تفسير سورة البقرة

إعراب القرآن للنحاس
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب إعراب القرآن المعروف بـإعراب القرآن للنحاس .
لمؤلفه ابن النَّحَّاس . المتوفي سنة 338 هـ

[٢] شرح إعراب سورة البقرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة البقرة (٢) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١)
من ذلك قوله عزّ وجلّ: الم... مذهب الخليل وسيبويه «١» في «الم» وما أشبهها أنها لم تعرب لأنها بمنزلة حروف التهجّي فهي محكيّة ولو أعربت ذهب معنى الحكاية وكان قد أعرب بعض الاسم، وقال الفراء: «٢» إنما لم تعرب لأنك لم ترد أن تخبر عنها بشيء، وقال أحمد بن يحيى «٣» : لا يعجبني قول الخليل فيها لأنك إذا قلت: زاي فليست هذه الزاي التي في زيد لأنك قد زدت عليها. قال أبو جعفر: هذا الرّدّ لا يلزم لأنك لا تقدر أن تنطق بحرف واحد حتى تزيد عليه. قال ابن كيسان:
«الم» في موضع نصب بمعنى اقرأ «الم» أو عليك «الم» ويجوز أن يكون موضعه رفعا بمعنى: هذا الم أو هو أو ذاك.
ثم قال عزّ وجلّ:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)
ذلِكَ فيه ستة أوجه: يكون بمعنى هذا ذلك الكتاب، فيكون خبر هذا ويكون بمعنى «الم ذلك» هذا قول الفراء «٤» أي حروف المعجم ذلك الكتاب واجتزئ ببعضها من بعض، ويكون هذا رفعا بالابتداء والْكِتابُ خبره، والكوفيون يقولون: رفعنا هذا بهذا وهذا بهذا، ويكون «الكتاب» عطف البيان الذي يقوم مقام النعت وهُدىً
(١) انظر الكتاب ٣/ ٢٨٤.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٩.
(٣) أحمد بن يحيى ثعلب: إمام الكوفيين في النحو واللغة، حفظ كتب الفرّاء، ولازم ابن الأعرابي بضع عشرة سنة واعتمد عليه في اللغة، وعلى سلمة بن عاصم في النحو. صنّف: المصون في النحو، واختلاف النحويين، ومعاني القرآن، معاني الشعر، القراءات، التصغير، الوقف والابتداء، الهجاء، الأمالي، غريب القرآن، وغيره (ت ٢٩١ هـ). ترجمته في: (بغية الوعاة ١/ ٣٩٦، وطبقات الزبيدي ١٥٥).
(٤) انظر معاني الفراء ١/ ١٠.
23
خبرا، ويكون لا رَيْبَ فِيهِ الخبر، والكوفيون يقولون: الهاء العائدة الخبر. والوجه السادس: أن يكون الخبر «لا ريب فيه» لأن معنى لا شكّ: حقّ، ويكون التمام على هذا لا ريب، ويقال: ذلك، ولغة تميم ذاك. ولم تعرب ذلك ولا هذا لأنها لا يثبتان على المسمّى. قال البصريون: اللّام في ذلك توكيد، وقال الكسائي والفراء: جيء باللّام في ذلك لئلا يتوهّم أنّ ذا مضاف إلى الكاف، وقيل: جيء باللّام بدلا من الهمزة ولذلك كسرت، وقال علي بن سليمان: جيء باللّام لتدل على شدة التراخي. قال أبو إسحاق «١» : كسرت فرقا بينها وبين لام الجرّ ولا موضع للكاف. والاسم عند البصريين «ذا» وعند الفراء «٢» الذال. ثم قال الله جلّ وعزّ لا رَيْبَ فِيهِ نصب «ريب» لأن «لا» عند البصريين مضارعة لأنّ فنصبوا بها وأنّ «لا» لم تعمل إلّا في نكرة لأنها جواب نكرة فيها معنى «من» بنيت مع النكرة فصيّرا شيئا واحدا، وقال الكسائي: سبيل النكرة أن يتقدمها أخبارها فتقول: قام رجل، فلما تأخّر الخبر في التبرئة «٣» نصبوا ولم ينوّنوا لأنه نصب ناقص، وقال الفراء: سبيل «لا» أن تأتي بمعنى غير، تقول: مررت بلا واحد ولا اثنين، فلما جئت بها بغير معنى «غير» وليس، نصبت بها ولم تنوّن لئلا يتوهّم أنك أقمت الصفة مقام الموصوف، وقيل: إنّما نصبت لأن المعنى: لا أجد ريبا، فلما حذفت الناصب حذفت التنوين، ويجوز لا رَيْبَ فِيهِ «٤» تجعل «لا» بمعنى ليس.
وأنشد سيبويه: [مجزوء الكامل] ٣-
من صدّ عن نيرانها... فأنا ابن قيس لابراح «٥»
فِيهِ هُدىً الهاء في موضع خفض بفي، وفي الهاء خمسة أوجه: أجودها «فيه هدى» ويليه فِيهِ هُدىً «٦» بضم الهاء بغير واو، وهي قراءة الزهري «٧» وسلّام أبي المنذر «٨»
(١) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ص ٢٨.
(٢) انظر الإنصاف مسألة ٩٥، والبحر المحيط ١/ ١٥٤.
(٣) التبرئة: النفي للجنس.
(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٢، والبحر المحيط ١/ ١٦٠.
(٥) الشاهد لسعد بن مالك في الأشباه والنظائر ٨/ ١٠٩، وخزانة الأدب ١/ ٤٦٧، والدرر ٢/ ١١٢، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٨، وشرح التصريح ١/ ١٩٩، وشرح شواهد المغني ص ٥٨٢، وشرح المفصل ١/ ١٠٩، والكتاب ١/ ٥٨، والمقاصد النحوية ٢/ ١٥٠، وبلا نسبة في الإنصاف ص ٣٦٧، وأوضح المسالك ١/ ٢٨٥، وشرح الأشموني ١٢٥، ومغني اللبيب ص ٢٣٩، والمقتضب ٤/ ٣٦٠.
(٦) انظر مختصر ابن خالويه (٢)، والحجة للفارسي ١/ ١٤٢.
(٧) الزهري: أبو بكر محمد بن مسلم المدني، أحد الأئمة الكبار، تابعي، وردت عنه الرواية في حروف القرآن، قرأ على أنس (ت ١٢٤ هـ). ترجمته في غاية النهاية ٢/ ٢٦٢.
(٨) سلّام بن سليمان أبو المنذر المزنيّ، ثقة ومقرئ كبير، أخذ القراءة عن عاصم وأبي عمرو. وقرأ عليه يعقوب الحضرمي. (ت ١٧١ هـ) ترجمته في غاية النهاية ١/ ٣٠٩.
24
ويليه فيهي هدى بإثبات الياء وهي قراءة ابن كثير، ويجوز فيهو هدى بالواو ويجوز فِيهِ هُدىً مدغما والأصل «فيهو هدى» الاسم الهاء وزيدت الواو عند الخليل لأن الهاء خفيّة فقويت بحرف جلد متباعد منها وتبدل منها ياء لأن قبلها ياء أو يحذف لاجتماع الواو والياء عند سيبويه «١»، ولاجتماع الساكنين عند أبي العباس، وكذا الياء، ويدغم لاجتماع هاءين وليس بجيد، لأنّ حروف الحلق ليست أصلا بالإدغام ويجتمع ساكنان، وقال سيبويه:
إنّما زيدت الواو كما زيدت الألف في المؤنث. وفي «هدى» ستة أوجه: تكون في موضع رفع خبرا عن ذلك، وعلى إضمار مبتدأ وعلى أن تكون خبرا بعد خبر، وعلى أن تكون رفعا بالابتداء. قال أبو إسحاق: يكون المعنى فيه هدى ولا ريب. فهذه أربعة أوجه. في الرفع، ويكون على وجه خامس وهو أن يكون، على موضع لا ريب فيه أي حق هدى، ويكون نصبا على الحال من ذلك والكوفيون يقولون: قطع «٢»، ويكون حالا من الكتاب وتكون حالا من الهاء، قال الفرّاء: بعض بني أسد يؤنّث الهدى فيقول: هذه هدى حسنة، ولم يعرب لأنه مقصور والألف لا يحرّك. ثم قال جلّ وعزّ لِلْمُتَّقِينَ مخفوض باللّام الزائدة، ولغة أهل الحجاز: فلان موتق. وهذا هو الأصل والتّقيّة أصلها الوقيّة من وقيت أبدلت من الواو تاء لأنها أقرب الزوائد إليها وقد فعلوا ذلك من غير أن يكون ثمّ تاء، كما حدّثنا عليّ بن سليمان عن محمد بن يزيد عن المازني قال: سألت الأصمعي عن قول الشاعر: [الرجز] ٤-
فإن يكن أمسى البلى تيقوري «٣»
وقلت له: قال الخليل: هو فيعول من الوقار فأبدل من الواو تاء فقال: هذا قول الأشياخ والأصل للمتّقين بياءين مخفّفتين وحذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين،
ثم قال جلّ وعزّ:
[سورة البقرة (٢) : آية ٣]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
الَّذِينَ: في موضع خفض نعت للمتقين ويجوز أن يكون نصب بمعنى أعني، ورفعا من جهتين بالابتداء، والخبر أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وعلى إضمار «هم».
يُؤْمِنُونَ بالهمز لأن أصل آمن: أأمن كره الجمع بين همزتين فأبدلت من الثانية ألف
(١) انظر الكتاب ٤/ ٣٠٥.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ١٢. [.....]
(٣) الشاهد من أرجوزة للعجاج في ديوانه ١/ ٣٤٠، ولسان العرب (هير)، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٤٢٣، والكتاب ٤/ ٣٣٢، والتنبيه والإيضاح ٢/ ٢٢٩، وتهذيب اللغة ٩/ ٢٨١، وكتاب المعين ٥/ ٢٠٧، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب ١/ ١٤٦، وشرح المفصل ١٠/ ٣٨، والمنصف ١/ ٢٢٧، والمخصص ٣/ ١٨، ٧ ١٨٢.
فلما قلت: يؤمنون فزالت إحدى الهمزتين همزت على الأصل، وإن خفّفت قلت: يؤمنون بغير همز. ويؤمنون مثل يكرمون الأصل فيه يؤكرمون لأن سبيل المستقبل أن يكون زائدا على الماضي حرفا إلّا أنه حذف منه الزائد لأن الضمّة تدلّ عليه ولو جئت به على الأصل لاجتمعت الهمزات. والمضمر في يؤمنون يعود على الذين، وهذيل تقول: الّذون في موضع الرفع، ومن العرب من يقول: الذي في الجمع كما قال: [الطويل] ٥-
أو إنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد «١»
بِالْغَيْبِ مخفوض بالباء الزائدة والباء متصل بيؤمنون وَيُقِيمُونَ معطوف على يؤمنون والأصل يقومون قلبت كسرة على القاف فانقلبت ياء، الصَّلاةَ منصوبة بيقيمون، وجمعها صلوات، وصلاءة، وصلاوة. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ «ما» في موضع خفض بمن وهي مصدر لا يحتاج إلى عائد، ويجوز أن يكون بمعنى الذي وتحذف العائد، والنون والألف رفع بالفعل والهاء والميم نصب به ومن متصلة بينفقون أي وينفقون مما رزقناهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ عطف على الذين الأولين بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ «ما» خفض بالباء والضمير الذي في أنزل يعود على «ما» وهو اسم ما لم يسمّ فاعله والكاف خفض بإلى والأصل الاك أبدل من الألف ياء للفرق بين الألفات المتمكّنة، والتي ليست بمتمكنة ويلزمها الإضافة، وأجاز الكسائي حذف الهمزة وأن يقرأ: وما أنزلّيك، وشبّهه بقوله لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [الكهف: ٣٨] قال ابن كيسان: ليس مثله لأنّ النون من لكن ساكنة واللام من أنزل متحركة. وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عطف. وقَبْلِكَ مخفوض بمن والكاف خفض بإضافة قبل إليها. وَبِالْآخِرَةِ خفض بالباء والباء متعلقة بيوقنون وهُمْ رفع بالابتداء ويُوقِنُونَ فعل مستقبل في موضع الخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
أُولئِكَ ابتداء والخبر عَلى هُدىً وأهل نجد يقولون: ألّاك «٢»، وبعضهم
(١) الشاهد للأشهب بن رميلة في خزانة الأدب ٦/ ٧، وشرح شواهد المغني ٢/ ٥١٧، والكتاب ١/ ١٨٧، ولسان العرب (فلج)، والمؤتلف والمختلف ص ٣٣، والمحتسب ١/ ١٨٥، والمقاصد النحوية ١/ ٤٨٢، والمقتضب ٤/ ١٤٦، والمنصف ١/ ٦٧، وللأشهب أو لحريث بن مخفض في الدرر ١/ ١٤٨، وبلا نسبة في الأزهية ص ٩٩، وخزانة الأدب ٢/ ٣١٥، والدرر ٥/ ١٣١، ورصف المباني ص ٣٤٢، وسرّ صناعة الإعراب ٢/ ٥٣٧، وشرح المفصل ٣/ ١٥٥، ومغني اللبيب ١/ ١٩٤.
(٢) انظر همع الهوامع ١/ ٧٤.
يقول: ألا لك، و (هدى) خفض بعلى: مِنْ رَبِّهِمْ خفض بمن، والهاء والميم خفض بالإضافة ويقال: كيف قرأ أهل الكوفة (عليهم) ولم يقرءوا «من ربّهم» «ولا» «فيهم» ؟
والجواب أنّ «عليهم» الياء فيه منقلبة من ألف والأصل علاهم قال: [الرجز] ٦-
طارت علاهنّ فطر علاها «١»
فأقرّت الهاء على ضمتها، وليس هذا في «فيهم» «ولا من ربّهم» وَأُولئِكَ رفع بالابتداء هُمُ ابتداء ثان الْمُفْلِحُونَ خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول، ويجوز أن يكون «هم» زيادة، يسميها البصريون فاصلة «٢» ويسميها الكوفيون عمادا «٣» والْمُفْلِحُونَ خبر أولئك.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦)
إِنَّ الَّذِينَ الَّذِينَ: نصب بإن وعملت إنّ لأنها أشبهت الفعل في الإضمار ويقع بعدها اسمان وفيها معنى التحقيق. كَفَرُوا صلة «الذين» والمضمر يعود على الذين. قال محمد بن يزيد سَواءٌ عَلَيْهِمْ رفع بالابتداء: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ الخبر والجملة خبر «إنّ» أي أنهم تبالهوا حتى لم تغن فيهم النذارة والتقدير سواء عليهم الإنذار وتركه، أي سواء عليهم هذان، وجيء بالاستفهام من أجل التسوية. قال ابن كيسان: يجوز أن يكون سواء خبر إنّ وما بعده، يقوم مقام الفاعل، ويجوز أن يكون خبر إنّ «لا يؤمنون» أي إنّ الذين كفروا لا يؤمنون أَأَنْذَرْتَهُمْ «٤» فيه ثمانية أوجه: أجودها عند الخليل وسيبويه «٥» تخفيف الهمزة الثانية وتحقيق الأولى. وهي لغة قريش وسعد بن بكر وكنانة، وهي قراءة أهل المدينة وأبي عمرو والأعمش أَأَنْذَرْتَهُمْ «٦»، قال ابن كيسان: وروي عن ابن محيصن «٧» أنّه قرأ بحذف الهمزة الأولى سواء عليهم أنذرتهم «٨» فحذف لالتقاء
(١) الشاهد لرؤبة في ديوانه ص ١٦٨، وله أو لأبي النجم أو لبعض أهل اليمن في المقاصد النحوية ١/ ١٣٣، ولبعض أهل اليمن في خزانة الأدب ٧/ ١٣٣، وشرح شواهد المغني ١/ ١٢٨ وبلا نسبة في لسان العرب (طير، وعلا، ونجا) وخزانة الأدب ٤/ ١٠٥، والخصائص ٢/ ٢٦٩، وشرح شواهد الشافيه ٣٥٥، وشرح المفصل ٣/ ٣٤، وقبله: «نادية وناديا أباها».
(٢) انظر المقتضب ٤/ ١٠٣.
(٣) انظر مجالس ثعلب ٥٣.
(٤) انظر البحر المحيط ١/ ١٧٤.
(٥) انظر الكتاب ٤/ ٢٩.
(٦) انظر التيسير الداني ص ٣٦، باب ذكر الهمزتين المتلاحقتين في كلمة.
(٧) ابن محيصن: محمد بن عبد الرّحمن السهمي، مولاهم، مقرئ أهل مكة مع ابن كثير، ثقة، عرض على مجاهد وابن جبير (ت ١٢٣ هـ) ترجمته في غاية النهاية ٢/ ١٦٧.
(٨) انظر مختصر ابن خالويه (٢)، والمحتسب ١/ ٥٠.
الهمزتين، وإن شئت قلت: لأن «أم» تدلّ على الاستفهام كما قال: [المتقارب] ٧-
تروح من الحيّ أم تبتكر وماذا يضرّك لو تنتظر «١»
وروي عن ابن أبي إسحاق أنه قرأ أَأَنْذَرْتَهُمْ «٢» حقّق الهمزتين وأدخل بينهما ألفا لئلا يجمع بينهما. قال أبو حاتم: ويجوز أن يدخل بينهما ألفا ويخفف الثانية وأبو عمرو ونافع يفعلان ذلك كثيرا، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين أَأَنْذَرْتَهُمْ وهو اختيار أبي عبيد، وذلك بعيد عند الخليل وسيبويه يشبهه الثقل بضننوا. قال سيبويه «٣» : الهمزة بعد مخرجها وهي نبرة تخرج من الصدر باجتهاد، وهي أبعد الحروف مخرجا فثقلت لأنها كالتهوّع.
فهذه خمسة أوجه، والسادس قاله الأخفش قال: يجوز أن تخفّف الأولى من الهمزتين وذلك رديء لأنهم إنّما يخفّفون بعد الاستثقال وبعد حصول الواحدة. قال أبو حاتم: ويجوز تخفيف الهمزتين جميعا. فهذه سبعة أوجه، والثامن يجوز في غير القرآن لأنه مخالف للسواد. قال الأخفش سعيد: تبدل من الهمزة هاء فتقول «هانذرتهم» كما يقال: إيّاك وهيّاك: وقال الأخفش: في قول الله عزّ وجلّ «هأنتم» إنّما هو أأنتم. والتاء في «أأنذرتهم» في موضع رفع وفتحتها فرقا بين المخاطب والمخاطب، والهاء والميم نصحب بوقوع الفعل عليهما «أم لم تنذرهم» جزم بلم وعلامة الجزم حذف الضمة من الراء، والهاء والميم نصب أيضا، لا يُؤْمِنُونَ فعل مستقبل ولا موضع للا من الإعراب.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
خَتَمَ اللَّهُ خَتَمَ: فعل ماض واسم الله جلّ وعزّ مرفوع بالفعل، عَلى قُلُوبِهِمْ مخفوض بعلى والهاء والميم خفض بالإضافة. وَعَلى سَمْعِهِمْ مثله. ولم لم يقل و «على أسماعهم» وقد قال «على قلوبهم» ففيه ثلاثة أجوبة: منها أن السمع مصدر فلم يجمع، وقيل: هو واحد يؤدي عن الجميع، وقيل: التقدير وعلى موضع سمعهم. وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ رفع بالابتداء، وعند الكوفيين بالصفة. وروى المفضّل «٤» عن عاصم بن
(١) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ١٥٤، والأزهيّة ص ٣٧، ولسان العرب (عبد)، وبلا نسبة في رصف المعاني ص ٤٥.
(٢) انظر الحجة للفارسي ١/ ٢٠٥.
(٣) انظر الكتاب ٤/ ٢٩. [.....]
(٤) المفضّل الضبي الكوفي: مقرئ نحوي، أخباري موثّق، من أجلّة أصحاب عاصم (ت ١٦٨ هـ)، ترجمته في معرفة القراء الكبار ١٨.
بهدلة وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «١» بالنصب أضمر وجعل، وقرأ الحسن غشاوة «٢» بضم العين، وقرأ أبو حيوة غشاوة «٣» بفتح. قال أبو جعفر: وأجودها غِشاوَةٌ بكسر الغين كذلك تستعمل العرب في كل ما كان مشتملا على الشيء نحو عمامة وقلادة، روي عن الأعمش غشوة ردّه إلى أصل المصدر. قال ابن كيسان، وهو النحويّ، فكلما قلنا: قال ابن كيسان فإيّاه نعني: يجوز غشوة وغشوة فإن جمعت غشاوة تحذف الهاء قلت: غشاء، وحكى الفراء غشاوى مثل أداوى. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ رفع بالابتداء. عَظِيمٌ من نعته.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)
وَمِنَ النَّاسِ خفض بمن وفتحت النون وأنت تقول. من الناس، لأن قبل النون في «من» كسرة فحرّكوها بأخفّ الحركات في أكثر المواضع ورجعوا إلى الأصل في الأسماء التي فيها ألف الوصل، ويجوز في كل واحد منهما ما جاز في صاحبه و «الناس» اسم يجمع إنسانا وإنسانة والأصل عند سيبويه «٤» أناس. قال الفراء: الأصل الأناس خففت الهمزة ثم أدغمت اللام في النون، قال الكسائي: هما لغتان ليست إحداهما أولى من الأخرى. يدلّ على ذلك أن العرب تصغّر ناسا نويسا ولو كان ذلك الأصل لقالوا: أنيس. وَما هُمْ على المعنى و «هم» اسم «ما» على لغة أهل الحجاز ومبتدأ على لغة بني تميم بِمُؤْمِنِينَ خفض بالباء، وهي توكيد عند البصريين وجواب لمن قال: إنّ زيدا لمنطلق عند الكوفيين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩)
يُخادِعُونَ فعل مستقبل، وكذا وَما يَخْدَعُونَ ولا موضع لها من الإعراب إِلَّا أَنْفُسَهُمْ مفعول. وَما يَشْعُرُونَ مثل الأول.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ رفع بالابتداء فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً مفعولان، وبعض أهل الحجاز يميل «فزادهم» ليدلّ على أنه من زدت وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جمع «أليم» إلام وألماء مثل كريم وكرماء، ويقال: ألآم مثل أشراف. بِما كانُوا «ما» خفض بالباء يَكْذِبُونَ في موضع نصب على خبر كان.
(١) انظر مختصر ابن خالويه (٢)، ومعاني القرآن للفراء ١/ ١٣.
(٢) انظر مختصر ابن خالويه (٢)، والبحر المحيط ١/ ١٧٧.
(٣) انظر البحر المحيط ١/ ١٧٧ وهي قراءة الأعمش أيضا.
(٤) انظر الكتاب ٢/ ١٩٧.

[سورة البقرة (٢) : آية ١١]

وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١)
وَإِذا في موضع نصب على الظرف. قِيلَ لَهُمْ فعل ماض، ويجوز قِيلَ لَهُمْ بالإدغام. وجاز الجمع بين ساكنين لأن الياء حرف مدّ ولين والأصل: قول ألقيت حركة الواو على القاف فانكسر ما قبل الواو فقلبت ياء. قال الأخفش: ويجوز قيل بضم القاف وبالياء، ومذهب الكسائي إشمام القاف الضّم ليدلّ على أنّه لما لم يسمّ فاعله وهي لغة كثير من قيس، فأما هذيل وبنو دبير «١» من بني أسد وبنو فقعس فيقولون: قول بواو ساكنة «لهم» الهاء والميم خفض باللام «٢». لا تُفْسِدُوا جزم بلا وعلامة الجزم حذف النون. فِي الْأَرْضِ خفض بفي، وإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على اللام وحذفتها ولم تحذف ألف الوصل لأن الحركة عارضة فقلت: الأرض، وحكى الكسائي أللرض لمّا خفّفت الهمزة فحذفها أبدل منها لاما. قال الفراء: لمّا خفّفت الهمزة تحركت اللام فكره حركتها لأنّ أصلها السكون زاد عليها لاما أخرى ليسلم السكون. قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ابتداء وخبر، و «ما» عند سيبويه «٣» كافّة لأنّ عن العمل، فأما ضمّ «نحن» ففيه أقوال للنحويين قال هشام «٤» : الأصل نحن قلبت حركة الحاء على النون وأسكنت الحاء، وقال محمد بن يزيد: نحن مثل قبل وبعد لأنها متعلقة بالإخبار عن اثنين وأكثر قال أحمد بن يحيى: هي مثل حيت تحتاج إلى شيئين بعدها. قال أبو إسحاق الزجاج «٥» :«نحن» للجماعة ومن علامة الجماعة الواو، والضمة من جنس الواو فلما اضطروا إلى حركة نحن لالتقاء الساكنين حرّكوها بما يكون للجماعة قال: ولهذا ضمّوا واو الجمع في قول أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: ١٦] وقال عليّ بن سليمان: نحن يكون للمرفوع فحرّكوها بما يشبه الرفع.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢]
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢)
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ كسرت «إنّ» لأنها مبتدأة. قال عليّ بن سليمان: يجوز فتحها كما أجاز سيبويه «٦» : حقا أنّك منطلق بمعنى «ألا» والهاء والميم اسم «إنّ» و «هم» مبتدأ و «المفسدون» خبر المبتدأ، والمبتدأ وخبره خبر «إنّ» ويجوز أن يكون «هم»
(١) بنو دبير: بطن من أسد من خزيمة من العدنانية (جمهرة أنساب العرب ١٩٥).
(٢) انظر: البحر المحيط ١/ ١٩١.
(٣) انظر الكتاب ٣/ ١٤٩.
(٤) هشام بن معاوية الضرير يكنى أبا عبد الله، صاحب الكسائي. (ت ٢٠٩ هـ) ترجمته في غاية النهاية ٢/ ٣٥٤.
(٥) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٥١.
(٦) انظر الكتاب ٣/ ١٤٠.
توكيدا للهاء والميم، ويجوز أن يكون فاصلة والكوفيون يقولون: عماد.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا ألف قطع لأنك تقول: يؤمن كَما آمَنَ النَّاسُ الكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف أي إيمانا كإيمان الناس. قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ فيه أربعة أقوال أجودها أن تخفّف الهمزة الثانية فتقلبها واوا خالصة وتحقّق الأولى فتقول السّفهاء ولا «١» وهي قراءة أهل المدينة والمعروف من قراءة أبي عمرو، وإن شئت خفّفتهما جميعا فجعلت الأولى بين الهمزة والألف وجعلت الثانية واوا خالصة، وإن شئت خفّفت الأولى وحقّقت الثانية وإن شئت حقّقتها جميعا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤)
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا الأصل لقيوا حذفت الضمّة من الياء لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، وقرأ محمد بن السّميفع اليمانيّ وإذا لاقوا الذين آمنوا «٢»، والأصل لاقيوا، فإن قيل: لم ضمّت الواو من «لاقوا» في الإدراج وحذفت من «لقوا» ؟ فالجواب أنّ قبل الواو التي في لقوا ضمّة تدلّ عليها فحذفت لالتقاء الساكنين وحرّكت في «لاقوا» لأن قبلها فتحة. الَّذِينَ في موضع نصب بالفعل آمَنُوا داخل في الصلة. قالُوا آمَنَّا جواب إذا. وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ فإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على الواو وحذفتها كما يقرأ أهل المدينة، «شياطينهم» خفض بإلى وهو جمع مكسر فلذلك لم تحذف منه النون بالإضافة، والهاء والميم خفض بالإضافة. قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ الأصل إنّنا حذفت منه لاجتماع النونات «معكم» نصب بالاستقرار ومن أسكن العين جعل «مع» حرفا. إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ مبتدأ وخبر فإن خفّفت الهمزة فسيبويه «٣» يجعلها بين الهمزة والواو وحجّته أنّ حركتها أولى بها، وزعم الأخفش أنه يجعلها ياء محضة فيقول:
مستهزيون «٤» قال الأخفش: أفعل في هذا كما فعلت في قوله: «السفهاء ولا» قال محمد بن يزيد ليس كما قال الأخفش لأن قوله: «السفهاء الا» لو جئت بها بين بين كنت تنحو بها نحو الألف، والألف لا يكون ما قبلها إلّا مفتوحا فاضطررت إلى قلبها
(١) انظر تيسير الداني ص ٤٠.
(٢) انظر مختصر ابن خالويه (٢).
(٣) انظر الكتاب ٤/ ٢٤. [.....]
(٤) انظر مختصر ابن خالويه (٢).
واوا وليس كذا مستهزئون، ومن أبدل الهمزة قال: مستهزون وعلى هذا كتبت في المصحف.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥]
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «يستهزئ» : فعل مستقبل في موضع خبر الابتداء، والهاء والميم في موضع خفض بالباء. وَيَمُدُّهُمْ عطف على يستهزئ والهاء والميم في موضع نصب بالفعل فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ في موضع الحال.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
أُولئِكَ مبتدأ، الَّذِينَ خبر. اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى في صلة الذين وفي ضم الواو أربعة أقوال، قول سيبويه «١» : أنّها ضمّت فرقا بينها وبين الواو الأصلية نحو وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى [الجن: ١٦] وقال الفراء: كان يجب أن يكون قبلها واو مضمومة لأنها واو جمع فلمّا حذفت الواو التي قبلها واحتاجوا إلى حركتها حرّكوها بحركة التي حذفت. قال ابن كيسان: الضمة في الواو أخفّ من غيرها لأنها من جنسها، قال أبو إسحاق «٢» : هي واو جمع حرّكت بالضم كما فعل في نحن، وقرأ ابن أبي إسحاق ويحيى بن يعمر «٣» اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ «٤» بكسر الواو وعلى الأصل لالتقاء الساكنين: وروى أبو زيد الأنصاري عن قعنب أبي السّمال «٥» العدويّ أنه قرأ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بفتح الواو «٦» ولخفّة الفتحة وأنّ قبلها مفتوحا، وأجاز الكسائي اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بضم الواو «٧» كما يقال: أُقِّتَتْ [المرسلات: ١١] وأدؤر. قال أبو جعفر:
وهذا غلط لأن همزة الواو إذا انضمّت إنّما يجوز فيها إذا انضمّت لغير علّة. فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ رفع بربحت. وَما كانُوا مُهْتَدِينَ «٨» نصب على خبر كان، والفراء يقول:
حال غير مستغنى عنها. قال ابن كيسان: يجوز تجارة وتجاير وضلالة وضلايل.
(١) انظر الكتاب ٤/ ١٩٢، وهو قول الخليل.
(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٥٢.
(٣) يحيى بن يعمر أبو سليمان العدواني البصري، تابعي فقيه أديب نحويّ أخذ النحو عن أبي الأسود، (ت ١٢٩ هـ). ترجمته في (بغية الوعاة ٢/ ٣٤٥، وطبقات الزبيدي ٢١، وغاية النهاية ٢/ ٣٨١).
(٤) انظر مختصر ابن خالويه (٢)، والمحتسب ١/ ٥٤.
(٥) قعنب بن أبي قعنب أبو السّمّال العدوي البصري، له اختيار في القراءة شاذ عن العامة، انظر غاية النهاية (٢/ ٢٧).
(٦) انظر البحر المحيط ١/ ٢٠٤.
(٧) انظر المحتسب ١/ ٥٥، ومختصر ابن خالويه (٢).
(٨) انظر البحر المحيط ١/ ٢٠٧.

[سورة البقرة (٢) : آية ١٧]

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧)
ابتداء. كَمَثَلِ الَّذِي خبره والكاف بمعنى مثل والَّذِي خفض بالإضافة.
اسْتَوْقَدَ ناراً صلته. فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ «ما» : في موضع نصب بمعنى الذي وكذا إن كانت نكرة إلّا أنّ النعت يلزمها إذا كانت نكرة وإن كانت زائدة فلا موضع لها.
وحَوْلَهُ: ظرف مكان والهاء في موضع خفض بإضافته إليها. ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وأذهب نورهم بمعنى واحد. وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ وقرأ أبو السّمال وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ «١» بإسكان اللام حذف الضمة لثقلها، ومن أثبتها فللفرق بين الاسم والنعت، ويقال:
«ظلمات» بفتح اللام. قال البصريون: أبدل من الضمة فتحة لأنّها أخفّ، وقال الكسائي: ظلمات جمع الجمع جمع ظلم: لا يُبْصِرُونَ فعل مستقبل في موضع الحال.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨]
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨)
على إضمار مبتدأ أي هم صمّ: بُكْمٌ عُمْيٌ وفي قراءة عبد الله «٢» وحفصة «٣» صمّا بكما عميا «٤» لأنّ المعنى وتركهم غير مبصرين صما بكما عميا، ويكون أيضا بمعنى أعني.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩)
الأصل عند البصريين «٥» صيوب ثم أدغم مثل ميّت، وعند الكوفيين الأصل صويب ثم أدغم ولو كان كما قالوا لما جاز إدغامه كما لا يجوز إدغام طويل. وجمع صيّب صيايب والتقدير في العربية: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا أو كمثل صيب. فِيهِ ظُلُماتٌ ابتداء. وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ معطوف عليه. يَجْعَلُونَ مستأنف وإن شئت كان حالا من الهاء التي في «فيه» فإن قيل: كيف يكون حالا ولم يعد على الهاء شيء؟ فالجواب أنّ
(١) انظر المحتسب ١/ ٥٦، ومختصر ابن خالويه (٢).
(٢) عبد الله بن مسعود بن الحارث الهذلي، أحد السابقين للإسلام والبدريين، عرض القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلّم (ت ٣٢ هـ). ترجمته في غاية النهاية ١/ ٤٥٨.
(٣) حفصة بنت عمر بن الخطاب، جليلة، من أزواج الرسول صلّى الله عليه وسلّم. روى لها البخاري ومسلم في الصحيحين (ت ٤٥ هـ). ترجمتها في الإصابة تر (٢٩٦) ج ٤/ ٢٧٣.
(٤) انظر مختصر ابن خالويه (٢)، ومعاني الفراء ١/ ٦.
(٥) انظر الإنصاف مسألة ١١٥، والبحر المحيط ١/ ٢١٨. [.....]
التقدير في صواعقه مثل يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج: ٢٠]. أَصابِعَهُمْ في واحد الأصابع خمس لغات يقال: إصبع بكسر الهمزة وفتح الباء، ويقال إصبع بفتح الهمزة وكسر الباء، ويقال: بفتحهما جميعا وبكسرهما جميعا وبضمّهما جميعا. وهي مؤنّثة وكذلك الأذن. وروي عن الحسن أنه قرأ من الصّواقع «١» وهي لغة تميم وبعض ربيعة. حَذَرَ الْمَوْتِ ويقال: حذار قال سيبويه «٢» : هو منصوب لأنه موقوع له أي مفعول من أجله وحقيقته أنه مصدر، وأنشد سيبويه: [الطويل] ٨-
وأغفر عوراء الكريم ادّخاره وأعرض عن شتم اللّئيم تكرّما «٣»
وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ابتداء وخبره.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠]
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ ويجوز في غير القرآن يكاد أن يفعل كما قال: [الرجز] ٩-
قد كاد من طول البلى أن يمصحا «٤»
وفي «يخطف» سبعة أوجه القراءة الفصيحة يَخْطَفُ، وقرأ عليّ بن الحسين ويحيى بن وثّاب يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ «٥» بكسر الطاء قال سعيد الأخفش:
هي لغة. وقرأ الحسن «٦» وقتادة «٧» وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي «٨» يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ بفتح الياء وكسر الخاء والطاء، وروي عن الحسن أنّه قرأ بفتح الخاء.
(١) انظر مختصر ابن خالويه ٣.
(٢) انظر الكتاب ١/ ٤٣٥، والبحر المحيط ١/ ٢٢٣.
(٣) الشاهد لحاتم الطائي في ديوانه ص ٢٢٤، والكتاب ١/ ٤٣٥، وخزانة الأدب ٣/ ١٢٣، وشراح أبيات سيبويه ١/ ٤٥، وشرح شواهد المغني ٢/ ٩٥٢، وشرح المفصل ٢/ ٥٤، واللمع ص ١٤١، والمقاصد النحوية ٣/ ٧٥ ونوادر أبي زيد ص ١١٠، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ١٨٧، وخزانة الأدب ٣/ ١١٥، وشرح ابن عقيل ص ٢٩٦، والمقتضب ٢/ ٣٤٨.
(٤) الشاهد لرؤبة في ملحق ديوانه ص ١٧٢، والدرر ٢/ ١٤٢، وشرح شواهد الإيضاح ص ٩٩، وشرح المفصّل ٧/ ١٢١، وبلا نسبة في أدب الكاتب ٤١٩، وأسرار العربية ص ٥، وتخليص الشواهد ص ٣٢٩، والمقتضب ٣/ ٧ وهمع الهوامع ١/ ١٣٠، وديوان الأدب ٢/ ١٩٨.
(٥) انظر مختصر ابن خالويه ٣، والبحر المحيط ١/ ٢٢٧، وهي قراءة مجاهد أيضا.
(٦) قراءة الحسن في البحر المحيط ١/ ٢٢٧.
(٧) قتادة: ابن دعامة السدوسي، أحد الأئمة في حروف القرآن، (ت ١١٧ هـ). ترجمته في غاية النهاية ٢/ ٢٥.
(٨) أبو رجاء العطاردي: عمران بن تيم البصري التابعي، أسلم في حياة الرسول وعرض القرآن على ابن عباس (ت ١٠٥ هـ). ترجمته في (غاية النهاية ١/ ٦٠٤).
قال الفراء «١» : وقرأ بعض أهل المدينة بتسكين الخاء وتشديد الطاء، وقال الكسائي والأخفش والفراء: يجوز يَخْطَفُ بكسر الياء والخاء والطاء، فهذه ستة أوجه موافقة للسواد، والسابع حكاه عبد الوارث قال: رأيت في مصحف أبيّ «٢» يكاد البرق يتخطّف أبصارهم زعم سيبويه والكسائي أنّ من قرأ يَخْطَفُ بكسر الخاء والطاء فالأصل عنده «يختطف» ثم أدغم التاء في الطاء فالتقى ساكنان وكسر الخاء لالتقاء الساكنين. قال سيبويه «٣» : ومن فتحها ألقى حركة التاء عليها، قال الفراء «٤» : هذا خطأ ويلزم من قاله أن يقول في يمدّ: يمدّ لأن الميم كانت ساكنة وأسكنت الدال بعدها وفي يعضّ يعضّ، قال الفراء «٥» : وإنما الكسر لأن الألف في «اختطف» مكسورة. قال أبو جعفر: قال أصحاب سيبويه «٦» : الذي قال الفراء لا يلزم لأنه لو قيل: يمدّ ويعضّ لأشكل بيفعل، ويفتعل لا يكون إلّا على جهة واحدة. قال الكسائي: من قال: يخطف كسر الياء لأن الألف في اختطف مكسورة. فأما ما حكاه الفراء «٧» عن أهل المدينة من إسكان الخاء والإدغام فلا يعرف ولا يجوز لأنه جمع بين ساكنين. كُلَّما:
منصوب لأنه ظرف وإذا كانت كلّما بمعنى إذا فهي موصولة. قال الفراء: يقال: أضاءك وضاءك ويجوز «لذهب بسمعهم» مدغما. وَأَبْصارِهِمْ عطف عليه إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اسم إنّ وخبرها.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)
يا أَيُّهَا النَّاسُ... يا أَيُّهَا يا: حرف النداء، وأيّ: نداء مفرد ضمّ لأنه في موضع المكنيّ، وكان يجب أن لا يعرب فكرهوا أن يخلوه من حركة لأنه قد كان متمكنا فاختاروا له الضمة لأن الفتحة تلحق المعرب في النداء والكسرة تلحق المضاف إليه، وأجاز أبو عثمان المازني «يا أيّها الناس» : على الموضع كما يقال: يا زيد الظّريف. وزعم الأخفش أن «الناس» في صلة أيّ و «هاء» للتنبيه إلا أنّها لا تفارق أيّا لأنها عوض من الإضافة. ولغة بعض بني مالك «٨» من بني أسد «يا أيه الرجل» بضم
(١) انظر مختصر في شواذ القرآن ٣، ومعاني القرآن للفراء ١: ١٨.
(٢) أبيّ بن كعب: من الخزرج، صحابي أنصاري، كان قبل الإسلام حبرا من أحبار اليهود، ولما أسلم كان من كتّاب الوحي، شهد بدرا وأحدا والخندق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. اشترك في جمع القرآن بتكليف من عثمان بن عفّان، وله في الصحيحين وغيرهما (١٦٤ حديثا) (ت ٢١ هـ/ ٦٤٢ م). ترجمته في (طبقات ابن سعد ٣، وغاية النهاية ١/ ٣١، وصفة الصفوة ١/ ١٨٨، وحلية الأولياء ١/ ٢٥٠).
(٣) انظر الكتاب ٣/ ١٠.
(٤) انظر معاني الفراء ١/ ١٨.
(٥) انظر الكتاب ٣/ ١٠.
(٦) أصحاب سيبويه: هم تلاميذه وأشهرهم الأخفش سعيد بن مسعدة، وقطرب محمد بن المستنير. [.....]
(٧) انظر معاني الفراء ١/ ١٨.
(٨) انظر البحر المحيط ١/ ٢٣١.
الهاء لما كانت الهاء لازمة حركتها حرّكها بحركة أيّ النَّاسُ تابع لأيّ كالنعت كما ينعت، لا يجوز نصبه عند أبي العباس لأنه لا يستغنى عنه فصار كما تقول: يا ناس، اعْبُدُوا ألف وصل لأنه من يعبد وضممتها والأصل الكسر لئلا تجمع بين كسرة وضمة. قال سيبويه «١» : ليس في الكلام «فعل» وحذف النون للجزم عند الكوفيين ولأنه لم يضارع عند البصريين، رَبَّكُمُ نصب باعبدوا. الَّذِي نعت له. خَلَقَكُمْ في الصلة والكاف والميم نصب بالفعل. وَالَّذِينَ عطف على الكاف والميم. مِنْ قَبْلِكُمْ في الصلة. لَعَلَّكُمْ الكاف والميم اسم لعلّ. تَتَّقُونَ فعل مستقبل علامة رفعه النون وهو في موضع خبر لعل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً... الَّذِي: نعت لربكم وإن شئت كان نعتا للذي خلقكم، وصلح أن يقال نعت للنعت لأن النعت هو المنعوت في المعنى، ويجوز أن يكون منصوبا بتتقون، ويجوز أن يكون بمعنى أعني، وأن يكون في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف ويجوز «جعل لكم» «٢» مدغما لأن الحرفين مثلان قد كثرت الحركات، وترك الإدغام أجود لأنها من كلمتين. الْأَرْضَ فِراشاً مفعولان لجعل.
وَالسَّماءَ بِناءً عطف، والسماء تكون جمعا لسماوة وسماءة، وتكون واحدة مؤنّثة مثل عناق وتذكيرها شاذّ، وجمعها سماوات وسماءات وأسم وسمايا، وَالسَّماءَ: المطر، مذكّر، وكذلك السقف في المستعمل، وجمعها أسمية وسميّ وسميّ «٣». «وبناء» يقصر على أنه جمع بنية ومصدر، ويقال: بنيّ جمع بنية وفي الممدود في الوقف خمس لغات: أجودها و «السماء بناء» بهمزة بين ألفين ويجوز تخفيف الهمزة حتى تضعف، ويجوز حذفها لقربها من الساكن وهي بين ساكنين فإذا حذفتها حذفت الألف بعدها فقلت: «بنا» لفظه كلفظ المقصور، ومن العرب من يزيد بعده في صورته مدّة، ومنهم من يعوض من الهمزة ياء فيقول: بنيت بنايا، والبصريون يقولون: هو مشبّه بخطايا، والفراء يقول: ردت الهمزة إلى أصلها لأن أصلها الياء. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً والأصل في ماء موه قلبت الواو ألفا لتحرّكها وتحرّك ما قبلها فقلت: ماه، فالتقى حرفان خفيّان فأبدلت من الهاء همزة لأنها أجلد وهي بالألف أشبه فقلت: ماء فالألف الأولى عين الفعل وبعدها الهمزة التي هي بدل من الهاء وبعد الهمزة ألف بدل من التنوين. قال أبو
(١) الكتاب: ٤/ ٣٦٨.
(٢) انظر البحر المحيط ١/ ٢٣٧.
(٣) اللسان (سما).
الحس عليّ: لا يجوز أن يكتب إلا بألفين عند البصريين وإن شئت بثلاث فإذا جمعوا أو صغّروا ردّوا إلى الأصل فقالوا: مويه وأمواه ومياه مثل: أجمال وجمال. فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ جمع ثمرة ويقال: ثمر مثل شجر، ويقال: ثمر مثل خشب، ويقال ثمر مثل بدن وثمار مثل إكام. رِزْقاً لَكُمْ مفعول. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً «تجعلوا» جزم بالنهي فلذلك حذفت منه النون «أندادا» مفعول أول و «لله» في موضع الثاني. وَأَنْتُمْ مبتدأ. تَعْلَمُونَ فعل مستقبل في موضع الخبر والجملة في موضع الحال.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣)
وَإِنْ كُنْتُمْ في موضع جزم بالشرط. فِي رَيْبٍ خفض بفي مِمَّا نَزَّلْنا «ما» خفض بمن والعائد عليها محذوف لطول الاسم أي ما نزّلناه. عَلى عَبْدِنا خفض بعلى.
فَأْتُوا جواب الشرط، وإن شئت قلت مجازاة. قال ابن كيسان: قصرت فأتوا لأنه من باب المجيء، وحكى الفراء في قراءته فتوا فيجوز فتوا. بِسُورَةٍ خفض الباء. مِنْ مِثْلِهِ خفض بمن. وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ نصب بالفعل، جمع شهيد. يقال: شاهد وشهيد مثل قادر وقدير.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا يقال: كيف دخلت «إن» على «لم» ولا يدخل عامل على عامل؟
فالجواب أنّ «إن» هنا غير عاملة في اللفظ فدخلت على «لم» كما تدخل على الماضي لأنها لا تعمل في لم كما لا تعمل في الماضي فمعنى «إن لم تفعلوا» إن تركتم الفعل.
قال الأخفش سعيد: إنّما جزموا بلم لأنها نفي فأشبهت «لا» في قولك: لا رجل في الدار، فحذفت بها الحركة كما حذفت التنوين من الأسماء، وقال غيره: جزمت بها لأنها أشبهت إن التي للشرط لأنها تردّ المستقبل إلى الماضي كما تردّ «إن» فتحتاج إلى جواب فأشبهت الابتداء، والابتداء يلحق به الأسماء الرفع وهو أولى بالأسماء فكذا حذف مع «إن» لأن أولى ما للأفعال السكون. وَلَنْ تَفْعَلُوا نصب بلن وعلامة نصبه حذف النون، واستوى النصب والجزم في الأفعال لأنهما فرعان وهما بمنزلة النصب والخفض في الأسماء وحكي عن الخليل رحمه الله: أن أصل «لن» «لا». وإن ردّ عليه هذا سيبويه وقال: لو كان كذا لما جاز: زيدا لن أضرب «١». قال أبو عبيدة «٢» : من
(١) انظر الكتاب ١/ ١٩٠.
(٢) أبو عبيدة: معمر بن المثنى التيمي، من اللغويين البصريين (ت ٢١٠ هـ). ترجمته في طبقات الزبيدي ١٩٢، ونزهة الألباء ٨٤.
العرب من يجزم بلن كما يجزم بلم. فَاتَّقُوا النَّارَ جواب الشرط في الفاء وما بعدها ولغة تميم وأسد «فتقوا النّار»، وحكي سيبويه «١» : تقى يتقي، النَّارَ مفعوله. الَّتِي من نعتها. وَقُودُهَا مبتدأ. النَّاسُ خبر وَالْحِجارَةُ عطف عليهم. أُعِدَّتْ فعل ماض والتاء علامة التأنيث أسكنت عند البصريين لأنها حرف جاء لمعنى، وعند الكوفيين أنك لمّا ضممت تاء المخاطب وفتحت تاء المخاطب المذكر وكسرت تاء المؤنث وبقيت هذه التاء كان ترك العلامة لها علامة، واسم ما لم يسمّ فاعله مضمر في أعدّت. لِلْكافِرِينَ خفض باللام الزائدة، وقرأ الحسن ومجاهد «٢» وطلحة بن مصرّف «٣» الَّتِي وَقُودُهَا «٤»، بضمّ الواو. وقال الكسائي والأخفش سعيد: الوقود بفتح الواو الحطب والوقود بضمها الفعل، قال أبو جعفر يجب على هذا أن لا يقرأ إلّا وقودها بفتح الواو لأنّ المعنى حطبها. إلا أنّ الأخفش قال: وحكي أنّ بعض العرب يجعل الوقود والوقود جميعا بمعنى الحطب والمصدر، وذهب إلى أن الأول أكثر قال:
كما أنّ الوضوء الماء والوضوء المصدر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
أَنَّ: في موضع نصب والمعنى بأن لهم. قال الكسائي وجماعة من البصريين:
«أنّ» في موضع خفض بإضمار الباء. جَنَّاتٍ في موضع نصب اسم أنّ وكسرت التاء عند البصريين لأنه جمع مسلّم فوجب أن يستوي خفضه ونصبه كما كان في المذكر جائزا. تَجْرِي في موضع نصب نعت للجنات، ومرفوع لأنه فعل مستقبل، وحذفت الضمة من الياء لثقلها معها. الْأَنْهارُ مرفوع بتجري. كُلَّما ظرف. قالُوا هذَا مبتدأ. والَّذِينَ خبره، ويجوز أن يكون هذا هو الذي. رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ غاية «٥» مبني على الضمّ لأنه قد حذف منه، وهو ظرف يدخله النصب والخفض في حال سلامته فلما اعتلّ بالحذف أعطي حركة لم تكن تلحقه، وقيل: أعطي الضمة لأنها غاية الحركات وَأُتُوا بِهِ فعلوا من أتيت مُتَشابِهاً على الحال. أَزْواجٌ مرفوع بالابتداء.
(١) انظر الكتاب ٤/ ٢٢٩، والبحر المحيط ١/ ٢٤٩.
(٢) مجاهد بن جبر مولى عبد الله بن السائب القارئ الفقيه الزاهد روى عن ابن عباس (ت ١٠٢ هـ).
ترجمته في غاية النهاية ٢/ ٤١.
(٣) طلحة بن مصرف بن عمر الكوفي، تابعي، له اختيار في القراءة ينسب إليه، أخذ القراءة عرضا عن إبراهيم بن يزيد النخعي والأعمش (ت ١١٢ هـ) ترجمته في غاية النهاية ١/ ٣٤٣.
(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٤، وانظر البحر المحيط ١/ ٢٤٩.
(٥) انظر الكتاب ٣/ ٣١٧.
مُطَهَّرَةٌ نعت وواحد الأزواج زوج. قال الأصمعي، ولا تكاد العرب تقول: زوجة.
قال أبو جعفر «١» : حكى الفراء أنه يقال: زوجة وأنشد: [الطويل] ١٠-
إنّ الذي يمشي يحرش زوجتي كماش إلى أسد الشّرى يستبيلها «٢»
وَهُمْ مبتدأ، خالِدُونَ خبره والظرف ملغى، ويجوز في غير القرآن نصب خالدين على الحال.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦)
إِنَّ اللَّهَ اسم «إنّ» والجملة الخبر. لغة تميم وبكر بن وائل. لا يستحى بياء واحدة وهكذا قرأ ابن كثير وابن محيصن وشبل «٣» وفيه قولان: قال الخليل:
أسكنت الياء الأولى كما سكنت في «باع» وسكنت الثانية لأنها لام الفعل، قال سيبويه «٤» وقال غيره: لمّا كسر وكانتا ياءين حذفوها وألقوا حركتها على الحاء. قال أبو جعفر: شرح قول الخليل أنّ الأصل استحيا فأعلّه من جهتين أعلّ الياء الأولى كما يقال: استباع، وأعلّ الثانية كما يقال: يرمي فحذف الأولى لئلا يلتقي ساكنان، وهذا بعيد جدا لأنهم يجتنبون الإعلال من جهتين. والقول الآخر هو قول سيبويه سمعت أبا إسحاق يقول: إذا قال سيبويه بعد قول الخليل: وقال غيره فإنما يعني نفسه ولا يسمّي نفسه بعد الخليل إجلالا منه له، وشرح قول سيبويه أنّ الأصل: استحيا كثر استعمالهم إيّاه فحذفوا الياء الأولى وألقوا حركتها على الحاء فأشبه افتعل نحو اقتضى فصرفوه تصريفه فقالوا: استحى يستحي. أَنْ يَضْرِبَ في موضع نصب أي من أن يضرب.
مَثَلًا منصوب بيضرب. ما بَعُوضَةً في نصبها ثلاثة أوجه: تكون «ما» زائدة و «بعوضة» بدلا من مثل، ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب نكرة و «بعوضة» نعتا لما، وصلح أن تكون نعتا لأنها بمعنى قليل، والوجه الثالث قول الكسائي والفراء «٥» قالا: التقدير: أن يضرب مثلا ما بين بعوضة حذفت «بين» وأعربت بعوضة بإعرابها
(١) انظر البحر المحيط ١/ ٢٥١.
(٢) الشاهد للفرزدق في ديوانه ٦١، ولسان العرب (زوج) و (بول)، وإصلاح المنطق ٣٣١، وبلا نسبة في ديوان الأدب ٣/ ٣٠٨ والمذكّر والمؤنث للأنباري ص ٣٧٥، والمذكر والمؤنث للفراء ص ٩٥، وفي الديوان:
«وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي» [.....]
(٣) شبل بن عياد أبو داود المكي، مقرئ مكة، ثقة، هو أجلّ أصحاب ابن كثير (ت ١٦٠ هـ). ترجمته في غاية النهاية ١/ ٣٢٣.
(٤) انظر الكتاب ٤/ ٥٤٠.
(٥) انظر معاني الفراء ١/ ٢٢.
والفاء بمعنى «إلى» أي إلى ما فوقها، ومعنى ضربت له مثلا مثّلت له مثلا وهذه الأبنية على ضرب واحد أي على مثال واحد فَما فَوْقَها عطف على «ما» الأولى، وحكي أنه سمع رؤبة يقرأ إنّ الله لا يستحي أن يضرب مثلا مّا بعوضة «١» بالرفع وهذه لغة تميم، جعل «ما» بمعنى الذي ورفع بعوضة على إضمار ابتداء والحذف في «ما» أقبح منه في الذي لأن الذي إنّما له وجه واحد والاسم معه أطول. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا «الذين» :
رفع بالابتداء وخبره ما بعد الفاء فلا بدّ من الفاء في جواب أَمَّا لأن فيها معنى الشرط أي مهما يكن من شيء فالأمر كذا. فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ «أنّ» في موضع نصب بيعلمون والهاء اسمها والحق خبرها. مِنْ رَبِّهِمْ خفض بمن. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ولغة تميم وبني عامر «أيما» يبدلون من إحدى الميمين ياء كراهية التضعيف وعلى هذا ينشد بيت عمر بن أبي ربيعة: [الطويل] ١١-
رأت رجلا أيما إذا الشّمس عارضت فيضحى وأيما بالعشيّ فيخصر «٢»
فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا إن شئت جعلت «ما» و «ذا» شيئا واحدا في موضع نصب بأراد. قال ابن كيسان: وهو أجود وإن شئت جعلت «ما» اسما تاما في موضع رفع بالابتداء و «ذا» بمعنى الذي هو خبر الابتداء، ويكون التقدير: ما الذي أراد الله بهذا مثلا. قال أحمد بن يحيى ثعلب: «مثلا» منصوب على القطع وقال ابن كيسان: هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال. يُضِلُّ فعل مستقبل.
كَثِيراً مفعول به. وَيَهْدِي أسكنت الياء فيه استثقالا للجمع بينها وبين ياء وكسرة. وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ بوقوع الفعل عليهم، والتقدير وما يضلّ به أحدا إلّا الفاسقين، ولا يجوز أن تنصبهم على الاستثناء لأن الاستثناء لا يكون إلّا بعد تمام الكلام.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧]
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)
الَّذِينَ: في موضع نصب على النعت للفاسقين وإن شئت جعلته في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف أي هم الذين. يَنْقُضُونَ فعل مستقبل والمضمر الذي فيه
(١) انظر مختصر ابن خالويه ٤، والبحر المحيط ١/ ٢٦٦.
(٢) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص ٩٤، والأزهية ص ١٤٨، والأغاني ١/ ٨١، وخزانة الأدب ٥/ ٣١٥، والدرر ٥/ ١٠٨، وشرح شواهد المغني ص ١٧٤، والمحتسب ١/ ٢٨٤، ومغني اللبيب ١/ ٥٥، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص ١٢٠، والجنى الداني ص ٥٢٧، ورصف المباني ص ٩٩، وشرح الأشموني ٣/ ٦٠٨، وهمع الهوامع ٢/ ٦٧.
يعود على الذين. عَهْدَ اللَّهِ مفعول به. مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ خفضت بعدا بمن وميثاقه بعد إليه وهو بمعنى: إيثاقه. قال ابن كيسان: هو اسم يؤدي عن المصدر كما قال القطاميّ: [الوافر] ١٢-
أكفرا بعد ردّ الموت عنّي... وبعد عطائك المائة الرّتاعا «١»
وَيَقْطَعُونَ عطف على ينقضون. ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ «ما» في موضع نصب بيقطعون. والمصدر قطيعة وقطعت الحبل قطعا وقطعت النهر قطوعا وقطعت الطّير قطاعا وقطاعا. إذا خرجت من بلد إلى بلد، وأصاب الناس قطعة إذا قلّت مياههم ورجل به قطع أي انبهار. وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ عطف على يقطعون. أُولئِكَ مبتدأ.
هُمُ ابتداء ثان. الْخاسِرُونَ خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول، إن شئت كانت هم زائدة والخاسرون الخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ... كَيْفَ اسم في موضع نصب وهي مبنية على الفتح، وكان سبيلها أن تكون ساكنة لأن فيها موضع الاستفهام فأشبهت الحروف واختير لها الفتح من أجل الياء. تَكْفُرُونَ فعل مستقبل بِاللَّهِ خفض بالباء. وَكُنْتُمْ أَمْواتاً التقدير وقد كنتم أمواتا ثم حذفت قد. أَمْواتاً خبر كنتم فَأَحْياكُمْ الكاف والميم في موضع نصب بالفعل وكذا. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فعل مستقبل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٩]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ابتداء وخبر. ما في موضع نصب. جَمِيعاً عند سيبويه»
نصب على الحال. ثُمَّ اسْتَوى أهل الحجاز يفخّمون وأهل نجد يميلون ليدلّوا على أنه من ذوات الياء. إِلَى السَّماءِ خفض بإلى. فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ قال محمد بن الوليد: سبع منصوب على أنه بدل من الهاء والنون أي فسوّى سبع سموات، قال أبو جعفر: يجوز عندي أن يكون فسوّى منهن كما قال جلّ وعزّ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ
(١) الشاهد للقطامي في ديوانه ٣٧، وتذكرة النحاة ٤٥٦، وخزانة الأدب ٨/ ١٣٦، وشرح التصريح ٢/ ٦٤، وشرح شواهد المغني ٢/ ٨٤٩، وشرح عمدة الحافظ ٦٩٥، ومعاهد التنصيص ١/ ١٧٩، والمقاصد النحوية ٣/ ٥٠٥، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢/ ٤١١، وأوضح المسالك ٣/ ٢١١، والدرر ٥/ ٢٦٢، وشرح الأشموني ٢/ ٣٣٦، وشرح شذور الذهب ٥٢٨ وشرح ابن عقيل ٤١٤.
(٢) انظر الكتاب: ١/ ٤٤٥، والبحر المحيط ١/ ٢٨٢.
[الأعراف: ١٥٥] أي من قومه. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ مبتدأ وخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٠]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠)
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ قال أبو عبيدة «١» : إِذْ اسم، وهو ظرف زمان ليس مما يزاد. قال أبو إسحاق «٢» ذكر الله عزّ وجلّ خلق الناس وغيرهم فالتقدير: ابتدأ خلقهم «إذ قال ربّك». لِلْمَلائِكَةِ خفض باللّام والهاء لتأنيث الجماعة. إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ الياء في موضع نصب جاعل خبر إنّ. والأصل إنني حذفت النون لاجتماع نونين فِي الْأَرْضِ خفض بفي. خَلِيفَةً نصب بجاعل، ولا يجوز حذف التنوين للفصل ولو وليه المفعول لجاز حذف التنوين. «خليفة» يكون بمعنى فاعل أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض أو من كان قبله من غير الملائكة كما روي ويجوز أن يكون «خليفة» بمعنى مفعول أي يخلف كما يقال ذبيحة بمعنى مفعولة. قالُوا أَتَجْعَلُ فقل مستقبل. فِيها مَنْ يُفْسِدُ في موضع نصب بتجعل والمفعول الثاني يقوم مقامه «فيها» «يفسد» على اللفظ، ويجوز في غير القرآن يفسدون على المعنى.
وَيَسْفِكُ «٣» عطف عليه، وروي عن الأعرج وَيَسْفِكُ الدِّماءَ «٤» بالنصب يجعله جواب الاستفهام بالواو. وواحد الدماء دم ولا يكون اسم على حرفين إلا وقد حذف منه والمحذوف منه ياء وقد نطق به على الأصل قال الشاعر: [الوافر] ١٣-
فلو أنّا على حجر ذبحنا جرى الدّميان بالخبر اليقين «٥»
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ لا يجوز إدغام النون في النون لئلّا يلتقي ساكنان. قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ من حرّك الياء فقال «إنّي اعلم ما» كره أن يكون اسم على حرف واحد ساكنا، ومن أسكنها قال: قد اتّصلت بما قبلها (أعلم) فعل مستقبل، ويجوز أن يكون
(١) انظر مجاز القرآن ١/ ٣٦، والبحر المحيط ١/ ٢٨٤.
(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٠.
(٣) هذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط ١/ ٢٩٠.
(٤) هذه قراءة ابن هرمز، انظر البحر المحيط ١/ ٢٩٠.
(٥) الشاهد للمثقّب العبدي في ملحق ديوانه ص ٢٨٣، والأزهية ١٤١، والمقاصد النحوية ١/ ١٩٢، ولعلي بن بدال في أمالي الزجاجي ص ٢٠ وخزانة الأدب ١/ ٢٦٧، وشرح شواهد الشافية ص ١١٢، وللمثقب أو لعلي بن بدال في خزانة الأدب ٧/ ٤٨٢، وبلا نسبة في الإنصاف ١/ ٣٥٧، وجمهرة اللغة ص ٢٨٦، ورصف المباني ص ٢٤٢، وسرّ صناعة الإعراب ١/ ٣٩٥، وشرح الأشموني ٣/ ٦٦٩، وشرح شافية ابن الحاجب ٢/ ٦٤، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٨١، وشرح المفصل ٤/ ١٥١، والمقتضب ١/ ٢٣١، والمقرّب ٢/ ٤٤.
اسما بمعنى فاعل كما يقال: الله أكبر بمعنى كبير، وكما قال: [الطويل] ١٤-
لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل على أيّنا تغدو المنيّة أوّل «١»
ويجوز إدغام الميم في الميم، و «ما» في موضع نصب بأعلم إذا جعلته فعلا وإن جعلته اسما جاز أن يكون «ما» في موضع خفض بالإضافة وفي موضع نصب وتحذف التنوين لأنه لا ينصرف.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣١]
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها آدَمَ والْأَسْماءَ مفعولان لعلّم. وآدم لا ينصرف في المعرفة بإجماع النحويين لأنه على أفعل وهو معرفة، ولا يمتنع شيء من الصرف عند البصريين إلّا بعلّتين فإن نكّرت آدم وليس بنعت لم يصرفه الخليل وسيبويه «٢» وصرفه الأخفش سعيد لأنه إنّما منعه من الصرف لأنه كان نعتا وهو على وزن الفعل فإذا لم يكن نعتا صرفه. قال أبو إسحاق «٣» : القول قول سيبويه لا يفرق بين النعت وغيره لأنه هو ذاك بعينه، وجمع آدم إذا كان صفة أدم فإن لم يكن نعتا فجمعه آدمون وأوادم وهكذا الباب كله. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا «عرضهم» في الكتاب الذي قبل هذا.
فَقالَ أَنْبِئُونِي ألف قطع لأنها من أنبأ ينبئ فإن خفّفت الهمزة قلت أنبئوني بين بين فإن جعلتها مبدلة قلت أنبوني مثل أعطوني. بِأَسْماءِ هؤُلاءِ «بأسماء» : مخفوض بالباء و «هؤلاء» في موضع مخفوض بالإضافة إلّا أنه مبني على الكسر لالتقاء الساكنين وهو مبني مثل هذا وفيه وجوه إذا مددته وإن شئت خفّفت الهمزة الثانية وحققت الأولى.
وهو أجود الوجوه عند الخليل وسيبويه. وهي قراءة نافع فقلت هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ولا يجوز غير هذا في قول من خفّف الثانية، والدليل على هذا أنّهم أجمعوا على القراءة في قوله جلّ وعزّ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: ٢٢] على وجه واحد عن نافع ولا فرق بينهما، وإن شئت خفّفت الأولى وحقّقت الثانية فقلت: هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ، وإن شئت حقّقتهما جميعا فقلت «هؤلاء ان»، وإن شئت خفّفتهما، وإن شئت
(١) الشاهد لمعن بن أوس في ديوانه ص ٣٩، وخزانة الأدب ٨/ ٢٤٤، وشرح التصريح ٢/ ٥١، ولسان العرب (كبر) و (وجل)، والمقاصد النحوية ٣/ ٤٩٣، وتاج العروس (وجل)، بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٨/ ١٤٠، وأوضح المسالك: ١٦١، وجمهرة اللغة ص ٤٩٣، وخزانة الأدب ٦/ ٥٠٥، وشرح الأشموني ٢/ ٣٢٢، وشرح شذور الذهب ١٣٣، وشرح قطر الندى ص ٢٣، وشرح المفصل ٤/ ٨٧، والمقتضب ٣/ ٢٤٦، والمنصف ٣/ ١٣٥.
(٢) انظر الكتاب ٣/ ٢١٧، والبحر المحيط ١/ ٢٩٥. [.....]
(٣) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٧٧.
خفّفت «١» الأولى فقلت «هؤلاء إن كنتم صادقين» وهو مذهب أبي عمرو بن العلاء في الهمزتين إذا اتفقتا. وتميم وبعض أسد وقيس يقصرون «هؤلا» فعلى لغتهم «هاؤلا إن كنتم» وقال الأعشى: [الخفيف] ١٥-
هؤلا ثمّ هؤلا كلّا أعطيت نعالا محذوّة بمثال «٢»
ومن العرب من يقول: «هؤلا» فيحذف الألف والهمزة، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ:
«كنتم» في موضع جزم بالشرط وما قبله في موضع جوابه عند سيبويه «٣»، وعند أبي العباس الجواب محذوف، والمعنى إن كنتم صادقين فأنبئوني. قال أبو عبيد: وزعم بعض المفسرين أنّ «إن» بمعنى «إذ»، وهذا خطأ إنما هي «أن» المفتوحة التي تكون بمعنى «إذ» فأمّا هذه فهي بمعنى الشرط.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٢]
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢)
قالُوا سُبْحانَكَ منصوب على المصدر عند الخليل. وسيبويه «٤»، يؤدي عن معنى نسبّحك سبحانك تسبيحا، وقال الكسائي: هو منصوب لأنه لم يوصف قال: ويكون منصوبا على أنه نداء مضاف. لا عِلْمَ لَنا مثل «لا ريب فيه» ويجوز لا عِلْمَ لَنا يجعل «لا» بمعنى ليس المعنى ليس. إِلَّا ما عَلَّمْتَنا «ما» في موضع رفع كما تقول «لا إلاه إلّا الله» وخبر التبرية كخبر الابتداء، ويجوز النصب إذا تمّ الكلام على أصل الاستثناء. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ «أنت» في موضع نصب توكيدا للكاف. وإن شئت كانت رفعا بالابتداء، والعليم: خبره، والجملة خبر إنّ، وإن شئت كانت فاصلة لا موضع لها، والكوفيون يقولون عماد الألف واللام في موضع رفع. الْحَكِيمُ من نعت العليم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٣]
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)
قالَ يا آدَمُ نداء مفرد. أَنْبِئْهُمْ «٥» : حذفت الضمة من الهمزة لأنه أمر وإن خفّفت الهمزة قلت: أنبيهم كما قلت: ذيب وبير وإن أبدلت منها قلت: أنبهم كما قال زهير: [الطويل]
(١) انظر تيسير القراءات للداني ص ٦٢.
(٢) البيت للأعشى في ديوانه ص ٦١، وشرح المفصّل ٣/ ١٣٧، والمقتضب ٤/ ٢٧٨.
(٣) انظر الكتاب ٣/ ٧٨، والبحر المحيط ١/ ٢٩٦.
(٤) انظر الكتاب ١/ ٤١٣.
(٥) انظر البحر المحيط ١/ ٢٩٨.
١٦-
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه سريعا وإن لا يبد بالظّلم يظلم «١»
بِأَسْمائِهِمْ خفض بالباء. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ وإن خففت جعلتها بين الهمزة والألف، وإن أبدلت قلت «أنباهم» بألف خالصة. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ الأصل: أقول ألقيت حركة الواو على القاف فانضمّت القاف وحذفت الواو لسكونها وسكون اللام وأسكنت اللام للجزم. إِنِّي كسرت الألف لأن ما بعد القول مبتدأ، وزعم سيبويه «٢» أن من العرب من يجري القول مجرى الظن وهي حكاية أبي الخطاب فعلى هذا «أني أعلم». قال الكسائي: رأيت العرب إذا لقيت الياء همزة، استحبوا الفتح فيقولون: «إنّي أعلم» ويجوز اعلم لأنه من علم. غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نصب بأعلم وكذا ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ عطف عليه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٤]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ خفض باللّام الزائدة. اسْجُدُوا أمر فلذلك حذفت منه النون وضممت الهمزة إذا ابتدأتها لأنه من يسجد. وروي عن أبي جعفر أنه قرأ للملائكة اسجدوا «٣» وهذا لحن لا يجوز، وأحسن ما قيل فيه ما روي عن محمد بن يزيد قال:
أحسب أنّ أبا جعفر كان يخفض ثمّ يشمّ الضّمّة ليدلّ على أنّ الابتداء بالضم كما يقرأ وَغِيضَ الْماءُ [هود: ٤٤] فيشير إلى الضّمة ليدلّ على أنه لما لم يسمّ فاعله لِآدَمَ في موضع خفض باللام إلّا أنه لا ينصرف، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ نصب على الاستثناء لا يجوز غيره عند البصريين لأنه موجب، وأجاز الكوفيون «٤» الرفع. و «إبليس» اسم أعجمي فلذلك لم ينوّن، وزعم أبو عبيدة «٥» أنّه عربي مشتقّ من أبلس إلّا أنه لم ينصرف لأنه لا نظير له. أَبى وَاسْتَكْبَرَ أبى يأبى إباء، وهذا حرف نادر جاء على فعل يفعل ليس فيه حرف من حروف الحلق. قال أبو إسحاق: سمعت إسماعيل بن إسحاق «٦» يقول: القول فيه عندي أن الألف مضارعة لحروف الحلق. قال أبو جعفر:
(١) الشاهد في ديوانه ص ٢٤، وخزانة الأدب ٣/ ١٧، و ٧/ ١٣، والدرر ١/ ١٦٥، وسرّ صناعة الإعراب ٢/ ٧٣٩، وشرح شواهد الشافية ص ١٠، وشرح شواهد المغني ١/ ٣٨٥، والممتع في التصريف ١/ ٣٨١، وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب ١/ ٢٦، والمقرب ١/ ٥٠، وهمع الهوامع ١/ ٥٢.
(٢) انظر الكتاب ١/ ١٧٨.
(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٣، والمحتسب ١/ ٧١.
(٤) انظر الإنصاف مسألة ٣٥، والبحر المحيط ١/ ٣٠٣.
(٥) انظر اللسان (بلس)، وتفسير الطبري ١/ ٢٢٧.
(٦) إسماعيل بن إسحاق القاضي البصري الفقيه المالكي، صاحب قالون، صنّف في القراءات والحديث، وكان عالما في العربية (ت ٢٨٢ هـ). انظر: النشر لابن الجزري ١/ ٣٤، وشذرات الذهب لابن العماد ٢/ ١٧٧.
ولا أعلم أنّ أبا إسحاق روى عن إسماعيل نحوا غير هذا الحرف. وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ خفض بمن وفتحت النون لالتقاء الساكنين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٥]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ «أنت» : توكيد المضمر، ويجوز في غير القرآن على بعد: قم وزيد. وَكُلا مِنْها حذفت النون لأنه أمر وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال فحذفها شاذ. قال سيبويه «١» : ومن العرب من يقول: أوكل فيتمّ. رَغَداً نعت لمصدر محذوف أي أكلا رغدا. قال ابن كيسان: ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال. حَيْثُ شِئْتُما «حيث» مبنية على الضم لأنها خالفت أخواتها من الظروف في أنها لا تضاف فأشبهت قبل وبعد إذا أفردتا فضمّت. وحكى سيبويه «٢» : أنّ من العرب من يفتحها على كل حال. قال الكسائي «٣» : الضّمّ لغة قيس وكنانة والفتح لغة بني تميم. قال الكسائي: وبنو أسد يخفضونها في موضع الخفض وينصبونها في موضع النصب. قال سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف: ١٨٢] ويضمّ ويفتح ويقال: حوث. وَلا تَقْرَبا نهي فلذلك حذفت النون. هذِهِ الشَّجَرَةَ في موضع نصب بتقربا والهاء في هذه بدل من ياء، الأصل هذي، ولا أعلم في العربية هاء تأنيث مكسورا ما قبلها إلّا هاء هذه، ومن العرب من يقول: هاتا هند ومنهم من يقول: هاتي هند. وحكى سيبويه، هذه هند بإسكان الهاء. الشَّجَرَةَ نعت لهذه. فَتَكُونا جواب النهي منصوب على إضمار «أن» عند الخليل وسيبويه «٤»، وزعم الجرميّ: أنّ الفاء هي الناصبة، ويجوز أن يكون «فتكونا» جزما عطفا على تقربا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٦]
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦)
فَأَزَلَّهُمَا من أزللته فزلّ، وفأزالها من أزلته فزال. الشَّيْطانُ رفع بفعله. وَقُلْنَا اهْبِطُوا حذفت الألف من اهبطوا لأنها ألف وصل وحذفت الألف من قلنا في اللفظ لسكونها وسكون الهاء بعدها. بَعْضُكُمْ مبتدأ. عَدُوٌّ خبره والجملة في موضع نصب على الحال، والتقدير وهذه حالكم وحذفت الواو لأن في الكلام عائدا كما يقال:
(١) انظر الكتاب ٤/ ٣٤١.
(٢) انظر الكتاب ١/ ٤٢. [.....]
(٣) انظر البحر المحيط ١/ ٣٠٦.
(٤) انظر الكتاب ٣/ ٢٧، ومعاني الفراء ١/ ٢٦، والبحر المحيط ١/ ٣١٠.
رأيتك السّماء تمطر عليك، ويقال: كيف قال «عدوّ» ولم يقل: أعداء؟ ففي هذا جوابان: أحدهما أنّ بعضا وكلّا يخبر عنهما بالواحد وذلك في القرآن قال الله جلّ وعزّ: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ [مريم: ٩٥] وقال: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل: ٨٧] والجواب الآخر أنّ عدوّا يفرد في موضع الجمع. قال الله جلّ وعزّ: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ [الكهف: ٥٠] بمعنى أعداء وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ مرفوع بالابتداء.
وَمَتاعٌ عطف عليه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٧]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)
فَتَلَقَّى آدَمُ رفع بفعله. كَلِماتٍ نصب بالفعل، وقرأ الأعمش: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ مدغما. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «هو» : رفع بالابتداء و «التواب» خبره والجملة خبر إنّ، ويجوز أن يكون هو توكيدا للهاء، ويجوز أن يكون فاصلة، وحكى أبو حاتم: أنّ أبا عمرو وعيسى وطلحة قرءوا إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ مدغما وإنّ ذلك لا يجوز لأن بين الهاءين واوا في اللفظ لا في الخط. قال أبو جعفر: أجاز سيبويه أن تحذف هذه الواو وأنشد: [الوافر] ١٧-
له زجل كأنّه صوت حاد إذا طلب الوسيقة أو زمير «١»
فعلى هذا يجوز الإدغام.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٨]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً نصب على الحال، وزعم الفراء «٢» أنه يقال: إنّما خوطب بهذا آدم صلّى الله عليه وسلّم وإبليس بعينه ويعني ذرّيته فكأنه خاطبهم كما قال: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١] أي أتينا بما فينا، وقال غير الفراء: يكون مخاطبة لآدم عليه السلام وحواء والحية، ويجوز أن يكون لآدم وحواء لأن الاثنين جماعة، ويجوز أن يكون إبليس ضمّ إليهما في المخاطبة. فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ «ما» زائدة، والكوفيون يقولون صلة، والبصريون يقولون: فيها معنى التوكيد يَأْتِيَنَّكُمْ في موضع جزم بالشرط والنون مؤكدة وإذا دخلت «ما» شبهت بلام القسم فحسن المجيء بالنون وجواب الشرط الفاء
(١) الشاهد للشمّاخ في ديوانه ص ١٥٥، والخصائص ١/ ٣٧١، والدرر ١/ ١٨١، وشرح أبيات سيبويه ١/ ٤٣٧ والكتاب ١/ ٥٩، ولسان العرب (ها)، وبلا نسبة في الإنصاف ٢/ ٥٦١، والأشباه والنظائر ٢/ ٣٧٩، وخزانة الأدب ٢/ ٣٨٨، ٥/ ٢٧٠، ٢٧١، ولسان العرب (زجل)، والمقتضب ١/ ٢٦٧، وهمع الهوامع ١/ ٥٩.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٣١.
في قوله: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ و «من» في موضع رفع و «تبع» في موضع جزم بالشرط فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ جوابه، وقال الكسائي في «فلا خوف عليهم» جواب الشرطين جميعا، وقرأ عاصم الجحدري وعيسى وابن أبي إسحاق فمن تبع هديّ «١» قال أبو زيد: هذه لغة هذيل يقولون: هديّ وعصيّ وأنشد النحويون: [الكامل] ١٨-
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع «٢»
قال أبو جعفر: العلّة في هذا عند الخليل وسيبويه «٣» وهذا معنى قولهما- أنّ سبيل ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها فلما لم يجز أن تتحرك الألف جعل قبلها ياء عوضا من التغيير. وقرأ الحسن وعيسى وابن أبي إسحاق فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين لأن الثاني معرفة لا يكون فيه إلّا الرفع فاختاروا في الأول الرفع أيضا ليكون الكلام من وجه واحد.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
وَالَّذِينَ رفع بالابتداء. كَفَرُوا من صلته. وَكَذَّبُوا عطف على كفروا.
بِآياتِنا خفض بالباء. أُولئِكَ مبتدأ. أَصْحابُ النَّارِ خبره والجملة خبر الذين.
وَهُمْ فِيها خالِدُونَ ابتداء وخبر في موضع نصب على الحال.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٠]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)
يا بَنِي نداء مضاف علامة النصب فيه الياء وحذفت منه النون للإضافة، الواحد ابن والأصل فيه بني وقيل فيه بنو ولو لم يحذف منه لقيل بنا كما يقال: عصا فمن قال:
المحذوف منه واو احتجّ بقولهم: البنوّة وهذا لا حجّة فيه لأنهم قد قالوا الفتوّة. قال أبو جعفر: سمعت أبا إسحاق يقول: المحذوف منه عندي ياء كأنه من بنيت.
إِسْرائِيلَ «٤» في موضع خفض إلّا أنه لا ينصرف لعجومته ويقال: إسرائل بغير ياء وبهمزة مكسورة ويقال اسراأل بهمزة مفتوحة، وتميم يقولون: اسرائين بالنون.
اذْكُرُوا حذف النون منه لأنه أمر وحذفت الألف لأنها ألف وصل وضممتها في
(١) انظر مختصر ابن خالويه ٥، والبحر المحيط ١/ ٣٢٢.
(٢) الشاهد لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ١/ ٧، وإنباه الرواة ١/ ٥٢، والدرر ٥/ ٥١، وسرّ صناعة الإعراب ٢/ ٧٠٠، وشرح شواهد المغني ١/ ٢٦٢، وشرح قطر الندى ص ١٩١، وشرح المفصّل ٣/ ٣٣، وكتاب اللامات ص ٩٨، ولسان العرب (هوا)، والمحتسب ١/ ٧٦، والمقاصد النحوية ٣/ ٤٩٣، وهمع الهوامع ٢/ ٥٣، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣/ ١٩٩، وشرح الأشموني ٢/ ٣٣١، وشرح ابن عقيل ص ٤٠٨، والمقرب ١/ ٢١٧ وكتاب العين ١/ ٢٩٩.
(٣) انظر الكتاب ٣/ ٤٥٨.
(٤) انظر البحر المحيط ١/ ٣١٥.
الابتداء لأنه من يذكر نِعْمَتِيَ الَّتِي بتحريك الياء أكثر في كلام العرب إذا لقيها ألف ولام فإن أسكنتها حذفتها لالتقاء الساكنين.. «التي» في موضع نصب نعت لنعمتي.
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ من صلتها. وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أمر أُوفِ بِعَهْدِكُمْ جواب الأمر مجزوم لأن فيه معنى المجازاة، وقرأ الزّهري أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «١» على التكثير، ويقال: وفي بالعهد أيضا، وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وقع الفعل على النون والياء وحذفت الياء لأنه رأس آية، وقرأ ابن أبي إسحاق «فارهبوني» بالياء وكذا فاتّقوني، «وإيّاي» منصوب بإضمار فعل وكذا الاختيار في الأمر والنهي والنفي والاستفهام.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤١]
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١)
وَآمِنُوا عطف. بِما خفض بالباء. أَنْزَلْتُ صلته والعائد محذوف لطول الاسم أي بما أنزلته. مُصَدِّقاً على الحال. لِما خفض باللام. مَعَكُمْ صلة لما.
وَلا تَكُونُوا جزم بلا فلذلك حذفت منه النون. أَوَّلَ خبر تكونوا، ولم ينوّنه لأنه مضاف ولو لم يكن مضافا جاز فيه التنوين على أنه اسم ليس بنعت، وجاز الضمّ بغير تنوين على أنه غاية، وجاز ترك التنوين على أنه نعت قال كافِرٍ ولم يقل: كافرين، فيه قولان:
زعم الأخفش والفراء «٢» أنه محمول على المعنى لأن المعنى أول من كفر به، وحكى سيبويه:
هو أظرف الفتيان وأجمله لأنه قد كان يقول كأنه يقول: هو أظرف فتى وأجمله، والقول الآخر أنّ التقدير: ولا تكونوا أول فريق كافر به، والإمالة في كافر لغة تميم، وهي حسنة لأنه مخفوض والراء بمنزلة حرفين وليس فيه حرف مانع والحروف الموانع»
الخاء والغين والقاف والصاد والضاد والطاء والظاء. قال أبو جعفر: وفي «أول» من العربية ما يلطف ونحن نشرحه إن شاء الله. «أول» عند سيبويه «٤» مما لم ينطق منه بفعل وهو على أفعل عينه وفاؤه واو. وإنما لم ينطق منه بفعل عنده لئلا يعتل من جهتين وهذا مذهب البصريين، وقال الكوفيون: هو من وأل، ويجوز أن يكون من أال فإذا كان من وأل فالأصل فيه أوأل ثم خفّفت الهمزة فقلت: أول كما تخفّف همزة خطيئة فتقول: خطيّة وإن كان من أال فالأصل فيه: أاول ثم أبدلت من الألف واوا لأنه لا ينصرف.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٢]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢)
وَلا تَلْبِسُوا نهي فلذلك حذفت منه النون. الْحَقَّ مفعول. بِالْباطِلِ خفض
(١) انظر المحتسب ١/ ٨١، والبحر المحيط ١/ ٣٣٠.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٣٢، والبحر المحيط ١/ ٣٣٢.
(٣) الحروف الموانع: هي الحروف التي تمنع الإمالة.
(٤) انظر الكتاب ٣/ ٢١٩.
بالباء. وَتَكْتُمُوا عطف على تَشْتَرُوا وإن شئت كان جوابا للنهي في موضع نصب على إضمار أن عند البصريين «١»، والتقدير لا يكن منكم أن تشتروا وتكتموا، والكوفيون «٢» يقولون: هو منصوب على الصّرف، وشرحه أنه صرف عن الأداة التي عملت فيما قبله ولم يستأنف فيرفع فلم يبق إلّا النّصب فشبّهت الواو والفاء بكي فنصبت بها كما قال: [الكامل] ١٩-
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم «٣»
وَأَنْتُمْ مبتدأ. تَعْلَمُونَ فعل مستقبل في موضع الخبر والجملة في موضع الحال.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٣]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
وَأَقِيمُوا أمر، وكذا وَآتُوا وَارْكَعُوا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٤]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤)
أَتَأْمُرُونَ فعل مستقبل. وَتَنْسَوْنَ عطف عليه. أَفَلا تَعْقِلُونَ مثله.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٥]
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥)
وَاسْتَعِينُوا أمر. بِالصَّبْرِ خفض بالباء قال أبو جعفر: وقد ذكرنا فيه أقوالا في الكتاب الذي قبل هذا، وأصحّها أن يكون الصبر عن المعاصي ويكون وَالصَّلاةِ مثل قوله وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: ٩٨]، يقال فلان صابر أي عن المعاصي فإذا صبّر عن المعاصي فقد صبّر على الطاعة وقال جلّ وعزّ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: ١٠] ولا يقال لمن صبر على المصيبة: صابر إنّما يقال: صابر على كذا فإذا قلت: صابر مطلقا فهو على ما ذكرنا، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ اسم «إنّ» وخبرها، ويجوز في غير القرآن وإنه، ويجوز وإنهما.
(١) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٩٠، والبحر المحيط ١/ ٣٣٥.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٣٣. [.....]
(٣) الشاهد لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه، ص ٤٤، والأزهية ص ٢٣٤، وشرح التصريح ٢/ ٢٣٨، وشرح شذور الذهب ص ٣١٠، وهمع الهوامع ٢/ ١٣، وللمتوكل الليثي في الأغاني ١٢/ ١٥٦، وحماسة البحتري ص ١١٧، والعقد الفريد ٢/ ٣١١، والمؤتلف والمختلف ص ١٧٩، ولأبي الأسود أو للمتوكل في اللسان (عظظ)، ولأحدهما أو للأخطل في شرح شواهد الإيضاح ص ٢٥٢، ولأبي الأسود أو للأخطل أو للمتوكل الكناني في الدرر ٤/ ٨٦، والمقاصد النحوية ٤/ ٣٩٣، وللأخطل في الردّ على النحاة ص ١٢٧، وشرح المفصل ٢٤٤٧، ولحسان بن ثابت في شرح أبيات سيبويه ٢/ ١٨٨، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٦/ ٢٩٤، وأمالي ابن الحاجب ٢/ ٨٦٤، وأوضح المسالك ٤/ ١٨١، ورصف المباني ٤٢٤.

[سورة البقرة (٢) : آية ٤٦]

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦)
الَّذِينَ في موضع خفض على النعت للخاشعين. يَظُنُّونَ فعل مستقبل، وفتحت «أنّ» بالظن واسمها الهاء والميم والخبر. مُلاقُوا والأصل ملاقون لأنه بمعنى تلاقون حذفت النون تخفيفا، وَأَنَّهُمْ عطف على الأول، ويجوز «وأنّهم» بقطعه مما قبله.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٨]
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
يَوْماً منصوب باتّقوا، ويجوز في غير القرآن «يوم لا تجزي» على الإضافة.
وفي الكلام حذف بين النحويين فيه اختلاف قال البصريون «١» : التقدير يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، ثم حذف «فيه» قال الكسائي «٢» : هذا خطأ لا يجوز «فيه» ولو جاز هذا لجاز: الذي تكلمت زيد، بمعنى تكلمت فيه، قال: ولكن التقدير واتقوا يوما لا تجزيه نفس، ثم حذف الهاء، وقال الفراء «٣» : يجوز أن تحذف «فيه» وأن تحذف الهاء، قال أبو جعفر: الذي قاله الكسائي لا يلزم لأن الظروف يحذف منها ولا يحذف من غيرها. تقول: تكلّمت في اليوم وكلمت وتكلّمت اليوم. هذا احتجاج البصريين.
فأما الفراء فردّ على الكسائي بأن قال: فإذا قلت: كلّمت زيدا وتكلّمت في زيد، فالمعنيان مختلفان فلهذا لم يجز الحذف فينقلب المعنى والفائدة في الظروف واحدة، وهذه الجملة في موضع نصب عند البصريين على نعت لليوم، ولهذا وجب أن يعود عليه ضمير، وعند الكوفيين صلة، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ ويجوز «تقبل» «٤» بالتاء لأنّ الشفاعة مؤنّثة وإنّما حسن تذكيرها لأنها بمعنى التّشفّع كما قال: [الكامل] ٢٠-
إنّ السّماحة والمروءة ضمّنا قبرا بمرو على الطريق الواضح «٥»
وقال الأخفش: حسن التذكير لأنك قد فرقت. قال سيبويه «٦» : وكلّما طال الكلام فهو أحسن وهو في الموات أكثر فرقوا بين الحيوان والموات كما فرّقوا بين الآدميّين
(١) انظر البحر المحيط ١/ ٣٤٧، وإعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٩٤.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٣٢، والبحر المحيط ١/ ٣٤٧.
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ٣٢.
(٤) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٩٥، والبحر المحيط ١/ ٣٤٨، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو.
(٥) الشاهد لزياد الأعجم في ديوانه ص ٥٤، والأغاني ١٥/ ٣٠٨، وأمالي المرتضى ١/ ٧٢، وسمط اللآلي ص ٩٢١، والشعر والشعراء ١/ ٤٣٨، والمقاصد النحوية ٢/ ٥٠٢، وللصلتان العبدي في أمالي المرتضى ٢/ ١٩٩، وبلا نسبة في الإنصاف ٢/ ٧٦٣، وشرح شذور الذهب ص ٢٢٠.
(٦) انظر الكتاب ٢/ ٣٤.
وغيرهم في الجمع. شَفاعَةٌ اسم ما لم يسمّ فاعله وكذا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ابتداء وخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٩]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ «إذ» في موضع نصب عطفا على «اذكروا نعمتي». مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ قال الكسائي: إنّما يقال: آل فلان وآل فلانة، ولا يقال في البلدان لا يقال: هو من آل حمص ولا من آل المدينة، قال: إنّما يقال في الرئيس الأعظم نحو محمد عليه السلام أهل دينه وأتباعه، وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة، قال: وقد سمعناه في البلدان قالوا: أهل المدينة وآل المدينة، قال أبو الحسن بن كيسان: إذا جمعت آلا قلت: آلون فإن جمعت آلا الذي هو بمنزلة السراب قلت: أوآل مثل مال وأموال. قال أبو جعفر: الأصل في آل أهل ثم أبدل من الهاء ألف فإن صغّرت رددته إلى أصله فقلت أهيل. فِرْعَوْنَ في موضع خفض إلّا أنه لا ينصرف لعجمته. قال الأخفش:
يَسُومُونَكُمْ في موضع رفع على الابتداء، وإن شئت كان في موضع نصب على الحال أي سائمين لكم. قرأ ابن محيصن يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ «١» والتشديد أبلغ لأن فيه معنى التكثير. وَيَسْتَحْيُونَ عطف. وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ رفع بالابتداء. عَظِيمٌ من نعته.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٠]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠)
وَإِذْ فَرَقْنا في موضع نصب، وحكى الأخفش فَرَقْنا «٢»، الْبَحْرَ مفعول.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥١]
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١)
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر «٣» وشيبة وإذا وعدنا «٤» بغير ألف وهو اختيار أبي عبيد وأنكر «واعدنا» قال: لأن المواعدة إنما تكون من البشر، فأما الله جلّ وعزّ فإنما هو المنفرد بالوعد والوعيد. على هذا وجدنا القرآن كقوله: وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ [إبراهيم: ٢٢] وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الفتح: ٢٩] وقوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الأنفال: ٧]. قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول أبي إسحاق «٥» في الكتاب الذي قبل هذا. وكلام أبي عبيد
(١) انظر مختصر ابن خالويه (٥)، والبحر المحيط ١/ ٣٥١.
(٢) انظر مختصر ابن خالويه (٥)، والمحتسب ١/ ٨٢.
(٣) أبو جعفر: يزيد القعقاع المخزومي المدني أحد القراء العشرة، تابعي، عرض على ابن عباس وغيره، وروى القراءة عن نافع (ت ١٣٠ هـ) ترجمة في غاية النهاية ٢/ ٣٨٢.
(٤) انظر البحر المحيط ١/ ٣٥٢.
(٥) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ١٠٠، والبحر المحيط ١/ ٣٥٧.
هذا غلط بيّن لأنه أدخل بابا في باب وأنكر ما هو أحسن وأجود و «واعدنا» أحسن وهي قراءة مجاهد والأعرج وابن كثير ونافع والأعمش وحمزة والكسائي، وليس قوله سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة: ٩] من هذا في شيء، لأن «واعدنا موسى» إنما هو من باب الموافاة وليس هو من الوعد والوعيد في شيء وإنما هو من قول:
موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا، والفصيح في هذا أن يقال: واعدته. مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مفعولان. قال الأخفش: التقدير وإذ واعدنا موسى تمام أربعين ليلة ثم حذف كما قال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢]. ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ بالإدغام، وإن شئت أظهرت لأن الذال مجهورة والتاء مهموسة فالإظهار حسن، وإنّما جاز الإدغام لأن الثاني بمنزلة المنفصل.. «العجل» : مفعول أول والمفعول الثاني محذوف.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٢]
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢)
ثُمَّ عَفَوْنا «ثم» : تدلّ على أن الثاني بعد الأول ومع ذلك تراخ، وموضع النون والألف رفع بالفعل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٣]
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)
وَإِذْ آتَيْنا بمعنى أعطينا. مُوسَى الْكِتابَ مفعولان. وَالْفُرْقانَ عطف على الكتاب. قال الفراء: وقطرب «١» : يكون وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التّوراة، ومحمدا صلّى الله عليه وسلّم الفرقان. قال أبو جعفر: هذا خطأ في الإعراب والمعنى، أما الإعراب فإن المعطوف على الشيء مثله وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشيء خلافه، وأما المعنى فقد قال فيه جلّ وعزّ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ [الأنبياء: ٤٨]. قال أبو إسحاق «٢» : يكون الفرقان هذا الكتاب أعيد ذكره وهذا أيضا بعيد إنما يجيء في الشعر كما قال: [الوافر] ٢١-
وألفى قولها كذبا ومينا «٣»
وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد: فرقانا بين الحق والباطل الذي علّمه إيّاه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)
(١) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ١٠١.
(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ١٠١. [.....]
(٣) الشاهد لعدي بن زيد في ذيل ديوانه ص ١٨٣، والأشباه والنظائر ٣/ ٢١٣، وجمهرة اللغة ٩٩٣، والدرر ٦/ ٧٣، وشرح شواهد المغني ٢/ ٧٧٦، والشعر والشعراء ١/ ٢٣٣، ولسان العرب (مين)، ومعاهد التنصيص ١/ ٣١٠، وبلا نسبة في مغني اللبيب ١/ ٣٥٧، وهمع الهوامع ٢/ ١٢٩، وصدره:
«وقدّدت الأديم لراهشيه»
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ حذفت الياء لأن النداء موضع حذف والكسرة تدلّ عليها وهي بمنزلة التنوين فحذفتها كما تحذف التنوين من المفرد، ويجوز في غير القرآن إثباتها ساكنة فتقول: «يا قومي» لأنها اسم وهي في موضع خفض، وإن شئت فتحتها، وإن شئت ألحقت معها هاء فقلت: يا قوميه. وإن شئت أبدلت منها ألفا لأنها أخفّ فقلت: يا قوما، وإن شئت قلت: يا قوم بمعنى يا أيّها القوم، وإن جعلتهم نكرة نصبت ونونت. إِنَّكُمْ كسرت إنّ لأنها بعد القول فهي مبتدأة، ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ استغني بالجمع القليل عن الكثير والكثير نفوس بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ مفعول أي بأن اتخذتم العجل والكاف والميم في موضع خفض بالإضافة وهما في التأويل في موضع رفع. فَتُوبُوا أمر. إِلى بارِئِكُمْ خفض بإلى، وروي عن أبي عمرو بإسكان الهمزة من بارِئِكُمْ «١» وروى عنه سيبويه باختلاس الحركة. قال أبو جعفر: أما إسكان الهمزة فزعم أبو العباس أنه لحن لا يجوز في كلام ولا شعر لأنها حرف الإعراب، وقد أجاز ذلك النحويون القدماء الأئمة وأنشدوا: [الرجز] ٢٢-
إذا اعوججن قلت صاحب قوم «٢»
ويجوز إِلى بارِئِكُمْ «٣» تبدل من الهمزة ياء. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: الهاء اسم «إنّ» وهو مبتدأ و «التواب» الخبر والجملة خبر إنّ، وإن شئت كانت «هو» زائدة، وإن شئت كانت توكيدا للهاء «والتواب» خبر «إن» و «الرّحيم» من نعته.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٥]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥)
وَإِذْ قُلْتُمْ معطوف. يا مُوسى نداء مفرد. جَهْرَةً مصدر في موضع الحال يقال: رأيت الأمير جهارا أو جهرة. أي غير مستتر بشيء ومنه: فلان يجاهر بالمعاصي أي لا يستتر من الناس. فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ رفع بفعلها. وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ في موضع الحال أي ناظرين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٦]
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦)
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ موضع النون والألف رفع بالفعل والكاف والميم نصب بالفعل.
(١) انظر: إملاء ما منّ به الرّحمن ١/ ٣٧، والتيسير في القراءات للداني ٦٣.
(٢) الشاهد بلا نسبة في معاني القرآن للفراء ٢/ ١٢، وتفسير الطبري ٢٢/ ١٤٦، وشرح شواهد للشنتمري ٢/ ٢٩٧، والكتاب ٤/ ٣١٨. وتمامه «بالدّوّ أمثال السفين العوّم».
(٣) انظر مختصر في شواذ القرآن ٥، والبحر المحيط ١/ ٣٦٤.

[سورة البقرة (٢) : آية ٥٧]

وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)
قال الأخفش سعيد: واحد الْغَمامَ غمامة كسحابة وسحاب. قال الفراء: يجوز غمائم. وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ نصب بوقوع الفعل عليه وَالسَّلْوى عطف ولا يتبيّن فيه الإعراب لأنه مقصور ووجب هذا في المقصور كلّه لأنّه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف. قال الخليل: والألف حرف هوائي لا مستقر له فأشبه الحركة فاستحالت حركته، وقال الفراء: لو حرّكت الألف لصارت همزة. قال الأخفش: «المنّ» جمع لا واحد له مثل الخير والشر و «السلوى» لم يسمع له بواحد ولو قيل: على القياس لكان يقال: في واحدة سلوى كما يقال: سماني وشكاعى «١» في الواحد والجميع. كُلُوا أمر، مِنْ طَيِّباتِ خفض بمن، ما رَزَقْناكُمْ خفض بالإضافة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٨]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا حذفت الألف من «قلنا» لسكونها وسكون الدال بعدها والألف التي يبتدأ بها قبل الدال ألف وصل لأنها من يدخل. فَكُلُوا عطف عليه. رَغَداً نعت لمصدر محذوف أي أكلا رغدا، ويجوز أن يكون في موضع الحال. وَادْخُلُوا عطف. سُجَّداً نصب على الحال. وَقُولُوا عطف، حِطَّةٌ على إضمار مبتدأ.
قال الأخفش: وقرئت حِطَّةٌ نصبا على أنها بدل من الفعل. قال أبو جعفر: الحديث عن ابن عباس أنهم قيل لهم: «قولوا لا إله إلا الله» وفي حديث آخر عنه قيل لهم:
«قولوا مغفرة» تفسير للنصب أي قولوا شيئا يحطّ عنكم ذنوبكم كما تقول: قل خيرا.
وحديث ابن مسعود «قالوا حطة» تفسير على الرفع وهو أولى في اللغة والأئمة من القراء على الرفع، وإنما صار أولى في اللغة لما حكي عن العرب في معنى بدّل قال أحمد بن يحيى: يقال: بدّلت الشيء. أي غيّرته ولم أزل عينه وأبدلته أزلت عينه وشخصه كما قال أبو النجم: [الرجز] ٢٣-
عزل الأمير المبدل «٢»
وقال الله جلّ وعزّ: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: ١٥]
(١) شكاعي: نبت صغير.
(٢) الشاهد لأبي النجم في معاني الفراء ٢/ ٢٥٩، وتفسير الطبري ١٨/ ١٥٩، واللسان (بدل). ومقاييس اللغة ١/ ٢١٠، وبلا نسبة في كتاب العين ١/ ٣٥٧.

[سورة البقرة (٢) : آية ٥٩]

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا في موضع رفع بالفعل. قَوْلًا مفعول. غَيْرَ الَّذِي نعت له. وقرأ الأعمش يَفْسُقُونَ «١» بكسر السين يقال: فسق يفسق فهو فاسق عن الشيء إذا خرج عنه، فإذا قلت: فاسق ولم تقل عن كذا فمعناه خارج عن طاعة الله جلّ وعزّ. وفي نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ [البقرة: ٥٨] كلام يغمض من العربية سنشرحه إن شاء الله فمن ذلك قول الخليل «٢» رحمه الله: الأصل في جمع خطيئة أن تقول: خطاييء ثم قلب فقيل: خطاءي بهمزة بعدها ياء ثم تبدل من الياء ألفا بدلا لازما فتقول:
خطاءى وقد كان هذا البدل يجوز في غير هذا القول: عذارى إلّا أنه زعم هاهنا تخفيفا فلمّا اجتمعت ألفان بينهما همزة والهمزة من جنس الألف صرت كأنك قد جمعت بين ثلاث ألفات فأبدلت من الهمزة ياء فقلت: خطايا. وأمّا سيبويه «٣» فمذهبه أنّ الأصل خطايىء مثل الأول ثم وجب عنده أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن فتقول: خطائىء ولا تجتمع همزتان في كلمة فأبدلت من الثانية ياء فقلت: خطاءي ثم عملت كما عملت في الأول. وقال الفراء: خطايا جمع خطيّة بلا همز كما تقول: هديّة وهدايا قال: ولو جمعت خطيئة مهموزة لقلت خطاءيء. وقال الكسائي: لو جمعتها مهموزة لأدغمت الهمزة في الهمزة كما قلت دوابّ وقرأ مجاهد تغفر لكم خطاياكم فأنّث على الجماعة وقرأ الحسن وعاصم الجحدري تغفر لكم خطيئتكم والبيّن «نَغْفِرْ لَكُمْ» لأن بعده وَسَنَزِيدُ بالنون وخطاياكم اتباعا للسواد وإنّه على بابه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٠]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
وَإِذِ اسْتَسْقى كسرت الذال لالتقاء الساكنين و «إذ» غير معربة لأنها بمنزلة «في» أنها اسم لا تتمّ إلّا بما بعدها. فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً «اثنتا» في موضع رفع «فانفجرت» وعلامة الرفع فيها الألف وأعربت دون نظائرها لأن التثنية معربة أبدا لصحة معناها. عَيْناً نصب على البيان وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً «٤» وهذه لغة بني تميم وهذا من لغتهم نادر لأن سبيلهم التخفيف، ولغة أهل الحجاز
(١) انظر مختصر ابن خالويه (٥).
(٢) انظر الإنصاف مسألة ١١٦.
(٣) انظر الكتاب ٤/ ٣٣، والإتحاف ٨٤.
(٤) انظر مختصر ابن خالويه (٥)، والبحر المحيط ١/ ٣٩١.
«عشرة» وسبيلهم التثقيل. وَلا تَعْثَوْا نهي فلذلك حذفت منه النون وهو من عثى يعثى.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦١]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
وَإِذْ قُلْتُمْ عطف. يا مُوسى نداء مفرد. لَنْ نَصْبِرَ نصب بلن. عَلى طَعامٍ خفض بعلى. واحِدٍ من نعته. فَادْعُ سؤال بمنزلة الأمر، فلذلك حذفت منه الواو ولغة بني عامر «فادع لنا» بكسر العين لالتقاء الساكنين. يُخْرِجْ لَنا جزم لأنه جواب الأمر، وفيه معنى المجازاة. مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ قال الأخفش «١» :«من» زائدة قال أبو جعفر: هذا خطأ على قول سيبويه «٢» لأن «من» لا تزاد عنده في الواجب وإنّما دعا الأخفش إلى هذا أنه لم يجد مفعولا ليخرج فأراد أن يجعل ما مفعولا. والأولى أن يكون المفعول محذوفا دلّ عليه سائر الكلام والتقدير: يخرج لنا مما تنبت الأرض مأكولا. مِنْ بَقْلِها بدل بإعادة الحروف. وَقِثَّائِها عطف. وقرأ طلحة ويحيى بن وثّاب. وَقِثَّائِها «٣» بضمّ القاف وتقول في جمعها: قثائيّ مثل علباء وعلابيّ. إلّا أنّ قثّاء من ذوات الهمزة يقال: أقثأت القوم. قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: لا يصحّ عندي في أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى إلّا أن يكون من ذوات الهمز من قولهم: دنيء بيّن الدناءة، ثم أبدلت الهمزة. قال أبو جعفر: هذا الذي ذكرنا إنما يجوز في الشعر ولا يجوز في الكلام فكيف في كتاب الله جلّ وعزّ. قال أبو إسحاق «٤» : هو من الدنو أي الذي هو أقرب من قولهم ثوب مقارب أي قليل الثمن. قال أبو جعفر:
وأجود من هذين القولين أن يكون المعنى- والله أعلم- أتستبدلون الذي هو أقرب إليكم في الدنيا بالذي هو خير لكم يوم القيامة لأنهم إذا طلبوا غير ما أمروا بقبوله فقد استبدلوا الذي هو أقرب إليهم في الدنيا مما هو خير لهم لما لهم فيه من الثواب اهْبِطُوا مِصْراً نكرة. هذا أجود الوجوه لأنها في السواد بألف، وقد يجوز أن تصرف تجعل اسما للبلاد وإنما اخترنا الأول لأنه لا يكاد يقال مثل مصر بلاد ولا بلد وإنما
(١) انظر البحر المحيط ١/ ٣٩٤.
(٢) انظر الكتاب ١/ ٧٣.
(٣) انظر المحتسب ١/ ٨٧، ومختصر ابن خالويه (٦).
(٤) انظر إعراب القرآن ومعانيه ١١٢. [.....]
يقال لها: بلدة. وإنما يستعمل بلاد في مثل بلاد الروم. وقال الكسائي: يجوز أن تصرف مصر وهي معرفة لخفّتها يريد أنها مثل هند. وهذا خطأ على قول الخليل وسيبويه والفراء «١»، لأنك لو سمّيت امرأة بزيد لم تصرف، وقال الكسائي: يجوز أن تصرف مصر وهي معرفة لأن العرب تصرف كل ما لا ينصرف في الكلام إلا أفعل منك. فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ «ما» نصب بأنّ. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ اسم ما لم يسم فاعله. وَالْمَسْكَنَةُ عطف وقد ذكرنا الهمز في النبيئين «٢» في الكتاب الذي قبل هذا. ذلِكَ بِما عَصَوْا قال الأخفش: أي بعصيانهم. وَكانُوا يَعْتَدُونَ عطف عليه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اسم «إنّ» (آمنوا) صلته. وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ عطف كلّه. مَنْ آمَنَ مبتدأ وآمن في موضع جزم بالشرط والفاء الجواب، وخبر المبتدأ. فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ والجملة خبر إنّ والعائد على الذين من الجملة محذوف أي من آمن منهم. وقرأ الحسن البصريّ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «٣» على التبرئة والرفع على الابتداء أجود، ويجوز أن تجعل «لا» بمعنى ليس، فأمّا وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فلا يكون إلّا بالابتداء لأن «لا» لا تعمل في معرفة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣)
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ قال الأخفش: أي واذكروا إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ أي فقلنا خذوا ما آتيناكم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٤]
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤)
فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ رفع بالابتداء عند سيبويه «٤» والخبر محذوف لا يجوز عنده إظهاره لأن العرب استغنت عن إظهاره بأنهم إذا أرادوا ذلك جاءوا بأنّ فإذا جاءوا بها لم يحذفوا الخبر، والتقدير فلولا فضل الله تدارككم. وَرَحْمَتُهُ عطف على فضل.
لَكُنْتُمْ جواب لولا. مِنَ الْخاسِرِينَ خبر كنتم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٥]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ في موضع نصب ولا يحتاج إلى مفعول ثان إذا كانت علمتم
(١) ومعاني الفراء ١/ ٤٢.
(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ١١٣.
(٣) انظر البحر المحيط ١/ ٤٠٥.
(٤) انظر الكتاب ٢/ ١٢٨.
بمعنى عرفتم. حكى الأخفش: لقد علمت زيدا ولم أكن أعلمه. اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ صلة الذين فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خبر كان. خاسِئِينَ نعت.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٦]
فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
فَجَعَلْناها نَكالًا مفعول ثان. لِما بَيْنَ ظرف. وَما خَلْفَها عطف. وَمَوْعِظَةً عطف على «نكالا». لِلْمُتَّقِينَ خفض باللام.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٧]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ كسرت إنّ لأنها بعد القول وحكي عن أبي عمرو ويَأْمُرُكُمْ حذف الضمة من الراء لثقلها، قال أبو العباس: لا يجوز هذا لأن الراء حرف الإعراب وإنما الصحيح عن أبي عمرو أنه كان يختلس الحركة، أَنْ تَذْبَحُوا في موضع نصب بيأمركم أي بأن تذبحوا، بَقَرَةً نصب بتذبحوا قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً مفعولان، ويجوز تخفيف الهمزة تجعلها بين الواو والهمزة ويجوز حذف الضّمّة من الزاي كما تحذفها من عضد فتقول هُزُواً «١» كما قرأ أهل الكوفة، فأما جزء فليس مثل هزء لأنه على فعل من الأصل. قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ولغة تميم وأسد «عن» في موضع «أن».
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٨]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨)
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ حذفت الواو لأنه طلب، ولغة بني عامر «ادع لنا» بكسر العين لالتقاء الساكنين. يُبَيِّنْ لَنا تدغم النون في اللام، وإن شئت أظهرت فإذا كانت النون متحركة كان الاختيار الإظهار نحو وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ [الأنعام: ٤٣]، (يبيّن) : جزم لأنه جواب الأمر، ما هِيَ ابتداء وخبر. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ خبر إنّ. لا فارِضٌ قال الأخفش: لا يجوز نصب فارض لأنه نعت للبقرة كما تقول: مررت برجل لا قائم ولا جالس، ويجوز أن يكون التقدير ولا هي فارض، ويقال على هذا: مررت برجل لا قائم ولا جالس. وَلا بِكْرٌ عطف على فارض. عَوانٌ على إضمار مبتدأ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٩]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩)
ما لَوْنُها ابتداء وخبره، ويجوز «ما لونها» على أن تكون ما زائدة وتنصبه
(١) انظر البحر المحيط ١/ ٤١٥.
بيبيّن. بَقَرَةٌ صَفْراءُ لم تنصرف صفراء لأنّ فيها ألف التأنيث وهي ملازمة فخالفت الهاء لأن ما فيه الهاء ينصرف في النكرة. فاقِعٌ نعت. لَوْنُها رفع بفاقع.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٠]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠)
إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا ذكر البقر لأنه بمعنى الجميع. قال الأصمعي: الباقر جمع باقرة قال: ويجمع بقر على باقورة، وقرأ الحسن إنّ البقر تشّابه علينا «١» جعله فعلا مستقبلا وأنّثه والأصل تتشابه ثم أدغم التاء في الشين، وقرأ يحيى بن يعمر إن الباقر يشّابه علينا جعله فعلا مستقبلا وذكر الباقر وأدغم، ويجوز إنّ البقر تشابه علينا بتخفيف الشين وضم الهاء ولا يجوز يشابه علينا بتخفيف الشين وبالياء، وإنما جاز في التاء لأن الأصل تتشابه فحذفت لاجتماع التاءين. وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ خبر إنّ و «شاء» في موضع جزم بالشرط وجوابه عند سيبويه الجملة وعند أبي العباس محذوف.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧١]
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
قال الأخفش: «لا ذلول» نعت ولا يجوز نصبه. قال أبو جعفر: يجوز أن يكون التقدير لا هي ذلول، وقد قرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي «٢» لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وهو جائز على إضمار خبر النفي. تُثِيرُ الْأَرْضَ متصل بالأول على هذا المعنى أي لا تثير الأرض. وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ وزعم علي ابن سليمان أنه لا يجوز أن يكون تثير مستأنفا لأن بعده «ولا تسقي الحرث» فلو كان مستأنفا لما جمع بين الواو و «لا». مُسَلَّمَةٌ أي هي مسلّمة ويجوز أن يكون «مسلّمة» نعتا أي إنها بقرة مسلمة من العرج وسائر العيوب ولا يقال: مسلمة من العمل لأنه لا يصلح سالمة مما هو خير لها. لا شِيَةَ فِيها الأصل وشية حذفت الواو كما حذفت من يشي والأصل يوشي. قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فيه أربعة أوجه «٣» : الهمز كما قرأ الكوفيون قالُوا الْآنَ وتخفيف الهمزة مع حذف الواو لالتقاء الساكنين كما قرأ أهل المدينة قالُوا الْآنَ «٤» وحكى الأخفش «٥» وجهين آخرين: أحدهما إثبات الواو مع تخفيف الهمزة، قالوا لآن جئت بالحقّ أثبت الواو لأن اللام قد تحرّكت بحركة الهمزة ونظير هذا وأنه أهلك عادا لولا [النجم: ٥٠]
(١) انظر تفسير الطبري ١/ ٣٥٠.
(٢) أبو عبد الرّحمن السلميّ: عبد الله بن حبيب مقرئ الكوفة. إليه انتهت القراءة تجويدا وضبطا، أخذ القراءة عن علي بن أبي طالب وعثمان وابن مسعود (ت ٧٤ هـ). وترجمته في غاية النهاية ١/ ٣٤١.
(٣) انظر إملاء ما منّ به الرّحمن ١/ ٤٣، ٤٤، والبحر المحيط ١/ ٤٢٢.
(٤) انظر البحر المحيط ١/ ٤٢٢.
(٥) انظر إعراب القرآن ومعاوية للزجاج ١٢٢.
على قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقال أبو جعفر: سمعت محمد بن الوليد يقول:
سمعت محمد بن يزيد يقول: ما علمت أنّ أبا عمرو بن العلاء لحن في صميم العربية إلّا في حرفين أحدهما «عادا لولا» والآخر يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: ٧٥] وإنّما صار لحنا لأنّه أدغم حرفا في حرف فأسكن الأول والثاني حكمه السكون وإنّما حركته عارضة فكأنه جمع بين ساكنين وحكى الأخفش قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فقطع الألف الأولى وهي ألف وصل كما يقال يا الله. قال أبو إسحاق «١» : الآن مبنيّ على الفتح وفيها الألف واللام لأن الألف واللام دخلت لغير عهد تقول: كنت إلى الآن هاهنا فالمعنى إلى هذا الوقت فبنيت كما بني هذا وفتحت النون لالتقاء الساكنين.
فَذَبَحُوها الهاء والألف نصب بالفعل والاسم الهاء ولا تحذف الألف لخفّتها وللفرق بين المذكر والمؤنث، وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فعل مستقبل وأجاز سيبويه «٢» : كاد أن يفعل تشبيها بعسى.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٢]
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً «إذ» ظرف معطوفة على ما قبلها. فَادَّارَأْتُمْ الأصل تدارأتم ثم أدغمت التاء في الدال ولم يجز أن تبتدئ بالمدغم لأنه ساكن فزدت ألف الوصل، وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ «ما» في موضع نصب بمخرج ويجوز حذف التنوين على الإضافة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٣]
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)
كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
موضع الكاف نصب لأنها نعت لمصدر محذوف ولا يجوز أن تدغم الياء في الياء من «يحيي» لئلا يلتقي ساكنان.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٤]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ تقول: قسا فإذا زدت التاء حذفت الألف لالتقاء الساكنين.
قُلُوبُكُمْ مرفوعة بقست. فَهِيَ كَالْحِجارَةِ والكاف في موضع رفع على خبر هي. أَوْ أَشَدُّ عطف على الكاف ويجوز أن «أشدّ قسوة» تعطفه على الحجارة قَسْوَةً على البيان. وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ «ما» في موضع نصب لأنها اسم إنّ، واللّام للتوكيد
(١) انظر إعراب القرآن ومعانيه ١٢٢.
(٢) انظر الكتاب ٣/ ١٠.
منه على لفظ «ما»، وفي قراءة أبيّ منها على المعنى. قال أبو حاتم: يجوز لما تتفجّر منه الأنهار ولا يجوز لما تشّقّق لأنه إذا قال: تتفجّر أنّثه بتأنيث الأنهار، وهذا لا يكون في تشّقق. قال أبو جعفر: يجوز ما أنكره يحمل على المعنى لأن المعنى وإن منها لحجارة تشقق، وأمّا يشقق بالياء فمحمول على لفظ «ما» وأما الكسائي فيقول: هو مذكّر على تذكير البعض ومثله عنده: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ [النحل: ٦٦] أي مما في بطون بعضه. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ في موضع نصب على لغة أهل الحجاز والباء توكيد.
عَمَّا تَعْمَلُونَ أي عن عملكم ولا تحتاج إلى عائد إلّا أن تجعلها بمعنى الذي فتحذف العائد لطول الاسم أي عن الذي تعملونه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٥]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
أَفَتَطْمَعُونَ فعل مستقبل. أَنْ في موضع نصب أي في أن. يُؤْمِنُوا نصب بأن فلذلك حذفت منه النون. وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ قال الخليل «١» : قد للتوقع «فريق» اسم كان والخبر. يَسْمَعُونَ ويجوز أن يكون الخبر منهم ويكون «يسمعون» نعتا لفريق وجمع «فريق» في أدنى العدد: أفرقة والكثير أفرقاء. قال سيبويه «٢» : واعلم أنّ ناسا من ربيعة يقولون: «منهم» أتبعوها الكسرة ولم يكن المسكّن حاجزا حصينا عندهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٦]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦)
قال أبو جعفر: الأصل في لَقُوا لقيوا، وقد ذكرناه في أول السورة «٣»، والأصل في خَلا خلو قلبت الواو ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها. لِيُحَاجُّوكُمْ نصب بلام كي وإن شئت بإضمار أن وعلامة النصب حذف النون. قال يونس «٤» : وناس من العرب يفتحون لام كي. قال الأخفش: لأن الفتح الأصل قال خلف الأحمر «٥» : هي لغة بني العنبر.
(١) انظر الكتاب ٤/ ٣٤٥.
(٢) انظر الكتاب ٤/ ٣١١. [.....]
(٣) انظر تفسير الآية ١٤.
(٤) يونس بن حبيب أبو عبد الرّحمن الضبي، أخذ عن أبي عمرو، وكان النحو أغلب عليه (ت ١٨٣ هـ).
ترجمته في طبقات الزبيدي ٤٨.
(٥) خلف الأحمر بن حيان بن محرز أبو محرز مولى بلال بن أبي بردة، أحد رواة الغريب (من الحديث) والشعر والعلماء به. توفي في حدود الثمانين ومائة. ترجمته في طبقات الزبيدي ١٧٧، ونزهة الألباء ٥٣.

[سورة البقرة (٢) : آية ٧٨]

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ رفع بالابتداء، لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ في موضع نصب، إِلَّا أَمانِيَّ نصب لأنه استثناء ليس من الأول، ومثله ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النساء: ١٥٧]. وقرأ أبو جعفر إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ قال: هذا كما يقال في جمع مفتاح: مفاتح. قال أبو جعفر: الحذف في المعتلّ أكثر كما قال ذو الرمة: [الطويل] ٢٤-
وهل يرجع التّسليم أو يكشف العما ثلاث الأثافي والرّسوم البلاقع «١»
وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ابتداء وخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٩]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)
فَوَيْلٌ مبتدأ قال الأخفش: ويجوز نصبه على إضمار فعل أي ألزمه الله ويلا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٠]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠)
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ روى سيبويه «٢» عن بعض أصحاب الخليل قال: الأصل في لن «لا أن». وحكى هشام عن الكسائي مثله وزعم سيبويه أنّ هذا خطأ وأنّ لن عاملة كأن واستدلّ على ذلك بقول العرب: زيدا لن أضرب. قُلْ أَتَّخَذْتُمْ مدغما، وقرأ عاصم أَتَّخَذْتُمْ بغير إدغام لأن الثاني بمنزلة المنفصل فحسن الإظهار.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨١]
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١)
بَلى بمنزلة نعم إلّا أنها لا تقع إلّا بعد النفي، وزعم الكوفيون «٣» أنها «بل» زيدت عليها الياء فبل يدلّ على ردّ الجحد والياء تدلّ على الإيجاب لما بعده، قالوا: ولو قال قائل: ألم تأخذ دينارا فقلت نعم لكان المعنى لا لم آخذ لأنك حقّقت النفي وما بعده، وإذا قلت: بلى صار المعنى قد أخذت. مَنْ في موضع رفع بالابتداء وهي شرط.
فَأُولئِكَ ابتداء ثان. أَصْحابُ النَّارِ خبر الثاني والثاني خبره خبر الأول.
(١) الشاهد لذي الرمة في ديوانه ص ١٢٧٤، والأشباه والنظائر ٥/ ١٢٢، وإصلاح المنطق ٣٠٣، وجواهر الأدب ٣١٧، والدرر ٦/ ٢٠١، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٠٨، وخزانة البغدادي ١/ ٢١٣، وشرح المفصّل ٢/ ١٢٢، ولسان العرب (خمس)، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١/ ٣٥٨، وتذكرة النحاة ص ٣٤٤، وشرح الأشموني ١/ ٨٧، والمقتضب ٢/ ١٧٦، والمنصف ١/ ٦٤، وهمع الهوامع ٢/ ١٥٠.
(٢) انظر الكتاب ٣/ ٣.
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ٥٢.

[سورة البقرة (٢) : آية ٨٣]

وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)
لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ قد ذكرناه في الكتاب الذي قبل هذا. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مصدر. وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً مبني على فعل وحكى الأخفش وقولوا للناس حسنى «١» على فعلى. قال أبو جعفر: وهذا لا يجوز في العربية، لا يقال من هذا شيء إلّا بالألف واللام نحو الفضلى والكبرى والحسنى. هذا قول سيبويه، وقرأ عيسى بن عمر وقولوا للناس حسنا «٢» بضمتين، وهذا مثل الحلم، وقرأ الكوفيون حسنا «٣» أي قولا حسنا. قال الأخفش سعيد: حسن وحسن مثل بخل وبخل قال محمد بن يزيد: يقبح في العربية أن تقول: مررت بحسن على أن تقيم الصفة مقام الموصوف لأنه لا يعرف ما أردت. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا منصوب على الاستثناء والمستثنى عند سيبويه «٤» منصوب لأنه مشبّه بالمفعول وقال محمد بن يزيد: هو مفعول على الحقيقة المعنى استثنيت قليلا. وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ابتداء وخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٤]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤)
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ ويجوز إدغام القاف في الكاف لقرب إحداهما من الأخرى، لا تَسْفِكُونَ مثل لا تَعْبُدُونَ [البقرة: ٨٣] وقرأ طلحة. تَسْفُكُونَ «٥» بضم الفاء، دِماءَكُمْ جمع دم والأصل في دم فعل هذا البيّن وقيل أصله دمي على «فعل» إلّا أنّ الميم تحرّك في التثنية إذا ردّ إلى أصله ليدلّ ذلك على أنها كانت حرف الإعراب في الحذف.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٥]
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)
ثُمَّ أَنْتُمْ فتحت الميم من «ثم» لالتقاء الساكنين، ولا يجوز ضمّها ولا كسرها
(١) انظر مختصر ابن خالويه (٧).
(٢) انظر البحر المحيط ١/ ٤٥٣، ومختصر ابن خالويه (٧).
(٣) وهي قراءة حمزة والكسائي ويعقوب، انظر البحر المحيط ١/ ٤٥٣.
(٤) انظر الكتاب ٢/ ٣٤٦.
(٥) انظر البحر المحيط ١/ ٤٥٧، وهي قراءة شيب ابن أبي حمزة أيضا.
64
كما جاز في «ردّ» لأنها لا تتصرّف. وأَنْتُمْ في موضع رفع بالابتداء ولا يعرب المضمر وضممت التاء من أنتم لأنها كانت مفتوحة إذا خاطبت واحدا مذكرا ومكسورة إذا خاطبت واحدة مؤنّثة فلما ثنّيت وجمعت لم تبق إلّا الضّمة، هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ قال القتبي «١» : التقدير: يا هؤلاء. قال أبو جعفر: هذا خطأ على قول سيبويه «٢» لا يجوز عنده: هذا أقبل، وقال أبو إسحاق «٣» :«هؤلاء» بمعنى الذين، وتقتلون داخل في الصلة أي ثم أنتم الذين تقتلون، وسمعت عليّ بن سليمان يقول:
سمعت محمد بن يزيد يقول: أخطأ من قال انّ «هذا» بمعنى «الذي» وإن كان قد أنشد:
[الطويل] ٢٥-
عدس ما لعبّاد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق «٤»
قال: فإنّ هذا بطلان المعاني قال أبو الحسن: هذا على بابه و «طليق» و «تحملين» خبر أيضا، قال أبو جعفر: يجوز أن يكون التقدير والله أعلم أعني هؤلاء و «تقتلون» :
خبر «أنتم»، «أنفسكم» : مفعوله، ولا يجيز الخليل وسيبويه أن يتصل المفعول في مثل هذا لا يجيزان: ضربتني ولا ضربتك. قال سيبويه: استغنوا عنه بضربت نفسي وضربت نفسك، وقال أبو العباس: لم يجز هذا لئلا يكون المخاطب فاعلا مفعولا في حال واحدة. تظّاهرون عليهم هذه قراءة أهل المدينة وأهل مكة تدغم التاء في الظاء لقربها منها، وقرأ الكوفيون تَظاهَرُونَ «٥» حذفوا التاء الثانية لدلالة الأولى عليها، وقرأ قتادة تظّهرون قال أبو جعفر: وهذا بعيد وليس هو مثل قوله: يظّهّرون منكم من نسائهم [المجادلة: ٢] لأن معنى هذا أن يقول لها: أنت عليّ كظهر أمّي، فالفعل في هذا من واحد، وقوله تظّاهرون الفعل فيه لا يكون إلّا من اثنين أو أكثر. وَإِنْ يَأْتُوكُمْ شرط فلذلك حذفت منه النون، «تفادوهم» جوابه «٦»، أُسارى على فعلى هو الباب
(١) القتبي: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت ٢٧٦ هـ)، ترجمته في طبقات الزبيدي ٢٠٠.
(٢) انظر الكتاب ٢/ ٢٣٤.
(٣) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ١٣٧، ومعاني القرآن للفراء ٢/ ١٧٧. [.....]
(٤) الشاهد ليزيد بن مفرّغ في ديوانه ص ١٧٠، وأدب الكاتب ص ٤١٧، والإنصاف ٢/ ٧١٧، وتخليص الشواهد ص ١٥٠، وتذكرة النحاة ص ٢٠، وجمهرة اللغة ص ٦٤٥، والدرر ١/ ٢٦٩، وشرح التصريح ١/ ١٣٩، وشرح شواهد المغني ٢/ ٨٥٩، وشرح المفصّل ٤/ ٧٩، والشعر والشعراء ١/ ٣٧١، ولسان العرب (حدس، وعدس)، والمقاصد النحوية ١/ ٤٤٢، وبلا نسبة في أمالي بن الحاجب ص ٣٦٢، وأوضح المسالك ١/ ١٦٢، وخزانة الأدب ٤/ ٣٣٣، وشرح الأشموني ١/ ٧٤، وشرح شذور الذهب ص ١٩٠، وشرح قطر الندى ١٠٦، وشرح المفصل ٢/ ١٦، والمحتسب ٢/ ٩٤، ومغني اللبيب ٢/ ٤٦٢، وهمع الهوامع ١/ ٨٤.
(٥) وهي قراءة عاصم وصخرة والكسائي، انظر البحر المحيط ١/ ٤٥٩.
(٦) انظر تيسير الداني ٦٤.
65
كما تقول: قتيل وقتلى وجريح وجرحى، ومن قال: أُسارى شبه بسكران وسكارى فكل واحد منهما مشبّه بصاحبه قال سيبويه «١» : وإنما قالوا: سكران وسكرى لأنها آفة تدخل على العقل. قال أبو حاتم: ولا يجوز أسارى. قال أبو إسحاق «٢» : كما يقال:
سكارى وفعالي هو الأصل وفعالي داخلة عليها، وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال يقال: أسير وأسراء كظريف وظرفاء، أُسارى: في موضع نصب على الحال. وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ وإن شئت أسكنت الهاء لثقل الضمة «٣» كما قال امرؤ القيس:
[المديد] ٢٦-
فهو لا ينمي رميّته... ماله؟ لا عدّ من نفره «٤»
وإن شئت أسكنت الهاء لثقل الضمّة وكذلك إن جئت بالفاء واللام، «وهو» في موضع رفع بالابتداء. وهو كناية عن الحديث، والجملة التي بعده خبر، وإن شئت كان «هو» كناية عن الإخراج وإخراجهم بدل من هو، وزعم الفراء «٥» أنّ «هو» عماد وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له لأن العماد لا يكون في أول الكلام. فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ابتداء وخبر. وقرأ الحسن ويوم القيامة تردّون إلى أشدّ العذاب «٦».
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
أُولئِكَ الَّذِينَ ابتداء وخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٧]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مفعولان وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ قال هارون: لغة أهل الحجاز الرّسل بضمتين مضافا كان أو غير مضاف ولغة تميم التخفيف مضافا أو غير مضاف وأخذ أبو عمرو من اللغتين جميعا فكان يخفّف إذا أضاف إلى حرفين ويثقّل
(١) انظر الكتاب ٤/ ١٢٠.
(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ١٣٦.
(٣) انظر تيسير ٦٤.
(٤) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ١٢٥، ولسان العرب (نفر)، و (نمي)، وتهذيب اللغة ١٥/ ٥١٨، وتاج العروس (نمي)، وأساس البلاغة (نمي)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٥/ ٤٨٠.
(٥) انظر معاني الفراء ١/ ٥١، والبحر المحيط ١/ ٤٦٠.
(٦) انظر مختصر ابن خالويه ٨.
إذا أضاف إلى حرف أو لم يضف. وقرأ ابن محيصن وآايدناه «١»، وقرأ مجاهد وابن كثير بِرُوحِ الْقُدُسِ. أَفَكُلَّما ظرف. بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ حذفت الهاء لطول الاسم أي تهواه. فَفَرِيقاً منصوب بكذبتم وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٨]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨)
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ ابتداء وخبر مشتقّ من قولهم أغلف أي على قلوبنا غطاء، ومثله وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: ٥]، وكذا وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: ٢٦]، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نوح: ٧] وجوز أن يكون غلف جمع غلاف وحذفت الضمة لثقلها فأما غلف فهو جمع غلاف لا غير أي قلوبنا أوعية للعلم وقيل: أي قلوبنا لا تجلى بشيء كالغلف.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٩]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩)
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ نعت لكتاب، ويجوز في غير القرآن نصبه على الحال، وفي قراءة عبد الله منصوب في «آل عمران» «٢» قال الأخفش سعيد: جواب لمّا محذوف لعلم السامع كما قال: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ [الإسراء: ٧] أي فإذا جاء وعد الآخرة خلّيناكم وإياهم بذنوبكم ولم نحل بينكم وبينهم، ومثله وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ [يس: ٤٥] أي وإذا قيل لهم هذا أعرضوا ودلّ عليه فإذا هم معرضون «٣»، وقال الفراء «٤» : فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كأن الفاء جواب للمّا الأولى والثاني ولم تحتج الأولى إلى جواب.
قال سيبويه «٥» : وقال جلّ وعزّ:
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٠]
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا كأنه قال: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم ثم قال: «أن» على التفسير كأنه قيل له: ما هو؟ كما يقول العرب: بئسما له. يريدون:
(١) انظر مختصر ابن خالويه ٨.
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ٥١ (آية ٨١- آل عمران).
(٣) يشير إلى الآية ٤٦ سورة يس: إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ.
(٤) انظر معاني الفراء ١/ ٥٩.
(٥) انظر الكتاب ٣/ ١٧٨. [.....]
بئس الشيء له، وقال الكسائي: ما واشتروا اسم واحد في موضع رفع وقال الأخفش: هو مثل قولك: بئس رجلا زيد. والتقدير عنده بئس شيئا اشتروا به أنفسهم، ومثله إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [البقرة: ٢٧١] ومثله إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النساء: ٥٨]، وقال الفراء «١» : يجوز أن تكون «ما» مع بئس بمنزلة كلّما. قال أبو جعفر: أبين هذه الأقوال قول الأخفش ونظيره ما حكي عن العرب: بئسما تزويج ولا مهر، ودققته دقّا نعمّا. وقول سيبويه حسن يجعل «ما» وحدها اسما لإبهامها وسبيل بئس ونعم أن لا تدخلا على معرفة إلّا للجنس. فأما قول الكسائي فمردود من هذه الجهة، وقول الفراء: تكون «ما» مع بئس مثل كلّما لا يجوز لأنه يبقى الفعل بلا فاعل وإنّما تكون «ما» كافّة في الحروف نحو إنّما وربّما.
قال الكسائي والفراء «٢» :«أن يكفروا» إن شئت كانت «أن» في موضع خفض ردّا على الهاء في به قال الفراء: أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا بما أنزل الله. قال أبو جعفر: يقال «٣» : بئس ونعم هذا الأصل ويقال: بئس ونعم على الاتباع، ويقال: بئس ونعم تقلب حركة الهمزة على الباء. بَغْياً مفعول من أجله وهو على الحقيقة مصدر. أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ في موضع نصب والمعنى لأن ينزل الله الفضل على نبيّه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩١]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
وَراءَهُ ظرف. وَهُوَ الْحَقُّ ابتداء وخبر. مُصَدِّقاً حال مؤكّدة عند سيبويه.
لِما مَعَهُمْ «ما» في موضع خفض باللام ومعهم صلتها ومعهم منصوب بالاستقرار ومن أسكن جعله حرفا. قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ الأصل فلما و «ما» في موضع خفض باللّام وحذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر ولا ينبغي أن يوقف عليه لأنّه إن وقف عليه بلا هاء كان لحنا فإن وقف عليه بالهاء زيد في الشواذ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ضممت الميم لالتقاء الساكنين لأن أصلها الضم، وإن شئت كسرت على أصل التقاء الساكنين. وهو مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:
٨٢]، والمعنى: وسقوا في قلوبهم حبّ العجل.
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٥٦، والبحر المحيط ١/ ٤٧٢.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٥٦.
(٣) انظر الإنصاف مسألة ١٤.

[سورة البقرة (٢) : آية ٩٤]

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤)
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ شرط. الدَّارُ اسم كانت. والْآخِرَةُ من نعتها.
خالِصَةً خبر كانت وإن شئت كان حالا وتكون عِنْدَ اللَّهِ في موضع الخبر. وقرأ ابن أبي إسحاق. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ كسر الواو لالتقاء الساكنين. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا في قوله: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [البقرة: ١٦].
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٥]
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ نصب بلن فلذلك حذفت منه النون. أَبَداً ظرف زمان من طول العمر إلى الموت. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إن جعلت «ما» بمعنى الذي فالتقدير قدّمته وإن جعلتها مصدرا لم تحتج إلى عائد وأَيْدِيهِمْ في موضع رفع حذفت الضمة من الياء لثقلها مع الكسرة، وأجاز سيبويه ضمّها وكسرها في الشعر وأنشد لابن قيس الرقيات:
[المنسرح] ٢٧-
لا بارك الله في الغوانيّ هل يصبحن إلّا لهنّ مطّلب «١»
فإن كانت في موضع نصب حرّكتها لأن النصب خفيف، ويجوز إسكانها في الشعر. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ابتداء وخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٦]
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ مفعولان، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا على حذف أي وأحرص ليعطف اسما على اسم ويجوز في العربية مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ بمعنى من الذين أشركوا قوم يودّ أحدهم إلا أنّ المعنى في الآية لا يحتمل هذا وإن كان جائزا في العربية أدغمت والأصل في يودّ: يودد. أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحرّكين وقلبت حركة الدال على الواو ليدلّ ذلك على أنه يفعل، وحكى الكسائي:
وددت بفتحها فيجوز على هذا «يودّ» بكسر الواو. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا
(١) الشاهد لعبيد الله بن قيس الرقيات في ديوانه ص ٣، والأزهيّة ص ٢٠٩، والدرر ١/ ١٦٨، وشرح أبيات سيبويه ١/ ٥٦٩، وشرح شواهد المغني ص ٦٢، وشرح المفصّل ١٠/ ١٠١، ولسان العرب (غنا)، والمقتضب ١/ ١٤٢، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢/ ٣٣٦، ورصف المباني ص ٢٧٠، وما ينصرف وما لا ينصرف ص ١١٥، والمحتسب ١/ ١١١، والمنصف ٢/ ٦٧، ومغني اللبيب ٢٤٣، والمقتضب ٣/ ٣٥٤، وهمع الهوامع ١/ ٥٣.
وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ في الكتاب الذي قبل هذا «١». وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي بما يعمل هؤلاء الذين يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة ومن قرأ بما تعملون فالتقدير عنده قل لهم يا محمد: الله بصير بما تعملون.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٧]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧)
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فيه خمس لغات للعرب: لغة أهل الحجاز: جبريل «٢» ولغة تميم وقيس جبرئيل «٣» كما قرأ الكوفيون. ولغة بني أسد «جبرين» «٤» بالنون، وقرأ الحسن وعبد الله بن كثير لِجِبْرِيلَ «٥» بفتح الجيم بغير همز. قال أبو جعفر: لا يعرف في كلام العرب فعليل بفتح الفاء وفيه فعليل نحو دهليز وقطمير وبرطل وليس ينكر أن يأتي في كلام العجم ما ليس له نظير في كلام العرب ولا ينكر أن يكثر تغييره كما قالوا: إبراهيم وإبراهم وابراهم وابراهام. واللغة الخامسة جبرئل «٦» ومن تأول الحديث «جبر عبد و «ال» الله «٧» وجب عليه أن يقول: هذا جبرإل ورأيت جبرال، ومررت بجبرإل. وهذا لا يقال فوجب أن يكون معنى الحديث أنه مسمّى بهذا، والجمع في اللغات الأربع على التكسير جباريل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٨]
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)
وفي ميكائيل «٨» أربع لغات: فلغة أهل الحجاز كراهة شديدة فلما رآه في السواد بياء ولام بعد الكاف قرأه (وميكايل) وذهب إلى أنّ الألف (ميكال) وبها قرأ أبو عمرو، وحاد عنها نافع لأنه كان يكره مخالفة الخط كراهة شديدة حذفت كما تحذف من الأسماء الأعجمية نحو إبراهيم إسماعيل فهذه حجّة بيّنة وحجة أبي عمرو وأنّ حروف المدّ واللّين يقلب بعضها إلى بعض كثيرا كما كتبوا ابن أبي طالب بالواو فأبدلوا من الياء واوا ولا يقال: إلّا ابن أبي طالب ويقال: ميكائل ويقال: ميكاأل كما يقال: إسرأل
(١) إشارة إلى كتابه معاني القرآن.
(٢) انظر البحر المحيط ١/ ٤٨٥، وهي قراءة ابن عامر وأبو عمرو ونافع وحفص.
(٣) انظر البحر المحيط ١/ ٤٨٥، وهي قراءة الأعمش وحمزة والكسائي وحماد بن أبي زياد عن أبي بكر عن عاصم.
(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٨.
(٥) انظر البحر المحيط ١/ ٤٨٦، وهي قراءة ابن محيصن.
(٦) انظر المحتسب ١/ ٩٧، وهي قراءة يحيى بن يعمر.
(٧) انظر المحتسب ١/ ٩٧، والبحر المحيط ١/ ٤٨٦، واللسان (جبر).
(٨) انظر تيسير الداني ٦٥، والبحر المحيط ١/ ٤٨٦.
بهمزة مفتوحة وهما اسمان أعجميّان فلذلك لم ينصرفا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩٩]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ «آيات» : في موضع نصب وكسرت التاء عند البصريين ليستوي النصب والخفض في المؤنث لأنه جمع مسلّم كما استوى في المذكّر، وقول الكوفيين لأن التاء غير أصلية والأصل في آية آية ولا ينطق منها بفعل لئلّا تجتمع علّتان. وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ مرفوعون بفعلهم. والتقدير وما يكفر بها أحد إلّا الفاسقون لأنه لا بدّ قبل الإيجاب من النفي.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٠]
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً قال الأخفش: الواو زائدة دخلت عليها ألف الاستفهام، ومذهب الكسائي أنها «أو» حركت الواو منها. كُلَّما ظرف. عَهْداً مصدر. بَلْ أَكْثَرُهُمْ ابتداء. لا يُؤْمِنُونَ فعل مستقبل في موضع الخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠١]
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مرفوع بفعله. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ نعت، ويجوز على الحال. نَبَذَ فَرِيقٌ جواب لمّا. مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ خبر ما لم يسمّ فاعله.
كِتابَ اللَّهِ منصوب بنبذ. وَراءَ ظُهُورِهِمْ ظرف. كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ فعل مستقبل في موضع خبر كأن.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٢]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ هذه آية مشكلة وقد تقصّينا ما فيها من المعاني في الكتاب الذي قبل هذا. موضع «ما» نصب باتّبعوا وتتلو داخل في الصلة وحذفت منه الهاء لطول الاسم والأصل تتلوه الشياطين. «وسليمان» صلّى الله عليه وسلّم: لا ينصرف لأنه معرفة وفي آخره زائدتان فأشبه سكران، وَلكِنَّ الشَّياطِينَ نصب بلكنّ وإن خفّفت لكن رفعت ما بعدها بالابتداء. يُعَلِّمُونَ في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون في موضع
رفع على أنه خبر ثان. النَّاسَ السِّحْرَ مفعولان. بِبابِلَ لا ينصرف لأنه أعجمي معرفة. هارُوتَ وَمارُوتَ مثله والجمع هواريت مثل طواغيت، ويقال: هوارتة وهوار وموارتة وموار فاعلم ومثله جالوت وطالوت. وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ من زائدة للتوكيد والتقدير وما يعلمان أحدا. حَتَّى يَقُولا نصب بحتّى فلذلك حذفت منه النون ولغة هذيل وثقيف عتّى. فَلا تَكْفُرْ جزم بالنهي. فَيَتَعَلَّمُونَ أحسن ما قيل فيه أنه مستأنف، وقول الفراء «١» : أنه نسق على «يعلّمون» غلط لأنه لو كان كذا لوجب أن يكون فيتعلمون منهم، فقوله منهما يمنع أن يكون التقدير: «ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر فيتعلّمون» إلّا على قول من قال: الشياطين هاروت وماروت، وللفراء «٢» قول آخر قال: يكون محمولا على المعنى لأن معنى (فلا تكفر) فلا تتعلّم السحر أي فيأتون فيتعلّمون، وقيل: التقدير يعلّمان الناس فيتعلّمون. مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ في موضع نصب بيفرّقون وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ «من» زائدة وقول أبي إسحاق إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: إلّا بعلم الله غلط لأنه إنما يقال في العلم: إذن وقد أذنت به إذنا ولكن لمّا لم يحل فيما بينهم وبينه وخلّوا يفعلونه كان كأنّه إباحة مجازا. وَلَقَدْ عَلِمُوا لام توكيد. لَمَنِ اشْتَراهُ لام يمين وهي للتوكيد أيضا، وموضع «من» رفع بالابتداء، لأنه لا يعمل ما قبل اللام فيما بعدها ومن بمعنى الذي. قال الفراء: هي للمجازاة. قال أبو إسحاق: ليس هذا موضع شرط ومن بمعنى الذي كما تقول: لقد علمت لمن جاءك ما له عقل. ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ «من» زائدة، والتقدير ما له في الآخرة خلاق، ولا تزاد من في الواجب.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٣]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا موضع أنّ موضع رفع أي لو وقع إيمانهم، ولَوْلا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا لأنها بمنزلة حروف الشرط إذ كانت لا بدلها من جواب وأن يليها الفعل. قال محمد بن يزيد: وإنما لم يجاز بها لأن سبيل حروف المجازاة كلّها أن تقلب الماضي إلى معنى المستقبل فلمّا لم يكن هذا في «لو» لم يجز أن يجازى بها. قال الأخفش سعيد: ليس «للو» هنا جواب في اللفظ ولكن في المعنى، والمعنى لأثيبوا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا أمر فلذلك حذفت منه الياء، وأحسن ما
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٦٤، والبحر المحيط ١/ ٥٠٠.
(٢) انظر البحر المحيط ١/ ٥٠٠. [.....]
قيل فيه قول مجاهد. قال: لا تقولوا اسمع منّا ونسمع منك ولكن قولوا فهمنا، انْظُرْنا بيّن لنا، أمر وأن يخاطبوه صلّى الله عليه وسلّم بالإجلال. وهذا حسن أي لا تقولوا كافينا في المقال كما قال: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: ٦٣] وقرأ الحسن (راعنا) «١» منونا نصبه على أنه مصدر أو نصبه بالقول أي لا تقولوا رعونة.
قال أبو جعفر: يقال لما نتأ من الجبل رعن والجبل أرعن وجيش أرعن أي متفرّق ورجل أرعن أي متفرق الحجج ليس عقله مجتمعا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٥]
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)
«المشركين» : معطوف على أهل ويجوز في النحو «ولا المشركون» بعطفه على الذين، أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ «من» زائدة، والتقدير أن ينزّل عليكم خير اسم ما لم يسمّ فاعله.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٦]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ شرط والجواب. نَأْتِ وقوله أَوْ نُنْسِها عطف على ننسخ وحذفت الياء للجزم، ومن قرأ أو ننسأها «٢» حذف للضمة من الهمزة للجزم. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ جزم بلم وحرف الاستفهام لا يغيّر عمل العامل، وفتحت أنّ لأنها في موضع اسم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٧]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧)
«ملك» : رفع الابتداء، و (له) : الخبر والجملة خبر أنّ وملك مشتقّ من ملكت العجين أي أحكمت عجنه، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ويجوز رفع نصير عطفا على الموضع لأن المعنى وما لكم من دون الله وليّ ولا نصير.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٨]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)
أَمْ تُرِيدُونَ أي أبل وحكى سيبويه إنّها لإبل أم شاء. أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ في موضع نصب بتريدون. كَما سُئِلَ مُوسى الكاف في موضع نصب نعت لمصدر أي
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٧٠، والبحر المحيط ١/ ٥٠٨، وتفسير الطبري ١/ ٤٧٢، وهي قراءة ابن أبي ليلى وأبي حياة وابن محيصن أيضا.
(٢) انظر التيسير في القراءات ٦٥، والبحر المحيط ١/ ٥١٣.
سؤالا كما سئل موسى وإن خفّفت الهمزة وجعلتها بين الهمزة والياء فقلت: سئل، وقرأ الحسن سيل «١» وهذا على لغة من قال: سلت أسال ويجوز أن يكون على بدل الهمزة إلّا أنّ بدل الهمزة بعيد (موسى) اسم ما لم يسمّ فاعله لم يتبيّن فيه الإعراب لأنه مقصور ولم ينوّن لأنه لا ينصرف لعجمته. وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ جزم بالشرط كسرت اللام لالتقاء الساكنين واختير الكسر لأنه أخو الجزم، وقيل: لأن الضّم والفتح يكونان بغير تنوين إعرابا. وجواب الشرط فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٩]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)
وَدَّ كَثِيرٌ رفع بودّ. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ خفض بمن، لَوْ يَرُدُّونَكُمْ فعل مستقبل. كُفَّاراً مفعول ثان وإن شئت كان حالا. حَسَداً مصدر وقال الفراء: هو كالمفسّر. فَاعْفُوا أمر والأصل فاعفوا وحذفت الضمة لثقلها ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١١]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١)
أجاز الفراء «٢» أن يكون هُوداً بمعنى يهودي وحذف منه الزائدة وأن يكون جمع هائد، والقول الثاني مذهب البصريين. قال الأخفش سعيد: إِلَّا مَنْ كانَ جعل كان واحدا على لفظ «من» ثم قال: هودا فجمع لأنّ معنى من جمع. تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ ابتداء وخبر ويجوز تلك أمانيهم. قُلْ هاتُوا والأصل هاتيوا حذفت الضمة لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين يقال في الواحد المذكر: هات يا هذا، مثل رام وفي المؤنث هاتي، مثل رامي. وإِنْ كُنْتُمْ شرط أي «إن كنتم صادقين فبيّنوا ما قلتم ببرهان».
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٢]
بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)
بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ على لفظ من ثم قال: فلهم على المعنى.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤)
ابتداء وخبر أي وأي أحد أظلم. مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أن في
(١) انظر البحر المحيط ١/ ٥١٦.
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ٧٣، والبحر المحيط ١/ ٥٢٠.
موضع نصب على البدل من مساجد، ويجوز أن يكون التقدير من أن يذكر وحروف الخفض تحذف مع أن لطول الكلام، وقيل: لأنّ المعنى في الفعل بعدها يتبيّن، وَسَعى معطوف على منع، أُولئِكَ مبتدأ والجملة خبر، خائِفِينَ حال، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ رفع بابتداء وإن شئت على معنى وجب وكذا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٥]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
فَأَيْنَما تُوَلُّوا شرط فلذلك حذفت النون و «أين» العاملة و «ما» زائدة وقرأ الحسن فَأَيْنَما تُوَلُّوا بفتح التاء واللام والأصل تتولّون. فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «ثمّ» في موضع نصب على الظرف ومعناها البعد إلّا أنّها مبنيّة على الفتح غير معربة لأنها مبهمة تكون بمنزلة هناك للبعد فإن أردت القرب قلت هنا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٦]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦)
سُبْحانَهُ مصدر. بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ «ما» في موضع رفع بالابتداء، وإن شئت بالاستقرار. كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ابتداء وخبر، والتقدير كلّهم ثم حذفت الهاء والميم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٧]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خبر ابتداء محذوف. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا رفع (فيكون).
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٨]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
مِثْلَ قَوْلِهِمْ مفعول وإن شئت كان نعتا لمصدر محذوف.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٩]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩)
بَشِيراً نصب على الحال. وَنَذِيراً عطف عليه. قال الأخفش سعيد: ويجوز وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ بفتح التاء وضم اللام ويكون في موضع الحال تعطفه على «بشيرا ونذيرا».
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٠]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠)
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى المصدر رضوان ورضوان ومرضاة ورضى ورضى، وهو من ذوات الواو، ويقال: في التثنية: رضوان، وحكى الكسائي: رضيان وحكى
رضاءا ممدودا وكأنه مصدر راضى. حَتَّى تَتَّبِعَ نصب بحتّى وحتى بدل من أن وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ جمع هوى كما تقول: جمل وأجمال.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢١]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١)
الَّذِينَ رفع بالابتداء. آتَيْناهُمُ الْكِتابَ صلته. يَتْلُونَهُ خبر الابتداء وإن شئت كان الخبر أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٢]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢)
وقرأ الحسن نعمتي التي أنعمت عليكم بإسكان الياء ثم حذفها في الوصل لالتقاء الساكنين. وَأَنِّي في موضع نصب عطف على «نعمتي».
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٤]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)
قرأ عبد الله وأبو رجاء والأعمش قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قال الفراء: لأنّ ما نالك فقد نلته كما تقول: نلت خيرا ونالني خير، وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال: المعنى يوجب نصب الظالمين. قال الله جلّ وعزّ لإبراهيم صلّى الله عليه وسلّم: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فعهد إليه بهذا فسأل إبراهيم فقال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فقال جلّ وعزّ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ لا أجعل إماما ظالما، وروي عن ابن عباس أنه قال: سأل إبراهيم أن يجعل من ذريته إمام فعلم الله عزّ وجلّ أنّ في ذريته من يعصي فقال: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٥]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً مفعولان والأصل مثوبة قلبت حركة الواو على الثاء فانقلبت الواو ألفا اتباعا لثاب يثوب. قال الأخفش: الهاء في «مثابة» للمبالغة لكثرة من يثوب إليه. وَأَمْناً يعطفه على مثابة. وَاتَّخِذُوا «١» معطوف على جعلنا. قال الأخفش: أي واذكروا إذ اتّخذوا معطوف على اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ، ومن قرأ وَاتَّخِذُوا «٢» قطعه من الأول وجعله أمرا وعطف جملة على جملة. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أنه قيل: الأولى
(١) انظر البحر المحيط ١/ ٥٥٢، وهي قراءة نافع وابن عامر.
(٢) انظر البحر المحيط ١/ ٥٥٢، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والجمهور.
أن يكون «مقام إبراهيم» الذي يصلّي إليه الأئمة الساعة وإذا كان كذا كان الأولى وَاتَّخِذُوا لحديث حميد عن أنس: قال أبو جعفر: وذلك الحديث لم يروه عن أنس إلّا حميد إلّا من جهة فضعف. وليس يبعد «واتّخذوا» على الاختيار ثم يكون قد عمل به، على أن حمّاد بن سلمة قد روى عن هشام بن عروة عن أبيه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر، وعمر رضي الله عنهما صدرا من خلافته كانوا يصلّون بإزاء البيت ثم صلّى عمر إلى المقام. قال أبو جعفر: «مقام» من قام يقوم يكون مصدرا واسما للموضع، ومقام من أقام وتدخلهما الهاء للمبالغة. وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ في موضع خفض ولم ينصرفا لأنهما أعجميان وما لا ينصرف في موضع الخفض منصوب لأنه مشبّه بالفعل والفعل لا يخفض هذا قول البصريين، وقال الفراء: كان يجب أن يخفض بلا تنوين إلّا أنهم كرهوا أن يشبه المضاف في لغة من قال: مررت بغلام يا هذا: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ يجوز أن تكون أن في موضع نصب والتقدير بأن، ويجوز أن لا يكون لها موضع تكون تفسيرا لقول سيبويه تكون بمعنى أي، ويقول الكوفيون: تكون بمعنى القول.
لِلطَّائِفِينَ خفض باللّام. وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ عطف. السُّجُودِ نعت.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٦]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ نداء مضاف. اجْعَلْ هذا سؤال ولفظه الأمر إلّا أنّه استعظم أن يقال له أمر. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مفعول. مَنْ آمَنَ بدل من أهل وهذا بدل البعض من الكل. قالَ وَمَنْ كَفَرَ «من» في موضع نصب، والتقدير وارزق من كفر ودلّ على الفعل المحذوف فأمتّعه، ويجوز أن تكون من للشرط، وتكون في موضع نصب ويضمر الفعل بعدها. ويجوز أن تكون في موضع رفع بالابتداء والخبر «فأمّتعه».
وفي قراءة أبيّ فنمتّعه قليلا ثمّ نضطره «١»، وفي قراءة يحيى بن وثاب فأمتعه قليلا ثمّ اضطرّه «٢» بكسر الهمزة ورفع الفعل على لغة من قال: أنت تضرب، وروي عن ابن محيصن أنه كان يدغم الضاد في الطاء. قال أبو جعفر: وذا لا يجوز لأن في الضاد تفشّيا فلا تدغم في شيء ولكن يجوز أن تدغم الطاء فيها كما قالوا: اضّجع «وفمن اضّرّ». وحدثنا أحمد بن شعيب بن علي قال: أخبرني عمران بن بكار قال:
حدّثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي قال: حدثنا شعيب بن إسحاق عن هارون عن حنظلة عن الحارث بن أبي ربيعة قال: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ «٣» قال أبو جعفر: وهذا
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٧٨.
(٢) انظر البحر المحيط ١/ ٥٥٥، وهي قراءة الجمهور.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ٧٨، والمحتسب ١/ ١٠٤، والبحر المحيط ١/ ٥٥٥.
على السؤال والطلب والأصل اضطرره ثم أدغم ففتح لالتقاء الساكنين لخفّة الفتحة ويجوز الكسر. قال أبو جعفر: وهذه القراءة شاذة ونسق الكلام والتفسير جميعا يدلّان على غيرها، أمّا نسق الكلام فإنّ الله جلّ وعزّ خبّر عن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً ثم جاء بقوله ولم يفصل بينه بقال، ثم قال فكان هذا جوابا من الله جلّ وعزّ ولم يقل- بعد: - قال إبراهيم. وأما التفسير فقد صحّ عن ابن عباس وسعيد بن جبير «١» ومجاهد ومحمد بن كعب وهذا لفظ ابن عباس دعا إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم لمن آمن دون الناس خاصة فأعلم الله جلّ وعزّ أنه يرزق من كفر كما يرزق من آمن وأنه يمتّعه قليلا ثمّ يضطرّه إلى عذاب النار. قال أبو جعفر: وقال الله جلّ وعزّ: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ [الإسراء: ٢٠] وقال: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ [هود: ٤٨] وقال أبو إسحاق: إنما علم إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أنّ في ذرّيته كفارا فخصّ المؤمنين لأن الله جلّ وعزّ قال له: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: ١٢٤].
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٨]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨)
الْقَواعِدَ الواحدة قاعدة، والواحدة من قوله الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ [النور:
٦٠]، قاعد، وَإِسْماعِيلُ عطف على إبراهيم، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا قال الأخفش: الذي قال «ربّنا تقبل منّا» إسماعيل، وغيره يقول: هما جميعا قالا. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله ويقولان ربّنا تقبّل منّا وأرنا مناسكنا «٢» ويبعد وأرنا «٣» بإسكان الراء لأن الأصل:
أرينا، حذفت الياء لأنه أمر وألقيت حركة الهمزة على الراء وحذفت الهمزة فإن حذفت الكسرة كان ذلك إجحافا، وليس هذا مثل فخذ لأن الكسرة في أرنا تدلّ على الهمزة وليست الكسرة في فخذ دالة على شيء، ولكن يجوز حذفها على بعد لأنها مستثقلة كما أنّ الكسرة في فخذ مستثقلة. قال الأخفش: واحد المناسك منسك مثل مسجد ويقال:
منسك. قال أبو جعفر: يقال: نسك ينسك فكان يجب على هذا أن يقال: منسك إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٩]
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
يَتْلُوا في موضع نصب لأنه نعت لرسول أي رسولا تاليا، ويجوز في غير
(١) سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الكوفي التابعي الجليل. عرض على ابن عباس وعرض عليه أبو عمرو (ت ٩٥ هـ). ترجمته في غاية النهاية ١/ ٣٠٥.
(٢) انظر المحتسب ١/ ١٠٨، ومعاني القرآن للفراء ١/ ٧٨.
(٣) انظر تيسير الداني ٦٦.
القرآن جزمه يكون جوابا للمسألة. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ عطف عليه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٠]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠)
وَمَنْ ابتداء وهو اسم تامّ في الاستفهام والمجازاة. يَرْغَبُ فعل مستقبل في موضع الخبر وهو تقرير وتوبيخ وقع فيه معنى النفي أي ما يرغب، عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وقول الفراء «١» : إنّ نَفْسَهُ مثل: ضقت به ذرعا محال عند البصريين لأنه جعل المعرفة منصوبة على التمييز. قال سيبويه «٢» : وذكر الحال وإنّها مثل التمييز وهذا لا يكون إلّا نكرة، يعني ما كان منصوبا على الحال كما أنّ ذلك لا يكون إلّا نكرة يعني التمييز. قال أبو جعفر: فإن جئت بمعرفة زال معنى التمييز لأنك لا تبيّن بها ما كان من جنسها. قال الفراء «٣» : ومثله: بطرت معيشتها ولا يجوز عنده: نفسه سفه زيد ولا معيشتها بطرت القرية، وقال الكسائي: وهو أحد قولي الأخفش: المعنى إلّا من سفه في نفسه ويجيزان التقديم. قال الأخفش: ومثله عُقْدَةَ النِّكاحِ أي على عقدة النكاح. قال أبو جعفر: وقد تقصّيناه في الكتاب الذي قبل هذا. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ يقال: كيف جاز تقديم في الآخرة وهو داخل في الصلة؟ فالجواب أنه ليس التقدير وإنه لمن الصالحين في الآخرة فتكون الصلة قد تقدمت ولأهل العربية فيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون المعنى وإنه صالح في الآخرة ثم حذف، وقيل «في الآخرة» متعلّق بمصدر محذوف أي صلاحه في الآخرة، والقول الثالث أن الصالحين ليس بمعنى الذين صلحوا ولكنه اسم قائم بنفسه كما يقال: الرجل والغلام. الأصل في اصْطَفَيْناهُ اصتفيناه أبدل من التاء طاء لأن الطاء مطبقة كالصاد وهي من مخرج التاء ولم يجز أن تدغم الصاد لأنها لا تدغم إلّا في أختيها الزاي والسين لما فيهنّ من الصفير ولكن يجوز أن تدغم التاء فيها في غير القرآن فتقول: اصّفيناه قبل.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٢]
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
وَوَصَّى فيه معنى التكثير وإذا كان كذلك بعدت القراءة به وأحسن من هذا أن يكون وصّى وأوصى بمعنى واحد مثل كرمنا وأكرمنا. إِبْراهِيمُ رفع بفعله.
وَيَعْقُوبُ عطف عليه. يا بَنِيَّ نداء مضاف، وهذه ياء النفس لا يجوز هاهنا إلّا فتحها لأنها لو سكنت لالتقى ساكنان ومثله بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم: ٢٢] إِنَّ اللَّهَ كسرت
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ٧٩.
(٢) انظر الكتاب ٢/ ١١٠. [.....]
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ٧٩.
«إنّ» لأن أوصى وقال واحد، وقيل: على إضمار القول. فَلا تَمُوتُنَّ في موضع جزم بالنهي أكّد بالنون الثقيلة وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ابتداء وخبر في موضع الحال.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٣]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ خبر كان ولم يصرفه لأن فيه ألف التأنيث ودخلت لتأنيث الجماعة كما دخلت الهاء. إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ مفعول مقدّم وفي تقديمه فائدة على مذهب سيبويه «١» قال: لأنهم يقدمون الذي بيانه أهم عليهم وهم ببيانه أعنى وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم. ما تَعْبُدُونَ «ما» في موضع نصب بتعبدون. قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ في موضع خفض على البدل ولم تصرف لأنها أعجمية. قال الكسائي: إن شئت صرفت إسحاقا وجعلته من السحق وصرفت يعقوب وجعلته من الطير. قال أبو جعفر: ومن قرأ وإله أبيك «٢» فله فيه وجهان: أحدهما أن يكون أفرد لأنه كره أن يجعل إسماعيل أبا لأنه عمّ. قال أبو جعفر: هذا لا يجب، لأن العرب تسمّي العم أبا، وأيضا فإنّ هذا بعيد لأنه يقدر وإله إسماعيل وإله إسحاق فيخرج وهو أبوه الأدنى من نسق إبراهيم ففي هذا من البعد ما لا خفاء به، وفيه وجه آخر على مذهب سيبويه يكون أبيك جمعا. حكى سيبويه «٣» : أبون وأبين كما قال:
[الوافر] ٢٨-
فقلنا أسلموا إنّا أخوكم «٤»
سيبويه والخليل يقولان: في جمع إبراهيم وإسماعيل براهيم وسماعيل وهذا قول الكوفيين، وحكوا أيضا براهمة وسماعلة والهاء بدل من الياء كما يقال: زنادقة، وحكوا براهم وسماعل. قال محمد بن يزيد: هذا غلط لأن الهمزة ليس هذا موضع زيادتها
(١) انظر الكتاب ١/ ٦٨.
(٢) انظر المحتسب ١/ ١١٢ (قراءة ابن عباس ويحيى ابن يعمر والحسن وعاصم الجحدري وأبي رجاء)، ومختصر ابن خالويه ٩ (يحيى بن يعمر).
(٣) انظر الكتاب ٢/ ٤٤٧.
(٤) الشاهد للعباس بن مرداس في ديوانه ص ٥٢، ولسان العرب (أخا)، والمقتضب ٢/ ١٧٤، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤/ ٢٨٥، وتذكرة النحاة ص ١٤٤، وجمهرة اللغة ١٣٠٧، وخزانة الأدب ٤/ ٤٧٨، والخصائص ٢/ ٤٢٢، وعجزه:
«فقد برئت من الإحن الصدور»
ولكن أقول: أباره وأسامع، ويجوز أباريه وأساميع وأجاز أحمد بن يحيى: براه كما يقال: في التصغير بريه وجمع إسحاق أساحيق، وحكى الكوفيون: أساحقة وأساحق وكذا يعقوب ويعاقيب ويعاقبة ويعاقب فأما إسرائيل فلا نعلم أحدا يجيز حذف الهمزة من أوله وإنما يقال: أساريل وحكى الكوفيون: أسارلة وأسارل. والباب في هذا كلّه أن يجمع مسلّما فيقال: إبراهيمون وإسحاقون وإسماعيلون ويعقوبون والمسلّم لا عمل فيه. إِلهاً واحِداً نصب على الحال، وإن شئت على البدل لأنه يجوز أن تبدل النكرة من المعرفة والمعرفة من النكرة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٤]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)
تِلْكَ مبتدأ، أُمَّةٌ خبره، قَدْ خَلَتْ نعت لأمة وإن شئت كان خبر المبتدأ ويكون أمة بدلا من تلك، لَها ما كَسَبَتْ «ما» في موضع رفع بالابتداء، وبالصفة على قول الكوفيين، وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ مثله.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٥]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)
وَقالُوا كُونُوا هُوداً جمع هائد، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى ذوى هود كما يقال: قوم عدل ورضى. تَهْتَدُوا جواب الأمر. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا «قل بل ملّة إبراهيم» في الكتاب الذي قبل هذا. قال أبو إسحاق «١» : حَنِيفاً منصوب على الحال. قال علي بن سليمان هذا خطأ لا يجوز: جاءني غلام هند مسرعة ولكنه منصوب على أعني، وقال غيره: المعنى بل نتبع إبراهيم في هذه الحال.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٦]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦)
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا في موضع خفض أي والذي أنزل إلينا واسم ما لم يسمّ فاعله مضمر في أنزل.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٧]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)
فَسَيَكْفِيكَهُمُ الكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان، ويجوز في غير القرآن فسيكفيك إياهم، وكذا الفعل إذا تعدّى إلى المفعول الأول قوي فجاز أن يأتي في الثاني منفصلا.
(١) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ١٨١، والبحر المحيط ١/ ٥٧٧.

[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٨]

صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨)
صِبْغَةَ اللَّهِ قال الأخفش: أي دين الله، قال: وهي بدل من ملّة. قال أبو جعفر: وهو قول حسن لأن أمر الله جلّ وعزّ ونهيه ودلائله مخالطة للمعقول كما يخالط الصبغ الثوب.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٩]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ جاز اجتماع حرفين من جنس واحد متحركين لأن الثاني كالمنفصل، وقرأ ابن محيصن قل أتحاجّونّا «١» مدغما، وهذا جائز إلّا أنه مخالف للسواد وقد جمع أيضا بين ساكنين وجاز ذلك لأن الأول حرف مدّ ولين، ويجوز أن تدغم ويومأ إلى الفتحة كما قرئ لا تَأْمَنَّا [يوسف: ١١] بإشمام الضمّة، ويجوز «أتحاجّونا» بحذف النون الثانية كما قرأ نافع فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الحجر: ٥٤].
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٠]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠)
قالوا: قرأ الكسائي أَمْ تَقُولُونَ «٢» بالتاء، وهي قراءة حسنة لأن الكلام متسق أي أتحاجوننا أم تقولون، والقراءة بالياء من كلامين وتكون «أم» بمعنى «بل». قال الأخفش: كما تقول إنها لأبل أم شاء. وكسرت «إنّ» لأن الكلام محكيّ والأسباط من ولد يعقوب بمنزلة القبائل من ولد إسماعيل، هُوداً خبر كان وخبر «إنّ» في الجملة ويجوز في غير القرآن رفع هود على خبر «إنّ» وتكون كان ملغاة.
تمّ الجزء الأول «٣» من كتاب «إعراب القرآن» والحمد لله رب العالمين وصلى الله على النبي محمد وعلى آله الكرام الأبرار وسلم.
قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل في قوله عزّ وجلّ:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٢]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ جمع سفيه والنساء سفايه، ما وَلَّاهُمْ «ما» اسم تام في موضع رفع بالابتداء وولّاهم في موضع الخبر.
(١) انظر مختصر في شواذ القرآن ١٠، والبحر المحيط ١/ ٥٨٥، وهي قراءة زيد بن ثابت والحسن والأعمش أيضا.
(٢) انظر البحر المحيط ١/ ٥٨٦.
(٣) حسب تقسيم المؤلف.

[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٣]

وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً مفعولان. قال القتبي «١» : إنما قيل للخير وسط لأن الغلوّ والتقصير مذمومان، وخير الأمور أوساطها. قال أبو إسحاق: العرب تشبّه القبيلة بالوادي والقاع وخير الوادي وسطه وكذا خير القبيلة وسطها، وقيل: سبيل الجليل والرئيس أن لا يكون طرفا وأن يكون متوسّطا فلهذا قيل للفاضل: وسط. لِتَكُونُوا لام كي أي لأن تكونوا، شُهَداءَ خبر ويكون عطفا. وقرأ الزهري إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ «٢» «من» : في موضع رفع على هذه القراءة لأنها اسم ما لم يسمّ فاعله.
وجمع قبلة في التكسير قبل وفي التسليم قبلات، ويجوز أن تبدل من الكسرة فتحة، ويجوز أن تحذف الكسرة. وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً الفراء يذهب إلى أنّ «إن» واللام بمعنى «ما» و «إلّا»، والبصريون «٣» يقولون: هي «إن» الثقيلة خفّفت فصلح الفعل بعدها ولزمتها اللام لئلّا تشبه «إن» التي بمعنى «ما» قال الأخفش: أي وإن كانت القبلة لكبيرة، لَرَؤُفٌ على وزن فعول والكوفيون يقرءون لَرَؤُفٌ «٤»، وحكى الكسائي أن لغة بني أسد لرأف على فعل.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٤]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ظرف مكان كما تقول: تلقاءه وجهته، وانتصب الظرف لأنه فضلة بمنزلة المفعول به، وأيضا فإن الفعل واقع فيه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٥]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لأنهم كفروا وقد تبيّنوا الحق
(١) انظر تفسير غريب القرآن ٦٥.
(٢) انظر المحتسب ١/ ١١١، ومختصر ابن خالويه ١٠، والبحر المحيط ١/ ٥٩٨.
(٣) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ١٨٧.
(٤) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ١٧١ والبحر المحيط ١/ ٦٠١.
فليس تنفعهم الآيات. قال الأخفش: والفرّاء «١» : أجيبت «إن» بجواب «لو» لأن المعنى ولو أتيت الذين أوتوا الكتاب بكلّ آية، ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وكذا تجاب «لو» بجواب «إن» تقول: لو أحسنت أحسن إليك ومثله وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا [الروم:
٥١] أي لو أرسلنا ريحا. قال أبو جعفر: هذا القول خطأ على مذهب سيبويه «٢» وهو الحق، لأن معنى «إن» خلاف معنى «لو» يعني أنّ معنى إن يجب بها الشيء لوجوب غيره تقول: إن أكرمتني أكرمتك ومعنى «لو» أنه يمتنع بها الشيء لامتناع غيره فلا تدخل واحدة منهما على الأخرى. والمعنى ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك. وقال سيبويه: المعنى ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا ليظلنّ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٦]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ابتداء، يَعْرِفُونَهُ في موضع أي يعرفون التحويل أو يعرفون النبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٧]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ رفع بالابتداء أو على إضمار ابتداء وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ الحق «٣» منصوبا أي يعلمون الحق فأما الذي في «الأنبياء» الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: ٢٤] فلا نعلم أحدا قرأه إلّا منصوبا والفرق الذي بينهما أنّ الذي في سورة البقرة مبتدأ آية والذي في سورة الأنبياء ليس كذلك.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٨]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨)
لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
الهاء والألف مفعول أول والمفعول الثاني محذوف أي هو مولّيها وجهه أو نفسه والمعنى هو مولّ نحوها وجهه والعرب تحذف من كلّ وبعض فيقولون كلّ منطلق: أي كل رجل والتقدير ولكلّ أمة وأهل ملة. اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
أمر أي بادروا ما أمركم الله جلّ وعزّ به من استقبال شطر البيت الحرام.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٠]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)
(١) انظر معاني الفراء ١/ ٨٤. [.....]
(٢) انظر الكتاب ٣/ ١٢٤.
(٣) انظر البحر المحيط ١/ ٦٠٤، ومختصر ابن خالويه ١٠.
لِئَلَّا وإن شئت خفّفت الهمزة يَكُونَ نصب بأن، وإن شئت قلت: تكون لتأنيث الحجّة وهذا متعلّق بما تقدم من الاحتجاج عليهم. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ في موضع نصب استثناء ليس من الأول كما تقول العرب: ما نفع إلّا ما ضرّ وما زاد إلّا ما نقص. وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ قال الأخفش: هو معطوف على لئلّا يكون أي ولأن أتمّ نعمتي عليكم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥١]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناه والكاف في موضع نصب أي لعلّكم تهتدون اهتداء مثل ما أرسلنا، ويجوز أن يكون التقدير ولأتم نعمتي عليكم إيمانا مثل ما أرسلنا، ويجوز أن تكون الكاف في موضع نصب على الحال أي ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال ويجوز أن يكون التقدير: فاذكروني ذكرا مثل ما و «ما» في موضع خفض بالكاف وأرسلنا صلتها. يَتْلُوا فعل مستقبل والأصل فيه ضم الواو إلّا أن الضمّة مستثقلة وقبلها أيضا ضمة فحذفت وهو في موضع نصب نعت لرسول.
وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ عطف عليه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٢]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)
فَاذْكُرُونِي أمر. أَذْكُرْكُمْ فيه معنى المجازاة فلذلك جزم. وَلا تَكْفُرُونِ نهي فلذلك حذفت منه النون وحذفت الياء لأنه رأس آية وإثباتها حسن في غير القرآن.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)
أي عن المعاصي، قال أبو جعفر: وقد ذكرناه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٤]
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤)
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ على إضمار مبتدأ، وكذلك، بَلْ أَحْياءٌ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٥]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ هذه الواو مفتوحة عند سيبويه «١» لالتقاء الساكنين وقال غيره: لمّا ضمّت إلى النون صارت بمنزلة خمسة عشر.
(١) انظر الكتاب ٤/ ١١، والبحر المحيط ١/ ٦٢٣.

[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٦]

الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦)
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ نعت للصابرين قالُوا إِنَّا لِلَّهِ قال الكسائي: إن شئت كسرت الألف لاستعمالها وكثرتها، وقال الفراء «١» : وإنما كسرت النون في «إنا لله» لكثرة استعمالهم إيّاها. قال أبو جعفر: أمّا قول الفراء فغلط قبيح لأنّ النون لا تكسر ولا يكون ما قبل الألف أبدا مكسورا ولا مضموما وأما قول الكسائي: فيجوز على أنه يريد أنّ الألف ممالة إلى الكسرة وأما على أن تكسر فمحال لأن الألف لا تحرّك البتة وإنّما أميلت الألف في «إنا لله» لكسرة اللام في لله ولو قلت: إنّا لزيد شاكرون، لم يجز إمالة الألف لأنها في حرف آخر وجاز ذلك في إنا لله لأنه لمّا كثر صار الشيئان بمنزلة شيء واحد، وإن شئت فخّمت. والأصل إنّنا حذفت إحدى النونين تخفيفا، وكذا وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٧]
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
أُولئِكَ مبتدأ والخبر، عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ. وَرَحْمَةٌ عطف على صلوات. وَأُولئِكَ مبتدأ، هُمُ ابتداء ثان، والْمُهْتَدُونَ خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول، وإن شئت كانت «هم» زائدة توكيدا و «المهتدون» الخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٨]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)
إِنَّ الصَّفا اسم «إنّ» والألف منقلبة من واو. وَالْمَرْوَةَ عطف على الصفا.
مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الخبر مشتق من شعرت به وهمز لأنه فعائل لا أصل للياء في الحركة فأبدل منها همزة. فَمَنْ في موضع رفع بالابتداء وحَجَّ في موضع جزم بالشرط، وجوابه وخبر الابتداء فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «٢» والأصل: يتطوّف ثم أدغمت التاء في الطاء، وحكي أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «٣» على التكثير، وروي عن ابن عباس أن يطّاف والأصل أيضا يتطاف «٤» أدغمت التاء في الطاء. قال أبو جعفر: ولا نعلم أحدا قرأ: «أن يطوف بهما». وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ فعل ماض في موضع جزم بالشرط وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وهي حسنة لأنه لا علّة فيها، وقراءة أهل الكوفة إلّا عاصما. وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً «٥» والأصل يتطوع أدغمت التاء في الطاء. فَإِنَّ اللَّهَ اسم
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ٩٤، والبحر المحيط ٦٢٥.
(٢) هذه قراءة الجمهور.
(٣) انظر مختصر ابن خالويه ١١.
(٤) انظر إملاء ما منّ به الرّحمن ٧٠، والبحر المحيط ١/ ٦٣٢.
(٥) انظر معاني الفراء ١/ ٩٥، والبحر المحيط ١/ ٦٣٢.
إنّ. شاكِرٌ خبره عَلِيمٌ نعت لشاكر، وإن شئت كان خبرا بعد خبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٩]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩)
إِنَّ الَّذِينَ اسم «إنّ» وقرأ طلحة بن مصرف مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ بمعنى بيّنه الله. أُولئِكَ مبتدأ. يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ في موضع الخبر والجملة خبر «إنّ» ولعنه وطرده أي باعده من رحمته كما قال الشمّاخ: [الوافر] ٢٩-
ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذّئب كالرّجل اللّعين «١»
قال أبو جعفر: وقد بيّنا معنى «وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» لأن للقائل أن يقول: أهل دينهم لا يلعنونهم ومن أحسن ما قيل فيه أنّ أهل دينهم يلعنون على الحقيقة لأنهم يلعنون الظالمين وهم من الظالمين.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٠]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا نصب بالاستثناء.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اسم «إنّ» أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ الخبر، وقرأ الحسن أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعون «٢» وهذا معطوف على الموضع كما تقول:
عجبت من قيام زيد وعمرو لأن موضع «زيد» موضع رفع والمعنى من أن قام زيد والمعنى أولئك عليهم أن يلعنهم الله والملائكة والناس أجمعون.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٢]
خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
خالِدِينَ فِيها حال.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٣]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ابتداء وخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٤]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
(١) الشاهد للشمّاخ بن ضرار في ديوانه ص ٣٢١، وجمهرة اللغة ص ٩٤٩، وخزانة الأدب ٤/ ٣٤٧، وشرح المفصّل ٣/ ١٣، ولسان العرب (لعن)، والمعاني الكبير ١/ ١٩٤، والمنصف ١/ ١٠٩، وبلا نسبة في مجالس ثعلب ٢/ ٥٤٣، والمحتسب ١/ ٣٢٧.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ٩٦، وتفسير الطبري ٢/ ٥٨.
(لَآياتٍ) في موضع نصب اسم إنّ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٥]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥)
مِنَ في موضع رفع بالابتداء ويَتَّخِذُ على اللفظ ويجوز في غير القرآن يتخذون، يُحِبُّونَهُمْ على المعنى، ويجوز في غير القرآن يحبّهم وهو في موضع نصب على الحال من المضمر الذي في يتّخذ، وإن شئت كان نعتا لأنداد، وإن شئت كان في موضع رفع نعتا لمن على أنّ من نكرة كما قال: [الكامل] ٣٠-
فكفى بنا فضلا على من غيرنا حبّ النّبيّ محمّد إيّانا «١»
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ ابتداء وخبر، كَحُبِّ اللَّهِ على البيان، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا بالياء قراءة أهل مكة وأهل الكوفة وأبي عمرو وهي اختيار أبي عبيد، وقرأ أهل المدينة وأهل الشام ولو ترى الذين «٢» بالتاء وفي الآية إشكال وحذف زعم أبو عبيد أنه اختار القراءة بالياء لأنه يروى في التفسير أنّ المعنى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا أن القوة لله. قال أبو جعفر: روي عن محمد بن يزيد أنه قال:
هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد وليست عبارته فيه بالجيدة لأنه يقدّر «ولو يرى الذين ظلموا العذاب» وكأنه جعله مشكوكا فيه، وقد أوجبه الله عزّ وجلّ. ولكن التقدير وهو قول أبي الحسن الأخفش سعيد: ولو يرى الذين ظلموا أنّ القوة لله، ويرى بمعنى يعلم أي لو يعلمون حقيقة قوة الله، فيرى واقعة على «أن»، وجواب «لو» محذوف أي لتبيّنوا ضرر اتخاذهم الآلهة، كما قال: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام: ٢٧] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ [الأنعام: ٣٠] ولم يأت للو جواب. قال الزهري وقتادة:
الإضمار أشدّ للوعيد. قال أبو جعفر: ومن قرأ ولو ترى بالتاء كان «الذين» مفعولين
(١) الشاهد لكعب بن مالك في ديوانه ص ٢٨٩، وخزانة الأدب ٦/ ١٢٠، ١٢٣، ١٢٨، والدرر ٣/ ٧، وشرح أبيات سيبويه ١/ ٥٣٥، ولبشير بن عبد الرّحمن في لسان العرب (منن)، ولحسان بن ثابت في الأزهيّة ص ١٠١، ولكعب أو لحسان أو لعبد الله بن سواحة في الدرر ١/ ٣٠٢، ولكعب أو لحسان أو لبشير بن عبد الرّحمن في شرح شواهد المغني ١/ ٣٣٧، والمقاصد النحوية ١/ ٤٨٦، وللأنصاري في الكتاب ٢/ ١٠١، ولسان العرب (كفى)، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٥٢، ورصف المباني ص ١٤٩، وسرّ صناعة الإعراب ١/ ١٣٥، وشرح شواهد المغني ٢/ ٧٤١، وشرح المفصّل ٤/ ١٢، ومجالس ثعلب ١/ ٣٣٠، والمقرب ١/ ٢٠٣، وهمع الهوامع ١/ ٩٢.
(٢) انظر البحر المحيط ١/ ٦٤٥، وهي قراءة الحسن وقتادة وشيبة وأبي جعفر ويعقوب أيضا.
عنده وحذف أيضا جواب «لو» و «أن» في موضع نصب أي لأن القوة لله وأنشد سيبويه: [الطويل] ٣١-
وأغفر عوراء الكريم ادّخاره وأعرض عن شتم اللّئيم تكرّما «١»
أي لادّخاره، وأجاز الفراء «٢» أن تكون «أنّ» في موضع نصب على إضمار الرؤية ومن كسر فقرأ إنّ القوة لله وإنّ الله جعلها استئنافا جَمِيعاً نصب على الحال.
وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ عطف على أنّ الأولى.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٦]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا ضمّت الهمزة في اتبعوا اتباعا للتاء وضمّت التاء الثانية لتدل على أنه لما لم يسمّ فاعله، فإن قيل: سبيل ما لم يسم فاعله أن يضمّ أوله للدلالة فكيف ضمّ الثالث هذا للدلالة فالجواب أنّ سبيل فعل ما لم يسمّ فاعله أن يضمّ أول متحركاته فلما كانت التاء الأولى ساكنة اجتلبت لها الهمزة وحرّكت الثانية لأنها أول المتحركات. وَرَأَوُا الْعَذابَ ضمّت الواو لالتقاء الساكنين.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٧]
وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً «أن» في موضع رفع أي لو وقع ذلك فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ جواب التمني. كَما الكاف في موضع نصب أي تبرؤوا كما، ويجوز أن يكون نصبا على الحال. كَذلِكَ الكاف في موضع رفع أي الأمر كذلك، ويجوز أن تكون في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف أي رؤية كذلك يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ مفعولان حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ نصب على الحال.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٨]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨)
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً نعت لمفعول أي شيئا حلالا أو أكلا حلالا. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا (خطوات الشيطان).
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٩]
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩)
وَأَنْ تَقُولُوا في موضع خفض عطفا على قوله بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ.
(١) مرّ الشاهد رقم (٨).
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ٩٧. [.....]

[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٠]

وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا فتحت الواو لأنها واو عطف.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧١]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا مبتدأ، وخبره كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ قال أبو جعفر: وقد تقصينا معناه. بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً نصب بيسمع. وَنِداءً عطف عليه. صُمٌّ أي هم صمّ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٣]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ نصب بحرّم، و «ما» كافة، ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي وترفع الميتة والدم ولحم الخنزير. فَمَنِ اضْطُرَّ ضمّت النون لالتقاء الساكنين وأتبعت الضمة الضمة، ويجوز الكسر على أصل التقاء الساكنين، وقرأ أبو جعفر فَمَنِ اضْطُرَّ «١» بكسر الطاء لأنّ الأصل اضطرر فلمّا أدغم ألقى حركة الراء على الطاء ويجوز (فمن اضّرّ) لمّا لم يجز أن يدغم الضاد في الطاء أدغم الطاء في الضاد، ويجوز أن تقلب الضاد طاء من غير إدغام ثم تدغم الطاء في الطاء فتقول: فمن اطّر وهذا في غير القرآن، غَيْرَ باغٍ «غير» نصب على الحال، والأصل باغي استثقلت الحركة في الياء فسكنت والتنوين ساكن فحذفت الياء لسكونها وسكون التنوين وكانت أولى بالحذف لأن التنوين علامة وقبل الياء ما يدلّ عليها وكذا ولا عاد.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٤]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤)
الَّذِينَ اسم «إنّ»، والخبر أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٧]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
لَيْسَ الْبِرَّ اسم ليس، والخبر أَنْ تُوَلُّوا وقرأ الكوفيون لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا «٢»
(١) انظر مختصر ابن خالويه ١١.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ١٠٣، والبحر المحيط ٢/ ٣.
90
جعلوا «أن» في موضع رفع والأول بغير تقديم ولا تأخير، وفي قراءة أبيّ وابن مسعود ليس البرّ بأن تولّوا فلا يجوز في البرّ هاهنا إلّا الرفع. وَلكِنَّ الْبِرَّ وقرأ الكوفيون ولكن البرّ رفع بالابتداء. مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ الخبر، وفيه ثلاثة أقوال: يكون التقدير ولكن البرّ برّ من آمن بالله ثم حذف كما قالت الخنساء: [البسيط] ٣٢-
فإنما هي إقبال وإدبار «١»
أي ذات إقبال، ويجوز أن يكون التقدير ولكن ذو البرّ من آمن بالله ويجوز أن يكون البرّ بمعنى البار والبرّ كما يقال: رجل عدل، وفي الآية إشكال من جهة الإعراب لأن بعد هذا وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فيه خمسة أقوال: يكون و «الموفون» رفعا عطفا على «من»، و «الصابرين» على المدح أي وأعني الصابرين، ويكون و «الموفون» رفعا بمعنى، وهم الموفون مدحا للمضمرين و «الصابرين» عطفا على ذوي القربى، ويكون و «الموفون» رفعا على وهم الموفون و «الصابرين» بمعنى وأعني الصابرين فهذه ثلاثة أجوبة لا مطعن فيها من جهة الإعراب موجودة في كلام العرب وأنشد سيبويه «٢» :[الكامل] ٣٣-
لا يبعدن قومي الّذين هم سمّ العداة وآفة الجزر
النّازلين بكلّ معترك والطّيّبون معاقد الأزر
وإن شئت قلت: النازلون والطيبين، وإن شئت رفعتهما جميعا، ويجوز نصبهما.
قال الكسائي: يجوز أن يكون و «الموفون» نسقا «٣» على «من» و «الصابرين» نسقا على «ذوي القربى». قال أبو جعفر: وهذا القول خطأ وغلط بيّن لأنك إذا نصبت والصابرين ونسقته على ذوي القربى دخل في صلة «من» فقد نسقت على «من» من قبل أن تتمّ الصلة وفرقت بين الصلة والموصول بالمعطوف، والجواب الخامس: أن يكون
(١) الشاهد للخنساء في ديوانها ص ٣٨٣، والأشباه والنظائر ١/ ١٩٨، وخزانة الأدب ١/ ٤٣١، وشرح أبيات سيبويه ١/ ٢٨٢، والشعر والشعراء ١/ ٣٥٤، والكتاب ١/ ٣٣٧، ولسان العرب (رهط، وقبل، وسوا)، والمقتضب ٤/ ٣٠٥، والمنصف ١/ ١٩٧، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢/ ٣٨٧، وشرح الأشموني ١/ ٢١٣، وشرح المفصّل ١/ ١١٥، والمحتسب ٢/ ٤٣، وصدره:
«ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت»
(٢) البيتان للخرنق بنت بدر بن هفان في ديوانها ص ٤٣، والأشباه والنظائر ٦/ ٢٣١، وأمالي المرتضى ١/ ٢٠٥، والإنصاف ٢/ ٤٦٨، وأوضح المسالك ٣/ ٣١٤، والحماسة البصرية ١/ ٢٢٧، وخزانة الأدب ٥/ ٤١، والدرر ٦/ ١٤، وسمط اللآلي ص ٥٤٨، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ١٦، وشرح التصريح ٢/ ١١٦، والكتاب ١/ ٢٦٤، ولسان العرب (نضر)، والمحتسب ٢/ ١٩٨، والمقاصد النحوية ٣/ ٦٠٢، وأساس البلاغة (أزر)، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٤١٦، وشرح الأشموني ٢/ ٣٩٩.
(٣) النسق: العطف.
91
و «الموفون» عطفا على المضمر الذي في آمن «الصابرين» عطفا على «ذوي القربى» قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله والموفين والصابرين قال أبو جعفر: يكونان منسوقين على ذوي القربى وعلى المدح. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله في «النساء» والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة [النساء: ١٦٢].
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ اسم ما لم يسمّ فاعله. فِي الْقَتْلى لم يتبيّن فيه الإعراب لأنّ فيه ألف التأنيث وجيء بها لتأنيث الجماعة. الْحُرُّ بِالْحُرِّ ابتداء وخبر.
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى نسق عليه. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ شرط والجواب فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وهو رفع بالابتداء، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف ويجوز في غير القرآن فاتّباعا وأداء يجعلهما مصدرين. ذلِكَ تَخْفِيفٌ ابتداء وخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٩]
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ رفع بالابتداء. وقراءة أبيّ وأبي الجوزاء ولكم في القصص شاذة والظاهر دلّ على غيرها. قال الله عزّ وجلّ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى فدلّ بعض الكلام على بعض والتفسير على القصاص. روى سفيان الثوري «١» عن السدّيّ عن أبي مالك وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ قال: أن لا يقتل بعضكم بعضا ثم قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ حذف المفعول لعلم السامع. روى اللّيث عن ربيعة في قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ محارمكم وما نهيت بعضكم فيه عن بعض.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٠]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ في الكلام تقدير واو العطف المعنى وكتب عليكم، ومثله في بعض الأقوال لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:
١٥، ١٦] أي ولا يصلاها. أَحَدَكُمُ مفعول والْمَوْتُ فاعل. إِنْ تَرَكَ خَيْراً شرط، وفي جوابه قولان: قال الأخفش سعيد: التقدير فالوصيّة ثم حذف الفاء كما قال: [البسيط]
(١) سفيان الثوري: أبو عبد الله الكوفي، الإمام الكبير، روى القراءة عرضا عن حمزة وروى عن عاصم (ت ١٦١ هـ). ترجمته في غاية النهاية ١/ ٣٠٨.
٣٤-
من يفعل الحسنات الله يشكرها والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان «١»
والجواب الآخر أنّ الماضي يجوز أن يكون جوابه قبله وبعده فيكون التقدير الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا فإن حذفت الفاء فالوصية رفع بالابتداء وإن لم تقدر الفاء جاز أن ترفعها أيضا بالابتداء وأن ترفعها على أنها اسم ما لم يسمّ فاعله أي كتب عليكم الوصية. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا في الآية أقوالا منها أن تكون منسوخة بالفرض ومنها أن تكون على الندب على الوصية. قال أبو جعفر: والقول أنه لا يجوز أن يكون شيء من هذا على الندب إلّا بدليل وقد قيل: أنها منسوخة بالحديث «لا وصية لوارث» «٢». حَقًّا مصدر، ويجوز في غير القرآن «حقّ» بمعنى ذلك حق.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨١]
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)
فَمَنْ بَدَّلَهُ شرط، وجوابه فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ و «ما» كافة لأنّ عن العمل وإِثْمُهُ رفع بالابتداء. عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ في موضع الخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٢]
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
فَمَنْ خافَ شرط، والأصل خوف وقلبت الواو ألفا لتحرّكها وتحرّك ما قبلها.
وأهل الكوفة يميلون «خاف» ليدلّوا على الكسرة من فعلت. مِنْ مُوصٍ ومن موصّ والتخفيف أبين لأن أكثر النحويين يقول: موصّ للتكثير وقد يجوز أن يكون مثل كرّم وأكرم جَنَفاً من جنف يجنف إذا جاز والاسم منه جنف وجانف. فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ عطف على خاف والكناية عن الورثة ولم يجر لهم ذكر لأنه قد عرف المعنى وجواب الشرط فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ اسم ما لم يسمّ فاعله. كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
(١) الشاهد لكعب بن مالك في ديوانه ص ٢٨٨، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ١٠٩، وله أو لعبد الرّحمن بن حسان في خزانة الأدب ٩/ ٤٩، وشرح شواهد المغني ١/ ١٧٨، ولعبد الرّحمن بن حسان في خزانة الأدب ٢/ ٣٦٥، ولسان العرب (بجل)، والمقتضب ٢/ ٧٢، ومغني اللبيب ١/ ٥٦، والمقاصد النحوية ٤/ ٤٣٣، ونوادر أبي زيد ص ٣١، ولحسان بن ثابت في الدرر ٥/ ٨١، والكتاب ٣/ ٧٣، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧/ ١١٤، وأوضح المسالك ٤/ ٢١٠، وخزانة الأدب ٩/ ٤٠، والخصائص ٢/ ٢٨١، وسرّ صناعة الإعراب ١/ ٢٦٤، وشرح شواهد المغني ١/ ٢٨٦، وشرح المفصّل ٩/ ٢، ٣، والمحتسب ١/ ١٩٣، والمقرب ١/ ٢٧٦، والمنصف ٣/ ١١٨، وهمع الهوامع ٢/ ٦٠.
(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٤/ ١٨٦، والترمذي في سننه ٢١٢٠، ٢١٢١، والنسائي في سننه (الوصايا ب ٥)، وابن ماجة في سننه ٢٧١٣، والبيهقي في السنن الكبرى ٦/ ٨٥.
الكاف في موضع نصب من ثلاث جهات: يجوز أن يكون نعتا لمصدر من كتب أي كتب عليكم الصّيام كتبا كما، ويجوز أن يكون التقدير كتب عليكم الصيام صوما كما، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال أي كتب عليكم الصيام مشبها كما كتب على الذين من قبلكم، ويجوز أن يكون في موضع رفع نعتا للصيام وما للصيام وما بيانه «الذين آمنوا» و «ما» في موضع خفض وصلتها كتب على الذين من قبلكم والضمير في كتب يعود على «ما».
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٤]
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قال الأخفش: أَيَّاماً نصب بالصيام أي كتب عليكم أن تصوموا أياما معدودات، وقال الفراء «١» : هي نصب بكتب لأن فعل ما لم يسمّ فاعله إذا رفعت بعده اسما نصبت الآخر. وفي الآية شيء لطيف غامض من النحو يقال: لا يجيز النحويون: هذا صارف ظريف زيدا وكيف يجوز أن تنصب «أياما» بالصيام إذا كانت الكاف نعتا للصيام؟ فالجواب أنك إذا جعلت أياما مفعولة لم يجز هذا، وإن جعلتها ظرفا جاز لأن الظروف تعمل فيها المعاني، وزعم أحمد بن يحيى: أنّ ذلك لا يجوز البتّة وإن جعلت الكاف في موضع نصب بكتب لم يجز لأنك تفرق بين الصيام وبين ما عمل فيه بما لم يعمل فيه وإن جعلت الكاف في موضع نصب بالصيام ونصبت أياما بالصيام فلا اختلاف فيه إنّه جيد بالغ. مَعْدُوداتٍ نعت لأيام إلّا أن التاء كسرت عند البصريين لأنه جمع مسلّم، وعند الكوفيين لأنها غير أصلية. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً شرط بمن أي فمن كان منكم مريضا في هذه الأيام فَعِدَّةٌ رفع بالابتداء، والخبر عليه حذفت. قال الكسائي: ويجوز فعدّة أي فليصم عدّة. مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لم تنصرف «أخر» عند سيبويه «٢» لأنها معدولة عن الألف واللام لأن سبيل فعل من هذا الباب أن يأتي بالألف واللام نحو الكبر والفضل. قال الكسائي: هي معدولة أخر كما تقول:
حمراء وحمر فلذلك لم تنصرف، وقيل منعت من الصرف لأنها على وزن جمع.
ويقال: إنما يقال يوم آخر ولا يقال: أخرى وأخر إنما هي جمع أخرى ففي هذا جوابان: أحدهما أنّ نعت الأيام يكون مؤنثا فلذلك نعتت بأخر، والجواب الآخر أن يكون أخر جمع أخرى كأنه أيام أخرى ثم كثرت فقيل أيام أخر. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ١١٢، والبحر المحيط ٢/ ٤٦.
(٢) انظر الكتاب ٣/ ٣١٥.
والأصل يطوقونه، وقد قرئ به فقلبت حركة الواو على الطاء فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وقرأ ابن عباس يطوّقونه «١» فصحّت الواو لأنه ليس قبلها كسرة، ويقرأ يطّوّقونه «٢» والأصل يتطوّقونه ثم أدغمت التاء في الطاء. والقراءة المجمع عليها يُطِيقُونَهُ وأصحّ ما فيها أنّ الآية منسوخة كما ذكرناه. فأما يطيّقونه وتطّيّقونه فلا يجوز لأن الواو لا تقلب ياء إلا لعلّة. فدية طعام مساكين «٣» هذه قراءة أهل المدينة وابن عامر «٤» رواها عنه عبيد الله عن نافع، وقرأ أبو عمرو والكسائي وحمزة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ «٥» وهذا اختيار أبي عبيد وزعم أنه اختاره لأن معناه لكل يوم إطعام واحد منهم فالواحد مترجم عن الجميع وليس الجميع بمترجم عن الواحد. قال أبو جعفر: وهذا مردود من كلام أبي عبيد لأن هذا إنّما يعرف بالدلالة فقد علم أنّ معنى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين أنّ لكلّ يوم مسكينا فالاختيار هذه القراءة ليرد جمعا على جمع. واختار أبو عبيد أن يقرأ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قال: لأن الطعام هو الفدية. قال أبو جعفر: لا يجوز أن يكون الطعام نعتا لأنه جوهر ولكنه يجوز على البدل وأبين منه أن يقرأ فِدْيَةٌ طَعامُ بالإضافة لأن فدية مبهمة تقع للطعام وغيره فصار مثل قولك: هذا ثوب خزّ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ شرط وجوابه وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ابتداء وخبر أي فالصوم خير لكم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٥]
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
شَهْرُ رَمَضانَ حكيت فيه ستة أوجه: شَهْرُ رَمَضانَ قراءة العامة، وقرأ مجاهد وشهر ابن حوشب شَهْرُ رَمَضانَ بالنصب وحكي عن الحسن وأبي عمرو إدغام الراء في الراء وهذا لا يجوز لئلّا يجتمع ساكنان، والقراءة الرابعة: الإخفاء والوجه الخامس أن تقلب حركة الراء على الهاء فتضم الهاء، وهذا قول الكوفيين كما قال امرؤ القيس: [الطويل] ٣٥-
فمن كان ينسانا وحسن بلائنا فليس بناسينا على حالة بكر «٦»
(١) انظر المحتسب ١/ ١١٨.
(٢) انظر المحتسب ١/ ١١٨، والبحر المحيط ٢/ ٤٢.
(٣) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ١٧٦.
(٤) ابن عامر، عبد الله بن عامر اليحصبي، أحد القراء السبعة (ت ١١٨ هـ) ترجمته في كتاب السبعة لابن مجاهد ٨٦، وغاية النهاية ١/ ٤٢٣. [.....]
(٥) وهذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط ٢/ ٤٤.
(٦) الشاهد غير موجود في شعر امرئ القيس ولا في الشواهد النحوية.
95
ويجوز شَهْرُ رَمَضانَ «١» من جهتين: إحداهما على قراءة من نصب فقلب حركة الراء على الهاء، والأخرى على لغة من قال لحم ولحم ونهر ونهر «شهر رمضان» رفع بالابتداء وخبره الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ويجوز أن يكون شهر مرفوعا على إضمار ابتداء، والتقدير المفترض عليكم صومه شهر رمضان أو ذلك شهر رمضان أو الصوم أو الأيام. ورمضان لا ينصرف لأن النون فيه زائدة. ونصب شهر رمضان شاذّ وقد قيل فيه أقوال: قال الكسائي: المعنى كتب عليكم الصيام وأن تصوموا شهر رمضان. قال الفراء «٢» : أي كتب عليكم الصيام أي أن تصوموا شهر رمضان. قال أبو جعفر: لا يجوز أن تنصب شهر رمضان تصوموا لأنه يدخل في الصلة ثم يفرق بين الصلة والموصول وكذا إن نصبته بالصيام، ولكن يجوز أن تنصبه على الإغراء أي الزموا شهر رمضان وصوموا شهر رمضان. وهذا بعيد أيضا لأنه لم يتقدّم ذكر الشهر فيغرى به.
هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ في موضع نصب على الحال من القرآن والقرآن اسم ما لم يسمّ فاعله. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ يقال: ما الفائدة في هذا والحاضر والمسافر يشهدان الشهر؟ فالجواب أن الشهر ليس بمفعول وإنما هو ظرف زمان والتقدير فمن شهد منكم المصر في الشهر، وجواب آخر أن يكون التقدير فمن شهد منكم الشهر غير مسافر ولا مريض فَلْيَصُمْهُ وقرأ الحسن فَلْيَصُمْهُ وكان يكسر لام الأمر كانت مبتدأة أو كان قبلها شيء وهو الأصل ومن أسكن حذف الكسرة لأنها ثقيلة. وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ اسم «كان» فيها مضمر «ومريضا» خبره «أو على سفر» عطف أي أو مسافرا.
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ واليسر واليسر لغتان وكذا العسر والعسر.
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ فيه خمسة أقوال. قال الأخفش: هو معطوف أي ويريد ولتكملوا العدة كما قال: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصف: ٨]، وقال غيره: يريد الله هذا التخفيف لتكملوا العدة، وقيل الواو مقحمة، وقال الفراء «٣» : المعنى ولتكملوا العدّة فعل هذا. قال أبو جعفر: وهذا قول حسن ومثله وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: ٧٥] أي وليكون من الموقنين فعلنا ذلك، والقول الخامس ذكره أبو إسحاق إبراهيم بن السري «٤» قال: هو محمول على المعنى والتقدير فعل الله ذلك ليسهّل عليكم ولتكملوا العدة. قال: ومثله ما أنشد سيبويه «٥» :[الكامل]
(١) وهذه قراءة مجاهد وشهر بن حوشب وهارون الأعور، انظر البحر المحيط ٢/ ٤٥.
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ١١٢.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ١١٣.
(٤) انظر إعراب القرآن ومعانيه ٢١٩.
(٥) البيتان للشمّاخ بن ضرار في ملحق ديوانه ص ٤٢٧، وأساس البلاغة (معز)، وشرح أبيات سيبويه ١/ ٣٩٦، ولذي الرمة في ملحق ديوانه ص ١٨٤٠، وبلا نسبة في أساس البلاغة (شجج)، وتاج العروس (شجج)، وخزانة الأدب ٥/ ١٤٧، والكتاب ١/ ٣٢٠، ولسان العرب (شجج).
96
٣٦-
بادت وغيّر آيهنّ مع البلى إلّا رواكد جمرهنّ هباء
ومشجّج أمّا سواء قذاله فبدا وغيّر ساره المعزاء
لأن معنى: بادت إلّا رواكد بها رواكد فكأنه. قال: وبها مشجّج أو ثمّ مشجّج، وقرأ الحسن وقتادة والعاصمان والأعرج وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ واختار الكسائي وَلِتُكْمِلُوا لقوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: ٣]. قال أبو جعفر: هما لغتان بمعنى واحد كما قال: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق: ١٧] ولا يجوز ولتكملوا بإسكان اللام والفرق بين هذا وبين ما تقدم أن التقدير ولأن تكملوا العدة فلا يجوز حذف أن والكسرة. وَلِتُكَبِّرُوا عطف عليه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٦]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)
فَإِنِّي قَرِيبٌ خبر إنّ. أُجِيبُ خبر بعد خبر. حكى سيبويه «١» :«هذا حلو حامض». ويجوز أن يكون نعتا ومستأنفا. فَلْيَسْتَجِيبُوا لام أمر وكذا وَلْيُؤْمِنُوا وجزمت لام الأمر لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير فأشبهت إن التي للشرط، وقيل:
لأنها لا تقع إلّا على الفعل.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٧]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ اسم ما لم يسمّ فاعله. قال أبو إسحاق «٢» :
«الرفث» كلمة جامعة لكلّ ما يريده الرجل من المرأة. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ ابتداء وخبر وشدّدت النون من هنّ لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ فتحت أن بعلم. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ قد ذكرناه وهو إباحة. وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ عطف عليه وكذا وَكُلُوا وَاشْرَبُوا فَلا تَقْرَبُوها جزم بالنهي والكلام في «لا» كالكلام في لام الأمر.
قال الكسائي: فلا تقربوها قربانا.
(١) انظر الكتاب ٢/ ٧٩، قال: «كقولك: هذا حلو حامض».
(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه ٢٢٠.

[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٨]

وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا عطف على تأكلوا، وفي قراءة أبيّ ولا تدلوا «١» ويجوز أن يكون ولا تدلوا جواب النهي بالواو كما قال: [الكامل] ٣٧-
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم «٢»
بِها الهاء تعود على الأموال أي ترشوا بها أو تخاصموا من أجلها فكأنكم قد أدليتم بها ويجوز أن يكون الهاء تعود على الحجّة وإن لم يتقدم لها ذكر كما يقال: أدلى بحجته. «أموالكم» إضافة الجنس أي الأموال التي لكم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ وإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على السين وحذفتها فقلت: يسلونك وأهلّه جمع هلال في القليل والكثير وكان يجب أن يقال في الكثير:
هلل فاستثقلوا ذلك كما استثقلوه في كساء ورداء من المعتل قُلْ هِيَ مَواقِيتُ ابتداء وخبر، الواحد ميقات انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وهي ساكنة ولم تنصرف مواقيت عند البصريين لأنها جمع وهو جمع لا يجمع ولا نظير له في الواحد وقال الفراء «٣» لم تنصرف لأنها غاية الجمع. لِلنَّاسِ خفض باللام. وَالْحَجِّ «٤» عطف عليه هذه لغة أهل الحجاز، وأهل نجد يقولون الحجّ بكسر الحاء فالفتح على المصدر والكسر على أنه اسم والحجّة بفتح الحاء المرة الواحدة والحجّة عمل سنة ومنه ذو الحجّة ويقال للسنة أيضا حجّة كما قال زهير: [الطويل] ٣٨-
وقفت بها من بعد عشرين حجّة فلأيا عرفت الدّار بعد توهّم «٥»
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ ولا يجوز نصب البرّ لأن الباء إنما تدخل في الخبر
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ١١٥.
(٢) مرّ الشاهد رقم (١٩).
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ١١٥.
(٤) انظر البحر المحيط ٢/ ٧٠.
(٥) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٧، ولسان العرب (وهم، ولأي)، وبلا نسبة في المخصّص ٣/ ٣٠. [.....]
ويقال: بيوت بالكسر وهي لغة رديئة لأنه يخالف الباب وجازت على أن تبدل من الضمة كسرة لمجاورتها الياء. وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى قال أبو جعفر: قد ذكرناه «١» والتقدير: من اتّقى ما نهي عنه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٠]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)
وَلا تَعْتَدُوا لا تقتلوا من لم تؤمروا بقتله ويدخل في الأمر بهذا النساء والصبيان وقتل اثنين بواحد يقال: اعتدى إذا جاوز ما يجب. وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ابتداء وخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩١]
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١)
وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نهي، وهو منسوخ وقرأ الكوفيون ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقتلوكم فيه»
على قول العرب: قتلنا بني فلان إذا قتلوا بعضهم، ولا يجوز هذا حتى يعرف المعنى، وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال: لا ينبغي أن تقرأ هذه القراءة لأنه يجب على من قرأها أن يكون المعنى لا تقتلوهم ولا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٣]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)
فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ قال الأخفش سعيد: المعنى فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلّا على الظالمين منهم وقيل: فإن انتهوا للجماعة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٤]
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ابتداء وخبر، والتقدير قتال الشهر الحرام بقتال الشهر الحرام. وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ ويجوز فتح الراء وإسكانها.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٥]
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)
وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ الأصل بأيديكم فاستثقلت الحركة في الياء فسكنت. قال الأخفش: الباء زائدة وأبو العباس يذهب إلى أنها متعلقة بالمصدر.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٦]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)
(١) ذكره في إعراب الآية (٢٤).
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ١١٦.
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ والعمرة عطف على الحجّ وقراءة الشّعبي «١» وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ شاذة بعيدة لأن العمرة يجب أن يكون إعرابها كإعراب الحج كذا سبيل المعطوف فإن قيل: رفعها بالابتداء لم تكن في ذلك فائدة لأن العمرة لم تزل لله عزّ وجلّ، وأيضا فإنه تخرج العمرة من الإتمام، وقال من احتجّ للرفع إذا نصبت وجب أن تكون العمرة واجبة. قال أبو جعفر: وهذا الاحتجاج خطأ لأن هذا لا يجب به فرض وإنّما الفرض وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: ٩٧] ولو قال قائل: أتمم صلاة الفرض والتطوّع لما وجب من هذا أن يكون التطوع واجبا وإنما المعنى إذا دخلت في صلاة الفرض والتطوّع فأتممها. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. قال أبو عمرو بن العلاء:
واحد الهدي هدية، وقال الفراء: لا واحد له. قال «٢» ابن السّكيت «٣» : ويقال: هديّ، وحكى غيره: إنها لغة بني تميم قال زهير: [الوافر] ٣٩-
فلم أر معشرا أسروا هديّا ولم أر جار بيت يستباء «٤»
قال الأخفش: التقدير فعليه ما استيسر من الهدي. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أي فعليه صيام ثلاثة أيام وثبتت الهاء في ثلاثة فرقا بين المذكّر والمؤنث، وقيل: كان المذكر أولى بالهاء لأن الهاء تدخل في المذكر في الجمع القليل نحو قردة. وهذا قول الكوفيين، وقال بعض البصريين: كان المذكر أولى بالهاء لأن تأنيثه غير حقيقي فأنّث باللفظ والمؤنث تأنيثه حقيقي فأنّث بالمعنى والصيغة لأنها أوكد، وقال بعضهم: وقع بالمذكر التأنيث لأنه بمعنى جماعة. تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ابتداء وخبر، وتيك لغة. ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الأصل حاضرين حذفت النون للإضافة وحذفت الياء من اللفظ في الإدراج لسكونها وسكون اللام بعدها.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٧]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)
(١) الشّعبيّ: عامر بن شراحيل الكوفي، الإمام الحافظ، عرض على السلمي وعلقمة بن قيس. (ت ١٠٥ هـ) ترجمته في غاية النهاية ١/ ٣٥٠.
(٢) انظر إصلاح المنطق لابن السّكّيت (٢٧٥).
(٣) ابن السكيت، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، أحد كبار اللغويين الكوفيين قتله المتوكل سنة ٢٤٤ هـ.
ترجمته في طبقات الزبيدي ٢٢١.
(٤) الشاهد لزهير في ديوانه ص ٧٩، ولسان العرب (بوأ)، و (هدى) ومقاييس اللغة ١/ ٣١٤، وكتاب العين ٨/ ٤١٢، وتهذيب اللغة ٦/ ٣٨٠، وتاج العروس (بوأ) و (هدى).
100
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ابتداء وخبر، والتقدير أشهر الحجّ أشهر معلومات، ويجوز «الحجّ أشهرا» على الظرف أي في أشهر وزعم الفراء «١» أنه لا يجوز النصب وعلّته أنّ أشهرا نكرة غير محصورات، وليس هذا سبيل الظروف، وكذا عنده: المسلمون جانب والكفار جانب فإن قلت جانب أرضهم وجانب بلادهم كان النصب هو الوجه. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ «من» في موضع رفع بالابتداء وهي شرط، وخبر الابتداء محمول على المعنى أي فلا يكن فيه رفث فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «٢» على التبرية وقرأ يزيد بن القعقاع فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ جعل «لا» بمعنى «ليس»، وإن شئت رفعت بالابتداء، وقال أبو عمرو: المعنى فلا يكن فيه رفث إلّا أنه نصب. وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وقطعه من الأول لأنّ معناه عنده أنه قد زال الشك في أنّ الحجّ في ذي الحجة، ويجوز «فلا رفث ولا فسوق» يعطفه على الموضع وأنشد النحويون: [السريع] ٤٠-
لا نسب اليوم ولا خلّة اتّسع الخرق على الرّاقع «٣»
ويجوز في الكلام: فلا رفث ولا فسوقا ولا جدالا في الحج عطفا على اللفظ على ما كان يجب في «لا» قال الفراء: ومثله: [الطويل] ٤١-
فلا أب وابنا مثل مروان وابنه إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا «٤»
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ شرط وجوابه. وَتَزَوَّدُوا أمر وهو إباحة.
وَاتَّقُونِ أمر فلذلك حذفت منه النون. يا أُولِي الْأَلْبابِ نداء مضاف وواحد الألباب لبّ،
(١) انظر معاني الفراء ١/ ١١٩، والبحر المحيط ٢/ ٩٣.
(٢) انظر معاني الفراء ١: ١٢٠، وهي أيضا قراءة مجاهد.
(٣) الشاهد لأنس بن العباس بن مرداس في تخليص الشواهد ص ٤٠٥، والدرر ٦/ ١٧٥، وشرح التصريح ١/ ٢٤١، وشرح شواهد المغني ٢/ ٦٠١، ولسان العرب (قمر) و (عتق)، والمقاصد النحوية ٢/ ٣٥١، وله أو لسلامان بن قضاعة في شرح أبيات سيبويه ١/ ٥٨٣، ولأبي عامر جدّ العباس بن مرداس في ذيل سمط اللآلي ص ٣٧، وبلا نسبة في أمالي بن الحاجب ١/ ٤٢١، وأوضح المسالك ٢/ ٢٠، وشرح الأشموني ١/ ١٥١، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٧٥، وشرح شذور الذهب ص ١١٢، وشرح ابن عقيل ص ٢٠٢، وشرح المفصّل ٢/ ١٠١، و ٩/ ١٣٨، واللّمع في العربية ص ١٢٨، ومغني اللبيب ١/ ٢٢٦، وهمع الهوامع ٢/ ١٤٤.
(٤) الشاهد لرجل من عبد مناة بن كنانة في تخليص الشواهد ص ٤١٣، وخزانة الأدب ٤/ ٦٧، وشرح التصريح ١/ ٢٤٣، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٠٧، والمقاصد النحوية ٢/ ٣٥٥، وله أو للفرزدق في الدرر ٦/ ١٧٢، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١/ ٤١٩، ٢/ ٥٩٣، وأوضح المسالك ٢/ ٢٢، وجواهر الأدب ص ٢٤١، وشرح الأشموني ١/ ١٥٣، وشرح قطر الندى ص ١٦٨، وشرح المفصّل ٢/ ١٠١، والكتاب ٢/ ٢٩٤، واللامات ص ١٠٥، واللمع ص ١٣٠، والمقتضب ٤/ ٣٧٢، وهمع الهوامع ٢/ ١٤٣.
101
ولبّ كلّ شيء: خالصه، فلذلك قيل للعقل لبّ. قال أبو جعفر: سمعت أبا إسحاق يقول: قال لي أحمد بن يحيى أتعرف في كلام العرب من المضاعف شيئا جاء على فعل؟ فقلت: نعم حكى سيبويه «١» عن يونس: لببت تلب فاستحسنه وقال: ما أعرف له نظيرا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٨]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ اسم ليس. أَنْ تَبْتَغُوا في موضع نصب أي في أن تبتغوا، وعلى قول الكسائي والخليل إنها في موضع خفض. فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ بالتنوين وكذا لو سمّيت امرأة بمسلمات لأن التنوين ليس فرقا بين ما ينصرف وما لا ينصرف فتحذفه وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين هذا الجيد، وحكى سيبويه «٢» عن العرب حذف التنوين (من عرفات يا هذا)، ورأيت عرفات يا هذا. بكسر التاء بغير تنوين.
قال: لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين، وحكى الأخفش: والكوفيون فتح التاء. قال الأخفش: تجرى مجرى الهاء فيقال: من عرفات يا هذا. وأنشدوا: [الطويل] ٤٢-
تنوّرتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالي «٣»
فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ ومشعر مفعل من شعرت به أي علمت به أي معلم من متعبّدات الله جلّ وعزّ وكان يجب أن يكون على مفعل بناء على يشعر إلّا أنه ليس في كلام العرب اسم على مفعل. وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ الكاف في موضع نصب أي ذكرا مثل هدايته إيّاكم أي جزاء على هدايته إياكم. وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ لام توكيد إلّا أنّها لازمة لئلّا تكون إن بمعنى ما.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٠]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠)
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ بالإظهار لأن الثاني بمنزلة المنفصل ويجوز (مناسكّم)
(١) انظر الكتاب ٤/ ١٤٦.
(٢) انظر الكتاب ٣/ ٢٥٦.
(٣) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ٣١، وخزانة الأدب ١/ ٥٦، والدرر ١/ ٨٢، ورصف المباني ٣٤٥، وسرّ صناعة الإعراب ص ٤٩٧، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٢١٩، وشرح ١/ ٨٣، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٣٥٩، وشرح المفصّل ١/ ٤٧، والكتاب ٣/ ٢٥٥، والمقاصد النحوية ١/ ١٩٦، والمقتضب ٣/ ٣٣٣، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١/ ٦٩، وشرح الأشموني ١/ ٤١، وشرح ابن عقيل ص ٤٤ وشرح المفصّل ٩/ ٣٤.
بالإدغام أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النساء: ٧٨ فلا يكون إلّا مدغما. فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ الكاف في موضع نصب أي ذكرا كذكركم، ويجوز أن يكون في موضع الحال. أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً «أشدّ» في موضع خفض عطفا على ذكركم، والمعنى أو (كأشدّ ذكرا. ولم ينصرف لأنه أفعل صفة، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أو اذكروه أشدّ ذكرا)، ذِكْراً على البيان. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ في موضع رفع بالابتداء وإن شئت بالصفة. يَقُولُ رَبَّنا آتِنا صلة من وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ من زائدة للتوكيد.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠١]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١)
والأصل في قِنا أوقنا حذفت الواو كما حذفت في يقي وحذفت من يقي لأنها بين ياء وكسرة مثل يعد. هذا قول البصريين، وقال الكوفيون «١» : حذفت فرقا بين اللازم والمتعدّي، وقال محمد بن يزيد: هذا خطأ لأن العرب تقول: ورم يرم فيحذفون الواو.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٣]
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قال الكوفيون: الألف والتاء لأقل العدد، وقال البصريون: هما للقليل والكثير. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا المعدودات والمعلومات وقول العلماء فيهما. ونشرح ذلك ها هنا. أصحّ ما قيل في المعدودات: أنها ثلاثة أيام: بعد يوم النحر، وقيل المعدودات والمعلومات واحد، وهذا غلط لقوله جل وعز:
«فمن تعجّل في يومين»، والتقدير في العربية فمن تعجل في يومين منها، والمعنى في أيام معدودات لذكر الله تعالى. وأصحّ ما قيل (فيه) في المعلومات قول ابن عمر رحمه الله وهو مذهب أهل المدينة: إنها يوم النحر ويومان بعده لأن الله عزّ وجلّ قال:
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ [الحج: ٢٨] فلا يجوز أن يكون هذا إلّا الأيام التي ينحر فيها ولا يخلو يوم النحر من أن يكون أولها أو أوسطها أو آخرها فلو كان آخرها أو أوسطها لكان النحر قبله، وهذا محال فوجب أن يكون أولها. فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ «من» رفع بالابتداء والخبر: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ويجوز في غير القرآن فلا إثم عليهم لأن معنى «من» جماعة كما قال عزّ وجلّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: ٤٢]
(١) انظر الإنصاف مسألة ١١٢. [.....]
وكذا وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى يقال: بأيّ شيء اللام متعلقة؟ فالجواب وفيه أجوبة يكون التقدير المغفرة لمن اتقى وهذا على تفسير ابن مسعود، وقال الأخفش:
التقدير ذلك لمن اتّقى، وقيل التقدير السلامة لمن اتقى، وقيل، واذكروا يدلّ على الذكر فالمعنى الذكر لمن اتّقى.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٤]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قيل «من» هاهنا مخصوص، وقال الحسن: الكاذب، وقيل: الظالم وقيل: المنافق وقرأ ابن محيصن وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ «١» بفتح الياء والهاء. وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ الفعل مثل منه لددت تلدّ وعلى قول أبي إسحاق «٢» : خصام جمع خصم وقال غيره: وهو مصدر خاصم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٥]
وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥)
وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها منصوب بلام كي. وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ عطف عليه، وفي قراءة أبيّ. وليهلك الحرث وقرأ الحسن وقتادة ويهلك «٣» بالرفع وفي رفعه أقوال: يكون معطوفا على يعجبك، وقال أبو حاتم: هو معطوف على سعى لأن معناه يسعى ويهلك، وقال أبو إسحاق: التقدير هو يهلك أي يقدر هذا، وروي عن ابن كثير أنه قرأ ويهلك الحرث والنسل «٤» بفتح الياء وضم الكاف والحرث والنسل مرفوعان بيهلك.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)
ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ مفعول من أجله.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً في الكسائي: السّلم والسّلم واحد، وكذا هو عند أكثر البصريين إلّا أن أبا عمرو فرّق بينهما وقرأ هاهنا (ادخلوا في السّلم) «٥»
(١) انظر البحر المحيط ٢/ ١٢٢، وهي قراءة أبي حيوة أيضا.
(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٢٣٩.
(٣) انظر البحر المحيط ٢/ ١٢٣.
(٤) انظر البحر المحيط ٢/ ١٢٣.
(٥) انظر التيسير ٦٨.
وقال: هو في الإسلام وقرأ التي في «الأنفال» «١» والتي في «سورة محمد» «٢» صلّى الله عليه وسلّم «السّلم» بفتح السين، وقال: هي بالفتح المسالمة وقال عاصم الجحدري: «السّلم» الإسلام و «السّلم» الصّلح والسّلم الاستسلام ومحمد بن يزيد ينكر هذه التفريقات وهي تكثر عن أبي عمرو واللّغة لا تأخذ هكذا وإنما تأخذ بالسماع لا بالقياس ويحتاج من فرق إلى دليل، وقد حكى البصريون: بنو فلان سلم وسلم بمعنى واحد ولو صح التفريق لكان المعنى واحدا لأنه إذا دخل في الإسلام فقد دخل في المسالمة. والصّلح والسّلم مؤنثة وقد تذكّر. كَافَّةً نصب على الحال وهو مشتق من قولهم: كففت أي منعت أي لا يمتنع منكم أحد ومنه قيل: مكفوف وكفّة الميزان وقيل: كفّ لأنه يمتنع بها. وَلا تَتَّبِعُوا نهي. خُطُواتِ الشَّيْطانِ مفعول وقد ذكرناه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٩]
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ المصدر زلا وزللا ومزلّة وزلّ في الطين زليلا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٠]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠)
وقرأ قتادة وأبو جعفر يزيد بن القعقاع في ظلال من الغمام وقرأ أبو جعفر وَالْمَلائِكَةُ «٣» بالخفض وظلل جمع ظلّة في التكسير، وفي التسليم ظللات، وأنشد سيبويه: [الطويل] ٤٣-
إذا الوحش ضمّ الوحش في ظللاتها سواقط من حرّ وقد كان أظهرا «٤»
ويجوز ظللات وظلّات، وظلّال جمع ظلّ في الكثير، والقليل أظلال، ويجوز أن يكون ظلال جمع ظلّة وقيل: بل القليل أظلال، والكثير ظلال، وقيل: ظلال جمع ظلّة مثله قلّة وقلال كما قال: [الخفيف] ٤٤-
ممزوجة بماءه القلال «٥»
قال الأخفش سعيد: وَالْمَلائِكَةُ بالخفض بمعنى وفي الملائكة قال: والرفع أجود كما قال هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنعام: ١٥٨] وَجاءَ رَبُّكَ
(١) يشير إلى الآية ٦١: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ.
(٢) يشير إلى الآية ٣٥: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ.
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ١٢٤، والبحر المحيط ٢/ ١٢٥.
(٤) الشاهد للنابغة الجعدي في ديوانه ٧٤، وشرح شواهد الإيضاح ص ٤٨٤، والكتاب ١/ ١٠٦، ولسان العرب (سقط).
(٥) الشاهد للأعشى في ديوانه ص ٥٥، ولسان العرب (أسفط) و (سفط) و (عتق)، وتاج العروس (سنفط) و (عتق)، والمخصّص ١٧/ ١٩ وروايته: وكأن الخمر العتيق من الإرفنط ممزوجة بماء زلال.
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: ٢٢] قال الفراء «١» : وفي قراءة عبد الله هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام قال أبو إسحاق: التقدير في ظلل من الغمام ومن الملائكة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١١]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١)
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ بتخفيف الهمزة فلما تحركت السين لم تحتج إلى ألف الوصل.
كَمْ في موضع نصب لأنها مفعول ثان لآتيناهم، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار عائد ولم يعرب وهي اسم لأنها بمنزلة الحروف لما وقع فيها معنى الاستفهام. قال سيبويه: فبعدت من المضارعة بعد «كم» و «إذ» من المتمكنة. مِنْ آيَةٍ إذا فرقت بين كم وبي الاسم كان الاختيار أن تأتي بمن فإن حذفتها نصبت في الاستفهام والخبر، ويجوز الخفض في الخبر كما قال: [الرمل] ٤٥-
كم بجود مقرف نال العلى وكريم بخله قد وضعه «٢»
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٢]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا اسم ما لم يسمّ فاعله، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس «٣» زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا «٤» وهي قراءة شاذّة لأنه لم يتقدّم للفاعل ذكر. وَالَّذِينَ اتَّقَوْا ابتداء. فَوْقَهُمْ ظرف في موضع الخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٣]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)
كانَ النَّاسُ اسم كان. أُمَّةً خبرها. واحِدَةً نعت، قال أبو جعفر: قد ذكرنا
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ١٢٤.
(٢) الشاهد لأنس بن زنيم في ديوانه ص ١١٣، وخزانة الأدب ٦/ ٤٧١، والدرر ٤/ ٤٩، وشرح شواهد الشافية ص ٥٣، والمقاصد النحوية ٤/ ٤٩٣، ولعبد الله بن كريز في الحماسة البصرية ٢/ ١٠، وبلا نسبة في الإنصاف ١/ ٣٠٣، والدرر ٦/ ٢٠٤، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٣٠، وشرح الأشموني ٣/ ٦٣٥، وشرح عمدة الحفاظ ص ٥٣٤، وشرح المفصل ٤: ١٣٢، والكتاب ٢/ ١٦٨، والمقتضب ٣/ ٦١، والمقرّب ١/ ٣١٣، وهمع الهوامع ١/ ٢٥٥.
(٣) حميد بن قيس المكي الأعرج القارئ، ثقة، أخذ عرضا عن مجاهد (ت ٢٢٤ هـ) ترجمته في غاية النهاية ١/ ٢٦٥.
(٤) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ١٣١، والبحر المحيط ٢/ ١٣٨ وهي قراءة أبي حيوة أيضا. [.....]
قول أهل التفسير في المعنى، والتقدير في العربية: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين ودلّ على هذا الحذف وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي كان الناس على دين الحق فاختلفوا. فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي «مبشّرين» من أطاع و «منذرين» من عصى وهما نصب على الحال. وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ الكتاب بمعنى الكتب. لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ نصب بإضمار أن وهو مجاز مثل هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: ٢٩]، وقرأ عاصم الجحدري لِيَحْكُمَ شاذة لأنه قد تقدّم ذكر الكتاب. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ موضع الذين رفع بفعلهم والذين اختلفوا فيه هم المخاطبون. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول أهل التفسير فيه وربما أعدنا الشيء مما تقدّم لنزيده شرحا أو لنختار منه قولا. فمن أحسن ما قيل فيه: إن المعنى فهدى الله الذين آمنوا بأن بيّن لهم الحقّ مما اختلفت فيه من كان قبلهم، فأمّا الحديث «في يوم الجمعة فهم لنا تبع» «١» فمعناه فعليهم أن يتّبعونا لأن هذه الشريعة ناسخة لشرائعهم. قال أبو إسحاق «٢» : معنى بإذنه بعلمه. قال أبو جعفر: وهذا غلط وإنما ذلك الإذن والمعنى والله أعلم بأمره وإذا أذنت في الشيء فكأنك قد أمرت به أي فهدى الله الذين آمنوا بأن أمرهم بما يجب ن يستعملوه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٤]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْ تقوم مقام المفعولين: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ حذفت الياء للجزم وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ «٣» هذه قراءة أهل الحرمين، وقرأ أهل الكوفة والحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ بالنصب وهو اختيار أبي عبيد وله في ذلك حجّتان: إحداهما عن أبي عمرو: قال: «زلزلوا» فعل ماض و «يقول» فعل مستقبل فلما اختلفا كان الوجه النصب، والحجة الأخرى حكاها عن الكسائي، قال: إذا تطاول الفعل الماضي صار بمنزلة المستقبل. قال أبو جعفر: أما الحجّة الأولى بأنّ «زلزلوا» ماض و «يقول» مستقبل فشيء ليس فيه علّة الرفع ولا النصب لأن حتّى ليست من حروف العطف في الأفعال ولا هي البتّة من عوامل الأفعال وكذا قال الخليل وسيبويه «٤» : في نصبهم ما بعدها على إضمار «أن» إنما حذفوا أن لأنهم قد علموا أن حتى من عوامل الأسماء هذا معنى قولهما، وكأن هذه الحجة غلط وإنما تتكلم بها في
(١) أخرجه الطبري في تفسيره ٢/ ٣٣٨.
(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٢٤٧، والبحر المحيط ٢/ ١٤٧.
(٣) انظر التيسير ٦٨.
(٤) انظر الكتاب ٣/ ١٦، والإنصاف مسألة ٨٣.
باب الفاء. وحجة الكسائي: بأن الفعل إذا تطاول صار بمنزلة المستقبل كلا حجّة، لأنه لم يذكر العلّة في النصب ولو كان الأول مستقبلا لكان السؤال بحاله. ومذهب سيبويه «١» في «حتّى» أن النصب فيما بعدها من جهتين، والرفع من جهتين: تقول:
سرت حتّى أدخلها على أن السير والدخول جميعا قد مضيا أي سرت إلى أن أدخلها.
وهذا غاية وعليه قراءة من قرأ بالنصب، والوجه الآخر في النصب في غير الآية سرت حتى أدخلها أي كي أدخلها، والوجهان في الرفع سرت حتّى أدخلهما أي سرت فأدخلها وقد مضيا جميعا أي كنت سرت فدخلت ولا تعمل حتّى ها هنا بإضمار أن لأن بعدها جملة كما قال الفرزدق: [الطويل] ٤٦-
فيا عجبا حتّى كليب تسبّني كأنّ أباها نهشل أو مجاشع «٢»
فعلى هذه القراءة بالرفع وهي أبين وأصحّ معنى أي وزلزلوا حتى الرسول يقول أي حتى هذه حاله، لأن القول إنما كان عن الزلزلة غير منقطع منها والنصب على الغاية ليس فيه هذا المعنى، والوجه الآخر في الرفع في غير الآية سرت حتى أدخلها على أن يكون السير قد مضى والدخول الآن، وحكى سيبويه مرض حتّى ما يرجونه ومثله:
سرت حتّى أدخلها لا أمنع. مَتى نَصْرُ اللَّهِ رفع بالابتداء على قول سيبويه وعلى قول أبي العباس رفع بفعله أي متى يقع نصر الله. أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ اسم إنّ وخبرها ويجوز في غير القرآن إن نصر الله قريبا أي مكانا قريبا والقريب لا تثنّيه العرب ولا تجمعه ولا تؤنّثه في هذا المعنى قال عزّ وجلّ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: ٥٦] وقال الشاعر: [الطويل] ٤٧-
له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم قريب ولا بسباسة ابنة يشكرا «٣»
فإن قلت: فلان قريب، ثنّيت وجمعت فقلت: قريبون وأقرباء أو قرباء.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٥]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ وإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على السين ففتحتها وحذفت الهمزة فقلت: يسلونك. ماذا يُنْفِقُونَ «ما» في موضع رفع بالابتداء و «ذا»
(١) انظر الكتاب ٣/ ١٦.
(٢) الشاهد للفرزدق في ديوانه ٤١٩، وخزانة الأدب ٥/ ٤١٤، والدرر ٤/ ١١٢، وشرح شواهد المغني ١/ ١٢، وشرح المفصّل ٨: ١٨ ومغني اللبيب ١/ ١٢٩، وبلا نسبة في رصف المباني ص ١٨١، وشرح المفصل ٨/ ٦٢، والمقتضب ٢/ ٤١، وهمع الهوامع ٢/ ٢٤.
(٣) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ٦٨، ولسان العرب (قرب)، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٥/ ٢٣٢.
الخبر وهو بمعنى الذي وحذفت الياء لطول الاسم أي ما الذي ينفقونه وإن شئت كانت «ما» في موضع نصب بينفقون و «ذا» مع «ما» بمنزلة شيء واحد. قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ «ما» في موضع نصب بأنفقتم وكذا وما تنفقوا وهو شرط والجواب: فَلِلْوالِدَيْنِ وكذا وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٦]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ اسم ما لم يسمّ فاعله. وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ابتداء وخبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٧]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ وفي قراءة عبد الله عن قتال فيه وقراءة عكرمة «١» عن الشهر الحرام قتل فيه بغير ألف وكذا: قل قتل فيه كبير. وقرأ الأعرج ويسئلونك بالواو. عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قال أبو جعفر: الخفض عند البصريين على بدل الاشتمال، وقال الكسائي «٢» : هو مخفوض على التكرير أي عن قتال فيه، وقال الفراء «٣» : هو مخفوض على نيّة «عن»، وقال أبو عبيدة «٤» : هو مخفوض على الجوار. قال أبو جعفر: لا يجوز أن يعرب شيء على الجوار في كتاب الله عزّ وجلّ ولا في شيء من الكلام وإنما الجوار غلط وإنما وقع في شيء شاذّ وهو قولهم، هذا جحر ضبّ خرب. والدليل على أنه غلط قول العرب في التثنية: هذان جحرا ضبّ خربان، وإنما هذا بمنزلة الإقواء ولا يحمل شيء من كتاب الله عزّ وجلّ على هذا، ولا يكون إلّا بأفصح اللّغات وأصحّها، ولا يجوز إضمار «عن»، والقول فيه أنه بدل، وأنشد سيبويه: [الطويل] ٤٨-
فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنّه بنيان قوم تهدّما «٥»
(١) عكرمة مولى ابن عباس. وردت عنه الرواية في حروف القرآن، روى عن مولاه وابن عمر. عرض عليه عمرو بن العلاء (ت ١٠٥ هـ)، ترجمته في غاية النهاية ١/ ٥١٥.
(٢) انظر البحر المحيط ٢/ ١٥٤.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ١٤١، والبحر المحيط: ٢/ ١٥٤.
(٤) انظر مجاز القرآن ١/ ٧٢.
(٥) الشاهد لعبدة بن الطبيب في ديوانه ٨٨، والأغاني ١٤/ ٧٨، ٢١/ ٢٩، وخزانة الأدب ٥/ ٢٠٤، وديوان المعاني ٢/ ١٧٥، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٧٩٢، وشرح المفصل ٣/ ٦٥، والشعر والشعراء ٢/ ٧٣٢، والكتاب ١/ ٢٠٨، ولمرداس بن عبدة في الأغاني ١٤/ ٨٦.
فأمّا قتال فيه بالرفع فغامض في العربية. والمعنى فيه يسألونك عن الشهر الحرام أجائز قتال فيه فقوله: «يسألونك» يدلّ على الاستفهام كما قال: [الطويل] ٤٩-
أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلّل «١»
فالمعنى أترى برقا فحذف ألف الاستفهام لأن الألف التي في أصاح بدل منها وتدلّ عليها وإن كانت حرف النداء وكما قال «٢» :[المتقارب] ٥٠-
تروح من الحيّ أم تبتكر
والمعنى: أتروح فحذف الألف لأن أم تدلّ عليها. قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ابتداء وخبر. وَصَدٌّ ابتداء. عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ خفض بعن. وَكُفْرٌ بِهِ عطف على صدّ. وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ عطف على سبيل الله. وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ عطف على صدّ وخبر الابتداء. أكرم عند الله ووَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ابتداء وخبر أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام، وقيل: في المسجد الحرام عطف على الشهر أي ويسألونك عن المسجد فقال تعالى وإخراج أهله منه أكبر عند الله وهذا لا وجه له لأن القوم لم يكونوا في شكّ من عظيم ما أتى المشركون إلى المسلمين في إخراجهم من منازلهم بمكة فيحتاجوا إلى المسألة عنه هل كان ذلك لهم، ومع ذلك فإنه قول خارج عن قول العلماء لأنهم أجمعوا أنها نزلت في سبب قتل ابن الحضرمي «٣».
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اسم إن. وَالَّذِينَ هاجَرُوا عطف عليه: أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ابتداء وخبر في موضع خبر إنّ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ هذه قراءة أهل الحرمين وأبي
(١) الشاهد للأسود بن يعفر في ديوانه ص ٥٧، وشرح المفصّل ١/ ٤٦، ولسان العرب (خلد)، و (حجا)، ونوادر أبي زيد ص ١٦٠، ولامرئ القيس في ديوانه ص ٢٤، ولسان العرب (كلل)، وبلا نسبة في الاشتقاق ص ٢٤٤، وإصلاح المنطق ص ٤٠٣، وأمالي ابن الحاجب ص ٣٢٨، وجمهرة اللغة ص ٤٤٢، ٦٥٧، ١٠٣٧.
(٢) مرّ الشاهد رقم (٧). [.....]
(٣) ابن الحضرميّ: هو عمرو بن الحضرمي وهو أول قتيل من المشركين (البحر المحيط ٢/ ١٥٥).
عمرو بن العلاء، وقرأ الكوفيون كثير «١» وإجماعهم على حُوباً كَبِيراً [النساء:
٢] يدلّ على أن كبيرا أولى أيضا فكما يقال: إثم صغير كذا يقال: كبير ولو جاز كثير لقيل: إثم قليل وأجمع المسلمون على قولهم: كبائر وصغائر. وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ هكذا قرأ أهل الحرمين وأهل الكوفة، وقرأ أبو عمرو وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق قُلِ الْعَفْوَ بالرفع. قال أبو جعفر: إن جعلت «ذا» بمعنى الذي كان الاختيار الرفع وجاز النصب، وإن جعلت ما وذا شيئا واحدا كان الاختيار النصب وجاز الرفع، وحكى النحويون: ماذا تعلّمت أنحوا أم شعرا؟ بالنصب والرفع على أنهما جيدان حسنان إلا أن التفسير في الآية يدلّ على النصب. قال ابن عباس: الفضل، وقال:
العفو ما يفضل عن أهلك فمعنى هذا ينفقون العفو، وقال الحسن: المعنى قل أنفقوا العفو، وقال أبو جعفر: وقد بيّنا لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدّنيا والآخرة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٠]
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ابتداء وخبر. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ شرط وجوابه، والتقدير: فهم إخوانكم، ويجوز في غير القرآن فإخوانكم، والتقدير: فتخالطون إخوانكم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢١]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ يقال: نكح ينكح إذا وطئ هذا الأصل ثم استعمل ذلك لمن تزوّج ويجوز ولا تنكحوا أي لا تزوّجوا بضم التاء ولا تنكحوا المشركين أي ولا تزوّجوهم، وكل من كفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فهو مشرك يدلّ على ذلك القرآن، وسنذكره إن شاء الله في موضعه. وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ ابتداء وخبر وكذا أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وكذا وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وكذا وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ في قراءة الحسن «٢»، وفي قراءة أبي العالية «٣» وَالْمَغْفِرَةِ «٤» عطفا على الجنة.
(١) انظر البحر المحيط ٢/ ١٦١ (وهي قراءة حمزة والكسائي).
(٢) انظر البحر المحيط ٢/ ١٧٦.
(٣) أبو العالية: رفيع بن مهران الرياحي، تابعي، عرض على أبيّ وابن عباس وعمر (ت ٩٠ هـ). ترجمته في غاية النهاية ١/ ٢٨٤.
(٤) انظر البحر المحيط ٢/ ١٧٦.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٢ الى ٢٢٣]

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ محيض مصدر ومثله جاء مجيئا وقال مقيلا. قُلْ هُوَ أَذىً ابتداء وخبر، وأذى من ذوات الياء. يقال: أذيت به أذى وأذاني وهما آذياني. وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ لم تحذف النون للنصب لأنها علامة التأنيث وقد ذكرناه. فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ «حيث» في العربية للموضع فتأوّل قوم هذا على ما يجب في العربية أنه موضع بعينه وهو الفرج، وقال قوم: قد بيّن ذلك الموضع بقوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فإنّى شئتم وهو الذي أمر به. وأما قول مجاهد من حيث نهوا عنه في محيضهنّ فيدلّ على أنه جعل الأمر والنهي شيئا واحدا، وهذا مردود. «أنّى» ظرف وحقيقته: من أين شئتم، وقيل: كيف شئتم وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ أي الطاعة ثم حذف المفعول. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ حذفت النون للإضافة لأنه بمعنى المستقبل.
وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن ابن عباس قال سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يخطب يقول: «إنّكم ملاقو الله حفاة عراة مشاة غرلا» «١» ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٤]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ نهي قال ابن عباس «٢» : يحلف أن لا يصل ذا قرابته. أَنْ تَبَرُّوا في موضع نصب، وإن شئت في موضع خفض، وإن شئت في موضع رفع فالنصب على ثلاث تقديرات منها: في أن تبرّوا ثم حذف «في» فتعدّى الفعل، ومنها: كراهة أن تبرّوا ثم يحذف، ومنها: لئلا تبرّوا والخفض في جهة واحدة على قول الخليل والكسائي يكون في أن تبرّوا فأضمرت «في» وخفضت بها والرفع بالابتداء وحذفت الخبر، والتقدير أن تبرّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس أولى أو أمثل مثل طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ [محمد: ٢١].
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٥]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ يقال: لغا يلغوا أو يلغى لغوا ولغي يلغى لغى إذا
(١) أخرجه الترمذي في سننه (القيامة ٩/ ٢٥٦)، والقرطبي في تفسير ٣٥/ ٩٦.
(٢) انظر البحر المحيط ٢/ ١٨٧.
أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام أو بما لا خير فيه أو بما لا يلغى إثمه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٦]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ أي يحلفون والمصدر إيلاء وأليّة وألوة وإلوة. تَرَبُّصُ رفع بالابتداء أو بالصفة. أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أثبت الهاء لأنه عدد لمذكر وقد ذكرنا علّته «١».
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٨]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ أثبت الهاء أيضا لأنه عدد لمذكر، الواحد قرء، والتقدير عند سيبويه «٢» ثلاثة أقراء من قروء لأن قروءا للكثير عنده، وقد زعم بعضهم أن ثلاثة قروء لما كانت بالهاء دلت الهاء على أنها أطهار وليست لحيض، قال:
ولو كانت حيضا لكانت ثلاثة قروء. وهذا القول خطأ قبيح لأن الشيء الواحد قد يكون له اسمان مذكر ومؤنث نحو دار ومنزل، وهذا بيّن كثير، وقد قال الله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال إبراهيم النخعي: يعني الحيض وهذا من أصحّ قول، وهكذا كلام العرب، والتقدير: والمطلقات يتربّصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من القروء أي من الحيض، ومحال أن يكون هاهنا الطهر لأنه إنما خلق الله جلّ وعزّ في أرحامهن الحيض والولد، ولم يجر هاهنا للولد ذكر فوجب أن يكون الحيض ومن الدليل على أنّ القرء الحيضة في قول الله جلّ وعزّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ فقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: ١] والطلاق في الطهر. ولا يخلو قوله جلّ وعزّ لعدّتهنّ من أن يكون معناه قبل عدتهنّ أو بعدها أو معها ومحال أن يكون معها أو بعدها فلمّا وجب أن يكون قبلها وكان الطهر كلّه وقتا للطلاق وجب أن يكون بعده وليس بعده إلّا الحيض، والتقدير في العربية ليعتددن.
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ابتداء وخبر، وبعولة جمع بعل والهاء لتأنيث الجماعة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٩]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
الطَّلاقُ مَرَّتانِ ابتداء وخبر، والتقدير عدد الطلاق الذي تملك معه الرجعة مرتان. فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ ابتداء والخبر محذوف أي فعليكم إمساك بمعروف ويجوز في
(١) انظر إعراب القرآن للزجاج ٢٦٤، وإعراب الآية ١٩٦، البقرة.
(٢) انظر الكتاب ٤/ ٥٤.
113
غير القرآن فإمساكا على المصدر. وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً أن في موضع رفع بيحل. إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وقرأ أبو جعفر يزيد ابن القعقاع وحمزة. إِلَّا أَنْ يَخافا «١» بضم الياء وهو اختيار أبي عبيد قال: لقوله «فإن خفتم» فجعل الخوف لغيرهم ولم يقل: فإن خافا، وفي هذا حجّة لمن جعل الخلع إلى السلطان. قال أبو جعفر: أنا أنكر هذا الاختيار على أبي عبيد وما علمت في اختياره شيئا أبعد من هذا الحرف لأنه لا يوجب الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى ما اختاره فأما الإعراب فإنه يحتجّ له بأنّ عبد الله بن مسعود قرأ. إلّا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله «٢» فهذا في العربية إذا ردّ إلى ما لم يسمّ فاعله قيل إلّا أن يخاف أن لا يقيم حدود الله وأما اللفظ فإن كان على لفظ يخافا وجب أن يقال: فإن خيف وإن كان على لفظ فإن خفتم وجب أن يقال: إلّا أن تخافوا وأمّا المعنى فإنه يبعد أن يقال: لا يحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئا إلّا أن يخاف غيركم ولم يقل تعالى فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية فيكون الخلع إلى السلطان، وقد صحّ عن عمر وعثمان وابن عمر أنهم أجازوا الخلع بغير السلطان. وقال القاسم بن محمد إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ ما يجب عليهما في العشرة والصحبة فأما فإن خفتم وقبله «إلا أن يخافا» فهذا مخاطبة الشريعة وهو من لطيف كلام العرب أي فإن كنتم كذا فإن خفتم ونظيره فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [البقرة: ٢٣٢] لأن الولي يعضل غيره ونظيره وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [المجادلة: ٣] وأَنْ يَخافا في موضع نصب استثناء ليس من الأول «ألا يقيما» في موضع نصب أي من أن لا يقيما وبأن لا يقيما وعلى أن لا، فلما حذف الحرف تعدّى الفعل وقول من قال: يخافا بمعنى يوقنا لا يعرف، ولكن يقع النشوز فيقع الخوف من الزيادة. أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أكثر العلماء وأهل النظر على أن هذا للمرأة خاصة لأنها التي لا تقيم حدود الله في نشوزها وهذا معروف في كلام العرب بيّن في المعقول ولو أن رجلا وامرأة اجتمعا فصلّى الرجل ولم تصلّ المرأة لقلت ما صلّيا وهذا لا يكون إلّا في النفي خاصة. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ يقال: إنما الجناح على الزوج فكيف قال عليهما؟ فالجواب أنه قد كان يجوز أن يحظر عليهما أن يفتدي منه فأطلق لها ذلك وأعلم أنه لا إثم عليهما جميعا، وقال الفراء «٣» : قد يجوز أن يكون فلا جناح عليهما للزوج وحده مثل يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرّحمن: ٢٢]. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ في موضع جزم بالشرط فلذلك حذفت منه الألف، والجواب فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
(١) انظر التيسير الداني ٦٩.
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١/ ١٤٥، والبحر المحيط ٢/ ٢٠٦.
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ١٤٧ والبحر المحيط ٢/ ٢٠٨.
114

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٠]

فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)
فَإِنْ طَلَّقَها أي فإن طلقها الثالثة: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد الثالثة حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ وبيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ النكاح ها هنا الجماع وكذلك أصله في اللغة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣١]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ في إذا معنى الشرط فلذلك تحتاج إلى جواب، والجواب فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً مفعول من أجله أي من أجل الضرار لِتَعْتَدُوا نصب بإضمار أن. وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً مفعولان.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٢]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ ولم يقل: ذلكم لأنه محمول على معنى الجميع ولو كان ذلكم كان مثل ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٣]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)
وَالْوالِداتُ ابتداء. يُرْضِعْنَ في موضع الخبر وفعل المولود رضع يرضع فهو راضع حَوْلَيْنِ ظرف زمان ولا يجوز أن يكون الفعل في أحدهما. هذا قول سيبويه.
وقرأ مجاهد وحميد بن قيس وابن محيصن لمن أراد أن تتمّ الرّضاعة «١» بفتح التاء الأولى ورفع الرضاعة بعدها. قال أبو جعفر: ويجوز لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ بالياء لأن الرّضاعة والرّضاع واحد ولا يعرف البصريون: الرضاعة إلا بفتح الراء والرضاع إلا بكسر الراء مثل القتال، وحكى الكوفيون كسر الراء مع الهاء وفتحها بغير هاء وقد قرأ أبو رجاء وكان فصيحا لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ «٢» وقرأ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ بفتح
(١) هذه قراءة الحسن وأبي رجاء أيضا، انظر البحر المحيط ٢/ ٢٣٢.
(٢) هذه قراءة الجارود بن أبي سبرة أيضا، انظر مختصر ابن خالويه ١٤. [.....]
التاء. لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها في موضع جزم بالنهي وفتحت الراء لالتقاء الساكنين ويجوز كسرها وهي قراءة، وقرأ أبو عمرو لا تُضَارَّ «١» جعله خبرا بمعنى النهي وهذا مجاز والأول حقيقة. وروى أبان «٢» عن عاصم لا تضارر والدة وهذه لغة أهل الحجاز. قال أحمد بن يحيى: يجوز أن يكون تقدير «لا تضارّ والدة» لا تضارر ثم أدغم. قال أبو جعفر: لا تضارّ والدة اسم ما لم يسمّ فاعله إذا كان التقدير لا تضارر وإن كان التقدير لا تضارر كانت رفعا بفعله. وَلا مَوْلُودٌ عطف عليها بالواو ولا توكيد. وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ رفع بالابتداء أو الصفة. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ التقدير في العربية وإن أردتم أن تسترضعوا أجنبية لأولادكم وحذفت اللام لأنه يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف وأنشد سيبويه: [البسيط] ٥١-
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب «٣»
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٤]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يقال أين خبر «الذين» ففيه أقوال قال الأخفش سعيد: التقدير: والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا يتربّصن بأنفسهنّ بعدهم أو بعد موتهم، ثم حذف هذا كما يحذف شيء كثير، وقال الكسائي: في التقدير يتربّص أزواجهم كما قال جلّ وعزّ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً... لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً [التوبة: ١٠٧، ١٠٨] أي لا تقم في مسجدهم وقال الفراء «٤» : إذا ذكرت أسماء ثم ذكرت أسماء مضافة إليها فيها معنى الخبر وكان الاعتماد في الخبر على الثاني أخبر عن الثاني وترك الأول. قال أبو إسحاق: هذا خطأ لا يجوز أن يبتدأ باسم ولا يحدّث عنه.
قال أبو جعفر: ومن أحسن ما قيل فيها قول أبي العباس محمد بن يزيد قال: التقدير:
(١) انظر تيسير الداني ٦٩.
(٢) أبان بن تغلب الربعي الكوفي النحوي، قرأ على عاصم (ت ١٤١ هـ)، ترجمته في (مشاهير علماء الأمصار لابن حبان ١٦٤، وغاية النهاية لابن الجزري ١/ ٤).
(٣) الشاهد لعمرو بن معدي كرب في ديوانه ص ٦٣، وخزانة الأدب ٩/ ١٢٤، والدرر ٥/ ١٨٦، وشرح شواهد المغني ص ٧٢٧، والكتاب ١/ ٧٢، ومغني اللبيب ص ٣١٥، ولخفاف بن ندبة في ديوانه ص ١٢٦، وللعباس بن مرداس في ديوانه ص ١٣١، ولأعشى طرود في المؤتلف والمختلف ص ١٧، وهو لأحد الأربعة السابقين أو لزرعة بن خفاف في خزانة الأدب ١/ ٣٣٩، ولخفاف بن ندبة أو للعباس بن مرداس في شرح أبيات سيبويه ١/ ٢٥٠، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤/ ١٦، وشرح شذور الذهب ٤٧٧، وشرح المفصّل ٨/ ٥٠ وكتاب اللامات ص ١٣٩، والمحتسب ١/ ٥١، والمقتضب ٢/ ٣٦.
(٤) انظر معاني الفراء ١/ ١٥٠.
والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا أزواجهم يتربّصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ثم حذف كما قال الشاعر: [الطويل] ٥٢-
وما الدّهر إلّا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح «١»
وفيها قول رابع يكون التقدير وأزواج الذين يتوفّون منكم وقد ذكرنا وعشرا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٥]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ خطبة وخطب واحد، والخطبة ما كان لها أول وآخر، وكذا ما كان على فعلة نحو الأكلة والضغطة. أَوْ أَكْنَنْتُمْ يقال:
أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك، وكننته: صنته ومنه كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات: ٤٩] هذه أفصح اللغات. وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي على سرّ حذف الحرف لأنه مما يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف، ويجوز أن يكون في موضع الحال. إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً استثناء ليس من الأول. وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ أي على عقدة النكاح ثم حذف «على» كما تقدّم «٢» وحكى سيبويه «٣» : ضرب فلان الظهر والبطن أي «على»، قال سيبويه: والحذف في هذه الأشياء لا يقاس. قال أبو جعفر: ويجوز أن يكون المعنى ولا تعقدوا عقدة النكاح لأن معنى تعقدوا وتعزموا واحد ويقال: تعزموا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٦]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ «٤» ويقرأ قدره «٥» وأجاز الفراء:
(١) الشاهد لتميم بن مقبل في ديوانه ٢٤، وحماسة البحتري ص ١٢٣، والحيوان ٣/ ٤٨، وخزانة الأدب ٥/ ٥٥، والدرر ٦/ ١٨، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ١١٤، وشرح شواهد الإيضاح ص ٦٣٤، والكتاب ٢/ ٣٦٥، ولسان العرب (كدح)، ولعجير السلولي في سمط اللآلي ص ٢٠٥، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١٠/ ١٧٥، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٤٧، ولسان العرب (تور)، والمحتسب ١/ ١١٢، والمقتضب ٢/ ١٣٨، وهمع الهوامع ٢/ ١٢٠.
(٢) تقدّم ذكره في إعراب الآية ١٣٠.
(٣) انظر الكتاب ١/ ٢١١.
(٤) هذه قراءة ابن كثير وأبي بكر (بسكون الدال). انظر البحر المحيط ٢/ ٢٤٢.
(٥) بفتح الدال، قراءة حمزة والكسائي وابن عامر وحفص ويزيد وروح، انظر البحر المحيط ٢/ ٢٤٢.
قدره «١» قال أبو جعفر: حكى أكثر أهل اللغة أن قدرا أو قدرا بمعنى واحد، وقال بعضهم: القدر بالتسكين الوسع. يقال فلان ينفق على قدره أي على وسعه. وأكثر ما يستعمل القدر بالتحريك للشيء إذا كان مساويا للشيء. يقال: هذا على قدر هذا. فأما النصب فلأنّ معنى متّعوهنّ وأعطوهن واحد. مَتاعاً مصدر ويجوز أن يكون حالا أي قدره في هذه الحال.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٧]
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي فعليكم، ويجوز النصب في غير القرآن أي فأدّوا نصف ما فرضتم ويقال: نصف ونصف بمعنى نصف. إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ في موضع نصب بأن وعلامة النصب فيه مطّرحة لأنه مبني وقد ذكرنا نظيره، إلّا أنا نزيده شرحا فقول سيبويه «٢» : إنه إنما بني لما زادوا فيه ولأنه مضارع للماضي، والماضي مبنيّ فبني كما يبنى الماضي ومثّل هذا سيبويه بأن الأفعال أعربت لأنها مضارعة للأسماء والفعل بالفعل أولى من الفعل بالاسم، وهذا مما يستحسن من قول سيبويه. وقال الكوفيون «٣» : كان سبيله أن يحذف منه النون ولكنها علامة فلو حذفت لذهب المعنى، وقال محمد بن يزيد: اعتلّ هذا الفعل من ثلاث جهات والشيء إذا اعتلّ من ثلاث جهات بني منها أنّه فعل وأنه لجمع وأنه لمؤنث. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يسأل عن هذا فقال:
هو غلط من قول أبي العباس: لأنا لو سمّينا امرأة بفرعون لم نبنه. أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ معطوف. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ابتداء وخبر والأصل يعفوا وأسكنت الواو الأولى لثقل الحركة فيها ثم حذفت لالتقاء الساكنين. وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قال طاوس: اصطناع المعروف. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ضمة هذه الواو في اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ «٤».
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٨]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨)
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى قد ذكرناه «٥»، ونزيده شرحا. قرأ الرّؤاسي «٦» : حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى بالنصب أي والزموا الصلاة
(١) انظر معاني الفراء ١/ ١٥٣.
(٢) انظر الكتاب ١/ ٤٥.
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ١٥٤.
(٤) راجع إعراب الآية ١٦- البقرة.
(٥) يعني في معاني القرآن. [.....]
(٦) أبو جعفر الرؤاسي: محمد بن الحسن الكوفي النحوي، إمام مشهور، روى الحروف عن أبي عمرو، وله اختيار في القراءة، يروى عنه، واختيار في الوقوف، روى عنه الكسائي والفراء. ترجمته في غاية النهاية ٢/ ١١٦ ونزهة الألباء ٥٠.
الوسطى وفي حرف ابن مسعود وعلى الصلاة الوسطى وروي عن ابن عباس والصلاة الوسطى صلاة العصر «١». وهذه القراءة على التفسير لأنها زيادة في المصحف، والحديث المرويّ في القراءة والكتابة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر لا يوجب أن يكون الوسطى خلاف العصر كما أنّ قوله عزّ وجلّ: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرّحمن: ٦٨] أن يكون النخل والرمان خلاف الفاكهة كما قال الشاعر: [الكامل] ٥٣-
النّازلون بكلّ معترك والطّيّبون معاقد الأزر «٢»
ليس الطّيّبون فيه خلاف النازلين، وحكى سيبويه: مررت بزيد أخيك وصديقك، والصديق هو الأخ. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا احتجاج من قال: إن الصلاة الوسطى العصر لأنها بين الصلاتين من صلاة النهار وصلاتين من صلاة الليل وأجود من هذا الاحتجاج أن يكون قيل لها: الوسطى لأنها بين صلاتين إحداهما أول ما فرض والأخرى الثالثة مما فرض وحجّة من قال إنها الصبح: أنها بين صلاتين من صلاة النهار وصلاتين من صلاة الليل وحجة من قال إنها الظهر: أنها في وسط النهار وقال قوم:
هي العشاء الآخرة وقال قوم: هي المغرب لأنها بين صلاتين من النهار وصلاتين من الليل. وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ منصوب على الحال وقد بينا معناه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٩]
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
فَإِنْ خِفْتُمْ شرط، وجوابه ما قلنا فَرِجالًا نصب على الحال أي فصلّوا رجالا، والمعنى: فإن خفتم أن تقوموا لله قانتين فصلّوا مشاة أو ركبانا. قال أبو جعفر: يقال:
راجل ورجلان ورجل بمعنى واحد وفي الجمع لغات يقال: رجّالة رجال مثل صاحب وصحاب كما قال: [الطويل] ٥٤-
وقال صح ابي: قد شأونك فاطلب «٣»
ويجوز أن يكون رجال جمع رجل بمعنى راجل، ويقال في الجمع: رجّال مثل
(١) انظر البحر المحيط ٢/ ٢٥٠.
(٢) مرّ الشاهد رقم (٣٣).
(٣) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ٥٠، ولسان العرب (صحب) (شأى)، والتنبيه والإيضاح ١/ ١٠٢، وبلا نسبة في ديوان الأدب ١/ ٤٥٤، وصدره:
«فكان تدانينا وعقد عذاره»
كاتب وكتاب، ويقال: رجل مثل تاجر وتجر، ويقال: راجل ورجلة ورجلة اسم للجمع، وكذا رجال مخفّف ويقال: رجالي رجالي ورجلي جمع رجلان. فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فقوموا لله قانتين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٠]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ الذين في موضع رفع إن شئت بالابتداء، والتقدير يوصون وصيّة. والمعنى ليوصوا وصيّة، وإن شئت كان الذين رفعا بإضمار فعل أي يوصّي الذين يتوفّون منكم وصيّة، وفي الرفع وجه ثالث أي وفيما فرض عليكم الذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا يوصون وصيّة لأزواجهم والذين مبنيّ على حال واحدة لأنه لا تتمّ إلّا بصلة ويقال: الّذون في موضع الرفع ومن قرأ وصية «١» بالرفع فتقديره والذين يتوفّون منكم عليهم وصيّة لأزواجهم، مَتاعاً مصدر عند الأخفش وعند أبي العباس أي ذوي متاع. غَيْرَ إِخْراجٍ في نصبه ثلاثة أوجه: قال الفراء «٢» : أي من غير إخراج، وقال الأخفش: هو مصدر أي لا إخراجا ثم جعل: «غير» في موضع «لا» وقيل: هو حال أي غير ذوي إخراج، والمعنى يوصون بهنّ غير مخرجين لهنّ وهذا كلّه منسوخ بالربع والثمن [النساء: ١٢] وأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: ٢٣٤] و «لا وصيّة لوارث». فَإِنْ خَرَجْنَ شرط والجواب فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤١]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا قال الأخفش: هو مصدر أي أحقّ ذلك حقا. قال أبو جعفر: عَلَى متعلّقة بالفعل المحذوف أي يحق ذلك على المتّقين حقا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ هذه ترى من رؤية القلب أي ألم تتنبّه على هذا وألم يأتك علمه والأصل الهمز فترك استخفافا. حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول من أجله وهو مصدر. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ اسم إنّ وخبرها واللام زائدة للتوكيد.
(١) انظر البحر المحيط ٢/ ٢٥٤، (قرأ بها الحرميان والكسائي وأبو بكر، لكن باقي السبعة قرءوها بالنصب).
(٢) انظر معاني الفراء ١/ ١٥٦.
وأصل ذي ذوى فاعلم وقد نطق القرآن به على الأصل قال الله عزّ وجلّ: ذَواتا أَفْنانٍ [الرّحمن: ٤٨]. ومعنى لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ها هنا أنه أحيا هؤلاء بعد الموت وأراهم الآية العظمى.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٤]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أمر، أي لا تهربوا كما هرب هؤلاء. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اسم «أنّ» وخبرها أي يسمع قولكم إن قلتم مثل ما قال هؤلاء ويعلم مرادكم به.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٥]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ «من» رفع بالابتداء، وخبره «ذا» و «الذي» نعت لذا، وإن شئت بدل. يُقْرِضُ اللَّهَ اسم للمصدر وأصل قرضت قطعت، ومنه سمي المقراضان ومنه تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ [الكهف: ١٧]، فمعنى أقرضت الرجل أعطيته قطعة من مالي. فيضاعفه له «١» عطف على يقرض وإن شئت كان مستأنفا وقرأ ابن أبي إسحاق والأعرج فَيُضاعِفَهُ لَهُ نصبا وقد روي أيضا هذا عن عاصم والنصب على جواب الاستفهام. وأَضْعافاً بمعنى المصدر. كَثِيرَةً من نعته. وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وإن شئت قلبت السين صادا لأن بعدها طاء.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٦]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ قيل: الملأ الأشراف لأنهم مليئون بما يدخلون فيه. إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جزم لأنه جواب الطلب والطلب في لفظ الأمر، ويجوز نقاتل في سبيل الله ورفعا بمعنى نحن نقاتل أي فإنّا ممّن يقاتل، ومن قرأ بالياء يقاتل «٢» فالوجه عنده الرفع لأنه نعت لملك. قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ قال أبو حاتم: ولا وجه لعسيتم، وقد قرأ الحسن به ونافع وطلحة «٣» ابن مصرّف ولو كان
(١) هذه قراءة نافع وحمزة والكسائي بالألف ورفع الفاء، وقرأ عاصم بالألف ونصب الفاء، انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ١٨٥. والبحر المحيط ٢/ ٢٦١.
(٢) قراءة الضحاك وابن أبي عيلة بالياء، انظر البحر المحيط ٢/ ٢٦٣.
(٣) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ١٨٦.
كذا لقرئت «فعسي الله». قال أبو جعفر: حكى يعقوب بن السّكيت وغيره أنّ «عسيت» لغة ولكنها لغة رديئة فإذا قال عسى الله ثم قال: فهل عسيتم استعمل اللغتين جميعا إلّا أنه ينبغي له أن يقرأ بأفصح اللغتين وهي فتح السين. إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ شرط. أَلَّا تُقاتِلُوا في موضع نصب. قال أبو إسحاق: أي هل عسيتم مقاتلة قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال الأخفش: أن زائدة. وقال الفراء «١» : هو محمول على المعنى، أي وما منعنا كما تقول: ما لك ألّا تصلي، أي ما منعك، وقيل: المعنى وأيّ شيء لنا في ألّا نقاتل في سبيل الله، وهذا أجودها. وأنزل في موضع نصب. وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا أي سبيت ذرارينا. تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ استثناء.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٧]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً «طالوت» مفعول، ولم ينصرف لأنه أعجمي وكذا داوود وجالوت، ولو سمّيت رجلا بطاووس وراقود لصرفت وإن كانا أعجميّين، والفرق بين هذا وبين الأول أنك تقول: الطاوس فتدخل فيه الألف واللام فتمكّن في العربية، ولا يكون هذا في ذاك. ملك السماوات نصب على الحال.
قالُوا أَنَّى من أي جهة وهي في موضع نصب على الظرف الْمُلْكُ عَلَيْنا رفع اسم يكون. وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ابتداء وخبره. وَلَمْ يُؤْتَ جزم بلم فلذلك حذفت منه الألف. سَعَةً مِنَ الْمالِ خبر ما لم يسمّ فاعله.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٨]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨)
إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ اسم «إن» وخبرها أي إتيان التابوت والآية في التابوت على ما روي أنه كان يسمع فيه أنين فإذا سمع ذلك ساروا نحوهم وإذا هدأ الأنين لم يسيروا ولم يسر التابوت. ولغة الأنصار التابوه بالهاء. وروي عن زيد بن ثابت «٢» (التّبوت). فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ رفع بالابتداء أو بالاستقرار فيجوز أن
(١) انظر معاني الفراء ١/ ١٦٣، والبحر المحيط ٢/ ٢٦٤.
(٢) زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، صحابي، كان كاتب الوحي. كان رأسا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض. كان أحد الذين جمعوا القرآن في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الأنصار، وهو الذي كتبه في المصحف لأبي بكر ثم لعثمان (ت ٤٥ هـ)، ترجمته في غاية النهاية ١/ ٢٩٦، وصفة الصفوة ١/ ٢٩٤.
تكون السكينة شيئا فيه وكذا البقيّة، ويجوز أن يكون التابوت في نفسه سكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، والأصل في آل أهل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٩]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)
قرأ حميد بن قيس إنّ الله مبتليكم بنهر بإسكان الهاء. وهي لغة، إلّا أن الكوفيين يقولون: ما كان ثانيه أو ثالثه حرفا من حروف الحلق كان لك أن تسكّنه وأن تحرّكه نحو نهز وسمع ولحم فأما البصريون فيتبعون في هذا اللغة السماع من العرب ولا يتجاوزون ذلك. إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً «من» في موضع نصب بالاستثناء واختار أبو عبيد: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً «١» بضم الغين قال: لأنه لم يقل: غرف وإنما هو الماء بعينه.
قال أبو جعفر: الفتح في هذا أولى لأن الغرفة بالضم هي ملء الشيء يقع للقليل والكثير والغرفة بالفتح المرة الواحدة وسياق الكلام يدلّ على القليل فالفتح أشبه. فأما قول أبي عبيد أنه اختاره لأنه لم يقل: غرف فمردود لأن غرف واغترف بمعنى احد.
فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ استثناء. فَلَمَّا جاوَزَهُ الهاء تعود على النهر «وهو» توكيد «والذين» في موضع رفع عطف على المضمر في جاوزه ويقبح أن تعطف على المضمر المرفوع حتى تؤكّده لأنه لا علامة له فكأنك عطفت على بعض الفعل فإذا وكّد به والتوكيد هو الموكّد فكأنك جئت به منفصلا. قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ طاقة وطوق اسمان بمعنى الإطاقة. كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ لو حذفت من لكان الاختيار الخفض لأنه خبر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥١]
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١)
وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ قيل: من ذلك منطق الطير وعمل الدروع. ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض «٢» اسم «الله» تعالى في موضع رفع بالفعل لولا أن يدفع
(١) هذه قراءة الكوفيين وابن عامر، انظر تيسير الداني ٦٩.
(٢) هذه قراءة نافع ويعقوب وسهل، انظر تيسير الداني ٦٩، والبحر المحيط ٢/ ٢٦٩.
و (دفاع) مرفوع بالابتداء عند سيبويه «١». «الناس» مفعولون. «بعضهم» بدل من الناس «ببعض» في موضع المفعول الثاني عند سيبويه «٢» وهو عنده مثل قولك: ذهبت بزيد، فبزيد في موضع مفعول واختار أبو عبيد وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ وأنكر دفاع وقال: لأن الله تعالى لا يغالبه أحد. قال أبو جعفر: القراءة بدفاع حسنة جيدة وفيها قولان قال أبو حاتم: دافع ودفع واحد يذهب إلى أنه مثل طارقت النعل، وأجود من هذا وهو مذهب سيبويه لأن سيبويه قال: وعلى ذلك دفعت الناس بعضهم ببعض، ثم قال: ومثل ذلك ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض. قال أبو جعفر: هكذا قرأت على أبي إسحاق في كتاب سيبويه أن يكون «دفاع» مصدر دفع كما تقول: حسبت الشيء حسابا ولقيته لقاء وهذا أحسن فيكون دفاع ودفع مصدرين لدفع.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٢]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)
تِلْكَ ابتداء. آياتُ اللَّهِ خبره، وإن شئت كانت بدلا والخبر. نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ خبر «إنّ» أي وإنك لمرسل.
تم الجزء الثاني «٣» من كتاب إعراب القرآن والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على النبي محمد وآله الكرام الأبرار وسلم
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٣]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ تلك لتأنيث الجماعة وهي رفع بالابتداء.
بِالرُّسُلِ نعت وخبر الابتداء الجملة. وعند الكوفيين «تلك» رفع بالعائد كما تقول:
زيد كلّمت أباه. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ حذفت الهاء لطول الاسم، والمعنى من كلّمه الله ومن لموسى صلّى الله عليه وسلّم قال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: ١٦٤]. وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ هاهنا على مذهب ابن عباس والشّعبيّ ومجاهد محمد صلّى الله عليه وسلّم «بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلّت لي
(١) انظر الكتاب ٢/ ١٢٨. [.....]
(٢) انظر الكتاب ١/ ٢٠٥.
(٣) حسب تقسيم المؤلف.
الغنائم وأعطيت الشفاعة» «١». ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجرة وإطعامه خلقا عظيما من تميرات ودرور شاة أم معبد بعد جفاف. وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ مفعولان. وَلكِنِ اخْتَلَفُوا كسرت النون لالتقاء الساكنين ويجوز حذفها لالتقاء الساكنين في غير القرآن وأنشد سيبويه: [الطويل] ٥٥-
فلست بآتيه ولا أستطيعه ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل «٢»
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ «من» في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ: الجملة في موضع رفع نعت لليوم فإن شئت رفعت فقلت لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ تجعل «لا» بمعنى «ليس» أو بالابتداء وإن شئت نصبت على التّبرئة وقد ذكرناه قبل هذا «٣». وَالْكافِرُونَ ابتداء.
هُمُ ابتداء ثان. الظَّالِمُونَ خبر الثاني وإن شئت كانت «هم» زائدة للفصل والظالمون خبر الكافرون.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٥٥ الى ٢٥٦]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ابتداء وخبر، وهو مرفوع محمول على المعنى أي ما إله إلّا هو، ويجوز لا إله إلّا هو، ويجوز في غير القرآن لا إله إلّا إيّاه نصب على الاستثناء.
(١) أخرجه أحمد في مسنده ٤/ ١١٦، ٥/ ١٤٥، وابن عبد البر في التمهيد ٥/ ٢١٨، والهيثمي في مجمع الزوائد ٦/ ٦٥، وابن سعد في الطبقات الكبرى ١/ ١٢٧، وابن كثير في البداية والنهاية ٢/ ١٥٤.
(٢) الشاهد للنجاشي الحارثي في ديوانه ص ١١١، والأزهية ص ٢٩٦، وخزانة الأدب ١٠/ ٤١٨، وشرح أبيات سيبويه ١/ ١٩٥، وشرح التصريح ١/ ١٩٦، وشرح شواهد المغني ٢/ ٧٠١، والكتاب ١/ ٥٥، والمنصف ٢/ ٢٢٩، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢/ ١٣٣، والإنصاف ٢/ ٦٨٤، وأوضح المسالك ١/ ٦٧١، وتخليص الشواهد ص ٢٦٩، والجنى الداني ص ٥٩٢، وخزانة الأدب ٥/ ٢٦٥، ورصف المباني ص ٢٧٧، وسرّ صناعة الإعراب ٢/ ٤٤٠، وشرح الأشموني ١/ ١٣٦، وشرح المفصل ٩/ ١٤٢، واللامات ١٥٩، ولسان العرب (لكن)، ومغني اللبيب ١/ ٢٩١، وهمع الهوامع ٢/ ١٥٦، وتاج العروس (لكن).
(٣) راجع إعراب آية (٦٢).
قال أبو ذرّ «١» : سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّما أنزل إليك من القرآن أعظم فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. وقال ابن عباس: أشرف آية في القرآن آية الكرسي. الْحَيُّ الْقَيُّومُ نعت لله عزّ وجلّ، وإن شئت كان بدلا من هو وإن شئت كان خبرا بعد خبر، وإن شئت على إضمار مبتدأ، ويجوز في غير القرآن النصب على المدح. وقد ذكرنا التفسير، والأصل فيه. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ الأصل وسنة حذفت الواو كما حذفت من يسن ولا نوم الواو للعطف «ولا» توكيد. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ «من» رفع بالابتداء و «ذا» خبره والذين نعت لذا، وإن شئت بدل، ولا يجوز أن تكون «ذا» زائدة كما زيدت مع «ما» لأن «ما» مبهمة فزيدت «ذا» معها لشبهها بها: يقال: كرسيّ وكرسيّ. ويجوز لا إِكْراهُ فِي الدِّينِ «٢» وقرأ أبو عبد الرّحمن قَدْ تَبَيَّنَ الرَّشَدُ مِنَ الْغَيِّ «٣» وكذا يروى عن الحسن والشّعبي.
يقال: رشد يرشد رشدا ورشد يرشد رشدا، إذا بلغ ما يحب وغوى ضدّه كما قال:
[الطويل] ٥٦-
ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما «٤»
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ جزم بالشرط والطاغوت مؤنث وقد ذكرنا معناها وما قيل فيها «٥». وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ عطف. فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى جواب. وجمع الوثقى الوثق مثل الفضلى والفضل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٧]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا ابتداء. أَوْلِياؤُهُمُ ابتداء ثان وبِالطَّاغُوتِ خبره، والجملة خبر الأول.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)
(١) أبو ذرّ الغفاري: جندب بن جنادة، أحد السابقين الأولين، أسلم في أول المبعث خامس خمسة (ت ٣٢ هـ). ترجمته في تذكرة الحفاظ ١٧.
(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٢٩٧ وفيه جواز رفع: لا إكراه.
(٣) انظر مختصر ابن خالويه ١٦، والبحر المحيط ٢/ ٢٩٢.
(٤) الشاهد للمرقّش الأصغر في ديوانه ص ٥٦٥، ولسان العرب (غوى)، وشرح اختيارات المفضل ١١٠٤، وتاج العروس (غوى)، وبلا نسبة في كتاب العين ٢/ ٢٣٨، ومقاييس اللغة ٤/ ١٩٢، والمخصص ٦/ ١٧٠، وصدره:
«فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره»
(٥) انظر التيسير ٧٠، والإتحاف ١٦١.
أَلَمْ تَرَ حذفت الياء للجزم، وقد ذكرنا الصلة أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ في موضع نصب أي لأن قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ الاسم «أن» فإذا قلت: أنا أو: أنه فالألف والهاء لبيان الحركة ولا يقال: أنا فعلت بإثبات الألف إلّا شاذا في الشعر على أنّ نافعا قد أثبت الألف فقرأ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ولا وجه له. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ الذي في موضع رفع اسم ما لم يسمّ فاعله. يقال: بهت الرجل وبهت وبهت إذا انقطع وسكت متحيّرا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٩]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ قيل: قرية لاجتماع الناس فيها من قولهم: قريت الماء أي جمعته. وَهِيَ خاوِيَةٌ ابتداء وخبر. فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ظرف. قالَ كَمْ لَبِثْتَ، وقرأ أهل الكوفة قالَ كَمْ لَبِثْتَ «١» أدغموا الثاء في التاء لقربها منها والإظهار أحسن.
فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أصحّ ما قيل فيه: أنّ معناه لم تغيّره السنون. من قرأ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ «٢» بالهاء في الوصل، قال: أصل سنة: سنهة، وقال: سنيهة في التصغير كما قال: [الطويل] ٥٧-
ليست بسنهاء ولا رجبيّة «٣»
فحذف الضمة للجزم، ومن قرأ لم يتسنّ وانظر قال: في التصغير سنيّة وحذف الألف للجزم ويقف على الهاء فيقول: لم يتسنّه تكون الهاء لبيان الحركة، وقرأ طلحة بن مصرّف لم يسّنّ أدغم التاء في السين. وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها
(١) انظر البحر المحيط ٢/ ٣٠٣، وهذه قراءة السبعة عدا نافع وابن كثير فقد أظهروا الثاء.
(٢) هذه قراءة السبعة عدا حمزة والكسائي، فقد قرأ بحذف الهاء في الأصل، انظر البحر المحيط ٢/ ٣٠٣، والتيسير ٧٠.
(٣) الشاهد لسويد بن الصامت في لسان العرب (سنه) (بسنهاء)، و (عر)، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب ١/ ٤١٤، ٢/ ٥٤٧، ولسان العرب (رجب)، (فرح). وعجزه:
«ولكن عرايا في السنين الجوائح»
وروي عن ابن عباس والحسن كَيْفَ نُنْشِزُها والمعنى واحد كما يقال:
رجع ورجعته إلا أنّ المعنى المعروف في اللغة أنشر الله الموتى فنشروا وقيل: ننشرها مثل نشرت الثوب كما قال الأعشى: [السريع] ٥٨-
حتّى يقول النّاس ممّا رأوا يا عجبا للميّت النّاشر «١»
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٠]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ ويجوز في غير القرآن ربّي بإثبات الياء فمن حذف قال: النداء موضع حذف ومن أثبت قال: هي اسم فإذا حذفت كان الاختيار أن أقف بغير إشمام فأقول: ربّ فيشبه هذا المفرد. أَرِنِي قد ذكرناه «٢». كَيْفَ في موضع نصب أي بأي حال تحيي الموتى. وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي سألتك ليطمئن قلبي ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً. قال أبو إسحاق: المعنى ثم اجعل على كلّ جبل من كلّ واحد جزءا، وقرأ أبو جعفر وعاصم (جزءا) على فعل يَأْتِينَكَ سَعْياً نصب على الحال.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦١]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١)
فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ رفع بالابتداء. قال يعقوب الحضرمي «٣» : وقرأ بعضهم فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ «٤» على أنبتت مائة حبة وكذلك قرأ بعضهم وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [الملك: ٦] على وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [الملك: ٥] وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٣]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ابتداء والخبر محذوف أي قول معروف أمثل وأولى، ويجوز أن يكون قول معروف خبر ابتداء محذوف أي الذي أمرتم به قول معروف. وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وهذا مشكل يبيّنه الإعراب، بِالْمَغْفِرَةِ رفع بالابتداء، والخبر:
(١) الشاهد في ديوان الأعشى ص ١٩١، ولسان العرب (نشر)، وتهذيب اللغة ١١/ ٣٣٨، ومقاييس اللغة ٥/ ٤٣٠، وتاج العروس (نشر)، بلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٧٣٤، والمخصص ٩/ ٩٢. [.....]
(٢) مرّ في إعراب الآية (١٢٨).
(٣) يعقوب بن إسحاق الحضرمي: أحد القراء العشرة، وإمام أهل البصرة، سمع الحروف من الكسائي (ت ٢٥٥ هـ). ترجمته في غاية النهاية ٢/ ٣٨٦.
(٤) انظر مختصر ابن خالويه (١٦)، والبحر المحيط ٢/ ٣١٧.
خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ والمعنى- والله أعلم- وفعل يؤدّي إلى المغفرة خير من صدقة يتبعها أذى وتقديره في العربية وفعل مغفرة ويجوز أن يكون مثل قولك: تفضّل الله عليك أكثر من الصدقة التي تمنّ بها أي غفران الله خير من صدقتكم هذه التي تمنّون بها.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى العرب تقول لما يمنّ به: يد سوداء ولما يعطى عن غير مسألة: يد بيضاء ولما يعطى عن مسألة ولا يمنّ به: يد خضراء كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ الكاف في موضع نصب أي إبطالا كالذي ينفق ماله رئاء الناس فهي نعت للمصدر المحذوف، ويجوز أن تكون في موضع الحال. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ ابتداء وخبر، وقرأ سعيد بن المسيّب «١» والزّهري كَمَثَلِ صَفْوانٍ «٢» بتحريك الفاء، وحكى قطرب مثل صفوان. قال الأخفش: صفوان جماعة صفوانة. قال: وقال بعضهم صفوان واحد مثل حجر. قال الكسائي: صفوان واحد وجمعه صفوان وصفيّ وصفيّ. قال أبو جعفر: صفوان وصفوان يجوز أن يكون جمعا وأن يكون واحدا إلّا أن الأولى أن يكون واحدا لقوله عليه تراب فأصابه وابل وأن كان يجوز تذكير الجمع إلّا أن الشيء لا يخرج عن بابه إلّا بدليل قاطع فأما ما حكاه الكسائي في الجمع فليس يصحّ على حقيقة النظر ولكن صفوان جمع صفا وصفا بمعنى صفوان ونظيره ورل ورلان وأخ وإخوان وكرى وكروان كما قال: [الوافر] ٥٩-
لنا يوم وللكروان يوم تطير البائسات وما نطير «٣»
والضعيف في العربية يقول: كروان جمع كروان وصفيّ جمع صفا مثل عصا وعصيّ. قال الكسائي: وهي الحجارة الملس التي لا تنبت شيئا. فَتَرَكَهُ صَلْداً قال الكسائي: يقال: صلد يصلد صلدا بتحريك اللام فهو صلد بالإسكان وهو كل ما لا ينبت شيئا ومنه جبين أصلد وأنشد الأصمعيّ: [الرجز] ٦٠-
براق أصلاد الجبين الأجله «٤»
(١) سعيد بن المسيب المخزومي، عالم التابعين، وردت الرواية عنه في حروف القرآن. قرأ على ابن عباس، وروى عن عمر وعثمان (ت ٩٤ هـ). ترجمته في غاية النهاية ١/ ٣٠٨.
(٢) انظر مختصر ابن خالويه (١٦) والبحر المحيط ٢/ ٣٢٢.
(٣) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٤٩، وخزانة الأدب ٢/ ٣٧٥ و ٤١٥.
(٤) الشاهد لرؤبة بن العجاج في ديوانه ص ١٦٥، ولسان العرب (صلد) و (غدن) و (بله)، و (جله)، وتاج العروس (صلد) و (غدن) و (جله)، وتهذيب اللغة ٦/ ٣١١، ٨/ ٧٤، وجمهرة اللغة ص ٤٩٤، ومقاييس اللغة ١/ ٢٩٢، ومجمل اللغة ١/ ٢٨٧، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ٦/ ٥٧، ومقاييس اللغة ٤/ ٤١٤، ومجمل اللغة ٣/ ٨٨، والمخصص ١٢/ ٢٩٠، وقبله:
«لمّا رأتني خلق المموّه»

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٥]

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ مفعول من أجله. وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ عطف عليه. كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ وقرأ ابن عباس وأبو إسحاق السّبيعي (بربوة) «١» بكسر الراء وقرأ الحسن وعاصم وابن عامر الشامي بِرَبْوَةٍ بفتح الراء. قال الأخفش: ويقال: برباوة وبرباوة وكلّه من الرابية وفعله ربا يربو. فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ. قال أبو إسحاق «٢» : أي فالذي يصيبها طلّ. قال أبو جعفر: حكى أهل اللغة:
وبلت وأوبلت وطلّت وأطلّت.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٦]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ يقال: «تكون» فعل مستقبل فكيف عطف عليه بالماضي وهو وَأَصابَهُ الْكِبَرُ ففيه جوابان: أحدهما أنّ التقدير و «قد أصابه الكبر»، والجواب الآخر أنه محمول على المعنى لأن المعنى أيودّ أحدكم لو كانت له جنة فعلى هذا وأصابه الكبر. وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ وقال في موضع آخر ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النساء: ٩] كما تقول: ظريف وظرفاء وظراف.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ وفي قراءة عبد الله ولا تأمموا «٣» وهما لغتان، وقرأ ابن كثير وَلا تَيَمَّمُوا والأصل تتيمّموا فأدغم التاء في التاء، ومن قرأ تَيَمَّمُوا حذف، وقرأ مسلم بن جندب «٤» وَلا تَيَمَّمُوا. وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وقرأ قتادة
(١) انظر تفسير القرطبي ٢/ ٣١٦، ومختصر ابن خالويه (١٦).
(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٠٥، والبحر المحيط ٢/ ٣٢٤.
(٣) هذه قراءة أبي صالح صاحب عكرمة، انظر مختصر ابن خالويه (١٧).
(٤) مسلم بن جندب: أبو عبد الله الهذلي مولاهم، تابعي مشهور، عرض على عبد الله بن عياش وعرض عليه نافع (ت ١٣٠ هـ). ترجمته في غاية النهاية ٢/ ٢٩٧.
إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ «١» وقال: إلّا أن تغمض لكم فيه، وروي عنه إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ أي تأخذوه بنقصان فكيف تعطونه في الصدقة «أن» في موضع نصب والتقدير إلّا بأن.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٨]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ مفعولان ويقال: الفقر. وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ويجوز في غير القرآن ويأمركم الفحشاء بحذف الباء وأنشد سيبويه: [البسيط] ٦١-
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب «٢»
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٩]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ شرط فلذلك خففت الألف والجواب فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٠]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠)
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ يكون التقدير وما أنفقتم من نفقة فإنّ الله يعلمها وما نذرتم من نذر فإنّ الله يعلمه ثم حذف، ويجوز أن يكون التقدير وما أنفقتم من نفقة فإنّ الله يعلمه وتعود الهاء على «ما» كما أنشد: [الطويل] ٦٢-
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجته من جنوب وشمأل «٣»
ويكون أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ معطوفا عليه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧١]
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ هذه قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي فنعمّا هي «٤» بفتح النون، وروي عن أبي عمرو ونافع بإسكان
(١) هذه قراءة الزهري، انظر المحتسب ١/ ١٣٨، ومختصر ابن خالويه (١٧).
(٢) انظر المحتسب ١/ ١٣٩.
(٣) مرّ الشاهد رقم (٥١). [.....]
(٤) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ٨ (لما نسجتها)، والأضداد ص ٩٣، وخزانة الأدب ١١/ ٦، والدرر ١/ ٢٨٥، وشرح شواهد المغني ١/ ٤٦٣، ٢/ ٧٤٣، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٩/ ٢٧، ومغني اللبيب ١/ ٣٣١، والمنصف ٣/ ٢٥، وهمع الهوامع ١/ ٨٨.
131
العين رواه قالون عن نافع، ويجوز في غير القرآن «فنعم ما هي» ولكنه في السواد متّصل فلزم الإدغام وحكى النحويون «١» في نعم أربع لغات يقال نعم الرجل زيد هذا الأصل ويقال: نعم الرجل فتكسر النون لكسرة العين، ويقال: نعم الرجل والأصل نعم حذفت الكسرة لأنها ثقيلة، ويقال: نعم الرجل وهذه أفصح اللغات. والأصل: فيها نعم، وهي تقع في كل مدح فخفّفت وقلبت كسرة العين على النون وأسكنت العين، فمن قرأ «فنعمّا هي» فله تقديران: أحدهما أن يكون جاء به على لغة من قال: نعم، والتقدير الآخر: أن يكون على اللغة الجيّدة فيكونا لأصل نعم ثم كسرت العين لالتقاء الساكنين فأما الذي حكي عن أبي عمرو ونافع من إسكان العين فمحال. حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: أما إسكان العين والميم مشدّدة فلا يقدر أحد أن ينطق به وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرّك ولا يأبه. قال أبو جعفر: ومن قرأ «فنعمّا هي» فله تقديران:
أحدهما أن يكون على لغة من قال: نعم الرجل، والآخر أن يكون على لغة من قال:
نعم الرجل، فكسر العين لالتقاء الساكنين، ويجب على من قرأ: فنعم أن يقول: بئس.
وَإِنْ تُخْفُوها شرط فلذلك حذفت منه النون. وَتُؤْتُوهَا عطف عليه، والجواب فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قرأ قتادة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو ونكفّر عنكم من سيّئاتكم «٢» وقرأ نافع والأعمش وحمزة والكسائي ونكفّر عنكم «٣» إلا أنّ الحسين بن علي الجعفي «٤» روى عن الأعمش ونكفّر عنكم بالنصب. قال أبو حاتم: قرأ الأعمش فهو خير لكم نكفّر عنكم بغير واو جزما، والصحيح عن عاصم أنه قرأ مرفوعا بالنون، وروى عنه حفص «٥» أنه قرأ وَيُكَفِّرُ بالياء والرفع وكذلك روي عن الحسن وروي عنه بالياء والجزم «٦»، وقرأ عبد الله بن عباس «٧» وتكفّر عنكم من سيّئاتكم بالتاء وكسر الفاء والجزم، وقرأ عكرمة «٨» وتكفّر عنكم بالتاء وفتح الفاء والجزم.
قال أبو جعفر: أجود القراءات ونكفر عنكم بالرفع هذا قول الخليل وسيبويه. قال سيبويه «٩» : والرفع هاهنا الوجه وهو الجيد لأن الكلام الذي بعد الفاء جرى مجراه في غير الجزاء. وأجاز الجزم يحمله على المعنى لأن المعنى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء
(١) انظر تيسير الداني ٧١.
(٢) انظر الكتاب ٢/ ١٨٠، والمقتضب ٢/ ١٤٠، والإنصاف مسألة (٧١٤).
(٣) انظر تيسير الداني ٧١.
(٤) انظر تيسير الداني ٧١.
(٥) الحسين بن علي الجعفي: مولاهم الكوفي، قرأ على حمزة، وهو أحد الذين خلفوه في القراءة، وروى القراءة أيضا عن أبي عمرو (ت ٢٠٣). ترجمته في غاية النهاية ١/ ٢٤٧.
(٦) حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي الكوفي أخذ القراءة عرضا عن عاصم (ت ١٨٠ هـ). ترجمته في غاية النهاية ١/ ٢٥٤.
(٧) انظر البحر المحيط ٢/ ٣٣٨.
(٨) انظر البحر المحيط ٢/ ٣٣٨.
(٩) انظر الكتاب ٣/ ١٠٥.
132
يكن خيرا لكم ونكفّر عنكم والذي حكاه أبو حاتم عن الأعمش بغير واو جزما يكون على البدل كأنه في موضع الفاء والذي روي عن عاصم «وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ» بالياء والرفع يكون معناه يكفر الله. هذا قول أبي عبيد، وقال أبو حاتم معناه يكفّر الإعطاء، وقرأ ابن عباس «وتكفّر «يكون معناه وتكفّر الصدقات، وقراءة عكرمة وتكفّر عنكم أي أشياء من سيئاتكم فأما النصب ونكفّر فضعيف وهو على إضمار «أن» وجاز على بعد لأن الجزاء إنما يجب به الشيء لوجوب غيره فضارع الاستفهام.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٢]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ تكلّم جماعة في معنى يهدي ويضلّ فمن أجلّ ما روي في ذلك ما رواه سفيان عن خالد الحذّاء عن عبد الأعلى القرشي عن عبد الله بن الحارث عن عمر أنه قال في خطبته: «من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له» وكان الجاثليق حاضرا فأومأ بالإنكار فقال عمر: ما يقول؟ فقالوا يقول: إنّ الله لا يهدي ولا يضلّ، فقال له عمر: كذبت يا عدوّ الله بل الذي خلقك هو يضلك ويدخلك النار إن شاء الله، إن الله خلق أهل الجنة وما هم عاملون وخلق أهل النار وما هم عاملون فقال هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه فما برح الناس يختلفون في القدر. قال أبو عبيد: قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: ٩٦]. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ «ما» الأولى في موضع نصب بتنفقوا والثانية لا موضع لها لأنها حرف والثالثة كالأولى.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٣]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)
تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ ويقال في هذا المعنى: سيمياء لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً مصدر في موضع الحال أي ملحفين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٤]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ رفع بالابتداء، والخبر: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ودخلت الفاء ولا يجوز: زيد فمنطلق لأن في الكلام معنى الجزاء أي من أجل
نفقتهم فلهم أجرهم وهكذا كلام العرب إذا قلت: السارق فاقطعه فمعناه من أجل سرقته فاقطعه ومعنى «بالليل والنهار» في الليل والنهار.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٥]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا رفع بالابتداء، والخبر: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ. فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ لأنه تأنيث غير حقيقي أي فمن جاءه وعظ كما قال: [الكامل] ٦٣-
إنّ السّماحة والمروءة ضمّنا «١»
وقرأ الحسن فمن جاءته موعظة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٦]
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا الأصل في الربا الواو. قال سيبويه «٢» : تثنيته ربوان. قال الكوفيون: تكتبه بالياء وتثنيته (تثنّيه) بالياء وقال أبو جعفر: سمعت أبا إسحاق يقول: ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئون في التثنية وهم يقرءون وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ [الروم: ٣٩] وقال محمد بن يزيد: كتب الربا في المصحف بالواو فرقا بينه وبين الزنا وكان الربا أولى بالواو لأنه من ربا يربو.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٩]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ حكى أبو عبيد عن الأصمعي «فأذنوا» فكونوا على أذن من ذلك أي على علم. قال أبو جعفر: وهذا قول وجيز حسن حكى أهل اللغة أنه يقال:
أذنت به أذنا إذا علمت به ومعنى فآذنوا على قراءة الأعمش، وحمزة وعاصم على حذف المفعول.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٠]
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠)
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ «كان» بمعنى وقع. وأنشد سيبويه: [الطويل] ٦٤-
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوم ذو كواكب أشهب «٣»
(١) مرّ الشاهد رقم (٢٠).
(٢) انظر الكتاب ٣/ ٤٢٨.
(٣) الشاهد لمقاس العائذي في الأزهيّة ص ١٨٦، وشرح أبيات الكتاب ١/ ٢٥٢، وشرح المفصّل ٧/ ٩٨، والكتاب ١/ ٨٥، ولسان العرب (كون)، وبلا نسبة في أسرار العربية ١٣٥، ولسان العرب (شهب) و (ظلم)، والمقتضب ٤/ ٩٦.
134
فهذا أحسن ما قيل فيه لأنه يكون عاما لجميع الناس ويجوز أن يكون خبر كان محذوفا أي وإن كان ذو عسرة في الدين. وقال حجاج الوراق في مصحف عبد الله وإن كان ذا عسرة «١». قال أبو جعفر: والتقدير: وإن كان المعامل ذا عسرة. فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ أي فالذي تعاملون به نظرة وقرأ الحسن وأبو رجاء فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ «٢» حذف الكسرة لثقلها وقرأ مجاهد وعطاء فناظره على الأمر إِلى مَيْسَرَةٍ «٣» بضم السين وكسر الراء وإثبات الهاء في الإدراج. وقال أبو إسحاق «٤» : وقرئ (فناظرة إلى ميسرة) «٥» وقرأ أهل المدينة (إلى ميسرة) «٦» ويجوز (فنظرة إلى ميسرة) بالنصب على المصدر. قال أبو حاتم: ولا يجوز «فناظرة» إنما ذلك في «النمل» فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل: ٣٥] لأنها امرأة تكلّمت بهذا لنفسها من نظرت تنظر فهي ناظرة فأمّا «فنظرة» في البقرة فمن التأخير من ذلك: أنظرتك بالدّين أي أخّرتك به وقالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر: ٣٦] وأجاز ذلك أبو إسحاق وقال: هي من أسماء المصادر مثل لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الواقعة: ٢] وأَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [القيامة: ٢٥] قال أبو جعفر «ميسرة» أفصح اللغات وهي لغة أهل نجد و «ميسرة» وإن كانت لغة أهل الحجاز فهي من الشواذ لا يوجد في كلام العرب مفعلة إلّا حروف معدودة شاذة ليس فيها شيء إلا يقال فيه مفعلة وأيضا فإن الهاء زائدة، وليس في كلام العرب مفعل البتّة وقراءة من قرأ إِلى مَيْسَرَةٍ «٧» لحن لا يجوز. قال الأخفش سعيد: ولو قرءوا إلى ميسره لكان أشبه والذي قال الأخفش حسن يقال: جلست مجلسا ومفعل كثير. قال الأخفش: ويجوز إلى موسرة مثل مدخلة. وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ابتداء وخبر وفي قراءة عبد الله وأن تتصدّقوا وقرأ عيسى وطلحة وأن تصدقوا مخفّفا تتصدّقوا على الأصل وتصدّقوا تدغم التاء في الصاد لقربها منها ولا يجوز هذا في تتفكرون لبعد التاء من الفاء ومن خفّف حذف التاء للدلالة ولئلا يجمع بين ساكنين وتاءين.
(١) هذه قراءة عثمان وأبيّ أيضا، انظر مختصر ابن خالويه (١٧)، والبحر المحيط ٢/ ٣٥٤. [.....]
(٢) هذه لغة تميم، انظر البحر المحيط ٢/ ٣٥٤.
(٣) انظر المحتسب ١/ ١٤٣.
(٤) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣١٦.
(٥) انظر البحر المحيط ٢/ ٣٥٤.
(٦) انظر تيسير الداني ٧١، والبحر المحيط ٢/ ٣٥٤.
(٧) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣١٦، والبحر المحيط ٢/ ٣٥٥، وهي قراءة عطاء ومجاهد.
135

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨١]

وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
وَاتَّقُوا يَوْماً مفعول. تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ من نعته.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ قد ذكرنا كلّ ما فيه في كتابنا الأول «المعاني».
فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ أثبت اللام في الثاني وحذفها من الأول لأن الثاني غائب والأول للمخاطبين فإن شئت حذفت اللام في المخاطب لكثرة استعمالهم ذلك وهو أجود، وإن شئت أثبتّها على الأصل، فأمّا الغائب فزعم محمد بن يزيد أنه لا بدّ من اللام في الفعل إذا أمرته، وأجاز سيبويه والكوفيون حذفها وأنشدوا: [الوافر] ٦٥-
محمّد تفد نفسك كلّ نفس إذا ما خفت من قوم تبالا «١»
وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ هذه لغة أهل الحجاز وبني أسد، وتميم يقولون:
أمليت وجاء القرآن باللغتين جميعا. قال جلّ وعزّ فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: ٥] والأصل أمللت أبدل من اللام ياء لأنه أخفّ. فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ رفع بالابتداء «وامرأتان» عطف عليه والخبر محذوف أي فرجل وامرأتان يقومون مقامهما وإن شئت أضمرت المبتدأ أي فالذي يستشهد رجل وامرأتان ويجوز
(١) الشاهد لأبي طالب في شرح شذور الذهب ص ٢٧٥، وله أو للأعشى في خزانة الأدب ٩/ ١١، وللأعشى أو لحسّان أو لمجهول في الدرر ٥/ ٦١، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٣١٩، والإنصاف ٢/ ٥٣٠، والجنى الداني ص ١١٣، ورصف المباني ص ٢٥٦، وسرّ صناعة الإعراب ١/ ٣٩١، وشرح الأشموني ٣/ ٥٧٥، وشرح شواهد المغني ١/ ٥٩٧، وشرح المفصل ٧/ ٣٥، والكتاب ٣/ ٦، واللامات ص ٩٦، ومغني اللبيب ١/ ٢٢٤، والمقاصد النحوية ٤/ ٤١٨، والمقتضب ٢/ ١٣٢ والمقرّب ١/ ٢٧٢، وهمع الهوامع ٢/ ٥٥.
136
النصب في غير القرآن أي فاستشهدوا وحكى سيبويه «١» : إن خنجرا فخنجرا أي فاتخذ خنجرا. أن تضلّ أحدهما فتذكّر إحداهما الأخرى هذه قراءة الحسن وأبي عمرو بن العلاء وعيسى وابن كثير وحميد بفتح «أن» ونصب «تذكر» وتخفيفه وقرأ أهل المدينة أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ بفتح «أن» ونصب «تذكر» وتشديده وقرأ أبان بن تغلب والأعمش وحمزة أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى بكسر «إن» ورفع تذكّر وتشديده. قال أبو جعفر: ويجوز تضلّ بفتح التاء والضاد ويجوز تضلّ بكسر التاء وفتح الضاد والقراءة الأولى حسنة لأن الفصيح أن يقال: أذكرتك وذاكرتك وعظتك قال جلّ وعزّ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: ٥٥] وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «رحم الله فلانا كأيّ من آية أذكرنيها» «٢» وفي هذه القراءة على حسنها من النحو إشكال شديد. قال الفراء «٣» : هو في مذهب الجزاء، وإن جزاء مقدم أصله التأخير أي استشهدوا امرأتين مكان الرجل كما تذكر الذاكرة الناسية إن نسيت فلما تقدّم الجزاء اتّصل بما قبله ففتحت أن فصار جوابه مردودا عليه قال: ومثله: إني ليعجبني أن يسأل السائل فيعطى. المعنى أنه يعجبه الإعطاء وإن سأل السائل. قال أبو جعفر: وهذا القول خطأ عند البصريين لأن «إن» المجازاة لو فتحت انقلب المعنى وقال سيبويه «٤» : أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى انتصب لأنه أمر بالإشهاد لأن تذكر ومن أجل أن تذكر. قال: فإن قال إنسان: كيف جاز أن تقول أن تضلّ؟ ولم يعدّ هذا للإضلال والالتباس فإنما ذكر أن تضلّ لأنه سبب الإذكار كما يقول الرجل: أعددته أن يميل الحائط فأدعمه. وهو لا يطلب بإعداده ذلك ميلان الحائط ولكنه أخبر بعلّة الدعم وبسببه. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يحي عن أبي العباس محمد بن يزيد أن التقدير: ممن ترضون من الشهداء كراهة أن تضلّ إحداهما وكراهة أن تذكّر إحداهما الأخرى. قال أبو جعفر: وهذا القول غلط وأبو العباس يجلّ عن قول مثله لأن المعنى على خلافه وذلك أنه يصير المعنى كراهة أن تضلّ إحداهما وكراهة أن تذكّر إحداهما الأخرى وهذا محال، وأصحّ الأقوال قول سيبويه ومن قال «تضلّ» جاء به على لغة من قال: ضللت تضلّ وعلى هذا تقول: تضلّ بكسر التاء لتدلّ على أن الماضي فعلت.
وَلا تَسْئَمُوا قال الأخفش: يقال: سئمت أسأم سآمة وسآما وسأما وسأما، أَنْ تَكْتُبُوهُ في موضع نصب بالفعل كما قال زهير: [الطويل]
(١) انظر الكتاب ١/ ٣١٩.
(٢) أخرجه القاضي عياض في الشفا ٢/ ٣٤٥، الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٤/ ٤٩٣، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٧٩٣، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ١/ ٢٨٠.
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ١٨٤.
(٤) انظر الكتاب ٣/ ٥٩.
137
٦٦-
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش «١»
صَغِيراً أَوْ كَبِيراً على الحال: أعطيته دينه صغر أو كبر. ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ابتداء وخبر. وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ عطف عليه وكذا وَأَدْنى أَلَّا في موضع نصب أي من أن لا. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً «٢» «أن» في موضع نصب استثناء ليس من الأول.
قال الأخفش: أي إلّا أن تقع تجارة وقال غيره تُدِيرُونَها الخبر، وقرأ عاصم إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً أي إلّا أن تكون المداينة تجارة حاضرة. وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ أمر فزعم قوم أنه على الندب والتأديب وكذا قالوا في قوله: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ هذا قول الفراء وزعم أنّ مثله وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «٣» [المائدة: ٢] قال ومثله فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: ١٠]. قال أبو جعفر:
هذا قول خطأ عند جميع أهل اللغة وأهل النظر ولا يشبه هذا قوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ولا فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لأن هذين إباحة بعد حظر ولا يجوز في اللغة أن يحمل الأمر على الندب إلّا بما تستعمله العرب من تقدّم الحظر أو ما أشبه ذلك فزعم قوم أنّ هذا مما رخّص في تركه بغير آية وعلى هذا فسّروا أَوْ نُنْسِها [البقرة:
١٠٦] قالوا: نطلق لكم تركها، وقيل الإباحة في ترك المكاتبة بالدّين فإن أمن بعضكم بعضا وقيل: المكاتبة واجبة كما أمر الله عزّ وجلّ إذا كان الدين إلى أجل وأمر الله بهذا حفظا لحقوق الناس وقال عبد الله بن عمر: المشاهدة واجبة في كل ما يباع قليل أو كثير كما قال الله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يجوز أن يكون التقدير ولا يضارر وأن يكون التقدير ولا يضارر. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا قال: لأن بعده وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ فالأولى أن تكون من شهد بغير الحقّ أو حرّف في الكتابة أن يقال له: فاسق، فهو أولى ممن سأل شاهدا وهو مشغول أن يشهد. قال المفضّل: وقرأ الأعمش وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ.
قال أبو جعفر: كسر الراء لالتقاء الساكنين وكذلك معن فتح إلّا أن الفتح أخفّ وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ولا يضارر «٤» بكسر الراء الأولى وقرأ ابن مسعود ولا يضارر بفتح الراء الأولى «٥» وهاتان القراءتان على التفسير ولا
(١) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٢٩، وكتاب العين ٥/ ٣٧٢، وأساس البلاغة (كلف)، وتاج العروس (حمل)، وعجزه:
«ثمانين حولا لا أبا لك يسأم»
(٢) انظر البحر المحيط ٢/ ٣٦٩.
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ١٨٣. [.....]
(٤) انظر البحر المحيط ٢/ ٣٧٠.
(٥) انظر البحر المحيط ٢/ ٣٧٠، وهي قراءة عكرمة أيضا.
138
يجوز أن تخالف التلاوة التي في المصحف. وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي فإن هذا الفعل ويجوز أن يكون التقدير فإن الضرار فسوق بكم كما قال: [الوافر] ٦٧-
إذا نهي السّفيه جرى إليه «١»
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٣]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً وقرأ ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك «٢» وأبو العالية ولم تجدوا كتابا وروي عن ابن عباس ولم تجدوا كتّابا «٣» قال أبو جعفر: هذه القراءة شاذّة والعامة على خلافها وقلّ ما يخرج شيء عن قراءة العامة إلّا كان فيه مطعن نسق الكلام يدلّ على كاتب. قال تعالى قبل هذا وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وكتّاب يقضي جماعة. فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ هذه قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل الكوفة وأهل المدينة وقرأ ابن عباس فرهن «٤» بضمتين وهي قراءة أبي عمرو وقرأ عاصم بن أبي النجود فرهن بإسكان الهاء وتروى عن أهل مكة. قال أبو جعفر: الباب في هذا رهان كما تقول: بغل وبغال وكبش وكباش و «رهن» سبيله أن يكون جمع رهان مثل كتاب وكتب، وقيل: هو جمع رهن مثل سقف، وليس هذا الباب و «رهن» بإسكان الهاء سبيله أن تكون الضمّة حذفت منه لثقلها وقيل: هو جمع رهن مثل سهم حشر أي دقيق وسهام حشر والأول أولى لأن الأول ليس بنعت وهذا نعت. فَلْيُؤَدِّ من الأداء مهموز ويجوز تخفيف همزه فتقلب الهمزة واوا ولا تقلب ألفا ولا تجعل بين بين لأن الألف لا يكون ما قبلها إلّا مفتوحا. الَّذِي اؤْتُمِنَ مهموز في الأصل لأنه من الأمانة ففاء الفعل همزة. والأصل في اؤتمن أأتمن كرهوا الجمع بين همزتين فلما زالت إحداهما همزت فإن خفّت الهمزة التقى ساكنان الياء التي في الذي والهمزة المخفّفة فحذفت فقلت: الذي تمن وإذا همزت فقد كان التقى ساكنان أيضا إلّا
(١) الشاهد لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري في إعراب القرآن ص ٩٠٢، والأشباه والنظائر ٥/ ١٧٩، وأمالي المرتضى ١/ ٢٠٣، والإنصاف ١/ ١٤٠، وخزانة الأدب ٣/ ٣٦٤، ٤/ ٢٢٦، والخصائص ٣/ ٤٩، والدرر ١/ ٢١٦، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٢٤٤، ومجالس ثعلب ص ٧٥، والمحتسب ٢/ ٣٧٠، وهمع الهوامع ١/ ٦٥، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ١٧٦، وعجزه:
«وخالف والسّفيه إلى خلاف»
(٢) الضّحاك بن قيس بن خالد الفهري القرشي، ولّاه معاوية على الكوفة سنة (٦٥ هـ). ترجمته في تهذيب ابن عساكر ٧/ ٤، وابن الأثير حوادث سنة (٦٥ هـ).
(٣) انظر معاني الفراء ١/ ١٨٩.
(٤) هذه قراءة مجاهد وابن كثير وابن عمرو أيضا، انظر معاني الفراء ١/ ١٨٨، والتيسير الداني ٧٢.
أنك حذفت الياء لأن قبلها ما يدلّ عليها وإذا خفّفت الهمزة لم يجز أن تأتي بواو بعد كسرة والابتداء أؤتمن وقرأ أبو عبد الرّحمن ولا يكتموا الشهادة جعله نهيا لغيب.
وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ فيه وجوه إن أنت رفعت آثما على أنه خبر «إن» و «قلبه» فاعل سدّ مسدّ الخبر، وإن شئت رفعت آثما على الابتداء وقلبه فاعل وهما في موضع خبر «إنّ» وإن شئت رفعت آثما على أنه خبر الابتداء ينوى به التأخير، وإن شئت كان قلبه بدلا من آثم كما تقول: هو قلب الآثم وإن شئت كان بدلا من المضمر الذي في آثم وأجاز أبو حاتم «فإنه آثم قلبه» قال: كما تقول: هو آثم قلب الإثم. قال: ومثله:
أنت عربيّ قلبا على المصدر. قال: أبو جعفر: وقد خطّئ أبو حاتم في هذا لأن قلبه معرفة ولا يجوز ما قال في المعرفة، لا يقال: أنت عربيّ قلبه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٤]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ شرط. أَوْ تُخْفُوهُ عطف عليه، يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ جواب الشرط، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ «١» عطف على الجواب. قال سيبويه «٢» : وبلغنا أنّ بعضهم قرأ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ «٣». قال أبو جعفر: هذه القراءة مروية عن ابن عباس والأعرج وهي عند البصريين على إضمار «أن»، وحقيقته أنه عطف على المعنى والعطف على اللفظ أجود كما قال: [الطويل] ٦٨-
ومتى مايع منك كلاما يتكلّم فيجبك بعقل «٤»
وقرأ الحسن ويزيد بن القعقاع، وابن محيصن يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ «٥» قطعه من الأول وروي عن طلحة بن مصرّف يحاسبكم به الله يغفر لمن يشاء «٦» بغير فاء على البدل وأجود من الجزم لو كان بلا فاء الرفع حتى يكون في موضع الحال كما قال: [الطويل] ٦٩-
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد «٧»
(١) انظر البحر المحيط ٢/ ٣٧٦.
(٢) انظر الكتاب ٣/ ١٠٥.
(٣) انظر البحر المحيط ٢/ ٣٧٦، وهي قراءة أبي حيوة أيضا.
(٤) لم أجده في الشواهد اللغوية.
(٥) انظر البحر المحيط ٢/ ٣٧٦.
(٦) انظر المحتسب ١/ ١٤٩، والبحر المحيط ٢/ ٣٦١.
(٧) الشاهد للأعشى في ديوانه ص ٥١، وإصلاح المنطق ص ١٩٨، والأغاني ٢/ ١٦٨، وخزانة الأدب ٣/ ٧٤، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٦٥، ولسان العرب (عشا) ومجالس ثعلب ص ٤٦٧، والمقاصد النحوية ٤/ ٤٣٩، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٨٧١، وخزانة الأدب ٥/ ٢١٠، وشرح الأشموني ٣/ ٥٧٩، وشرح ابن عقيل ص ٥٨١، وشرح عمدة الحافظ ص ٣٦٣، وشرح المفصل ٢/ ٦٦، وما ينصرف وما لا ينصرف ص ٨٨، والمقتضب ٢/ ٦٥.

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٥]

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)
كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ على اللفظ ويجوز في غير القرآن آمنوا على المعنى. وَقالُوا سَمِعْنا على حذف أي سمعنا سماع قابلين وقيل: سمع بمعنى قبل، كما يقال: سمع الله لمن حمده. غُفْرانَكَ
مصدر، رَبَّنا نداء مضاف.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٦]
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)
لا تُؤاخِذْنا جزم لأنه طلب، وكذا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. ولفظه لفظ النهي. وَاعْفُ عَنَّا طلب أيضا ولفظه لفظ الأمر، ولذلك لم يعرب عند البصريين وجزم عند الكوفيين وكذا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وكذا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
Icon