تفسير سورة طه

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة طه من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢)
الطاء إشارة إلى قلبه- عليه السلام- من غير الله، والهاء إشارة إلى اهتداء قلبه إلى الله.
وقيل طأ بسرّك بساط القربة فأنت لا تهتدى إلى غيرنا.
ويقال طوينا عن سرّك ذكر غيرنا، وهديناك إلينا.
ويقال طوبى لمن اهتدى بك. ويقال طاب عيش من اهتدى بك.
«ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» : أي ليس المقصود من إيجابنا إليك تعبدك، وإنما هذا استفتاح الوصلة، والتمهيد لبساط القربة.
ويقال إنه لما قال له: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ» «١» وقف بفرد قدم تباعدا وتنزها عن أن يقرب من الدنيا استمتاعا بها بوجه فقيل له: طأ الأرض بقدميك.
لم كل هذا التعب الذي تتحمله؟ فزاد فى تعبده، ووقف، حتى تقدمت قدماه «٢» وقال:
«أفلا أكون عبدا شكورا» أي لما أهلني من التوفيق حتى أعبده.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٣]
إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣)
فالقرآن تبصرة لذوى العقول، تذكرة لذوى الوصول، فهؤلاء به يستبصرون فينالون به راحة النّفس فى آجلهم، وهؤلاء به يذكرون فيجدون روح الأنس فى عاجلهم.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٤]
تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)
(١) آية ٨٨ سورة الحجر.
(٢) نرجح انها (تورمت قدماه) لأن السياق يذكرنا بالحديث:
[انه كان يصلى حتى تورمت قدماه فقيل له: يا رسول الله» أليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا] الشيخان، والنسائي. والترمذي عن المغيرة بن شعبة.
(وسيعود القشيري إلى فكرة «طأ بقدميك الأرض» فى آخر السورة عند تفسير آية: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ... آية ١٣١).
جعل الأرض قرارا لعباده. ونفوس العابدين أرض وقرار لطاعتهم، وقلوب العارفين قرار لمعارفهم.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٥]
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)
استواء عرشه فى السماء معلوم، وعرشه فى الأرض قلوب أهل التوحيد.
قال تعالى: «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» «١» وعرش القلوب: قال تعالى:
«وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» «٢». أمّا عرش السماء فالرحمن عليه استوى، وعرش القلوب الرحمن عليه استولى. عرش السماء قبلة دعاء الخلق، وعرش القلب محلّ نظر الحق.
فشتّان بين عرش وعرش! قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٦]
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦)
له الأشياء على العموم ملكا، والأولياء تخصيصا وتشريفا. له ما بين السماوات والأرض مما أظهر من العدم فالكلّ له إثباتا وخلقا.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٧]
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧)
النّفس لا تقف على ما فى القلب، والقلب لا يقف على أسرار الرّوح، والروح لا سبيل له إلى حقائق السرّ والذي هو أخفى من السّرّ فهو ما لا يطّلع عليه إلا الحق «٣».
ويقال الذي هو أخفى من السر لا يفسده الشيطان، ولا يكتبه الملكان، ويستأثر بعلمه الجبّار، ولا تقف عليه الأغيار.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٨]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)
(١) آية ١٧ سورة الحاقة.
(٢) آية ٧٠ سورة الإسراء.
(٣) يسميه القشيري فى مواضع أخرى من مصنفاته (سر السر) أو (عين السر) الرسالة ص ٤٨ [.....]
نفى كل موهوم من الحدثان بأن يكون شىء منه صالحا للإبداع، وأثبت كلّ ما فى الوجود له باستحقاق القدم.
«لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» أي صفاته، على انقسامها إلى صفة ذات وصفة معنى «١» ويقال «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» : تعريف للخلق بأنّ استحقاق العلو والتقدّس عن النقائص له على وصف التفرّد به.
قوله جل ذكره
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩ الى ١٠]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠)
سؤال فى صيغة الاستفهام والمراد منه التقرير «٢» والإثبات. وأجرى- تعالى- سنّته فى كتابه أن يذكر قصة موسى عليه السلام فى أكثر المواقع التي يذكر فيها حديث نبينا صلى الله عليه وسلم، فيعقبه بذكر موسى عليه السلام.
إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً ألاح له النار حتى أخرجه من أهله يطلبها، وكان المقصود إخراجه من بينهم، فكان موسى عليه السلام يدنو والنار تنأى، وقال لأهله:
«امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً» فقال أهله: كيف تتركنا والوادي مسبع؟
فقال: لأجلكم أفارقكم فلعلّى آتيكم من هذه النار بقبس.
ويقال استولى على موسى عند رؤيته النار الانزعاج، فلم يتمالك حتى خرج. ففى القصة أنه لما أتاها وجد شجرة تشتعل من أولها إلى آخرها، فجمع موسى- عليه السلام- حشائش ليأخذ من تلك النار، فعرف أن هذه النار لا تسمح نفسها بأن تعطى إلى أحد شعلة:
(١) الأرجح- حسب الذي ذكره القشيري فى كتابه التحيير فى التذكير- أنها (وصفه فعل).
(٢) وردت (التقدير) والصواب أن تكون (التقرير) فهذا هو المصطلح البلاغى الذي يطلق على مثل هذا الاستفهام.
وقلن لنا نحن الأهلّة إنما... نضىء لمن يسرى بليل ولا نقرى
يا موسى هذه النار تضىء ولكن لا تعطى لأحد منها شعلة. يا موسى هذه النار تحرق القلوب لا النفوس.
ويقال كان موسى عليه السلام فى مزاولة قبس من النار فكان يحتال كيف يأخذ منها شيئا، فبينما هو فى حالته إذ سمع النداء من الحقّ.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١ الى ١٢]
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢)
علم موسى أنه كلام الحق- سبحانه- لمّا سمع فيه الترتيب والتنظيم والتركيب، فعلم أنه خطاب الحق.
ويقال إنما عرف موسى- عليه السلام- أنه كلام الله بتعريف خصّه الحق- سبحانه- به من حيث الإلهام دون نوع من الاستدلال.
«قوله: «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ..» فإن بساط حضرة الملوك لا يوطأ بنعل.
ويقال ألق عصاك يا موسى، واخلع نعليك، وأقم عندنا هذه الليلة ولا تبرح.
ويقال الإشارة فى الأمر بخلع النعلين تفريغ القلب من حديث الدارين، والتجرد للحقّ بنعت الانفراد.
ويقال «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» : تبرّأ عن نوعى أفعالك «١»، وامح عن الشهود جنسى أحوالك من قرب وبعد، ووصل وفصل، وارتياح واجتياح، وفناء وبقاء... وكن بوصفنا فإنما أنت بحقنا.
أثبته فى أحواله حتى كان كالمجرد عن جملته، المصطلم عن شواهده.
(١) ربما حدث سقوط، فالكلام يحتاج إلى توضيح (نوعى أفعالك) قياسا على ما ذكر فى (جنسى أحوالك) ونرجح أن نوعى الفعل هما الأمر والنهى، أو المأمور به والمزجور عنه... أو ما فى هذا المعنى.
قوله: «إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» : أي إنك بالوادي المقدس عن الأعلال وساحات الصمدية تجلّ عن كل شين، وإيمان وزين عن زين بإحسان وشين بعصيان لأنّ للربوبية سطعات عزّ تقهر كلّ شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٣]
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
وعلى علم منى بك اصطفينك، وجرّدتك ونقّيتك عن دنس الأوهام وكلّ ما يكدّر صفوك.
ويقال بعد ما اخترتك فأنت لى وبي، وأنت محو فى فنائك عنك.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٤]
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤)
تقدّست عن الأعلال فى أزلى، وتنزهت ( ) «١» والأشكال باستحقاقى لجلالى وجمالى.
ويقال «لا إِلهَ إِلَّا أَنَا» : الأغيار فى وجودى فقد، والرسوم والأطلال عند ثبوت حقّى محو قوله: «فَاعْبُدْنِي» : أي تذلّل لحكمى، وأنفذ أمرى، واخضع لجبروت سلطانى.
قوله جل ذكره: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إقامتها من غير ملاحظة مجريها ومنشيها يورث الإعجاب. وإذا أقام العبد صلاته على نعت.
الشهود والتحقق بأن مجريها غيره «٢» كانت الصلاة بهذا فتحا لباب المواصلة، والوقوف على محل النجوى، والتحقق بخصائص القرب والزلفة.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٥]
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥)
الفائدة فى تعريف العباد بقرب الساعة أن يستفيقوا من غفلات التفرقة، فإذا حضروا
(١) حدث هنا طمس أفقدنا بقية الجملة، وربما كانت (عن الأمثال).
(٢) الضمير فى (غيره) يعود على العبد والمقصود أن يتحقق العبد بأن الرب هو الذي يجرى عليه تعبده.
بقلوبهم- ففى حال استدامة الذكر- فما هو موعود فى الآجل أكثره للحاضرين موجود فى العاجل والحاضرة لهم كالآخرة. وكذلك جعلوا من أمارات الاستقامة شهود الوقت قيامة «١».
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٦]
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)
إذا أكرمه الله بحسن التنبيه، وأحضره بنعت الشهود فلا ينبغى أن ينزل عن سماء صفاته إلى جحيم أهل الغفلة فى تطوحهم فى أودية التفرقة.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٧]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧)
كرّر عليه السؤال فى غير آية عن عصاه لمّا كان المعلوم له سبحانه فيها من إظهاره فيها عظيم المعجزة.
ويقال إنما قال ذلك لأنه صحبته هيبة المقام عند فجأة سماع الخطاب فليسكن بعض ما به من بواده الإجلال.. ردّه إلى سماع حديث العصا، وأراه ما فيها من الآيات.
ويقال لو تركه على ما كان عليه من غلبات الهيبة لعلّه كان لا يعى ولا يطيق ذلك..
فقال له: وما تلك بيمينك يا موسى؟
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٨ الى ٢١]
قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١)
قال هى عصاى، وأخذ يعدّد ما له فيها من وجوه الانتفاع فقال له:
قالَ أَلْقِها يا مُوسى
(١) (فالقيامة عند هؤلاء تقوم كل يوم غير مرة بالهجر والنوى والفراق) و (جهنم الفراق أشد هولا من جهنم الاحتراق). اللطائف فى مواضع أخرى.
450
فإنّك بنعت التوحيد «١»، واقف على بساط التفريد، ومتى يصحّ ذلك، ومتى يسلم لك أن يكون لك معتمد تتوكأ عليه، ومستند عليه تستعين، وبه تنتفع؟
ثم قال: «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» : أوّل قدم فى الطريق ترك كلّ سبب، والتّنقّى عن كل طلب فكيف كان يسلم له أن يقول: أفعل بها، وأمتنع «٢»، ولى فيها مآرب أخرى.
ويقال ما ازداد موسى- عليه السلام- تفصيلا فى انتفاعه بعصاه إلا كان أقوى وأولى بأن يؤمن بإلقائها، والتنقى عن الانتفاع بها على موجب التفرّد لله.
ويقال التوحيد التجريد، وعلامة صحته سقوط الإضافات «٣» بأسرها فلا جرم لما ذكر موسى- عليه السلام- ذلك أمر بإلقائها فجعلها الله حيّة تسعى، وولّى موسى هاربا ولم يعقّب. وقيل له يا موسى هذه صفة العلاقة إذا كوشف صاحبها بسرّها يهرب منها.
ويقال لمّا باسطه الحقّ بسماع كلامه أخذته أريحية سماع الخطاب، فأجاب عما يسأل وعمّا لم يسأل فقال: «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى»، وذكر وجوها من الانتفاع منها أنه قال تؤنسني «٤» فى حال وحدتي، وتضىء لى الليل إذا أظلم، وتحملني إذ عييت فى الطريق فأركبها، وأهشّ بها على غنمى، وتدفع عنى عدوّى. وأعظم مأرب لى فيها أنّك قلت: «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ؟» وأية نعمة أو مأرب أو منفعة تكون أعظم من أن تقول لى: وما تلك؟ ويقال قال الحقّ- بعد ما عدّد موسى وجوه الآيات وصنوف انتفاعه بها- ولك يا موسى فيها أشياء أخرى أنت غافل عنها وهى انقلابها حية، وفى ذلك لك معجزة وبرهان صدق.
(١) إذا صح نقل هذه العبارة عن الأصل فالقشيرى يقصد بها (فإنك موحد)، والموحد أعلى درجات العارفين.
(٢) أي تكون لى بها منعة وقوة، وربما كانت (وأنتفع) وكلاهما صحيح فى المعنى.
(٣) سقوط الإضافات أي لا يقول لى ولا بي ولا منى- وهذه آية صحة التوحيد عندهم (أنظر الرسالة ص ١٤٩).
(٤) وردت (تسعى)، وقد وجدنا (تؤنسني) أقرب إلى المعنى وإن كانت بعيدة فى الرسم، فآثرناها ونبهنا إلى الأصل. أو ربما سقطت (معى) بعد (تسعى) ويكون السياق آنذاك منسجما.
451
ويقال جميع ما عدّد من المنافع فى العصا كان من قبل الله.. فكيف له أن ينسبها ويضيفها إلى نفسه، ولهذا قالوا:
يا جنّة الخلد، والهدايا إذا تهدى إليك فما منك يهدى
ويقال قال موسى لما رآها حية تهتز: لقد علمت كلّ وصف بهذه العصا، أمّا هذه الواحدة فلم أعرفها.
قوله جل ذكره: قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى لا عبرة بما يوهم ظاهر الأشياء فقد يوهم الظاهر بشىء ثم يبدو خلافه فى المستقبل فعصا موسى صارت حية.
ثم قال المقصود بذلك أن تكون لك آية ومعجزة لا بلاء وفتنة «١».
قوله: «قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ... » : أشهده- بانقلاب العصا من حال إلى حال مرة عصا ثم ثعبانا ثم عصا مرة أخرى- أنّه يثبّت عباده فى حال التلوين مرة ومرة فمن أخذ ومن ردّ، ومن جمع ومن فرق إلخ «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣)
كما أراه آية من خارج أراه آية من نفسه، وهى قلب يده بيضاء إذ جعلها فى جيبه من غير البرص. قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» «٣»
(١) وهذا الكلام يتطبق. ذلك على الكرامة التي تظهر على يدى الولي، وهذا فرق بين المعجزة الكرامة من ناحية وبين السحر من ناحية أخرى.
(٢) حتى يصلوا إلى حال (التمكين).
(٣) آية ٥٣ سورة فصلت.
وإنما قال: أدخل يدك فى جيبك ولم يقل كمّك لانه لم يكن لما عليه من اللّباس كمّان.
قوله: «لنريك «١» من آياتنا الكبرى» : الآية الكبرى هى ما كان يجده فى نفسه من الشهود والوجود، وما لا يكون بتكلّف العبد وتصرّفه من فنون الأحوال التي يدركها صاحبها ذوقا.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٢٤]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤)
بعد ما أسمعه كلامه من غير واسطة، وشرّف مقامه، وأجزل إكرامه أمره بالذهاب ليدعو فرعون إلى الله- مع علمه بأنه لا يؤمن ولا يجيب ولا يسمع ولا يعرف- فشقّ على موسى ذهابه إلى فرعون، وسماع جحده منه، بعد ما سمع من الله كلامه سبحانه، ولكنه آثر أمر محنته على مراد نفسه.
ويقال لمّا أمره بالذهاب إلى فرعون سأل الله أهبة النّقل وما به يتمّ تبليغ ما حمل من الرسالة، ومن ذلك قوله:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)
ليعلم أنّ من شرط التكليف التّمكّن من أداء المأمور به.
ويقال إنّ موسى لم أخذ فى المخاطبة مع الله كاد لا يسكت من كثرة ما سأله فظل يدعو: قوله «قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» : حتى أطيق أن أسمع كلام غيرك بعد ما سمعت منك. «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي» : حتى ينطلق بمخاطبة غيرك، وقوّنى حتى أردّ ما أردّ... بك لا بي قوله جل ذكره:
«رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي » وهكذا إلى آخر الآيات والأسئلة.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١)
(١) أخطأ الناسخ إذ جعلها (لنريه). [.....]
سأل أن يصحب أخاه معه، ولما ذهب لسماع كلام الله حين قال تعالى: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً» «١» كان بمفرده، لأن الذهاب إلى الخلق يوجب الوحشة فطلب من أخيه الصحبة ليخفّف عليه كلفة المشقة.
ويقال إن المحبة توجب التجرّد والانفراد وألا يكون للغير مع المحبّ مساغ ففى ذهابه إلى فرعون استصحب أخاه، ولمّا كان الذهاب إلى الميقات لم يكن للغير سبيل إلى صحبته، إذ كان المقصود من ذهابه أن يكون مخصوصا بحاله.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤)
بيّن أنّ طلبه مشاركة أخيه له بحقّ ربه لا بحظّ نفسه حيث قال: «كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً».
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٣٦]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦)
أعطيناك ما سألت، وتناسيت ابتداء حالك حين حفظناك فى اليمّ ونجّينا أمّك من ذلك الغمّ، وربّيناك فى حجر العدوّ.. فأين- حينذاك- كان سؤالك واختيارك ودعاؤك «٢» ؟
وأثبتنا فى قلب امرأة فرعون شفقتك، وألقينا عليك المحبة حتى أحبك عدوّك، وربّاك حتى قتل بسببك ما لا يحصى من الولدان، والذي بدأك بهذه المنن هو الذي آتاك سؤلك، وحقّق لك مأمولك.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩)
(١) آية ١٤٣ سورة الأعراف.
(٢) أي أن فضل الله دائم، وسابق للدعاء، وغير مرتبط بالاختيار الإنسانى ولا بالعمل الإنسانى، وهذه نظرة فى الشمول قلما يفطن إليها غير الصوفية. فأين منهم المعتزلة الذين يوجبون على الله؟! ذلك أحد المرامى البعيدة التي يقصد إليها القشيري.
454
كان ذلك وحي إلهام، ألقى الله فى قلبها أن تجعله فى تابوت، وتلقيه فى اليم يعنى نهر النيل، ففعلت، فألقاه النهر على الساحل، فحمل إلى فرعون. فلمّا وقع بصر امرأة فرعون عليه باشر حبّه قلبها، وكذلك وقعت محبته فى قلب فرعون، ولكنها كانت أضعف قلبا، فسبقت بقولها «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ..» «١»، ولولا أنها علمت أنه أخذ شعبة من قلب فرعون ما أخذ من قلبها لم تقل: «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ».
قوله: «يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ» : ربّاه فى حجر العدو، وكان قد قتل بسببه ألوفا من الولدان.. ولكن من مأمنه يؤتى الحذر! وبلاء كلّ أحد كان بعده إلا بلاء موسى عليه السلام فإنه تقدّم عليه بسنين ففى اليوم الذي أخذ موسى فى حجره كان قد أمر بقتل كثير من الولدان، ثم إنه ربّاه ليكون إهلاك ملكه على يده.. ليعلم أنّ أسرار الأقدار لا يعلمها إلا الجبار.
ويقال كان فرعون يسمّى والد موسى وأباه- ولم يكن. وكان يقال لأمّ موسى ظئر «٢» موسى- ولم تكن فمن حيث الدعوى بالأبوة لم يكن لها تحقيق، ومن حيث كان المعنى والحقيقة لم يكن عند ذلك خبر ولا عند الآخر من ذلك معرفة.. هكذا الحديث والقصة «٣».
ولقد جاء فى القصة أن موسى لمّا وضع فى حجر فرعون لطم وجهه فقال: إنّ هذا من أولاد الأعداء فيجب أن يقتل، فقالت امرأته: إنه صبيّ لا تمييز له، ويشهد لهذا أنه لا يميّز بين النار وبين غيرها من الجواهر والأشياء، وأرادت أن يصدّق زوجها قالتها، فاستحضرت شيئا من النار وشيئا من الجواهر، فأراد موسى عليه السلام أن يمدّ يده إلى الجواهر فأخذ جبريل عليه السلام بيده وصرفها إلى النار فأخذ جمرة بيده، وقرّبها من فيه فاحترق لسانه- ويقال إنّ العقدة التي كانت على لسانه كانت من ذلك الاحتراق- فعند ذلك قالت امرأة فرعون: ها قد تبينّ أن هذا لا تمييز له فقد أخذ الجمرة إلى فيه.
وتخلّص موسى بهذا مما حصل منه من لطم فرعون.
(١) آية ٩ سورة القصص.
(٢) الظئر. المرضعة لغير ولدها.
(٣) يقصد بالحديث والقصة التصوف وأهله فلقب العبد مرتبط بقلبه وحقيقة باطنه لا بما يستفاد من ظاهره ورأى الناس فيه، وهذا أصل من أصول أهل الملامة النيسابورية.
455
ويقال إنهم شاهدوا ولم يشعروا أنه لم يحترق من أخذ الجمرة وهو صبي رضيع، ثم احترق لسانه، فعلم الكلّ أن هذا الأمر ليس بالقياس. فإنه سبحانه فعّال لما يريد.
قوله جل ذكره: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي أحببتك. ويقال فى لفظ الناس: فلان ألقى محبته على فلان أي أحبّه. ويقال «أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» : أي طرحت فى قلوب الناس محبة لك، فالحقّ إذا أحبّ عبدا فكلّ من شاهده أحبّه. ويقال لملاحة فى عينيه فكان لا يراه أحد إلا أحبّه.
ويقال «أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» : أي أثبتّ فى قلبك محبتى فإن محبه العبد لله لا تكون إلا بإثبات الحق- سبحانه- ذلك فى قلبه، وفى معناه أنشدوا:
إنّ المحبة أمرها عجب تلقى عليك وما لها سبب
قوله جل ذكره: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي بمرأى منى ويقال لا أمكّن غيرى بأن يستبعدك عنى.
ويقال أحفظك من كل غير، ومن كلّ حديث سوى حديثنا. ويقال ما وكلنا حفظك إلى أحد.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٤٠]
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)
البلاء على حسب قوة صاحبه وضعفه، فكلما كان المرء أقوى كان بلاؤه أوفى «١»، وكلما كان أضعف كان بلاؤه أخف. وكانت أمّ موسى ضعيفة فردّ إليها ولدها بعد أيام، وكان يعقوب أقوى فى حاله فلم يعد إليه يوسف إلا بعد سنين طويلة.
قوله جل ذكره: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ
(١) قال ﷺ «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» رواه الترمذي، وابن ماجه والحاكم عن سعد بن أبى وقاص.
456
أجرى الله عليه ما هو فى صورة كبيرة من قتل النّفس بغير حق، ثم بيّن الله أنه لا يضره ذلك، فليست العبرة بفعل العبد فى قلّته وكثرته إنما العبرة بعناية الحقّ، بشأن أحد أو عداوته.
ويقال قد لا يموت كثير من الخلق بفنون من العذاب، وكم من أناس لا يموتون وقد ضربوا ألوفا من السياط! وصاحب موسى عليه السلام ومقتوله مات بوكزة! إيش «١» الذي أوجب وفاته لولا أنه أراد به فتنة لموسى؟ وفى بعض الكتب أنه- سبحانه- أقام موسى كذا وكذا مقاما، وأسمعه كلامه كل مرة بإسماع آخر، وفى كل مرة كان يقول له:
«وَقَتَلْتَ نَفْساً».
«فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ» : أريناك عين الجمع حتى زال عنك ما داخلك من الغمّ بصفة مقتضى التفرقة، فلمّا أريناك سرّ جريان التقدير نجيّناك من الغم.
قوله جل ذكره: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً.
استخلصناك لنا حتى لا تكون لغيرنا. ويقال جنّسنا عليك البلاء ونوّعناه حتى جرّدناك عن كل اختيار وإرادة، ثم حينئذ رقّيناك إلى ما استوجبته من العلم الذي أهلناك له.
قوله جل ذكره: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ.
وكنت عند الناس أنك أجير لشعيب، ولم يظهر لهم ما أودعنا فيك، وكان يكفى- عندهم- أن تكون ختنا «٢» لشعيب.
ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى.
أي عددنا أيام كونك فى مدين شعيب، وكان أهل حضرتنا من الملائكة الذين عرفوا شرفك ومحبّتك منتظرين لك فجئت على قدر.
(١) أي (أي شىء) وهى لفظة ترد فى مصنفات القشيري من حين إلى آخر. وجاء فى الوسيط ج ١ ص ٣٤ أن العرب تكلمت بها.
(٢) أي زوجا لابنته، وفي الحديث «علىّ ختن رسول الله»
457
ويقال إنّ الأجل إذا جاء للأشياء فلا تأخير فيه ولا تقديم، وأنشدوا فى قريب من هذا المعنى:
بينما خاطر المنى بالتلاقى سابح فى فؤاده وفؤادى
جمع الله بيننا فالتقينا هكذا بغتة بلا ميعاد
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٤١]
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)
استخلصتك لى حتى لا تصلح لأحد غيرى، ولا يتأتّى شىء منك غير تبليغ رسالتى، وما هو مرادى منك.
ويقال أفردت سرّك لى، وجعلت إقبالك علىّ دون غيرى، وحلت بينك وبين كل أحد ممن هو دونى.
ويقال «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» : قطعه بهذا عن كلّ أحد، ثم قال له: «اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ».
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣)
تعلّل موسى عليه السلام لمّا أرسله الحقّ إلى فرعون بوجوه من العلل مثل قوله:
«يَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي» «١»، «إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» «٢».
إلى غير ذلك من الوجوه، فلم ينفعه ذلك، وقال الله: «إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى»، فاستقل «٣» موسى عليه السلام بذلك، وقال: الآن لا أبالى بعد ما أنت معى.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٤٤]
فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤).
(١) آية ١٣ سورة القصص.
(٢) آية ٣٣ سورة القصص.
(٣) الاستقلال هنا معناه الاكتفاء.
458
إنما أمرهما بالملاينة معه فى الخطاب لأنه كان أول من دعوه إلى الدّين، وفى حال الدعوة يجب اللّين «١» فإنه وقت المهلة، فلا بدّ من الإمهال ريثما ينظر «٢» قال الله لنبينا صلى الله عليه وسلم: «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «٣» » : وهو الإمهال حتى ينظروا ويستدلوا، وكذلك قال: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ» «٤».
ثم إذا ظهر من الخصم التمرّد والإباء فحينئذ يقابل بالغلظة والحتف.
ويقال علّمهما خطاب الأكابر ذوى الحشمة ففرعون- وإن كان كافرا- إلا أنه كان سلطان وقته، والمتسلّط على عباد الله.
ويقال إذا كان الأمر فى مخاطبة الأعداء بالرّفق والملاينة.. فكيف مع المؤمن فى السؤال؟
ويقال فى هذا إشارة إلى سهولة سؤال الملكين فى القبر للمؤمن.
ويقال إذا كان رفقه بمن جحده فكيف رفقه بمن وحده؟
ويقال إذا كان رفقه بالكفّار فكيف رفقه بالأبرار؟
ويقال إذا كان رفقه بمن قال: أنا.. فكيف رفقه بمن قال: أنت؟
ويقال إنه «٥» أحسن تربية موسى عليه السلام فأراده أن يرفق به اليوم فى الدنيا على جهة المكافأة.
وقيل تفسير هذا ما قال فى آية أخرى «فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» «٦».
وقوله: «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» : أي كونا على رجاء أن يؤمن. ولم يخبرهما أنه لا يؤمن
(١) وردت (التمكين) وهى خطأ فى النسخ وقد انتبه أحد القراء إلى هذا الخطأ فوضع علامة استفهام صغيرة.
(٢) النظر هنا معناها التفكر فى الأمر.
(٣) آية ١٢٥ سورة النحل. [.....]
(٤) آية ٤٦ سورة سبأ.
(٥) أي فرعون.
(٦) آية ١٨ سورة النازعات.
459
لئلا تتداخلهما فترة فى تبليغ الرسالة علما منه «١» بأنه لا يؤمن ولا يقبل.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٤٥]
قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥)
فى الآية دليل على أنّ الخوف «٢» الذي تقتضيه جبلة الإنسان غير ملوم صاحبه عليه، حيث قال مثل موسى ومثل هارون عليهما السلام: «إِنَّنا نَخافُ».
ثم إنّه سبحانه سكّن ما بهما من الخوف بوعد النصرة لهما.
ويقال لم يخافا على نفسيهما شفقة عليهما، ولكن قالا: إننا نخاف أن تحل بنا مكيدة من جهته، فلا يحصل فيما تأمرنا به قيام بأمرك، فكان ذلك الخوف لأجل حقّ الله لا لأجل حظوظ أنفسهما.
ويقال لم يخافا من فرعون، ولكن خافا من تسليط الله إياه عليهما، ولكنهما تأدّبا فى الخطاب.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٤٦]
قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦)
تلطّف فى استجلاب هذا القول من الحق سبحانه، وهو قوله: «إِنَّنِي مَعَكُما» بقولهما:
«إِنَّنا نَخافُ»، وكان المقصود لهما أن يقول الحق لهما: «إِنَّنِي مَعَكُما» وإلا فأنّى بالخوف لمن هو مخصوص بالنبوّة؟! ويقال سكّن فيهما الخوف بقوله: «إِنَّنِي مَعَكُما»، فقويا على الذهاب إليه إذ من شرط التكليف التمكين.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٤٧]
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧)
(١) وردت (منهم) وهى خطأ فى النسخ لأن المقصود: مع انه سبحانه عليم بانه لن يؤمن ولن يقبل.
(٢) فى هذه الإشارة توضيح هام لاصطلاح (الخوف).
طال البلاء ببني إسرائيل من جهة فرعون، فتدراكهم الحقّ سبحانه ولو بعد حين، بذلك أجرى سنّته أنه يرخى عنان الظالم، ولكن إذا أخذه فإنّ أخذه أليم.
قوله جل ذكره: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ من شرط التكليف التمكين بالبيّنة والآية للرسول حتى يتّضّح ما يدلّ على صدقه فيما يدعو إليه من النبوة. ثم إن تلك الآية وتلك البيّنة ما نفعتهم، وإنما تأكدت بهما عليهم الحجّة فإذا عمى بصر القلب فأنّى تنفع بصيرة الحجة؟ وفى معناه قالوا:
وفى نظر الصادي إلى الماء حسرة إذا كان ممنوعا سبيل الموارد
قوله جل ذكره: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى إنما يتّبع الهدى من كحلّ قلبه بنور العرفان، فأما من كانت على قلبه غشاوة الجهل..
فمتى يستمع إلى الهدى؟
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)
ما بعث الله نبيا إلّا وقد نذر قومه بالعذاب على ترك الأمر، وبشّرهم بالثواب على حفظ الأمر. والعذاب معجّل ومؤجّل فمؤجّله لا يوقف على تفصيله الأعداء، وكذلك مؤجّل الثواب، قال تعالى: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» «١».
وأما معجّل العقوبة فأنواع، وعلى حسب مقام المرء تتوجّه عليه المطالبات، والزيادة فى العقوبة تدلّ على زيادة استحقاق الرّتبة كالحرّ والعبد فى الحدّ. وقسوة القلب نوع عقوبة، وما يتداخل الطاعة نوع عقوبة، وخسران نصيب فى المال والأنفس نوع عقوبة..
إلى غير ذلك.
قوله جل ذكره: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى.
(١) آية ١٧ سورة السجدة.
«فَمَنْ رَبُّكُما» على التثنية، ثم قال: «يا مُوسى» فأفرده بالخطاب بعد ما قال: «فَمَنْ رَبُّكُما؟». فيحتمل أن ذلك لمشاكلة رءوس الآي، ويحتمل أن موسى كان مقدّما على هارون فخصّه بالنداء.
وإنما أجاب موسى عن هذا السؤال بالاستدلال على فعله- سبحانه فقال: «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ» ليعلم أنّ الدليل على إثباته- سبحانه- ما دلّت عليه أفعاله.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢)
لا يمكننى أن أخبركم إلا بما أخبرنى به ربى، فما عرّفنى عرّفت، وما ستره علىّ وقفت.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٥٣]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣)
جعل الأرض مستقرا لأبدانهم، وجعل أبدانهم مستقرا لعبادته، وقلوبهم مستقرا لمعرفته «١»، وأرواحهم مستقرا لمحبته، وأسرارهم مستقرا لمشاهدته.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٥٤]
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤)
هيّأ لهم أسباب المعيشة، وكما انظر إليهم ورزقهم رزق دوابّهم التي ينتفعون بها،
(١) وردت (وأرواحهم مستقرا لعبادته) والصواب ان تكون (وقلوبهم مستقرا لمعرفته) حسبما نعرف من مذهب القشيري فى ترتيب الملكات الباطنية (انظر بحثنا فى الدكتوراه عن الإمام القشيري وتصوفه) ط مؤسسة الحلبي.
وأمرهم أن يتقووا بما تصل إليه أيديهم، وأن ينتفعوا- ما أمكنهم- بأنعامهم ليكمل لديهم إنعامهم.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٥٥]
مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥)
إذ خلقنا آدم من التراب، وإذ أخرجناكم من صلبه.. فقد خلقناكم من التراب أيضا.
والأجساد قوالب والأرواح ودائع، والقوالب نسبتها التّربة «١»، والودائع صفتها القربة «٢»، فالقوالب يزيّنها بأفضاله، والودائع يحييها بكشف جلاله ولطف جماله. وللقوالب اليوم اعتكاف على بساط عبادته، وللودائع اتصاف بدوام معرفته.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٥٦]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦)
أمره بجهره، وأعماه عن شهود ذلك بسره، فما نجع فيه كلامه، وما انتفع بما حذّره من انتقامه، ويسر له من إنعامه.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨)
دعاهم موسى إلى الله، وخاطبهم فى حديث الآخرة من تبشير بثواب، وإنذار بعذاب، فلم يجيبوا إلّا من حيث الدنيا، وما زادهم تذكيرا إلا ازدادوا غفلة وجهاله.
(١)، (٢) وردتا (البرية) و (القوية) ولم نجد للجملتين معنى على ذلك- فى حدود ما نعرف- بينما لو صارت النسبة إلى (التربة) كما تشير الآية وكما يشير كلام المصنف فى بداية الفقرة، ثم لو جعلنا (القرية) بدل (القوية) لا نسجم السياق، ونحن فى هذا لا نصدر إلا عن استخدام القشيري لهذا الأسلوب فى مواضع مماثلة- والله اعلم.
كذلك صفة من وسمه الحقّ بالإبعاد، لم يكن له عرفان، ولا بمال يقال إيمان، ولا يتأسّف على ما يفوته، ولا تصديق له بحقيقة ما هو بصدده.
قوله: «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ..» تأهّبوا لمناصبة الحقيقة وتشمّروا للمخالفة، فقصمتهم المشيئة وكبستهم القدرة، وكما قيل:
استقبلني وسيفه مسلول وقال لى واحدنا معذول
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٥٩]
قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩)
فكان فى ذلك اليوم افتضاحهم «١».
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٦٠]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠)
كان فرعون فكيد له، وأراد فارتدّ إليه، ودعا للاستعداد فأذلّ وإذ يقال بأس.
ولم يدع موسى شيئا من الوعظ والرّفق، ولم يغادر فرعون شيئا من البله والحمق، ولكن:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢)
اعلموا أنه لا طاقة لأحد مع الله- سبحانه- إذا عذّبه، فحملوا مقالته على الإفك، ورموا معجزته بالسحر فقالوا:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٣ الى ٦٥]
قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥)
(١) يشير القشيري بذلك إلى شاهد شعرى سبق وروده:
من تحلى بغير ما هو فيه فضحته شواهد الامتحان
ويهدف إلى أن يثبت ان تزين الظاهر لا جدوى منه فى الحقيقة.
هما فى دعواهما كاذبان يقصدان إلى إخراجكم من بلدكم، والتشويش عليكم فى معتقدكم.
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى أظهروا من أنفسهم التجلّد ظنّا بأنّ النصرة لهم، وإخلادا إلى ما كان السّحرة يسوّلون لهم، فخيّروا موسى فى الابتداء بناء على ما توهموا من الإلقاء، فقال لهم موسى:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٦ الى ٧١]
قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠)
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١)
قال لهم موسى بل ألقوا أنتم، وليس ذلك إذنا لهم فى السحر، ولكن أراد الحقّ إظهار تمويههم، فلمّا خيّلوا للناس بإلقاء الحبال أنها حيات ابتلعت عصا موسى جملة ما صنعوا، وتحقّق السّحرة أنّ ذلك أمر سماوىّ حيث تلاشى عين ما كان معهم من أوقار «١» الحبال، وصار الثعبان عصا كما كان، فسجدوا لله مؤمنين، وانقلب فرعون وقومه خائبين، وتوعّدهم بالقتل والصّلب، وفنون من العذاب الصعب، وبعد ما كانوا يقسمون بعزّة فرعون صاروا يحلفون بالله.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٧٢]
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢)
أي بالله الذي فطرنا إنّا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات. ولما طلعت فى أسرارهم شموس العرفان، وانبسطت عليهم أنوار العناية أبصروا الحقّ سبحانه بأسرارهم فنطقوا ببيان التصديق، وسجدوا بقلوبهم لمشهودهم، ولم يحتشموا مما توعدهم به من العقوبة، ورأوا ذلك من الله فاستعذبوا البلاء، وتحملوا اللأواء «٢»، فكانوا فى الغداة كفارا سحرة، وأمسوا أخيارا بررة «٣».
قوله «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ... » علموا أنّ البلاء فى الدنيا ينقضى- وإن تمادى، وينتهى وإن تناهى «٤» قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٧٣]
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣)
أهمّ الأشياء- على من عرفه- مغفرته لخطاياه فهذا آدم- عليه السلام- لما
(١) الأوقار جمع وقر- الحمل الثقيل.
(٢) اللأواء- ضيق المعيشة وشدة المرض (الوسيط).
(٣) فى هذه الإشارة فتح الباب الأمل امام العصاة نظرا لقصر المسافة بين الكفر والايمان، فهى كما بين الغداة والمساء.
(٤) أي وإن تناهى فى الشدة.
استكشف «١» من حاله، وحلّ به ما حلّ قال: َبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي... »
«٢» وقال لنبينا- صلى الله عليه وسلم- «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» «٣». وقال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبى فأستغفر الله فى اليوم سبعين مرة» «٤». ومنّ عليه بقوله: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» «٥» قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٧ الى ٧٩]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩)
لما عبر موسى ببني إسرائيل البحر، وقرب منه فرعون، ورأى البحر منفلقا والطريق فيه يبسا عيّر قومه بتلبيسه فقال: «إنه بحشمتي انفلق، فأنا ربّكم الأعلى!» وحصل- كما فى القصة- من دخوله بعسكره البحر حتى دخل آخرهم، وهمّ أن يخرج أوّلهم، فأمر الله البحر حتى التطمت أمواجه فغرقوا بجملتهم، وآمن فرعون لما ظهر له اليأس «٦»، ولم ينفعه إقراره، وكان ينفعه لو لم يكن إصراره، وقد أدركته الشقاوة التي سبقت له من التقدير.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٨٠]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠)
(١) يقصد القشيري حين (بدت لهما سوآتهما وانكشفت) وربما كانت فى الأصل (استنكف) اى خجل مما فعل فهى قريبة فى الكتابة وملائمة السياق. [.....]
(٢) آية ١٦ سورة القصص
(٣) آية ٥٥ سورة غافر.
(٤) عن أغر مزينة رضى الله عنه قال: قال رسول الله: إنه ليغان على قلبى حتى أستغفر الله تعالى فى اليوم والليل مائة مرة. أخرجه مسلم وأبو داود.
(٥) آية ٢ سورة الفتح.
(٦) ربما كانت (البأس) بالباء فهى ملائمة للسياق.
يذكّرهم آلاءه، ويعدّ عليهم نعماءه، ويأمرهم بالتزام الطاعة والقيام بالشكر لما أسبغ عليهم من فنون النّعم، ثم يذكرهم ما منّ به على أسلافهم من إنزال المنّ والسلوى، وضروب المحن وفنون البلوى.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٨١]
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١)
الطيب ما كان حلالا. ويقال الطيب من الرزق ما لا يعصى الله مكتسبه. ويقال الطيب من الرزق ما يكون على مشاهدة الرزاق. ويقال الطيب من الرزق ما حصل منه الشكر. ويقال الطيب من الرزق ما يأخذه العبد من الله فما لأهل الجنة مؤجّل فى عقباهم جهرا، معجّل لأصفيائه فى دنياهم سرّا، قال تعالى: «آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ «١» ».
والأرزاق مختلفة فلأقوام حظوظ النفوس ولآخرين حقوق القلوب، ولأقوام شهود الأسرار فرزق النفوس التوفيق، ورزق القلوب التصديق، ورزق الأرواح التحقيق «٢».
قوله: «وَلا تَطْغَوْا فِيهِ» : بمجاوزة الحلال إلى الحرام.
ويقال «لا تَطْغَوْا فِيهِ» : بالزيادة على الكفاف «٣»، وما لا بدّ منه مما زاد على سدّ الرمق.
ويقال «لا تَطْغَوْا فِيهِ» : بالأكل على الغفلة والنسيان.
قوله جل ذكره: فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى.
فيحل عليكم غضبى بالخذلان لمتابعة الزّلّة بعد الزّلّة.
ويقال فيحل عليكم غضبى لفقدكم التأسّف على ما فاتكم.
ويقال بالرضا بما أنتم فيه من نقصان الحال.
(١) آية ١٦ سورة الذاريات.
(٢) نضع ذلك فى اعتبارنا عند بحث الملكات الباطنية، ووظائفها وآفاتها... وأرزاقها.
(٣) الكفاف من الرزق ما كان على مقدار الحاجة من غير زيادة ولا نقصان.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٨٢]
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
الغفّار كثير المغفرة فمنك التوبة عن زلّة واحدة ومنه المغفرة لذنوب كثيرة، ومنه السّرّية التي لا اطلاع لأحد غيره عليها وما للملائكة عليها اطلاع. وهو يغفر لمن عمل مثل عملك، وهو يغفر لمن قلبك مريد له بالخير والنعمة، وكما قالوا.
إنى- على جفواتها- فبربّها وبكل متّصل بها متوسّل
وأحبّها وأحبّ منزلها الذي نزلت به وأحبّ أهل المنزل
قوله «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ» : فلا تصحّ التوبة إلا لمن يكون مؤمنا.
وقوله هنا: «وَآمَنَ» : أي آمن فى المآل كما هو مؤمن فى الحال.
ويقال آمن بأنه ليست نجاته بتوبته وبإيمانه وطاعته، إنما نجاته برحمته.
ويقال «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ» : من الزّلّة «وَآمَنَ» : فلم ير أعماله من نفسه، وآمن بأن جميع الحوادث من الحقّ- سبحانه- «وَعَمِلَ صالِحاً» : فلم يخلّ بالفرائض ثم اهتدى للسّنّة والجماعة «١».
ويقال «ثُمَّ» : للتراخى أي آمن فى الحال «ثُمَّ» اهتدى فى المآل.
ويقال من سمع منه «وَإِنِّي» لا يقول بعد ذلك: «إِنِّي» «٢» ويقال من شغله سماع قوله: «وَإِنِّي» استهلك فى استيلاء ما غلب عليه من ضياء القربة، فإذا جاءت «لَغَفَّارٌ» صار فيه بعين المحو، ولم يتعلق بذنوب أصحابه وأقاربه وكل من يعتنى بشأنه.
ويقال «إِنِّي لَغَفَّارٌ» كثير المغفرة لمن تاب مرة فيغفر له أنواعا من ذنوبه التي لم يتب منها سرّها وجهرها، صغيرها وكبيرها، وما يتذكر منها وما لا يتذكر. ولا ينبغى أن يقول:
(١) واضح حرص القشيري السنى على التمسك بسنيته- وهذا أصل ثابت فى مذهبه سواء فى علم الكلام أو فى علم التصوف.
(٢) فالتوحيد الصادق إسقاط الياءات ونفى كل دعوى للنفس.
عملت «عملا صالِحاً» : بل يلاحظ عمله بعين الاستصغار، وحالته بغير الاستقرار.
وقوله «ثُمَّ اهْتَدى» : أي اهتدى إلينا بنا.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٨٣]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣)
أخرجهم مع نفسه لمّا استصحبهم، ثم تقدّمهم «١» بخطوات فتأخروا عنه، فقيل له فى ذلك مراعاة لحقّ صحبتهم.
ويقال قوم يعاتبون لتأخرهم وآخرون لتقدمهم.. فشتان ماهما! قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٨٤]
قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤)
أي عجلت إليك شوقا إليك، فاستخرج منه هذا الخطاب، ولولا أنه استنطقه لما أخبر به موسى «٢».
قوله «هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي..» أي ما خلّفتهم لتصييعى أيامى، ولكنى عجلت إليك لترضى. قال: يا موسى إنّ رضائى فى أن تكون معهم وألّا تسبقهم، فكونك مع الضعفاء الذين استصحبتهم- فى معانى حصول رضائى- أبلغ من تقدّمك عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٨٥]
قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥)
فتنّا قومك فضلّوا وعبدوا العجل فأخبر الحقّ- سبحانه- أنّ ذلك منه تقدير، وفى هذا تكذيب لمن جحد القول بالقدر.
ويقال طلب موسى- عليه السلام- رضاء الحق، وقدّر الحقّ- سبحانه- فتنة.
قومه فقال: «فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ»، ثم الحكم لله و، لم يكن بد لموسى عليه السلام من الرضاء بقضاء الله- فلا اعتراض على الله- ومن العلم بحقّ الله فى أن يفعل ما يشاء، وأنشدوا:
أريد وصاله ويريد هجرى فأترك ما أريد لما يريد
(١) حين ذهب لميقات ربه.
(٢) وإلا كان دعوى من النفس. ويفيدنا هذا الرأى في قضية الإفصاح والكتمان.
قوله جل ذكره: وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ بدعائه إياهم إلى عبادة العجل، وهو نوع من التغرير، وحصل ما حصل، وظهر ما ظهر من (... ) «١»
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٨٦]
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦)
ورجع نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- من المعراج بنعت البسط، وجاء بالنجوى «٢» لأصحابه فيما أوجب الله عليهم من الصلاة، وأكرمهم به من القربة بالزلفة.. فشتان ماهما! ورجع موسى إلى قومه بوصف الغضب والأسف، وخاطبهم ببيان العتاب:
قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؟ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ظنوا بنبيّهم ظنّ السّوء فى خلفه الوعد، فلحقهم شؤم ذلك حتى زاغوا عن العهد، وأشركوا فى العقد.. وكذلك يكون الأمر إذا لم يف المرء بعقده، فإنه ينخرط فى هذا السّلك قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٨٧]
قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧)
قالوا لم نكن فى ابتداء حالنا قاصدين إلى ما حصل منّا، ولا عالمين بما آلت إليه عاقبة
(١) مشتبهة، وهى قريبة فى الخط من (التعدية) وربما كانت صحيحة بمعنى التعدي لأنهم تركوا عبادة الله إلى عبادة العجل فظلموا أنفسهم وتجاوزوا حدودهم.
(٢) ربما كانت (بالنجاة) حيث تتضح المقابلة بين أمة عاد إليها نبيها من عند ربه (بالنجاة) وأمة عاد إليها نبيها منذرا بالعقوبة ومع ذلك فقد قبلنا (النجوى) على أساس أنها جوهر الصلاة. [.....]
حالنا، وإن الذي حملنا من حلّى القبط صاغ السامرىّ منه العجل.. وكذلك الحرام من حطام الدنيا لا يخلو من شؤم أثره. فلقد كانت الغنيمة وأموال المشركين حراما عليهم، فاستعاروا الحلىّ من القبط، وآل إليهم ما كان فى أيديهم من الملك، فكان سبب عبادتهم العجل.. كذلك من انهمك فى طلب الدنيا من غير وجه حلال يكون على خطر من رقّة دينه، قال تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» «١».
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩)
يقال إنهم لمّا مرّوا على قوم يعبدون أصناما لهم قالوا لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وكان ذلك الصنم على صورة العجل فكان ميلهم إلى عبادته مستكنّا فى قلوبهم، فصاغ السامرىّ العجل على تلك الصورة. وفى هذه إشارة إلى أن خفايا الهوى إذا استكنّت فى القلب فما لم ينقش ذلك الشرك بمنقاش المنازلة يخشى أن يلقى صاحبه (... ) «٢».
ويقال إن موسى- عليه السلام- خرج من بين أمته أربعين يوما فرضى قومه بعبادة العجل، ونبيّنا- عليه السلام- خرج من بين أمته وأتت سنون كثيرة ولو ذكر واحد عند من أخلص من أمته فى التوحيد حديثا فى التشبيه لعدوا ذلك منه كبيرة ليس له منها مخلص «٣».
كذلك فإنهم استحفظوا كتابهم فبدّلوه تبديلا، بينما ضمن الحقّ- سبحانه- إعزاز هذا الكتاب بقوله: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» «٤».
(١) آية ٢٣ سورة الجاثية.
(٢) مشتبهة وهى فى الرسم تقرب من (نعيبه) والنعيب صوت الغراب.. فهل يقصد القشيري- ما ذكره منذ قليل- أن صاحبه يلقى شؤم أثر ذلك؟ أم أن اللفظة فى الأصل غير ذلك؟ ربما كانت (نحبه) أو (نعيه) أو (مغبته).
(٣) لأن المشبهة يدنون بتصوراتهم المادية عن الألوهية من عيدة العجل.
(٤) آية سورة الحجر.
وقال: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» «١».
قوله: «أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا... » بيّن أنّ من لا قول له لا يتكلم، ومن لا يملك الضر والنفع لا يستحق العبادة، وفيه رد على من لم يثبت له فى الأزل القول، ولم يصفه بالقدرة على الخير والشر:
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٩٠]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠)
إنهم لم يحفظوا أمر موسى وهو فوق هارون، والإشارة فى هذا أن من لم يحفظ أمر من هو أعلى رتبة كيف يحفظ أمر من هو أدنى منزلة؟ فمن ترك أمر الحقّ.. كيف يطمع فيه أن يحترم الشيوخ وأكل الناس؟ لهذا قيل: لا حرمة لفاسق لأنه إذا ترك حقّ الحقّ فمتى يحفظ حقّ الخلق؟
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٩١]
قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١)
كان ذلك تعلّلا منهم بالباطل، فقالوا إنهم كانوا عازمين على ترك عبادة العجل إذ به يتحققون أن موسى عليه السلام دعاهم إلى التوحيد وترك عبادة غير الله.. ولكن كلّ متعلّل يستند إلى ما يحتج به من الباطل.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣)
ضاق قلب موسى- عليه السلام- لمّا شاهد من قومه بالمعاينة عبادة العجل، ولقد كان سمع من الله أنّ السامرىّ أضلّهم حين قال: «فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ»، ولكن قديما قيل: ليس الخبر كالعيان، فلمّا عاين ذلك ضاق قلبه، فكان يقول لأخيه ذلك فظهر منه ما ظهر «٢»،
(١) آية ٢٨ سورة الفتح.
(٢) إشارة إلى أنه أخذ بشعر رأسه بيمينه، ولحيته بشماله غضبا، وغيرة فى الله.
وقيل: من ضاق قلبه اتسع لسانه. ولما ظهر لموسى- عليه السلام- ما ظهر أخذ هارون يقابله بالرفق واللطف وحسن المداراة.. وكذلك الواجب فى الصحبة لئلا يرتقى الأمر إلى الوحشة، فاستلطفه فى الخطاب واستعطفه بقوله:
[سورة طه (٢٠) : آية ٩٤]
قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)
أنت أمرتنى ألّا أفارقهم. وقد يقال إن هارون لو قال لموسى: فى الوقت الذي احتجت أن تمضى إلى فرعون قلت: «وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً»، وقلت: «فَأَرْسِلْهُ مَعِي»، وقلت حين مضيت إلى سماع كلام الحق: «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي».. فما اكتفيت بأن لم تستصحبنى.. وخلّفتنى! وقد علمت أنى برىء الساحة مما فعلوا فأخذت بلحيتي وبرأسى.. ألم ترض بما أنا فيه حتى تزيدنى حريا على حرى «١» ؟!... لو قال ذلك لكان موضعه، ولكن لحلمه، ولعلمه- بأنّ ذلك كلّه حكم ربّهم- فقد قابل كلّ شىء بالرضا.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٩٥]
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥)
سأل موسى كلّ واحد منهم بنوع آخر، وإن معاتبته مع قومه، ومطالبته لأخيه، وتغيّره فى نفسه، واستيلاء الغضب عليه- لم يغيّر التقدير، ولم يؤخّر المحكوم.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٩٦]
قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)
علمت ما لم يعلمه بنو إسرائيل فرأيت جبريل، فقبضت التراب من موضع حافر
(١) الحرى- الغضب (الوسيط ج ١ ص ١٦٩)
دابته، وألقى فى روعى أن ذلك سبب حياة العجل فطرحتها فى جوفه.. هكذا زيّنت لى نفسى فاتّبعت هواها.
ثم كان هلاكه.. لئلا يأمن أحد حفىّ مكر التقدير، ولا يركن إلى ما فى الصورة من رفق فلعلّه- فى الحقيقة- يكون مكرا، ولقد أنشدوا:
فأمنته فأتاح لى من مأمني مكرا، كذا من يأمن الأحبابا
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٩٧]
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧)
لم يخف على موسى- عليه السلام- تأثير التقدير وانفراد الحقّ بالإبداع، فلقد قال فى خطابه مع الحق: «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ»، ولكنه لم يدع- مع ذلك- بإحلال العقوبة بالسامري والأمر فى بابه بما يستوجبه ليعلم أن الحكم فى الإبداع والإيجاد- وإن كان لله- فالمعاتبة والمطالبة تتوجهان على الخلق فى مقتضى التكليف، وإجراء الحقّ ما يجريه ليس حجّة للعبد ولا عذرا له.
قوله جل ذكره: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً كلّ ما تعلّق به القلب من دون الله ينسفه الحقّ- سبحانه بمحبّه «١» ولهذا يلقى الأصنام غدا فى النار مع الكفار، وليس لها جرم، ولا عليها تكليف، ولا لها علم ولا خبر.. وإنما هى جمادات.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٩٨]
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)
إي إلهكم الذي تجب عليكم عبادته بحقّ أمره هو الله الذي لا إله إلا هو، وهو بوصف الجلال، والذي لا يخفى عليه شىء من المعلومات هو الله، وليس مثل الذي هو جماد لا يعلم
(١) الباء هنا معناها (مع).
ولا يقدر، ولا يحيا ولا يسمع ولا يبصر. ويمكنه أن يسحق هذا الجماد ويحرقه.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ٩٩]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩)
نعرّفك أحوال الأولين والآخرين لئلا يلتبس عليك شىء من طرقهم فتتأدب بآدابهم وتجتمع فيك متفرّقات مناقبهم.. ولكن اعلم أنّا لم نبلغ أحدا مبلغك، ولم يكن لأحد منّا مالك آتيناك من عندنا شرفا وفخرا لم يشركك فيهما أحد، وذكّرناك ما سلف لك من العهد معنا، وجدّدنا لك بينهم تخصيصنا إياك، وكريم إقبالنا عليك.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٠٠]
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠)
المعرضون عنه شركا يحملون غدا وزرا وثقلا، أولئك بعدوا عن محلّ الخصوصية، ولم يكن لهم خطر فى التحقيق فعقوبتهم لا تزيد على آلام نفوسهم وإحراق أشباحهم، وأمّا أهل الخصوصية فلو غفلوا عنه ساعة، ونسوه لحظة لدار- فى الحال- على رؤوسهم البلا بحيث تتلاشى فى جهنّم عقوبة كلّ أحد (بالإضافة إلى هذه العقوبة) «١».
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٣]
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣)
قوم يوم القيامة لهم مؤجّل، وهو بعد النفخ فى الصّور على ما ورد فى الكتاب وفى الخبر المأثور.
(١) ما بين القوسين أضفناه من عندنا ليتضح المعنى المطلوب حسبما نعرف من مذهب الصوفية أن عذاب الفراق أشد من عذاب الاحتراق.
وللآخرين قيامة معجّلة «١» فيها محاسبة وعليهم فيها مطالبة، وهو ان حاضر وعذاب حاصل، فكما ترد على ظواهر قوم فى الآخرة عقوبات، ترد على سرائر آخرين عقوبات فى الحياة الحاضرة، والمعاملة مع كلّ أحد تخالف المعاملة مع صاحبه.
قوله «يتخافتون بينهم... » من تفرّغ لعدّ الأوقات والتمييز بين اختلاف الحالات فنوع غير مستوف فى بلائه، وأمره سهل... ومن كان يراد المعنى من حديثه لا يتفرغ إلى نعت الحال فالأحوال تخبر عنه وهو لا يسأل عن الخبر.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٧]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧)
كما أنّ فى القيامة الموعودة تغيّر الجبال عن أحوالها فهى كالعهن المنفوش فكذلك فى القيامة الموجودة... فلا يخبرك عنها إلا الأكابر الذين هم كالرواسى ثباتا فإنه يدخل عليهم من الأحوال ما يمحقهم عن شواهدهم، ويأخذهم عن أقرانهم... كذا سنّته سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٠٨]
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨)
تنقطع الأوهام، وتقف الأفهام، وتنخنس العقول، وتندرس العلوم، وتتحير المعارف، ويتلاشى ما هو نعت الخلق، ويستولى سلطان الحقيقة.. فعند ذلك لا عين ولا أثر، ولا رسم ولا طلل ولا غبر، فى الحضور خرس، وعلى البساط فناء، وللرسوم امتحاء، وإنما الصحة على الثبات.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٠٩] «٢»
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩)
(١) أي القيامة التي تحل بأرباب القلوب فى هذه الحياة الدنيا.
(٢) لأنه يكون فانيا عن نفسه، والقائم عنه ربّه.
دليل الخطاب انّ من أذن له فى الشفاعة تنفعه الشفاعة، وإذا قبلت شفاعة أحد بإذن الرحمن فمن المحال ألّا تقبل شفاعة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو أفضل الكافة، وشفاعة الأكابر من صفوته مقبولة فى الأصاغر في المؤجّل وفى المعجّل. والحقّ سبحانه يشفّع الشيوخ فى مريديهم اليوم «١» ويقال شفاعة الرسول عليه السلام غدا للمطيعين بزيادة الدرجة، وللعاصين بغفران الزّلّة، كذلك شفاعة الشيوخ- اليوم- للمريدين على قسمين: للذين هم أصحاب السلوك فبزيادة التحقيق والتوفيق، وللذين هم أصحاب التّخبّط والغرّة فبالتجاوز عنهم، وعلى هذا يحمل قول قائلهم:
إذا مرضتم أتيناكم نعودكم وتذنبون فنأتيكم ونعتذر!
وحكايات السّلف من الشيوخ مع مريديهم فى أوقات فترتهم معروفة، وهى مشاكلة لهذه الجملة، وإن شفاعتهم لا تكون إلا بتعريف من قبل الله فى الباطن، ويكون ذلك أدبا لهم فى ذلك قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١١٠]
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠)
لا يخفى على الحق شىء مما مضى من أحوالهم ولا من آتيها، ولا يحيطون به علما.
والكناية «٢» فى قوله: «بِهِ» يحتمل أن يعود إلى ما بين أيديهم وما خلفهم، ويحتمل أن يعود إلى الحقّ- سبحانه-، وهو طريقة السّلف يقولون. يعلم الخلق ولا يحيط به العلم كما قالوا: إنه يرى ولا يدرك.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١١١]
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١).
(١) بينما ينكر المعتزلة الشفاعة (أنظر الملل والنحل للشهرستانى) يثبت القشيري الشفاعة لا للرسول فقط بل للأولياء فى الدارين، وللشيوخ في هذه الحياة الدنيا.. على نحو ما هو واضح من إشارته.
(٢) الكناية فى تعبير القشيري معناها (الضمير)، وهو هنا الهاء فى (به).
ذلّت له الرقاب واستسلم لحكمه الخلق، وخضعت له الجبابرة، ومن اقترف الظلم بقي فى ظلماته، وعلى حسب ذلك فى الزيادة والنقصان.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١١٢]
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)
العمل الصالح ما يصلح للقبول، فاعله هو المتجرّد عن الآفات الواقفة لحقيقة الأمر.
ويقال العمل الصالح ما لم يستعجل عليه صاحبه أجرا.
قوله: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» : أي فى المآل كما هو مؤمن فى الحال.
ويقال هو مؤمن مصدّق لربّه أنه لا يعطى المؤمن لأجل إيمانه شيئا، ولكن بفضله، وإيمانه أمارة لذلك لا موجب له «١».
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١١٣]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣)
أتبعنا دليلا بعد دليل، وبعثنا رسولا بعد رسول، وحذّرناهم بوجوه من التعريفات، وإظهار كثير من الآيات قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١١٤]
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
تعالى الله فى كبريائه وكبرياؤه: سناؤه وعلاه ومجده، ورفعته وعظمته، كل ذلك بمعنى واحد، وهو استحقاقه لأوصاف الجلال والتعظيم.
و «الْمَلِكُ» : مبالغة من المالك، وحقيقة الملك القدرة على الإيجاد، والانفراد بذلك.
و «الْحَقُّ» : فى وصفه- سبحانه- بمعنى الموجود، ومنه قوله عليه السلام:
«العين حق» «٢» أي موجود.
(١) على خلاف قول المعتزلة الذين يوجبون على الله أن يثبت من أطاع ويعاقب من أذنب. [.....]
(٢) يقول القشيري فى تحبيره ص ٦٨ «الحق من أسمائه سبحانه بمعنى الموجود الكائن، وكذا معناه فى اللغة، ومنه قوله عليه السلام: «السحر حق» أي كائن موجود، وكذا يقال الجنة حق، والنار حق.
479
ويكون الحق بمعنى ذى الحقّ، ويكون بمعنى محقّ الحق. كل ذلك صحيح.
قوله جل ذكره: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.
كان يتعجل بالتلقف من جبريل مخافة النسيان، فأمره بالتثبت فى التلقين، وأمّنه من طوارق النسيان، وعرّفه أن الذي يحفظ عليه ذلك هو الله.
والآية تشير إلى طرف من الاحتياط فى القضاء بالظواهر قبل عرضها على الأصول، ثم إن لم يوجد ما يوجب بالتحقيق أجراه على مقتضى العموم بحقّ اللفظ، بخلاف قول أهل التوقف.
فالآية تشير إلى التثبت فى الأمور وضرورة التمكث واللبث قصدا للاحتياط «١».
قوله: (وقل ربّ زدنى علما) : فإذا كان أعلم البشر، وسيّد العرب والعجم، ومن شهد له الحقّ بخصائص العلم حين قال «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»
«٢» يقال له: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» - علم أنّ ما يخصّ به الحقّ أولياءه من لطائف العلوم لا حصر له.
ويقال أحاله على نفسه «٣» فى استزادة العلم. وموسى عليه السلام أحاله على الخضر حتى قال له: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» فشتان بين عبد أحيل على عبد فى ذلك ثم قيل له: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» ثم بعد كل ذلك التلطف قال له فى آخر الأمر:
«هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ»... وبين عبد أمره عند استزادة العلم بأن يطلبه من قبل ربه فقال: قل يا محمد: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» ! ويقال لما قال عليه السلام: «أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له» «٤»، قال له: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» ليعلم أنّ أشرف خصال العبد الوقوف فى محلّ الافتقار، والاتصاف بنعت الدعاء دون الوقوف فى معرض الدعوى «٥».
(١) هذا يوضح مدى تحفظ المصنف واحتياطه في تناول النص النقلى.
(٢) آية ١١٣ سورة النساء.
(٣) (على نفسه) الضمير هنا يعود على الحق سبحانه كما سيتضح بعد قليل.
(٤) البخاري عن أنس: (والله إنى لأخشاكم الله وأتقاكم له).
والشيخان عن عائشة: (والله إنى لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية).
(٥) أي أن يكون العبد داعيا لا دعيا.
480
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١١٥]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥)
لم نجد له قوة بالكمال، وانكماشا فى مراعاة الأمر حتى وقعت عليه سمة العصيان بقوله:
«وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ» «١».
ويقال «لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» : على الإصرار على المخالفة.
ويقال لم نجد له عزما فى القصد على الخلاف «٢»، وإن كان.. فذلك بمقتضى النسيان، قال تعالى «فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» على خلاف الأمر، وإن كان منه اتباع لبعض مطالبات الأمر.
ويقال شرح قصة آدم- عليه السلام- لأولاده على حجة التسكين لقلوبهم حتى لا يقنطوا من رحمة الله فإن آدم عليه السلام وقع عليه هذا الرقم، واستقبلته هذه الخطيئة، وقوله تعالى «فَنَسِيَ» من النسيان، ولم يكن فى وقته النسيان مرفوعا عن الناس.
ويقال عاتبه بقوله: «فَنَسِيَ» ثم أظهر عذره فقال: «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً».
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١١٦]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦)
السجود نوع من التواضع وإكبار القدر، ولم تتقدم «٣» [من آدم عليه السلام طاعة- ولا عبادة فخلقه الحقّ بيده، ورفع شأنه بعد ما علّمه، وحمل إلى الجنة، وأمر الملائكة فى كل سماء أن يسجدوا له تكريما له على الابتلاء، واختبارا لهم. فسجدوا بأجمعهم، وامتنع إبليس من بينهم، فلقى من الهوان ما سبق له فى حكم التقدير. والعجب ممن يخفى عليه أنّ مثل هذا يجرى من دون إرادة الحقّ ومشيئته وهو عالم بأنه كذلك يجرى، واعتبروا الحكمة فى أفعاله وأحكامه، ويزعمون أنه علم ما سيكون من حال إبليس وذريته، وكثرة مخالفات
(١) آية ١٢١ من السورة نفسها.
(٢) الخلاف- المخالفة.
(٣) ابتداء من هذا الموضع وحتى ينتهى الكلام بين القوسين الكبيرين وضعه الناسخ خطأ فيما بين الورقة ٤١٨ والورقة ٤٢٢ عند تفسير سورة الفرقان أي فى مكان متأخر كثيرا وقد سمعنا وضعه، ونبهنا إلى ذلك فى مدخل هذا الكتاب (المجلد الأول).
أولاد آدم، وكيف أن الشيطان يوسوس لهم... ثم يقولون إن الحقّ سبحانه أراد خلاف ما علم، وأجرى فى سلطانه ما يكرهه وهو عالم، وكان عالما بما سيكون! ثم خلق إبليس ومكّنه من هذه المعاصي مع إرادته ألا يكون ذلك! ويدّعون حسن ذلك فى الفعل اعتبارا انما هو الحكمة... فسبحان من أعمى بصائرهم، وعمّى حقيقة التوحيد عليهم! قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١١٧]
فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧)
وما كان ينفعهم النّصح وقد أراد بهم ما حذّرهم، وعلم أنهم سيلقون ما خوّفهم به.
قوله: «فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى» : علم أنهم سيلقون ذلك الشقاء: وأمّا إنّه أضاف الشقاء إلى آدم وحده- وكلاهما لحقه شقاء الدنيا- فذلك لمضارعة رءوس الآي، أو لأن التعب على الرجال دون النساء. ومن أصغى إلى قول عدوّه فإنه يتجرّع النّدم ثم لا ينفعه.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]
إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
لا تصديق أتمّ من تصديق آدم، ولا وعظ أشدّ رحمة من الله، ولا يقين أقوى من يقينه.. ولكن ما قاسى آدم الشقاء قبل ذلك، فلمّا استقبله الأمر وذاق ما خوّف به من العناء والكدّ ندم وأطال البكاء، ولكن بعد إبرام التقدير.
«وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» أوثر بكل وجه فلم يعرف قدر العافية والسلامة، إلى أن جرى ما هو محكوم به من سابق القسمة.
ويقال تنعّم آدم فى الجنة ولم يعرف قدر ذلك إلى حين استولى فى الدنيا عليه الجوع والعطش، والبلاء من كل (... ) «١»
(١) هنا طمس أخفى لفظة فى نهاية السطر وهى أقرب إلى أن تكون (فن) ونحن نتقبلها، فالقشيرى يستعملها فى مواضع مماثلة (أنظر مثلا استعماله (فنون الخذلان) عند تفسير الآية التي ستأتى بعد قليل: ومن اعرض عن ذكرى... )، و (فن) تكون بمعنى (نوع) كما سيأتى فى العبارة التالية.
وكان آدم عليه السلام إذا تجدّد له نوع من البلاء أخذ فى البكاء، وجبريل عليه السلام يأتى ويقول: «ربّك يقرئك السلام ويقول: لم تبكى؟ فكان يذكّر جبريل عليه السلام وهو يقول: أهذا الذي قلت: «وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى»..! وغير هذا من وجوه الضمان والأمن؟! قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٢٠]
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠)
وسوس إليه الشيطان وكان الحقّ يعلم ذلك ولم يذكر آدم فى الحال أن هذا من نزغات من قال له- سبحانه: «إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ».
ويقال: لو عمّى على إبليس تلك الشجرة حتى لم يعرفها بعينها، ولو لم يكن (... ) «١»
حتى دلّه على تلك الشجرة (إيش) «٢» الذي كان يمنعه منه إلا أنّ الحكم منه بذلك سبق، والإرادة به تعلّقت؟
ويقال إن الشيطان ظهر لآدم عليه السلام بعد ذلك فقال له: يا شقىّ، فعلت وصنعت..!
فقال إبليس لآدم: إن كنت شيطانك فمن كان شيطانى «٣» ؟
ويقال سمّى الشيطان شيطانا لبعده عن طاعة الله، فكلّ بعيد عن طاعة الله يبعد الناس عن طاعة الله فهو شيطان، ولذلك يقال: شياطين الإنس، وشياطين الإنس شرّ من شياطين الجن.
ويقال لما طمع آدم فى البقاء خالدا وجد الشيطان سبيلا إليه بوسوسته.
والناس تكلموا فى الشجرة: ما كانت؟ والصحيح أن يقال إنها كانت شجرة المحنة.
ويقال لو لم تخلق فى الجنة تلك الشجرة لما كان فى الجنة نقصان فى رتبتها «٤»
(١) مشتبهة.
(٢) معناها (فأى شىء؟) وهى هنا استفهامية.
(٣) فى ذلك تنصل من اللعين أساسه المغالطة والتلبيس.
(٤) أي أن الجنة فى عرف هذا المتكلم (مخلوقة) و (حادثة). [.....]
ويقال لولا أنه أراد لآدم ما كان لطالت تلك الشجرة حتى ما كانت لتصل إليها يده، ولكنه- كما فى القصة- كانت لا تصل إلى أوراقها يده- بعد ما أكل منها- حينما أراد أن يأخذ منها ليسترد عورته «١».
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٢١]
فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١)
لمّا ارتكبا المنهىّ عنه ظهر ما يستحي من ظهوره، ولكنّ الله- سبحانه- ألطف معهما فى هذه الحالة بقوله: فبدت لهما سوآتهما، ولم يقل- مطلقا- فبدت سوءتهما أي أنه لم يطلع على سوءتهما غيرهما.
ويقال لمّا تجرّدا عن لباس التقوى تناثر عنهما لباسهما الظاهر.
قوله جل ذكره: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أول الحرف والصناعات- على مقتضى هذا- الخياطة، وخياطة الرّقاع بعضها على بعض للفقراء ميراث من أبينا آدم- عليه السلام «٢».
ويقال كان آدم- عليه السلام- قد أصبح وعليه من حلل الجنة وفنون اللّباس ما الله به أعلم، ثم لم يمس حتى كان يخصف على نفسه من ورق الجنة، وهكذا كان فى الابتداء ما هو موروث فى أولاده من هناء بعده بلاء.
قوله تعالى: «وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ» «٣» : عند ذلك وقعت عليهما الخجلة لمّا ورد عليهما خطاب الحقّ: «أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ... » ولهذا قيل: كفى للمقصّر الحياء يوم اللقاء قوله تعالى: «قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا..» «٤» : لم يتكلما بلسان الحجة فقالا: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا»، ولم يقولا: بظلمنا صرنا من الخاسرين، بل قالا: «وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ»
(١) وفى هذا تحذير ضمنى للأكابر من الوقوع فى الزلة، وكيف أن كرامة الولى تتلاشى بزلته.
(٢) لاحظ أهمية ذلك عندما نؤرخ للخرقة والمرقعة عند الصوفية.
(٣) آية ٢٢ سورة الأعراف.
(٤) آية ٢٣ سورة الأعراف.
ليعلم أنّ المدار على حكم الربّ لا على جرم الخلق.
قوله جل ذكره: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى لمّا وقعت عليه سمة العصيان- وهو أوّل البشر- كان فى ذكر هذا تنفيس لأولاده أن تجرى عليهم زلّة وهم بوصف الغيبة فى حين الفترة.
ويقال كانت تلك الأكلة شيئا واحدا، ولكن قصتها يحفظها ويرددها الصبيان إلى يوم القيامة.
وعصى آدم ربّه ليعلما أن عظم الذنوب لمخالفة الآمر وعظم قدره.. لا لكثرة المخالفة فى نفسها.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٢٢]
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢)
أخبر أنه بعد ما عصى، وبعد كلّ ما فعله اجتباه ربّه فالذى اصطفاه أوّلا بلا علّة «١» اجتباه ثانيا بعد الزّلّة، فتاب عليه، وغفر ذنبه، «وَهَدى» : أي هداه إليه حتى اعتذر واستغفر.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٢٣]
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣)
أوقع العداوة بين آدم وإبليس والحية، وقد توالت المحن على آدم وحواء بعد خروجهما من الجنة بسمة العصيان، ومفارقة الجنة، ودخول الدنيا، وعداوة الشيطان، والابتلاء بالشهوات. ثم قال:
«فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ » وترك هواه، ولم يعمل بوسوسة العدوّ فله كلّ خير، ولا يلحقه ضير.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٦]
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦)
الكافر إذا أعرض عن ذكره بالكلية فله المعيشة الضنك فى الدنيا، وفي القبر،
(١) تفيد هذه العبارة فى بيان أهمية الاصطفاء الإلهى، وأن العمل الإنسانى له الدرجة الثانية فى الأهمية. ثم تفيد فى بيان الفرق فى الاصطلاح بين (الاصطفاء) و (الاجتباء).
وفى النار، وبالقلب من حيث وحشة الكفر، وبالوقت من حيث انغلاق الأمور.
ويقال من أعرض عن الانخراط فى قصايا الوفاق انثالت عليه فنون الخذلان، ومن أعرض عن استدامة ذكره- سبحانه- بالقلب توالت عليه من تفرقة القلب ما يسلب عنه كلّ روح.
ومن أعرض عن الاستئناس بذكره انفتحت عليه وساوس الشيطان وهواجس النّفس بما يوجب له وحشة الضمير، وانسداد أبواب الراحة والبسط.
ويقال من أعرض عن ذكر الله فى الخلوة قيّض الله له فى الظاهر من القرين السوء ما توجب رؤيته له قبض القلوب واستيلاء الوحشة.
قوله جل ذكره: نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى
فى الخبر: «من كان بحالة لقى الله بها» فمن كان فى الدنيا أعمى القلب يحشر على حالته، ومن يعش على جهل يحشر على جهل، ولذا يقولون: «مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟» «١» إلى أن تصير معارفهم ضرورية.
وكما يتركون- اليوم- التدبّر فى آياته يتركون غدا فى العقوبة من غير رحمة على ضعف حالاتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٢٧]
وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧)
جرت سنّته بأن يجازى كلا بما يليق بحاله، فما أسلفه لنفسه سيلقى غبّه على الخير خيرا، وعلى الشرّ شرّا.
(١) آية ٥٢ سورة يس.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٢٨]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨)
أي أفلا ينظرون فيتفكرون «١» ؟ ثم إذا استبصروا أفلا يعتبرون؟ وإذا اعتبروا أفلا يزدجرون؟ أم على وجوههم- فى ميادين غفلاتهم يركضون، وعن سوء معاملاتهم لا يرجعون؟ ألا ساء ما يعملون! قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٢٩]
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩)
لولا أنّ كلمة الله سبقت بتأخير العقوبة عن هذه الأمة، وأنه لا يستأصلهم لأنّ جماعة من الأولياء فى أصلابهم لعجّل عقوبتهم، ولكن... كما ذكر من الأحوال أمهلهم مدة معلومة، ولكنه لم يهملهم أصلا.
وإذا كانت الكلمة بالسعادة لقوم والشقاوة لقوم قد سبقت، والعلم بالمحفوظ بجميع ما هو كائن قد جرى- فالسعى والجهد، والانكماش والجدّ.. متى تنفع؟ لكنه من القسمة أيضا ما ظهر.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٣٠]
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠)
سماع الأذى يوجب المشقة، فأزال عنه ما كان لحقه من المشقة عند سماع ما كانوا يقولون، وأمره: إن كان سماع ما يقولون يوحشك فتسبيحنا- الذي تثنى به علينا- يروّحك.
«قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» : أي فى صدر النهار ليبارك لك فى نهارك، وينعم صباحك.
«وَقَبْلَ غُرُوبِها» أي عند نقصان النهار ليطيب ليلك، وينعم رواحك.
(١) (الفاء) هنا حرف عطف لا (فاء) سبب، ولو اعتبرناها سببيه نقول (فيتفكروا) لوقوعها بعد أسلوب طلبى، ولكننا أثبتنا ما جاء فى النص لتكرار ذلك فيما تلاه.
«وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ» أي فى ساعات الليل فإن كمال الصفوة فى ذكر الله فى حال الخلوة.
«وَأَطْرافَ النَّهارِ» أي استدم ذكر الله فى جميع أحوالك.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٣١]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١)
فضل «١» الرؤية فيما لا يحتاج إليه معلول كفضل الكلام، والذي له عند الله منزل وقدر فللحقّ على جميع أحواله غيرة إذ لا يرضى منه أن يبذل شيئا من حركاته، وسكناته وجميع حالاته فيما ليس لله- سبحانه- فيه رضاء، وفى معناه أنشدوا:
فعينى إذا استحسنت غيركم... أمرت الدموع بتأديبها
ويقال لما أدّبه فى ألا ينظر إلى زينة الدنيا بكمال نظره وقف على وجه الأرض بفرد قدم تصاونا عنها حتى قيل له: «طه» أي طأ الأرض بقدمك.. ولم كلّ هذه المجاهدة وكل هذا التباعد حتى تقف بفرد قدم؟! طأ الأرض بقدميك.
«زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا... » الفتنة ما يشغل به عن الحقّ، ويستولى حبّه على القلب، ويجسّر وجوده على العصيان، ويحمل الاستمتاع به على البطر والأشر.
قوله جل ذكره: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى القليل من الحلال- وفيه رضاء الرحمن- خير من الكثير من الحرام والحطام.
ومعه سخطه. ويقال قليل يشهدك ربّك خير من كثير ينسيك ربّك.
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٣٢]
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢)
الصلاة استفتاح باب الرزق، وعليها أحال فى تيسير الفتوح عند وقوع الحاجة إليه.
ويقال الصلاة رزق القلوب، وفيها شفاؤها، وإذا استأخر قوت النّفس قوى قوت القلب.
وأمر- الرسول- عليه السلام- بأن يأمر أهله بالصلاة، وأن يصطبر عليها.
(١) الفضل هنا معناه الزيادة (وفضل الرؤية) زيادة التطلع إلى أكثر من المباح.
وللاصطبار مزية على الصبر وهو ألّا يجد صاحبه الألم بل يكون محمولا مروّحا.
قوله جل ذكره: لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي لا نكلفك برزق أحد فإنّ الرازق الله- سبحانه- دون تأثير الخلق، فنحن نرزقك ونرزق الجميع.
قوله جل ذكره: نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى هما شيئان: وجود الأرزاق وشهود الرزاق فوجود الأرزاق يوجب قوة «١» النفوس، وشهود الرزاق يوجب قوة «٢» القلوب.
ويقال استقلال «٣» العامة بوجود الأرزاق، واستقلال الخواص بشهود الرزّاق.
ويقال نفى عن وقته الفرق بين أوصاف الرزق حين قال: «نَحْنُ نَرْزُقُكَ» فإنّ من شهد وتحقق بقوله: «نَحْنُ» سقط عنه التمييز بين رزق ورزق.
ويقال خفّف على الفقراء مقاساة قلّة الرزق وتأخّره عن وقت إلى وقت بقوله:
«نَحْنُ» «٤» قوله: «وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى» : أي العاقبة بالحسنى لأهل التقوى.
ويقال المراد بالتقوى المتّقى، فقد يسمّى الموصوف بما هو المصدر «٥» قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٣٣]
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣)
عميت بصائرهم وادّعوا أنه لا برهان معه، ولم يكن القصور فى الأدلة بل كان الخلل فى بصائرهم، ولو جمع الله لهم كلّ آية اقترحت على رسول ثم لم يرد الله أن يؤمنوا لما
(١)، (٢) ربما كانا (قوت النفوس، وقوت القلوب) بالتاء المفتوحة فقد سبقا هكذا منذ قليل، وإن كان السياق لا يمنع (قوة النفوس وقوة القلوب).
(٣) (استقلال) هنا بمعنى اكتفاء.
(٤) لأن من عاش (نحن) اكتفى بها ولم يستعجل شيئا.
(٥) كما يقال مثلا (رجل عدل) ونحو ذلك.
ازدادوا إلا طغيانا وكفرا وخسرانا... وتلك سنّة أسلافهم فى تكذيب أنبيائهم، ولذا قال:
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٣٤]
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤)
إن أرسلنا إليهم الرسل قابلوهم بفنون من الجحد، ووجوه من العلل مرّة يقولون فما بال هذا الرسول بشر؟ هلّا أرسله ملكا؟ ولو أرسلنا ملكا لقالوا هلّا أرسل إلينا مثلنا بشرا؟ ولو أظهر عليهم آية لقالوا: هذا سحر مفترى! ولو أخليناهم من رسول وعاملناهم بما استوجبوه من نكير لقالوا:
هلّا بعث إلينا رسولا حتى كنا نؤمن؟ فليست تنقطع أغلالهم، ولا تنفك- عما لا يرضى- أحوالهم. وكذلك سبيل من لا يجنح إلى الوصال ولا يرغب فى الوداد، وفى معناه أنشدوا:
وكذا الملول إذا أراد قطيعة سلّ الوصال وقال كان وكانا
قوله جل ذكره:
[سورة طه (٢٠) : آية ١٣٥]
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
الكل واقفون على التجويز غير حاصلين بوثيقة، ينتظرون ما سيبدو فى المستأنف، إلّا أنّ أرباب التفرقة ينتظرون ما سيبدو ممّا يقتضيه حكم الأفلاك، وما الذي توجبه الطبائع والنجوم. والمسلمون ينتظرون ما يبدو من المقادير فهم فى روح التوحيد، والباقون فى ظلمات الشّرك.
Icon