :" عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر " وهو قول ابن مسعود وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان، وقالوا :" إنها تبين بتطليقة ". واختلف عن عليّ وابن عمر وأبي الدرداء، فرُوي عنهم مثل قول الأوّلين، ورُوي عنهم أنه يوقف بعد مضيِّ المدة فإما أن يفيء إليها وإما أن يطلقها ؛ وهو قول عائشة وأبي الدرداء. والقول الثالث قولُ سعيد بن المسيب وسالم بن عبدالله وأبي بكر بن عبدالرحمن والزهري وعطاء وطاوس، قالوا :" إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقه رجعية ". وذهب أصحابنا إلى قول ابن عباس ومن تابعه، فقالوا : إذا مضت أربعة أشهر قبل أن يفيء بانت بتطليقة ؛ وهو قول الثوري والحسن بن صالح. وقال مالك والليث والشافعي بما رُوي عن أبي الدرداء وعائشة :" إنه يوقف بعد مُضِيِّ المدة فإما أن يفيء وإما أن يطلق ويكون تطليقة رجعية إذا طلّق ". قال مالك :" ولا تصح رجعته حتى يطأها في العدة ". وقال الشافعي :" ولو عَفَتْ عن ذلك بعد المدة كان لها بعد ذلك أن تطلب ولا يؤجل في الجماع أكثر من يوم ". وقال الأوزاعي يقول سعيد بن المسيب وسالم ومن تابعهما أنها تطلق واحدة رجعية بمضيّ المدة.
قال أبو بكر : قوله تعالى :﴿ وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ﴾ يحتمل الوجوه التي حصل عليها اختلاف السلف، ولولا احتماله لها لما تأوّلوه عليها، لأنه غير جائز تأويل اللفظ المأول على ما لا احتمال فيه ؛ وقد كان السلف من أهل اللغة والعالمين بما يحتمل من الألفاظ والمعاني المختلفة وما لا يحتملها، فلما اختلفوا فيه على هذه الوجوه دلّ ذلك على احتمال اللفظ لها. ومن جهة أخرى، وهي أن هذا الاختلاف قد كان شائعاً مستفيضاً فيما بينهم من غير نكير ظهر من واحد منهم على غيره، فصار ذلك إجماعاً منهم على توسُّع الاجتهاد في حمله على أحد هذه الوجوه، وإذا ثبت ذلك احتجْنا أن ننظر في الأوْلى من هذه الأقاويل وأشبهها بالحقّ، فوجدنا ابن عباس قد قال :" عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر قبل الفيء إليها " فسمَّى ترك الفيء حتى تمضي المدة عزيمة الطلاق، فوجب أن يصير ذلك اسماً له، لأنه لم يَخلُ من أن يكون قاله شرعاً أو لغة، وأيّ الوجهين كان فحجته ثابتة واعتبار عمومه واجب إذا كانت أسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفاً. وإذا كان هكذا، وقد علمنا أن حكم الله في المُولي أحد شيئين : إما الفيء وإما عزيمة الطلاق، وجب أن يكون الفيء مقصوراً على الأربعة الأشهر وأنه فائت بمضيّها فتطلق، لأنه لو كان الفيء باقياً لما كان مُضِيُّ المدة عزيمةً للطلاق. ومن جهة أخرى، وهو أنه معلوم أن العزيمة إنما هي في الحقيقة عَقْدُ القلب على الشيء، تقول :" عزمت على كذا " أي عقدت قلبي على فعله، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مضيّ المدة أوْلى بمعنى عزيمة الطلاق من الوقف، لأن الوقف يقتضي إيقاع طلاق بالقول إما أن يوقعه الزوج وإما أن يطلقها القاضي عليه على قول من يقول بالوقف ؛ وإذا كان كذلك كان وقوع الفرقة بمضيّ المدة لتركه الفيء فيها أوْلى بمعنى الآية، لأن الله لم يذكر إيقاعاً مستأنفاً وإنما ذكر عزيمة، فغير جائز أن نزيد في الآية ما ليس فيها. ووجه آخر، وهو أنه لما قال :﴿ للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ﴾ اقتضى ذلك أحد أمرين من فيءٍ أو عزيمة طلاق لا ثالث لهما، والفيءُ إنما هو مرادٌ في المدة مقصورُ الحكم عليها ؛ والدليل عليه قوله تعالى :﴿ فإن فاؤوا ﴾ والفاء للتعقيب يقتضي أن يكون الفيءُ عقيب اليمين، لأنه جعل الفيء عقيب اليمين، لأنه جعل الفيء لمن له تربصُ أربعة أشهر. وإذا كان حكم الفيء مقصوراً على المدة ثم فات بمضيّها وجب حصول الطلاق، إذ غير جائز له أن يمنع الفيء والطلاق جميعاً. ويدل على أن المراد الفيء في المدة اتفاقُ الجميع على صحة الفيء فيها، فدلّ على أنه مراد فيها، فصار تقديره :" فإن فاؤوا فيها " وكذلك قُرىء في حرف عبدالله بن مسعود ؛ فجعل الفيءُ مقصوراً عليها دون غيرها، وتمضي المدة بَفْوتِ الفيء، وإذا فات الفيءُ حصل الطلاق.
فإن قيل : لما قال تعالى :﴿ للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا ﴾ فعطف بالفاء على التربص في المدة، دلّ على أن الفيء مشروط بعد التربص وبعد مضيّ المدة، وإنه متى ما فاء فإنما عجّل حقّاً لم يكن عليه تعجيله كمن عجّل ديناً مؤجلاً. قيل له : لولا أن الفيءَ مرادُ الله تعالى لما صح وجوده فيها وكان يحتاج بعد هذا الفيء إلى فيء بعد مضيها، فلما صحَّ الفيء في هذه المدة دَلَّ على أنه مراد الله بالآية، ولذلك بطل معه عزيمة الطلاق. ثم قولك :" إن المراد بالفيء إنما هو بعد المدة " مع قولك :" إن الفيء في المدة صحيح كهو بعدها تبطل معه عزيمة الطلاق " مناقضة منك في اللفظ، كقولك : إنه مراد في المدة غير مراد فيها، وقولك :" إنه كالدين المؤجل إذا عجله " لا يزيل عنك ما وصفنا من المناقضة، لأن الدَّيْنَ المؤجل لا يخرجه التأجيل من حكم اللزوم ولولا ذلك لما صح البيع بثمن مؤجّل، لأن ما تعلق ملكه من الأثمان على وقت مستقبَلٍ لا يصحّ عقد البيع عليه، ألا ترى أنه لو قال بعتكه بألف درهم لا يلزمك إلا بعد أربعة أشهر كان البيع باطلاً ؟ والتأجيل الذي ذكرت لا يخرجه من أن يكون الثمن واجباً ملكاً للبائع، ومتى عجله وأسقط الأجل كان ذلك من موجب العقد. إلاّ أنه مخالف للفيء في الإيلاء مِنْ قِبَلِ أن فوات الفيء يوجب الطلاق، وإذا كان الفيء مراداً في المدة فواجب أن يكون فواته فيها موجباً للطلاق على ما بينا. وأيضاً فإن قوله تعالى :﴿ فإن فاؤوا ﴾ فيه ضمير المولي المبدوء بذكره في الآية، وهو الذي له تربّصُ أربعة أشهر، والذي يقتضيه الظاهر إيقاع الفيء عقيب اليمين. ودليل آخر، وهو قوله :﴿ تربص أربعة أشهر ﴾ كقوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] فلما كانت البينونة واقعةً بمضيّ المدة في تربص الأقراء، وجب أن يكون كذلك حكم تربص الإيلاء من جوه : أحدها أنّا لو وقفنا المولي لحصل التربص أكثر من أربعة أشهر، وذلك خلاف الكتاب، ولو غاب المولي عن امرأته سنة أو سنتين ولم ترفعه المرأة ولم تطالب بحقها لكان التربص غير مقدر بوقت، وذلك خلاف الكتاب. والوجه الثاني : أنه لما كانت البينونةُ واقعةً بمضيِّ المدة في تربّصِ الأقراء وجب مثله في الإيلاء، والمعنى الجامع بينهما ذِكْرُ التربص في كل واحدة من المدتين. والوجه الثالث : أن كل واحدة من المدّتين واجبة عن قوله وتعلق بها حكم البينونة، فلما تعلّقت في إحداهما بمضيّها كانت الأخرى مثلها للمعنى الذي ذكرناه.
فإن قيل : تأجيل العنِّين حَوْلاً بالاتفاق، وتخيير امرأته بعد مضيّ الحول إذا لم يصل إليها في الحول، ولم يوجب ذلك زيادة في الأجل، كذلك ما ذكرت من حكم الإيلاء إيجاب الوقف بعد المدة لا يوجب زيادة فيها. قيل له : ليس في الكتاب ولا في السنّة تقدير أجل العنّين، وإنما أُخِذَ حكمُه من قول السلف ؛ والذين قالوا إنه يؤجَّل حَوْلاً هم الذين خيّروها بمضيه قبل الوصول إليها ولم يوقعوا الطلاق قبل مضي المدة، ومدة الإيلاء مقدرة بالكتاب من غير ذكر التخيير معها، فالزائد فيها مخالف لحكمه. وأيضاً فإن أجل العنّين إنما يوجب لها الخيار بمضيّه، وأجل المُولي عندك إنما يوجب عليه الفيء، فإن قال " أفيءُ " لم يفرق بينهما، لو قال العنين :" أنا أجامعها بعد ذلك " لم يُلتفت إلى قوله وفُرِّقَ بينهما باختيارها.
فإن قيل : لما لم يكن الإيلاء بصريح الطلاق ولا كناية عنه، فالواجب أن لا يقع الطلاق. قيل له : وليس اللعان بصريح الطلاق ولا كناية عنه، فيجب على قول المخالف أن لا توقع الفرقة حتى يفرق الحاكم. ولا يلزمنا على أصلنا، لأن الإيلاء يجوز أن يكون كنايةً عن الفرقة، إذ كان قوله :" لا أقربك " يشبه كناية الطلاق ؛ ولما كان أضعف أمراً من غيرها فلا يقع به الطلاق إلاّ بانضمام أمر آخر إليه وهو مضيّ المدة على النحو الذي يقوله، إذْ قد وجدنا من الكنايات ما لا يقع فيه الطلاق بقول الزوج إلا بانضمام معنى آخر إليه، وهو قول الزوج لامرأته :" قد خيرتك " وقوله :" أمرك بيدك " فلا يقع الطلاق فيه إلا باختيارها. فكذلك لا يمتنع أن يقال في الإيلاء إنه كناية، إلا أنه أضعف حالاً من سائر الكنايات، فلا يقع فيه الطلاق باللفظ دون انضمام معنى آخر إليه. فأما اللعان فلا دلالة فيه على معنى الكنايات، لأن قذفه إياها بالزنا وتلاعنهما لا يصلح أن يكون عبارة عن البينونة بحال. وأيضاً فإن اللعان مخالف للإيلاء من جهة أن حكمه لا يثبت إلا عند الحاكم، والإيلاءُ يثبت حكمه بغير الحاكم، فكذلك ما يتعلق به من الفرقة. وبهذا المعنى فارق العنّين أيضاً، لأن تأجيله متعلق بالحاكم، والإيلاء يثبت حكمه من غير حاكم، فكذلك ما يتعلق به من حكم الفرقة.
واحتجّ من قال بالوقف بقوله تعالى :﴿ وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ﴾ أنه لما قال :﴿ سميع عليم ﴾ دلّ على أن هناك قولاً مسموعاً وهو الطلاق. قال أبو بكر : وهذا جهلٌ من قائله، مِنْ قِبَلِ أن السميع لا يقتضي مسموعاً، لأن الله تعالى لم يزل سميعاً ولا مسموع. وأيضاً قال الله تعالى :﴿ وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ﴾ وليس هناك قول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تَتَمَنّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، فإذا لَقَيْتُمُوهُمْ فاثْبتُوا وعليكم بالصَّمْتِ ". وأيضاً جائز أن يكون ذلك راجعاً إلى أول الكلام، وهو قوله تعالى :﴿ للذين يؤلون من نسائهم ﴾ فأخبر انه سامعٌ لما تكلم به عليمٌ بما أضمره وعزم عليه. ومما يدلّ على وقوع الفرقة بمضيّ المدة أن القائلين بالوقف يثبتون هناك معاني أُخُرَ غير مذكورة في الآية، إذ كانت الآية إنما اقتضت أحد شيئين من فيء أو طلاق، وليس فيها ذكر مطالبة المرأة ولا وقف القاضي الزوج على الفيء أو الطلاق، فلم يَجُزْ لنا أن نُلْحق بالآية ما ليس فيها ولا أن نزيد فيها ما ليس منها، وقول مخالفينا يؤدّي إلى ذلك ولا يوجب الاقتصار على موجب حكم الآية، وقولنا يوجب الاقتصار على حكم الآية من غير زيادة فيها، فكان أوْلى. ومعلوم أيضاً أن الله تعالى إنما حكم في الإيلاء بهذا الحكم لإيصال المرأة إلى حقها من الجماع أو الفرقة، وهو على معنى قوله تعالى :﴿ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] وقول من قال بالوقف يقول : إن لم يَفِئ أمره بالطلاق، فإذا طلق لم يَخْلُ من أن يجعله طلاقاً بائناً أو رجعيّاً، فإن جعله بائناً فإن صريح الطلاق لا يكون بائناً عند أحد فيما دون الثلاث، وإن جعله رجعيّاً فلا حظَّ للمرأة في ذلك لأنه متى شاء راجعها فتكون امرأته كما كانت، فلا معنى لإلزامه طلاقاً لا تملك به المرأة بضعها وتصل به إلى حقها.
وأما قول مالك :" إنه لا يصح رجعته حتى يطأها في العدة " فقولٌ شديد الاختلاف من وجوه، أحدها : أنه قال إذا طلقها طلاقا

باب الأقراء :


قال الله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ اختلف السلف في المراد بالقُرْءِ المذكور في هذه الآية، فقال علي وعمر وعبدالله بن مسعود وابن عباس وأبو موسى :" هو الحيض " وقالوا :" هو أحقّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ". ورَوَى وكيعٌ عن عيسى الحافظ عن الشعبي عن ثلاثة عشر رجلاً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الخبر فالخبر، منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس، قالوا :" الرجل أحقّ بامرأته ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة " وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب. وقال ابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة :" إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها " قالت عائشة :" الأقراء الأطهار ". ورُوي عن ابن عباس رواية أخرى :" أنها إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها ولا تحل للأزواج حتى تغتسل ". وقال أصحابنا جميعاً :" الأقراء الحيض " وهو قول الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح. إلا أن أصحابنا قد قالوا :" لا تنقضي عدّتها إذا كانت أيامها دون العشرة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة أو يذهب وقت صلاة "، وهو قول الحسن بن صالح، إلا أنه قال :" اليهودية والنصرانية في ذلك مثل المسلمة ". وهذا لم يقُلْه أحد ممن جعل الأقراء الحيض غير الحسن بن صالح. وقال أصحابنا :" الذمية تنقضي عدّتها بانقطاع الدم من الحيضة الثالثة، لا غُسْلَ عليها، فهي في معنى من اغتسلت فلا تنتظر بعد انقطاع الدم شيئاً آخر. وقال ابن شبرمة :" إذا انقطع من الحيضة الثالثة بطلت الرجعة ولم يعتبر الغسل ". وقال مالك والشافعي :" الأقراء الأطهار، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة فقد بانت وانقطعت الرجعة ".
قال أبو بكر : قد حصل من اتفاق السلف وقوعُ اسم الأقراء على المَعْنَيَيْنِ من الحيض ومن الأطهار من وجهين، أحدهما : أن اللفظ لو لم يكن محتملاً لهما لما تأوّله السلف عليهما، لأنهم أهل اللغة والمعرفة بمعاني الأسماء وما يتصرف عليه المعاني من العبارات، فلما تأوّلها فريق على الحيض وآخرون على الأطهار علمنا وقوع الاسم عليهما. ومن جهة أخرى أن هذا الاختلاف قد كان شائعاً بينهم مستفيضاً، ولم ينكر واحد منهم على مخالفيه في مقالته، بل سوّغ له القول فيه، فدلّ ذلك على احتمال اللفظ للمعنيين وتسويغ الاجتهاد فيه. ثم لا يخلو من أن يكون الاسم حقيقة فيهما، أو مجازاً فيهما، أو حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر ؛ فوجدنا أهل اللغة مختلفين في معنى القُرْءِ في أصل اللغة، فقال قائلون منهم : هو اسم للوقت ؛ حدثنا بذلك أبو عمرو غلام ثعلب عن ثعلب أنه كان إذا سئل عن معنى القرء لم يَزِدْهُمْ على الوقت، وقد استشهد لذلك بقول الشاعر :
* يا رُبَّ مَوْلًى حَاسِدٍ مُبَاغِضِ * عليَّ ذِي ضِغْنٍ وضَبٍّ فارِضِ *
* له قروءٌ كقُرُوء الحَائِضِ *
يعني : وقتاً تهيج فيه عدواته. وعلى هذا تأولوا قول الأعشى :
* وفي كلِّ عَام أنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ * تَشُدُّ لأقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا *
* مورثة مالاً وفي الحيِّ رِفْعَةٌّ * لِمَا ضَاعَ فيها مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا *
يعني وقت وطئهنّ ومن الناس من يتأوّله على الطهر نفسه، كأنه قال : لما ضاع فيها من طهر نسائك. وقال الشاعر :
* كَرِهْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَني شليل * إذا هبت لقَارِئِها الرِّياحُ *
يعني : لوقتها في الشتاء. وقال آخرون : هو الضمُّ والتأليف، ومنه قوله :
* تُرِيكَ إذا دَخَلَتْ عَلَى خلاءٍ * وَقْد أمِنَتْ عُيُونَ الكَاشِحِينَا *
* ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أدْمَاءَ بِكْرٍ * هِجَانِ اللَّوْنِ لم تَقْرَأْ جَنِينَا *
يعني : لم تضمّ في بطنها جنيناً. ومنه قولهم :" قَرَيْتُ الماء في الحوض إذا جَمَعْتَهُ، و " قرَوْتُ الأرْضَ " إذا جَمَعْتَ شيئاً إلى شيء وسيراً إلى سير. ويقولون :" ما قَرَأتِ الناقةُ سَلًى قطُّ " أي ما اجتمع رَحِمُها على ولد قطّ. ومنه :" أقرأت النجوم " إذا اجتمعت في الأفق. ويقال :" أقرأت المرأة " إذا حاضت، فهي مقرىءٌ ذكره الأصمعي والكسائي والفراء. وحُكي عن بعضهم أنه قال :" هو الخروج من شيء إلى شيء " وهذا قولٌ ليس عليه شاهد من اللغة ولا هو ثابت عمن يُوثَقُ به من أهلها، وليس فيما ذكرنا من الشواهد ما يليق بهذا المعنى، فهو ساقطٌ مردودٌ. ثم يقول : وإن كانت حقيقته الوقت فالحيض أوْلى به، لأن الوقت إنما يكون وقتاً لما يحدث فيه، والحيض هو الحادث، وليس الطهر شيئاً أكثر من عدم الحيض، وليس هو شيء حادث، فوجب أن يكون الحيض أوْلى بمعنى الاسم. وإن كان هو الضمّ والتأليف فالحيض أوْلى به، لأن دم الحيض إنما يتألف ويجتمع من سائر أجزاء البدن في حال الحيض، فمعناه أولى بالاسم أيضاً.
فإن قيل : إنما يتألف الدم ويجتمع في أيام الطهر ثم يسيل في أيام الحيض. قيل له : أحسنت ! إن الأمر كذلك، ودلالته قائمة على ما ذكرنا ؛ لأنه قد صار القرء اسماً للدم، إلاّ أنك زعمت أنه يكون اسماً له في حال الطهر وقلنا يكون اسماً له في حال الحيض، فلا مدخل إذاً للطهر في تسميته بالقرء، لأن الطهر ليس هو الدم، ألا ترى أن الطهر قد يكون موجوداً مع عدم الدم تارة ومع وجوده أخرى على أصلك ؟ فإذاً القرء اسمٌ للدم وليس باسم للطهر، ولكنه لا يسمَّى بهذا الاسم إلا بعد ظهوره، لأنه لا يتعلق به حكمٌ إلا في هذه الحال ؛ ومع ذلك فلا يتيقن كونه في الرحم في حال الطهر فلم يجزْ كونه في حال الطهر أن نسميه باسم القرء، لأن القرء اسم يتعلق به حكم ولا حكم له قبل سَيَلانه وقبل العلم بوجوده. وأيضاً فمن أين لك العلم باجتماع الدم في الرحم في حال الطهر واحتباسه فيه ثم سيلانه في وقت الحيض ؟ فإن هذا قول عارٍ من دليل يقوم عليه، ويردّه ظاهر الكتاب، قال الله تعالى :﴿ ويعلم ما في الأرحام ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] فاستأثر تعالى بعلم ما في الأرحام ولم يطلع عباده عليه، فمن أين لك القضاء باجتماع الدم في حال الطهر ثم سيلانه في وقت الحيض ؟ وما أنكرت ممن قال إنما يجتمع من سائر البدن ويسيل في وقت الحيض لا قبل ذلك ؟ ويكون أوْلى بالحق منك، لأنّا قد علمنا يقيناً وجوده في هذا الوقت ولم نعلم وجوده في وقت قبله فلا يُحْكم به لوقت متقدم، وإذ قد بيّنا وقوع الاسم عليهما وبيّنا حقيقة ما يتناوله هذا الاسم في اللغة. فليدلّ على أنه اسم للحيض دون الطهر في الحقيقة وأن إطلاقه على الطهر إنما هو مجاز واستعارة، وإن كان ما قدّمْنَا من شواهد اللغة وما يحتمله اللفظ من حقيقتها كافية في الدلالة على أن حقيقته تختص بالحيض دون الطهر، فنقول : لما وجدنا أسماء الحقائق التي لا تنتفي عن مسمَّياتها بحال ووجدنا أسماء المجاز قد يجوز أن تنتفي عنها في حال وتلزمها في أخرى، ثم وجدنا اسم القرء غير مُنْتَفٍ عن الحيض بحال ووجدناه قد ينتفي عن الطهر لأن الطهر موجود في الآيسة والصغيرة وليستا من ذوات الأقراء، علمنا أن اسم القرء للطهر الذي بين الحيضتين مجازٌ وليس بحقيقة، سُمِّي بذلك لمجاورته للحيض كما يسمَّى الشيء باسم غيره إذا كان مجاوراً له وكان منه بسبب ؛ ألا ترى أنه حين جاور الحيض سُمِّي به وحين لم يجاوره لم يسمَّ به ؟ فدل ذلك على أنه مجاز في الطهر حقيقة في الحيض.
ومما يدلّ على أن المراد الحيض دون الطهر، أنه لما كان اللفظ محتملاً للمعنيين واتّفقت الأمة على أن المراد أحدهما، فلو أنهما تساويا في الاحتمال لكان الحيض أوْلاها ؛ وذلك لأن لغة النبي صلى الله عليه وسلم وردت بالحيض دون الطُّهْرِ بقوله :" المُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصّلاةَ أيامَ أقْرَائِها " وقال لفاطمة بنت أبي حبيش :" فإذا أقْبَلَ قُرْؤُكِ فدَعي الصلاة، وإذا أدْبَرَ فاغْتَسِلِي وصَلِّي ما بين القُرْءِ إلى القُرءِ ". فكان لغة النبي صلى الله عليه وسلم أن القرء الحيضُ، فوجب أن لا يكون معنى الآية إلا محمولاً عليه، لأن القرآن لا محالة نزل بلغته صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله عز وجل مراد الألفاظ المحتملة للمعاني ولم يرد لغته بالطهر، فكان حمله على الحيض أوْلى منه على الطهر.
ويدلّ عليه ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن مسعود قال : حدثنا أبو عاصم، عن ابن جُرَيْج، عن مظاهر بن أسلم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" طَلاقُ الأمَةِ ثِنْتَان وقُرْؤُها حَيْضَتَانِ " قال أبو عاصم : فحدثني مظاهر قال : حدثني به القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، إلا أنه قال :" وعِدَّتُها حَيْضَتَانِ ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن شاذان قال : حدثنا معلّى قال : حدثنا عمرو بن شبيب، عن عبدالله بن عيسى، عن عطية، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" تَطْلِيقُ الأمَةِ تَطْليقَتَانِ وعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ " فنصَّ على الحيضتين في عدة الأَمَةِ، وذلك خلاف قول مخالفينا، لأنهم يزعمون أن عدتها طُهْران ولا يستوعبون لها حيضتين ؛ وإذا ثبت أن عدّة الأَمَةِ حيضتان كانت عدة الحرّة ثلاثَ حِيَضٍ. وهذان الحديثان وإن كان ورودهما من طريق الآحاد فقد اتفق أهل العلم على استعمالهما في أن عدة الأمة على النّصف من عدة الحرة، فأوجب ذلك صحته. ويدلّ عليه أيضاً حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في سبايا أوطاس :" لا تُوطَأْ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ ولا حَائِلٌ حَتَّى تَسْتَبْرِىءَ بحَيْضَةٍ " ومعلوم أن أصل العِدّة موضوعٌ للاستبراء، فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم استبراء الأمة بالحيضة دون الطهر وجب أن تكون العدة بالحيض دون الطهر، إذ كل واحد منهما موضوع في الأصل للاستبراء أو لمعرفة براءة الرحم من الحبل ؛ وإن كان قد تجب العدة على الصغيرة والآيسة، لأن الأصل للاستبراء، ثم حمل عليه غيره من الآيسة والصغيرة لئلا يترخص في التي قاربت البلوغ وفي الكبيرة التي قد يجوز أن تحيض وترى الدم بترك العدة، فأوجب على الجميع العدة احتياطاً للاستبراء الذي ذكرنا. ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ﴾ [ الطلاق : ٤ ] فأوجب الشهور عند عدم الحيضِ فأقامها مقامها، فدلّ ذلك على أن الأصل هو الحيض : كما أنه لما قال :﴿ فلم تجدوا ماء فتيمموا ﴾ [ النساء : ٤٣ ] علمنا أن الأصل الذي نقل عنه إلى الصعيد هو الماء. ويدل عليه أن الله حصر الأقراء بعَدَدٍ يقتضي استيفاءه للعدة، وهو قوله تعالى :﴿ ثلاثة قروء ﴾ واعتبار الطهر فيه يمنع استيفاءها بكمالها فيمن طلقها للسنّة، لأن طلاق السنّة أن يوقعه في طهر لم يجامعها فيه، فلا بد إذا كان كذلك من أن يصادف طلاقه طهراً قد مضى بعضه ثم تعتدُّ بعده بطهرين آخرين، فهذان طهران وبعض الثالث، فلما تعذر استيفاء الثلاث إذا أراد طلاق السنة علمنا أن المراد الحَيْضُ الذي يمكن استيفاء العدد المذكور في الآية بكماله ؛ وليس هذا كقوله تعالى :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ فالمراد شهران وبعض الثالث ؛ لأنه لم يحصرها بعدد وإنما ذكرها بلفظ الجمع، والأقراء محصورة بعدد لا يحتمل الأقلّ منه، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول رأيت ثلاثة رجال وم

باب عَدَدِ الطلاق :


قال الله عز وجل :﴿ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ﴾ قال أبو بكر : قد ذكرت في معناه وجوه : أحدها أنه بيان للطلاق الذي تثبت معه الرجعة، يُروى ذلك عن عروة بن الزبير وقتادة. والثاني : أنه بيان لطلاق السنة المندوب إليه، ويروى ذلك عن ابن عباس ومجاهد. والثالث : أنه أمر بأنه إذا أراد أن يطلقها ثلاثاً فعليه تفريق الطلاق، فيتضمن الأمر بالطلاق مرتين ثم ذكر بعدهما الثالثة. قال أبو بكر : فأما قول من قال : إنه بيان لما يبقى معه الرجعة من الطلاق ؛ فإنه وإن ذكر معه الرجعة عقيبه فإن ظاهره يدل على أنه قصد به بيان المباح منه وأمّا ما عداه فمحظور، وبيّن مع ذلك حكمه إذا أوقعه على الوجه المأمور به بذكر الرجعة عقيبه. والدليل على أن المقصد فيه الأمر بتفريق الطلاق وبيان حكم ما يتعلق بإيقاع ما دون الثلاث من الرجعة، أنه قال :﴿ الطلاق مرتان ﴾ وذلك يقتضي التفريق لا محالة، لأنه لو طلَّق اثنتين معاً لما جاز أن يقال طلقها مرتين، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال أعطاه مرتين ؛ حتى يفرق الدفع، فحينئذ يطلق عليه. وإذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلق بالتطليقتين من بقاء الرجعة، لأدَّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرتين، إذ كان هذا الحكم ثابتاً في المرة الواحدة إذا طلق اثنتين، فثبت بذلك أن ذكره للمرتين إنما هو أمر بإيقاعه مرتين ونَهْيٌ عن الجمع بينهما في مرة واحدة. ومن جهة أخرى أنه لو كان اللفظ محتملاً للأمرين لكان الواجب حمله على إثبات الحكم في إيجاب الفائدتين، وهو الأمر بتفريق الطلاق متى أراد أن يطلق اثنتين وبيان حكم الرجعة إذا طلق كذلك، فيكون اللفظ مستوعباً للمعنيين. وقوله تعالى :﴿ الطلاق مرتان ﴾ وإن كان ظاهره الخبر فإن معناه الأمر، كقوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ ﴿ والوالدات يرضعن أولادهن ﴾ وما جرى هذا المجرى مما هو في صيغة الخبر ومعناه الأمر. والدليل على أنه أمر وليس بخبر، أنه لو كان خبراً لوجد مخبره على ما أخبر به، لأن أخبار الله لا تنفكُّ من وجود مخبراتها ؛ فلما وجدنا الناس قد يطلقون الواحدة والثلاث معاً، ولو كان قوله تعالى :﴿ الطلاق مرتان ﴾ اسماً للخبر لاسْتَوْعَبَ جميع ما تحته، ثم وجدنا في الناس من يطلق لا على الوجه المذكور في الآية، علمنا أنه لم يُرِدِ الخبر وأنه تضمن أحد معنيين : إما الأمر بتفريق الطلاق متى أردنا الإيقاع، أو الإخبار عن المسنون المندوب إليه منه. وأولى الأشياء حمله على الأمر، إذْ قد ثبت أنه لم يُرِدْ به حقيقة الخبر، لأنه حينئذ يصير بمعنى قوله :" طلِّقوا مرتين متى أردتم الطلاق " وذلك يقتضي الإيجاب، وإنما ينصرف إلى الندب بدلالة، ويكون كما قال صلى الله عليه وسلم :" الصَّلاةُ مَثْنَى مَثْنَى والتَّشَهُّدُ في كلِّ رَكْعَتَيْنِ وتَمَسْكُنٌ وخُشُوعٌ " فهذه صيغة الخبر، والمراد الأمر بالصلاة على هذه الصفة، وعلى أنه إن حمل على أن المراد بيان المسنون من الطلاق كانت دلالته قائمة على حظر جمع الاثنين أو الثلاث، لأن قوله :﴿ الطلاق مرتان ﴾ منتظمٌ لجميع الطلاق المسنون، فلا يبقى شيءٌ من مسنون الطلاق إلا وقد انطوى تحت هذا اللفظ، فإذا ما خرج عنه فهو على خلاف السنة، فثبت بذلك أن جمع اثنتين أو ثلاثاً في كلمة فهو مطلق لغير السنة. فانتظمت هذه الآية الدلالة على معان : منها أن مسنون الطلاق التفريق بين أعداد الثلاث إذا أراد أن يطلق ثلاثاً. ومنها أن له أن يطلق اثنتين في مرتين. ومنها أن ما دون الثلاث تثبت معه الرجعة. ومنها أنه إذا طلق اثنتين في الحيض وقعتا، لأن الله قد حكم بوقوعهما. ومنها أنه نسخ هذه الآية الزيادة على الثلاث، على ما رُوي عن ابن عباس وغيره أنهم كانوا يطلقون ما شاؤوا من العدد ثم يراجعون، فقصروا على الثلاث ونسخ به ما زاد. ففي هذه الآية دلالة على حكم العدد المسنون من الطلاق، وليس فيها ذكر الوقت المسنون فيه إيقاع الطلاق، وقد بيَّن الله ذلك في قوله تعالى :﴿ فطلقوهن لعدتهن ﴾ [ الطلاق : ١ ] وبيّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم طلاق العدة، فقال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض :" ما هكذا أمَرَكَ اللهُ إنّما طَلاقُ العِدَّةِ أن تُطَلِّقَها طاهراً مِنْ غَيْرِ جِماعٍ أو حاملاً وقَدِ اسْتَبَانَ حَمْلُها " فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ؛ فكان طلاقُ السنة معقوداً بوصفين، أحدهما : العدد، والآخر : الوقت. فأما العدد فأن لا يزيد في طُهْرٍ واحد على واحدة، وأما الوقت فأن يطلفها طاهراً من غير جماع أو حاملاً قد استبان حملها.
وقد اختلف أهلُ العلم في طلاق السنة لذوات الأقراء، فقال أصحابنا :" أحسنُ الطلاق أن يطلقها إذا طهرت قبل الجماع ثم يتركها حتى تنقضي عدتها، وإن أراد أن يطلقها ثلاثاً طلقها عند كل طُهْرٍ واحدةً قبل الجماع " وهو قول الثوري. وقال أبو حنيفة :" وبلغنا عن إبراهيم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يستحبون أن لا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة، وأن هذا عندهم أفضل من أن يطلقها ثلاثاً عند كل طهر واحدة ".
وقال مالك وعبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون والليث بن سعد والحسن بن صالح والأوزاعي :" طلاق السنَّة أن يطلقها في طُهْرٍ قبل الجِماع تطليقةً واحدة ويكرهون أن يطلّقها ثلاثاً في ثلاثة أطهار، لكنه إن لم يُرِدْ رَجْعتها " تركها حتى تنقضي عدتها من الواحدة ". وقال الشافعي فيما رواه عنه المُزَني :" لا يحرم عليه أن يطلقها ثلاثاً، ولو قال لها أنت طالق ثلاثاً للسنة وهي طاهر من غير جماع، طلّقت ثلاثاً معاً ". قال أبو بكر : فنبدأ بالكلام على الشافعي في ذلك، فنقول : إن دلالة الآية التي تَلَوْنا ظاهرةٌ في بطلان هذه المقالة، لأنها تضمنت الأمر بإيقاع الاثنتين في مرتين، فمن أوقع الاثنتين في مرة فهو مخالف لحكمها ؛ ومما يدل على ذلك قوله تعالى :﴿ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ [ المائدة : ٨٧ ] وظاهره يقتضي تحريمَ الثلاث لما فيها من تحريم ما أحلّ لنا من الطيبات. والدليل على أن الزوجات قد تناولهن هذا العموم قوله تعالى :﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء ﴾ [ النساء : ٣ ] فوجب بحق العموم حَظْرُ الطلاق الموجب لتحريمها، ولولا قيام الدلالة في إباحة إيقاع الثلاث في وقت السنة وإيقاع الواحدة لغير المدخول بها لاقتضت الآية حظره. ومن جهة أخرى من دلائل الكتاب، أن الله تعالى لم يُبح الطلاق ابتداء لمن تجب عليها العدة إلاّ مقروناً بذكر الرجعة، منها قوله تعالى :﴿ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف ﴾ وقوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ وقوله تعالى :﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ﴾ أو فارقوهن بمعروف، فلم يبح الطلاق المبتدأ لذوات العدد إلا مقروناً بذكر الرجعة. وحكمُ الطلاق مأخوذٌ من هذه الآيات، لولاها لم يكن الطلاق من أحكام الشرع، فلم يجز لنا إثباته مسنوناً إلا على هذه الشريطة وبهذا الوصف. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ أدخَلَ في أمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوُ رَدٌّ " وأقل أحوال هذا اللفظ حظر خلاف ما تضمنته الآيات التي تلونا من إيقاع الطلاق المبتدأ مقروناً بما يوجب الرجعة.
ويدلّ عليه من جهة السنّة ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر : أنه طلّق امرأته وهي حائضٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقل :" مُرْهُ فلْيُرَاجِعْها ثم ليُمْسِكْها حَتّى تَطْهُرَ ثمّ تَحِيضَ ثم تَطْهُرَ ثم إنْ شَاءَ أمْسَكَ بعَدَ ذَلِكَ وإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أنْ يَمَسَّ، فتلك العِدَّةُ التي أمر الله أنْ يُطَلَّقَ لها النّسَاءُ ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا عنبسة قال : حدثنا يونس عن ابن شهاب قال : أخبرني سالم بن عبدالله عن أبيه : أنه طلّق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :" مُرْهُ فلْيُرَاجِعْها ثم ليُمْسِكْها حتّى تطهرَ ثم تَحِيضَ ثم تطهرَ ثم إن شاء طلّقها طاهراً قبل أن يَمَسَّ فذلكَ الطلاقُ للعِدَّة كما أمَرَ الله ". فذكر سالم في رواية الزهري عنه ونافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها ثم يَدَعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلّق أو أمسك. ورُوي عن عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر مثله. ورَوَى يونس وأنس بن سيرين وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم قال :" إن شَاءَ طَلَّقَ وإنْ شَاءَ أمْسَكَ " ؛ والأخبار الأُوَلُ أوْلى لما فيها من الزيادة. ومعلوم أن جميع ذلك إنما ورد في قصة واحدة، وإنما ساق بعضهم لفظ النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه وحذف بعضهم ذكر الزيادة إغفالاً أو نسياناً، فوجب استعماله بما فيه من زيادة ذكر الحيضة، إذْ لم يثبت أن الشارع صلى الله عليه وسلم قال ذلك عارياً من ذكر الزيادة وذَكَرَهُ مرةً مقروناً بها إذ كان فيه إثبات القول منه في حالين، وهذا مما لا نعلمه، فغير جائز إثباته. وعلى أنه لو كان الشارع صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك في حالين، لم يَخْلُ من أن يكون المتقدم منهما هو الخبر الذي فيه الزيادة والآخر متأخراً عنه فيكون ناسخاً له، وأن يكون الذي لا زيادة فيه هو المتقدم، ثم ورد بعده ذكر الزيادة فيكون ناسخاً للأوّل بإثبات الزيادة، ولا سبيل لنا إلى العلم بتاريخ الخبرين، لا سيّما وقد أشار الجميع من الرواة إلى قصة واحدة ؛ فإذا لم يعلم التاريخ وجب إثبات الزيادة من وجهين : أحدهما أن كل شيئين لا يُعلم تاريخهما فالواجب الحكم بهما معاً ولا يُحكم بتقدم أحدهما على الآخر، كالغَرْقَى والقوم يقع عليهم البيت، وكما تقول في البيعين من قبل رجل واحد :" إذا قامت عليهما البيّنة ولم يعلم تاريخهما فيحكم بوقوعهما معاً " فكذلك هذان الخبران وجب الحكم بهما معاً، إذْ لم يثبت لهما تاريخ، فلم يثبت الحكم إلاّ مقروناً بالزيادة المذكورة فيه. والوجه الآخر : أنه قد ثبت أن الشارع قد ذكر الزيادة وأثبتها وأمر باعتبارها بقوله :" مُرْهُ فليَدَعْها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلّقها إنْ شاء " لورودها من طرق صحيحة ؛ فإذا كانت ثابتة في وقت واحتمل أن تكون منسوخة بالخبر الذي فيه حذف الزيادة واحتمل أن تكون غير منسوخة، لم يَجُزْ لنا إثباتُ النسخ بالاحتمال ووجب بقاء حكم الزيادة ؛ ولما ثبت ذلك وأمر الشارع صلى الله عليه وسلم بالفصل بين التطليقة الموقعة في الحَيْضِ وبين الأخرى التي أمره بإيقاعها بحيضةٍ ولم يُبِحْ له إيقاعَها في الطهر الذي يلي الحيضة، ثبت إيجابُ الفصل بين كل تطليقتين بحيضة وأنه غير جائز له الجمع بينهما في طهر واحد، لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كما أمره بإيقاعها في الطهر ونهاه عنها في الحيض فقد أمره
قوله تعالى :﴿ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ﴾ منتظمٌ لمعانٍ : منها تحريمها على المطلق ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره، مفيد في شرط ارتفاع التحريم الواقع بالطلاق الثلاث العقد والوطء جميعاً، لأن النكاح هو الوطء في الحقيقة، وذكر الزوج يفيد العقد، وهذا من الإيجاز والاقتصار على الكناية المفهمة المغنية عن التصريح، وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبارٌ مستفيضةٌ في أنها لا تحلّ للأول حتى يطأها الثاني، منها حديثُ الزهري عن عروة عن عائشة : أن رفاعة القرظيَّ طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجت عبدالرحمن بن الزبير، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبيَّ الله إنها كانت تحت رفاعة فطلقها آخر ثلاث تطليقات فتزوجت بعده عبدالرحمن بن الزبير وإنه يا رسول الله ما معه إلا مثل هُدْبَةِ الثوب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" لعلك تُرِيدينَ أن تَرْجِعي إلى رفاعة ؟ لا حتَّى تَذُوقي عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ " ورَوَى ابن عُمر وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، ولم يذكرا قصة امرأة رفاعة. وهذه أخبارٌ قد تلقّاها الناس بالقبول واتفق الفقهاء على استعمالها، فهي عندنا في حَيِّزِ التواتر. ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك إلاّ شيءٌ يُرْوى عن سعيد بن المسيب أنه قال :" إنها تحلّ للأول بنفس عقد النكاح دون الوطء ". ولم نعلم أحداً تابعه عليه، فهو شاذّ.
وقوله تعالى :﴿ حتى تنكح زوجاً غيره ﴾ غايةُ التحريم الموقعُ بالثلاث، فإذا وَطِئها الزوجُ الثاني ارتفع ذلك التحريم الموقَعُ وبقي التحريم من جهة أنها تحت زوج كسائر النساء الأجنبيات، فمتى فارقها الثاني وانْقَضَتْ عدتُها حَلَّت للأول. وقوله تعالى :﴿ فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ﴾ مرتبٌ على ما أوجب من العِدّة على المدخول بها في قوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ وقوله تعالى :﴿ ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ﴾ [ البقرة : ٢٣٥ ] ونحوها من الآي الحاظرة للنكاح في العدة. وقوله تعالى :﴿ فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ﴾ نص على ذِكْرِ الطلاق، ولا خلاف أن الحكم في إباحتها للزوج الأول غير مقصور على الطلاق وأن سائر الفُرَقِ الحادثة بينهما من نحو موت أو ردّة أو تحريم بمنزلة الطلاق، وإن كان المذكور نفسه هو الطلاق. وفيه الدلالة أيضاً على جواز النكاح بغير وليّ لأنه أضاف التراجع إليهما من غير ذكر الوليّ. وفيه أحكامٌ أُخَرُ نذكرها عند ذكرنا لأحكام الخُلعْ بعد ذلك، ولكنا قدمنا ذكر الثالثة لأنه يتصل به في المعنى بذكر الاثنتين وإن تخلّلهما ذكر الخلع، وبالله التوفيق.

باب المضارّة في الرجعة :


قال الله تعالى :﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ﴾ قال أبو بكر : المراد بقوله :﴿ فبلغن أجلهن ﴾ مقاربة البلوغ والإشراف عليه لا حقيقته، لأن الأجَلَ المذكور هو العدّة، وبلوغه هو انقضاؤها، ولا رجعة بعد انقضاء العدة. وقد عبَّر عن العدة بالأجل في مواضع، منها قوله تعالى :﴿ فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ﴾ ومعناه معنى ما ذكر في هذه الآية ؛ وقال تعالى :﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ [ الطلاق : ٤ ] وقال ﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن ﴾ وقال :﴿ ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ﴾ فكان المراد بالآجال المذكورة في هذه الآي هي العدد ؛ ولِمَا ذكره الله تعالى في قوله :﴿ فإذا بلغن أجلهن ﴾ والمراد مقاربته دون انقضائه ؛ ونظائره كثيرة في القرآن واللغة، قال الله تعالى :﴿ إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ﴾ [ الطلاق : ١ ] ومعناه : إذا أردتم الطلاق وقاربتم أن تطلقوا فطلقوا للعدة ؛ وقال تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ﴾ [ النحل : ٩٨ ] معناه : إذا أردت قراءته ؛ وقال :﴿ وإذا قلتم فاعدلوا ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ] وليس المراد العدل بعد القول، ولكن قبله، يعزم على أن لا يقول إلا عدلاً. فعلى هذا ذَكَرَ بلوغ الأجل وأراد به مقاربته دون وجود نهايته ؛ وإنما ذكر مقاربة البلوغ عند الأمر بالإمساك بالمعروف وإن كان عليه ذلك في سائر أحوال بقاء النكاح، لأنه قرن إليه التسريح وهو انقضاء العدة، وجَمْعُهما في الأمر والتسريح إنما له حال واحد ليس يدوم، فخصّ حال بلوغ الأجل بذلك لينتظم المعروف الأمرين جميعاً.
وقوله تعالى :﴿ فأمسكوهن بمعروف ﴾ المراد به المراجعة قبل انقضاء العدّة ؛ ورُوي ذلك عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة.
وقوله تعالى :﴿ أو سرحوهن بمعروف ﴾ معناه تَرْكُها حتى تنقضي عدتها. وأباح الإمساك بالمعروف وهو القيام بما يجب لها من حق على ما تقدم من بيانه، وأباح التسريح أيضاً على وجه يكون معروفاً بأن لا يقصد مضار‍َّتها بتطويل العدة عليها بالمراجعة، وقد بيّنه عقيب ذلك بقوله تعالى :﴿ ولا تمسكوهن ضِراراً ﴾ ويجوز أن يكون من الفراق بالمعروف أن يمتعها عند الفرقة.
ومن الناس من يحتج بهذه الآية، وبقوله :﴿ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ﴾ في إيجاب الفرقة بين المعسر العاجز عن النفقة وبين امرأته ؛ لأن الله تعالى إنما خيّره بين أحد شيئين : إما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان ؛ وتَرْكُ الإنفاق ليس بمعروف، فمتى عجز عنه تعيَّن عليه التسريح، فيفرق الحاكم بينهما.
قال أبو بكر رحمه الله : هذا جهلٌ من قائله والمحتجِّ به ؛ لأن العاجز عن نفقة امرأته يمسكها بمعروف، إذْ لم يكلف الإنفاق في هذا الحال، قال الله تعالى :﴿ ومن قُدِرَ عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً ﴾ [ الطلاق : ٧ ] فغير جائز أن يقال إن المعسر غير ممسك بالمعروف، إذ كان تركُ الإمساك بمعروف ذمّاً، والعاجز غير مذموم بترك الإنفاق، ولو كان العاجز عن النفقة غير ممسك بمعروف لوجب أن يكون أصحاب الصُّفَّة وفقراء الصحابة الذين عجزوا عن النفقة على أنفسهم فضلاً عن نسائهم غير ممسكين بمعروف. وأيضاً فقد علمنا أن القادر على الإنفاق الممتنع منه غيرُ ممسك بمعروف، ولا خلاف أنه لا يستحقّ التفريق، فكيف يجوز أن يُستدلَّ بالآية على وجوب التفريق على العاجز دون القادر والعاجز ممسك بمعروف والقادر غير ممسك ؟ وهذا خُلْفٌ من القول.
قوله تعالى :﴿ ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ﴾ رُوي عن مسروق والحسن ومجاهد وقتادة وإبراهيم :" هو تطويل العِدّة عليها بالمراجعة إذا قاربت انقضاء عدتها ثم يطلقها حتى تستأنف العدة، فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها، فأمر الله بإمساكها بمعروف ونهاه عن مضارّتها بتطويل العدة عليها ".
وقوله تعالى :﴿ ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ﴾ دلّ على وقوع الرجعة، وإن قصد بها مضارتها، لولا ذلك ما كان ظالماً لنفسه إذ لم يثبت حكمها وصارت رجعته لغواً لا حكم لها.
وقوله تعالى :﴿ ولا تتخذوا آيات الله هزواً ﴾ رُوي عن عمر وعن الحسن عن أبي الدرداء قال : كان الرجل يطلق امرأته ثم يرجع فيقول كنت لاعباً، فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تتخذوا آيات الله هزواً ﴾ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من طَلَّقَ أوْ حَرَّرَ أوْ نَكَحَ فقال كُنْتُ لاعِباً فهو جَادٌّ " فأخبر أبو الدرداء أن ذلك تأويل الآية، وأنها نزلت فيه، فدلّ ذلك على أن لعب الطلاق وجده سواء. وكذلك الرجعة، لأنه ذكر عقيب الإمساك أو التسريح، فهو عائد عليهما ؛ وقد أكّده رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بينه. ورَوَى عبدالرحمن بن حبيب، عن عطاء، عن ابن ماهك، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ثَلاثٌ جدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزلُهُنَّ جِدٌّ : الطلاقُ والنكاحُ والرّجْعَةُ ". وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال :" أربعٌ واجباتٌ على كل من تكلم بهن : العِتاقُ والطلاقُ والنكاحُ والنذرُ ". ورَوَى جابر عن عبدالله بن لَحْي عن عليّ أنه قال :" ثلاثٌ لا يُلعب بهن : الطلاقُ والنكاحُ والصدقةُ ". ورَوَى القاسم بن عبدالرحمن عن عبدالله قال :" إذا تكلمت بالنكاح فإن النكاح جِدّه ولعبه سواء، كما أن جِدّ الطلاق ولعبه سواء ". ورُوي ذلك عن جماعة من التابعين ؛ ولا نعلم فيه خلافاً بين فقهاء الأمصار. وهذا أصلٌ في إيقاع طلاق المُكْرِهِ ؛ لأنه لما استوى حكم الجادّ والهازل فيه، وكانا إنما يفترقان مع قصدهما إلى القول من جهة وجود إرادة أحدهما لإيقاع حكم ما لفظ به والآخر غير مريد لإيقاع حكمه، لم يكن للنية تأثيرٌ في دفعه، وكان المكرهُ قاصداً إلى القول غَيْرَ مُرِيدٍ لحكمه لم يكن لِفقد نيّة الإيقاع تأثيرٌ في دفعه ؛ فدلّ ذلك على أن شرط وقوعه وجودُ لفظ الإيقاع من مكلَّفٍ ؛ والله أعلم.

باب النكاح بغير وليّ :


قال الله تعالى :﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ﴾ الآية. قوله تعالى :﴿ فبلغن أجلهن ﴾ المراد حقيقة البلوغ بانقضاء العدة، والعَضْلُ يَعْتَوِرُهُ معنيان : أحدهما المنع، والآخر الضيق ؛ يقال :" عَضَلَ الفَضَاءُ بالجيش " إذا ضاق بهم، والأمر المُعْضِلُ هو الممتنع، وداءٌ عضالٌ : ممتنع. وفي التضييق يقال :" عَضَلْتُ عليهم الأمْر " إذا ضيقت، و " عَضَلَتِ المرأةُ بولدها " إذا عسر ولادُها، وأعْضَلَتْ ؛ والمعنيان متقاربان لأن الأمر الممتنع يضيق فعله وزواله والضيق ممتنع أيضاً. ورُوي أن الشعبي سئل عن مسألة صعبة فقال :" زباء ذات وبر لا تنساب ولا تنقاد، ولو نزلت بأصحاب محمد لأعْضلَتْ بهم. وقوله تعالى :﴿ ولا تعضلوهن ﴾ معناه : لا تمنعوهن أو لا تضيقوا عليهن في التزويج.
وقد دلّت هذه الآية من وجوه على جواز النكاح إذا عقدت على نفسها بغير وليّ ولا إذن وليّها ؛ أحدها : إضافة العقد إليها من غير شرط إذن الوليّ. والثاني : نَهْيُه عن العَضْل إذا تراضى الزوجان.
فإن قيل : لولا أن الوليّ يملك منعها عن النكاح لما نهاه عنه كما لا يُنْهَى الأجنبي الذي لا ولاية له عنه. قيل له : هذا غلطٌ، لأن النهي يمنع أن يكون له حقٌّ فيما نُهي عنه فكيف يستدل به على إثبات الحق ؟ وأيضاً فإن الولي يمكنه أن يمنعها من الخروج والمراسلة في عقد النكاح، فجائز أن يكون النهي عن العضل منصرفاً إلى هذا الضرب من المنع، لأنها في الأغلب تكون في يد الوليّ بحيث يمكنه منعها من ذلك. ووجه آخر من دلالة الآية على ما ذكرنا، وهو أنه لما كان الوليّ منهيّاً عن العَضْلِ إذا زَوَّجَتْ هي نفسها من كُفُوٍ، فلا حقَّ له في ذلك، كما لو نُهي عن الربا والعقود الفاسدة لم يكن له حقّ فيما قد نُهي عنه، فلم يكن له فسخه ؛ وإذا اختصموا إلى الحاكم فلو منع الحاكم من مثل هذا العقد كان ظالماً مانعاً مما هو محظور عليه منعه، فيبطل حقه أيضاً في الفسخ فيبقى العقد لا حقَّ لأحد في فسخه فينفذ ويجوز.
فإن قيل إنما نَهَى الله سبحانه الوليَّ عن العَضْلِ إذا تراضَوْا بينهم بالمعروف، فدلّ ذلك على أنه ليس بمعروف إذا عقده غير الوليّ. قيل له : قد علمنا أن المعروف مهما كان من شيء فغيرُ جائز أن يكون عقد الولي وذلك لأن في نص الآية جواز عقدها ونهي الولي عن منعها فغير جائز أن يكون معنى المعروف أن لا يجوز عَقْدُها لما فيه مِنْ نَفْي موجب الآية، وذلك لا يكون إلاّ على وجه النسخ ؛ ومعلوم امتناع جواز الناسخ والمنسوخ في خطاب واحد، لأن النسخ لا يجوز إلا بعد استقرار الحكم والتمكن من الفعل ؛ فثبت بذلك أن المعروف المشروط في تراضيهما ليس هو الوليّ. وأيضاً فإن الباء تصحب الأبدال، فإنما انصرف ذلك إلى مقدار المهر، وهو أن يكون مهر مثلها لا نقص فيه، ولذلك قال أبو حنيفة :" إنها إذا نقصت من مهر المثل فللأولياء أن يفرقوا بينهما ".
ونظير هذه الآية في جواز النكاح بغير وليّ قوله تعالى :﴿ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره فإن طلّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ﴾ قد حوى الدلالة من وجهين على ما ذكرنا، أحدهما : إضافته عقد النكاح إليها في قوله :﴿ حتى تنكح زوجَاً غيره ﴾، والثاني :﴿ فلا جناح عليهما أن يتراجعا ﴾ فنسب التراجع إليهما من غير ذكر الوليّ. ومن دلائل القرآن على ذلك قوله تعالى :﴿ فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ﴾ فجاز فعلها في نفسها من غير شرط الوليّ، وفي إثبات شرط الوليّ في صحة العقد نفيٌ لموجب الآية.
فإن قيل : إنما أراد بذلك اختيار الأزواج وأن لا يجوز العقد عليها إلاّ بإذنها. قيل له : هذا غلط من وجهين، أحدهما : عموم اللفظ في اختيار الأزواج وفي غيره، والثاني : أن اختيار الأزواج لا يحصل لها به فعل في نفسها وإنما يحصل ذلك بالعقد الذي يتعلق به أحكام النكاح ؛ وأيضاً فقد ذكر الاختيار مع القعد بقوله :﴿ إذا تراضوا بينهم بالمعروف ﴾.
ذكر الاختلاف في ذلك :
اختلف الفقهاء في عَقْدِ المرأة على نفسها بغير وليٍّ، فقال أبو حنيفة :" لها أن تزوِّجَ نفسها كُفُواً وتستوفي المهر ولا اعتراض للوليّ عليها " وهو قول زفر " وإن زوّجت نفسها غير كُفُوٍ فالنكاحُ جائز أيضاً وللأولياء أن يفرقوا بينهما ". ورُوي عن عائشة أنها زوّجت حفصة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر بن المنذر بن الزبير وعبدالرحمن غائبٌ ؛ فهذا يدلّ على أن مذهبهما جواز النكاح بغير وليّ، وهو قول محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة. وقال أبو يوسف :" لا يجوز النكاح بغير وليّ، فإن سَلَّم الوليُّ جاز، وإن أبى أن يسلِّم والزوجُ كُفُوٌ أجازه القاضي " وإنما يتمّ النكاح عنده حين يجيزه القاضي ؛ وهو قول محمد. وقد رُوي عن أبي يوسف غير ذلك، والمشهور عنه ما ذكرناه. وقال الأوزاعي :" إذا ولّتْ أمرها رجلاً فزوجها كفواً فالنكاح جائز، وليس للوليّ أن يفرق بينهما ". وقال ابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح والشافعي :" لا نكاح إلا بوليّ ". وقال ابن شبرمة :" لا يجوز النكاح إلا بوليّ، وليس الوالدة بوليّ ولا أن تجعل المرأة وليها رجلاً إلا قاضٍ من قضاة المسلمين ". وقال ابن القاسم عن مالك :" إذا كانت امرأة معتقة أو مسكينة أو دنيّة لا خطر لها، فلا بأس أن تستخلف رجلاً ويزوجها، ويَجُوز ". وقال مالك :" وكل امرأة لها مالٌ وغِنًى وقَدْرٌ فإن تلك لا ينبغِي أن يزوجها إلا الأولياء أو السلطان " قال : وأجاز مالكٌ للرجل أن يزوج المرأة وهو من فَخِذِها وإن كان غيره أقرب منه إليها. وقال الليث في المرأة تُزَوَّجُ بغير وليّ :" إن غيره أحسن منه يرفع أمرها إلى السلطان، فإن كان كفواً أجازه ولم يفسخه " وذلك في الثيب، وقال في السوداء تزوَّجُ بغير وليّ :" إنه جائز "، قال :" والبكر إذا زوجها غير وليٍّ والوليُّ قريبٌ حاضرٌ فهذا الذي أمره إلى الوليّ يفسخه له السلطان إن رأى لذلك وجهاً، والوليّ من قبل هذا أوْلى من الذي أنكحها ".
قال أبو بكر : وجميع ما قدمنا من دلائل الآي الموجبة لجواز عقدها تقضي بصحة قول أبي حنيفة في هذه المسألة ؛ ومن جهة السنة حديث ابن عباس، حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن علي قال : حدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر، عن صالح بن كيسان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال :" لَيْسَ للْوَليِّ مَعَ الثَّيِّبِ أمْرٌ " قال أبو داود : وحدثنا أحمد بن يونس وعبدالله بن مسلمة قالا : حدثنا مالك، عن عبدالله بن الفضل، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الأيِّمُ أحَقُّ بنَفْسِها مِنْ وَلِيِّها " فقوله :" ليس للولي مع الثيب أمر " يسقط اعتبار الوليّ في العقد، وقوله :" الأيم أحق بنفسها من وليها " يمنع أن يكون له حق في منعها العقد على نفسها، كقوله صلى الله عليه وسلم :" الجَارُ أحَقُّ بصَقَبِهِ " وقوله لأمّ الصغير :" أنْتِ أحَقُّ به ما لم تَنْكَحي " فنَفَى بذلك كله أن يكون له معها حقّ. ويدل عليه حديث الزهري عن سهل بن سعد في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم : فقال صلى الله عليه وسلم :" ما لي في النّسَاءِ مِنْ أَرَبٍ " فقام رجل فسأله أن يزوجها، فزوجها ولم يسألْها هل لها وليّ أم لا، ولم يشترط الوليّ في جواز عقدها. وخطب النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ سلمة، فقالت : ما أحَدٌ من أوليائي شاهدٌ ؛ فقال لها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم :" ما أحَدٌ مِنْ أوْلِيَائِكِ شَاهِدٌ ولا غَائِبٌ يَكْرَهُني " فقالت لابنها وهو غلام صغير : قُم فزوِّجْ أمَّك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؛ فتزوجها صلى الله تعالى عليه وسلم بغير وليّ.
فإن قيل : لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان وليَّها وولي المرأة التي وهبت نفسها له، لقوله تعالى :﴿ النبي أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم ﴾ [ الأحزاب : ٦ ]. قيل له : هو أوْلى بهم فيما يلزمهم من اتّباعه وطاعته فيما يأمرهم به، فأما أن يتصرّف عليهم في أنفسهم وأموالهم فلا ؛ ألا ترى أنه لم يقل لها حين قالت له ليس أحد من أوليائي شاهد " وما عليك من أوليائك وأنا أوْلى بك منهم " بل قال :" ما أحدٌ منهم يكرهني ؟ " وفي هذا دلالة على أنه لم يكن وليّاً لهن في النكاح.
ويدلّ عليه من جهة النظر اتفاقُ الجميع على جواز نكاح الرجل إذا كان جائز التصرف في ماله، كذلك المرأة لما كانت جائزة التصرف في مالها وجب جواز عقد نكاحها، والدليلُ على أن العلّة في جواز نكاح الرجل ما وَصَفْنا أن الرجل إذا كان مجنوناً غير جائز التصرف في ماله لم يَجُزْ نكاحه، فدلّ على صحة ما وصفنا.
واحتجّ من خالف في ذلك بحديث شَريكٍ عن سِماك عن ابن أبيّ أخي مَعْقِل بن يَسار عن مَعْقِل : أن أخت معقل كانت تحت رجل، فطلقها ثم أراد أن يراجعها، فأبَى عليها مَعْقِلٌ، فنزلت هذه الآية :﴿ فلا تعضُلوهنّ أن ينكحن أزواجهن ﴾. وقد رُوي عن الحسن أيضاً هذه القصة، وأن الآية نزلت فيها، وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا معقلا وأمره بتزويجها. وهذا الحديث غير ثابت عَلى مذهب أهل النقل، لما في سَنَدِه من الرجل المجهول الذي رَوَى عنه سماك. وحديث الحسن مرسلٌ، ولو ثبت لم يَنْفِ دلالة الآية على جواز عقدها، مِنْ قِبَلِ معقلاً فعل ذلك فنهاه الله عنه فبطل حقّه في العَضْلِ : فظاهر الآية يقتضي أن يكون ذلك خطاباً للأزواج، لأنه قال :﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن ﴾، فقوله تعالى :﴿ فلا تعضلوهن ﴾ إنما هو خطاب لمن طلق ؛ وإذا كان كذلك كان معناه عَضْلَها عن الأزواج بتطويل العدة عليها كما قال :﴿ ولا تمسكوهن ضِراراً لتعتدوا ﴾. وجائزٌ أن يكون قوله تعالى :﴿ ولا تعضلوهن ﴾ خطاباً للأولياء وللأزواج ولسائر الناس ؛ والعمومُ يقتضي ذلك.
واحتجّوا أيضاً بما رُوي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال :" أيّما امْرأةٍ نَكَحَتْ بغَيْرِ إِذْنِ وليِّها فنِكَاحُها بَطِلٌ ". وبما رُوي من قوله :" لا نِكَاحَ إلاّ بوَليٍّ "، وبحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم :" لا تُزَوِّجُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ، ولا تُزَوِّجُ المَرْأَةُ نَفْسَها، فإنّ الزَّانِيَةَ هي التي تُزَوِّجُ نَفْسَها ". فأما الحديث الأول فغير ثابت، وقد بيّنا علله في شرح الطحاوي ؛ وقد رُوي في بعض الألفاظ :" أيما امرأة تزوجت بغير إذن مواليها " وهذا عندنا على الأمَةِ تزوج نفسها بغير إذن مولاها. وقوله :" لا نكاح إلا بوليّ " لا يعترض على موضع الخلاف، لأن هذا عندنا نكاح بوليّ، لأن المرأة وليّ نفسها كما أن الرجل وليّ نفسه، لأن الوليّ هو الذي يستحقّ الولاية على من يلي عليه، والمرأة تستحق الولاية والتصرف على نفسها في مالها فكذلك في بُضْعِها. وأما حديث أبي هريرة فمحمول على وجه الكراهة لحضور المرأة مجلس الإملاك ؛ لأنه مأمور بإعلان النكاح، ولذلك يُجمع له الناس، فكره للمرأة حضور ذلك المجمع ؛ وقد ذكر أن قوله :" الزانية هي التي تنكح نفسها " من قَوْلِ أبي ه

باب الرضاع


قال الله تعالى :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ﴾ الآية. قال أبو بكر : ظاهرُه الخبر، ولكنه معلوم من مفهوم الخطاب أنه لم يُرِدْ به الخَبَرِ ؛ لأنه لو كان خبراً لوجد مخبره، فلما كان في الوالدات من لا يرضع علم أنه لم يُرِدْ به الخبر. ولا خلاف أيضاً في أنه لم يرد به الخبر. وإذا لم يكن المراد حقيقة اللفظ الذي هو الخبر. لم يَخْلُ من أن يكون المراد إيجاب الرضاع على الأم وأمرها به، إذْ قد يَرِدُ الأمْرُ في صيغة الخبر، كقوله :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾، وأن يريد به إثبات حق الرضاع للأمّ وإن أبَى الأبُ، أو تقدير ما يلزم الأب من نفقة الرضاع. فلما قال في آية أخرى :﴿ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ﴾ [ الطلاق : ٦ ] وقال تعالى :﴿ وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ﴾ [ الطلاق : ٦ ] دلّ ذلك على أنه ليس المُرَادَ الرضاع شاءت الأم أو أبَتْ، وأنها مخيرة في أن ترضع أو لا ترضع ؛ فلم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو أن الأب إذا أبى استرضاع الأم أُجْبِرَ عليه، وأن أكثر ما يلزمه في نفقة الرضاع للحَوْلَين، فإن أبى أن ينفق نفقة الرضاع أكثر منهما لم يُجْبَرْ عليه. ثم لا يخلو بعد ذلك قوله تعالى :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن ﴾ من أن يكون عموماً في سائر الأمهات مطلَّقات كنّ أو غير مطلقات، أو أن يكون معطوفاً على ما تقدم ذكره من المطلقات مقصورَ الحكم عليهن، فإن كان المراد سائر الأمهات المطلَّقات منهن والمزوَّجات فإنّ النفقة الواجبة للمزوجات منهن هي نفقة الزوجية وكسوتها لا للرضاع، لأنها لا تستحقّ نفقة الرضاع مع بقاء الزوجية، فتجتمع لها نفقتان إحداهما للزوجية والأخرى للرضاع ؛ وإن كانت مطلّقة فنفقة الرضاع أيضاً مستحقة بظاهر الآية، لأنه أوجبها بالرضاع، وليست في هذه الحال زوجة ولا معتدّةً منه، لأنه يكون معطوفاً على قوله تعالى :﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ﴾ فتكون منقضية العدّة بوضع الحمل، وتكون النفقةُ المستحقة أجرةَ الرضاع ؛ وجائز أن يكون طلّقها بعد الولادة، فتكون عليها العدة بالحيض.
وقد اختلفت الروايةُ عن أصحابنا في وجوب نفقة الرضاع ونفقة العدة معاً، ففي إحدى الروايتين أنها تستحقهما معاً، وفي الأخرى أنها لا تستحق للرضاع شيئاً مع نفقة العدة.
فقد حوت الآية الدلالة على معنيين، أحدهما : أن الأمّ أحقّ برضاع ولدها في الحولين وأنه ليس للأب أن يسترضع له غيرها إذا رضيت بأن ترضعه. والثاني : أن الذي يلزم الأب في نفقة الرضاع إنما هو سنتان. وفي الآية دلالةٌ على أن الأبَ لا يشارك في نفقة الرضاع، لأن الله تعالى أوْجَبَ هذه النفقة على الأب للأم وهما جميعاً وارثان، ثم جعل الأب أوْلَى بإلزام ذلك من الأم مع اشتراكهما في الميراث، فصار ذلك أصلاً في اختصاص الأب بإلزام النفقة دون غيره. كذلك حكْمُهُ في سائر ما يلزمه من نفقة الأولاد الصغار والكبار الزَّمْنَى يختصّ هو بإيجابه عليه دون مشاركة غيره فيه، لدلالة الآية عليه.
وقوله تعالى :﴿ رزقهن وكسوتهن بالمعروف ﴾ يقتضي وجوب النفقة والكسوة لها في حال الزوجية لشمول الآية لسائر الوالدات من الزوجات والمطلقات. وقوله تعالى :﴿ بالمعروف ﴾ يدلّ على أن الواجب من النفقة والكسوة هو على قدر حال الرجل في إعساره ويساره، إذ ليس من المعروف إلزامُ المعسر أكثر مما يقدر عليه ويمكنه، ولا إلزام الموسر الشيء الطفيف. ويدل أيضاً على أنها على مقدار الكفاية مع اعتبار حال الزوج، وقد بيّن ذلك بقوله عقيب ذلك :﴿ لا تكلف نفس إلا وُسْعها ﴾، فإذا اشْتَطَّت المرأةُ وطلبت من النفقة أكثر من المعتاد المتعارف لمثلها لم تُعْط، وكذلك إذا قصَّر الزوجُ عن مقدار نفقة مثلها في العُرْف والعادة ولم يَحُلّ ذلك وأُجبر على نفقة مثلها.
وفي هذه الآية دلالة على جواز استيجار الظئر بطعامها وكسوتها ؛ لأن ما أوجبه الله تعالى في هذه الآية للمطلقة هي أجرة الرضاع، وقد بيّن ذلك بقوله تعالى :﴿ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ﴾.
وفي هذه الآية دلالة على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث، إذ لا توصُّلَ إلى تقدير النفقة بالمعروف إلاّ من جهة غالب الظنّ وأكثر الرأي، إذ كان ذلك معتبراً بالعادة، وكل ما كان مبنيّاً على العادة فسبيله الاجتهاد وغالب الظن، إذ ليست العادة مقصورة على مقدار واحد لا زيادة عليه ولا نقصان. ومن جهة أخرى هو مبنيّ على الاجتهاد، وهو اعتبار حاله في إعساره ويساره ومقدار الكفاية والإمكان بقوله :﴿ لا تكلف نفس إلا وسعها ﴾ واعتبار الوُسْعِ مبنيٌّ على العادة.
وقوله تعالى :﴿ لا تكلف نفس إلاّ وسعها ﴾ يوجب بطلان قول أهل الإجبار في اعتقادهم أن الله يكلف عباده ما لا يطيقون، وإكذابٌ لهم في نسبتهم ذلك إلى الله تعالى الله عما يقولون وينسبون إليه من السفه والعبث علوًّا كبيراً.
قوله تعالى :﴿ لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ﴾ وروي عن الحسن ومجاهد وقتادة قالوا :" هو المضارّة في الرضاع ". وعن سعيد بن جبير وإبراهيم قالا :" إذا قام االرضاع على شيء خُيّرت الأم ".
قال أبو بكر : فمعناه لا تضارّ والدة بولدها بأن لا تُعْطَى إذا رضيت بأن ترضعه بمثل ما ترضعه به الأجنبية، بل تكون هي أوْلى على ما تقدم في أول الآية من قوله :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ﴾ فجعل الأمَّ أحقُّ برضاع الولد هذه المدة، ثم أكد ذلك بقوله تعالى :﴿ لا تضار والدة بولدها ﴾ يعني والله أعلم أنها إذا رضيت بأن ترضعَ بمثل ما ترضعُ به غيرها، لم يكن للأب أن يضارّها فيدفعه إلى غيرها ؛ وهو كما قال في آية أخرى :﴿ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ﴾ [ الطلاق : ٦ ] فجعلها أوْلى بالرضاع، ثم قال :﴿ وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ﴾ [ الطلاق : ٦ ] فلم يسقط حقَّها من الرضاع إلا عند التعاسر. ويحتمل أن يريد به أنها لا تضارّ بولدها إذا لم تَخْتَرْ أن ترضعه بأن ينتزع منها، ولكنه يؤمر الزوج بأن يحضر الظئر إلى عندها حتى ترضعه في بيتها ؛ وكذلك قول أصحابنا. ولما كانت الآية محتملة للمضارّة في نزع الولد منها واسترضاع غيرها، وَجَبَ حَمْلُه على المعنيين، فيكون الزوج ممنوعاً من استرضاع غيرها إذا رضيت هي بأن ترضعه بأجرة مثلها وهي الرزق والكسوة بالمعروف، وإن لم ترضع أجبر الزوج على إحضار المرضعة حتى ترضعه في بيتها حتى لا يكون مضارّاً لها بولدها. وفي هذا دلالةٌ على أن الأمّ أحقُّ بإمساك الولد ما دام صغيراً وإن استغنى عن الرضاع بعدما يكون ممن يحتاج إلى الحضانة ؛ لأن حاجته إلى الأمّ بعد الرضاع كهي قبله، فإذا كانت في حال الرضاع أحقّ به، وإن كانت المرضعة غيرها علمنا أن في كونه عند الأم حقاً لها وفيه حق للولد أيضاً وهو أن الأم أرفق به وأحْنَى عليه. وذلك في الغلام عندنا إلى أن يأكل وحده ويشرب وحده ويتوضأ وحده، وفي الجارية حتى تحيض ؛ لأن الغلام إذا بلغ إلى الحدّ الذي يحتاج فيه إلى التأديب ويعقله ففي كونه عند الأم دون الأب ضررٌ عليه، والأب مع ذلك أقْوَمُ بتأديبه، وهي الحال التي قال فيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم :" مُرُوهُمْ بالصّلاةِ لسَبْعٍ واضْرِبُوهُمْ عَلَيْها لِعَشْرٍ، وفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ في المَضَاجِعِ ". فمن كان سنّه سبعاً فهو مأمور بالصّلاة على وجه التعليم والتأديب، لأنه يعقلها ؛ فكذَلك سائر الأدب الذي يحتاج إلى تعلّمه. وفي كونه عندها في هذه الحال ضررٌ عليه، ولا ولاية لأحد على الصغير فيما يكون فيه ضرر عليه. وأما الجارية فلا ضررٌ عليها في كونها عند الأمّ إلى أن تحيض، بل كونها عندها أنفع لها، لأنها تحتاج إلى آداب النساء، ولا تزول هذه الولاية عنها، إلاّ بالبلوغ لأنها تستحقّها عليها بالولادة، ولا ضرر عليها في كونها عندها ؛ فلذلك كانت أوْلى إلى وقت البلوغ، فإذا بلغت احتاجت إلى التحصين والأبُ أقْوَمُ بتحصينها، فلذلك كان أوْلى بها.
وبمثل دلالة القرآن على ما وَصَفْنا ورد الأثرُ عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو ما رُوي عن عليّ كرّم الله وجهه وابن عباس، أن عليًّا اختصم هو وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب في بنت حمزة، وكانت خالتها تحت جعفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" ادْفَعُوها إلى خَالَتِها فإنَّ الخَالَةَ والِدَةٌ " فكان في هذا الخبر أنه جعل الخالة أحَقَّ من العَصَبَة، كما حكمت الآية بأن الأمَّ أحقُّ بإمساك الولد من الأب، وهذا أصلٌ في أن ذوات الرحم المحرم أوْلى بإمساك الصبيّ وحضانته من حضانة العَصَبَةِ من الرجال الأقرب فالأقرب منهم.
وقد حوى هذا الخبر معاني : منها أن الخالة لها حقّ الحضانة وأنها أحقّ به من العصبة، وسماها والدة، ودلّ ذلك على أن كل ذات رحم محرم من الصبيّ فلها هذا الحق الأقرب فالأقرب، إذ لم يكن هذا الحقّ مقصوراً على الولادة. وقد رَوَى عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمر : أن امرأةً جاءت بابن لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت : يا رسول الله حين كان بطني له وعاءً وثديي له سقاءً وحجري له حِواءً أراد أبوه أن ينتزعه مني ! فقال :" أنْتِ أحَقُّ به ما لم تَتَزَوَّجي " ؛ ورُوي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة، منهم عليّ وأبو بكر وعبدالله بن مسعود والمغيرة بن شعبة في آخرين من الصحابة والتابعين. وقال الشافعي :" يخيَّر الغلام إذا أكل وشرب وحده، فإن اختار الأب كان أوْلى به، وكذلك إن اختار الأم كان عندها ". ورُوي فيه حديثٌ عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيَّر غلاماً بين أبويه، فقال له :" اخْتَرْ أيَّهُمَا شِئتَ ". وروى عبدالرحمن بن غنم قال : شهدت عمر بن الخطاب خيَّر صبيّاً بين أبويه. فأما ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فجائزٌ أن يكون بالغاً ؛ لأنه قد يجوز أن يسمَّى غلاماً بعد البلوغ. وقد رُوي عن عليّ أنه خيّر غلاماً وقال :" لو قد بلغ هذا يعني أخاً له صغيراً لخيرته ". فهذا يدلّ على أن الأول كان كبيراً. وقد رُوي في حديث أبي هريرة أن امرأة خاصمت زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت : إنه طلَّقني وإنه يريد أن ينزع مني ابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اسْتَهِمَا عَلَيْه " فقال : من يحاجّني في ابني ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا غُلامُ هذه أمُّكَ وهذا أبُوكَ فاخْتَرْ أيَّهما شِئتَ " فأخذ الغلام بيد أمه ؛ وقول الأم :" قد سقاني من بئر أبي عنبة " يدلّ على أنه كان كبيراً. وقد اتفق الجميع أنه لا اختيار للصغير في سائر حقوقه، وكذلك في الأبوين، قال محمد بن الحسن :" لا يخير الغلام، لأنه لا يختار إلاّ شرّ الأمرين ". قال أبو بكر : هو كذلك، لأنه يختار اللعب والإعراض عن تعلّم الأدب والخير، وقال الله تعالى :﴿ قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ﴾، ومعلوم أن الأب أقْوَمُ بتأديبه وتعليمه، وأن في كونه عند الأم ضرراً عليه، لأنه ينشأ على أخلاق النساء.
وأما قوله تعالى :﴿ ولا مولود له بولده ﴾ فإنه عائد على المضارّة، نَهْي
ذكرُ عدة المتوفَّى عنها زوجُها
قال الله تعالى :﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ﴾ والتربُّصُ بالشيء الانتظار به، قال الله تعالى :﴿ فتربصوا به حتى حين ﴾ [ المؤمنون : ٢٥ ] وقال تعالى :﴿ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربّص بكم الدوائر ﴾ [ التوبة : ٩٨ ] يعني ينتظر، وقال تعالى :﴿ أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ﴾ [ الطور : ٣٠ ] فأمرهن الله تعالى بأن يتربّصْنَ بأنفسهن هذه المدة عن الأزواج، ألا ترى أنه عقبه بقوله تعالى :﴿ فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن ﴾ ؟ وقد كانت عدة المتوفَّى عنها زوجها سنة، بقوله تعالى :﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهن متاعاً إلى الحول غير إخراج ﴾ [ البقرة : ٢٤٠ ] فتضمنت هذه الآية أحكاماً : منها توقيت العدّة سنة، ومنها : أن نفقتها وسكناها كانت في تركة زوجها ما دامت معتدة بقوله تعالى :﴿ وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول ﴾ ومنها أنها كانت ممنوعة من الخروج في هذه السنة فنسخ منها من المدة ما زاد على أربعة أشهر وعشراً، ونسخ أيضاً وجوب نفقتها وسكناها في التركة بالميراث لقوله تعالى :﴿ أربعة أشهر وعشراً ﴾ من غير إيجاب نفقة ولا سكنى، ولم يثبت نسخ الإخراج، فالمنع من الخروج في العدة الثانية قائم، إذ لم يثبت نسخه. وقد حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج، وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في هذه الآية يعني قوله تعالى :﴿ وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج ﴾ [ البقرة : ٢٤٠ ] قال : كان للمتوفَّى عنها زوجُها نفقتها وسكناها سنة، فنسختها آية المواريث، فجعل لهن الربع أو الثمن مما ترك الزوج قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا وَصِيَّةَ لوَارِثٍ إلاّ أَنْ يَرْضَى الوَرَثَةُ ". قال : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا يزيد عن يحيى بن سعيد عن حميد عن نافع، أنه سمع زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة وأم حبيبة : أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن بنتاً لها توفي عنها زوجها واشتكت عينها وهي تريد أن تكحلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ تَرْمي بالبَعرةِ عِنْد رَأسِ الحَوْلِ، وإنّما هي أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وعَشْراً " ؛ قال حميد : فسألت زينب : وما رَمْيُها بالبعرة ؟ فقالت : كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها عمدت إلى شرى بيت لها فجلست فيه سنة، فإذا مرّت سنةٌ خرجت فرمت ببعرة من ورائها ؛ رواه مالك عن عبدالله بن أبي بكر بن عمرو عن حميد عن نافع عن زينب بنت أبي سلمة، وذكرت الحديث وقالت فيه :" كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها دخلت حِفْشاً ولبست شَرَّ ثيابها ولم تمسّ طِيباً ولا شيئاً حتى تمرّ سنة، ثم تُؤتَى بدابة حمارٍ أو شاةٍ أو طيرٍ فتفتضّ به، فقلما تفتضّ بشيء إلا مات، ثم تخرج فتُعْطَى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بَعْدُ ما شاءت من طيب أو غيره ". فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عدّة الحول منسوخة بأربعة أشهر وعشراً، وأخبر ببقاء حَظْرِ الطيب عليها في العدّة. وعدة الحول وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدمة في التنزيل، وعدة الشهور متأخرة عنها ناسخة لها، لأن نظام التلاوة ليس هو على نظام التنزيل وترتيبه.
واتفق أهل العلم على أن عدة الحَوْلِ منسوخة بعدة الشهور على ما وَصَفْنا، وأن وصية النفقة والسُّكْنَى للمتوفَّى عنها زوجها منسوخةٌ إذا لم تكن حاملاً. واختلفوا في نفقة الحامل المتوفَّى عنها زوجها أيضاً، وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. ولا خلاف بين أهل العلم أيضاً في أن هذه الآية خاصة في غير الحامل.
واختلفوا في عدّة الحامل المتوفَّى عنها زوجُها على ثلاثة أنحاء : فقال علي : وهي إحدى الروايتين عن ابن عباس " عدتها أبعدُ الأجَلَيْن ". وقال عمر وعبدالله وزيد بن ثابت وابن عمر وأبو هريرة في آخرين :" عدتها أن تَضَعَ حَمْلَها ". ورُوي عن الحسن " أن عدتها أن تضع حملها وتَطْهُرَ من نفاسها، ولا يجوز لها أن تتزوج وهي ترى الدم ". وأما عليٌّ فإنه ذهب إلى أن قوله تعالى :﴿ أربعة أشهر وعشراً ﴾ يوجب الشهور، وقوله تعالى :﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ [ الطلاق : ٤ ] يوجبُ انقضاء العدّة بوضع الحمل ؛ فجمع بين الآيتين في إثبات حكمهما للمتوفَّى عنها زوجُها، وجعل انقضاء عدّتها أبعد الأجلين من وضع الحمل أو مُضِيِّ الشهور. وقال عبدالله بن مسعود :" من شاء باهَلْتُهُ " أن قوله تعالى :﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ [ الطلاق : ٤ ] نزل بعد قوله :﴿ أربعة أشهر وعشراً ﴾. فحصل بما ذكرنا اتّفاقُ الجميع على أن قوله تعالى :﴿ وأولات الأحمال أجلهن ﴾ [ الطلاق : ٤ ] عامٌّ في المطلَّقة والمتوفّى عنها زوجها، وإن كان مذكوراً عقيب ذكر الطلاق، لاعتبار الجميع بالحَمْلِ في انقضاء العدة ؛ لأنهم قالوا جميعاً :" إن مضيَّ الشهور لا تنقضي به عدتها إذا كانت حاملاً حتى تضع حملها " فوجب أن يكون قوله تعالى :﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ [ الطلاق : ٤ ] مستعملاً على مقتضاه وموجبه وغير جائز اعتبار الشهور معه. ويدلّ على ذلك أيضاً أن عدة الشهور خاصة في غير المتوفَّى عنها زوجها. ويدلّ عليه أيضاً أن قوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربّصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ مستعمل في المطلقات غير الحوامل، وأن الأقراء غير مشروطة مع الحمل في الحامل، بل كانت عدة الحامل المطلقة وضع الحمل من غير ضمّ الأقراء إليها. وقد كان جائزاً أن يكون الحمل والأقراء مجموعَيْن عدّة لها بأن لا تنقضي عدّتُها بوضع الحمل حتى تحيض ثلاث حِيَضٍ، فكذلك يجب أن تكون عدة الحامل المتوفّى عنها زوجُها هي الحمل غير مضموم إليه الشهور. ورُوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قلت يا رسول الله في هذه الآية حين نزلت ﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ [ الطلاق : ٤ ] في المطلَّقة والمتوفَّى عنها زوجها ؟ قال :" فيهما جَميعاً ". وقد رَوَتْ أمّ سلمة أن سُبيعة بنت الحارث وَلَدَتْ بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تتزوج. ورَوَى منصور عن إبراهيم عن الأسود عن أبي السنابل بن بعكك " أن سُبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها ببضع وعشرين ليلة، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتزوج ". وهذا حديث قد ورد من طرق صحيحة لا مساغ لأحدٍ في العدول عنه مع ما عَضَدَهُ من ظاهر الكتاب.
وهذه الآية خاصّة في الحرائر دون الإماء، لأنه لا خلاف بين السلف فيما نعلمه وبين فقهاء الأمصار في أن عِدّة الأمَةِ المتوفّى عنها زوجها شهران وخمسة أيام نِصْف عدّة الحرة. وقد حُكي عن الأصمّ أنها عامة في الأَمَةِ والحرّة، وكذلك يقول في عدة الأمة في الطلاق وإنها ثلاث حِيَض وهو قولٌ شاذٌ خارج عن أقاويل السلف والخلف مخالفٌ للسنّة ؛ لأن السلف لم يختلفوا في أن عِدّة الأمَةِ من الحِيَضِ والشهور على النصف من عدّة الحرة ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" طَلاَقُ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وعِدّتُها حَيْضَتَان " وهذا خبرٌ قد تلقّاه الفقهاء بالقبول واستعملوه في تنصيف عدة الأمة، فهو في حيز التواتر الموجب للعلم عندنا.
واختلف السلفُ في المتوفّى عنها زوجها إذا لم تَعْلَمْ بموته وبلغها الخبرُ، فقال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد :" عدتها منذ يوم يموت، وكذلك في الطلاق من يوم طلّق " وهو قول الأسود بن زيد في آخرين، وهو قول فقهاء الأمصار. وقال عليّ والحسن البصري وخلاس بن عمرو :" مِنْ يوم يأتيها الخبر في الموت، وفي الطلاق من يوم طلّق " وهو قول ربيعة. وقال الشعبي وسعيد بن المسيب :" إذا قامت البَيِّنَةُ فالعِدّة من يوم يموت، وإذا لم تقم بينةٌ فِمنُ يوم يأتيها الخبر ". وجائز أن يكون مذهب عليّ على هذا المعنى بأن يكون قد خَفِي عليها وقتُ الموت فأمرها بالاحتياط من يوم يأتيها الخبر، وذلك لأن الله تعالى نَصَّ على وجوب العدة بالموت والطلاق بقوله :﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن ﴾ كما قال تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ فأوجب العدة فيهما بالموت وبالطلاق، فواجب أن تكون العدة فيهما من يوم الموت والطلاق ؛ ولما اتفقوا على أن عدة المطلقة من يوم طَلَّقَ ولم يعتبروا وقت بلوغ الخبر، كذلك عدة الوفاة، لأنهما جميعاً سَبَبَا وجوب العدة ؛ وأيضاً فإن العدة ليست هي فعلها فيعتبر فيها علمها، وإنما هي مضيّ الأوقات، ولا فرق بين علمها بذلك وبين جهلها به. وأيضاً لما كانت العدة موجبة عن الموت كالميراث، وإنما يعتبر في الميراث وقت الوفاة لا وقت بلوغ خبرها، وَجَبَ أن تكون كذلك العدة وأن لا يختلف فيها حكم العلم والجهل كما لا يختلف في الميراث. وأيضاً فإن أكثر ما في العلم أن تجتنب ما تجتنبه المعتدّةُ من الخروج والزينة إذا علمت، فإذا لم تعلم فترك اجتناب ما يلزم اجتنابه في العدة لم يكن مانعاً من انقضاء العدة، لأنها لو كانت عالمة بالموت فلم تجتنب الخروج والزينة لم يؤثر ذلك في انقضاء العدة فكذلك إذا لم تعلم به.
قوله تعالى :﴿ أربعة أشهر وعشراً ﴾ ذكر سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، أنه قال في المتوفّى عنها زوجها والمعتدة من الطلاق بالشهور :" إنه إنْ وَجَبَتْ مع رؤية الهلال اعتدَّتْ بالأهِلَّة كان الشهر ناقصاً أو تاماً، وإن كانت العدّةُ وجبت في بعض شهر لم تعمل على الأَهِلّة واعتدَّتْ تسعين يوماً في الطلاق وفي الوفاة مائة وثلاثين يوماً ". وذكر أيضاً سليمان بن شعيب عن أبيه عن محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة بخلاف ذلك، قال :" إن كانت العدّة وجبت في بعض شهر فإنها تعتدّ بما بقي من ذلك الشهر أياماً، ثم تعتدّ لما يمر عليها من الأهلّة شهوراً، ثم تكمل الأيام الأول ثلاثين يوماً ؛ وإذا وجبت العدّة مع رؤية الهلال اعتدَّت بالأهلّة " ؛ وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي. ورُوي عن مالك في الإجارة مثله. وقال ابن القاسم : وكذلك قوله في الأيمان والطلاق، وكذلك قال أصحابنا في الإجارة. ورَوَى عمرو بن خالد عن زُفَر في الإيلاء في بعض الشهر " أنها تعتدُّ بكل شهر يمرّ عليها ناقصاً أو تامّاً " قال : وقال أبو يوسف :" تعتدّ بالأيام حتى تستكمل مائة وعشرين يوماً ولا تنظر إلى نقصان الشهر ولا إلى تمامه ".
قال أبو بكر : وهذا على ما حكاه سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في عدة الشهور، ولا خلاف بين الفقهاء في مدة العدد وأجَل الإيلاء والأَيْمان والإجارات إذا عقدت على الشهور مع رؤية الهلال، أنه تعتبر الأهِلّة في سائر شهوره سواءٌ كانت ناقصة أو تامة، وإذا كان ابتداء المدة في بعض الشهر فهو على الخلاف الذي ذكرنا. وأما وَجْهُ من اعتبر في ذلك بقية الشهر الأول بالعدد ثلاثين يوماً وسائر الشهور بالأهلّة ثم يكمل الشهر الآخر بالأيام مع بقية الشهر الأول، فإنه ذهب إلى معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم :" صُومُوا لرؤْيَتِهِ وأفْطِرُوا لرؤيته

باب التعريض بالخطبة في العدّة


قال الله تعالى :﴿ ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ﴾ الآية. وقد قيل في الخطبة إنها الذكر الذي يُسْتَدْعَى به إلى عقدة النكاح. والخُطْبَةُ بالضمّ : الموعظة المتّسقة على ضُروبٍ من التأليف، وقد قيل أيضاً : إن الخُطْبة ما له أول وآخر كالرسالة، والخِطْبةُ للحال نحو الجِلسة والقِعْدة. وقيل في التعريض : إنه ما تضمّن الكلام من الدلالة على شيء من غير ذِكْرٍ له، كقول القائل : ما أنا بزانٍ ؛ يعرِّضُ بغيره أنه زانٍ ؛ ولذلك رأى عمر فيه الحدَّ وجعله كالتصريح. والكنايةُ العدولُ عن صريح اسمه إلى ذِكْر يدلّ عليه، كقوله تعالى :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾ [ القدر : ١ ] يعني القرآن ؛ فالهاء كناية عنه. وقال ابن عباس :" التعريضُ بالخطبة أن يقول لها إني أريد أن أتزوج امرأة من أمْرِها وأمرها، يعرِّضُ لها بالقول ". وقال الحسن :" هو أن يقول لها : إني بك لمُعْجَبٌ وإني فيك لراغبٌ ولا تُفَوِّتينا نَفْسَكِ ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس وهي في العدة :" لا تُفَوِّتينا بنَفْسَكِ " ثم خطبها بعد انقضاء العدة على أسامة بن زيد. وقال عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه قال :" هو أن يقول لها وهي في العدة : إنك لكريمةٌ وإني فيك لراغبٌ وإن الله لسائقٌ إليكِ خيراً، أو نحو هذا من القول ". وقال عطاء :" هو أن يقول : إنك لجميلةٌ وإني فيك لراغبٌ وإنْ قَضَى الله شيئاً كان ". فكان التعريضُ أن يتكلم بكلام يدلّ فحواه على رغبته فيها ولا يخطبها بصريح القول. قال سعيد بن جبير في قوله تعالى :﴿ إلا أن تقولوا قولاً معروفاً ﴾ :" أن يقول إني فيك لراغبٌ وإني لأرْجُو أن نجتمع ".
وقوله تعالى :﴿ أو أكننتم في أنفسكم ﴾ يعني أضمرتموه من التزويج بعد انقضاء عدّتها، فأباح التعريض بالخطبة وإضمار نكاحها من غير إفصاح به.
وذكر إسماعيل بن إسحاق عن بعض الناس أنه احتجّ في نفي الحدّ في التعريض بالقذف بأن الله تعالى لم يجعل التعريض في هذا الموضع بمنزلة التصريح، كذلك لا يجعل التعريض بالقذف كالتصريح. قال إسماعيل : فاحتج بما هو حجة عليه، إذ التعريضُ بالنكاح قد فهم به مراد القائل، فإذا فهم به مراده وهو القذف حكم عليه بحكم القاذف. قال : وإنما يزيل الحد عن المعرض بالقذف من يزيله لأنه لم يعلم بتعريضه أنه أراد القذف، إذْ كان محتملاً لغيره. قال : وينبغي على قوله هذا أن يزعم أن التعريض بالقذف جائز مباح كما أُبيح التعريض بالخطبة بالنكاح. قال : وإنما اخْتِيرَ التعريضُ بالنكاح دون التصريح لأن النكاح لا يكون إلا منهما ويقتضي خطبته جواباً منه، ولا يقتضي التعريض جواباً في الأغلب، فلذلك افترقا.
قال أبو بكر : الكلام الأول الذي حكاه عن خَصْمِهِ في الدلالة على نَفْي الحد بالتعريض صحيحٌ ونَقْضُه ظاهر الاختلال واضحُ الفساد. ووَجْهُ الاستدلال به على نفي الحدّ بالتعريض أنه لما حظر عليه المخاطبة بعقد النكاح صريحاً وأُبيح له التعريض به، اختلف حكم التعريض والتصريح في ذلك، على أن التعريض بالقذف مخالفٌ لحكم التصريح وغير جائز التسوية بينهما كما خالف الله بين حكمهما في خطبة النكاح ؛ وذلك لأنه معلوم أن الحدود مما يسقط بالشبهة، فهي في حكم السقوط، والنفيُ آكدُ من النكاح، فإذا لم يكن التعريض في النكاح كالتصريح وهو آكد في باب الثبوت من الحدّ، كان الحدُّ أوْلى أن لا يثبت بالتعريض من حيث دلَّ على أنه لو خطبها بعد انقضاء العدة بالتعريض لم يقع بينهما عقد النكاح فكان تعريضه بالعقد مخالفاً للتصريح، فالحدّ أوْلى أن لا يثبت بالتعريض. وكذلك لم يختلفوا أن الإقرار في العقود كلّها لا يثبت بالتعريض ويثبت بالتصريح ؛ لأن الله قد فرق بينهما في النكاح، فكان الحدُّ أوْلى أن لا يثبت به. وهذه الدلالة واضحةٌ على الفرق بينهما في سائر ما يتعلق حكمه بالقول، وهي كافية مُغنِيَةٌ في جهة الدلالة على ما وَصَفْنا ؛ وإن أردنا ردَّه إليه من جهة القياس لعلَّةٍ تجمعهما كان سائغاً، وذلك أن النكاح حُكْمُهُ متعلّق بالقول كالقذف، فلما اختلف حكم التصريح والتعريض بالخطبة بهذا المعنى ثبت حكمه بالتعريض، وإن كان حكمه ثابتاً بالإفصاح والتصريح كما حكم الله به في النكاح.
وأما قوله :" إن التعريض بالقذف ينبغي أن يكون بمنزلة التصريح لأنه قد عُرِف مراده كما عُرِف بالتصريح " فإني أظنه نسي عند هذا القول حكم الله تعالى في الفصل بين التعريض والتصريح بالخطبة، إذْ كان المراد مفهوماً مع الفرق بينهما، لأنه إن كان الحكم متعلقاً بمفهوم المراد فذلك بعينه موجود في الخطبة فينبغي أن يستوي حكمهما فيها، فإذا كان نصُّ التنزيل قد فرق بينهما فقد انتقض هذا الإلزام وصح الاستدلال به على ما وصفنا. وأما قوله :" إن من أزال الحد عن المعرض بالقذف فإنما أزاله لأنه لم يعلم بتعريضه أنه أراد القذف لاحتمال كلامه لغيره " فإنها وكالةٌ لم تَثْبُتْ عن الخصم وقضاءٌ على غائب بغير بَيِّنة ؛ وذلك لأن أحداً لا يقول بأن حدَّ القذف متعلق بإرادته، وإنما يتعلق عند خصومه بالإفصاح به دون غيره، فالذي يُحِيلُ به خَصْمُهُ مِنْ أنه أزال الحد لأنه لم يعلم مراده، ولا يقبلونه ولا يعتمدونه.
وإما إلزامُهُ خَصْمَهُ أن يبيح التعريض بالقذف كما يبيح التعريض بالنكاح، فإنه كلامُ رَجُلٍ غير مثبت فيما يقوله ولا ناظر في عاقبة ما يؤولُ إليه حكم إلزامه له، فنقول : إنّ خصمه الذي احتجّ به لم يجعل ما ذكره عِلَّةً للإباحة حتى يلزم عليه إباحة التعريض بالقذف، وإنما استدل بالآية على إيجاب الفرق بين التعريض والتصريح، فأما الحظرُ والإباحة فموقوفان على دلالتهما من غير هذا الوجه.
وأما قوله " إنما أُجِيزَ التعريضُ بالنكاح دون التصريح لأن النكاح لا يكون إلا منهما ويقتضي خطبته جواباً منها ولا يقتضي التعريض جواباً في الأغلب " فإنه كلامٌ فارغٌ لا معنى تحته، وهو مع ذلك منتقضٌ ؛ وذلك أن التعريض بالنكاح والتصريح به لا يقتضي واحدٌ منهما جواباً، لأن النهي إنما انصرف إلى خطبتها لوقت مستقْبَلٍ بعد انقضاء العدة بقوله تعالى :﴿ ولكن لا تواعدوهن سرّاً إلا أن تقولوا قولاً معروفاً ﴾ وذلك لا يقتضي الجواب كما لا يقتضي التعريض، ولم يَجُز الخطابُ على النهي عن العقد المقتضي للجواب حتى يفرق بينهما بما ذكر ؛ فقد بان ذلك أنه لا فرق بين التعريض والتصريح في نَفْي اقتضاء الجواب، وهذا الموضع هو الذي فرقت الآية فيه بين الأمرين، فأما العقدُ المقتضي للجواب فإنما هو منهيٌّ عنه بقوله تعالى :﴿ ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ﴾ وإن كان نهيه عن العقد نفسه فقد اقتضاه نهيه عن الإفصاح بالخطبة من جهة الدلالة، كدلالة قوله تعالى :﴿ فلا تقل لهما أفّ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] على حَظْر الشتم والضرب.
وأما وَجْهُ انتقاضه، فإنه لا خلاف أن العقود المقتضية للجواب لا تصحّ بالتعريض، وكذلك الإقرارات لا تصحّ بالتعريض وإن لم تقتضِ جواباً من المقرّ له، فلم يختلف حكم ما يقتضي من ذلك جواباً وما لا يقتضيه ؛ فعلمت أن اختلافهما من هذا الوجه لا يوجب الفرق بينهما.
وأما قوله تعالى :﴿ ولكن لا تواعدوهن سرّاً ﴾ فإنه مختلفٌ في المراد به، فقال ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي ومجاهد :" مواعدة السرّ أن يأخذ عليها عهداً أو ميثاقاً أن تحبس نفسها عليه ولا تنكح زوجاً غيره ". وقال الحسن وإبراهيم وأبو مجلز ومحمد وجابر بن زيد :﴿ لا تواعدوهن سرّاً ﴾ :" الزنا " وقال زيد بن أسلم :﴿ لا تواعدوهن سرّاً ﴾ :" لا تنكح المرأة في عدتها ثم يقول سأُسِرُّهُ ولا يعلم به، أو يدخل عليها فيقول لا يعلم بدخولي حتى تنقضي العدة ".
قال أبو بكر : اللفظ محتملٌ لهذه المعاني كلها، لأن الزنا قد يسمَّى سرّاً ؛ قال الحطيئة :
* ويحرم سرّ جارتهم عليهم * ويأكلُ جارُهُم أنْفَ القصاعِ *
وأراد بالسرّ الزنا، وصفهم بالعفة عن نساء جيرانهم. وقال رؤبة يصف حمار الوحش وأتانه لما كفّ عنها حين حَمَلَتْ :
* قد أحْصَنت مثل دعاميص الرَّنَقْ * أجِنَّةٌ في مُسْتَكِنّات الحلقْ *
* فعفَّ عن أسرارها بعد العَسَقْ *
يعني : بعد اللزوق، يقال : عَسقَ به إذا لزق به ؛ وأراد بالسر ههنا الغشيان ؛ وعقدُ النكاح نفسه يسمَّى سرّاً كما يسمَّى به الوطءُ، ألا ترى أن الوطء والعقد كل واحد منهما يسمَّى نكاحاً ؟ ولذلك ساغ تأويلُ الآية على الوطء وعلى العقد وعلى التصريح بالخطبة لما بعد انقضاء العدة.
وأظْهَرُ الوجوه وأوْلاها بمراد الآية مع احتمالها لسائر ما ذكرنا، ما رُوي عن ابن عباس ومن تابعه : وهو التصريح بالخطبة وأخْذِ العهد عليها أن تحبس نفسها عليه ليتزوجها بعد انقضاء العدة ؛ لأن التعريض المباح إنما هو في عقد يكون بعد انقضاء العدة، وكذلك التصريح واجب أن يكون حظره من هذا الوجه بعينه. ومن جهة أخرى أن ذلك معنى لم نَسْتَفِدْهُ إلا بالآية، فهو لا محالة مراد بها. وأما حَظْرُ إيقاع العقد في العدة فمذكور باسمه في نسق التلاوة بقوله تعالى :﴿ ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ﴾ فإذا كان ذلك مذكوراً في نسق الخطاب بصريح اللفظ دون التعريض وبالإفصاح دون الكناية، فإنه يبعد أن يكون مراده بالكناية المذكورة بقوله ﴿ سراً ﴾ هو الذي قد أفصح به في المخاطبة. وكذلك تأويلُ من تأوّله على الزنا فيه بُعْدٌ، لأن المواعدة بالزنا محظورة في العدة وغيرها ؛ إذْ كان تحريم الله الزنا تحريماً مبهماً مطلقاً غير مقيَّد بشرط ولا مخصوص بوقت، فيؤدي ذلك إلى إبطال فائدة تخصيصه حَظْرَ المواعدة بالزنا بكونها في العدة. وليس يمتنع أن يكون الجميع مراداً لاحتمال اللفظ له بعد أن لا يخرج منه تأويل ابن عباس الذي ذكرناه.
وقوله تعالى :﴿ علم الله أنكم ستذكرونهن ﴾ يعني أن الله علم أنكم ستذكرونهن بالتزويج لرغبتكم فيهن ولخوفكم أن يسبقكم إليهن غيركم. وأباح لهم التوصل إلى المراد من ذلك بالتعريض دون الإفصاح، وهذا يدلّ على ما اعتبره أصحابنا في جواز التوصل إلى استباحة الأشياء من الوجوه المباحة وإنْ كانت محظورة من وجوه أُخَر ونحوه ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه بلالٌ بتمر جيد فقال :" أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هكذا ؟ " فقال : لا، إنما نأخذ الصاع بالصَّاعَيْن والصاعَيْن بالثلاثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا تَفعلوا ولكنْ بيعُوا تَمْرَكُمْ بعَرضٍ ثم اشْتَروا به هَذا التّمْرَ " فأرشدهم إلى التوصل إلى أخذ التمر الجيد. ولهذا الباب موضع غير هذا سنذكره إن شاء الله.
وقوله تعالى :﴿ علم الله أنكم ستذكرونهن ﴾ كقوله تعالى :﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] وأباح لهم الأكل والجماع في ليالي رمضان، علمنا أنه لو لم يُبِحْ لهم لكان فيهم من يواقع المحظور عنه، فخفف عنهم رحمة منه بهم. وكذلك قوله تعالى :﴿ علم الله أنكم ستذكرونهن ﴾ هو على هذا المعنى.
قوله عز وجل :﴿ ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ﴾ قيل فيه : إن أصل العقدة في اللغة هو الشدّ، تقول : عَقَدْتُ الحبل وعَقَدْتُ العقد، تشبيهاً له ب

باب متعة المطلقة


قال الله عز وجل :﴿ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن ﴾ تقديره : ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة ؛ ألا ترى أنه عطف عليه قوله تعالى :﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ﴾ فلو كان الأول بمعنى : ما لم تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا ؛ لما عطف عليها المفروض لها، فدلّ ذلك على أن معناه :" ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة " وقد تكون " أو " بمعنى " الواو " قال الله تعالى :﴿ ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً ﴾ [ الإنسان : ٢٤ ] معناه :" ولا كفوراً ". وقال تعالى :﴿ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدٌ منكم من الغائط ﴾ [ النساء : ٤٣ ] والمعنى :" وجاء أحدٌ منكم من الغائط وأنتم مَرْضَى ومسافرون ". وقال تعالى :﴿ وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ﴾ [ الصافات : ١٤٧ ] معناه :" ويزيدون " فهذا موجود في اللغة وهي في النفي أظهر في دخولها عليه. أنها بمعنى الواو منه ما قدمنا من قوله تعالى :﴿ ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً ﴾ [ الإنسان : ٢٤ ] معناه :" ولا كفوراً " لدخولها على النفي. وقال تعالى :﴿ حرمنا عليهم شحومهما إلاّ ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ﴾ [ الأنعام : ١٤٦ ] " أو " في هذه المواضع بمعنى الواو، فوجب على هذا أن يكون قوله تعالى :﴿ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ﴾ لما دخلت على النفي أن تكون بمعنى الواو، فيكون شرط وجوب المتعة المعنيين جميعاً من عدم المسيس والتسمية جميعاً بعد الطلاق. وهذه الآية تدلّ على أن للرجل أن يطلق امرأته قبل الدخول بها في الحيض، وأنها ليست كالمدخول بها، لإطلاقه إباحة الطلاق من غير تفصيل منه بحال الطهر دون الحيض.
وقد اختلف السلفُ وفقهاءُ الأمصار في وجوب المتعة، فرُوي عن علي أنه قال :" لكل مطلَّقة متعة "، وعن الزهري مثله. وقال ابن عمر :" لكلّ مطلَّقة متعةٌ إلاّ التي تطلَّق وقد فُرض لها صداقٌ ولم تُمَسّ فحَسْبُها نصفُ ما فُرِضَ لها "، ورُوي عن القاسم بن محمد مثله. وقال شريح وإبراهيم والحسن :" تُخَيَّرُ التي تطلَّق قبل الدخول ولم يفرض على المتعة ". وقال شريح وقد سألوه في متاع فقال :" لا نأبى أن نكون من المتّقين " فقال : إني محتاج، فقال :" لا نأبى أن نكون من المحسنين ". وقد رُوي عن الحسن وأبي العالية :" لكل مطلقة متاع ". وسئل سعيد بن جبير عن المتعة على الناس كلهم ؟ فقال :" لا على المتقين ". ورَوَى ابن أبي الزناد عن أبيه في كتاب البيعة :" وكانوا لا يَرَوْن المتاع للمطلقة واجباً ولكنها تخصيصٌ من الله وفضلٌ ". ورَوَى عطاء عن ابن عباس قال :" إذا فرض الرجل وطلَّق قبل أن يمس فليس لها إلا المتاع ". وقال محمد بن علي :" المتعة التي لم يُفرض لها، والتي قد فُرِضَ لها ليس لها متعة ". وذكر محمد بن إسحاق عن نافع قال :" كان ابن عمر لا يرى للمطلقة متعة واجبة إلا للتي أُنْكِحَتْ بالعوض ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ". ورَوَى معمر عن الزهري قال :" متعتان إحداهما يقضي بها السلطان والأخرى حقّ على المتقين : من طلق قبل أن يفرض ولم يدخل أخذ بالمتعة لأنه لا صداق عليه، ومن طلق بعدما يدخل أو يفرض فالمتعة حقّ عليه "، وعن مجاهد نحو ذلك. فهذا قول السلف فيها. وأما فقهاء الأمصار فإن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمداً وزفر قالوا :" المتعة واجبةٌ للتي طلقها قبل الدخول ولم يسمِّ لها مهراً، وإن دخل بها فإنه يمتعها ولا يجبر عليها " وهو قول الثوري والحسن بن صالح والأوزاعي، إلا أن الأوزاعي زعم أن أحد الزوجين إذا كان مملوكاً لم تجب المتعة وإن طلقها قبل الدخول ولم يُسَمِّ لها مهراً. وقال ابن أبي ليلى وأبو الزناد :" المتعة ليست واجبة إن شاء فَعَلَ وإن شاء لم يفعل ولا يجبر عليها " ولم يفرقا بين المدخول بها وبين غير المدخول بها وبين من سُمِّي لها وبين من لم يُسَمَّ لها. وقال مالك والليث :" لا يجبر أحد على المتعة سمّى لها أو لم يسم لها دخل بها أو لم يدخل، وإنما هي مما ينبغي أن يفعله ولا يجبر عليها ". قال مالك :" وليس للملاعنة متعة على حال من الحالات ". وقال الشافعي :" المتعة واجبة لكل مطلقة ولكل زوجة إذا كان الفراق من قبله أو يتم به، إلا التي سَمَّى لها وطلق قبل الدخول ".
قال أبو بكر : نبدأ بالكلام في إيجاب المتعة ثم نُعَقِّبه بالكلام على من أوجبها لكل مطلقة. والدليل على وجوبها قوله تعالى :﴿ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين ﴾. وقال تعالى في آية أخرى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً ﴾ [ الأحزاب : ٤٩ ] وقال في آية أخرى :﴿ وللمطلقات متاع بالمعروف حقّاً على المتقين ﴾ فقد حَوَتْ هذه الآياتُ الدلالة على وجوب المتعة من وجوه، أحدها : قوله تعالى :﴿ فمتعوهن ﴾ [ الأحزاب : ٤٩ ] لأنه أمْرٌ، والأمْرُ يقتضي الوجوب حتى تقوم الدلالة على النّدْب. والثاني : قوله تعالى :﴿ متاعاً بالمعروف حقّاً على المحسنين ﴾ وليس في ألفاظ الإيجاب آكَدُ من قوله " حقّاً عليه ". والثالث : قوله تعالى :﴿ حقاً على المحسنين ﴾ تأكيد لإيجابه، إذ جعلها من شرط الإحسان، وعلى كل أحد أن يكون من المحسنين، وكذلك قوله تعالى :﴿ حقّاً على المتقين ﴾ قد دلّ قوله " حقّاً عليه " على الوجوب، وقوله تعالى :﴿ حقاً على المتقين ﴾ تأكيد لإيجابها. وكذلك قوله تعالى :﴿ فمتعوهن وسَرِّحوهن سراحاً جميلاً ﴾ [ الأحزاب : ٤٩ ] قد دلّ على الوجوب من حيث هو أمرٌ. وقوله تعالى :﴿ وللمطلقات متاع بالمعروف ﴾ يقتضي الوجوب أيضاً، لأنه جعلها لهم، وما كان للإنسان فهو ملكه له المطالبة به، كقولك " هذه الدار لزيد ".
فإن قيل : لما خَصَّ المتقين والمحسنين بالذكر في إيجاب المتعة عليهم، دلّ على أنها غير واجبة وأنها ندب، لأن الواجبات لا يختلف فيها المتقون والمحسنون وغيرهم. قيل له : إنما ذكر المتقين والمحسنين تأكيداً لوجوبها، وليس تخصيصهم بالذكر نفياً لإيجابها على غيرهم كما قال تعالى :﴿ هدى للمتقين ﴾ [ البقرة : ٢ ] وهو هدى للناس كافة، وقوله تعالى :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدًى للناس ﴾ [ البقرة : ١٨٣ ] فلم يكن قوله تعالى :﴿ هدى للمتقين ﴾ [ البقرة : ٢ ] موجباً لأن لا يكون هُدًى لغيرهم ؛ كذلك قوله تعالى :﴿ حقّاً على المتقين ﴾ و ﴿ حقّاً على المحسنين ﴾ غير نافٍ أن يكون حقّاً على غيرهم. وأيضاً فإنا نوجبها على المتقين والمحسنين بالآية ونوجبها على غيرهم بقوله تعالى :﴿ فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً ﴾ [ الأحزاب : ٤٩ ] وذلك عامٌ في الجميع بالاتّفاق، لأن كل من أوجبها من فقهاء الأمصار على المحسنين والمتقين أوجبها على غيرهم. ويلزم هذا السائل أن لا يجعلها ندباً أيضاً، لأن ما كان ندباً لا يختلف فيه المتقون وغيرهم، فإذا جاز تخصيص المتقين والمحسنين بالذكر في المندوب إليه من المتعة وهم غيرهم فيه سواء، فكذلك جائز تخصيص المحسنين والمتقين بالذكر في الإيجاب ويكونون هم وغيرهم فيه سواء.
فإن قيل : لما لم يخصص المتقين والمحسنين في سائر الديون من الصداق وسائر عقود المداينات عند إيجابهم عليهم وخصّهم بذلك عند ذكر المتعة، دلّ على أنها ليست بواجبة. قيل له : إذا كان لفظُ الإيجاب موجوداً في الجميع، فالواجب علينا الحكم بمقتضى اللفظ ثم تخصيصه بعض من أوجب عليه الحق بذكر التقوى، والإحسانُ إنما هو على وجه التأكيد، ووجوهُ التأكيد مختلفة، فمنها ما يكون ذكر بتقييد التقوى والإحسان، ومنها ما يكون بتخصيص لفظ الأداء نحو قوله تعالى :﴿ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ﴾ [ النساء : ٤ ] وقوله تعالى :﴿ فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ]، ومنها ما يكون بالأمر بالإشهاد عليه والرهن به، فكيف يُسْتَدَلُّ بلفظ التأكيد على نفي الإيجاب ؟ ! وأيضاً فإنا وجدنا عقد النكاح لا يخلو من إيجاب البَدَلِ إن كان مُسَمَّى، فالمسمَّى وإن لم يكن فيه تسمية فمهر المثل، ثم كانت حاله إذا كان فيه تسمية أن البضع لا يخلو من استحقاق البدل له مع ورود الطلاق قبل الدخول، وفارق النكاحُ بهذا المعنى سائر العقود لأن عود المبيع إلى ملك البائع يوجب سقوط الثمن كله، وسقوطُ حق الزوج عن بُضْعِها بالطلاق قبل الدخول لا يخرجه من استحقاق بَدَلٍ ما وهو نصف المسمَّى، فوجب أن يكون ذلك حكمه إذا لم تكن فيه تسمية، والمعنى الجامع بينهما ورود الطلاق قبل الدخول. وأيضاً فإن مهر المثل مستحقٌّ بالعقد، والمتعةُ هي بعض مهر المثل، فتجب كما يجب نصف المسمَّى إذا طلّق قبل الدخول.
فإن قيل : مهر المثل دراهمُ ودنانيرُ والمتعةُ إنما هي أثوابٌ. قيل له : المتعة أيضاً عندنا دراهم ودنانير لو أعطاها لم يُجْبَرْ على غيرها. وهذا الذي ذكرناه من أنها بعض مهر المثل يَسُوغُ على مذهب محمد، لأنه يقول :" إذا رهنها بمهر المثل رهناً ثم طلقها قبل الدخول كان رهناً بالمتعة محبوساً بها، إن هلك هلك بها " وأما أبو يوسف فإنه لا يجعله رهناً بالمتعة فإن هلك هلك بغير شيء والمتعة واجبة باقية عليه ؛ فهذا يدلّ على أنه لم يرها بعض مهر المثل ولكنه أوجبها بمقتضى ظاهر القرآن، وبالاستدلال بالأصول على أن البضع لا يخلو من بدل مع ورود الطلاق قبل الدخول، وأنه لا فرق بين وجود التسمية في العقد وبين عدمها، إذْ غير جائز حصول ملك البضع له بغير بَدَلٍ، فوجوب مهر المثل بالعقد عند عدم التسمية كوجوب المسمَّى فيه، فوجب أن يستوي فيه حكمهما في وجوب بدل البضع عند ورود الطلاق قبل الدخول وأن تكون المتعة قائمةً مقام بعض مهر المثل وإن لم تكن بعضه، كما تُقَوَّمُ القِيَمُ مقامَ المستهلكات. وقد قال إبراهيم في المطلقة قبل الدخول وقد سُمِّي لها أن لها نصف الصداق :" هو متعتها " فكانت المتعة اسماً لما يستحق بعد الطلاق قبل الدخول ويكون بدلاً من البضع.
فإن قيل : إذا قامت مقام بَعْضِ مهر المثل فهو عوضٌ من المهر، والمهرُ لا يجب له عِوَضٌ قبل الطلاق، فكذلك بعده ؟ قيل له : لم نقل إنه بَدَلٌ منه وإن قام مقامه، كما لا نقول إن قيم المستهلكات أبدالٌ لها بل كأنها هي حين قامت مقامها، ألا ترى أن المشتري لا يجوز له أخْذُ بَدَلِ المبيع قبل القبض ببيع ولا غيره ؟ ولو كان استهلكه مستهلكٌ كان له أخْذُ القيمة منه لأنها تقوم مقامه كأنها هو على معنى العوض ؛ فكذلك المتعة تقوم مقام بعض مهر المثل بدلاً من البضع كما يجب نصف المسمَّى بدلاً من البضع من الطلاق.
فإن قيل : لو كانت المتعة تقوم مقام بعض مهر المثل بدلاً من البضع لوجب اعتبارها بالمرأة كما يُعتبر مهر المثل بحالها دون حال الزوج، فلما أوجب الله تعالى اعتبار المتعة بحال الرجل في قوله تعالى :﴿ ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ﴾ دلّ على أنها ليست بدلاً من البضع، وإذا لم تكن بدلاً من البضع لم يَجُزْ أن تكون بدلاً من الطلاق ؛ لأن البضع يحصل لها بالطلاق فلا يجوز أن تستحق بدل ما يحصل لها، وهذا يد
ذكر اختلاف أهل العلم في الطلاق بعد الخلوة
قال أبو بكر : تنازع أهل العلم في معنى قوله :﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ﴾ واختلفوا في المسيس المراد بالآية، فرُوي عن علي وعمر وابن عمر وزيد بن ثابت :" إذا أغلق باباً وأرْخَى ستراً ثم طلّقها فلها جميعُ المهر ". ورَوَى سفيان الثوري عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال :" لها الصداق كاملاً " وهو قول علي بن الحسين وإبراهيم في آخرين من التابعين. ورَوَى فراس عن الشعبي عن ابن مسعود قال :" لها نِصْفُ الصداق وإنْ قعد بين رجليها "، والشعبي عن ابن مسعود مرسلٌ ؛ ورُوي عن شُريح مثل قول ابن مسعود. ورَوَى سفيان الثوري عن عمر عن عطاء عن ابن عباس :" إذا فَرَضَ الرجلُ قبل أن يمسّ فليس لها إلا المتاع ". فمن الناس من ظن أن قوله في هذا كقول عبدالله بن مسعود، وليس كذلك ؛ لأن قوله " فَرَضَ " يعني أنه لم يُسَمِّ لها مهراً، وقوله " قبل أن يمس " يريد قبل الخلوة ؛ لأنه قد تأوله على الخلوة في حديث طاوس عنه، فأوجب لها المتعة قبل الخلوة.
واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضاً، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزُفَر :" الخلوة الصحيحة تمنع سقوط شيء من المهر بعد الطلاق وَطِىءَ أو لم يَطَأْ ؛ وهي أن لا يكون أحدهما محرماً أو مريضاً أو لم تكن حائضاً أو صائمة في رمضان أو رتقاء، فإنه إن كان كذلك ثم طلَّقها وَجَبَ لها نِصْفُ المهر إذا لم يطأْها، والعدّة واجبةٌ في هذه الوجوه كلها إن طلّقها فعليها العدة ". وقال سفيان الثوري :" لها المهر كاملاً إذا خلا بها ولم يدخل بها إذا جاء ذلك من قِبَلِهِ، وإن كانت رتقاء فلها نصْف المهر ". وقال مالك :" إذا خلا بها وقبَّلها وكشفها إن كان ذلك قريباً فلا أرى لها إلا نصف المهر، وإن تطاول ذلك فلها المهر إلاّ أن تضع له ما شاءت ". وقال الأوزاعي :" إذا تزوج امرأة فدخل بها عند أهلها قَبَّلها ولمسها ثم طلقها ولم يجامعها، أو أرْخَى عليها سِتْراً أو أغلق باباً، فقد تم الصداق ". وقال الحسن بن صالح :" إذا خلا بها فلها نصف المهر، إذْ لم يدخل بها، وإن ادّعت الدخول بعد الخلوة فالقول قولها بعد الخلوة ". وقال الليث :" إذا أرْخَى عليها ستراً فقد وجب الصداق ". وقال الشافعي :" إذا خلا بها ولم يجامِعْها حتى طلَّق فلها نصف المهر ولا عدّة عليها ".
قال أبو بكر : مما يُحْتَجُّ به في ذلك من طريق الكتاب قوله عز وجل :﴿ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ﴾ [ النساء : ٤ ] فأوجب إيفاء الجميع، فلا يجوز إسقاط شيء منه إلاّ بدليل ؛ ويدلّ عليه قوله تعالى :﴿ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً وكيف تأخذونه وقد أفْضَى بعضكم إلى بعض ﴾ [ النساء : ٢٠ و ٢١ ] فيه وجهان من الدلالة على ما ذكرنا، أحدهما : قوله تعالى :﴿ فلا تأخذوا منه شيئاً ﴾ [ النساء : ٢٠ و ٢١ ] والثاني :﴿ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ﴾ [ النساء : ٢١ ]. وقال الفراء :" الإفضاءُ الخلوة، دخل بها أو لم يدخلْ " وهو حجّة في اللغة، وقد أخبر أن الإفضاء اسمٌ للخلوة ؛ فمنع الله تعالى أن يأخذ منه شيئاً بعد الخلوة ؛ وقد دلّ على أن المراد هو الخلوة الصحيحة التي لا تكون ممنوعاً فيها من الاستمتاع، لأن الإفضاء مأخوذ من الفَضَاءِ من الأرض، وهو الموضع الذي لا بناء فيه ولا حاجز يمنع من إدراك ما فيه، فأفاد بذلك استحقاق المهر بالخلوة على وَصْفٍ وهي التي لا حائل بينهما ولا مانع من التسليم والاستمتاع، إذْ كان لفظُ الإفضاء يقتضيه. ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف ﴾ [ النساء : ٢٥ ] وقوله تعالى :﴿ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ﴾ [ النساء : ٢٤ ] يعني مهورهن. وظاهره يقتضي وجوب الإيتاء في جميع الأحوال إلا ما قام دليله.
قال أبو بكر : ويدلّ عليه من جهة السنّة ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن شاذان قال : أخبرنا معلَّى بن منصور قال : حدثنا ابن لهيعة قال : حدثنا أبو الأسود عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأةٍ ونَظَرَ إليها وَجَبَ الصّدَاقُ دَخَلَ بها أوْ لَمْ يَدْخُلْ " وهو عندنا اتفاق الصدر الأول، لأن حديث فراس عن الشعبي عن عبدالله بن مسعود لا يثبته كثير من الناس من طريق فراس. وحدثنا عبدالباقي بن قانع : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا هوذة بن خليفة قال : حدثنا عوف عن زرارة بن أوفى قال :" قضى الخلفاء الراشدون المهديُّون أنه من أغلق باباً أو أرْخَى ستراً فقد وجب المهر ووجبت العدة " فأخبر أنه قضاء الخلفاء الراشدين، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الراشدين مِنْ بَعْدي وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ ".
ومن طريق النظر أن المعقود عليه من جهتها لا يخلو إما أن يكون الوطء أو التسليم، فلما اتفق الجميع على جواز نكاح المجبوب مع عدم الوطءِ دلّ ذلك على أن صحة العقد عير متعلقة بالوطء، إذْ لو كان كذلك لوجب أن لا يصحّ العقد عند عدم الوطءِ، ألا ترى أنه لما تعلقت صحّتُهُ بصحّةِ التسليم كان من لا يصح منها التسليم من ذوات المحارم لم يصحّ عليها العقد ؟ وإذا كانت صحة العقد متعلقة بصحة التسليم من جهتها فواجب أن تستحق كمال المهر بعد صحة التسليم بحصول ما تعلقت به صحة العقد له، وأيضاً فإن المستحق من قبلها هو التسليم ووقوعُ الوطء إنما هو من قبل الزوج فعجزه وامتناعه لا يمنع من صحة استحقاق المهر، ولذلك قال عمر رضي الله عنه في المخلُوِّ بها :" لها المهر كاملاً، ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم ؟ " وأيضاً لو استأجر داراً وخَلَّى بينها وبينه استحق الأجر لوجود التسليم، كذلك الخلوة في النكاح. وإنما قالوا إنها إذا كانت محرمة أو حائضاً أو مريضة أن ذلك لا تستحق به كمال المهر، مِنْ قِبلِ أن هناك تسليماً آخر صحيحاً تستحق به كمال المهر، إذْ ليس ذلك تسليماً صحيحاً ؛ ولما لم يوجد التسليم المستحق بعقد النكاح لم تستحق كمال المهر. واحتجّ من أبَى ذلك بظاهر قوله تعالى :﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ﴾ وقال تعالى في آية آخرى ﴿ إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ﴾ فعلّق استحقاق كمال المهر ووجوب العدة بوجود المسيس وهو الوطء، إذ كان معلوماً أنه لم يُرِدْ به وجود المسِّ باليد. والجواب عن ذلك : أن قوله تعالى :﴿ من قبل أن تمسوهن ﴾ قد اختلف الصحابةُ فيه على ما وصفنا، فتأوله عليّ وعمر وابن عباس وزيد وابن عمر على الخلوة ؛ فليس يخلو هؤلاء من أن يكونوا تأوّلوها من طريق اللغة أو من جهة أنه اسم له في الشرع، إذ غير جائز تأويل اللفظ على ما ليس باسم له في الشرع ولا في اللغة، فإن كان ذلك عندهم اسماً له من طريق اللغة فهم حجة فيها لأنهم أعلم باللغة ممن جاء بعدهم، وإن كان من طريق الشرع فأسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفاً ؛ وإذا صار ذلك اسماً لها صار تقدير الآية :" وإن طلقتموهن من قبل الخلوة فنصف ما فرضتم " وأيضاً لما اتفقوا على أنه لم يُرِدْ به حقيقة المس باليد وتأوّله بعضهم على الجماع وبعضهم على الخلوة، ومتى كان اسماً للجماع كان كناية عنه، وجائز أن يكون حكمه كذلك ؛ وإذا أُريد به الخلوة سقط اعتبار ظاهر اللفظ، لاتّفاق الجميع على أنه لم يرد حقيقة معناه وهو المس باليد، ووجب طلب الدليل على الحكم من غيره ؛ وما ذكرناه من الدلالة يقتضي أن مراد الآية هو الخلوة دون الجماع، فأقلّ أحواله أن لا يخصّ به ما ذكرنا من ظواهر الآي والسنة. وأيضاً لو اعتبرنا حقيقة اللفظ اقتضى ذلك أن يكون لو خلا بها ومَسَّها بيده أن تستحق كمال المهر لوجود حقيقة المسِّ، وإذا لم يخل بها ومَسَّها بيده خصصناه بالإجماع ؛ وأيضاً لو كان المراد الجماع، فليس يمتنع أن يقوم مقامه ما هو مثله وفي حكمه من صحة التسليم كما قال تعالى :﴿ فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ﴾ وما قام مقامه من الفرقة فحكمه حكمه في إباحتها للزوج الأول ؛ وقد حكي عن الشافعي في المجبوب إذا جامع امرأته " أن عليه كمال المهر إن طلّق من غير وطء " فعلمنا أن الحكم غير متعلق بوجود الوطء وإنما هو متعلق بصحة التسليم.
فإن قيل : لو كان التسليم قائماً مقام الوطء لوجب أن يحلها للزوج الأول كما يحلها الوطء. قيل له : هذا غلطٌ لأن التسليم إنما هو علّة لاستحقاق كمال المهر وليس بعلة لإحلالها للزوج الأول، ألا ترى أن الزوج لو مات عنها قبل الدخول استحقت كمال المهر وكان الموت بمنزلة الدخول ولا يحلها ذلك للزوج الأول ؟
قوله تعالى :﴿ إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ﴾ قوله تعالى :﴿ إلا أن يعفون ﴾ المراد به الزوجات، لأنه لو أراد الأزواج لقال :" إلا أن يعفو " ولا خلاف في ذلك. وقد رُوي أيضاً عن ابن عباس ومجاهد وجماعة من السلف :" ويكون عَفْوُها أن تترك بقية الصداق وهو النصف الذي جعله الله لها بعد الطلاق بقوله تعالى :﴿ فنصف ما فرضتم ﴾ " فإن قيل : قد يكون الصداق عَرَضاً بعينه وعقاراً لا يصح فيه العفو قيل له : ليس معنى العفو في هذا الموضع أن تقول قد عفوت، وإنما هو التسهيل أو الترك، والمعنيُّ فيه أن تتركه له على الوجه الجائز في عقود التمليكات، فكان تقدير الآية :" أن تملكه إياه وتتركه له تمليكاً بغير عوض تأخذه منه ".
فإن قال قائل : فيه هذا دلالة على جواز هبة المشاع فيما يقسم لإباحة الله تعالى لها تمليك نصف الفريضة إياه بعد الطلاق ولم يفرق بين ما كان منها عيناً أو دَيْناً ولا بين ما يحتمل القسمة أو لا يحتملها، فوجب بقضية الآية جواز هبة المشاع. فيقال له : ليس الأمرُ كما ظننت، لأنه ليس المعنى في العفو أن تقول " قد عفوتُ " إذ لا خلاف أن رجلاً لو قال لرجل :" قد عفوت لك عن داري هذه أو قد أبرأتك من داري هذه " أن ذلك لا يوجب تمليكاً ولا يصح به عقد هبة، وإذا كان كذلك وما نصّ عليه في الآية من العفو غير موجب لجواز عقود التمليكات به، عُلِمَ أن المراد به تمليكها على الوجه الذي تجوز عليه عقود الهبات والتمليكات، إذ كان اللفظ الذي به يصحّ التمليك غير مذكور، فصار حكمه موقوفاً على الدلالة، فما جاز في الأصول جاز في ذلك وما لم يجُزْ في الأصول من عقود الهبات لم يَجُزْ في هذا. ومع هذا فإن كان هذا السائل عن ذلك من أصحاب الشافعي فإنه يلزمه أن يجيز الهبة غير مقبوضة ؛ لأن الله سبحانه لم يفرق بين المهر المقبوض وغير المقبوض، فإذا عَفَتْ وقد قبضت فواجب أن يجوز من غير تسليمه إلى الزوج، وإذا لم يجزْ ذلك وكان محمولاً على شروط الهبات كذلك في المشاع. وإن كان من أصحاب مالك واحتجَّ به في جوازها في المشاع وقبل القبض، كان الكلام على ما قدمناه.
وأما قوله تعالى :﴿ أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ﴾ فإن السلف قد اختلفوا فيه، فقال عليّ وجبير بن مطعم ونافع بن جبير وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب وقتادة ونافع :" هو الزوج " وكذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري وابن شبرمة والأوز

باب الصلاة الوسطى وذكر الكلام في الصلاة


قال الله تعالى :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ فيه أمرٌ بفعل الصلاة وتأكيد وجوبها بذكر المحافظة، وهي الصلوات الخمس المكتوبات المعهودات في اليوم والليلة ؛ وذلك لدخول الألف واللام عليها إشارة بها إلى معهود. وقد انتظم ذلك القيامَ بها واستيفاءَ فروضِها وحِفْظَ حُدودِها وفِعْلها في مواقيتها وتَرْكَ التقصير فيها، إذْ كان الأمر بالمحافظة يقتضي ذلك كله. وأكد الصلاة الوسطى بإفرادها بالذكر مع ذكر سائر الصلوات، وذلك يدلّ على معنيين : إما أن تكون أفضل الصلوات وأوْلاها بالمحافظة عليها فلذلك أفردها بالذكر عن الجملة، وإما أن تكون المحافظة عليها أشدَّ من المحافظة على غيرها. وقد رُوي في ذلك روايات مختلفة يدل بعضها على الوجه الأول وبعضها على الوجه الثاني، فمنها ما رُوي عن زيد بن ثابت أنه قال :" هي الظهر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بالهجير ولا يكون وراءه إلا الصفُّ أو الصفّان والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله تعالى :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ " وفي بعض ألفاظ الحديث :" فكانت أثقل الصلوات على الصحابة فأنزل الله تعالى ذلك ". قال زيد بن ثابت :" وإنما سماها وسطى لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين ". ورُوي عن ابن عمر وابن عباس " أن الصلاة الوسطى صلاة العصر ". ورُوي عن ابن عباس رواية أخرى :" أنها صلاة الفجر ". وقد رُوي عن عائشة وحفصة وأم كلثوم أن في مصحفهن :" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر ". ورُوي عن البراء بن عازب قال : نزلت " حافظوا على الصلوات وصلاة العصر " وقرأتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نسخها الله تعالى فأنزل :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾. فأخبر البراء أن ما في مصحف هؤلاء من ذكر صلاة العصر منسوخ. وقد رَوَى عاصم عن زر عن عليّ قال : قاتَلْنا الأحزاب فشغلونا عن صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغيب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" اللَّهُمَّ إمْلأْ قُلُوبَ الّذِينَ شَغَلُونا عَنِ الصّلاةِ الوُسْطَى ناراً ! " قال علي :" كنا نرى أنها صلاة الفجر ". وروى عكرمة وسعيد بن جبير ومقسم عن ابن عباس مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورَوَى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنها صلاة العصر " وكذلك رَوَى سُمْرَةُ بن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورُوي عن عليّ من قوله " إنها صلاة العصر " وكذلك عن أبيّ بن كعب وعن قبيصة بن ذؤيب :" المغرب ".
وقيل إنما سميت صلاة العصر الوسطى لأنها بين صلاتين من صلاة النهار وصلاتين من صلاة الليل، وقيل إن أول الصلوات وجوباً كانت الفجر وآخرها العشاء الآخرة، فكانت العصر هي الوسطى في الوجوب. ومن قال إن الوسطى الظهر يقول لأنها وُسْطَى صلاة النهار بين الفجر والعصر، ومن قال الصبح فقد قال ابن عباس :" لأنها تُصَلَّى في سواد من الليل وبياض من النهار " فجعلها وسطى في الوقت. ومن الناس من يستدلّ بقوله تعالى :﴿ والصلاة الوسطى ﴾ على نَفْي وجوب الوِتْر ؛ لأنها لو كانت واجبة لما كان لها وسطى، لأنها تكون حينئذ ستّاً. فيقال له : إن كانت الوسطى العصر فوجهه ما قيل إنها وسطى في الإيجاب، وإن كانت الظهر فلأنها بين صلاتي الفجر والعصر، فلا دلالة على نفي وجوب الوتر التي هي من صلاة الليل. وأيضاً فإنها وُسْطى الصلوات المكتوبات وليس الوتر من المكتوبات وإن كانت واجبة، لأنه ليس كل واجب فرضاً، إذْ كان الفرض هو أعلى في مراتب الوجوب. وأيضاً فإن فرض الوتر زيادة وردت بعد فرض المكتوبات، لقوله صلى الله عليه وسلم :" إنّ الله زَادَكُمْ إلى صَلاَتِكُمْ صَلاَةً وهي الوِتْرُ " وإنما سُمِّيت وسطى قبل وجوب الوتر.
وأما قوله عز وجل :﴿ وقوموا لله قانتين ﴾ فإنه قد قيل في معنى القنوت في أصل اللغة إنه الدوام على الشيء. ورُوي عن السلف فيه أقاويل، رُوي عن ابن عباس والحسن وعطاء والشعبي :﴿ وقوموا لله قانتين ﴾ :" مطيعين ". وقال نافع عن ابن عمر قال :" القنوت طول القيام " وقرأ :﴿ أمن هو قانت آناء الليل ﴾ [ الزمر : ٩ ]. ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أفْضَلُ الصَّلاةِ طُولُ القُنُوتِ " يعني القيام. وقال مجاهد :" القنوت السكوت والقنوت الطاعة ". ولما كان أصل القنوت الدوام على الشيء جاز أن يُسَمَّى مديمُ الطاعة قانتاً، وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة أو أطال الخشوع والسكوت، كل هؤلاء فاعلوا القنوت. ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم " قَنَتَ شهراً يدعو فيه على حيّ من أحياء العرب " والمراد به : أطال قيام الدعاء. وقد رَوَى الحارث بن شبل عن أبي عمرو الشيباني قال : كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت :﴿ وقوموا لله قانتين ﴾ فأمَرَنا بالسكوت " فاقتضى ذلك النهي عن الكلام في الصلاة. وقال عبدالله بن مسعود : كنا نسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا قبل أن نأتي أرض الحبشة، فلما رجعت سلّمتُ عليه فلم يَرُدّ عليَّ، فذكرت ذلك له فقال :" إنّ الله يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ ما يَشَاءُ وإنّه قَضَى أنْ لا تَتكلَّمُوا في الصلاة ". ورَوَى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فردّ عليه بالإشارة، فلما سلّم قال :" كُنَّا نُرُدُّ السّلامَ في الصَّلاةِ فَنُهِينَا عَنْ ذلك ". ورَوَى إبراهيم الهَجَرِيّ عن ابن عياض عن أبي هريرة قال : كانوا يتكلمون في الصلاة فنزل :﴿ وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ﴾ [ الأعراف : ٢٠٤ ]. وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إنّ صَلاتنا هذه لا يَصْلُحُ فيها شيءٌ مِنْ كَلامِ النّاس إنّما هي التّسْبِيحُ والتّكْبيرُ وقِرَاءَةُ القُرْآن ".
ففي هذه الأخبار حَظْرُ الكلام في الصلاة.
ولم تختلف الرواة أن الكلام كان مباحاً في الصلاة إلى أن حَظره ؛ واتفق الفقهاء على حظره، إلاّ أن مالكاً قال :" يجوز فيها لإصْلاح الصلاة ". وقال الشافعي :" كلام السَّهْوِ لا يُفْسِدها ". ولم يفرّق أصحابنا بين شيء منه، وأفسدوا الصلاة بوجوده فيها على وجه السهو وقع أو لإصلاح الصلاة، والدليل عليه أن الآية التي تَلَوْنا من قوله تعالى :﴿ قوموا لله قانتين ﴾ ورواية من رَوَى أنها نزلت في حَظْرِ الكلام في الصلاة، مع احتماله له لو لم ترد الرواية بسبب نزولها، ليس فيها فرق بين الكلام الواقع على وجه السهو والعمد وبينه إذا قصد به إصلاح الصلاة أو لم يقصد ؛ وكذلك سائر الأخبار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حظره فيها لم يفرِّقْ فيها بين ما قُصِدَ به إصلاحُ الصلاة وبين غيره ولا بين السهو والعمد منه، فهي عامة في الجميع.
فإن قيل : النهي عن الكلام في الصلاة مقصورٌ على العامد دون الناسي، لاسْتِحَالة نهي الناسي. قيل له : حُكْمُ النهي قد يجوز أن يتعلق على الناسي كهو على العامد، وإنما يختلفان في المأثم واستحقاق الوعيد فأما الأحكام التي هي فساد الصلاة وإيجاب قضائها فلا يختلفان، ألا ترى أن الناسي بالأكل والحَدَثِ والجماع في الصلاة في حكم العامد فيما يتعلق عليه من أحكام هذه الأفعال من إيجاب القضاء وإفساد الصلاة وإن كانا مختلفين في حكم المأثم واستحقاق الوعيد ؟ وإذا كان ذلك على ما وَصَفْنا كان حكم النهي فيما يقتضيه من إيجاب القضاء معلقاً بالناسي كهو بالعامد، لا فرق بينهما فيه وإن اختلفا في حكم المأثم والوعيد، فقد دلّت هذه الأخبار على فساد قول من فرّق بين ما قُصِدَ به الإصلاح للصلاة وبين ما لم يُقْصَدْ به إصلاحها، وعلى فساد قول من فرّق بين الناسي والعامد. ويدلّ على ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية بن الحكم :" إنّ صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيءٌ مِنْ كلام الناس " وحقيقته الخبر، فهو محمول على حقيقته فاقتضى ذلك إخباراً من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الصلاة لا يصلح فيها كلام الناس فلو بقي مصلياً بعد الكلام لكان قد صلح الكلام فيها من وجه، فثبت بذلك أن ما وقع فيه كلام الناس فليس بصلاة ليكون مخبره خبراً موجوداً في سائر ما أخبر به، ومن وجه آخر أن ضد الصلاح هو الفساد وهو يقتضيه في مقابلته، فإذا لم يصلح فيها ذلك فهي فاسدة إذا وقع الكلام فيها، ولو لم يكن كذلك لكان قد صلح الكلام فيها من غير إفساد، وذلك خلاف مقتضى الخبر.
واحتج الفريقان جميعاً من مخالفينا الذين حكينا قولهما بحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، ورُوي من طرق، قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صَلاَتَى العشيِّ الظهر أو العصر، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها إحداهما على الأخرى يُعْرف في وجهه الغضب، قال : وخرج سَرَعَانُ الناس فقالوا : أَقُصِرَتِ الصلاةُ ؟ وفي الناس أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، فقام رجل طويل اليدين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه ذا اليدين فقال : يا رسول الله أنَسِيتَ أم قُصِرَتِ الصلاةُ ؟ فقال له :" لم أنسَ ولم تُقْصَرِ الصلاةُ " فقال : بل نسيت ! فأقبل على القوم فقال :" أصَدَقَ ذُو اليَدَيْنِ ؟ " قالوا : نعم ! فجاء فصلَّى بنا الركعتين الباقيتين وسلَّم وسجد سجدتي السهو. قالوا فأخبر أبو هريرة بما كان منه ومنهم من الكلام ولم يمتنع من البناء، وقد كان أبو هريرة متأخر الإسلام. ورَوَى يحيى بن سعيد القطان قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : أتينا أبا هريرة فقلنا : حدثنا ! فقال : صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين. وقد رُوي عنه أنه قدم المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، فخرج خلفه وقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، قالوا : فإذا كانت هذه القصة بعد إسلام أبي هريرة، ومعلوم أن نسخ الكلام كان بمكة لأن عبدالله بن مسعود لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرض الحبشة كان الكلام في الصلاة محظوراً لأنه سلّم عليه فلم يردّ عليه وأخبره بنَسْخِ الكلام في الصلاة، فثبت بذلك أن ما في حديث ذي اليدين كان بعد حَظْرِ الكلام في الصلاة.
وقال أصحاب مالك :" إنما لم تَفْسُدْ به الصلاة لأنه كان لإصلاحها ". وقال الشافعي :" لأنه وقع ناسياً ".
فيقال لهم : لو كان حديث ذي اليدين بعد نسخ الكلام لكان مُبِيحاً للكلام فيها ناسخاً لحظره المتقدم له، لأنه لم يخبرهم أن جواز ذلك مخصوص بحال دون حال. وقد رَوَى سفيان بن عيينة عن أبي حازم عن سهل بن سعد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ نَابَهُ في صَلاَتِهِ شَيءٌ فلْيَقُلْ سبحان الله، إنما التَّصْفِيقُ للنِّسَاءِ والتّسْبِيحُ للرِّجَالِ ". ورَوَى سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" التّسْبِيحُ للرجَالِ والتَّصْفِيقُ للنّسَاءِ " فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن نَابَهُ شيءٌ في صلاته من الكلام وأمر بالتسبيح، فلما لم يكن من القوم تسبيحٌ في قصة ذي اليدين ولا أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم تركه، دلَّ ذلك على أ
قوله عز وجل :﴿ فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً ﴾ الآية، ذكر الله تعالى في أول الخطاب الأمْرَ بالصلاة والمحافظة عليها، وذلك يدلّ على لزوم استيفاء فروضها والقيام بحدودها لاقتضاء ذكر المحافظة لها. وأكّد الصلاة الوسطى فإفرادها بالذكر، لما بيّنا فيما سلف من فائدة ذِكْر التأكيد لها. ثم عطف عليه قوله تعالى :﴿ وقوموا لله قانتين ﴾ فاشتمل ذلك على لزوم السكوت والخشوع فيها وترك المشي والعمل فيها، وذلك في حال الأمن والطمأنينة، ثم عطف عليه حال الخوف وأمر بفعلها على الأحوال كلها ولم يرخص في تركها لأجل الخوف، فقال تعالى :﴿ فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً ﴾. قوله :﴿ فرجالاً ﴾ جمع رَاجِلٍ، لأنك تقول : راجل ورجال، كتَاجر وتِجَار، وصَاحِب وصِحَاب، وقَائِم وقِيَام. وأمر بفعلها في حال الخوف راجلاً ولم يعذر في تركها، كما أمر المريض بفعلها على الحال التي يمكنه فعلها من قيام وقعود وعلى جَنْبٍ، وأمره بفعل الصلاة راكباً في حال الخوف إباحةً لفعلها بالإيماء ؛ لأن الراكب إنما يصلي بالإيماء لا يفعل فيها قياماً ولا ركوعَاً ولا سجوداً. وقد رُوي عن ابن عمر في صلاة الخوف قال :" فإن كان خوفاً أشَدّ من ذلك صلّوا رجالاً قياماً على أقدامهم وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها " قال نافع : لا أرى ابن عمر قال ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمذكور في هذه الآية إنما هو الخوف دون القتال، فإذا خاف وقد حَصَرَهُ العدوّ جاز له فعلها كذلك، ولما أباح له فعلها راكباً لأجل الخوف لم يفرق بين مستقبل القبلة من الركبان وبين من ترك استقبالها تضمنت الدلالة على جواز فعلها من غير استقبالها، لأن الله تعالى أمر بفعلها على كل حال ولم يفرق بين من أمكنه استقبالها وبين من لم يمكنه ؛ فدلّ على أن من لا يمكنه استقبالها فجائزٌ له فعلها على الحال التي يقدر عليها. ويدلّ من جهة أخرى على ذلك، وهو أن القيام والركوع والسجود من فروض الصلاة، وقد أباح تركها حين أمره بفعلها راكباً، فَتركُ القِبْلَة أحرى بالجواز، إذْ كان فعل الركوع والسجود آكدُ من القبلة ؛ فإذا جاز ترك الركوع والسجود فترك القبلة أحرى بالجواز.
فإن قيل : على ما ذكرناه من أن الله لم يبح ترك الصلاة في حال الخوف وأمر بها على الحال التي يمكن فعلها، " قد كان النبي صلى الله عليه وسلم ترك أربع صلوات يوم الخندق حتى كان هَوِيٌّ من الليل ثم قضاهن على الترتيب " وفي ذلك دليل على جواز ترك الصلاة في حال الخوف. قيل له : إن الذي اقتضته هذه الآية الأمر بالصلاة في حال الخوف بعد تقديم تأكيد فروضها، لأنه عطف على قوله تعالى :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ ثم زادها تأكيداً بقوله تعالى :﴿ وقوموا لله قانتين ﴾ فأمر فيها بالدوام على الخشوع والسكون والقيام، وحَظَرَ فيها التنقل من حال إلاّ إلى حال هي الصلاة من الركوع والسجود ؛ ولو اقتصر على ذلك لكان جائزاً أن يَظُنَّ ظانٌّ أن شرط جواز الصلاة فعلها على هذه الأوصاف، فبيَّن حكْمَ هذه الصلوات المكتوبات في حال الخوف فقال تعالى :﴿ فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً ﴾ فأمر بفعلها في هذه الحال ولم يعذر أحداً من المكلفين في تركها. ولم يذكر حال القتال ؛ إذْ ليس جميع أحوال الخوف هي أحوال القتال ؛ لأن حضور العدو يوجب الخوف وإن لم يكن قتال قائم، فإنما أمر بفعلها في هذه الحال ولم يذكر حال القتال، والنبيّ صلى الله عليه وسلم إنما لم يصلِّ يوم الخندق لأنه كان مشغولاً بالقتال، والاشتغال بالقتال يمنع الصلاة ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :" مَلأَ الله قُبُورَهُمْ وبُيُوتَهُمْ ناراً كَمَا شَغَلُونا عَنِ الصّلاةِ الوُسْطَى " وكذلك يقول أصحابنا إن الاشتغال بالقتال يفسدها.
فإن قيل : ما أنكرتَ من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يُصَلِّ يوم الخندق لأنه لم يكن نزلت صلاة الخوف ؟ قيل له : قد ذكر محمد بن إسحاق والواقدي جميعاً أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق وقد صلّى النبي صلى الله عليه وسلم فيها صلاة الخوف، فدلّ ذلك على أن تَرْكَ النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف إنما كان للقتال، لأنه يمنع صحتها وينافيها.
ويستدلُّ بهذه الآية من يقول إن الخائف تجوز له الصلاة وهو ماشٍ وإن كان طالباً، لقوله تعالى :﴿ فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً ﴾. وليس هذا كذلك ؛ لأنه ليس في الآية ذِكْرُ المَشْي، ومع ذلك فالطالب غير خائف، لأنه إن انصرف لم يَخَفْ، والله سبحانه إنما أباح ذلك للخائف، وإذا كان مطلوباً فجائز له أن يصلي راكباً وماشياً إذا خاف.
وأما قوله تعالى :﴿ فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ﴾ لما ذكر الله تعالى حال الخوف وأمر بالصلاة على الوجه الممكن من راجل وراكب ثم عطف عليه حال الأمن بقوله تعالى :﴿ فإذا أمنتم فاذكروا الله ﴾ دلّ ذلك على أن المراد ما تقدّم بيانه في حال الخوف وهو الصلاة، فاقتضى ذلك إيجاب الذكر في الصلاة ؛ وهو نظير قوله تعالى :﴿ فاذكروا الله قياماً وقعوداً ﴾ [ النساء : ١٠٣ ] ونظيره أيضاً قوله تعالى :﴿ وذكر اسم ربه فصلى ﴾ [ الأعلى : ١٥ ] وقوله تعالى :﴿ وقرآن الفجر إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] فتضمنت هذه المخاطبة من عند قوله تعالى :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ الأمر بفعل الصلاة واستيفاء فروضها وشروطها وحفظ حدودها ؛ وقوله تعالى :﴿ وقوموا لله قانتين ﴾ تضمن إيجاب القيام فيها. ولما كان القنوت اسماً يقع على الطاعة، اقتضى أن يكون جميع أفعال الصلاة طاعة وأن لا يتخللها غيرها ؛ لأن القنوت هو الدوام على الشيء، فأفاد ذلك النهْيَ عن الكلام فيها وعن المشْي وعن الاضطجاع وعن الأكل والشرب وكلِّ فعل ليس بطاعة، لما تضمنه اللفظ من الأمر بالدوام على الطاعات التي هي من أفعال الصلاة، والنهي عن قطعها بالاشتغال بغيرها لما فيه من ترك القنوت الذي هو الدوام عليها ؛ واقتضى أيضاً الدوام على الخشوع والسكون لأن اللفظ ينطوي عليه ويقتضيه، فانتظم هذا اللفظ مع قلّة حروفه جميع أفعال الصلاة وأذكارها ومفروضها ومَسْنُونها، واقتضى النهي عن كل فعل ليس بطاعة فيها. والله الموفق والمعين.
قوله عز وجل :﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم ﴾ الآية. قد تضمنت هذه الآية أربعة أحكام، أحدها : الحولُ، وقد نُسخ منه ما زاد على أربعة أشهر وعشراً ؛ والثاني : نفقتها وسكناها في مال الزوج، فقد نُسخ بالميراث على ما رُوي عن ابن عباس وغيره، لأن الله تعالى أوجبها لها على وجه الوصية لأزواجهم كما كانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين، فنُسخت بالميراث وقول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا وَصِيَّةَ لوارِث ". ومنها الإحدادُ الذي دلّتْ عليه الدلالة من الآية، فحُكْمُهُ باقٍ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها انتقالها عن بيت زوجها، فحكمه باقٍ في حَظْرِه، فنُسِخَ من الآية حكمان وبقي حكمان، ولا نعلم أية اشتملت على أربعة أحكام فنُسِخَ منها اثنان وبقي اثنان غيرها. ويحتمل أن يكون قوله تعالى :﴿ غير إخراج ﴾ منسوخاً ؛ لأن المرادَ به السُّكْنَى الواجبة في مال الزوج، فقد نسخ كونها في مال الزوج، فصار حَظْرُ الإخراج منسوخاً. إلا أن قوله تعالى :﴿ غير إخراج ﴾ قد تضمن معنيين، أحدهما : وجوبُ السّكنى في مال الزوج، والثاني : حَظْر الخروج والإخراج، لأنهم إذا كانوا ممنوعين من إخراجها فهي لا محالة مأمورة باللَّبْثِ، فإذا نسخ وجوب السكني في مال الزوج بقي لزوم اللبث في البيت.
وقد اختلف أهل العلم في نفقة المتوفَّى عنها زوجها، فقال ابن عباس وجابر بن عبالله :" نفقتها على نفسها حاملاً كانت أو غير حامل " وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وعطاء وقبيصة بن ذؤيب. ورَوَى الشعبي عن عليّ وعبدالله قالا :" الحاملُ إذا مات عنها زوجُها فنفقتها من جميع المال ". ورَوَى الحكم عن إبراهيم قال :" كان أصحاب عبدالله يقضون في الحامل المتوفّى عنها زوجها إن كان المال كثيراً فنفقتها من نصيب ولدها، وإن كان قليلاً فمن جميع المال ". ورَوَى الزهري عن سالم عن ابن عمر قال :" ينفق عليها من جميع المال ". وقال أصحابنا جميعاً :" لا نفقة لها ولا سُكْنَى في مال الميت حاملاً كانت أو غير حامل ". وقال ابن أبي ليلى :" هي في مال الزوج بمنزلة الدَّيْنِ على الميت إذا كانت حاملاً ". وقال مالك بن أنس :" نفقتها على نفسها وإن كانت حاملاً ولها السكنى إن كانت الدار للزوج، وإن كان عليه دَيْنٌ فالمرأة أحقُّ بسكناها حتى تنقضي عدتها، وإن كانت في بيت بكراء فأخروجها لم يكن لها سُكْنَى في مال الزوج " هذه رواية ابن وهب عنه ؛ وقال ابن القاسم عنه :" لا نفقة لها في مال الميت ولها السكنى إن كانت الدار للميت، وإن كان عليه دَيْنٌ فهي أحقّ بالسكنى من الغرماء وتباع للغرماء ويشترط السكنى على المشتري ". وقال الثوري :" إن كانت حاملاً أنفق عليها من جميع المال حتى تضع، فإذا وضعت أنفق على الصبيّ من نصيبه " هذه رواية الأشجعي عنه ؛ وروى عنه المعافى أن نفقتها من حصّتها. وقال الأوزاعي في المرأة يموت زوجها وهي حامل :" فلا نفقة لها، وإن كانت أم ولد فلها النفقة من جميع المال حتى تضع ". وقال الليث بن سعد في أم الولد إذا كانت حاملاً منه :" فإنه ينفق عليها من المال، فإن ولدت كان ذلك في حظّ ولدها، وإن لم تلد كان ذلك دَيْناً يتبع به ". وقال الحسن بن صالح :" للمتوفّى عنها زوجُها النفقة من جميع المال ". وقال الشافعي في المتوفّى عنها زوجها قولين : أحدهما :" لها النفقة والسكنى " والآخر :" لا نفقة لها ولا سكنى ".
قال أبو بكر : لا تخلو نفقةُ الحامل من أحد ثلاثة أوْجُهٍ : إما أن تكون واجبة على حسب وجوبها بديّاً حين كانت عدّتها حولاً في قوله تعالى :﴿ وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج ﴾، أو أن تكون واجبة على حسب وجوبها للمطلقة المبتوتة، أو تجب للحامل دون غيرها لأجل الحمل. والوجه الأول باطلٌ، لأنها كانت واجبةً على وجه الوصية والوصية للوارث منسوخة. والوجه الثاني لا يصحّ أيضاً، مِنْ قِبَلِ أنّ النفقة لم تكن واجبة في حال الحياة وإنما تجب حالاً فحالاً على حسب مضيّ الأوقات وتسليم نفسها في بيت الزوج، ولا يجوز إيجابها بعد الموت من وجهين، أحدهما : أن سبيلها أن يحكم بها الحاكم على الزوج ويثبتها في ذمّته وتؤخذ من ماله، وليس للزوج ذمة فتثبت فيها، فلم يَجُزْ أخْذُها من ماله إذا لم تثبت عليه، والثاني : أن ذلك الميراث قد انتقل إلى الورثة بالموت، إذْ لم يكن هناك دَيْنٌ عند الموت، فغير جائز إثباتها في مال الورثة ولا في مال الزوج فتؤخذ منه. وإن كانت حاملاً لم يَخْلُ إيجابُ النفقة لها في مال الزوج من أحد وجهين : إما أن يكون وجوبها متعلقاً بكونها في العدة أو لأجل الحمل، وقد بيّنا أن إيجابها لأجل العدّة غير جائز، ولا يجوز إيجابها لأجل الحمل ؛ لأن الحمل نفسه لا يستحقّ نفقته على الورثة إذْ هو موسر مثلهم بميراثِه، ولو ولدته لم تجب نفقته على الورثة، فكيف تجب له في حال الحمل ؟ فلم يبق وَجْهٌ يستحقّ به النفقة ؛ والله أعلم.
إن قيل : قال الله تعالى :﴿ وللمطلقات متاع بالمعروف حقّاً على المتقين ﴾ وذلك عامّ في سائرهن إلاّ ما خصَّهُ الدليل. قيل له : هو كذلك، إلا أن المتاع اسم لجميع ما ينتفع به، قال الله تعالى :﴿ وفاكهة وأبّاً متاعاً لكم ولأنعامكم ﴾ [ عبس : ٣١ و ٣٢ ] وقال تعالى :﴿ متاع قليل ثم مأواهم جهنم ﴾ [ آل عمران : ١٩٧ ] وقال تعالى :﴿ إنما هذه الحياة الدنيا متاع ﴾ [ غافر : ٣٩ ] قال الأفوه الأوْدِيُّ :
* إنّما نِعْمَةُ قَوْمٍ مِتْعَةٌ * وحَيَاةُ المَرْءِ ثَوْبٌ مُسْتَعَارُ *
فالمِتْعَة والمَتَاع اسمٌ يقع على جميع ما يُنْتفع به، ونحن فمتى أوجبنا للمطلقات شيئاً مما يُنْتفع به من مهر أو نفقة فقد قضينا عهدة الآية، فمتعةُ التي لم يُدْخَلْ بها نصفُ المهر المسمى والتي لم يُسَمَّ لها على قدر حال الرجل والمرأة، وللمدخول بها تارةً المسمَّى وتارةً مهر المثل إذا لم يكن مسمَّى، وذلك كله متعةٌ ؛ وليس بواجب إذا أوجبنا لها ضرباً من المتعة أن نوجب لها سائر ضروبها، لأن قوله تعالى :﴿ وللمطلقات متاع ﴾ إنما يقتضي أدنى ما يقع عليه الاسم.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ وللمطلقات متاع ﴾ يقتضي إيجابه بالطلاق ولا يقع على ما استحقته قبله من المهر. قيل له : ليس كذلك ؛ لأنه جائز أن تقول " وللمطلقات المهور التي كانت واجبة لهن قبل الطلاق " فليس في ذكر وجوبه بعد الطلاق ما ينفي وجوبه قبله، إذْ لو كان كذلك لما جاز ذِكْرُ وجوبه في الحالين مع ذكر الطلاق، فيكون فائدة وجوبه بعد الطلاق إعلامنا أن مع الطلاق يجب المتاع، إذْ كان جائزاً أن يظن ظانٌّ أن الطلاق يسقط ما وجب، فأبان عن إيجابه بعده كهو قبله. وأيضاً إن كان المراد متاعاً وجب بالطلاق فهو على ثلاثة أنحاء : إما نفقة العدة للمدخول بها، أو المتعة، أو نصف المسمى لغير المدخول بها. وذلك متعلق بالطلاق، لأن النفقة تسمَّى متاعاً على ما بينا كما قال تعالى ﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج ﴾ فسمَّى النفقة والسكنى الواجبتين لها متاعا. ومما يدل على أن المتعة غير واجبة مع المهر اتفاقُ الجميع على أنه ليس لها المطالبة بها قبل الطلاق، فلو كانت المتعة تجب مع المهر بعد الطلاق لوَجَبَتْ قبل الطلاق، إذ كانت بدلاً من البضع وليست بدلاً من الطلاق، فكان يكون حكمها حكم المهر ؛ وفي ذلك دليل على امتناع وجوب المتعة والمهر.
فإن قيل : فأنتم توجبونها بعد الطلاق لمن لم يسم لها ولم يدخل بها ولا توجبونها قبله، ولم يكن انتفاء وجوبها قبل الطلاق دليلاً على انتفاء وجوبها بعده، وكذلك قلنا في المدخول بها. قيل له : إن المتعة بعضُ مهر المثل، إذ قام مقام بعضه، وقد كانت المطالبة لها واجبة بالمهر قبل الطلاق ؛ فلذلك صحت ببعضه بعده ؛ وأنت فلست تجعل المتعة بعض المهر، فلم يَخْلُ إيجابها من أن تكون بدلاً من البضع أو من الطلاق، فإن كانت بدلاً من البضع مع مهر المثل فواجب أن تستحقّها قبل الطلاق، وإن لم تكن بدلاً من البضع استحال وجوبها عن الطلاق في حال حصول البضع لها. والله تعالى أعلم.

باب الفرار من الطاعون


قال الله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ﴾ قال ابن عباس :" كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون فماتوا فمرّ عليهم نبيّ من الأنبياء فدعا ربَّه أن يحييهم فأحياهم الله ". ورُوي عن الحسن أيضاً أنهم فرّوا من الطاعون. وقال عكرمة :" فرّوا من القتال ". وهذا يدلّ على أن الله تعالى كره فرارهم من الطاعون ؛ وهو نظير قوله تعالى :﴿ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة ﴾ [ النساء : ٧٨ ] وقوله تعالى :﴿ قل إن الموت الذي تفرّون منه فإنه ملاقيكم ﴾ [ الجمعة : ٨ ] وقوله تعالى :﴿ قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ﴾ [ الأحزاب : ١٦ ] وقوله تعالى :﴿ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾ [ الأعراف : ٣٤ ]. وإذا كانت الآجالُ موقَّتة محصورةً لا يقع فيها تقديم ولا تأخير عما قدّرها الله عليه، فالفرار من الطاعون عدول عن مقتضى ذلك ؛ وكذلك الطِّيَرَةُ والزجرُ والإيمانُ بالنجوم، كل ذلك فراراً من قَدَر الله عز وجل الذي لا محيصَ لأحد عنه.
وقد رُوي عن عمرو بن جابر الحضرمي عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الفِرَارُ مِنَ الطَّاعُونِ كالفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ والصَّابِرُ فيه كالصَّابِرِ في الزَّحْفِ ". ورَوَى يحيى بن أبي كثير عن سعيد بن المسيب عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ، وإنْ تَكُن الطِّيَرَةُ في شَيِءٍ فهي في الفَرَس والمَرْأةِ والدَّارِ، وإذا سَمِعْتُمْ بالطَّاعُونِ بأرْضٍ ولستم بها فلا تَهْبِطُوا عَلَيْهِ، وإذا كان وأنْتُمْ بها فلا تَخْرُجُوا فِرَاراً عَنْهُ ". ورُوي عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في الطاعون. وروى الزهري عن عبدالحميد بن عبدالرحمن عن عبدالله بن الحارث بن عبدالله بن نوفل عن ابن عباس : أن عمر خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه التجار فقالوا : الأرض سقيمة ؛ فاستشار المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه فعزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة : أفراراً من قَدَرِ الله ؟ فقال له عمر : لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، نفرّ من قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله ! أرأيت لو كان لك إبلٌ فهَبَطْتَ بها وادياً له عُدْوَتان إحداهما خصيبةٌ والأخرى جديبة ألست إن رَعَيْتَ الخصيبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر الله ؟ فجاء عبدالرحمن بن عوف فقال : عندي من هذا عِلْمٌ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول :" إذا سَمِعْتُمْ به في أرْضٍ فلا تَقْدمُوا عليه، وإذا وَقَعَ بأرْضٍ وأنتم بها فلا تَخْرُجُوا فِرَاراً منه " فحمد الله عمر وانصرف. ففي هذه الأخبار النهي عن الخروج عن الطاعون فراراً منه والنهي عن الهبوط عليه أيضاً.
فإن قال قائل : إذا كانت الآجال مقدرةً محصورةً لا تتقدم ولا تتأخر عن وقتها، فما وجه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول أرض بها الطاعون وهو قد منع الخروج منها بديّاً لأجله ولا فرق بين دخولها وبين البقاء فيها ؟ قيل له : إنما وَجْهُ النهي أنه إذا دخلها وبها الطاعون فجائزٌ أن تدركه منيته وأجله بها، فيقول قائل، لو لم يدخلها ما مات ؛ فإنما نهاه عن دخولها لئلا يقال هذا ؛ وهو كقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانو غُزًّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ﴾ [ آل عمران : ١٥٦ ] فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلها، فعسى يموت فيها بأجله فيقول قوم من الجهال : لو لم يدخلها لم يمت. وقد أصاب بعض الشعراء في هذا المعنى حين قال :
* يقُولُون لي لَوْ كان بالرَّمْلِ لم تَمُتْ * بُثَيْنَةُ والأنْبَاءُ يُكَذّبُ قِيلُها *
* ولو أنَّني اسْتَوْدَعْتُها الشَّمْسَ لاهْتَدَتْ * إليها المنايا عَيْنُها ودَلِيلُها *
وعلى هذا المعنى الذي قدمنا ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يُورَدَنَّ ذُو عَاهةٍ عَلَى مُصِحٍّ " مع قوله :" لا عَدْوَى ولا طِيَرَة " لئلا يقال إذا أصاب الصحيح عاهة بعد إيراد ذي عاهة عليه : إنما أعداه ما ورد عليه. وقيل له : يا رسول الله إن النّقْبة تكون بمشفر البعير فتَجْرَب لها الإبل ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" فما أعْدَى الأوّل ؟ ! ". وقد روى هشام بن عروة عن أبيه، أن الزبير استفتح مِصْراً فقيل له : إن هنا طاعوناً ؛ فدخلها وقال : ما جئنا إلا للطعن والطاعون. وقد رُوي أن أبا بكر لما جهّز الجيوش إلى الشام شَيَّعهم ودعا لهم وقال :" اللهم أفْنِهِمْ بالطعن والطاعون ! ". فاختلف أهل العلم في معنى ذلك، فقال قائلون : لما رآهم على حال الاستقامة والبصائر الصحيحة والحِرْصِ على جهاد الكفار خَشِيَ عليهم الفتنة، وكانت بلادُ الشام بلادَ الطاعون مشهورٌ ذلك بها، أحبّ أن يكون موتهم على الحال التي خرجوا عليها قبل أن يفتتنوا بالدنيا وزهرتها. وقال آخرون : قد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال :" فَنَاءُ أمّتي بالطَّعْن والطَّاعُونِ " يعني عظم الصحابة، وأخبر أن الله سيفتح البلاد بمن هذه صفته، فرجا أبو بكر أن يكون هؤلاء الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر عن حالهم ؛ ولذلك لم يحبّ أبو عبيدة الخروج من الشام ؛ وقال معاذ : لما وقع الطاعون بالشام وهو بها قال : اللهم أقسم لنا حظّاً منه ! ولما طُعن في كفه أخذ يقبلها ويقول : ما يَسُرُّني بها كذا وكذا ! وقال : لئن كنت صغيراً فرُبَّ صغير يبارك الله فيه ! أو كلمة نحوها، يتمنى الطاعون ليكون من أهل الصِّفَةِ التي وَصَفَ النبي صلى الله عليه وسلم بها أمته الذين يفتح الله بهم البلاد ويظهر بهم الإسلام.
وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول من أنكر عذاب القبر وزعم أنه من القول بالتناسخ ؛ لأن الله أخبر أنه أمات هؤلاء القوم ثم أحياهم، فكذلك يحييهم في القبر ويعذبهم إذا استحقوا ذلك.
قوله تعالى :﴿ وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ﴾ وهو أمرٌ بالقتال في سبيل الله. وهو مجملٌ إذْ ليس فيه بيان السبيل المأمور بالقتال فيه، وقد بيّنه في مواضع غيره، وسنذكره إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة ﴾ إنما هو استدعاء إلى أعمال البر والإنفاق في سبيل الخير بألطف الكلام وأبلغه ؛ وسمّاه قرضَاً تأكيداً لاستحقاق الثواب به، إذ لا يكون قرضاً إلاّ والعوض مستحقٌّ به. وجهلت اليهود ذلك أو تجاهلت لما نزلت هذه الآية فقالوا : إن الله يستقرض منا، فنحن أغنياء وهو فقير إلينا ! فأنزل الله تعالى :﴿ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ﴾ [ آل عمران : ١٨١ ] وعرف المسلمون معناه ووثقوا بثواب الله ووَعْدِهِ وبادروا إلى الصدقات، فرُوي أنه لما نزلت هذه الآية جاء أبو الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ألا ترى ربنا يستقرض منا مما أعطانا لأنفسنا ؟ وإن لي أرضين إحداهما بالعالية والأخرى بالسافلة وإني قد جعلت خيرهما صدقة.
قوله تعالى :﴿ إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا أنَّى يكون له الملك علينا ﴾ الآية، يدلّ على أن الإمامة ليست وراثة، لإنكار الله تعالى عليهم ما أنكروه من التمليك عليهم مَنْ ليس مِنْ أهل النبوة ولا المُلْك وبيّن أن ذلك مُسْتَحَقٌّ بالعلم والقوة لا بالنسب. ودلّ ذلك أيضاً على أنه لا حظَ للنسب مع العلم وفضائل النفس وأنها مقدمة عليه، لأن الله أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته وإن كانوا أشرفَ منه نَسَباً. وذِكْرُه للجسم ههُنا عبارة عن فضل قوته، لأن في العادة من كان أعظم جسماً فهو أكثر قوة ؛ ولم يُرِدْ بذلك عِظَمَ الجسم بلا قوة، لأن ذلك لا حظَّ له في القتال، بل هو وَبَالٌ على صاحبه إذا لم يكن ذا قوة فاضلة.
قوله عز وجل :﴿ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يَطْعَمْهُ فإنه منّي إلا من اغترف ﴾ يدلّ على أن الشّرْبَ من النهر إنماهو الكَرْعُ فيه ووضْعُ الشفة عليه، لأنه قد كان حَظر الشرب وحظر الطَّعْمِ منه إلا لمن اغترف غرفة بيده. وهذا يدلّ على صحة قول أبي حنيفة فيمن قال :" إن شَرِبْتُ من الفرات فعبدي حرٌّ " أنه على أن يكرع فيه، وإن اغترف منه أو شرب بإناء لم يحنث، لأن الله قد كان حظر عليهم الشرب من النهر وحظر مع ذلك أن يطعم منه واستثنى من الطعم الاغتراف، فحَظْرُ الشرب باق على ما كان عليه ؛ فدلّ على أن الاغتراف ليس بشرب منه.
قوله تعالى :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ ﴾ رُوي عن الضحّاك والسُّدّيّ وسليمان بن موسى أنه منسوخ بقوله تعالى :﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ﴾ [ التوبة : ٧٣ ] وقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ [ التوبة : ٥ ]. ورُوي عن الحسن وقتادة أنها خاصة في أهل الكتاب الذين يُقَرُّونَ على الجزية دون مشركي العرب، لأنهم لا يُقَرُّون على الجزية ولا يُقْبل منهم إلا الإسلام أو السيف. وقيل : إنها نزلت في بعض أبناء الأنصار، كانوا يهوداً فأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام ؛ ورُوي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير. وقيل فيه : أي لا تقولوا لمن أسلم بعد حَرْبٍ إنه أسلم مُكْرهَا، لأنه إذا رضي وصحّ إسلامه فليس بمكره.
قال أبو بكر :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ أمْرٌ في صورة الخبر، وجائز أن يكون نزول ذلك قبل الأمر بقتال المشركين، فكان في سائر الكفار كقوله تعالى :﴿ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم ﴾ [ فصلت : ٣٤ ] وكقوله تعالى :﴿ ادفع بالتي هي أحسَنُ السيئة ﴾ [ المؤمنون : ٩٦ ] وقوله تعالى :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] وقوله تعالى :﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ] فكان القتالُ محظوراً في أول الإسلام إلى أن قامت عليهم الحجة بصحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما عاندوه بعد البيان أُمر المسلمون بقتالهم، فنسخ ذلك عن مشركي العرب بقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ] وسائر الآي الموجبة لقتال أهل الشرك، وبقي حكمه على أهل الكتاب إذا أذْعَنُوا بأداء الجزية ودخلوا في حكم أهل الإسلام وفي ذمّتهم. ويدلُّ على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل من مشركي العرب إلاّ الإسلام أو السيف، وجائز أن يكون حكم هذه الآية ثابتاً في الحال على جميع أهل الكفر لأنه ما في مشرك إلاّ وهو لو تَهَّودَ أو تَنَصَّر لم يُجْبَرْ على الإسلام وأقررناه على دينه بالجزية ؛ وإذا كان ذلك حكماً ثابتاً في سائر من انتحل دين أهل الكتاب ففيه دلالة على بطلان قول الشافعي حين قال :" مَنْ تَهَوَّد من المجوس أو النصارى أجبرته على الرجوع إلى دينه أو إلى الإسلام " والآية دالّةٌ على بطلان هذا القول ؛ لأن فيها الأمر بأن لا نُكْرِهَ أحداً على الدين، وذلك عمومٌ يمكن استعماله في جميع الكفار على الوجه الذي ذكرنا.
فإن قال قائل : فمشركو العرب الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم وأن لا يقبل منهم إلاّ الإسلام أو السيف قد كانوا مُكْرَهِين على الدِّين، ومعلوم أن من دخل في الدين مُكْرَهاً فليس بمسلم، فما وجه إكراههم عليه ؟ قيل له : إنما أُكْرِهُوا على إظهار الإسلام لا على اعتقاده، لأن الاعتقاد لا يصحّ منّا الإكراهُ عليه ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أُمِرْتُ أن أُقَاتِلَ النّاسَ حَتَّى يَقُولوا لا إله إلاّ الله فإذا قَالُوها عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إلاّ بحَقِّها وحِسابُهُمْ عَلَى الله " فأخبر صلى الله عليه وسلم أن القتال إنما كان على إظهار الإسلام، وأما الاعتقادات فكانت موكولة إلى الله تعالى. ولم يقتصر بهم النبي صلى الله عليه وسلم على القتال دون أن أقام عليهم الحجة والبرهان في صحة نبوته، فكانت الدلائلُ منصوبةً للاعتقاد وإظهار الإسلام معاً، لأن تلك الدلائل من حيث ألزمتهم اعتقاد الإسلام فقد اقتضت منه إظهاره والقتال لإظهار الإسلام، وكان في ذلك أعظم المصالحِ، منها : أنه إذا أظهر الإسلام وإن كان غير معتقد له فإن مجالسته للمسلمين وسماعه القرآن ومشاهدته لدلائل الرسول صلى الله عليه وسلم مع ترادُفها عليه تَدْعوه إلى الإسلام وتوضح عنده فساد اعتقاده. ومنها : أن يعلم الله أن في نَسْلهم من يوقن ويعتقد التوحيد، فلم يَجُزْ أن يُقْتلوا مع العلم بأنه سيكون في أولادهم مَنْ يعتقد الإيمان.
وقال أصحابنا فيمن أُكره من أهل الذمة على الإيمان : إنه يكون مسلماً في الظاهر ولا يترك والرجوع إلى دينه، إلاّ أنه لا يقتل إن رجع إلى دينه ويجبر على الإسلام من غير قتل ؛ لأن الإكراه لا يزيل عنه حكم الإسلام إذا أسلم وإن كان دخوله فيه مكرهاً دالاً على أنه غير معتقد له ؛ لما وصفنا من إسلام من أسلم من المشركين بقتال النبي صلى الله عليه وسلم وقوله :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها " فجعل النبي صلى الله عليه وسلم إظهار الإسلام عند القتال إسلاماً في الحكم، فكذلك المكره على الإسلام من أهل الذمة واجبٌ أن يكون مسلماً في الحكم، ولكنهم لم يُقْتلوا للشبهة. ولا نعلم خلافاً أن أسيراً من أهل الحرب لو قُدِّمَ ليُقْتَلَ فأسلم أنه يكون مسلماً، ولم يكن إسلامُه خوفاً من القتل مزيلاً عنه حكم الإسلام، فكذلك الذميّ.
فإن قال قائل : قوله تعالى :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ يحظر إكراه الذميّ على الإسلام، وإذا كان الإكراه على هذا الوجه محظوراً وجب أن لا يكون مسلماً في الحكم وأن لا يتعلق عليه حكمه ؛ ولا يكون حكم الذمي في هذا حكم الحربي، لأن الحربي يجوز أن يُكْره على الإسلام لإبائه الدخول في الذمّة، ومن دخل في الذمة لم يَجُزْ إكراهه على الإسلام. قيل له : إذا ثبت أن الإسلام لا يختلف حكمه في حال الإكراه والطَّوْع لمن يجوز إجباره عليه، أشبه في هذا الوجه العِتْقَ والطلاق وسائر ما لا يختلف فيه حُكْمُ جدّه وهَزْله. ثم لا يختلف بعد ذلك أن يكون الإكراه مأموراً به أو مباحاً كما لا يختلف حكم العتق والطلاق في ذلك ؛ لأن رجلاً لو أكره رجلاً على طلاق أو عتاق، ثبت حكمهما عليه وإن كان المُكْرِهُ ظالماً في إكراهه منهيّاً عنه، وكونه منهيّاً عنه لا يبطل حكم العتق والطلاق عندنا، كذلك ما وصفنا من أمر الإكراه على الإسلام.
قوله عز وجل :﴿ ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ﴾ الآية. قال أبو بكر : إن إيتاء الله الملك للكافر إنما هو من جهة كثرة المال واتساع الحال، وهذا جائز أن يُنْعِم الله على الكافرين به في الدنيا، ولا يختلف حكم الكافر والمؤمن في ذلك، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يَصْلاها مذموماً مدحوراً ﴾ [ الإسراء : ١٨ ] فهذا الضرب من الملك جائز أن يؤتيه الله الكافر، وأما الملْكُ الذي هو تمليك الأمْرِ والنهي وتدبيرُ أمور الناس فإن هذا لا يجوز أن يعطيه الله أهل الكفر والضلال، لأن أوامر الله تعالى وزواجره إنما هي استصلاحٌ للخَلْقِ فغيرُ جائز استصلاحهم بمن هو على الفساد مجانب للصلاح، ولأنه لا يجوز أن يأتمن أهْلَ الكفر والضلال على أوامره ونواهيه وأمور دينه كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ]. وكانت محاجّةُ المَلكِ الكافر لإبراهيم عليه السلام وهو النمرود بن كنعان، أنه دعاه إلى اتّباعه وحَاجَّهُ بأنه ملك يقدر على الضرّ والنفع. فقال إبراهيم عليه السلام : فإن ربّي الذي يُحْيي ويميت وأنت لا تقدر على ذلك. فعدل عن موضع احتجاج إبراهيم عليه السلام إلى معارضته بالإشراك في العبارة دون حقيقة المعنى، لأن إبراهيم عليه السلام حاجَّهُ بأن أعلمه أن ربه هو الذي يخلق الحياة والموت على سبيل الاختراع، فجاء الكافر برجلين فقتل أحدهما وقال قد أمَتُّهُ وخلَّى الآخر وقال قد أحييته ؛ على سبيل مجاز الكلام لا على الحقيقة ؛ لأنه كان عالماً بأنه غير قادر على اختراع الحياة والموت. فلما قرّر عليه الحجة وعجز الكافر عن معارضته بأكثر مما أورد زاده حجاباً لا يمكنه معه معارضته ولا إيراد شبهة يُموِّهُ بها على الحاضرين، وقد كان الكافر عالماً بأن ما ذكره ليس بمعارضة، لكنه أراد التمويه على أغمار أصحابه كما قال فرعون حين آمنت السحرة عند إلقاء موسى عليه السلام العصا وتَلَقُّفِها جميع ما ألقوا من الحبال والعصي وعلموا أن ذلك ليس بسحر وأنه من فعل الله، فأراد فرعون التمويه عليهم فقال :﴿ إن هذا لَمَكْرٌ مكرتموه في المدينة لتخرجُوا منها أهلها ﴾ يعني تواطأتم عليه مع موسى قبل هذا الوقت حتى إذا اجتمعتم أظهرتم العجز عن معارضته والإيمان به. وكان ذلك مما مَوَّه به على أصحابه. وكذلك الكافر الذي حاجَّ إبراهيم عليه السلام، ولم يَدَعهُ إبراهيم عليه السلام وما رام حتى أتاه بما لم يمكنه دفعه بحال ولا معارضة، فقال : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأْتِ بها من المغرب ! فانقطع وبُهِتَ ولم يمكنه أن يلجأ إلى معارضة أو شبهة.
وفي حجاج إبراهيم عليه السلام بهذا ألْطَفُ دليل وأوضحُ برهان لمن عرف معناه ؛ وذلك أن القوم الذي بُعث فيهم إبراهيم عليه السلام كانوا صابئين عَبَدَةَ أوثان على أسماء الكواكب السبعة، وقد حكى الله عنهم في غير هذا الموضع أنهم كانوا يعبدون الأوثان ولم يكونوا يُقرُّون بالله تعالى، وكانو يَزْعُمُون أن حوادث العالم كلَّها في حركات الكواكب السبعة وأعظمها عندهم الشمس ويسمّونها وسائر الكواكب آلهة والشمس عندهم هو الإله الأعظم الذي ليس فوقه إله، وكانوا لا يعترفون بالباري جلّ وعزّ، وهم لا يختلفون وسائر من يعرف مسير الكواكب أن لها ولسائر الكواكب حركتين متضادّتين : إحداهما من المغرب إلى المشرق وهي حركتها التي تختص بها لنفسها، والأخرى تحريك الفلك لها من المشرق إلى المغرب وبهذه الحركة تدور علينا كل يوم وليلة دورةً، وهذا أمْرٌ مقرَّرٌ عند من يعرف مسيرها ؛ فقال له إبراهيم عليه السلام : إنك تعترف أن الشمس التي تعبدها وتسميها إلهاً لها حركةُ قَسْرٍ ليس هي حركة نفسها بل هي بتحريك غيرها لها يحرِّكها من المشرق إلى المغرب، والذي أدعوك إلى عبادته هو فاعلُ هذه الحركة في الشمس، ولو كانت إلهاً لما كانت مَقْسُورةً ولا مُجْبَرةً. فلم يمكنه عند ذلك دَفْعَ هذا الحِجَاجَ بشُبْهة ولا معارضة إلاّ قوله : حرِّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ! وهاتان الحركتان المتضادتان للشمس ولسائر الكواكب لا تُوجَدَان لها في حال واحدة، لاستحالة وجود ذلك في جسم واحد في وقت واحد، ولكنها لا بد من أن تتخلَّل إحداهما سكونٌ فتوجد الحركة الأخرى في وقت لا توجد فيه الأولى.
قال أبو بكر : فإن قيل : كيف ساغ لإبراهيم عليه السلام الانتقال عن الحِجَاجِ الأول إلى غيره ؟ قيل له : لم ينتقل عنه بل كان ثابتاً عليه، وإنما أرْدَفَهُ بحِجَاجٍ آخر كما أقام الله الدلائل على توحيده من عدّة وجوه وكل ما في السموات والأرض دلائل عليه، وأيّدَّ نبيه صلى الله عليه وسلم بضروب من المعجزات كل واحدة منها لو انفردت لكانت كافية مغنية.
وقد حاجّهم إبراهيم عليه السلام بغير ذلك من الحجاج في قوله تعالى :﴿ وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جَنَّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي ﴾ [ الأنعام : ٧٥ و ٧٦ ] روي في التفسير أنه أراد تقرير قومه على صحة استدلاله وبطلان قولهم، فقال : هذا ربّي، فلما أفل قال : لا أحبّ الآفلين. وكان ذلك في ليلة يجتمعون فيها في هياكلهم وعند أصنامهم عيداً لهم، فقرّرهم ليلاً على أمر الكوكب عند ظهوره وأُفوله وحركته وانتقاله وأنه لا يجوز أن يكون مثله إلهاً لما ظهرت فيه من آيات الحدث، ثم كذلك في القمر، ثم لما أصبح قرّرهم على مثله في الشمس حتى قامت الحجة عليهم، ثم كسر أصنامهم ؛ وكان من أمْرِهِ ما حكاه الله عنه.
وهذه الآية تدلّ على صحة المحاجَّةِ في الدين واستعمال حُجَجِ العقول والاستدلال بدلائل الله تعالى على توحيده وصفاته الحسنى، وتدلّ على أن المحجوج المنقطع يلزمه اتّباع الحجة وترك ما هو عليه من المذهب الذي لا حجة له فيه، وتدلّ على بطلان قول من لا يرى الحجَاجَ في إثبات الدين لأنه لو كان كذلك لما حاجّه إبراهيم عليه السلام، وتدلّ على أن المحجوج عليه أن ينظر فيما أُلزم من الحجاج فإذا لم يجد منه مخرجاً صار إلى ما يلزمه، وتدلّ على أن الحق سبيله أن يقبل بحجته إذْ لا فرق بين الحقّ والباطل إلا بظهور حجة الحق ودَحْضِ حجة الباطل وإلا فلَوْلاَ الحجة التي بان بها الحق من الباطل لكانت الدَّعْوَى موجودة في الجميع فكان لا فرق بينه وبين الباطل، وتدلّ على أن الله تعالى لا يشبهه شيءٌ وأن طريق معرفته ما نَصَبَ من الدلائل على توحيده لأن أنبياء الله عليهم السلام إنما حاجُّوا الكفار بمثل ذلك ولم يَصِفُوا الله تعالى بصفة توجب التشبيه وإنما وصفوه بأفعاله واستدلّوا بها عليه.
قوله عز وجل :﴿ قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام ﴾ قول هذا القائل لم يكن كذباً وقد أماته الله مائة عام، لأنه أخبر عما عنده، فكأنه قال :" عندي أني لبثت يوماً أو بعض يوم ". ونظيره أيضاً ما حكاه الله تعالى عن أصحاب الكهف، قال قائل منهم : كم لبثتم ؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم ! وقد كانوا لبثوا ثلاثمائة وتسع سنين، ولم يكونوا كاذبين فيما أخبروا عما عندهم، كأنهم قالوا :" عندنا في ظنوننا أننا لبثنا يوماً أو بعض يوم ". ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم حين صلَّى ركعتين وسلَّم في إحدى صلاتي العشاء، فقال له ذو اليدين : قُصِرَت الصلاة أم نسيت ؟ فقال :" لم تُقْصَرْ ولم أنْسَ " وكان صلى الله عليه وسلم صادقاً، لأنه أخبر عما عنده في ظنّه، وكان عنده أنه قد أتمها. فهذا كلامٌ سائغٌ جائزٌ غيرُ ملومٍ عليه قائله إذا أخبر عن اعتقاده وظنّه لا عن حقيقة مخبره ؛ ولذلك عفا الله عن الحالف بَلغْوِ اليمين، وهو فيما رُوي قولُ الرجل لمن سأله : هل كان كذا وكذا ؟ فيقول على ما عنده : لا والله ! بلى والله ! وإن اتفق مخبره على خلافه، لأنه إنما أخبر عن عقيدته وضميره ؛ والله الموفق.

باب الامتنان بالصدقة


قال الله تعالى :﴿ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يُتْبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذًى ﴾ الآية، وقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ﴾ وقال تعالى :﴿ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ﴾ وقال تعالى :﴿ وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ﴾ [ الروم : ٣٩ ] أخبر الله تعالى في هذه الآيات أن الصدقات إذا لم تكن خالصةً لله عارية مِنْ مَنٍّ وأذًى فليست بصدقة، لأن إبطالها هو إحباط ثوابها فيكون فيها بمنزلة من لم يتصدق ؛ وكذلك سائر ما يكون سبيله وقوعه على وجه القربة إلى الله تعالى، فغير جائز أن يَشُوبَهُ رِياءٌ ولا وَجْهٌ غير القُرْبة، فإن ذلك يبطله كما قال تعالى :﴿ ولا تبطلوا أعمالكم ﴾ [ محمد : ٣٣ ] وقال تعالى :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ﴾ [ البينة : ٥ ] فما لم يخلص لله تعالى في القرب فغير مثاب عليه فاعله. ونظيره أيضاً قوله تعالى :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ﴾ [ الشورى : ٢٠ ] ومن أجل ذلك قال أصحابنا :" لا يجوز الاستيجار على الحجّ وفعل الصلاة وتعليم القرآن وسائر الأفعال التي شرطها أن تُفعل على وجه القُرْبة، لأن أخْذَ الأجر عليها يخرجها عن أن تكون قربة لدلائل هذه الآيات ونظائرها ". ورَوَى عمرو عن الحسن في قوله تعالى :﴿ ولا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى ﴾ قال : هو المتصدق يمنُّ بها، فنهاه الله عن ذلك وقال : ليحمد الله إذ هداه للصدقة. وعن الحسن في قوله تعالى :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم ﴾ قال :" يتثبتون أين يضعون أموالهم " وعن الشعبي قال :" تصديقاً ويقيناً من أنفسهم ". وقال قتادة :" ثقة من أنفسهم ". والمنُّ في الصدقة أن يقول المتصدقُ : قد أحسنتُ إلى فلان ونَعَشْتُه وأغنيته ؛ فذلك ينغّصها على المتصدق بها عليه، والأذى قوله : أنت أبداً فقيرٌ وقد بُلِيتُ بك وأراحني الله منك ؛ ونظيره من القول الذي فيه تعيير له بالفقر.
فقال تعالى :﴿ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ﴾ يعني والله أعلم : ردّاً جميلاً ومغفرةً قيل فيها ستر الخلّة على السائل، وقيل العفو عمن ظلمه خيرٌ من صدقة يتبعها أذًى ؛ لأنه يستحق المأثم بالمنّ والأذى، وردُّ السائل بقول جميل فيه السلامة من المعصية ؛ فأخبر الله تعالى أن ترك الصدقة بردٍّ جميل خير من صدقة يتبعها أذى وامتنان، وهو نظير قوله تعالى :﴿ وإما تعرضنّ عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً ﴾ [ الإسراء : ٢٨ ] والله تعالى الموفق.

باب المكاسبة


قال الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ﴾. فيه إباحةُ المكاسب وإخبارٌ أن فيها طيّباً والمكاسب وجهان : أحدهما إبدالُ الأموال وإرباحها، والثاني : إبدال المنافع، وقد نصّ الله تعالى على إباحتها في مواضع من كتابه، نحو قوله تعالى :﴿ وأحل الله البيع ﴾ وقوله تعالى :﴿ وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] وقال تعالى :﴿ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ﴾ [ البقرة : ١٩٨ ] يعني، والله أعلم : من يتجر ويكري ويحج مع ذلك. وقال تعالى في إبدال المنافع :﴿ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ﴾ [ الطلاق : ٦ ] وقال شعيب عليه السلام :﴿ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج ﴾ [ القصص : ٢٧ ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنِ اسْتَأجَرَ أجِيراً فلْيُعْلِمْهُ أجْرَهُ " وقال صلى الله عليه وسلم :" لأَنْ يأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلاً فيحْتَطِبَ خَيْرٌ له مِنْ أن يَسْأَلَ النَّاسَ أعْطوه أوْ مَنَعُوه ". وقد رَوى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إنّ أطْيَبَ ما أَكَلَ الرّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وإنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِه ". وقد رُوي عن جماعة من السلف في قوله تعالى :﴿ أنفقوا من طيبات ما كسبتم ﴾ أنه من التجارات، منهم الحسن ومجاهد.
وعمومُ هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال، لأن قوله تعالى :﴿ ما كسبتم ﴾ ينتظمها، وإن كان غير مُكْتَفٍ بنفسه في المقدار الواجب فيها، فهو عمومٌ في أصناف الأموال مجملٌ في المقدار الواجب فيها، فهو مفتقر إلى البيان ؛ ولما ورد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم بذكر مقادير الواجبات فيها صحّ الاحتجاج بعمومها في كل مال اختلفنا في إيجاب الحق فيه، نحو أموال التجارة.
ويحتج بظاهر الآية على من ينفي إيجابَ الزكاة في العُروض، ويُحْتَجُّ به أيضاً في إيجاب صدقة الخيل وفي كل ما اخْتُلِفَ فيه من الأموال، وذلك لأن قوله تعالى :﴿ أنفقوا ﴾ المراد به الصدقة، والدليل عليه قوله تعالى :﴿ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ﴾ يعني : تتصدقون. ولم يختلف السلف والخلف في أن المراد به الصدقة. ومن أهل العلم من قال : إن هذا في صدقة التطوع، لأن الفرض إذا أُخرج عنه الرديُّ كان الفضل باقياً في ذمته حتى يؤدَّى. وهذا عندنا يوجب صرف اللفظ عن الوجوب إلى النفل من وجوه : أحدها أن قوله :﴿ أنفقوا ﴾ أمْرٌ والأمْرُ عندنا على الوجوب حتى تقوم دلالة الندب، وقوله :﴿ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ﴾ لا دلالة فيه على أنه ندب، إذْ لا يختص النهي عن إخراج الرديِّ بالنفل دون الفرض، وإن يجب عليه إخراج فضل ما بين الرديِّ إلى الجيد ؛ لأنه لا ذكر له في الآية، وإنما يعلم ذلك بدلالة أخرى، فلا يعترض ذلك على مقتضى الآية في إيجاب الصدقة. ومع ذلك لو دلّت الدلالة من الآية على أنه ليس عليه إخراج غير الرديّ الذي أخرجه، لم يوجب ذلك صرف حكم الآية عن الإيجاب إلى الندب، لأنه جائز أن يبتدىء الخطاب بالإيجاب ثم يعطف عليه بحكم مخصوص في بعض ما اقتضاه عمومه، ولا يوجب ذلك الاقتصار بحكم ابتداء الخطاب على الخصوص وصَرْفه عن العموم ؛ ولذلك نظائر كثيرة قد بيّناها في مواضع.
وقوله تعالى :﴿ ومما أخرجنا لكم من الأرض ﴾ عمومٌ في إيجابه الحق في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره في سائر الأصناف الخارجة منها. ويُحْتَجّ به لأبي حنيفة رضي الله عنه في إيجابه العُشْرَ في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره في سائر الأصناف الخارجة منها مما تقصد الأرض بزراعتها. ومما يدل مِنْ فَحْوَى الآية على أن المراد بها الصدقات الواجبة قوله تعالى في نسق التلاوة :﴿ ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ﴾ وهذا إنما هو في الديون إذا اقتضاها صاحبها لا يتسامح بالرديّ عن الجيد إلا على إغماض وتساهل، فدلّ ذلك على أن المراد الصدقة الواجبة، والله أعلم، إذْ ردّها إلى الإغماض في اقتضاء الدين، ولو كان تطوعاً لم يكن فيها إغماضٌ، إذْ له أن يتصدق بالقليل والكثير وله أن لا يتصدق ؛ وفي ذلك دليل على أن المراد الصدقة الواجبة.
وأما قوله تعالى :﴿ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ﴾ رَوَى الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال :" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نوعين من التمر : الجعرور ولون الحبيق " قال :" وكان ناسٌ يُخْرِجُون شرَّ ثمارهم في الصدقة فنزلت :﴿ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ﴾ ورُوي عن البراء بن عازب مثل ذلك، قال في قوله تعالى :﴿ ولستم بآخذيه إلاّ أن تغمضوا فيه ﴾ :" لو أن أحدكم أُهْدِيَ إليه مثل ما أعْطَى لما أخذه إلاّ على إغماض وحياء ". وقال عبيدة :" إنما ذلك في الزكاة والدرهم الزائف أحب إليَّ من الثمرة " وعن ابن معقل في هذه الآية قال :" ليس في أموالهم خبيثٌ ولكنه الدرهم القسيّ والزيف ولستم بآخذيه " قال :" لو كان لك على رجل حقّ لم تأخذ الدرهم القسي والزيف ولم تأخذ من الثمر إلا الجيد إلا أن تغمضوا فيه، تجوَّزوا فيه ". وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وهو ما كتبه في كتاب الصدقة وقال فيه :" ولا تُؤْخَذُ هَرَمَةٌ ولا ذاتُ عَوَارٍ " رواه الزهري عن سالم عن أبيه. وقد قيل عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ إلا أن تغمضوا فيه ﴾ " إلا أن تَحُطُّوا من الثمن ". وعن الحسن وقتادة مثله. وقال البراء بن عازب :" إلا أن تتساهلوا فيه ". وقيل :" لستم بآخذيه إلا بوكس فكيف تعطونه في الصدقة ". هذه الوجوه كلها محتملة ؛ وجائز أن يكون جميعها مراد الله تعالى بأنهم لا يقبلونه في الهدية إلا بإغماض ولا يقبضونه من الجيد إلا بتساهل ومسامحة ولا يبيعون بمثله إلا بحطّ ووكس.
وقد اختلف أصحابنا فيمن أدَّى من المكيل والموزون دون الواجب في الصفة، فأدَّى عن الجيد ردياً، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف :" لا يجب عليه أداء الفضل ". وقال محمد :" عليه أن يؤدي الفضل الذي بينهما ". وقالوا جميعاً في الغنم والبقر وجميع الصدقات مما لا يكال ولا يوزن :" إن عليه أداء الفضل ". فيجوز أن يُحتج لمحمد بهذه الآية، وقوله تعالى :﴿ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ﴾ والمراد به الرديُّ منه ؛ وقوله تعالى :﴿ ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ﴾ ولصاحب الحق أن لا يغمض فيه ولا يتساهل ويطالب بحقه من الجودة، فهذا يدل على أن عليه أداء الفضل حتى لا يقع فيه إغماضٌ، لأن الحق في ذلك لله تعالى وقد نَفَى الإغماضَ في الصدقة بنهيه عن إعطاء الرديّ فيها. وأما أبو حنيفة وأبو يوسف فإنهما قالا :" كل ما لا يجوز التفاضل فيه فإن الجيد والرديّ حكمهما سواء في حظر التفاضل بينهما، وإن قيمته من جنسه لا يكون إلاّ بمثله، ألا ترى أنه لو اقتضى ديناً على أنه جيد فأنفقه ثم علم أنه كان رديّاً أنه لا يرجع على الغريم بشيء وأن ما بينهما من الفضل لا يغرمه ؟ " وإنما يقول أبو يوسف فيه :" إنه يغرم مثل ما قبض من الغريم ويرجع بدينه " وغير ممكن مثله في الصدقة، لأن الفقير لا يغرم شيئاً، فلو غرمه لم تكن مطالبة المتصدق بردّ الجيد عليه، فلذلك لم يلزمه إعطاء الفضل. وإنما نهى الله تعالى المتصدق عن قصد الرديِّ بالإخراج وقد وجب عليه إخراج الجيد، فإنهم يقولون إنه منهيٌّ عنه، ولكن لما كان حكم ما أعْطَى حكم الجيد فيما وصفنا أجزأ عنه ؛ وأما ما يجوز فيه التفاضل فإنه مأمورٌ بإخراج الفضل فيه، لأنه جائز أن تكون قيمته من جنسه أكثر منه ويباع بعضه ببعض متفاضلاً. وأما محمد فإنه لم يُجِزْ إخراجَ الرديِّ من الجيد إلا بمقدار قيمته منه، فأوجب عليه إخراج الفضل إذْ ليس بين العبد وبين سيده رباً.
وفي هذه الآية دلالة على جواز اقتضاء الرديِّ عن الجيد في سائر الديون، لأن الله تعالى أجاز الإغماض في الديون بقوله تعالى :﴿ إلا أن تغمضوا فيه ﴾ ولم يفرق بين شيء منه، فدلّ ذلك على معانٍ : منها جواز اقتضاء الزيوف التي أقلها غشّ وأكثرها فضة عن الجياد في رأس مال السلم وثمن الصرف اللذين لا يجوز أن يأخذ عنهما غيرهما، ودلّ على أن حكم الرديِّ في ذلك حكم الجيد، وهذا يدلّ أيضاً على جواز بيع الفضة الجيدة بالردية وزناً بوزن لأن ما جاز اقتضاء بعضه عن بعض جاز بيعه به ؛ ويدلّ على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم :" الذَّهَبُ بالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ " إنما أراد المماثلة في الوزن لا في الصفة، وكذلك سائر ما ذكره معه ؛ ويدلّ على جواز اقتضاء الجيد عن الرديِّ برضا الغريم كما جاز اقتضاء الرديّ عن الجيد، إذْ لم يكن لاختلافهما في الصفة حُكْمٌ ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :" خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاء " قال جابر بن عبدالله :" قضاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وزادني ". ورُوي عن ابن عمر والحسن وسعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي قالوا :" لا بأس إذا أقرضه دراهم سُوداً أن يقبضه بيضاً إذا لم يشترط ذلك عليه ". ورَوَى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود " أنه كان يكره إذا أقرض دراهم أن يأخذ خيراً منها ". وهذا ليس فيه دلالة على أنه كرهه إذا رَضِيَ المستقرض، وإنما لا يجوز له أن يأخذ خيراً منها إذا لم يَرْضَ صاحبه.
قوله تعالى :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ﴾ قد قيل إن الفحشاء تقع على وجوه، والمراد بها في هذا الموضع البخل. والعرب تسمِّي البخيلَ فاحشاً والبُخْلَ فُحْشاً وفحشاء ؛ قال الشاعر :
* أرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ ويَصْطَفي * عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحِشِ المُتَشَدِّدِ *
يعني : مال البخيل : وفي هذه الآية ذم البخيل والبُخْل.
قوله عز وجل :﴿ إن تبدوا الصدقات فنِعِمَّا هي ﴾ الآية. رُوي عن ابن عباس أنه قال :" هذا في صدقة التطوع، فأما في الفريضة فإظهارها أفضل لئلا تلحقه تُهمَةٌ ". وعن الحسن ويزيد بن أبي حبيب وقتادة :" الإخفاء في جميع الصدقات أفضل ". وقد مدح الله تعالى على إظهار الصدقة كما مدح على إخفائها في قوله تعالى :﴿ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ وجائز أن يكون قوله تعالى :﴿ وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ﴾ في صدقة التطوع، على ما رُوي عن ابن عباس، وجائز أن يكون في جميع الصدقات الموكول أداؤها إلى أربابها من نفل أو فرض دون ما كان منها أخذه إلى الإمام. إلا أن عموم اللفظ يقتضي جميعها، لأن الألف واللام هنا للجنس فهي شاملة لجميعها. وهذا يدلّ على أن جميع الصدقات مصروفة إلى الفقراء، وأنها إنما تستحق بالفقر لا غير، وأن ما ذكر الله تعالى من أصناف من تُصْرَفُ إليهم الصدقة في قوله تعالى :﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين ﴾ [ التوبة : ٦٠ ] إنما يستحق منهم من يأخذها صدقة بالفقر دون غيره، وإنما ذكر الأصناف لما يعمّهم من أسباب الفقر دون من لا يأخذها صدقة من المؤلَّفة قلوبهم والعاملين عليها، فإنهم لا يأخذونها صدقة وإنما تحصل في يد الإمام صدقة للفقراء ثم يصرف إلى المؤلفة قلوبهم والعاملين ما يعطون على أنه ليس بصدقة لكن عوضاً من العمل ولدفع أذِيَّتهم عن أهل الإسلام أو ليُسْتَمالوا به إلى الإيمان.
ومن المخالفين من يحتجّ بذلك في جواز إعطاء جميع الصدقات للفقراء دون الإمام، وأنهم إذا أعْطوا الفقراء صدقة المواشي سقط حقُّ الإمام في الأخذ لقوله تعالى :﴿ وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ﴾ وذلك عامّ في سائرها، لأن الصدقة ههنا اسم للجنس. وليس في هذا عندنا دلالة على ما ذكروا ؛ لأن أكثر ما فيه أنه خَيْرٌ للمعطي فليس فيه سقوط حق الإمام في الأخذ ؛ وليس كونها خيراً نافياً لثبوت حق الإمام في الأخذ، إذْ لا يمتنع أن يكون خيراً لهم ويأخذها الإمام فيتضاعف الخير بأخذها ثانياً. وقد قدمنا قول من يقول إن هذا في صدقة التطوع. ومن أهل العلم من يقول إن الإجماع قد حصل على أن إظهار صدقة الفرض أوْلى من إخفائها، كما قالوا في الصلوات المفروضة، ولذلك أمروا بالاجتماع عليها في الجماعات بأذان وإقامة وليصلّوها ظاهرين، فكذلك سائر الفروض لئلا يقيم نفسه مقام تُهَمَةٍ في ترك أداء الزكاة وفعل الصلاة. قالوا : فهذا يوجب أن يكون قوله تعالى :﴿ وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ﴾ في التطوع خاصة، لأن سَتْرَ الطاعات النوافل أفضلُ من إظهارها لأنه أبعد من الرياء. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله في ظِلِّ عَرْشِهِ : أحَدُهُم رَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ لم تَعْلَمُ شمالُهُ ما تَصَدَّقَتْ به يَمِينُهُ " وهذا إنما هو في التطوع دون الفرض. ويدل على أن المراد صدقة التطوع أنه لا خلاف أن العامل إذا جاء قبل أن تؤدَّى صدقة المواشي فطالبه بأدائها أن الفرض عليه أداؤها إليه، فصار إظهارُ أدائها في هذه الحال فَرْضاً، وفي ذلك دليل على أن المراد بقوله تعالى :﴿ وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء ﴾ صدقة التطوع. والله تعالى أعلم بالصواب.

باب إعطاء المشرك من الصدقة


قال الله تعالى :﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ﴾. قال أبو بكر : ما تقدم في هذا الخطاب وما جاء في نسقه يدلّ على أن قوله تعالى :﴿ ليس عليك هداهم ﴾ إنما معناه في الصدقة عليهم، لأنه ابتدأ الخطاب بقوله تعالى :﴿ إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي ﴾ ثم عطف عليه قوله تعالى :﴿ ليس عليك هداهم ﴾ ثم عقب ذلك بقوله تعالى :﴿ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ﴾ فدلّ ما تقدم من الخطاب في ذلك وتأخر عنه من ذكر الصدقات أن المراد إباحة الصدقة عليهم وإن لم يكونوا على دين الإسلام. وقد رُوي ذلك عن جماعة من السلف رُوي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تَصَدَّقُّوا إلاّ على أهل دينكم " فأنزل الله :﴿ ليس عليك هداهم ﴾ فقال صلى الله عليه وسلم :" تَصَدَّقُّوا على أهْلِ الأدْيان ". وروى الحجّاج عن سالم المكي عن ابن الحنفية قال :" كره الناس أن يتصدقوا على المشركين، فأنزل الله :﴿ ليس عليك هداهم ﴾ فتصدق الناس عليهم من غير الفريضة ". قال أبو بكر : لا ندري هذا من كلام من هو، أعني قوله " فتصدق الناس عليهم من غير الفريضة " وجائز أن يريد به من غير الزكاة وصدقات المواشي دون كفارات الأيمان ونحوها، وأيضاً قوله " فتصدق الناس عليهم من غير الفريضة " لا يوجب تخصيص الآية، لأن فعلهم لا يقتضي الوجوب، ومع ذلك فهم مخيَّرون بين أن يتصدقوا عليهم وبين أن لا يتصدقوا. وروى الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :" كان ناسٌ لهم أنسابٌ وقرابةٌ من قريظة والنضير، فكانوا يتّقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم على الإسلام، فنزلت :﴿ ليس عليك هداهم ﴾ إلى آخر الآية ". وروى هشام بن عروة عن أبيه عن أمه أسماء قالت : أتتني أمي في عهد قريش راغبة وهي مشركة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أصلها ؟ قال :" نعم ".
قال أبو بكر : ونظير هذه الآية في دلالتها على ما دلّت عليه قوله تعالى :﴿ ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ﴾ [ الإنسان : ٨ ] فرُوي عن الحسن قال :" هم الأسراءُ من أهل الشرك ". ورُوي عن سعيد بن جبير وعطاء قالا :" هم أهل القبلة وغيرهم ". قال أبو بكر : الأوّل أظهر، لأن الأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركاً. ونظيرها أيضاً قوله تعالى :﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم ﴾ [ الممتحنة : ٨ ] إلى أخر القصة، فأباح برَّهُمْ وإن كانوا مشركين إذا لم يكونوا أهل حرب لنا، والصدقات من البرّ، فاقتضى جواز دفع الصدقات إليهم. وظواهر هذه الآي توجب جواز دفع سائرها إليهم، إلاّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خَصَّ منها الزكوات وصدقات المواشي وكل ما كان أخذه من الصدقات إلى الإمام بقوله :" أُمِرْتُ أنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنَ أغْنِيَائِكُمْ وأَرُدَّها في فُقَرَائِكُمْ " وقال لمعاذٍ " أعْلَمِهِم أن الله فَرَضَ عليهم حَقّاً في أموالهم يُؤْخَذُ مِنْ أغنيائهم ويُرَدُّ على فقرائهم " فكانت الصدقات التي أخذها إلى الإمام مخصوصة من هذه الجملة، فلذلك قال أبو حنيفة :" كل صدقة ليس أخْذُها إلى الإمام فجائزٌ إعطاؤها أهْلَ الذمة، وما كان أَخْذُها إلى الإمام لا يُعطَى أهْلُ الذمة " فيجيز إعطاء الكفارات والنذور وصدقة الفطر أهْلَ الذمة.
فإن قيل : فزكاة المال ليس أخذها إلى الإمام ولا يجوز أن تُعْطَى أهْلَ الذمة ؟ قيل : أخذها في الأصل إلى الإمام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذها، وكذلك أبو بكر وعمر، فلما كان عثمان قال للناس :" إن هذا شَهْرُ زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤدّه ثم ليزكِّ بقية ماله " فجعل أرباب الأموال وكلاءَ له في أدائها ولم يُسْقِطْ في ذلك حقَّ الإمام في أخْذِها. وقال أبو يوسف :" كل صدقة واجبة فغير جائز دفعها إلى الكفار " قياساً على الزكاة.
قوله تعالى :﴿ للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض ﴾ الآية. يعني، والله أعلم : النفقة المذكورة بديّاً، والمراد بها الصدقة. ورُوي عن مجاهد والسدي :" المراد فقراء المهاجرين ". وقوله تعالى :﴿ أحصروا في سبيل الله ﴾ قيل إنهم منعوا أنفسهم التصرُّف في التجارة خوف العدوّ من الكفار ؛ رُوي ذلك عن قتادة، لأن الإحصار منع النفس عن التصرف لمرض أو حاجة أو مخافة، فإذا منعه العدو قيل أحْصَرَهُ.
وقوله تعالى :﴿ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ﴾ يعني والله أعلم : الجاهل بحالهم ؛ وهذا يدلّ على أن ظاهر هيئتهم وبزتهم يشبه حال الأغنياء، ولولا ذلك لما ظنهم الجاهل أغنياء ؛ لأن ما يظهر من دلالة الفقر شيئان : أحدهما بذاذة الهيئة ورثاثة الحال، والآخر : المسألة ؛ على أنه فقير فليس يكاد يحسبهم الجاهل أغنياء إلا لما يظهر له من حسن البزة الدالة على الغِنَى في الظاهر.
وفي هذه الآية دلالة على أن من له ثياب الكسوة ذات قيمة كثيرة لا تمنعه إعطاء الزكاة، لأن الله تعالى قد أمَرَنا بإعطاء الزكاة مَنْ ظاهر حاله مُشْبِهٌ لأحوال الأغنياء. ويدلّ على أن الصحيح الجسم جائز أن يُعْطَى من الزكاة، لأن الله تعالى أمر بإعطاء هؤلاء القوم، وكانوا من المهاجرين الذين كانوا يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم المشركين ولم يكونوا مَرْضَى ولا عُمياناً.
وقوله عز وجل :﴿ تعرفهم بسيماهم ﴾ فإن السِّيما العلامة. قال مجاهد :" المراد به هنا التخشع ". وقال السدي والربيع بن أنس :" هو علامة الفقر " وقال الله تعالى :﴿ سيماهم في وجوههم من أثر السجود ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] يعني علامتهم. فجائز أن تكون العلامة المذكورة في قوله تعالى :﴿ تعرفهم بسيماهم ﴾ ما يظهر في وجه الإنسان من كسوف البال وسوء الحال، وإن كانت بزتهم وثيابهم وظاهر هيئتهم حسنة جميلة ؛ وجائز أن يكون الله تعالى قد جَعَل لنبيه عَلَماً يستدلّ به إذا رآهم عليه على فقرهم ؛ وإن كنا لا نعرف ذلك منهم إلا بظهور المسألة منهم أو بما يظهر من بذاذة هيئتهم.
وهذا يدلّ على أن لما يظهر من السِّيما حظّاً في اعتبار حال من يظهر ذلك عليه. وقد اعتبر أصحابنا ذلك في الميت في دار الإسلام أو في دار الحرب إذا لم يُعْرَفْ أمره قبل ذلك في إسلام أو كفر، أنه ينظر إلى سِيمَاه فإن كانت عليه سِيما أهل الكفر من شَدِّ زُنَّار أو عدم خِتان وتَرْكِ الشعر على حسب ما يفعله رهبان النصارى، حُكِمَ له بحكم الكفار ولم يدفَنْ في مقابر المسلمين ولم يصلَّ عليه، وإن كان عليه سيما أهل الإسلام حُكِمَ له بحكم المسلمين في الصلاة والدفْنِ وإن لم يظهر عليه شيء من ذلك ؛ فإن كان في مِصْرٍ من الأمصار التي للمسلمين فهو مسلم، وإن كان في دار الحرب فمحكوم له بحكم الكفر ؛ فجعلوا اعتبار سيماه بنفسه أوْلى منه بموضعه الموجود فيه، فإذا عدمنا السِّيما حَكَمْنا له بحكم أهل الموضع ؛ وكذلك اعتبروا في اللقيط. ونظيرُهُ أيضاً قوله تعالى :﴿ إن كان قميصه قُدَّ من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قُدَّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين ﴾ [ يوسف : ٢٦و ٢٧ ] فاعتبر العلامة ؛ ومن نحوه قوله تعالى :﴿ ولتعرفنهم في لَحْن القول ﴾ [ محمد : ٣٠ ] وإخوة يوسف عليه السلام لَطَّخوا قميصه بدمٍ وجعلوه علامة لصدقهم، قال الله تعالى :﴿ وجاؤوا على قميصه بدم كذب ﴾ [ يوسف : ١٨ ].
وقوله تعالى :﴿ لا يسألون الناس إلحافاً ﴾ يعني والله أعلم : إلحاحاً وإدامةً للمسألة ؛ لأن الإلحاف في المسألة هو الاستقصاء فيها وإدامتها، وهذا يدل على كراهة الإلحاف في المسألة.
فإن قيل : فإنما قال الله عز وجل :﴿ لا يسألون الناس إلحافاً ﴾ فنفى عنهم الإلحاف في المسألة ولم يَنْفِ عنهم المسألة رأساً ؟ قيل له : في فحوى الآية ومضمون المخاطبة ما يدلّ على نَفْي المسألة رأساً، وهو قوله تعالى :﴿ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ﴾ فلو كانوا أظهروا المسألة وإن لم تكن إلحافاً لما حسبهم أحدٌ أغنياء، وكذلك قوله تعالى :﴿ من التعفف ﴾ لأن التعفُّفَ هو القناعة وترك المسألة، فدلّ ذلك على وصفهم بترك المسألة أصلاً. ويدل على أن التعفف هو ترك المسألة قولُ النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنِ اسْتَغْنَى أغْنَاهُ الله ومَنِ اسْتَعَفَّ أعَفَّه الله ". وإذا ثبت بما ذكرنا من دلالة الآي أن ثياب الكسوة لا تمنع أخذ الزكاة وإن كانت سَرِيَّةً وجب أن يكون كذلك حكم المسكن والأثاث والفرس والخادم لعموم الحاجة إليه، فإذا كانت الحاجة إلى هذه الأشياء حاجة ماسَّة فهو غير غنيّ بها لأن الغِنى هو ما فضل عن مقدار الحاجة.
واختلف الفقهاء في مقدار ما يصير به غنياً، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر :" إذا فضل عن مسكنه وكسوته وأثاثه وخادمه وفرسه ما يساوي مائتي درهم لم تحلّ له الزكاة، وإن كان أقل من مائتي درهم حلت له الزكاة ". وقال مالك في رواية ابن القاسم :" يعْطَى من الزكاة من له أربعون درهماً ". ورَوَى غيره عن مالك " أنه لا يُعْطَى من له أربعون درهماً ". وقال الثوري والحسن بن صالح :" لا يأخذ الزكاة من له خمسون درهماً ". وقال عبيدالله بن الحسن :" من لا يكون عنده ما يَقُوتُه أو يكفيه سنةً فإنه يُعْطَى من الصدقة ". وقال الشافعي :" يُعْطَى الرجلُ على قدر حاجته حتى يخرجه ذلك من حدّ الفقر إلى الغنى كان ذلك تجب فيه الزكاة أو لا تجب، ولا أحُدّ في ذلك حَداً " ذكره المزني والربيع ؛ وحُكي عنه أنها لا تحل للقوي المكتسب وإن كان فقيراً.
والدليل على صحة ما ذكرنا من اعتبار مائتي درهم فاضلاً عما يحتاج إليه ما رَوَى عبدالحميد بن جعفر عن أبيه عن رجل من مُزَيْنة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول :" مَنِ اسْتَغْنَى أغْنَاهُ الله ومَنِ اسْتَعَفَّ أعَفَّه الله ومن سَألَ النّاسَ ولَهُ عِدْلُ خَمْسِ أواقٍ سأل إلحافاً " فدلّ ذكره لهذا المقدار أنه هو الذي يخرج به من حد الفقر إلى الغَنى ويوجب تحريم المسألة. ويدلّ عليه أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم :" أُمِرْتُ أن آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أغْنِيَائِكُمْ فأرُدَّها على فُقَرَائِكُمْ " ثم قال :" في مائتي دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ولَيْسَ فيما دُونَها شيءٌ " فجعل حدَّ الغنى مائتي درهم، فوجب اعتبارها دون غيرها ؛ ودلّ أيضاً على أن الذي لا يملك هذا القدر يُعْطَى من الزكاة، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الناس صنْفَين : أغنياء وفقراء، فجعل الغَنيَّ من ملك هذا المقدار وأمر بأخذ الزكاة منه، وجعل الفقير الذي يُرَدُّ عليه هو الذي لا يملك هذا القدر. وقد رَوَى أبو كبشة السلوليّ عن سهل ابن الحنظلية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فإنّما يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ " قلت يا رسول الله ما ظهر غناه ؟ قال :" أنْ يَعْلَمَ أنّ عِنْدَ أهْلِهِ ما يُغَدِّيهم ويُعَشّيهم ". وروى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وسمعته يقول لرجل :" مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وعِنْدَهُ أوقِيَّةٌ أو عِدْلُها فَقَدْ سأل إلحافاً " والأوقية يومئذ أربعون درهماً. ورَوَى محمد بن عبدالرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يسألُ عَبْدٌ مَسْأَلَةً وله ما يُغْنِيهِ إلا جَاءَتْ شَيْناً أو كُدُوحاً أو خُدُوشاً في وَجْهِهِ يَوْمَ القيامة " قيل : يا رسول الله وما غناه : قال :" خمسون دِرْهَماً أو حِسَابُها مِنَ الذّهَبِ " وهذه واردة في كراهة المسألة، ولا دلالة فيها على تحريم الصدقة عليه ؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحبّ ترك المسألة لمن يملك ما يغذّيه أو يعشّيه، إذ قد كان هناك من فقراء المسلمين وأهل الصُّفَّةِ من لا يقدر على غداء ولا عشاء، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم لمن يملك هذا القدر الاقتصار على ما يملكه والتعفّف بترك المسألة ليصل ذلك إلى من هو أحْوَجُ منه إليه لا على وجه التحريم. ولما اتّفق الجميع على أن سبيل استباحة الصدقة ليست سبيل الضرورة إلى الميْتة، إذْ كانت المَيْتة لا تحلّ إلا عند الخوف على النفس والصدقة تحلّ بإجماع المسلمين لمن احتاج ولم يخف الموت إذا لم يكن عنده شيء، فوجب أن يكون المبيح لها الفقر. وأيضاً لما كانت هذه الأخبارُ مختلفاً في استعمال حكمها وهي في نفسها مختلفة، واتّفق الجميع على استعمال الخبر الذي رَوَيْنا في مائتي درهم وتحريم الصدقة معها، وجب أن يكون ثابت الحكم، وما عداه إما أن يكون على وجه الكراهة للمسألة أو منسوخة بخبرنا إن كان المراد بها تحريم الصدقة.

باب الرِّبا


قال الله تعالى :﴿ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المَسّ ﴾ إلى قوله :﴿ وأحلّ الله البيع وحرم الربا ﴾ وقال أبو بكر : أصل الربا في اللغة هو الزيادة، ومنه الرابية لزيادتها على ما حواليها من الأرض، ومنه الرَّبْوَة من الأرض وهي المرتفعة، ومنه قولهم " أرْبَى فلان على فلانٍ في القول أو الفعل " إذا زاد عليه. وهو في الشرع يَقَعُ على معانٍ لم يكن الاسم موضوعاً لها في اللغة ؛ ويدلّ عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سَمَّى النَّسَاءَ رِباً في حديث أسامة بن زيد، فقال :" إنما الرِّبَا في النَّسَيئة ". وقال عمر بن الخطاب :" إن مِنَ الربا أبواباً لا تخفى منها السلم في السن " يعني الحيوان. وقال عمر أيضاً :" إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قُبِضَ قبل أن يبينه لنا، فدعوا الربا والريبة "، فثبت بذلك أن الربا قد صار اسماً شرعيّاً : لأنه لو كان باقياً على حكمه في أصل اللغة لما خَفِيَ على عمر، لأنه كان عالماً بأسماء اللغة لأنه من أهلها. ويدلّ عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نَساءً رِباً وهو ربا في الشرع، وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المُجْمَلَة المفتقرة إلى البيان، وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعانٍ لم يكن الاسمُ موضوعاً لها في اللغة، نحو الصلاة والصوم والزكاة ؛ فهو مفتقر إلى البيان، ولا يصحّ الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود إلا فيما قامت دلالته أنه مسمَّى في الشرع بذلك. وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من مراد الله بالآية نصّاً وتوقيفاً، ومنه ما بينه دليلاً، فلم يَخْلُ مرادُ الله من أن يكون معلوماً عند أهل العلم بالتوقيف والاستدلال.
والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به، ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد وإذا كان متفاضلاً من جنس واحد. هذا كان المتعارف المشهور بينهم، ولذلك قال الله تعالى :﴿ وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ﴾ [ الروم : ٣٩ ] فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت رِباً في المال العين لأنه لا عِوَضَ لها من جهة المقرض. وقال تعالى :﴿ لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة ﴾ [ آل عمران : ١٣٠ ] إخباراً عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط الزيادة أضعافاً مضاعفة ؛ فأبطل الله تعالى الربا الذي كانوا يتعاملون به وأبطل ضروباً أُخَرَ من البِيَاعَاتِ وسمّاها رِباً، فانتظم قوله تعالى :﴿ وحرَّم الربا ﴾ تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قَرْضِ دراهم أو دنانير إلى أجلٍ مع شرط الزيادة.
واسم الربا في الشرع يَعْتَوِرُهُ معانٍ : أحدها الربا الذي كان عليه أهل الجاهلية، والثاني : التفاضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون على قول أصحابنا، ومالك بن أنس يعتبر مع الجنس أن يكون مُقْتاتاً مُدَّخَراً، والشافعي يعتبر الأكل مع الجنس ؛ فصار الجنسُ معتبراً عند الجميع فيما يتعلق به من تحريم التفاضل عند انضمام غيره إليه على ما قدمنا. والثالث : النَّسَاءُ، وهو على ضروب : منها في الجنس الواحد من كل شيء لا يجوز بيع بعضه ببعض نَسَاءٌ سواء كان من المكيل أو من الموزون أو من غيره، فلا يجوز عندنا بيع ثوب مرويّ بثوب مرويّ نَسَاءً لوجود الجنس ؛ ومنها : وجود المعنى المضموم إليه الجنس في شرط تحريم التفاضل وهو الكيل والوزن في غير الأثمان التي هي الدراهم والدنانير، فلو باع حنطة بجصٍّ نَسَاءً لم يَجُزْ لوجود الكيل، ولو باع حَدِيداً بصُفْرٍ نَسَاءً لم يجز لوجود الوزن. والله تعالى الموفق.
ومن أبواب الربا الشرعي السَّلَمُ في الحيوان
قال عمر رضي الله عنه :" إن من الربا أبواباً لا تَخْفَى منها السَّلَمُ في السن " ولم تكن العرب تعرف ذلك رِباً، فعُلِمَ أنه قال ذلك توقيفاً. فجملة ما اشتمل عليه اسم الربا في الشرع النَّسَاءُ والتفاضلُ على شرائط قد تقرر معرفتها عند الفقهاء. والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :" الحِنْطَةُ بالحِنْطَةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدَاً بيَدٍ والفَضْلُ رِباً، والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ مِثْلاً بِمثْلٍ يداً بيَدٍ والفَضْلُ رِبا " وذكر التمر الملح والذهب والفضة، فسمَّى الفضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون رباً. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد الذي رواه عنه عبدالرحمن بن عباس :" إنما الرِّبا في النسيئة " وفي بعض الألفاظ :" لا رِبا إلاّ في النسيئة " فثبت أن اسم الربا في الشرع يقع على التفاضل تارة وعلى النَّسَاءِ أخرى. وقد كان ابن عباس يقول :" لا ربا إلا في النسيئة "، ويجوز بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلاً " ويذهب فيه إلى حديث أسامة بن زيد، ثم لما تواتر عنده الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم التفاضل في الأصناف الستّة رجع عن قوله. قال جابر بن زيد : رجع ابن عباس عن قوله في الصَّرْف وعن قوله في المتعة. وإنما معنى حديث أسامة النَّسَاءُ في الجنسين، كما رُوي في حديث عبادة بن الصامت وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" الحنطة بالحنطة مثلاً بمثل يداً بيد " وذَكَرَ الأصنافَ الستة، ثم قال :" بِيعُوا الحِنْطَةَ بالشّعِير كَيْفَ شِئْتُمْ يداً بيَدٍ ". وفي بعض الأخبار :" وإذا اخْتَلَفَ النّوْعَانِ فَبيعُوا كيف شِئتم يداً بيد " فمنع النساء في الجنسين من المكيل والموزون وأباح التفاضل ؛ فحديث أسامة بن زيد محمول على هذا.
ومن الربا المراد بالآية شِرَى ما يباع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن ؛ والدليل على أن ذلك رِباً حديثُ يونس بن إسحاق عن أبيه عن أبي العالية قال : كنت عند عائشة فقالت لها امرأة : إني بعت زيد بن أرقم جارية لي إلى عطائه بثمانِ مائة درهم وإنه أراد أن يبيعها فاشتريتها منه بستمائة ؟ فقالت : بئسما شريت وبئسما اشتريت ! أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جِهَادَهُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنْ لم يَتُبْ. فقالت : يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي ؟ فقالت :﴿ فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ﴾ فدلّت تلاوتها لأية الربا عند قولها " أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي " أن ذلك كان عندها من الربا، وهذه التسمية طريقها التوقيف. وقد رَوَى ابن المبارك عن حكم بن زريق عن سعيد بن المسيب قال : سألته عن رجل باع طعاماً من رجل إلى أجلٍ فأراد الذي اشترى الطعام أن يبيعه بنَقْدٍ من الذي باعه منه ؟ فقال : هو ربا. ومعلوم أنه أراد شراءه بأقلّ من الثمن الأول، إذْ لا خلاف أن شراءه بمثله أو أكثر منه جائزٌ، فسمَّى سعيد بن المسيب ذلك رِباً. وقد رُوي النهيُ عن ذلك عن ابن عباس والقاسم بن محمد ومجاهد وإبراهيم والشعبي. وقال الحسن وابن سيرين في آخَرِين :" إن باعه بنقد جاز أن يشتريه، فإن كان باعه بنسيئة لم يشتره بأقل منه إلاّ بعد أن يحلَّ الأجلُ ". ورُوي عن ابن عمر أنه إذا باعه ثم اشتراه بأقلّ من ثمنه جاز ؛ ولم يذكر فيه قبض الثمن ؛ وجائز أن يكون مراده إذا قبض الثمن. فدلّ قول عائشة وسعيد بن المسيب أن ذلك ربا، فعلمنا أنهما لم يسمِّياه رباً إلا توقيفاً، إذْ لا يُعرف ذلك اسماً له من طريق اللغة فلا يسمَّى به إلاّ من طريق الشرع، وأسماء الشرع توقيفٌ من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ والله تعالى أعلم بالصواب.
ومن أبواب الربا الدَّيْنُ بالدَّيْنِ
وقد روى موسى بن عبيدة، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه نَهَى عن الكالىء بالكالىء " وفي بعض الألفاظ :" عن الدَّيْن بالدَّين " وهما سواء. وقال في حديث أسامة بن زيد :" إنما الرِّبا في النسيئة " إلا أنه في العقد عن الدَّيْن بالدَّيْنْ وأنه معفو عنه بمقدار المجلس، لأنه جائز له أن يسلم دراهم في كرِّ حنطة وهما دَيْنٌ بدْينٍ، إلا أنهما إذا افترقا قبل قبض الدراهم بطل العقد، وكذلك بيع الدراهم بالدنانير جائزٌ وهما دينان، وإن افترقا قبل التقابض بَطُلَ.
ومن أبواب الربا الذي تضمنت الآية تحريمه
الرجل يكون عليه ألف درهم دَيْن مؤجَّل فيصالحه منه على خمس مائة حَالَّةٍ فلا يجوز. وقد رَوَى سفيان عن حميد عن ميسرة قال : سألت ابن عمر : يكون لي على الرجل الدين إلى أجلٍ فاقول عَجِّلْ لي وأضع عنك ؟ فقال :" هو رِباً ". ورُوي عن زيد بن ثابت أيضاً النهيُ عن ذلك. وهو قول سعيد بن جبير والشعبي والحكم. وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء. وقال ابن عباس وإبراهيم النخعي :" لا بأس بذلك ".
والذي يدلّ على بطلان ذلك شيئان : أحدهما تسمية ابن عمر إياه رباً، وقد بينا أن أسماء الشرع توقيفٌ. والثاني : أنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضاً مؤجلاً بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلاً من الأجل، فأبطله الله تعالى وحرمه وقال :﴿ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ﴾ وقال تعالى :﴿ وذروا ما بقي من الربا ﴾ حظر أن يُؤخذ للأجل عِوَض، فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجَّلة فوضع عنه على أن يعجله فإنما جعل الحَطَّ بحذاء الأجل، فكان هذا هو معنى الربا الذي نصَّ الله تعالى على تحريمه. ولا خلاف أنه لو كان عليه ألف درهم حالَّةٌ فقال له : أجِّلْني وأزيدك فيها مائة درهم ؛ لا يجوز لأن المائة عِوَضٌ من الأجل، كذلك الحَطُّ في معنى الزيادة إذْ جعله عِوَضاً من الأجل. وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الأبدال عن الآجال ؛ ولذلك قال أبو حنيفة فيمن دفع إلى خياط ثوباً فقال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم :" إن الشرط الثاني باطلٌ فإن خاطه غداً فله أجر مثله لأنه جعل الحطَّ بحذاء الأجل، والعمل في الوقتين على صفة واحدة " فلم يُجزْهُ لأنه بمنزلة بيع الأجل على النحو الذي بيناه. ومن أجاز من السلف إذا قال " عجِّلْ لي وأضع عنك " فجائز أن يكون أجازوه إذا لم يجعله شرطاً فيه، وذلك بأن يضع عنه بغير شرط ويعجل الآخر الباقي بغير شرط ؛ وقد ذكرنا الدلالة على أن التفاضل قد يكون رِباً على حسب ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأصناف الستة، وأن النَّسَاءَ قد يكون رِباً في البيع بقوله صلى الله عليه وسلم :" وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " وقوله :" إنما الربا في النسيئة " وأن السلم في الحيوان قد يكون رباً بقوله :" إنما الربا في النسيئة " وقوله :" إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " وتسمية عمر إياه رباً وشِرىً ما بيع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن لما بَيَّنَّا، وشرط التعجيل مع الحطّ.
وقد اتفق الفقهاء على تحريم التفاضل في الأصناف الستّة التي ورد بها الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة، وهو عندنا في حَيِّز التواتر لكثرة رواته واتّفاق الفقهاء على استعماله. واتّفقوا أيضاً في أن مضمون هذا النصّ معنيٌّ به تعلقُ الحكم يجب اعتباره في غيره، واختلفوا فيه بعد اتفاقهم على اعتبار الجنس على الوجوه التي ذكرنا فيما سلف
قوله عز وجل :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ﴾ قال أبو بكر : يحتمل ذلك معنيين، أحدهما : إن لم تقبلوا أمر الله تعالى ولم تنقادُوا له، والثاني : إن لم تَذَرُوا ما بقي من الربا بعد نزول الأمر بتركه فأذنوا بحرب من الله ورسوله وأن اعْتَقِدُوا تحريمه. وقد رُوي عن ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس فيمن أرْبَى " إن الإمامَ يستتيبه "، فإن تاب وإلاّ قتله " وهذا محمول على أن يفعله مستحلاًّ له، لأنه لا خلاف بين أهل العلم أنه ليس بكافر إذا اعتقد تحريمه. وقوله تعالى :﴿ فأذنوا بحرب من الله ورسوله ﴾ لا يوجب إكفارهم، لأن ذلك قد يُطلق على ما دون الكفر من المعاصي ؛ قال زيد بن أسلم عن أبيه : إن عمر رأى معاذاً يبكي، فقال : ما يبكيك ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" اليَسِيرُ مِنَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ ومَنْ عَادَى أوْلِيَاءَ الله فَقَدْ بَارَزَ اللهَ بالمُحَارَبَةِ ". فأطلق اسم المحاربة عليه وإن لم يكفر. ورَوَى أسباط عن السدي عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم :" أنا حَرْبٌ لمن حَارَبْتُمْ سِلْمٌ لمن سَالَمْتُمْ " وقال تعالى :﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ﴾ [ المائدة : ٣٣ ] والفقهاء متّفقون على أن ذلك حكم جارٍ في أهل الملة وأن هذه السِّمَة تلحقهم بإظهارهم قطع الطريق وقد دل على أنه جائز إطلاق اسم المحاربة لله ورسوله على من عَظُمَتْ معصيته وفَعَلَها مجاهراً بها وإن كانت دون الكفر. وقوله تعالى :﴿ فأذنوا بحرب من الله ورسوله ﴾ إخبارٌ منه بعِظَمِ معصيته وأنه يستحقّ بها المحاربة عليها وإن لم يكن كافراً وكان ممتنعاً على الإمام، فإن لم يكن ممتنعاً عاقبه الإمام بمقدار ما يستحقّه من التعزير والردع، وكذلك ينبغي أن يكون حكم سائر المعاصي التي أوْعَدَ اللهُ عليها العقاب إذا أصرّ الإنسان عليها وجاهر بها، وإن كان ممتنعاً حُورِبَ عليها هو ومتّبعوه وقُوتلوا حتى ينتهوا، وإن كانوا غير ممتنعين عاقبهم الإمام بمقدار ما يَرَى من العقوبة. وكذلك حكم من يأخذ أموال الناس من المتسلطين الظلمة وآخذي الضرائب، واجبٌ على كل المسلمين قتالهم وقتلهم إذا كانوا ممتنعين، وهؤلاء أعظم جُرْماً من آكلي الربا لانتهاكهم حرمة النهي وحرمة المسلمين جميعاً. وآكلُ الربا إنما انتهك حرمة الله تعالى في أخْذِ الربا ولم ينتهك لمن يعطيه ذلك حرمةٌ ؛ لأنه أعطاه بطيبة نفسه. وآخذو الضرائب في معنى قُطَّاع الطريق المنتهكين لحرمة نهي الله تعالى وحرمة المسلمين، إذ كانوا يأخذونه جبراً وقهراً لا على تأويل ولا شبهة، فجائز لمن علم من المسلمين إصرار هؤلاء على ما هم عليه من أخذ أموال الناس على وجه الضريبة أن يقتلهم كيف أمكنه قَتْلُهُمْ، وكذلك أتباعهم وأعوانهم الذين بهم يقومون على أخذ الأموال. وقد كان أبو بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة لموافقةٍ من الصحابة إياه على شيئين : أحدهما الكفر، والآخر : منع الزكاة ؛ وذلك لأنهم امتنعوا من قبول فرض الزكاة ومن أدائها، فانتظموا به معنيين : أحدهما الامتناع من قبول أمر الله تعالى وذلك كفر، والآخر : الامتناع من أداء الصدقات المفروضة في أموالهم إلى الإمام فكان قتاله إياهم للأمرين جميعاً، ولذلك قال :" لو منعوني عقالاً " وفي بعض الأخبار :" عناقاً مما كانوا يؤدّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ". فإنما قلنا إنهم كانوا كفاراً ممتنعين من قبول فرض الزكاة، لأن الصحابة سمّوهم أهل الردّة، وهذه السِّمَةُ لازمة لهم إلى يومنا هذا، وكانوا سَبَوْا نساءهم وذراريهم، ولو لم يكونوا مرتدين لما سار فيهم هذه السيرة ؛ وذلك شيء لم يختلف فيه الصدر الأول ولا من بعدهم من المسلمين، أعني في أن القوم الذين قاتلهم أبو بكر كانوا أهل رِدّة. فالمقيم على أكل الربا إن كان مستحلاًّ له فهو كافر، وإن كان ممتنعاً بجماعة تعضده سار فيهم الإمام بسيرته في أهل الردّة إن كانوا قبل ذلك من جملة أهل الملة، وإن اعترفوا بتحريمه وفعلوه غير مستحلّين له قاتلهم الإمام إن كانوا ممتنعين حتى يتوبوا، وإن لم يكونوا ممتنعين رَدَعَهُمْ عن ذلك بالضرب والحبس حتى ينتهوا.
وقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران وكانوا ذِمَّةً نصارى :" إمّا أن تَذَرُوا الرِّبا وإمّا أن تَأْذَنُوا بحَرْبٍ مِنَ الله ورَسُولِهِ ". وروى أبو عبيد القاسم بن سلام قال : حدثني أيوب الدمشقي قال : حدثني سعدان بن يحيى، عن عبدالله بن أبي حميد، عن أبي مليح الهذلي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران، فكتب إليهم كتاباً في آخره :" على أن لا تأكُلُوا الرِّبا، فمن أَكَلَ الرِّبا فذِمَّتي مِنْهُ بَرِيئَةٌ ". فقوله تعالى :﴿ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ﴾ عقيب قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ﴾ هو عائد عليهما جميعاً، من رَدِّ الأمر على حاله ومن الإقامة على أكل الربا مع قبول الأمر. فمن رَدَّ الأمر قوتل على الردة، ومن قبل الأمر وفعله محرِّماً له قوتل على تركه إن كان ممتنعاً ولا يكون مرتداً، وإن لم يكن ممتنعاً عُزِّرَ بالحبس والضرب على ما يرى الإمام.
وقوله تعالى :﴿ فأذنوا بحرب من الله ورسوله ﴾ إعلامٌ بأنهم إن لم يفعلوا ما أُمروا به في هذه الآية فهم محاربون لله ورسوله، وفي ذلك إخبار منه بمقدار عِظَمِ الجرم وأنهم يستحقّون به هذه السمة، وهي أن يسمّوا محاربين لله ورسوله ؛ وهذه السِّمَةُ يَعتَوِرُها معنيان : أحدهما الكفر إذا كان مستحلا، والآخر : الإقامة على أكْلِ الربا مع اعتقاد التحريم على ما بيناه. ومن الناس من يحمله على أنه إعلام منه بأن الله تعالى يأمر رسوله والمؤمنين بمحاربتهم، ويكون إيذاناً لهم بالحرب حتى لا يُؤْتَوا على غِرَّة قبل العلم بها، كقوله تعالى :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ﴾ [ الأنفال : ٥٨ ] فإذا حُمِلَ على هذا الوجه كان الخطاب بذلك متوجهاً إليهم إذا كانوا ذَوِي مَنعة، وإذا حملناه على الوجه الأول دخل كل واحد من فاعلي ذلك في الخطاب وتناوله الحكم المذكور فيه، فهو أوْلى.
وقوله تعالى :﴿ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ﴾ قد اقتضى ثبوت المطالبة لصاحب الدَّيْن على المَدِينِ وجواز أخذ رأس مال نفسه منه بغير رضاه، لأنه تعالى جعل اقتضاءه ومطالبته من غير شرط رِضَى المطلوب، وهذا يوجب أنّ من له على غيره دين فطالبه به فله أخذه منه شاء أم أبَى ؛ وبهذا المعنى ورد الأثَرُ عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت له هند : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال :" خُذِي مِنْ مَالِ أبي سُفْيَانَ ما يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بالمَعْرُوف " فأباح لها أخْذَ ما استحقته على أبي سفيان من النفقة من غير رِضَى أبي سفيان.
وفي الآية دلالةٌ على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان كان ظالماً، ودلالتُها على ذلك من وجهين، أحدهما : قوله تعالى :﴿ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ﴾ فجعل له المطالبة برأس المال، وقد تضمَّن ذلك أمر الذي عليه بقضائه وتَرَكَ الامتناع من أدائه، فإنه متى امتنع منه كان له ظالماً ولاسم الظلم مستحقّاً، وإذا كان كذلك استحق العقوبة وهي الحبس. والوجه الآخر من الدلالة عليه : قوله تعالى في نسق التلاوة :﴿ لا تَظْلمون ولا تُظْلمون ﴾ يعني والله أعلم : لا تَظْلِمُون بأخذ الزيادة ولا تُظْلَمُون بالنقصان من رأس المال ؛ فدلّ ذلك على أنه متى امتنع من أداء جميع رأس المال إليه كان ظالماً له مستحقّاً للعقوبة. واتّفق الجميع على أنه لا يستحق العقوبة بالضرب، فوجب أن يكون حبساً، لاتفاق الجميع على أن ما عداه من العقوبات ساقط عنه في أحكام الدنيا.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما دلّت عليه الآية، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي قال : حدثنا عبدالله بن المبارك، عن وبر بن أبي دليلة، عن محمد بن ميمون، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ " قال ابن المبارك : يحل عِرْضه : يُغْلِظُ له، وعقوبته : يُحْبَس. وروى ابن عمر وجابر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، وإذا أُحِيلَ أحَدُكُمْ على مَلِيءٍ فلْيَحْتَلْ " فجعل مَطْلَ الغنيّ ظلماً، والظالم لا محالة مستحق العقوبة وهي الحبس، لاتفاقهم على أنه لم يرد غيره. وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا معاذ بن أسد قال : أخبرنا النضر بن شميل قال : أخبرنا هرماس بن حبيب رجل من أهل البادية عن أبيه عن جده قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي، فقال لي :" ألْزَمْه ! " ثم قال :" يا أخا بَني تميم مَا تُرِيدُ أن تَفْعَلَ بأَسِيرِكَ ؟ " وهذا يدلّ على أن له حبس الغريم، لأن الأسير يحبس ؛ فلما سماه أسيراً له دلّ على أن له حبسه. وكذلك قوله :" ليُّ الواجد يُحِلُّ عِرْضَهُ وعقُوبَتَهُ " والمراد بالعقوبة هنا الحبس، لأن أحداً لا يوجب غيره.
قوله تعالى :﴿ وإن كان ذو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى ميسرة ﴾ فيه تأويلان ؛ أحدهما : وإن كان ذو عسرة غريماً لكم فنَظِرَةٌ إلى ميسرة، والثاني : على أن " كان " المكتفية باسمها على معنى :" وإن وَقَعَ ذو عسرة أو إن وجد ذو عسرة " كقول الشاعر :
* فِدًى لبني شَيْبَانَ رَحْلي ونَاقَتي * إذا كانَ يومٌ ذُو كواكِبَ أشْهَبُ *
معناه : إذا وجد يوم كذلك.
وقد اختلف في معنى قوله :﴿ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ﴾ فرُوي عن ابن عباس وشُرَيح وإبراهيم " أنه في الربا خاصة " وكان شريح يحبس المعسر في غيره من الديون. ورُوي عن إبراهيم والحسن والربيع بن خيثم والضحاك " أنه في سائر الديون "، ورُوي عن ابن عباس رواية أخرى مثل ذلك. وقال آخرون :" إن الذي في الآية إنظارُ المعسر في الربا، وسائر الديون في حكمه قياساً عليه ".
قال أبو بكر : لما كان قوله تعالى :﴿ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ﴾ محتملاً أن يكون شاملاً لسائر الديون على ما بينا من وجه الاحتمال، ولتأويل من تأوله من السلف على ذلك، إذْ غير جائز أن يكونوا تأوّلوه على ما لا احتمال فيه، وَجَبَ حمله على العموم وأن لا يُقتصر به على الربا إلا بدلالة، لما فيه من تخصيص لفظ العموم من غير دلالة. فإن قيل : لما كان قوله تعالى :﴿ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ﴾ غير مُكْتَفٍ بنفسه في إفادة الحكم وكان متضمناً لما قبله، وجب أن يكون حكمه مقصوراً عليه. قيل : هو كلام مُكْتَفٍ بنفسه لما في فحواه من الدلالة على معناه ؛ وذلك لأن ذكر الإعسار والإنظار قد دلّ على دَيْن تجب المطالبة به، والإنظارُ لا يكون إلا في حقّ قد ثبت وجوبه وصحت المطالبة به إما عاجلاً وإما آجلاً، فإذا كان في مضمون اللفظ دلالة على دَيْنٍ يتعلق به في حكم الإنظار إذا كان ذو عُسْرة، كان اللفظ مكتفياً بنفسه ووجب اعتباره على عمومه ولم يجب الاقتصار به على الربا دون غيره.
وزعم بعض الناس ممن نصر هذا القول الذي ذكرناه أن هذا لا يجوز أن يكون في الربا، لأن الله تعالى قد أبطله، فكيف يكون منظراً به ؟ قال : فالواجب أن تكون الآية عامّة في سائر الديون. وهذا الحِجَاجُ ليس بشيء، لأن الله تعالى إنما أبطل الربا وهو الزيادة المشروطة ولم يبطل رأس المال، لأنه قال :﴿ وذروا ما بقي من الربا ﴾ والربا هو الزيادة، ثم قال :﴿ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ﴾ ثم عقب ذلك بقوله :﴿ وإن كان ذو عسرة ﴾ يعني سائر الديون، ورأسُ المال أحدُها ؛ وإبطال ما بقي من الربا لم يبطل رأس المال، بل هو دين عليه يجب أداؤه.
فإن قيل : إذا كان الإنظارُ مأموراً به في رأس المال، فهو وسائر الديون سواء، قيل له : إنما كلامُنا فيما شَمْله العموم من حكم الآية، فإن كان ذلك في رأس مال الربا فلم يتناول غيره من طريق النصّ وإنما يتناوله من جهة العموم للمعنى، فيحتاج حينئذ إلى دلالة من غيره في إثبات حكمه وردِّه إلى المذكور في الآية بمعنى يجمعهما ؛ وليس الكلام بينك وبين الخصم من جهة القياس، وإنما اختلفتما في عموم الآية وخصوصها، والكلامُ في القياس ورَدُّ غير المذكور إلى المذكور مسألة أخرى.
وقوله تعالى :﴿ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ﴾ قد اقتضى ثبوت المطالبة لصاحب الدَّيْن على المَدِينِ وجواز أخذ رأس مال نفسه منه بغير رضاه، لأنه تعالى جعل اقتضاءه ومطالبته من غير شرط رِضَى المطلوب، وهذا يوجب أنّ من له على غيره دين فطالبه به فله أخذه منه شاء أم أبَى ؛ وبهذا المعنى ورد الأثَرُ عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت له هند : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال :" خُذِي مِنْ مَالِ أبي سُفْيَانَ ما يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بالمَعْرُوف " فأباح لها أخْذَ ما استحقته على أبي سفيان من النفقة من غير رِضَى أبي سفيان.
وفي الآية دلالةٌ على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان كان ظالماً، ودلالتُها على ذلك من وجهين، أحدهما : قوله تعالى :﴿ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ﴾ فجعل له المطالبة برأس المال، وقد تضمَّن ذلك أمر الذي عليه بقضائه وتَرَكَ الامتناع من أدائه، فإنه متى امتنع منه كان له ظالماً ولاسم الظلم مستحقّاً، وإذا كان كذلك استحق العقوبة وهي الحبس. والوجه الآخر من الدلالة عليه : قوله تعالى في نسق التلاوة :﴿ لا تَظْلمون ولا تُظْلمون ﴾ يعني والله أعلم : لا تَظْلِمُون بأخذ الزيادة ولا تُظْلَمُون بالنقصان من رأس المال ؛ فدلّ ذلك على أنه متى امتنع من أداء جميع رأس المال إليه كان ظالماً له مستحقّاً للعقوبة. واتّفق الجميع على أنه لا يستحق العقوبة بالضرب، فوجب أن يكون حبساً، لاتفاق الجميع على أن ما عداه من العقوبات ساقط عنه في أحكام الدنيا.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما دلّت عليه الآية، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي قال : حدثنا عبدالله بن المبارك، عن وبر بن أبي دليلة، عن محمد بن ميمون، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ " قال ابن المبارك : يحل عِرْضه : يُغْلِظُ له، وعقوبته : يُحْبَس. وروى ابن عمر وجابر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، وإذا أُحِيلَ أحَدُكُمْ على مَلِيءٍ فلْيَحْتَلْ " فجعل مَطْلَ الغنيّ ظلماً، والظالم لا محالة مستحق العقوبة وهي الحبس، لاتفاقهم على أنه لم يرد غيره. وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا معاذ بن أسد قال : أخبرنا النضر بن شميل قال : أخبرنا هرماس بن حبيب رجل من أهل البادية عن أبيه عن جده قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي، فقال لي :" ألْزَمْه ! " ثم قال :" يا أخا بَني تميم مَا تُرِيدُ أن تَفْعَلَ بأَسِيرِكَ ؟ " وهذا يدلّ على أن له حبس الغريم، لأن الأسير يحبس ؛ فلما سماه أسيراً له دلّ على أن له حبسه. وكذلك قوله :" ليُّ الواجد يُحِلُّ عِرْضَهُ وعقُوبَتَهُ " والمراد بالعقوبة هنا الحبس، لأن أحداً لا يوجب غيره.
واختلف الفقهاء في الحال التي توجب الحبس، فقال أصحابنا : إذا ثبت عليه شيء من الديون من أي وجه ثبت فإنه يحبس شهرين أو ثلاثة، ثم يُسأل عنه فإن كان موسراً تركه في الحبس أبداً حتى يقضيه، وإن كان معسراً خَلَّى سبيله. وذكر ابن رستم عن محمد عن أبي حنيفة : أن المطلوب إذا قال إني مُعْسِرٌ وأقام البَيِّنَةَ على ذلك، أو قال : فسَلْ عنّي، فلا يسأل عنه أحداً، وحَبَسَهُ شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه إلا أن يكون معروفاً بالعسر، فلا يحبسه، وذكر الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران قال : كان متأخرو أصحابنا، منهم محمد بن شجاع، يقولون :" إن كل دين كان أصله من مال وقع في يدي المدين كأثمان البياعات والعروض ونحوها، فإنه يحبسه به، وما لم يكن أصله من مال وقع في يده مثل المهر والجعل من الخلع والصلح من دم العمد والكفالة، لم يحبسه به حتى يثبت وجوده وملاؤه. وقال ابن أبي ليلى :" يحبسه في الديون إذا أُخْبِرَ أن عنده مالاً ". وقال مالك :" لا يُحبس الحرُّ ولا العبدُ في الدين ولا يُستبرأ أمره، فإن اتّهم أنه قد خبّأ مالاً حبسه، وإن لم يجد له شيئاً لم يحبسه وخلاّه ". وقال الحسن بن حي :" إذا كان موسراً حُبِس، وإن كان معسراً لم يُحبس ". وقال الشافعي :" إذا ثبت عليه دَيْن بِيعَ ما ظهر ودُفع ولم يحبس، فإن لم يَظْهَرْ حُبِسَ وبِيعَ ما قدر عليه من ماله، فإن ذكره عسره قبلت منه البينة بقوله تعالى :﴿ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ﴾ وأحلفه مع ذلك بالله ومنع عرماءه من لزومه ".
قال أبو بكر : إنما قال أصحابنا " إنه يحبسه في أول ما ثبت عند القاضي دينه " لما دللنا عليه من الآية والأثر على كونه ظالماً في الامتناع من قضاء ما ثبت عليه وأنه مستحق للعقوبة متى امتنع من أدَاءِ ما وجب عليه، فالواجب بقاء العقوبة عليه حتى يثبت زوالها عنه بالإعسار. فإن قيل : إنما يكون ظالماً إذا امتنع من أدائه مع الإمكان، لأن الله تعالى لا يذمّه على ما لم يُقْدِرْهُ عليه ولم يُمَكِّنْه منه، ولذلك شرط النبي صلى الله عليه وسلم الوجود في استحقاق العقوبة بقوله :" ليُّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته " وإذا كان شرط استحقاق العقوبة وجود المال الذي يمكنه أداؤه منه، فغير جائز حبسه وعقوبته إلا بعد أن يثبت أنه واجدٌ ممتنعٌ من أداء ما وجب عليه ؛ وليس ثبوت الدين عليه عَلَماً لإمكان أدائه على الدوام، إذ جائز أن يحدث الإعسار بعد ثبوت الدين قيل له : أما الديون التي حصلت أبدالها في يده فقط علمنا يساره بأدائها يقيناً ولم نعلم إعساره بها، فوجب كونه باقياً على حكم اليسار والوجود حتى يثبت الإعسار. وأما ما كان لزمه منها من غير بَدَلٍ حصل في يده يمكنه أداؤه منه، فإن دخوله في العقد الذي ألزمه ذلك اعترافٌ منه بلزوم أدائه، وتوجَّه المطالبة عليه بقضائه، ودعواه الإعسار به بمنزلة دَعْوَى التأجيل للموسر فهو غير مصدَّق عليه ؛ ولذلك سَوَّى أصحابُنا بين الديون التي قد علم حصول إبدالها في يده وبين ما لم تحصل في يده، إذ كان دخوله في العقد الموجب عليه ذلك الدين اعترافاً منه بلزوم الأداء وثبوت حق المطالبة للمطالب، وذلك لأن كل متعاقِدَيْن دخلا في عقد فدخولهما فيه اعتراف منهما بلزوم موجب العقد من الحقوق، وغير مصدق بعد العقد واحد منهما على نفي موجبه ؛ ومن أجل ذلك قلنا إن ذلك يقتضي اعترافاً منهما بصحته، إذْ كان ذلك مضمناً للزوم حقوقه، وفي تصديقه على فساده نفي ما لزمه بظاهر العقد ؛ ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن مدَّعي الفساد منهما بعد وقوع العقد بينهما وصحته في الظاهر غير مصدَّقٍ عليه وأن القول قول مدَّعي الصحة منهما، وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا مِنْ أن مَنْ ألزم نفسه ديناً بعَقْدٍ عَقَدَهُ على نفسه أنه يلزمه أداؤه ومحكوم عليه بأنه موسر به وغيرمصَدَّقٍ على الإعسار المسقط عنه المطالبة، كما لا يصدَّقُ على التأجيل بعد ثبوته عليه حالاً. وإنما قال أصحابنا " إنه يحبسه في أول ما يرفعه إلى القاضي إذا طلب ذلك الطالب، ولا يُسأل عنه " مِنْ قِبَلِ أنه توجهت عليه المطالبة بأدائه ومحكوم له باليسار في قضائه، فالواجب أن يستبرىء أمره بدياً، إذ جائزٌ أن يكون له مال قد خبأه لا يقف عليه غيره، فلا يُوقَفُ بذلك على إعساره، فينبغي له أن يحبسه استظهاراً لما عسى أن يكون عنده، إذ كان في الأغلب أنه إن كان عنده شيء آخر أضجره الحبس وألجأه إلى إخراجه، فإذا حبسه هذه المدة فقد استظهر في الغالب فحينئذ يُسأل عنه ؛ لأنه جائز أن يكون هناك من يعلم يساره سرّاً فإذا ثبت عنده إعساره خلاّه من الحبس. وقد رُوي عن شُرَيح أنه كان يحبس المعسر في غير الربا من الديون، فقال له معسر قد حبسه : قال الله تعالى :﴿ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ﴾ فقال شريح :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ [ النساء : ٥٨ ] والله لا يأمرنا بشيء ثم يعذبنا عليه. وقد قدمنا ذكر مذهب شُريح في تأويل الآية، وأن قوله تعالى :{ وإن كان ذو عسرة

بابُ عُقودِ المُدَاينات


قال الله تعالى :﴿ يا أيّها الّذِينَ آمنُوا إذا تَدَايَنْتُم بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكتُبُوهُ ﴾ قال أبو بكر : ذهب قومٌ إلى أن الكتاب والإشهاد على الديون الآجلة قد كانا واجِبَيْن بقوله تعالى :﴿ فاكتبوه ﴾ إلى قوله :﴿ فاستشهدوا شهيدين من رجالكم ﴾ ثم نُسِخَ الوجوبُ بقوله تعالى :﴿ فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته ﴾ رُوي ذلك عن أبي سعيد الخدري والشعبي والحسن. وقال آخرون :" هي محكمة لم يُنْسخْ منها شيء ". ورَوَى عاصم الأحول وداود بن أبي هند عن عكرمة قال : قال ابن عباس :" لا والله إن آية الدّيْن محكمةٌ وما فيها نَسْخٌ ". وقد رَوَى شعبةُ عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى قال :" ثلاثة يَدْعُون الله فلا يستجيب لهم : رجلٌ كانت له امرأة سيئة الخُلُق فلم يطلّقْها، ورجلٌ أعْطَى ماله سَفِيهاً وقد قال الله تعالى :﴿ ولا تُؤتوا السفهاء أموالكم ﴾ [ النساء : ٥ ]، ورجلٌ له على رجلٍ دَيْن ولم يشهد عليه به ". قال أبو بكر : وقد رُوي هذا الحديث مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ورَوَى جويبر عن الضحاك :" إن ذَهَبَ حقُّه لم يُؤْجَرْ وإن دعا عليه لم يُجَبْ، لأنه ترك حق الله وأمره ". وقال سعيد بن جبير :﴿ وأشهدوا إذا تبايعتم ﴾ يعني : وأشهدوا على حقوقكم إذا كان فيها أجلٌ أو لم يكن فيها أجل، فأشهد على حقك على كل حال. وقال ابن جريج : سُئل عطاء : أيُشْهِدُ الرجلُ على أن بايع بنصف درهم ؟ قال : نعم هو تأويل قوله تعالى :﴿ وأشهدوا إذا تبايعتم ﴾. ورَوَى مغيرة عن إبراهيم قال :" يُشْهدُ لو على دستجة بَقْل ". وقد رُوي عن الحسن والشعبي :" إن شاء أشْهَدَ وإن شاء لم يُشْهِدْ، لقوله تعالى :﴿ فإن أمن بعضكم بعضاً ﴾ " ورَوَى ليثٌ عن مجاهد :" أن ابن عمر كان إذا باع أشهد ولم يكتب "، وهذا يدلّ على أنه رآه ندباً، لأنه لو كان واجباً لكانت الكتابة مع الإشهاد، لأنهما مأمورٌ بهما في الآية.
قال أبو بكر : لا يخلو قوله تعالى :﴿ فاكتبوه ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ واستشهدوا شهيدين من رجالكم ﴾ وقوله تعالى :﴿ وأشهدوا إذا تبايعتم ﴾ من أن يكون موجباً للكتابة والإشهاد على الديون الآجلة في حال نزولها، وكان هذا حكماً مستقرّاً ثابتاً إلى أن ورد نسخ إيجابه بقوله تعالى :﴿ فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته ﴾، أو أن يكون نزول الجميع معاً ؛ فإن كان كذلك فغير جائز أن يكون المراد بالكتابة والإشهاد الإيجابَ، لامتناع ورود الناسخ والمنسوخ معاً في شيء واحد، إذ غير جائز نَسْخُ الحكم قبل استقراره. ولما لم يثبت عندنا تاريخ نزول هذين الحكمين من قوله تعالى :﴿ وأشهدوا إذا تبايعتم ﴾ وقوله تعالى :﴿ فإن أمن بعضكم بعضاً ﴾ وَجَبَ الحكم بورودهما معاً، فلم يَرِدِ الأمْرُ بالكتاب والإشهاد إلا مقروناً بقوله تعالى :﴿ فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته ﴾ فثبت بذلك أن الأمر بالكتابة والإشهاد ندْبٌ غيرُ واجبٍ. وما رُوي عن ابن عباس من أن آية الدين محكمة لم يُنْسخ منها شيءٌ، لا دلالة فيه على أنه رأى الإشهاد واجباً ؛ لأنه جائز أن يريد أن الجميع ورد معاً، فكان في نسق التلاوة ما أوجب أن يكون الإشهاد ندباً، وهو قوله تعالى :﴿ فإن أمن بعضكم بعضاً ﴾. وما رُوي عن ابن عمر أنه كان يُشْهِد، وعن إبراهيم وعطاء أنه يُشْهِد على القليل ؛ كله عندنا أنهم رأوه ندباً لا إيجاباً. وما رُوي عن أبي موسى :" ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : أحدهم من له على رجل دَيْنٌ ولم يُشْهد " فلا دلالة على أنه رآه واجباً، ألا ترى أنه ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ؟ ولا خلاف أنه ليس بواجب على من له امرأة سيئة الخلق أن يطلقها ؛ وإنما هذا القول منه على أن فاعل ذلك تاركٌ للاحتياط والتوصل إلى ما جعل الله تعالى له فيه المخرج والخلاص. ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية نَدْبٌ وإرشادٌ إلى ما لنا فيه الحظّ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئاً منه غير واجب. وقد نقلت الأمة خَلَفٌ عن سَلَفٍ عقود المداينات والأشْرِية والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الإشهاد واجباً لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وفي ذلك دليلٌ على أنهم رأوه ندباً، وذلك منقول من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشْرِيتها لورد النقل به متواتراً مستفيضاً ولأنكرت على فاعله ترك الإشهاد، فلما لم يُنقل عنهم الإشهادُ بالنقل المستفيض ولا إظهارُ النكير على تاركه من العامة ثبت بذلك أن الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات غير واجبين ؛ وقوله تعالى :﴿ فاكتبوه ﴾ مخاطبة لمن جرى ذكره في أول الآية وهو :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ﴾ فإنما أمر بذلك للمتداينين.
فإن قيل : ما وجه قوله تعالى :﴿ بدين ﴾ والتداين لا يكون إلا بدين ؟ قيل له : لأن قوله تعالى :﴿ تداينتم ﴾ لفظ مشترك يحتمل أن يكون من الدينِ الذي هو الجزاء كقوله تعالى ﴿ مالك يوم الدين ﴾ يعني يوم الجزاء فيكون بمعنى تجازيتم فأزال الإشتراك عن اللفظ بقوله تعالى :﴿ بدَيْن ﴾ وقصره على المعاملة بالدّيْن ؛ وجائز أن يكون على جهة التأكيد وتمكين المعنى في النفس.
وقوله تعالى :﴿ إذا تداينتم بدين إلى أجل مسّمى ﴾ ينتظم سائِرَ عقودِ المداينات التي يصحّ فيها الآجال، ولا دلالة فيه على جواز التأجيل في سائر الديون، لأن الآية ليس فيها بيان جواز التأجيل في سائر الديون وإنما فيها الأمْرُ بالإشهاد إذا كان ديناً مؤجلاً ؛ ثم يُحتاج أن يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه، ألا ترى أنها لم تَقْتَضِ جواز دخول الأجل على الدين بالدين حتى يكونا جميعاً مؤجلين ؟ وهو بمنزلة قوله :" مَنْ أسْلَمْ فلْيُسْلِمْ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ ووَزْنٍ مَعْلُومٍ إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ " لا دلالة فيه على جواز السلم في سائر المكيلات والموزونات بالآجال المعلومة، وإنما ينبغي أن يثبت جوازه في المكيل والموزون المعلوم الجنس والنوع والصفة بدلالة أخرى ؛ وإذا ثبت أنه مما يجوز السلم فيه احتجنا بعد ذلك إلى أن نسلم فيه إلى أجل معلوم. وكما تدل الآية على جواز عقود المداينات ولم يصحّ الاستدلال بعمومها في إجازة سائر عقود المداينات، لأن الآية إنما فيها الأمر بالإشهاد إذا صحت المداينة، كذلك لا تدلّ على جواز شرط الأجل في سائر الديون وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا صح الدين والتأجيل فيه.
وقد احتجّ بعضهم في جواز التأجيل في القرض بهذه الآية، إذ لم تفرق بين القَرْض وسائر عقود المداينات، وقد علمنا أن القرض مما شمله الاسم. وليس ذلك عندنا كما ذُكر ؛ لأنه لا دلالة فيها على جواز كل ديْن ولا على جواز التأجيل في جميعها، وإنما فيها الأمر بالإشهاد على دَيْنٍ قد ثبت فيه التأجيل، لاستحالة أن يكون المراد به الإشهادَ على ما لم يثبت من الديون ولا من الآجال ؛ فوجب أن يكون مراده " إذا تداينتم بدَيْن قد ثبت فيه التأجيل فاكتبوه " فالمستدلّ به على جواز تأجيل القرض مغفل في استدلاله. ومما يدلّ على أن القرض لم يدخل فيه أن قوله تعالى :﴿ إذا تداينتم بدين ﴾ قد اقتضى عقد المداينة، وليس القرض بعقد مداينة، إذْ لا يصير ديناً بالعقد دون القبض، فوجب أن يكون القرض خارجاً منه.
قال أبو بكر : وقوله تعالى :﴿ إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ﴾ قد اشتمل على كل دَيْن ثابت مؤجّل، سواء كان بدله عيناً أو ديناً، فمن اشترى داراً أو عبداً بألف درهم إلى أجل كان مأموراً بالكتاب والإشهاد بمقتضى الآية. وقد دلّت الآيةُ على أنها مقصورة في دين مؤجَّل في أحد البدلين لا فيهما جميعاً، لأنه تعالى قال :﴿ إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ﴾ ولم يقل " بدينين " فإنما أثبت الأجل في أحد البدلين، فغير جائز وجود الأجل في البدلين جميعاً ؛ وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدَّيْنِ بالدَّيْنِ. وأما إذا كانا دَيْنَيْن بالعقد، فهذا جائز في السلم وفي الصرف، إلا أن ذلك مقصور على المجلس. ولا يمتنع أن يكون السلم مراداً بالآية ؛ لأن التأجيل في أحد البَدَلَيْنِ وهو السلم ؛ وقد أمر الله تعالى بالإشهاد على عقد مداينة موجب لدين مؤجل. وقد روى قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس قال :" أشْهَدُ أن السلم المؤجل في كتاب الله وأنزل فيه أطول آية في كتاب الله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ﴾ " فأخبر ابنُ عباس أن السلم المؤجل مما انطوى تحت عموم الآية. وعلى هذا كل دَيْن ثابت مؤجَّل فهو مراد بالآية، سواء كان من إبدال المنافع أو الأعيان، نحو الأجرة المؤجلة في عقود الإجارات والمهر إذا كان مؤجلاً وكذلك الخلع والصلح من دم العمد والكتابة المؤجَّلة ؛ لأن هذه ديون مؤجلة ثابتة بعقد مداينة، وقد بيّنا أن الآية إنما اقتضت هذا الحكم في أحد البَدَلَيْن إذا كان مؤجَّلاً لا فيهما، لأنه قال :﴿ إذا تداينتم بدين إلى أجل ﴾ فكل عقد انتظمته الآية فهو العقد الذي ثبت به دين مؤجل، ولم تفرق بين أن يكون ذلك الدَّيْنُ بدلاً من منافع أو أعيان، فوجب أن يكون جميع المندوب إليه من الكتاب والإشهاد مراداً بها هذه العقود كلها، وأن يكون ما ذكر من عدد الشهود وأوصاف الشهادة معتبراً في سائرها، إذ ليس في اللفظ تخصيصُ شيء منه دون غيره فوجب ذلك جواز شهادة الرجل والمرأتين في النكاح إذا كان المهر ديناً مؤجلاً وفي الخلع والإجارة والصلح من دم العمد وسائر ما كان هذا وصفه، وغير جائز الاقتصار بهذه الأحكام على بعض الديون المؤجَّلة دون بعض مع شمول الآية لجميعها.
وقوله تعالى :﴿ إلى أجل مسمًّى ﴾ يعني : معلوماً ؛ وقد رُوي ذلك عن جماعة من السلف. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ أسْلَمَ فلْيُسْلِمْ في كَيْلٍ مَعْلومٍ ووَزْنٍ مَعلُومٍ إلى أجَلٍ معلوم ".
وقوله تعالى :﴿ وليكتب بينكم كاتب بالعدل ﴾ فيه أمر لمن تولّى كتابة الوثائق بين الناس أن يكتبها بالعدل بينهم ؛ والكتاب وإن لم يكن حَتْماً فإن سبيله إذا كُتِبَ أن يُكْتَبَ على حدّ العدل والاحتياط والتوثق من الأمور التي من أجلها يُكْتَبُ الكتاب، بأن يكون شرطاً صحيحاً جائزاً على ما توجبه الشريعة وتقتضيه. وعليه التحرُّزُ من العبارات المحتملة للمعاني وتجنّبُ الألفاظ المشتركة وتحرَّي تحقيق المعاني بألفاظ مبينة خارجة عن حدّ الشركة والاحتمال والتحرّزُ من خلاف الفقهاء ما أمكن، حتى يحصل للمتداينين معنى الوثيقة والاحتياط المأمور بهما في الآية ؛ ولذلك قال تعالى عقيب الأمر بالكتاب :﴿ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ﴾ يعني والله أعلم : ما بَيَّنَهُ من أحكام العقود الصحيحة والمداينات الثابتة الجائزة، لكي يحصل لكل واحد من المتداينين ما قصد من تصحيح عقد المداينة ؛ ولأن الكاتب بذلك إذا كان جاهلاً بالحكم لا يأمن أن يكتب ما يفسد عليهما ما قصداه ويبطل ما تعاقداه. والكتابُ وإن لم يكن حتماً وكان ندباً وإرشاداً إلى الأحْوَطِ فإنه متى كُتِبَ فواجبٌ

باب الرهن


قال الله تعالى :﴿ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة ﴾ يعني والله أعلم : إذا عدمتم التوثّق بالكتاب والإشهاد فالوثيقة برهَانٍ مقبوضة، فأقام الرّهْنَ في باب التوثق في الحال التي لا يصل فيها إلى التوثق بالكتاب والإشهاد مقامها. وإنما ذكر حال السفر لأن الأغلب فيها عَدَمُ الكتابِ والشهودِ ؛ وقد رُوي عن مجاهد أنه كان يكره الرهن إلا في السفر. وكان عطاء لا يرى به بأساً في الحضر. فذهب مجاهدٌ إلى أن حكم الرّهنْ لما كان مأخوذاً من الآية وإنما أباحته الآية في السفر، لم يثبت في غيره. وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك ؛ ولا خلاف بين فقهاء الأمصار وعامّة السلف في جوازه في الحَضَرِ. وقد رَوَى إبراهيم عن الأسود عن عائشة :" أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهوديّ طعاماً إلى أجَلٍ ورَهَنه دِرْعَهُ ". وروى قتادة عن أنس قال :" رَهَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دِرْعاً له عند يهوديّ بالمدينة وأخذ منه شعيراً لأهله "، فثبت جواز الرهن في الحضر بفعله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى ﴿ واتّبعوه ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ] وقال :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾ [ الأحزاب : ٢١ ] فدلّ على أن تخصيص الله لحال السفر بذكر الرهن إنما هو لأن الأغلب فيها عَدَمُ الكاتب والشهيد. وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" في خَمْسٍ وعِشْرِينَ مِنَ الإِبِلِ ابْنَةُ مَخَاضٍ وفي سِتٍّ وثَلاثِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ " لم يُرِدْ به وجود المخاض واللبن بالأم، وإنما أخبر عن الأغلب والأعمّ من الحال، وإن كان جائزاً أن لا يكون بأمّها مخاض ولا لبن ؛ فكذلك ذكر السفر هو على هذا الوجه. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا قَطْعَ في ثَمَرٍ حَتى يُؤْويهِ الجَرِينُ " والمراد استحكامه وجفافه لا حصوله في الجرين، لأنه لو حصل في بيته أو حانوته بعد استحكامه وجفافه فسرقه سارقٌ قُطِعَ فيه، فكان ذِكْرُ الجرين على الأغلب الأعمّ من حاله في استحكامه ؛ فكذلك ذكره لحال السفر هو على هذا المعنى.
وقوله :﴿ فرهان مقبوضة ﴾ يدلّ على أن الرهنّ لا يصحّ إلا مقبوضاً من وجهين، أحدهما : أنه عطف على ما تقدم من قوله :﴿ واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ﴾ فلما كان استيفاءُ العدد المذكور والصفةُ المشروطة للشهود واجباً، وَجَبَ أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط له من الصفة، فلا يصح إلاّ عليها، كما لا تصحّ شهادة الشهود إلاّ على الأوصاف المذكورة، إذْ كان ابتداء الخطاب توجّه إليهم بصيغة الأمر المقتضي للإيجاب. والوجه الثاني : أن حكم الرهن مأخوذٌ من الآيةِ، إنما أجازته بهذه الصفة، فغير جائز إجازته على غيرها ؛ إذ ليس هاهُنا أصلٌ آخر يوجب جواز الرهن غير الآية. ويدلّ على أنه لا يصح إلاّ مقبوضاً أنه معلوم أنه وثيقةٌ للمرتهن بدَيْنِهِ، ولو صَحّ غير مقبوض لبطل معنى الوثيقة وكان بمنزلة سائر أموال الراهن التي لا وثيقة للمرتهن فيها ؛ وإنما جُعِلَ وثيقةً له ليكون محبوساً في يده بدينه، فيكون عند الموت والإفلاس أحَقَّ به من سائر الغرماء، ومتى لم يكن في يده كان لَغْواً لا معنى فيه وهو وسائر الغرماء فيه سواء ؛ ألا ترى أن المبيع إنما يكون محبوساً بالثمن ما دام في يد البائع فإن هو سَلَّمه إلى المشتري سقط حقه وكان هو وسائر الغرماء سواء فيه ؟.
واختلف الفقهاء في إقرار المتعاقدين بقبض الرهن، فقال أصحابنا جميعاً والشافعي :" إذا قامت البينةُ على إقرار الراهن بالقبض والمرتهنُ يدَّعِيهِ جازت الشهادةُ وحُكِمَ بصحة الرهن ". وعند مالك أن البينة غير مقبولة على إقرار المصدق بالقبض حتى يشهدوا على معاينة القبض ؛ فقيل : إن القياس قوله في الرهن كذلك، والدليل على جواز الشهادة على إقْرارهما بقبض الرهن اتفاقُ الجميع على جواز إقراره بالبيع والغصب والقتل، فكذلك قبض الرهن ؛ والله أعلم.
ذكر اختلاف الفقهاء في رَهْنِ المشاع
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر :" لا يجوز رهن المشاع فيما يُقسم ولا فيما لا يُقسم ". وقال مالك والشافعي :" يجوز فيما لا يُقسم وما يُقسم ". وذكر ابن المبارك عن الثوري في رجل يرتهن الرهن ويستحق بعضه قال :" يخرج من الرهن ولكن له أن يجبر الراهن على أن يجعله رهناً، فإن مات قبل أن يجعله رهناً، كان بينه وبين الغرماء ". وقال الحسن بن صالح :" يجوز رَهْنُ المشاع فيما لا يُقسم ولا يجوز فيما يُقسم ".
قال أبو بكر : لما صحّ بدلالة الآية أن الرهن لا يصح إلا مقبوضاً، من حيث كان رهنه على جهة الوثيقة وكان في ارتفاع القبض ارتفاع معنى الرهن وهو الوثيقة، وجب أن لا يصح رهن المشاع فيما يقسم وفيما لا يقسم ؛ لأن المعنى الموجب لاستحقاق القبض وإبطال الوثيقة مقارِنٌ للعقد وهو الشركة التي يستحق بها دفع القبض للمهايأة، فلم يَجُزْ أن يصح مع وجود ما يبطله ؛ ألا ترى أنه متى استحق ذلك القبض بالمهايأة وعاد إلى يد الشريك فقد بطل معنى الوثيقة وكان بمنزلة الرهن الذي لم يقبض ؟ وليس ذلك بمنزلة عارية الرهن المقبوض إذا أعاده الراهن فلا يبطل الرهن، وله أن يردَّه إلى يده من قبل أن هذا القبض غير مستحقّ، وللمرتهن أخْذه منه متى شاء ؛ وإنما هو ابتدأ به من غير أن يكون ذلك القبض مستحقّاً بمعنى يقارن العقد. وليس هذا أيضاً بمنزلة هبة المشاع فيما لا يقسم فيجوز عندنا، وإن كان من شرط الهبة القبض كالرهن، مِنْ قِبَلِ أن الذي يُحتاج إليه في الهبة من القبض لصحة الملك وليس من شرط بقاء الملك استصحاب اليد، فلما صح القبض بديّاً لم يكن في استحقاق اليد تأثير في رفع الملك، ولما كان في استحقاق المرتهن رفع معنى الوثيقة لم يصحّ مع وجود ما يبطله وينافيه.
فإن قيل : هلاَّ أجَزْتَ رَهْنَهُ من شريكه ! إذْ ليس فيه استحقاق يده في الثاني، لأن يده تكون باقية عليه إلى وقت الفكاك. قيل له : لأن للشريك استخدامه إن كان عبداً بالمهايأة بحق ملكه، ومن فعل ذلك لم يكن يده فيه يَدَ رَهْنٍ، فقد استحقت يد الرهن في اليوم الثاني، فلا فرق بين الشريك وبين الأجنبي لوجود المعنى الموجب لاستحقاق قبض الرهن مقارناً للعقد.
واختلف في رهن الدَّين، فقال سائر الفقهاء :" لا يصح رهن الدين بحال ". وقال ابن القاسم عن مالك في قياس قوله :" إذا كان لرجل على رجلٍ دينٌ فبعته بيعاً وارتهنتَ منه الدين الذي له عليه فهو جائز، وهو أقوى من أن يرتهن ديناً على غيره لأنه جائزٌ لما عليه " قال :" ويجوز في قول مالك أن يرهن الرجل الدَّيْن الذي يكون له على الرجل ويبتاع من رجل بيعاً ويرهن منه الدين الذي يكون له على ذلك الرجل ويقبض ذلك الحق له ويشهد له ". وهذا قول لم يقل أحد به من أهل العلم سواه ؛ وهو فاسد أيضاً لقوله تعالى :﴿ فرهان مقبوضة ﴾ وقبضُ الدَّيْن لا يصح ما دام ديناً لا إذا كان عليه ولا إذا كان على غيره، لأن الدين هو حقّ لا يصح فيه قبض وإنما يتأتى القبضُ في الأعيان. ومع ذلك فإنه لا يخلو ذلك الدين من أن يكون باقياً على حكم الضمان الأول أو منتقلاً إلى ضمان الرهن، فإن انتقل إلى ضمان الرهن فالواجب أن يبرأ من الفضل إذا كان الدين الذي به الرهن أقلّ من الرهن، وإن كان باقياً على حكم الضمان الأول فليس هو رهناً لبقائه على ما كان عليه. والدين الذي على الغير أبعَدُ في الجواز لعدم الحيازة فيه والقبض بحال.
وقد اختلف الفقهاء في الرهن إذا وضع على يدي عدل، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري :" يصح الرهن إذا جعلاه على يدي عدل ويكون مضموناً على المرتهن " وهو قول الحسن وعطاء والشعبي. وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة والأوزاعي :" لا يجوز حتى يقبضه المرتهن ". وقال مالك :" إذا جعلاه على يدي عدل فضياعه من الراهن ". وقال الشافعي في رهن شقص السيف :" إن قَبْضَهُ أن يحوّل حتى يضعه الراهن والمرتهن على يدي عدل أو على يدي الشريك ".
قال أبو بكر : قوله عز وجل :﴿ فرهان مقبوضة ﴾ يقتضي جوازه إذا قبضه العدل، إذ ليس فيه فصل بين قبض المرتهن والعدل، وعمومُه يقتضي جواز قبض كل واحد منهما. وأيضاً فإن العدل وكيلٌ للمرتهن في القبض، فكان القبض بمنزلة الوكالة في الهبة وسائر المقبوضات بوكالة من له القبض فيها. فإن قيل : لو كان العدل وكيلاً للمرتهن لكان له أن يقبضه منه، ولَمَا كان للعدل أن يمنعه إياه، قيل له : هذا لا يخرجه عن أن يكون وكيلاً وقابضاً له وإن لم يكن له حقّ القبض، مِنْ قِبَلِ أن الراهن لم يَرْضَ بيده وإنما رَضِيَ بيد وكيله ؛ ألا ترى أن الوكيل بالشِّرَى هو قابضٌ للسلعة للموكل وله أن يحبسها بالثمن ولو هلك قبل الحبس هلك من مال الموكل ؟ وليس جواز حبس الوكيل الرهن عن المرتهن عَلَماً لنفي الوكالة وكونه قابضاً له. ويدلّ على أن يد العدل يد المرتهن وأنه وكيله في القبض، أن للمرتهن متى شاء أن يفسخ هذا الرهن ويبطل يد العدل ويرده إلى الراهن، وليس للراهن إبطالُ يَدِ العدل، فدلّ ذلك على أن العدل وكيل للمرتهن.
فإن قيل : لو جعلا المبيع على يدي عدلٍ لم يخرج عن ضمان البائع أن يكون العدل وكيلاً للمشتري في قبضه، كذلك المرتهن. قيل له : الفرق بينهما أن العدل في البيع لو صار وكيلاً للمشتري في قبضه، لخرج عن ضمان البائع، وفي خروجه من ضمان بائعه سقوطُ حَقِّه منه، ألا ترى أنه لو أجاز قبضه بطل حقه ولم يكن له استرجاعه ؟ لأن المبيع ليس له إلا قبض واحد، فمتى وجد سقط حق البائع ولم يكن له أن يرده إلى يده، وكذلك إذا أودعه إياه. فلذلك لم يكن العدل وكيلاً للمشتري، لأنه لو صار وكيلاً له لصار قابضاً له قَبْضَ بيع ولم يكن المشتري ممنوعاً منه، فكان لا معنى لقبض العدل بل يكون المشتري كأنه قبضه والبائع لم يَرْضَ بذلك، فلم يَجُزْ إثباتُهُ ولم يصحّ أن يكون العدل وكيلاً للمشتري. ومن جهة أخرى أنه لو قبضه للمشتري لتم البيع فيه، وفي تمام البيع سقوطُ حق البائع فيه، فلا معنى لبقائه في يدي العدل بل يجب أن يأخذه المشتري والبائع لم يَرْضَ بذلك ؛ وليس كذلك الرهن، لأن كون العدل وكيلاً للمرتهن لا يوجب إبطال حق الراهن، ألا ترى أن حَقَّ الراهن باقٍ بعد قبض المرتهن ؟ فكذلك بعد قبض العدل، فلا فرق بين قبض العَدْلِ وقبض المرتهن، وفَارَقَ العدل في الشّرَى لامتناع كونه وكيلاً للمشتري إذ كان يصير في معنى قبض المشتري في خروجه من ضمان البائع ودخوله في ضمانه وفي معنى تمام البيع فيه وسقوط حق البائع منه والبائع لم يرض بذلك، ولا يجوز أن يكون عدْلاً مِنٍْ قِبَلِ أن حقَّ الحبس موجبٌ له بالعقد فلا يسقط ذلك أو يرضى بتسليمه إلى المشتري أو يقبض الثمن ؛ والله أعلم.

باب ضمان الرهن


قال الله تعالى :﴿ فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته ﴾ فعطف بذكر الأمانة على الرهن، فذلك يدل على أن الرهن ليس بأمانة، وإذا لم يكن أمانةً كان مضموناً، إذ لو كان الرهن أمانة لما عطف عليه الأمانة لأن الشيء لا يُعطف على نفسه وإنما يُعطف على غيره.
واختلف الفقهاء في حكم الرهن، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن أبي ليلى والحسن بن صالح :" ا
قوله تعالى :﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾ قال أبو بكر : رُوي أنها منسوخة بقوله :﴿ لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها ﴾ حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : حدثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله :﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾ قال : نسخها قوله تعالى :﴿ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ﴾. وحدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر قال : سمعت الزهري يقول في قوله تعالى :﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ﴾ قال : قرأها ابنُ عمر وبَكَى قال : إنّا لمأخوذون بما نحدِّث به أنفسنا، فبكى حتى سُمع نشيجُه، فقام رجلٌ من عنده فأتى ابن عباس فذكر ذلك له فقال : يرحم الله ابن عمر لقد وَجَد منها المسلمون نحواً مما وجد حتى نزلت بعدها :﴿ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ﴾. ورُوي عن الشعبي عن أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود قال : نسختها الآية التي تليها :﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾. وروى معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس :﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾ : أنها لم تنسخ، لكن الله إذا جمع الخلق يوم القيامة يقول إني أخبركم مما في أنفسكم مما لم تطّلِعْ عليه ملائكتي ؛ فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم، وهو قوله :﴿ يحاسبكم به الله فيغفر لمن شاء ويعذب من يشاء ﴾. قوله تعالى :﴿ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٥ ] من الشكّ والنفاق. ورُوي عن الربيع بن أنس مثل ذلك. وقال عمرو بن عبيد : كان الحسن يقول : هي محكمةٌ لم تُنسخ. ورُوي عن مجاهد أنها محكمة في الشك واليقين.
قال أبو بكر : لا يجوز أن تكون منسوخة لمعنيين : أحدهما أن الأخبار لا يجوز فيها النسخُ لأنَ نَسْخَ مُخْبِرَهَا يدل على البَدَاءِ والله تعالى عالم بالعواقب غير جائز عليه البداء.
والثاني : أنه لا يجوز تكلف ما ليس في وُسْعِها لأنه سَفَهٌ وعَبَثٌ والله تعالى يتعالى عن فعل العبث. وإنما قول من رُوي عنه أنها منسوخة فإنه غلطٌ من الراوي في اللفظ، وإنما أراد بيان معناها وإزالة التوهم عن صَرْفِهِ إلى غير وجهه. وقد رَوَى مِقْسَمٌ عن ابن عباس : أنها نزلت في كتمان الشهادة ؛ ورُوي عن عكرمة مثله. ورُوي عن غيرهما أنها في سائر الأشياء. وهذه أوْلى، لأنه عموم مكتف بنفسه، فهو عامٌ في الشهادة وغيرها. ومن نظائر ذلك في المؤاخذة بكسب القلب قوله تعالى :﴿ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٥ ]، وقال تعالى :﴿ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم ﴾ [ النور : ١٩ ]، وقال تعالى :﴿ في قلوبهم مَرَض ﴾ [ البقرة : ١٠ ] أي شكّ.
فإن قيل : رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إنَّ الله عَفَا لأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ به أنْفُسَها ما لم يَتكَلَّمُوا به أو يَعْمَلُوا به ". قيل له : هذا فيما يلزمه من الأحكام فلا يقع عتقه ولا طلاقه ولا بيعه ولا صدقته ولا هبته بالنية ما لم يتكلم به، وما ذكر في الآية فيما يُؤاخذ به مما بين العبد وبين الله تعالى : وقد رَوَى الحسنُ بن عطية عن أبيه عن عطية عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾ فقال : سِرُّ عملك وعلانيته يحاسبك به الله، وليس من عبد مؤمن يُسِرُّ في نفسه خيراً ليعمل له، فإن عمل به كُتِبَ له به عشرُ حسنات وإن هو لم يقدر أن يعمل به كُتِبَ له به حَسَنَةٌ من أجل أنه مؤمن، وإن الله رضي بسرِّ المؤمنين وعلانيتهم، وإن كان شرّاً حدَّث به نفسه اطّلع الله عليه أخبر به يوم تُبْلى السرائر، فإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل، فإن هو عمل به تجاوز الله عنه كما قال :﴿ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم ﴾ [ الأحقاف : ١٦ ] وهذا على معنى قوله :" إن الله عَفَا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا به ".
قوله تعالى :﴿ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ﴾ فيه نصٌّ على أن الله تعالى لا يكلف أحداً ما لا يقدر عليه ولا يطيقه، ولو كلف أحداً ما لا يقدر عليه ولا يستطيعه لكان مكلفاً له ما ليس في وُسْعِهِ، ألا ترى قول القائل " ليس في وُسعي كَيْتَ كَيْتَ " بمنزلة قوله " لا أقدر عليه ولا أطيقه " ؟ بل الوسع دون الطاقة. ولم تختلف الأُمة في أن الله لا يجوز أن يكلف الزّمِنَ المَشْيَ والأعمى البَصَرَ والأقْطعَ اليدينِ البَطْشَ، لأنه لا يقدر عليه ولا يستطيع فعله ؛ ولا خلاف في ذلك بين الأمة. وقد وردت السنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من لم يستطع الصلاة قائماً فغير مكلَّف للقيام فيها، ومن لم يستطعها قاعداً فغير مكلف للقعود بل يصلّيها على جَنْبٍ يومىء إيماءً، لأنه غير قادر عليها إلاّ على هذا الوجه ؛ ونصُّ التنزيل قد أسقط التكلف عمن لا يقدر على الفعل ولا يطيقه. وزعم قوم جُهَّالٌ نَسَبَتْ إلى الله فعل السَّفَهِ والعَبَثِ، فزعموا أن كل ما أُمر به أحدٌ من هل التكليف أو نُهي عنه، فالمأمور به منه غير مقدور على فعله والمنهيُّ عنه غير مقدور على تركه. وقد أكْذَبَ الله قيلهم بما نصَّ عليه من أنه لا يكلِّف الله نفساً إلا وُسْعها، مع ما قد دلَّت عليه العقول من قُبْحِ تكليف ما لا يطاق وأن العالم بالقبيح المستغني عن فعله لا يقع منه فعل القبيح، ومما يتعلق بذلك من الأحكام سقوطُ الفَرْض عن المكلَّفين فيما لا تتّسع له قواهم، لأن الوُسْعَ هو دون الطاقة، وأنه ليس عليهم استفراغ المجهود في أداء الفرض نحو الشيخ الكبير الذي يشقّ عليه الصوم ويؤدّيه إلى ضرر يلحقه في جسمه : وإن لم يَخْشَ الموت بفعله فليس عليه صومُه لأن الله لم يكلّفه إلا ما يتسع لفعله ولا يبلغ به حال الموت. وكذلك المريض الذي يَخْشَى ضرر الصوم وضرر استعمال الماء، لأن الله قد أخبر أنه لا يكلِّف أحداً إلا ما اتّسعت له قدرتُه وإمكانُه دون ما يضيق عليه ويُعْنِتُهُ ؛ وقال الله تعالى :﴿ ولو شاء الله لأعنتكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٠ ] وقال في صفة النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ عزيز عليه ما عنّتم ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ]. فهذا حكم مستمرٌّ في سائر أوامر الله وزواجره ولزوم التكليف فيها على ما يتسع له ويقدر عليه.
قوله عز وجل :﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ﴾ قال أبو بكر : النسيان على وجهين، أحدهما : أنه قد يتعرض الإنسان للفعل الذي يقع معه النسيان فيحسن الاعتذار به إذا وقعت منه جناية على وجه السهو. والثاني : أن يكون النسيانُ بمعنى تَرْكِ المأمور به لشُبْهَةٍ تدخل عليه أو سوءِ تأويلٍ، وإن لم يكن الفعل نفسه واقعاً على وجه السهو فيحسن أن يسأل الله مغفرة الأفعال الواقعة على هذا الوجه. والنسيان بمعنى التركِ مشهورٌ في اللغة، قال الله تعالى :﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾ [ التوبة : ٦٧ ] يعني تركوا أمر الله تعالى فلم يستحقّوا ثوابه، فأطلق اسم النسيان على الله تعالى على وجه مقابلة الاسم كقوله :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] وقوله :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ [ الشورى : ٤٠ ].
قال أبو بكر : النسيانُ الذي هو ضد الذكر فإنّ حُكْمَهُ مرفوعٌ فيما بين العبد وبين الله تعالى في استحقاق العقاب، والتكليفُ في مثله ساقطٌ عنه والمؤاخذةُ به في الآخرة غير جائزة، لأنه لا حكم له فيما يكلفه من العبادات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نصَّ على لزوم حكم كثير منها مع النسيان، واتّفقت الأمّة أيضاً على حكمها ؛ من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :" مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةٍ أو نَسِيَها فَلْيُصَلِّها إذا ذَكَرَها " وتلا عند ذلك :﴿ وأقم الصلاة لذكري ﴾ [ طه : ١٤ ] فدلّ على أن مراد الله تعالى بقوله :﴿ وأقم الصلاة لذكري ﴾ [ طه : ١٤ ] فِعْلُ المنسيَّةِ منها عند الذكر. وقال تعالى :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ [ الكهف : ٢٤ ] وذلك عمومٌ في لزومه قضاء كل منسيّ عند ذكره. ولا خلاف بين الفقهاء في أن ناسي الصوم والزكاة وسائر الفروض بمنزلة ناسي الصلاة في لزوم قضائها عند ذكرها ؛ وكذلك قال أصحابنا في المتكلم في الصلاة ناسياً : إنه بمنزلة العامد، لأن الأصل أن العامد والناسي في حكم الفروض سواء، وأنه لا تأثير للنسيان في إسقاط شيء منها إلا ما ورد به التوقيف ؛ ولا خلاف أن تارك الطهارة ناسياً كتارِكِها عامداً في بطلان حكم صلاته. وكذلك قالوا في الأكل في نهار شهر رمضان ناسياً : إن القياس فيه إيجابُ القضاء ؛ وإنهم إنما تركوا القياس فيه للأثر. ومع ما ذكرنا فإن الناسي مؤدٍّ لفرضه على أيّ وجه فعله، إذْ لم يكلفه الله في تلك الحال غيره، وإنما القضاء فرضٌ آخر ألزمه الله تعالى بالدلائل التي ذكرنا، فكان تأثير النسيان في سقوط المأثم فحسب، فأما في لزوم فرض فلا. وقولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم :" رُفِعَ عَنْ أُمَّتي الخَطَأُ والنِّسْيانُ " مقصورٌ على المأثم أيضاً دون رفع الحكم، ألا ترى أن الله تعالى قد نصّ على لزوم حكم قتل الخطأ في إيجاب الدية والكفارة ؟ فلذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النسيان مع الخطأ، وهو على هذا المعنى.
فإن قال قائلٌ : مِنْ أصلكم إيجابُ فرض التسمية على الذبيحة، ولو تركها عامداً كانت ميتة وإذا تركها ناسياً حلّت وكانت مذكاة، ولم تجعلوه بمنزلة تارك الطهارة ناسياً حتى صلَّى فيكون مأموراً بإعادتها بالطهارة قطعاً، وكذلك الكلام في الصلاة ناسياً. قيل له : لما بيّنا من أنه لم يكلَّفْ في الحال غير ما فعل على وجه النسيان، والذي لزمه بعد الذكر فرضٌ مبتدأ آخر، وكذلك نجيز في هذه القضية أن لا يكون مكلَّفاً في حال النسيان للتسمية، فصحَّت الذكاة، ولا تتأتى بعد الذكاة فيه ذبيحة أخرى فيكون مكلفاً لها كما كُلِّف إعادة الصلاة والصوم ونحوه.
قوله تعالى :﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾ هو مثل قوله تعالى :﴿ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ] وقوله :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى ﴾ [ النجم : ٣٩ و ٤٠ ]. وفيه الدلالة على أن كل أحد من المكلفين فأحكام أفعاله متعلّقة به دون غيره، وأن أحداً لا يجوز تصرفه على غيره ولا يؤاخذ بجريرة سواه ؛ وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة حين رآه مع ابنه فقال :" هذا ابْنُكَ ؟ " قال : نعم ! قال :" إنّكَ لا تَجْني عَلَيْهِ ولا يَجْني عَلَيْك ". وقال صلى الله عليه وسلم :" لا يُؤَاخَذُ أحَدٌ بِجَرِيرةِ أبِيهِ ولا بجَرِيرةِ أخِيهِ " فهذا هو العدل الذي لا يجوز في العقول غيره.
وقوله تعالى :﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾ يحتج به في نفي الحَجْرِ وامتناع تصرف أحدٍ من قاضٍ أو غيره على سواه ببيع ما له أو منعه منه إلاّ ما قامت الدلالة على خصوصه. ويحتجّ به في بطلان مذهب مالك بن أنس في أن من أدَّى دَيْنَ غيره بغير أمره أن له أن يرجع به عليه ؛ لأن الله تعالى إنما جعل كسبه له وعليه ومنع لزومه غيره.
قوله عز وجل :﴿ ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ﴾ قد قيل في معنى الإصْرِ إنه الثّقل. وأصله في اللغة يقال إنه العطف، ومنه أواصر الرّحِمِ، لأنها تعطفه عليه ؛ والواحد آصِرٌ. والمأصر يقال إنه حَبْلٌ يُمَدُّ على طريق أو نهر تحبس به المارة ويعطفون به عن النفوذ ليؤخذ منهم العشور والمكس. والمعنى في قوله :﴿ ولا تحمل علينا إصراً ﴾ يريد به عهداً، وهو الأمر الذي يثقل ؛ رُوي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وهو في معنى قوله تعالى :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ [ الحج : ٧٨ ] يعني من ضِيق ؛ وقوله :﴿ يريد الله بكم اليسر ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ﴾ [ المائدة : ٦ ]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" جِئْتُكُمْ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ". ورُوي عنه " أن بني إسرائيل شدّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم ". فقوله :﴿ ولا تحمل علينا إصراً ﴾ يعني من ثقل الأمر والنهي ﴿ كما حملته على الذين من قبلنا ﴾ وهو كقوله :﴿ ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ]. وهذه الآية ونظائرها يُحتجّ بها على نفي الحرج والضيق والثقل في كل أمر اختلف الفقهاء فيه وسوَّغوا فيه الاجتهاد، فالموجبُ للثقل والضِّيقِ والحرج محجوجٌ بالآية، نحو إيجاب النية في الطهارة وإيجاب الترتيب فيها وما جرى مجرى ذلك في نفي الضيق والحرج يجوِّزُ لنا الاحتجاج بالظواهر التي ذكرناها.
قوله تعالى :﴿ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾ قيل فيه وجهان، أحدهما : ما يشتدّ ويثقل من التكليف كنحو ما كُلّف بنو إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم ؛ وجائز أن يعبر بما يثقل أنه لا يطيقه، كقولك " ما أطيق كلام فلان ولا أقدر أن أراه " ولا يُراد به نفي القدرة، وإنما يريدون أنه يثقل عليه فيكون بمنزلة العاجز الذي لا يقدر على كلامه ورؤيته لبُعْدِهِ من قلبه وكراهته لرؤيته وكلامه. وهو كما قال تعالى :﴿ وكانوا لا يستطيعون سمعاً ﴾ [ الكهف : ١٠١ ] وقد كانت لهم أسماعٌ صحيحة، إلاّ أن المراد أنهم استثقلوا استماعه فأعْرَضُوا عنه وكانوا بمنزلة من لم يسمع. والوجه الثاني : أن لا يحملنا من العذاب ما لا نطيقه. وجائزٌ أن يكون المرادُ الأمرين جميعاً، والله أعلم بالصواب.
Icon