ﰡ
﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ * ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾
قلت :﴿ زلزلة ﴾ : مصدر مضاف إلى فاعله على المجاز، أو إلى الظرف، وهي الساعة.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم ﴾، الخطاب عام لجميع المكلفين ممن وُجد عند النزول، وينخرط في سلكهم من سيُوجد إلى يوم القيامة. ولفظ ﴿ الناس ﴾ يشمل الذكور والإناث. والمأمور به مطلق التقوى، الذي هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي ظاهرًا وباطنًا، والتعرض لعنوان الربوبية، مع إضافتها لضمير المخاطبين ؛ لتأكيد الأمر، وتأكيد إيجاب الامتثال به ؛ لأن الربوبية دائمة، والعبودية واجبة بدوامها، أي : احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم.
ثم علل وجوب التقوى بذكر بعض عقوبته الهائلة عند قيام الساعة، فقال :﴿ إِن زلزلة الساعة شيء عظيم ﴾، فإن ملاحظة عظمها وهولها وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته، مما يوجب مزيد اعتناء بملابسة التقوى والتدرع بها. والزلزلة : التحرك الشديد والإزعاج العنيف، بطريق التكرير، بحيث تزيل الأشياء من مقارها، وتخرجها عن مراكزها، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى :﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴾ [ الزّلزَلة : ١ ] الآية. واخْتُلِفَ في هذه الزلزلة وما ذكر بعدها، هل هي قيام الساعة عند نفخة الصعق، أو بعدها عند الحشر ؟ فقال الحسن رضي الله عنه : إنها تكون يوم القيامة. وعن ابن عباس رضي الله عنه : زلزلة الساعة : قيامها. وعن علقمة والشعبي : أنها قبل طلوع الشمس من مغربها، فإضافتها إلى الساعة ؛ لكونها من أشراطها. قال الكواشي : وهذه الزلزلة تكون قبل قيام الساعة من أشراطها. قالوا : ومن أشراط الساعة، قبل قيامها، ست آيات : بينما الناس في أسواقهم، إذ ذهب ضوء الشمس، ثم تناثرت النجوم، ثم وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت الأرض، ففزع الإنسُ والجن، وماج بعض في بعض ؛ خوفًا ودهشًا، فقالت الجنُ للإنس : نحن نأتيكم بالخبر، فذهبوا، فرأوا البحار تَأَجَّجُ نارًا، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض السابعة، ثم جاءتهم الريح فماتوا. ه. وانظر ابن عطية. قاله المحشي. والتحقيق : ما قدمناه عند قوله :﴿ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ﴾ [ الأنبيَاء : ٩٧ ]، وأنَّ الريح إنما تقبض أرواح المؤمنين، وهذه الزلزلة إنما تقع عند نفخة الصعق. والله تعالى أعلم. وفي التعبير ب ﴿ شيء عظيم ﴾ إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها، والعبارة ضيقة، لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام.
لاَ شَرابَ الدَّواليِ إِنَّها أَرْضِيَّة | خَمْرُهَا دُون خَمْرِي خَمْرَتِي أَزَلِيّة |
والنَّفْسُ عَزَّتْ ولكنْ فيكَ أبْذُلُهَا | والذُّلُّ مرٌّ ولكن في رضاكَ حَلاَ |
يا من عذابِيَ عَذْبٌ في محبته | لا أشتكي منك لا صَدّا ولا مَلَلا |
ثم هوَّل شأنها، فقال :﴿ يوم ترونها ﴾ أي : الزلزلة، وتُشاهدون هول مطلعها، ﴿ تذهل كل مرضعة ﴾ أي : مباشرة للإرضاع، ﴿ عما أرضعت ﴾ أي : تغفل وتغيب، من شدة الدهش عما هي بصدد إرضاعه من طفلها، الذي ألقمته ثديها. فالمرضعة، بالتاء، هي المباشرة الإرضاع بالفعل، والمرضع -بلا تاء- لمن شأنها ترضع، ولو لم تباشر الإرضاع. والتعبير عنه " بما "، دون " من " ؛ لتأكيد الذهول، كأنها من شدة الهول لا تدري من هو بخصوصه، وقيل :" ما " مصدرية، أي : تذهل عن إرضاعها. والأول أدل على شدة الهول وكمال الانزعاج.
﴿ وتضع كل ذات حملٍ حملها ﴾ أي : تلقى جنينها من غير تمام، كما أن المرضعة تذهل عن ولدها قبل الفطام. وهذا على قول من يقول : إنها قبل نفخة الصعق ظاهر، وأما على من يقول، إنها بعد قيام الساعة، فقد قيل : إنه تمثيل ؛ لتهويل الأمر وشدته. ﴿ وترى الناس سُكارى ﴾ أي : وترى أيها الناظر الناس سكارى، على التشبيه، من شدة الهول، كأنهم سكارى لمّا شاهدوا بساط العزة وسلطنة القهرية، حتى قال كلُّ نبي : نفسي نفسي. ﴿ وما هم بسُكارى ﴾ على التحقيق، ﴿ ولكنَّ عذاب الله شديد ﴾، فخوف عذابه هو الذي أذهل عقولهم، وطيَّر تمييزهم، وردهم في حال من يَذهب السكُر بعقله وتمييزه. وعن الحسن : وترى الناس سكارى من الخوف، وما هم بسكارى من الشراب. وقرئ :( سكْرى ) ؛ كعطشى. والمعنى واحد، غير أن فعلى يختص بما فيه آفة، كجرحى وقتلى ومرضى. والله تعالى أعلم.
لاَ شَرابَ الدَّواليِ إِنَّها أَرْضِيَّة | خَمْرُهَا دُون خَمْرِي خَمْرَتِي أَزَلِيّة |
والنَّفْسُ عَزَّتْ ولكنْ فيكَ أبْذُلُهَا | والذُّلُّ مرٌّ ولكن في رضاكَ حَلاَ |
يا من عذابِيَ عَذْبٌ في محبته | لا أشتكي منك لا صَدّا ولا مَلَلا |
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ﴾ * ﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾
قلت :﴿ ومن الناس ﴾ : خبر، و﴿ مَن يجادل ﴾ : مبتدأ، و﴿ بغير علم ﴾ : حال من ضمير " يُجادل ".
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن الناس من يُجادل ﴾ ويخاصم ﴿ في الله ﴾ أي : في شأنه، ويقول ما لا يليق بجلال كبريائه وكمال قدرته، ملابسًا ﴿ بغير علم ﴾، بل بجهل عظيم حمله على ما فعل. نزلت في النضر بن الحارث، وكان جَدلاً، يقول : الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا بعث بعد الموت، والله غير قادر على إحياء من بَلى وصار رميمًا. وهي عامة له ولأضرابه من العتاة المتمردين، وكل من يخاصم في الدين بالهوى. ﴿ ويتَّبعُ ﴾ في ذلك ﴿ كلَّ شيطان مَرِيدٍ ﴾ ؛ عاتٍ متمرد، مستمر في الشر. قال الزجاج : المَريد والمارد : المرتفع الأملس، أي : الذي لا يتعلق به شيء من الخير، والمراد : إما رؤساء الكفرة الذين يدعونهم إلى الكفر، وإما إبليس وجنوده.
ثم وصَف الشيطان المريد بقوله :﴿ كُتِبَ عليه ﴾ أي : قضى على ذلك الشيطان ﴿ أنه ﴾ أي : الأمر والشأن ﴿ مَن تولاه ﴾ أي : اتخذه وليًا وتبعه، ﴿ فأنَّه ﴾ أي : الشيطان ﴿ يُضِلُّه ﴾ عن سواء السبيل، ﴿ ويهديه إِلى عذاب السعير ﴾ أي : النار. والعياذ بالله.
﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ * ﴿ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ * ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث ﴾ أي : إن شككتم في أمر البعث، فمُزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم، وقد كنتم في الابتداء تُرابًا وماء، وليس سبب إنكاركم بالبعث إلا هذا، وهو صيرورة الخلق ترابًا وماء، فكما بدأكم منه يعيدكم منه، كما قال تعالى :﴿ فإِنّا خلقناكم ﴾ أي : أباكم ﴿ من تراب، ثم ﴾ خلقناكم ﴿ من نطفة ثم من علقة ﴾ أي : قطعة دم جامدة، ﴿ ثم من مضغة ﴾ أي : لحمة صغيرة، بقدر ما يمضغ، ﴿ مُخَلَّقةٍ ﴾ أي : مصورة الخلقة، ﴿ وغيرِ مُخَلَّقةٍ ﴾ أي : لم يتبين خلقها وصورتها بعدُ. والمراد : تفصيل حال المضغة ؛ من كونها أولاً مضغة، لم يظهر فيها شيء من الأعضاء، ثم ظهرت بعد ذلك شيئًا فشيئًا. وكان مقتضى الترتيب أن يُقدم غير المخلقة على المخلقة، وإنما أخرت عنها ؛ لأنها عدم الملكة، والملكة أشرف من العدم.
وإنما فعلنا ذلك ؛ ﴿ لنُبيِّنَ لكم ﴾، بهذا التدريج، كمال قدرتنا وحكمتنا ؛ لأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً، ثم من نطفة ثانيًا، وقدر على أن يجعل النطفةَ علقةً، والعلقة مضغة، والمضغة عظامًا، قدر على إعادة ما بدأ، بل هو أهون في القياس ﴿ ونُقِرُّ ﴾ أي : نثبت ﴿ في الأرحام ما نشاء ﴾ ثبوته ﴿ إِلى أجلٍ مسمى ﴾ : وقت الولادة، وما لم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام. ﴿ ثم نُخرِجُكم ﴾ من الرحم ﴿ طفلاً ﴾، أي : حال كونكم أطفالاً. والإفراد باعتبار كل واحد منهم، أو بإرادة الجنس، ﴿ ثم لتبلغوا أشدَّكم ﴾ أي : ثم نربيكم ؛ لتبلغوا كمال عقلكم وقوتكم. والأشد : من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل له واحد. ووقته : قيل : ثلاثون سنة، وقيل : أربعون.
﴿ ومنكم مَن يُتوفى ﴾ قبل بلوغ الأشد أو بعده، ﴿ ومنكم من يُردُّ إِلى أرذل العُمُر ﴾ أي : أخسه، وهو الهرَمُ والخرف، ﴿ لكيلا يعلمَ من بعد علم شيئًا ﴾ أي : لكيلا يعلم شيئًا من بعد ما كان يعلمه من العلوم، مبالغة في انتقاص علمه، وانتكاس حاله، أي : ليعود إلى : ما كان عليه في أوان الطفولية، من ضعف البنية، وسخافة العقل، وقلة الفهم، فينسى ما علمه، وينكر ما عرفه، ويعجز عما قدر عليه. قال ابن عباس : من قرأ القرآن، وعمل به، لا يلحقه أرذل العمر. ثم ذكر دليلاً آخر على البعث، فقال :﴿ وترى الأرض هامدةً ﴾ : ميتة يابسة، ﴿ فإِذا أنزلنا عليها الماء اهتزت ﴾ ؛ تحركت بالنبات ﴿ ورَبَتْ ﴾ ؛ انتفخت ﴿ وأنبتتْ من كل زوج ﴾ : صنف ﴿ بهيج ﴾ : حسن رائق يسر ناظره.
قال المحشي الفاسي : ويرد عليه : أن تقديره عاملاً خاصًا يمنع حذفه، وإنما يحذف إذا كان كونًا مُطلقًا، فلا يقال : زيد في الدار، وتريد ضاحكٌ مثلاً، إلا أن يقال في الآية : دل عليه السياق، فكأنه مذكور. وعند الكواشي : ليعلموا بأن الله هو الحق. وقال القرطبي : قوله :﴿ ذلك بأن الله هو الحق ﴾، لمّا ذكر افتقار الموجودات إليه، وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره، قال بعد ذلك :﴿ ذلك بأن الله هو الحق ﴾، نبه بهذا على أن كل ما سواه، وإن كان موجودًا ؛ فإنه لا حقيقة له من نفسه ؛ لأنه مسخر ومُصَرفٌ، والحق الحقيقي هو الموجود المطلق، الغني المطلق، وإنَّ وجود كل موجود من وجوب وجوده، ولهذا قال في آخر السورة :﴿ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ﴾
[ الحَجّ : ٦٢ ]، والحق هو الوجود الثابت، الذي لا يزول ولا يتغير، وهو الله تعالى.
ثم قال عن الزجاج :﴿ ذلك ﴾ في موضع رفع، أي : الأمر ما وُصِفَ لكم وبُيِّن ؛ لأن الله تعالى هو الحق، ويجوز كونه في مَوْضِع نصب، أي : فعل ذلك بأن الله هو الحق، قادر على ما أراد. ه.
وذلك أيضًا شاهد بأنه ﴿ يُحيي الموتى ﴾ كما أحيا الأرض، مرة بعد أخرى، ﴿ وأنه على كل شيء قدير ﴾ أي : مبالغ في القدرة، وإلاَّ لَمَا أوجد هذه الموجودات الفائتة الحصر. وتخصيص إحياء الموتى بالذكر، مع كونه من جملة الأشياء المقدور عليها ؛ للتصريح بما فيه النزاع، وللطعن في نحور المنكرين.
خ
﴿ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴾ * ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ * ﴿ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن الناس من يُجادل في الله ﴾ أي : في شأنه، فيصفه بغير ما هو أهله، وهو أبو جهل، كما قال ابن عباس رضي الله عنه، وقيل : هو من يتصدى لإضلال الناس، كائنًا من كان. حال كونه ﴿ بغير علم ﴾، بل بجهل وهوىً. والمراد بالعلم : الضروري، كما أن المراد بالهدى في قوله :﴿ ولا هُدىً ﴾ : هو الاستدلال والنظر الصحيح، الهادي إلى المعرفة. ﴿ ولا كتابٍ منير ﴾ أي : وحي يستند إليه، والحجة إنما تقوم بأحد هذه الثلاثة، أي : يجادل في شأنه تعالى، من غير تمسك بمقدمة ضرورية، ولا بحجة نظرية، ولا ببرهان سمعي.
وقِيل :﴿ ظلام ﴾ : بمعنى : ذي ظلم، فتكون الصيغة للنَّسَبِ. والتعبير عن ذلك بنفي الظلم، مع أن تعذيبهم بغير ذنب، ليس بظلم قطعًا، على ما تقرر في مذهب أهل السنة، فضلاً عن كونه ظلمًا بالغًا ؛ لأن الحق تعالى إنما يُظهر لنا كمال العدل، وغاية التنزيه، وإن كان في نفس الأمر جائز أن يعذب عباده بلا ذنب، ولا يسمى ظلمًا ؛ لأنه تصرف في ملكه، لكنه تعالى لم يظهر لنا في عالم الشهادة إلا كمال العدل. والله تعالى أعلم.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآُخِرَةَ ذالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ * ﴿ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ﴾ * ﴿ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ومن الناس من يعبد الله على حَرْفٍ ﴾ أي : على طرف من الدين لا ثبات له فيه، كالذي ينحرف إلى طرف الجيش، فإن أحس بظفر قرَّ، وإلا فر. وفي البخاري عن ابن عباس :" كان الرجل يَقدمُ المدينة، فإن ولدت امرأتُهُ غلامًا ونُتجَتْ خَيْلُه، قال : هذا دينٌ صالح، وإن لم تَلِد امرأته، ولم تنتج خيلُه، قال : هذا الدين سُوء " ١. وكأن الحق تعالى سلك في الآية مسلك التدلي، بدأ بالكافر المصمم، يجادل جدالاً مجملاً، يتبع فيه كل شيطان مريد. والثاني : مقلد مجادل، من غير دليل ولا برهان، والثالث : كافر أسلم إسلامًا ضعيفًا. ثم قابل الأقسام الثلاثة بضدهم، بقوله :﴿ إن الله يدخل الذين آمنوا. . . ﴾ الآية.
ثم كمَّل حال المذبذب بقوله :﴿ فإِن أصابه خيرٌ ﴾ أي : دنيوي ؛ من الصحة في البدن، والسعة في المعيشة، ﴿ اطمأن به ﴾ أي : ثبت على ما كان عليه ظاهرًا، لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين، الذين لا يلويهم عنه صارف، ولا يثنيهم عنه عاطف. ﴿ وإِن أصابته فتنةٌ ﴾ : بلاء في جسده، وضيق في معيشته، أو شيء يفتتن به، من مكروه يعتريه في بدنه أو أهله أو ماله، ﴿ انقلب على وجهه ﴾ أي : ارتد ورجع إلى الكفر، كأنه تنكس بوجهه إلى أسفل. أو انقلب على جهته التي كان عليها. وتقدم عن ابن عباس أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة، مهاجرين، فكان أحدهم إذا صحَّ بدنه ونتجَتْ فَرَسُه مُهْرًا سريًا، وولدت امرأته غلامًا سويًا، وكَثُرَ مالُه وماشيته، قال : ما أصبتُ، مذ دخلت في ديني هذا، إلا خيرًا، واطمأن، وإن كان الأمر خلافه، قال : ما أصبتُ إلا شرًّا، وانقلب عن دينه. وعن أبي سعيد رضي الله عنه : أَنَّ يهُوديًا أَسْلَمَ فَأَصابَتْهُ مَصَائبُ، وتَشَاءَمَ بالإِسْلامِ، فَأَتَى النَّبي صلى الله عليه وسلم فَقَال : أَقِلْنِي، فقال :" إنَّ الإسْلاَمَ لا يُقالُ " فَنَزلت٢.
﴿ خَسِرَ الدنيا والآخرة ﴾ : فَقَدَهُما، وضيعهما ؛ بذهاب عصمته، وحبوط عمله بالارتداد. وقرأ يعقوب : خاسر، على حال. ﴿ ذلك هو الخسران المبين ﴾ ؛ الواضح، الذي لا يخفى على أحد أنه لا خسران مثله.
قال بعضهم : سيروا إلى الله عَرْجَى ومكاسير. وفي الحكم :" إلهي ؛ قد علمتُ، باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار، أن مرادك مني أن تتعرف إليّ في كل شيء، حتى لا أجهلك في شيء ". وقال أيضًا :" لا تطلبن بقاء الواردات، بعد أن بسطت أنوارها، وأودعت أسرارها، فلك في الله غنى عن كل شيء، وليس يغنيك عنه شيء ". فكن عبد المحوِّل، ولا تكن عبد الحال، فالحال تَحُولُ وتتغير، والله تعالى لا يحول ولا يزول، فكن عبدًا لله، ولا تكن عبدًا لغيره.
لِكَلِّ شَيء إن فارقْتَهُ عِوَضٌ | وَلَيْسَ لله إنْ فَارقَْتَ مِنْ عِوَض |
٢ أخرجه الواحدي في أسباب النزول ٣١٧..
قال بعضهم : سيروا إلى الله عَرْجَى ومكاسير. وفي الحكم :" إلهي ؛ قد علمتُ، باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار، أن مرادك مني أن تتعرف إليّ في كل شيء، حتى لا أجهلك في شيء ". وقال أيضًا :" لا تطلبن بقاء الواردات، بعد أن بسطت أنوارها، وأودعت أسرارها، فلك في الله غنى عن كل شيء، وليس يغنيك عنه شيء ". فكن عبد المحوِّل، ولا تكن عبد الحال، فالحال تَحُولُ وتتغير، والله تعالى لا يحول ولا يزول، فكن عبدًا لله، ولا تكن عبدًا لغيره.
لِكَلِّ شَيء إن فارقْتَهُ عِوَضٌ | وَلَيْسَ لله إنْ فَارقَْتَ مِنْ عِوَض |
قلت : والأقرب ما قاله الزجاج، وهو : أن مفعول ﴿ يدعو ﴾ محذوف، ويكون ضميرًا يعود على الضلال، وجملة :﴿ يدعو ﴾ : حال، والمعنى : ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، أي : حال كونه مدعوًا له، ويكون قوله :﴿ لمن ضره ﴾ مستأنفًا مبتدأ، خبره :﴿ لبئس المولى ﴾. نقله المحشي. وحكم المحلي بزيادة اللام.
﴿ يدعو ﴾ أي : يعبد ﴿ لَمَن ضَرُّهُ ﴾ أي : الصنم الجامد الذي ضرره ﴿ أقربُ من نفعه ﴾. وقرأ ابن مسعود :" يدعو من ضره "، بحذف اللام. أو : ذلك هو الضلال البعيد يدعوه هذا المذبذب المنقلب على وجهه. قال ابن جزي : وهنا إشكال : وهو أنه تعالى وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ثم وصفها بأن ضررها أكثر من نفعها، فنفى الضر ثم أثبته ؟ والجواب : أن الضر المنفي أولاً يُراد به ما يكون من فعلها، وهي لا تفعل شيئًا، والضر الثاني، الذي أثبته لها، يُراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره. ه. ﴿ لبئس المولى ﴾ أي : الناصر، ﴿ ولبئس العَشِيرُ ﴾ أي : الصاحب. أو يدعو ويصرخ يوم القيامة، حين يرى استضراره بالأصنام، ولا يرى لها أثر الشفاعة، ويقول لِمَنْ ضره أقرب من نفعه : لبئس المولى هو ولبئس العشير. والله تعالى أعلم.
قال بعضهم : سيروا إلى الله عَرْجَى ومكاسير. وفي الحكم :" إلهي ؛ قد علمتُ، باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار، أن مرادك مني أن تتعرف إليّ في كل شيء، حتى لا أجهلك في شيء ". وقال أيضًا :" لا تطلبن بقاء الواردات، بعد أن بسطت أنوارها، وأودعت أسرارها، فلك في الله غنى عن كل شيء، وليس يغنيك عنه شيء ". فكن عبد المحوِّل، ولا تكن عبد الحال، فالحال تَحُولُ وتتغير، والله تعالى لا يحول ولا يزول، فكن عبدًا لله، ولا تكن عبدًا لغيره.
لِكَلِّ شَيء إن فارقْتَهُ عِوَضٌ | وَلَيْسَ لله إنْ فَارقَْتَ مِنْ عِوَض |
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إِن الله يُدخلُ الذين آمنوا ﴾، وتمكنوا من الإيمان، وعبدوا الله وحده في جميع الحالات، ولم يعبدوه على حرف، ﴿ وعملوا ﴾ الأعمال ﴿ الصالحات ﴾، ﴿ جناتٍ تجري من تحتها ﴾ أي : من تحت قصورها ﴿ الأنهارُ ﴾ الأربعة. وهذا بيان حال المؤمنين العابدين له تعالى في جميع الحالات، وأنَّ الله تفضل عليهم، بما لا غاية وراءه، إثر بيان سوء حال الكفرة، من المجاهرين والمذبذبين، وأنَّ معبودهم لا ينفعهم، بل يضرهم مضرة عظيمة. ثم قال تعالى :﴿ إِن الله يفعل ما يريد ﴾ من الأفعال المتقنة، المبنية على الحِكَم البالغة الرائقة، التي من جملتها : إثابة من آمن به، وصدّق رسوله، وعبده على كل حال، وعقابُ من أشرك به، وكذب رسول الله، أو عبده على حرف. وبالله التوفيق.
الإشارة : إن الله يُدخل الذين آمنوا، واطمأنوا به، وعبدوه في جميع الحالات، وقاموا بعمل العبودية في كل الأوقات، جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحكم، إن الله يفعل ما يريد ؛ فيقرب هذا، ويُبعد هذا، بلا سبب ؛ " جَلَّ حُكْمُ الأزلِ أن يُضَافَ إلى العِلَلِ ". وبالله التوفيق.
﴿ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾ * ﴿ وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله : لا تظنوا أن الله غير ناصر لرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ بل هو ناصر له في الدنيا والآخرة لا محالة، فمن كان ﴿ يظن أن لن ينصرهُ الله في الدنيا والآخرة ﴾، ويغيظه ذلك من أعاديه وحُساده، ويفعل ما يدفع ذلك ؛ من الخدع والمكائد، فليبالغ في استفراغ المجهود، وليجاوز كل حد معهود، فعاقبة أمره أن يختنق خنقًا من ضلال مساعيه، وعدم إنتاج مقدماته ومبادئه. ﴿ فليمدد بسبب إِلى السماء ﴾ أي : فليمدُد حبلاً إلى سقف بيته، ﴿ ثم ليقطع ﴾ أي : ليختنق، من قَطعَ : إذا اختنق ؛ لأنه يقطع نفَسه بحبس مجاريه. أو : ليقطع من الأرض، بعد ربط الحبل في العنق وربطه في السقف.
﴿ فلينظر هل يُذهِبَنَّ كيدُه ﴾ أي : فليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك ؛ هل يذهب نصر الله الذي يغيظه بسبب فعله، وسمى فعله كيدًا، على سبيل الاستهزاء ؛ لأنه لم يكد به محسوده، إنما كاد به نفسه. والمراد : ليس في يده إلا ما لَيْسَ بمُذهب لما يغيظه، فَتَحَصَّل أن الضمير في ﴿ ينصره ﴾ يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتقدم ذكره صراحة، لكنه معهود ؛ إذ الوحي إنما ينزل عليه. وقيل : يعود على ﴿ مَن ﴾، والمعنى على هذا : من ظن -بسبب ضيق صدره، وكثرة غمه- أن لن ينصره الله، فليختنق وليمت بغيظه، فإنه لا يقدر على غير ذلك، فموجب الاختناق، على هذا، القنوطُ والسخط من القضاء، وسوء الظن بالله تعالى، حتى يئس من نصره.
قال ابن جزي : وهذا القول أرجح من الأول ؛ لوجهين : أحدهما : أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف ؛ لأنه، إذا أصابته فتنة، انقلب وقنط، حتى ظنّ أن لن ينصره الله. ويؤيده من فسّر ﴿ أن لن ينصره الله ﴾ أي : لن يرزقه ؛ إذ لا خير في حياة تخلو من عون الله عزّ وجلّ، فيكون الكلام، على هذا، متصلاً بما قبله. ويؤيده أيضًا : قوله تعالى، قبله :﴿ إن الله يفعل ما يريد ﴾ أي : الأمور بيد الله، فلا ينبغي لأحد أن يسخط من قضاء الله، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة، والوجه الثاني : أن الضمير في " ينصره "، على هذا، يعود على ما تقدّمه ذكر، دون الأول. ه. وانظر ابن عطية والكواشي، ففيهما ما يدفع درك ابن جزي، ورده للأول، بما في سبب الآية ونزولها من المناسبة.
فإن قلت : هذا الذي دللتني عليه عزيز غريب، فقد دللتني على عَنقاء مغرب ؟ قلت : والله، إن حسنت الظن بالله وبعباد الله، واضطررت إليه اضطرار الظمآن إلى الماء، لوجدته أقرب إليك من كل شيء. والله، لقد وجدناهم وظفرنا بهم، على مناهج الجنيد وأضرابه، يُغنون بالنظر، ويسيرون بالمريد حتى يقول له : ها أنت وربك. والمنة لله. فمن ترك ما قلنا له، وآيس من الدواء، وظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة، فليمت غيظًا وقنطًا، فلا يضر إلا نفسه ؛ لأن الله يهدي من يريد، فيوفقه للدواء، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا. وبالله التوفيق.
فإن قلت : هذا الذي دللتني عليه عزيز غريب، فقد دللتني على عَنقاء مغرب ؟ قلت : والله، إن حسنت الظن بالله وبعباد الله، واضطررت إليه اضطرار الظمآن إلى الماء، لوجدته أقرب إليك من كل شيء. والله، لقد وجدناهم وظفرنا بهم، على مناهج الجنيد وأضرابه، يُغنون بالنظر، ويسيرون بالمريد حتى يقول له : ها أنت وربك. والمنة لله. فمن ترك ما قلنا له، وآيس من الدواء، وظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة، فليمت غيظًا وقنطًا، فلا يضر إلا نفسه ؛ لأن الله يهدي من يريد، فيوفقه للدواء، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا. وبالله التوفيق.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾
قلت : إنَّ ﴿ الله يفصل ﴾ : خبر " إنَّ " الأولى.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إِن الذين آمنوا ﴾ بما ذكر من الآيات البينات، أو بكل ما يجب الإيمان به -فيدخل ما ذكر دخولاً أوليًا- أي : آمنوا بذلك، بهداية الله وإرادته، ﴿ والذين هادوا والصابئين ﴾، وهم قوم من النصارى، اعتزلوهم، ولبسوا المسوح، وقيل : أخذوا من دين النصارى شيئًا، ومن دين اليهود شيئًا، وهم القائلون بأن للعالم أصلين : نورًا وظلمة، ويعتقدون تأثير النجوم. ﴿ والمجوس ﴾ وهم الذين يعبدون النار، ويقولون : إن الخير من النور، والشر من الظلمة، ﴿ والذين أشركوا ﴾، وهم عبدة الأصنام ؛ من العرب وغيرهم، فهذه ستة أديان، خمسة للشيطان، وواحد للرحمان. ﴿ إِن الله يفصِلُ بينهم يوم القيامة ﴾ ؛ في الأحوال والأماكن، فلا يجازيهم جزاء واحدًا، ولا يجمعهم في موطن واحد. أو يحكم بين المؤمنين، وبين الفرق الخمسة المتفقة على ملة الكفر، بإظهار المحق من المبطل، فيُكْرم المحق ويهين المبطل، ﴿ إن الله على كل شيء شهيد ﴾ أي : عالم بكل شيء، مراقب لأحواله، حافظ له، مطلع على سره وعقده. ومن قضية الإحاطة بتفاصيل كل فرد من أفراد الفرق المذكورة : إجراء جزائه اللائق عليه، وهو أبلغ وعيد. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كما يفصل اللهُ يوم القيامة بين الملل المستقيمة والفاسدة ؛ يفصل أيضًا بين أرباب القلوب المستقيمة الصحيحة المعمورة بنور الله، وبين أرباب القلوب السقيمة الخاربة من النور، المعمورة بالظلمة من الوساوس والخواطر، فيرفع الأولين مع المقربين الصديقين، ويسقط الآخرين في أسفل سافلين، أو مع عامة أهل اليمين. وبالله التوفيق.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ألم ترَ ﴾، أيها السامع، أو من يتأتى منه الرؤية، أي : رؤية علم واستبصار، أو : يا محمد، علمًا يقوم مقام العيان، ﴿ أنَّ الله يسجد له ﴾ أي : ينقاد إليه انقيادًا تامًا ﴿ مَن في السماواتِ ﴾ من الملائكة، ﴿ ومن في الأرض ﴾ من الإنس والجن والملائكة. ويحتمل أن تكون " من " ؛ عامة للعاقل وغيره، فيدخل كل ما في السماوات من عجائب المصنوعات، وكل ما في الأرض من أنواع المخلوقات. ويكون قوله :﴿ والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُّ ﴾، من عطف الخاص على العام ؛ لاستبعاد ذلك منها عادة. ويُحتمل أن يكون السجود على حقيقته، ولكن لا نفقه ذلك، كما لا نفقه تسبيحهم.
ونقل الكواشي عن أبي العالية :( ما في السماء نجم، ولا شمس، ولا قمر، إلا يقع ساجدًا حين تغيب، ثم لا ينصرف حتى يُؤذن له ). وذكر في صحيح البخاري :" أن الشمس لا تطلع حتى تسجد وتستأذن " ١ وقال مجاهد :( سجود الجبال والشجر والدواب : تَحَوُّلُ ظِلاَلِها ). أو سجودُها : طاعتها ؛ فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله تعالى، خاشع، يُسبح له. شَبَّه طاعتها له وانقيادها لأمره بسجود المكلف الذي كلٌّ خضوعٌ دونه.
﴿ وكثيرٌ من الناس ﴾ يسجد لله تعالى سجود طاعة وعبادة، ﴿ وكثيرٌ حقَّ عليه العذابُ ﴾ ؛ حيث امتنع من هذا السجود، الذي هو سجود عبادة ؛ لكفره وعتوه. قال ابن عرفة قوله :﴿ وكثير ﴾ : يحتمل كونه مبتدأ، ويكون في الآية حذف المقابل، أي : وكثير من الناس مثاب، وكثير حق عليه العذاب. فلا يرد سؤال الزمخشري. ه. وقدَّره غيرُه : وكثير من الناس يسجدون، وكثير يأبى السجود ؛ فحق عليه العذاب. وقيل : وكثير حق عليه العذاب بإنكاره النبوة، وإن سجد للصانع ؛ كالفلاسفة واليهود والنصارى. ه.
﴿ ومَن يُهِنِ اللهُ ﴾ ؛ بأن صرفته الشقاوة عن الانقياد لأمره الشرعي، ﴿ فما له من مُكرمٍ ﴾ بالسعادة، أو يوم القيامة، بل يذل ويهان، ﴿ إن الله يفعل ما يشاء ﴾ في ملكه ؛ يُكرم من يشاء بفضله، ويُهين من يشاء بعدله، لا معقب لحكمه. اللهم أكرمنا بطاعتك ومحبتك، واجعلنا منقادين لأمرك وحكمك، ونعّمنا بحلاوة شهودك ومعرفتك، إنك على كل شيء قدير. هكذا يُدعى في هذه السجدة. وبالله التوفيق.
الإشارة : قد تجلى الحق جلّ جلاله بأسرار ذاته لباطن الأشياء، وبأنوار صفاته لظاهرها، فتعرف لكل شيء بأسرار ذاته وأنوار صفاته، فعرفه كلُّ شيء، ولذلك سجد له وسبح بحمده. وفي الحِكَم :" أنت الذي تَعَرَّفْتَ لكل شيء، فما جَهِلَكَ شيءٌ ". فظواهر الأواني ساجدة لأسرار المعاني، وخاضعة للكبير المتعالي، ولا يفقه هذا إلا من خاض بحر المعاني، ولم يقف مع حس الأواني، ولم يمتنع من الانقياد والخضوع لجلال الحق وكبريائه في الظاهر والباطن، إلا من أهانه الله من عُصاة بني آدم. ومن يُهن الله فما له من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء.
﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴾ * ﴿ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴾ * ﴿ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴾ * ﴿ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ * ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ * ﴿ وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴾
قلت :﴿ خصمان ﴾ : صفة لمحذوف، أي : فريقان خصمان، والمراد : فريق المؤمنين، وفريق الكفرة بأقسامه الخمسة. وقيل : اسم يقع على الواحد والاثنين والجماعة، والمراد هنا : الجماعة، بدليل قوله :﴿ اختصموا ﴾ ؛ بالجمع.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ هذان خصمان ﴾ أي : مختصمان ﴿ اختصموا ﴾ أي : فريق المؤمنين والكافرين. وقال ابن عباس رضي الله عنه :( راجع إلى أهل الأديان المذكورة ) ؛ فالمؤمنون خَصْمٌ، وسائرُ الخمسة خصمٌ، تخاصموا ﴿ في ربهم ﴾ أي : في شأنه تعالى، أو في دينه، أو في ذاته وصفاته. والكل من شؤونه تعالى، فكل فريق يصحح اعتقاده. ويُبطل اعتقاد خصمه. وقيل : تخاصمت اليهود والمؤمنون ؛ فقالت اليهودُ : نحن أحق بالله وأقدمُ منكم كتابًا، ونبيُّنا قبل نبيِّكم. وقال المؤمنون : نحن أحقُّ بالله منكم، آمنا بنبينا ونبيكم، وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم كفرتم به ؛ حسدًا١. وكان أبو ذر يُقسِمُ أنها نزلَتْ في ستة نفر من قريش، تبارَزوا يوم بَدر ؛ حمزةُ وعليٌّ، وعبيدة بن الحارث، مع عتبة، وشيبة ابني ربيعةَ، والوليدُ. وقال عليّ رضي الله عنه : إني لأوَّلُ من يجثو بين يدَيِ الله يوم القيامة ؛ للخُصومة. ه.
ثم بيَّن الفصل بينهم، المذكور في قوله :﴿ إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ﴾، فقال :﴿ فالذين كفروا ﴾ بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ قُطِّعَت لهم ثيابٌ من نار ﴾ أي : فصّلت وقُدرت على مقادير جثثهم، تشتمل عليهم، كما تقطع الثياب للبوس. وعبَّر بالماضي ؛ لتحقق وقوعه. ﴿ يُصَبُّ من فوق رؤوسهم الحميمُ ﴾ أي : الماء الحار. عن ابن عباس رضي الله عنه :" لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها ".
وقال بعضهم :( مُحال أن تشهده، وتشهد معه سواه ). وفي مناجاة الحكم العطائية :" إلهي، كيف يُسْتَدَلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك ؟ متى غِبْتَ، حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟ ! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟ ! ". وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :( أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان ). وهذه الطريق هي طريق التربية، لا تنقطع أبدًا، فمن كفر بها وجحدها قُطعت له ثياب من نار القطيعة، فيبقى مسجونًا بسرادقات محيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، لا يَرى إلا ظلمة الأكوان، يُصب من فوق رأسه، إلى قلبه، حَرُّ التدبير والاختيار، وكلما أراد أن يخرج من سجن الأكوان وغم الحجاب ردته حَيْرَةُ الدَّهَشِ، وهيبة الكبرياء والعظمة والإجلال ؛ لأن فكرته مسجونة تحت أطباق الكائنات، مقيدة بعلائق العوائد والشواغل والشهوات. ويقال له : ذق عذاب الحريق، وهو حِرْمانك من شهود التحقيق.
إن الله يدخل الذين آمنوا بطريق الخصوص، جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، يُحلون فيها بأنواع المحاسن والفضائل، ويتطهرون من جميع المساوئ والرذائل، وهُدوا إلى الطيب من القول، وهو الذكر الدائم بالقلب الهائم، والمخاطبة اللينة من القلوب الصافية، وهُدوا إلى طريق التربية والترقية، حتى وصلوا إلى شهود الحبيب، الحامد المحمود، القريب المجيب. حققنا الله بمقامهم بمنِّه وكرمه.
وقال بعضهم :( مُحال أن تشهده، وتشهد معه سواه ). وفي مناجاة الحكم العطائية :" إلهي، كيف يُسْتَدَلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك ؟ متى غِبْتَ، حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟ ! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟ ! ". وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :( أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان ). وهذه الطريق هي طريق التربية، لا تنقطع أبدًا، فمن كفر بها وجحدها قُطعت له ثياب من نار القطيعة، فيبقى مسجونًا بسرادقات محيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، لا يَرى إلا ظلمة الأكوان، يُصب من فوق رأسه، إلى قلبه، حَرُّ التدبير والاختيار، وكلما أراد أن يخرج من سجن الأكوان وغم الحجاب ردته حَيْرَةُ الدَّهَشِ، وهيبة الكبرياء والعظمة والإجلال ؛ لأن فكرته مسجونة تحت أطباق الكائنات، مقيدة بعلائق العوائد والشواغل والشهوات. ويقال له : ذق عذاب الحريق، وهو حِرْمانك من شهود التحقيق.
إن الله يدخل الذين آمنوا بطريق الخصوص، جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، يُحلون فيها بأنواع المحاسن والفضائل، ويتطهرون من جميع المساوئ والرذائل، وهُدوا إلى الطيب من القول، وهو الذكر الدائم بالقلب الهائم، والمخاطبة اللينة من القلوب الصافية، وهُدوا إلى طريق التربية والترقية، حتى وصلوا إلى شهود الحبيب، الحامد المحمود، القريب المجيب. حققنا الله بمقامهم بمنِّه وكرمه.
وقال بعضهم :( مُحال أن تشهده، وتشهد معه سواه ). وفي مناجاة الحكم العطائية :" إلهي، كيف يُسْتَدَلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك ؟ متى غِبْتَ، حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟ ! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟ ! ". وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :( أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان ). وهذه الطريق هي طريق التربية، لا تنقطع أبدًا، فمن كفر بها وجحدها قُطعت له ثياب من نار القطيعة، فيبقى مسجونًا بسرادقات محيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، لا يَرى إلا ظلمة الأكوان، يُصب من فوق رأسه، إلى قلبه، حَرُّ التدبير والاختيار، وكلما أراد أن يخرج من سجن الأكوان وغم الحجاب ردته حَيْرَةُ الدَّهَشِ، وهيبة الكبرياء والعظمة والإجلال ؛ لأن فكرته مسجونة تحت أطباق الكائنات، مقيدة بعلائق العوائد والشواغل والشهوات. ويقال له : ذق عذاب الحريق، وهو حِرْمانك من شهود التحقيق.
إن الله يدخل الذين آمنوا بطريق الخصوص، جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، يُحلون فيها بأنواع المحاسن والفضائل، ويتطهرون من جميع المساوئ والرذائل، وهُدوا إلى الطيب من القول، وهو الذكر الدائم بالقلب الهائم، والمخاطبة اللينة من القلوب الصافية، وهُدوا إلى طريق التربية والترقية، حتى وصلوا إلى شهود الحبيب، الحامد المحمود، القريب المجيب. حققنا الله بمقامهم بمنِّه وكرمه.
وقال بعضهم :( مُحال أن تشهده، وتشهد معه سواه ). وفي مناجاة الحكم العطائية :" إلهي، كيف يُسْتَدَلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك ؟ متى غِبْتَ، حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟ ! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟ ! ". وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :( أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان ). وهذه الطريق هي طريق التربية، لا تنقطع أبدًا، فمن كفر بها وجحدها قُطعت له ثياب من نار القطيعة، فيبقى مسجونًا بسرادقات محيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، لا يَرى إلا ظلمة الأكوان، يُصب من فوق رأسه، إلى قلبه، حَرُّ التدبير والاختيار، وكلما أراد أن يخرج من سجن الأكوان وغم الحجاب ردته حَيْرَةُ الدَّهَشِ، وهيبة الكبرياء والعظمة والإجلال ؛ لأن فكرته مسجونة تحت أطباق الكائنات، مقيدة بعلائق العوائد والشواغل والشهوات. ويقال له : ذق عذاب الحريق، وهو حِرْمانك من شهود التحقيق.
إن الله يدخل الذين آمنوا بطريق الخصوص، جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، يُحلون فيها بأنواع المحاسن والفضائل، ويتطهرون من جميع المساوئ والرذائل، وهُدوا إلى الطيب من القول، وهو الذكر الدائم بالقلب الهائم، والمخاطبة اللينة من القلوب الصافية، وهُدوا إلى طريق التربية والترقية، حتى وصلوا إلى شهود الحبيب، الحامد المحمود، القريب المجيب. حققنا الله بمقامهم بمنِّه وكرمه.
وقال بعضهم :( مُحال أن تشهده، وتشهد معه سواه ). وفي مناجاة الحكم العطائية :" إلهي، كيف يُسْتَدَلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك ؟ متى غِبْتَ، حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟ ! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟ ! ". وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :( أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان ). وهذه الطريق هي طريق التربية، لا تنقطع أبدًا، فمن كفر بها وجحدها قُطعت له ثياب من نار القطيعة، فيبقى مسجونًا بسرادقات محيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، لا يَرى إلا ظلمة الأكوان، يُصب من فوق رأسه، إلى قلبه، حَرُّ التدبير والاختيار، وكلما أراد أن يخرج من سجن الأكوان وغم الحجاب ردته حَيْرَةُ الدَّهَشِ، وهيبة الكبرياء والعظمة والإجلال ؛ لأن فكرته مسجونة تحت أطباق الكائنات، مقيدة بعلائق العوائد والشواغل والشهوات. ويقال له : ذق عذاب الحريق، وهو حِرْمانك من شهود التحقيق.
إن الله يدخل الذين آمنوا بطريق الخصوص، جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، يُحلون فيها بأنواع المحاسن والفضائل، ويتطهرون من جميع المساوئ والرذائل، وهُدوا إلى الطيب من القول، وهو الذكر الدائم بالقلب الهائم، والمخاطبة اللينة من القلوب الصافية، وهُدوا إلى طريق التربية والترقية، حتى وصلوا إلى شهود الحبيب، الحامد المحمود، القريب المجيب. حققنا الله بمقامهم بمنِّه وكرمه.
وقال بعضهم :( مُحال أن تشهده، وتشهد معه سواه ). وفي مناجاة الحكم العطائية :" إلهي، كيف يُسْتَدَلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك ؟ متى غِبْتَ، حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ؟ ! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟ ! ". وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :( أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان ). وهذه الطريق هي طريق التربية، لا تنقطع أبدًا، فمن كفر بها وجحدها قُطعت له ثياب من نار القطيعة، فيبقى مسجونًا بسرادقات محيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، لا يَرى إلا ظلمة الأكوان، يُصب من فوق رأسه، إلى قلبه، حَرُّ التدبير والاختيار، وكلما أراد أن يخرج من سجن الأكوان وغم الحجاب ردته حَيْرَةُ الدَّهَشِ، وهيبة الكبرياء والعظمة والإجلال ؛ لأن فكرته مسجونة تحت أطباق الكائنات، مقيدة بعلائق العوائد والشواغل والشهوات. ويقال له : ذق عذاب الحريق، وهو حِرْمانك من شهود التحقيق.
إن الله يدخل الذين آمنوا بطريق الخصوص، جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، يُحلون فيها بأنواع المحاسن والفضائل، ويتطهرون من جميع المساوئ والرذائل، وهُدوا إلى الطيب من القول، وهو الذكر الدائم بالقلب الهائم، والمخاطبة اللينة من القلوب الصافية، وهُدوا إلى طريق التربية والترقية، حتى وصلوا إلى شهود الحبيب، الحامد المحمود، القريب المجيب. حققنا الله بمقامهم بمنِّه وكرمه.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ * ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾
قلت : خبر ﴿ إن ﴾ : محذوف، يدل عليه ما بعده، أي : الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم ؛ لأنه إذا كان الملحِدُ في الحرم مُعَذبا فالجامع بين الكفر والصد أَولى. ومن رفع ﴿ سواء ﴾ جعله خبرًا مقدمًا. و﴿ العاكف ﴾ : مبتدأ. ومن نصبه : جعله مفعولَ ﴿ جعل ﴾، و﴿ العاكف ﴾ فاعل به.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إِن الذين كفروا ويَصدون ﴾ الناس ﴿ عن سبيل الله ﴾، أي : واستمروا على الصد، ولذلك حسن عطفه على الماضي، ﴿ و ﴾ يصدون أيضًا عن ﴿ المسجد الحرام ﴾ والدخول فيه، كأهل مكة مع المسلمين، ﴿ الذي جعلناه للناس ﴾ أي : مقامًا ومسكنًا للناس، كائنًا من كان، لا فرق فيه بين مكي وآفاقي، وضعيف وقوي، حاضر وباد. فإن أُريد بالمسجد الحرام " مكة "، ففيه دليل على أن دور مكة لا تُباع، وأن الناس فيها سواء، فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء، وليس لأحد فيها مِلك. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك وغيره : ليست الدور فيها كالمسجد، بل هي مُتَمَلَّكَةٌ. وإن أريد به البيت كان نصًا في إباحته لجميع المؤمنين. وهو مجمع عليه.
﴿ سواءً العاكفُ فيه ﴾ أي : مستوٍ المقيم فيه ﴿ والباد ﴾، أي : المسافر من أهل البادية، ﴿ ومن يُرِدْ فيه ﴾ أي : في المسجد، إحداث شيء ﴿ بإِلحادٍ ﴾ أي : بسبب ميل عن القصد، ﴿ بظُلم ﴾، وهما حالان مترادفان، أي : ومن يرد فيه إحداث شيء ؛ مائلاً عن الحق، ظالمًا فيه، ﴿ نذِقْهُ من عذابٍ أليم ﴾ في الآخرة. وكل من ارتكب فيه ذنبًا فهو كذلك.
وقال الورتجبي، على قوله تعالى :﴿ وإذ بوأنا... ﴾ الآية : هيأ لخليله وجميع أحبائه بيته، ودلَّه إلى ما فيه من الكرامات والآيات، وما ألبسه من أنوار حضرته ؛ ليكون وسيلة لعبادته، ومرآة لأنوار آياته. هـ. قلت : الإشارة بالبيت إلى القلب ؛ لأنه بيت الرب، أي : هيأنا لإبراهيم مكان قلبه ؛ لمشاهدة أسرار جبروتنا وأنوار ملكوتنا، ليكون من المُوقنين بشهود ذاتنا، وقلنا له : لا تشرك بنا شيئًا من السِّوى، ولا ترى معنا غيرنا، وطهِّر بيتي، الذي هو القلب، من الأغيار والأكدار، ليكون محلاً للطائفين به من الواردات والأنوار، والعاكفين فيه من المشاهدات والأسرار، والركع السجود من القلوب التي تواجهك بالتعظيم والانكسار، فإنَّ قلبَ العارف كعبة للواردات والأسرار، ومحل حج قلوب الصالحين والأبرار. وفي بعض الأثر :" يا داود ؛ طهر لي بيتًا أسكنه، فقال : يا رب... وأيُّ بيت يسعك ؟ فقال : لم يسعني أرضي ولا سمائي. ووسعني قلب عبدي المؤمن ". وفيه عند أهل الحديث كلام. ووسعه للربوبية بالعلم والمعرفة الخاصة. والله تعالى أعلم.
رُوِيَ أن الكعبة الشريفة بُنيت خمس مرات، إحداها : بنتها الملائكة، وكانت من ياقوتة حمراء، ثم رُفعت أيام الطوفان. والثانية : بناها إبراهيم عليه السلام، وقيل : إن جُرهم كانت بنتها قبله، ثم هدمت، ويدل عليه : التجاء عادٍ إليها، حين نزل بهم القحط. فأرسل الله عليهم الريح، وكان ذلك قبل إبراهيم عليه السلام، والثالثة : بنتها قريش، وقد حضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة. والرابعة : بناها ابن الزبير، والخامسة : الحجاج.
ثم قال تعالى :﴿ أن لا تُشرك ﴾ أي : وقلنا له : ألا تشرك ﴿ بي شيئًا ﴾، بل خلص عملك في بنائها وغيره، من شوائب حظ النفس، عاجلاً وآجلاً، لا طَمَعًا في جزاء، ولا خوفًا من عقوبة، بل محبة وشكرًا وعبودية. قال القشيري : أي : لا تلاحظ البيت ولا بنيانك. ه. وقيل : في الآية طعن على من أشرك من قُطَّان البيت، أي : هذا الشرط كان على أبيكم فمَنْ بعده وأنتم، فلم تقبلوه، بل أشركتم وصددتم وألحدتم، فاستحققتم التوبيخ والذم على سلوككم على غير طريق أبيكم.
﴿ وطهِّرْ بيتيَ ﴾ من الأصنام والأقذار، ﴿ للطائفين ﴾ به ﴿ والقائمين ﴾ للصلاة فيه، أو المقيمين فيه، ﴿ والركَّع السجود ﴾ أي : المصلين، جمعًا من راكع وساجد. والله تعالى أعلم.
وقال الورتجبي، على قوله تعالى :﴿ وإذ بوأنا... ﴾ الآية : هيأ لخليله وجميع أحبائه بيته، ودلَّه إلى ما فيه من الكرامات والآيات، وما ألبسه من أنوار حضرته ؛ ليكون وسيلة لعبادته، ومرآة لأنوار آياته. هـ. قلت : الإشارة بالبيت إلى القلب ؛ لأنه بيت الرب، أي : هيأنا لإبراهيم مكان قلبه ؛ لمشاهدة أسرار جبروتنا وأنوار ملكوتنا، ليكون من المُوقنين بشهود ذاتنا، وقلنا له : لا تشرك بنا شيئًا من السِّوى، ولا ترى معنا غيرنا، وطهِّر بيتي، الذي هو القلب، من الأغيار والأكدار، ليكون محلاً للطائفين به من الواردات والأنوار، والعاكفين فيه من المشاهدات والأسرار، والركع السجود من القلوب التي تواجهك بالتعظيم والانكسار، فإنَّ قلبَ العارف كعبة للواردات والأسرار، ومحل حج قلوب الصالحين والأبرار. وفي بعض الأثر :" يا داود ؛ طهر لي بيتًا أسكنه، فقال : يا رب... وأيُّ بيت يسعك ؟ فقال : لم يسعني أرضي ولا سمائي. ووسعني قلب عبدي المؤمن ". وفيه عند أهل الحديث كلام. ووسعه للربوبية بالعلم والمعرفة الخاصة. والله تعالى أعلم.
﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ ﴾ * ﴿ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِيا أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ ﴾ * ﴿ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ * ﴿ ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ ﴾
قلت :﴿ وعلى كل ضامر ﴾ : حال معطوفة على حال، أي : يأتوك حال كونهم رجالاً وركبانًا. و﴿ يأتين ﴾ : صفة لكل ضامر ؛ لأنه في معنى الجمع. وقرأ عبد الله :" يأتون "، صفة لرجال. و﴿ رجال ﴾ : جمع راجل ؛ كقائم وقيام.
يقول الحقّ جل جلاله : لإبراهيم عليه السلام :﴿ وأذِّن في الناس بالحج ﴾ أي : نادِ فيهم ليحجوا. رُوي : أنه عليه السلام صعد أبا قبيس، فقال : يا أيها الناس، حجوا بيت ربكم، فأسمعه الله تعالى الأرواح، فأجاب من قُدِّر له أن يحج من الأصلاب والأرحام بلبيك اللهم لبيك. ﴿ يأتوك ﴾ إن أذنت ﴿ رجالاً ﴾ أي : مشاةً ﴿ و ﴾ ركبانًا ﴿ على كل ضامر ﴾ أي : بعير مهزول، أتعبه بُعدُ الشُقة، فهزّله، أو زاد هزاله. وقدّم الرجال على الركبان ؛ لفضيلة المشاة، كما ورد في الحديث ﴿ يأتين ﴾ تلك الضوامر بركبانها، ﴿ من كل فج ﴾ ؛ طريق ﴿ عميق ﴾ ؛ بعيد. قال محمد بن ياسين : قال لي شيخٌ في الطواف : من أين أنت ؟ فقلت : من خُراسان. فقال : كم بينك وبين البيت ؟ فقلت : مسيرة شهرين أو ثلاثة. قال : فأنتم جيران البيت. فقلتُ : وأنت من أين سَعيت ؟ فقال : من مسيرة خمس سنوات، وخرجت وأنا شاب، فاكتهلت. فقلت : هذه واللهِ هي الطاعة الجميلة، والمحبة الصادقة، فضحك. وقال :
زُرْ مَن هَوَيْتَ وإن شطتْ بِكَ الدارُ | وحالَ من دُونه حُجُبٌ وأستارُ |
لا يَمْنََعَنَّكَ بُعْدٌ عنْ زِيارته | إنَّ المُحب لمنْ يهواه زوَّارُ |
هـ. قلت : ومن كان عقده الوصول إلى حضرة القدس ومحل الأنس، فوفاؤه ألا يرجع عن صحبة من سقاه خمرة المحبة، وحمله إلى درجة المعرفة. ثم قال : ومَنْ عاهد الله بقلبه، ثم لا يفي بذلك، فهو من جملة قول الزور. هـ. وهو أيضًا ليس بمُعَظِّمٍ لحرمات الله، حيث طلبها ثم تهاون وتركها. والله تعالى أعلم.
﴿ ويذكروا اسمَ الله ﴾ عند ذبح الضحايا والهدايا ﴿ في أيام معلومات ﴾، وهي أيام النحر عند مالك، وعند الشافعي : اليوم الأول والثاني والثالث ؛ لأن هذه هي أيام الضحايا عنده. ولم يجز ذبحها بالليل ؛ لقوله :﴿ في أيام ﴾. وقال أبو حنيفة : الأيام المعلومات : عشر ذي الحجة ويوم النحر، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه، وأما الأيام المعدودات، فهي : الثلاثة بعد يوم النحر -فيوم النحر معلوم لا معدود-، ورابعه : معدود لا معلوم، واليومان بعده : معلومان ومعدودان.
فيذكروا اسم الله ﴿ على ما رزقهم ﴾ أي : على ذبح ما رزقهم ﴿ من بهيمة الأنعام ﴾، وهي الإبل والبقر والغنم، ﴿ فكُلُوا منها ﴾ ؛ من لحومها، والأمر : للإباحة، ولإزاحة ما كانت عليه الجاهلية من التحرج.
قال ابن جزي : ويُستحب أن يأكل الأقل من الضحايا، ويتصدق بالأكثر. ه. وقال النسفي : ويجوز الأكل من هَدي التطوع والمتعة والقِران ؛ لأنه دم نسك ؛ لأنه أشبه الأضحية، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا. ه. وهو حنفي، وفي مذهب مالك تفصيل يطول ذكره.
﴿ وأطعموا البائسَ ﴾، وهو الذي أصابه البؤس، أي : ضرر الحاجة، وقيل : المتعفف، وقيل : الذي يظهر عليه أثر الجوع، ﴿ الفقير ﴾ : المحتاج الذي أضعفه الإعسار.
هـ. قلت : ومن كان عقده الوصول إلى حضرة القدس ومحل الأنس، فوفاؤه ألا يرجع عن صحبة من سقاه خمرة المحبة، وحمله إلى درجة المعرفة. ثم قال : ومَنْ عاهد الله بقلبه، ثم لا يفي بذلك، فهو من جملة قول الزور. هـ. وهو أيضًا ليس بمُعَظِّمٍ لحرمات الله، حيث طلبها ثم تهاون وتركها. والله تعالى أعلم.
هـ. قلت : ومن كان عقده الوصول إلى حضرة القدس ومحل الأنس، فوفاؤه ألا يرجع عن صحبة من سقاه خمرة المحبة، وحمله إلى درجة المعرفة. ثم قال : ومَنْ عاهد الله بقلبه، ثم لا يفي بذلك، فهو من جملة قول الزور. هـ. وهو أيضًا ليس بمُعَظِّمٍ لحرمات الله، حيث طلبها ثم تهاون وتركها. والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وأُحِلتْ لكم الأنعامُ ﴾ أي : أكلها، ﴿ إِلا ما يُتلىَ ﴾ أي : سيتلى ﴿ عليكم ﴾ منها في آية المائدة١، كالميتة والموقوذة وأخواتهما. والمعنى : إن الله قد أحل لكم الأنعام إلاَّ ما بيَّن في كتابه، فحافظوا على حدوده، ولا تُحرِّموا شيئًا مما أحلَّ لكم، كتحريم البحيرة وما معها، ولا تُحلوا ما حرَّم، كإحلال المشركين الميتة والموقوذة وغيرهما.
ثم نهى عن الأوثان التي كانوا يذبحون لها، فقال :﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان ﴾ ؛ لأن ذلك من تعظيم حرمات الله، و﴿ من ﴾ : للبيان، أي : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. والرجس : كل ما يستقذر من الخبث، وسمى الأوثان رجسًا على طريقة التشبيه، أي : فكما تنفرون بطباعكم من الرجس، فعليكم أن تنفروا عنها. والمراد : النهي عن عبادتها، أو عن الذبح تقربًا لها. ﴿ واجتنبوا قولَ الزُّور ﴾، وهو تعميم بعد تخصيص، فإنَّ عبادة الأوثان رأس الزور، ويدخل فيه الكذب والبهتان وشهادة الزور. وقيل : المراد شهادة الزور فقط، لِمَا رُوي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال :" عَدلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الإِشْرَاكَ بِاللهِ تعالى " ثلاثًا، وتلى هذه الآية٢. والزور من الزّور، وهو الانحراف والميل ؛ لأن صاحبه ينحرف عن الحق، ولا شك أن الشرك داخل في الزور ؛ لأن المشرك يزعم أن الوثن تحق له العبادة، وهو باطل وزور.
هـ. قلت : ومن كان عقده الوصول إلى حضرة القدس ومحل الأنس، فوفاؤه ألا يرجع عن صحبة من سقاه خمرة المحبة، وحمله إلى درجة المعرفة. ثم قال : ومَنْ عاهد الله بقلبه، ثم لا يفي بذلك، فهو من جملة قول الزور. هـ. وهو أيضًا ليس بمُعَظِّمٍ لحرمات الله، حيث طلبها ثم تهاون وتركها. والله تعالى أعلم.
٢ أخرجه أحمد في المسند ٤/٣٢١..
﴿ حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾
ثم قال تعالى :﴿ حنفاءَ لله ﴾ : مائلين عن كل دين زائغ إلى دين الحق، مخلصين لله، ﴿ غير مشركين به ﴾ شيئًا من الأشياء، ﴿ ومن يُشرك بالله ﴾، أظهر الاسم الجليل ؛ لإظهار كمال قبح الشرك، ﴿ فكأنما خَرَّ ﴾ : سقط ﴿ من السماء ﴾ إلى الأرض ؛ لأنه يسقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر. وقيل : هو إشارة إلى ما يكون له حين يصعد بروحه عند الموت، فتطرح من السماء إلى الأرض. قاله ابن البنا. ﴿ فتخطفه الطير ﴾ أي : تتناوله بسرعة، فالخطف والاختطاف : تناول الشيء بسرعة ؛ لأن الأهواء المردية كانت توزع أفكاره، ﴿ أو تَهْوِي به الريحُ ﴾ أي : تسقطه وتقذفه. والهوى : السقوط. ﴿ في مكان سحيق ﴾ : بعيد ؛ لأن الشيطان قد طرحه في الضلال والتحير الكبير. والله تعالى أعلم.
﴿ ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ * ﴿ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ * ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ * ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ * ﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر ذلك، أو امتثلوا ذلك، ﴿ ومن يُعَظِّمْ شعائرَ الله ﴾ أي : الهدايا، فإنها معالم الدين وشعائره تعالى، كما يُنبئ عنه :﴿ والبدن جعلناها لكم من شعائر الله ﴾ وتعظيمها : اعتقاد التقرب بها، وأن يختارها سِمَانًا حسانًا غالية الأثمان، رُوي " أنه صلى الله عليه وسلم أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةِ، فِيهَا جَمَلٌ لأَبِي جَهْلٍ، في أنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَب ". وأن عمر رضي الله عنه -أهدى نجيبة طُلبت منه بثلاثمائة دينار-. وقيل : شعائر الله : مواضع الحج، كعرفة ومنى والمزدلفة. وتعظيمها : إجلالها وتوقيرها، والتقصد إليها. وقيل : الشعائر : أمور الدين على الإطلاق، وتعظيمها : القيام بها ومراعاة آدابها. ﴿ فإِنها ﴾ أي : فإن تعظيمها ﴿ من تقوى القلوب ﴾ أي : من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات. أو فإن تعظيمها ناشئ من تقوى القلوب ؛ لأنها مراكز التقوى.
وقوله تعالى :﴿ لكم فيها منافع ﴾ أي : لكم في هذه التجليات، إن عظمتموها وعرفتم الله فيها، منافع، ترعَوْن من أنوارها وتشربون من خمرة أسرارها، فتزدادوا معرفة وتكميلاً، إلى أجل مسمى، وهو مقام التمكين، فحينئذ تواجهه أنوار المواجهة، فتكون الأنوار له، لا هو للأنوار، لأنه لله لا لشيء دونه، ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩١ ]. ثم محل هذه الأنوار إلى بيت الحضرة، فحينئذ يستغني بالله عن كل ما سواه. وقوله تعالى :﴿ ولكل أمة جعلنا منسكًا ﴾ أي : لكل عصر جعلنا تربية مخصوصة، والوصول واحد ؛ ولذلك قال :﴿ فإلهكم إله واحد ﴾. وقال القشيري : الشرائعُ مختلفةٌ فيما كان من المعاملات، متفقة فيما كان من جملة المعارف. ثم قال : ذكّرهم الله بأنه هو الذي أمرهم ويُثيبهم، ﴿ فله أسلموا ﴾ : اسْتَسلموا لحكمِه، من غير استكراهٍ من داخل القلب ولا من اللفظ. هـ.
وقوله تعالى :﴿ والبدن... ﴾ الآية. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات، وزمها بالرياضات عن المخالفات، وفناء الوجود للمشاهدات، حتى لا يبقى للعارف في طريقه حظ من حظوظه، ويبقى لله مفردًا من جميع الخلائق. هـ.
وفي قوله تعالى :﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف ﴾، إشارة إلى أن النفس لا تموت إلا بصحبة من ماتت نفسه، فلا تموت النفس مع صحبة أهل النفوس الحية أبدًا. فإذا ماتت وسقطت جنوبها، وظفرتم بها ؛ فكلوا من أنوار أسرارها وعلومها ؛ لأن النفس، إذا ماتت، حييت الروح، وفاضت عليها العلوم اللدنية، فكلوا منها، وأطعموا السائل والمتعرض لنفحاتكم. وقوله تعالى :﴿ لن ينال الله لحومها... ﴾ الآية، قال الورتجبي : الإشارة فيه إلى جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى، لا يلحق الحق بحق المراد منه، ولكن يصل إليه قلب جريح من محبته، ذُبح بسيف شوقه، مطروح على باب عشقه. قال سهل في قوله :﴿ ولكن يناله التقوى ﴾ : هو التبري والإخلاص. هـ.
قال القشيري : لا عِبْرةً بإظهار الأفعال، سواء كانت بدنيةً أو ماليةً صِرْفًا، أو مما يتعلق بالوجهين، ولكن العبرة بقرائنها من الإخلاص، فإذا انضَافَ إلى الجوارح إخلاص القصود، وتَجَرَّدَتْ عن ملاحظة أصحابِها الأغيار، صَلُحَتْ للقبول، وينال صاحبها القرب، بشهود الحق بنعت التفرد. ثم قال :﴿ لتكبروا الله على ما هداكم ﴾ وأرشدكم إلى القيام بحقِّ العبودية على قضية الشرع، ﴿ وبشر المحسنين ﴾، الإحسان، كما في الخبر :" أنْ تعبد الله كَأنك تراه ". وأمارةُ صحته : سقوطُ تعب القلب عن صاحِبهِ، فلا يستثقلُ شيئًا ولا يتبرم بشيءٍ. هـ. قلت : خواطر الاستثقال والتبرم لا تضر ؛ لأنه طبع بشري، وإنما يضر ما سكن في القلب.
وقال في الإحياء : ليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم، بل ميل القلب عن حب الدنيا، وبذلُها ؛ إيثارًا لوجه الله تعالى، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة، وإن عاق عن العمل عائق. فلن ينال الله لحومُها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم، والتقوى ها هنا عمل القلب، من نية القربة، وإرادة الخير، وإخلاص القصد لله، وهو المقصود، وعمل الظاهر مؤكد له، ولذلك كانت نية المؤمن أبلغ من عمله ؛ فإنَّ الطاعات غذاء القلوب، والمقصود : لذة السعادة بلقاء الله تعالى، والتنعم بها، وذلك فرع محبته والأنس به، ولا يكون إلاّ بذكره، ولا يفرغ إلا بالزهد في الدنيا، وترك شواغلها والانقطاع عنها. هـ.
وقوله تعالى :﴿ لكم فيها منافع ﴾ أي : لكم في هذه التجليات، إن عظمتموها وعرفتم الله فيها، منافع، ترعَوْن من أنوارها وتشربون من خمرة أسرارها، فتزدادوا معرفة وتكميلاً، إلى أجل مسمى، وهو مقام التمكين، فحينئذ تواجهه أنوار المواجهة، فتكون الأنوار له، لا هو للأنوار، لأنه لله لا لشيء دونه، ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩١ ]. ثم محل هذه الأنوار إلى بيت الحضرة، فحينئذ يستغني بالله عن كل ما سواه. وقوله تعالى :﴿ ولكل أمة جعلنا منسكًا ﴾ أي : لكل عصر جعلنا تربية مخصوصة، والوصول واحد ؛ ولذلك قال :﴿ فإلهكم إله واحد ﴾. وقال القشيري : الشرائعُ مختلفةٌ فيما كان من المعاملات، متفقة فيما كان من جملة المعارف. ثم قال : ذكّرهم الله بأنه هو الذي أمرهم ويُثيبهم، ﴿ فله أسلموا ﴾ : اسْتَسلموا لحكمِه، من غير استكراهٍ من داخل القلب ولا من اللفظ. هـ.
وقوله تعالى :﴿ والبدن... ﴾ الآية. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات، وزمها بالرياضات عن المخالفات، وفناء الوجود للمشاهدات، حتى لا يبقى للعارف في طريقه حظ من حظوظه، ويبقى لله مفردًا من جميع الخلائق. هـ.
وفي قوله تعالى :﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف ﴾، إشارة إلى أن النفس لا تموت إلا بصحبة من ماتت نفسه، فلا تموت النفس مع صحبة أهل النفوس الحية أبدًا. فإذا ماتت وسقطت جنوبها، وظفرتم بها ؛ فكلوا من أنوار أسرارها وعلومها ؛ لأن النفس، إذا ماتت، حييت الروح، وفاضت عليها العلوم اللدنية، فكلوا منها، وأطعموا السائل والمتعرض لنفحاتكم. وقوله تعالى :﴿ لن ينال الله لحومها... ﴾ الآية، قال الورتجبي : الإشارة فيه إلى جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى، لا يلحق الحق بحق المراد منه، ولكن يصل إليه قلب جريح من محبته، ذُبح بسيف شوقه، مطروح على باب عشقه. قال سهل في قوله :﴿ ولكن يناله التقوى ﴾ : هو التبري والإخلاص. هـ.
قال القشيري : لا عِبْرةً بإظهار الأفعال، سواء كانت بدنيةً أو ماليةً صِرْفًا، أو مما يتعلق بالوجهين، ولكن العبرة بقرائنها من الإخلاص، فإذا انضَافَ إلى الجوارح إخلاص القصود، وتَجَرَّدَتْ عن ملاحظة أصحابِها الأغيار، صَلُحَتْ للقبول، وينال صاحبها القرب، بشهود الحق بنعت التفرد. ثم قال :﴿ لتكبروا الله على ما هداكم ﴾ وأرشدكم إلى القيام بحقِّ العبودية على قضية الشرع، ﴿ وبشر المحسنين ﴾، الإحسان، كما في الخبر :" أنْ تعبد الله كَأنك تراه ". وأمارةُ صحته : سقوطُ تعب القلب عن صاحِبهِ، فلا يستثقلُ شيئًا ولا يتبرم بشيءٍ. هـ. قلت : خواطر الاستثقال والتبرم لا تضر ؛ لأنه طبع بشري، وإنما يضر ما سكن في القلب.
وقال في الإحياء : ليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم، بل ميل القلب عن حب الدنيا، وبذلُها ؛ إيثارًا لوجه الله تعالى، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة، وإن عاق عن العمل عائق. فلن ينال الله لحومُها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم، والتقوى ها هنا عمل القلب، من نية القربة، وإرادة الخير، وإخلاص القصد لله، وهو المقصود، وعمل الظاهر مؤكد له، ولذلك كانت نية المؤمن أبلغ من عمله ؛ فإنَّ الطاعات غذاء القلوب، والمقصود : لذة السعادة بلقاء الله تعالى، والتنعم بها، وذلك فرع محبته والأنس به، ولا يكون إلاّ بذكره، ولا يفرغ إلا بالزهد في الدنيا، وترك شواغلها والانقطاع عنها. هـ.
﴿ وبشر المخبتين ﴾ ؛ المطمئنين بذكر الله، أو المتواضعين، أو المخلصين، فإن الإخبات من الوظائف الخاصة بهم. والخَبْتُ : المطمئن من الأرض. وعن ابن عباس رضي الله عنه : هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقيل : تفسيره ما بعده، وهو قوله :﴿ الذين إِذا ذُكرَ اللهُ وجِلَتْ قلوبُهم ﴾.
وقوله تعالى :﴿ لكم فيها منافع ﴾ أي : لكم في هذه التجليات، إن عظمتموها وعرفتم الله فيها، منافع، ترعَوْن من أنوارها وتشربون من خمرة أسرارها، فتزدادوا معرفة وتكميلاً، إلى أجل مسمى، وهو مقام التمكين، فحينئذ تواجهه أنوار المواجهة، فتكون الأنوار له، لا هو للأنوار، لأنه لله لا لشيء دونه، ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩١ ]. ثم محل هذه الأنوار إلى بيت الحضرة، فحينئذ يستغني بالله عن كل ما سواه. وقوله تعالى :﴿ ولكل أمة جعلنا منسكًا ﴾ أي : لكل عصر جعلنا تربية مخصوصة، والوصول واحد ؛ ولذلك قال :﴿ فإلهكم إله واحد ﴾. وقال القشيري : الشرائعُ مختلفةٌ فيما كان من المعاملات، متفقة فيما كان من جملة المعارف. ثم قال : ذكّرهم الله بأنه هو الذي أمرهم ويُثيبهم، ﴿ فله أسلموا ﴾ : اسْتَسلموا لحكمِه، من غير استكراهٍ من داخل القلب ولا من اللفظ. هـ.
وقوله تعالى :﴿ والبدن... ﴾ الآية. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات، وزمها بالرياضات عن المخالفات، وفناء الوجود للمشاهدات، حتى لا يبقى للعارف في طريقه حظ من حظوظه، ويبقى لله مفردًا من جميع الخلائق. هـ.
وفي قوله تعالى :﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف ﴾، إشارة إلى أن النفس لا تموت إلا بصحبة من ماتت نفسه، فلا تموت النفس مع صحبة أهل النفوس الحية أبدًا. فإذا ماتت وسقطت جنوبها، وظفرتم بها ؛ فكلوا من أنوار أسرارها وعلومها ؛ لأن النفس، إذا ماتت، حييت الروح، وفاضت عليها العلوم اللدنية، فكلوا منها، وأطعموا السائل والمتعرض لنفحاتكم. وقوله تعالى :﴿ لن ينال الله لحومها... ﴾ الآية، قال الورتجبي : الإشارة فيه إلى جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى، لا يلحق الحق بحق المراد منه، ولكن يصل إليه قلب جريح من محبته، ذُبح بسيف شوقه، مطروح على باب عشقه. قال سهل في قوله :﴿ ولكن يناله التقوى ﴾ : هو التبري والإخلاص. هـ.
قال القشيري : لا عِبْرةً بإظهار الأفعال، سواء كانت بدنيةً أو ماليةً صِرْفًا، أو مما يتعلق بالوجهين، ولكن العبرة بقرائنها من الإخلاص، فإذا انضَافَ إلى الجوارح إخلاص القصود، وتَجَرَّدَتْ عن ملاحظة أصحابِها الأغيار، صَلُحَتْ للقبول، وينال صاحبها القرب، بشهود الحق بنعت التفرد. ثم قال :﴿ لتكبروا الله على ما هداكم ﴾ وأرشدكم إلى القيام بحقِّ العبودية على قضية الشرع، ﴿ وبشر المحسنين ﴾، الإحسان، كما في الخبر :" أنْ تعبد الله كَأنك تراه ". وأمارةُ صحته : سقوطُ تعب القلب عن صاحِبهِ، فلا يستثقلُ شيئًا ولا يتبرم بشيءٍ. هـ. قلت : خواطر الاستثقال والتبرم لا تضر ؛ لأنه طبع بشري، وإنما يضر ما سكن في القلب.
وقال في الإحياء : ليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم، بل ميل القلب عن حب الدنيا، وبذلُها ؛ إيثارًا لوجه الله تعالى، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة، وإن عاق عن العمل عائق. فلن ينال الله لحومُها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم، والتقوى ها هنا عمل القلب، من نية القربة، وإرادة الخير، وإخلاص القصد لله، وهو المقصود، وعمل الظاهر مؤكد له، ولذلك كانت نية المؤمن أبلغ من عمله ؛ فإنَّ الطاعات غذاء القلوب، والمقصود : لذة السعادة بلقاء الله تعالى، والتنعم بها، وذلك فرع محبته والأنس به، ولا يكون إلاّ بذكره، ولا يفرغ إلا بالزهد في الدنيا، وترك شواغلها والانقطاع عنها. هـ.
﴿ والصابرين على ما أصابهم ﴾ من مشاق التكاليف ومصائب الزمان والنوائب، ﴿ والمقيمي الصلاة ﴾ في أوقاتها، ﴿ ومما رزقناهم يُنفقون ﴾ في وجوه الخيرات.
وقوله تعالى :﴿ لكم فيها منافع ﴾ أي : لكم في هذه التجليات، إن عظمتموها وعرفتم الله فيها، منافع، ترعَوْن من أنوارها وتشربون من خمرة أسرارها، فتزدادوا معرفة وتكميلاً، إلى أجل مسمى، وهو مقام التمكين، فحينئذ تواجهه أنوار المواجهة، فتكون الأنوار له، لا هو للأنوار، لأنه لله لا لشيء دونه، ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩١ ]. ثم محل هذه الأنوار إلى بيت الحضرة، فحينئذ يستغني بالله عن كل ما سواه. وقوله تعالى :﴿ ولكل أمة جعلنا منسكًا ﴾ أي : لكل عصر جعلنا تربية مخصوصة، والوصول واحد ؛ ولذلك قال :﴿ فإلهكم إله واحد ﴾. وقال القشيري : الشرائعُ مختلفةٌ فيما كان من المعاملات، متفقة فيما كان من جملة المعارف. ثم قال : ذكّرهم الله بأنه هو الذي أمرهم ويُثيبهم، ﴿ فله أسلموا ﴾ : اسْتَسلموا لحكمِه، من غير استكراهٍ من داخل القلب ولا من اللفظ. هـ.
وقوله تعالى :﴿ والبدن... ﴾ الآية. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات، وزمها بالرياضات عن المخالفات، وفناء الوجود للمشاهدات، حتى لا يبقى للعارف في طريقه حظ من حظوظه، ويبقى لله مفردًا من جميع الخلائق. هـ.
وفي قوله تعالى :﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف ﴾، إشارة إلى أن النفس لا تموت إلا بصحبة من ماتت نفسه، فلا تموت النفس مع صحبة أهل النفوس الحية أبدًا. فإذا ماتت وسقطت جنوبها، وظفرتم بها ؛ فكلوا من أنوار أسرارها وعلومها ؛ لأن النفس، إذا ماتت، حييت الروح، وفاضت عليها العلوم اللدنية، فكلوا منها، وأطعموا السائل والمتعرض لنفحاتكم. وقوله تعالى :﴿ لن ينال الله لحومها... ﴾ الآية، قال الورتجبي : الإشارة فيه إلى جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى، لا يلحق الحق بحق المراد منه، ولكن يصل إليه قلب جريح من محبته، ذُبح بسيف شوقه، مطروح على باب عشقه. قال سهل في قوله :﴿ ولكن يناله التقوى ﴾ : هو التبري والإخلاص. هـ.
قال القشيري : لا عِبْرةً بإظهار الأفعال، سواء كانت بدنيةً أو ماليةً صِرْفًا، أو مما يتعلق بالوجهين، ولكن العبرة بقرائنها من الإخلاص، فإذا انضَافَ إلى الجوارح إخلاص القصود، وتَجَرَّدَتْ عن ملاحظة أصحابِها الأغيار، صَلُحَتْ للقبول، وينال صاحبها القرب، بشهود الحق بنعت التفرد. ثم قال :﴿ لتكبروا الله على ما هداكم ﴾ وأرشدكم إلى القيام بحقِّ العبودية على قضية الشرع، ﴿ وبشر المحسنين ﴾، الإحسان، كما في الخبر :" أنْ تعبد الله كَأنك تراه ". وأمارةُ صحته : سقوطُ تعب القلب عن صاحِبهِ، فلا يستثقلُ شيئًا ولا يتبرم بشيءٍ. هـ. قلت : خواطر الاستثقال والتبرم لا تضر ؛ لأنه طبع بشري، وإنما يضر ما سكن في القلب.
وقال في الإحياء : ليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم، بل ميل القلب عن حب الدنيا، وبذلُها ؛ إيثارًا لوجه الله تعالى، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة، وإن عاق عن العمل عائق. فلن ينال الله لحومُها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم، والتقوى ها هنا عمل القلب، من نية القربة، وإرادة الخير، وإخلاص القصد لله، وهو المقصود، وعمل الظاهر مؤكد له، ولذلك كانت نية المؤمن أبلغ من عمله ؛ فإنَّ الطاعات غذاء القلوب، والمقصود : لذة السعادة بلقاء الله تعالى، والتنعم بها، وذلك فرع محبته والأنس به، ولا يكون إلاّ بذكره، ولا يفرغ إلا بالزهد في الدنيا، وترك شواغلها والانقطاع عنها. هـ.
وقوله تعالى :﴿ لكم فيها منافع ﴾ أي : لكم في هذه التجليات، إن عظمتموها وعرفتم الله فيها، منافع، ترعَوْن من أنوارها وتشربون من خمرة أسرارها، فتزدادوا معرفة وتكميلاً، إلى أجل مسمى، وهو مقام التمكين، فحينئذ تواجهه أنوار المواجهة، فتكون الأنوار له، لا هو للأنوار، لأنه لله لا لشيء دونه، ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩١ ]. ثم محل هذه الأنوار إلى بيت الحضرة، فحينئذ يستغني بالله عن كل ما سواه. وقوله تعالى :﴿ ولكل أمة جعلنا منسكًا ﴾ أي : لكل عصر جعلنا تربية مخصوصة، والوصول واحد ؛ ولذلك قال :﴿ فإلهكم إله واحد ﴾. وقال القشيري : الشرائعُ مختلفةٌ فيما كان من المعاملات، متفقة فيما كان من جملة المعارف. ثم قال : ذكّرهم الله بأنه هو الذي أمرهم ويُثيبهم، ﴿ فله أسلموا ﴾ : اسْتَسلموا لحكمِه، من غير استكراهٍ من داخل القلب ولا من اللفظ. هـ.
وقوله تعالى :﴿ والبدن... ﴾ الآية. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات، وزمها بالرياضات عن المخالفات، وفناء الوجود للمشاهدات، حتى لا يبقى للعارف في طريقه حظ من حظوظه، ويبقى لله مفردًا من جميع الخلائق. هـ.
وفي قوله تعالى :﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف ﴾، إشارة إلى أن النفس لا تموت إلا بصحبة من ماتت نفسه، فلا تموت النفس مع صحبة أهل النفوس الحية أبدًا. فإذا ماتت وسقطت جنوبها، وظفرتم بها ؛ فكلوا من أنوار أسرارها وعلومها ؛ لأن النفس، إذا ماتت، حييت الروح، وفاضت عليها العلوم اللدنية، فكلوا منها، وأطعموا السائل والمتعرض لنفحاتكم. وقوله تعالى :﴿ لن ينال الله لحومها... ﴾ الآية، قال الورتجبي : الإشارة فيه إلى جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى، لا يلحق الحق بحق المراد منه، ولكن يصل إليه قلب جريح من محبته، ذُبح بسيف شوقه، مطروح على باب عشقه. قال سهل في قوله :﴿ ولكن يناله التقوى ﴾ : هو التبري والإخلاص. هـ.
قال القشيري : لا عِبْرةً بإظهار الأفعال، سواء كانت بدنيةً أو ماليةً صِرْفًا، أو مما يتعلق بالوجهين، ولكن العبرة بقرائنها من الإخلاص، فإذا انضَافَ إلى الجوارح إخلاص القصود، وتَجَرَّدَتْ عن ملاحظة أصحابِها الأغيار، صَلُحَتْ للقبول، وينال صاحبها القرب، بشهود الحق بنعت التفرد. ثم قال :﴿ لتكبروا الله على ما هداكم ﴾ وأرشدكم إلى القيام بحقِّ العبودية على قضية الشرع، ﴿ وبشر المحسنين ﴾، الإحسان، كما في الخبر :" أنْ تعبد الله كَأنك تراه ". وأمارةُ صحته : سقوطُ تعب القلب عن صاحِبهِ، فلا يستثقلُ شيئًا ولا يتبرم بشيءٍ. هـ. قلت : خواطر الاستثقال والتبرم لا تضر ؛ لأنه طبع بشري، وإنما يضر ما سكن في القلب.
وقال في الإحياء : ليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم، بل ميل القلب عن حب الدنيا، وبذلُها ؛ إيثارًا لوجه الله تعالى، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة، وإن عاق عن العمل عائق. فلن ينال الله لحومُها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم، والتقوى ها هنا عمل القلب، من نية القربة، وإرادة الخير، وإخلاص القصد لله، وهو المقصود، وعمل الظاهر مؤكد له، ولذلك كانت نية المؤمن أبلغ من عمله ؛ فإنَّ الطاعات غذاء القلوب، والمقصود : لذة السعادة بلقاء الله تعالى، والتنعم بها، وذلك فرع محبته والأنس به، ولا يكون إلاّ بذكره، ولا يفرغ إلا بالزهد في الدنيا، وترك شواغلها والانقطاع عنها. هـ.
﴿ كذلك سخرها لكم ﴾ أي : البدن، وهو تكرير للتذكير والتعليل، لقوله :﴿ لتكبِّروا الله على ما هداكم ﴾ أي : لتعرفوا عظمة الله، باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره، فتوحدوه بالكبرياء ؛ شكرًا على هدايته لكم. وقيل : هو التكبير عند الذبح ﴿ وبشر المحسنين ﴾ : المخلصين في كل ما يأتون ويذرون في أمور دينهم. وبالله التوفيق.
وقوله تعالى :﴿ لكم فيها منافع ﴾ أي : لكم في هذه التجليات، إن عظمتموها وعرفتم الله فيها، منافع، ترعَوْن من أنوارها وتشربون من خمرة أسرارها، فتزدادوا معرفة وتكميلاً، إلى أجل مسمى، وهو مقام التمكين، فحينئذ تواجهه أنوار المواجهة، فتكون الأنوار له، لا هو للأنوار، لأنه لله لا لشيء دونه، ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩١ ]. ثم محل هذه الأنوار إلى بيت الحضرة، فحينئذ يستغني بالله عن كل ما سواه. وقوله تعالى :﴿ ولكل أمة جعلنا منسكًا ﴾ أي : لكل عصر جعلنا تربية مخصوصة، والوصول واحد ؛ ولذلك قال :﴿ فإلهكم إله واحد ﴾. وقال القشيري : الشرائعُ مختلفةٌ فيما كان من المعاملات، متفقة فيما كان من جملة المعارف. ثم قال : ذكّرهم الله بأنه هو الذي أمرهم ويُثيبهم، ﴿ فله أسلموا ﴾ : اسْتَسلموا لحكمِه، من غير استكراهٍ من داخل القلب ولا من اللفظ. هـ.
وقوله تعالى :﴿ والبدن... ﴾ الآية. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات، وزمها بالرياضات عن المخالفات، وفناء الوجود للمشاهدات، حتى لا يبقى للعارف في طريقه حظ من حظوظه، ويبقى لله مفردًا من جميع الخلائق. هـ.
وفي قوله تعالى :﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف ﴾، إشارة إلى أن النفس لا تموت إلا بصحبة من ماتت نفسه، فلا تموت النفس مع صحبة أهل النفوس الحية أبدًا. فإذا ماتت وسقطت جنوبها، وظفرتم بها ؛ فكلوا من أنوار أسرارها وعلومها ؛ لأن النفس، إذا ماتت، حييت الروح، وفاضت عليها العلوم اللدنية، فكلوا منها، وأطعموا السائل والمتعرض لنفحاتكم. وقوله تعالى :﴿ لن ينال الله لحومها... ﴾ الآية، قال الورتجبي : الإشارة فيه إلى جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى، لا يلحق الحق بحق المراد منه، ولكن يصل إليه قلب جريح من محبته، ذُبح بسيف شوقه، مطروح على باب عشقه. قال سهل في قوله :﴿ ولكن يناله التقوى ﴾ : هو التبري والإخلاص. هـ.
قال القشيري : لا عِبْرةً بإظهار الأفعال، سواء كانت بدنيةً أو ماليةً صِرْفًا، أو مما يتعلق بالوجهين، ولكن العبرة بقرائنها من الإخلاص، فإذا انضَافَ إلى الجوارح إخلاص القصود، وتَجَرَّدَتْ عن ملاحظة أصحابِها الأغيار، صَلُحَتْ للقبول، وينال صاحبها القرب، بشهود الحق بنعت التفرد. ثم قال :﴿ لتكبروا الله على ما هداكم ﴾ وأرشدكم إلى القيام بحقِّ العبودية على قضية الشرع، ﴿ وبشر المحسنين ﴾، الإحسان، كما في الخبر :" أنْ تعبد الله كَأنك تراه ". وأمارةُ صحته : سقوطُ تعب القلب عن صاحِبهِ، فلا يستثقلُ شيئًا ولا يتبرم بشيءٍ. هـ. قلت : خواطر الاستثقال والتبرم لا تضر ؛ لأنه طبع بشري، وإنما يضر ما سكن في القلب.
وقال في الإحياء : ليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم، بل ميل القلب عن حب الدنيا، وبذلُها ؛ إيثارًا لوجه الله تعالى، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة، وإن عاق عن العمل عائق. فلن ينال الله لحومُها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم، والتقوى ها هنا عمل القلب، من نية القربة، وإرادة الخير، وإخلاص القصد لله، وهو المقصود، وعمل الظاهر مؤكد له، ولذلك كانت نية المؤمن أبلغ من عمله ؛ فإنَّ الطاعات غذاء القلوب، والمقصود : لذة السعادة بلقاء الله تعالى، والتنعم بها، وذلك فرع محبته والأنس به، ولا يكون إلاّ بذكره، ولا يفرغ إلا بالزهد في الدنيا، وترك شواغلها والانقطاع عنها. هـ.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إِن الله يُدافع ﴾ يدفع غائلة المشركين ﴿ عن الذين آمنوا ﴾ ؛ فلا يقدرون أن يعوقوهم عن شيء من عبادة الله، بل ينصرهم ويؤيدهم كما قال تعالى :
﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ [ غَافر : ٥١ ]، وصيغة المفاعلة : إمَّا للمبالغة، أو للدلالة على تكرير الدفع، فإنها قد تجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين، فيبقى تكرره من جانب واحد، كما في المحارسة، أي : يبالغ في دفع ضرر المشركين وشوكتهم، التي من جملتها صدهم عن سبيل الله، مبالغةَ مَن يغالَبُ فيه، أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى، بحسب تجرد قصد الإضرار بالمسلمين، كما في قوله :﴿ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ﴾ [ المَائدة : ٦٤ ]. وقرأ المكي والبصري :" يدفع ".
ثم علّل ذلك الدفع بقوله :﴿ إِن الله لا يُحب كل خَوّانٍ كفور ﴾ أي : لأنَّ الله يبغض كل خوان في أمانة الله تعالى، وهي : أوامره ونواهيه، ومن أعظمها : الإيمان بالله ورسوله. أو في جميع الأمانات، كفورٌ لنعم الله. والمعنى : إن الله يدافع عنهم ؛ لأنه يبغض أعداءهم، وهم : الخونة الكفرة، الذين يخونون الله والرسول، ويخونون أماناتهم. وصيغة المبالغة فيها ؛ لبيان أنهم كذلك فيهما، لا لتقييد البعض بغاية الجناية ؛ فإن الخائن ممقوت مطلقًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إن الله يدفع عن أوليائه، والمتوجهين إليه، كل عائق وشاغل، وغائلة كل غائل، الذين حازوا ذروة الإيمان، وقصدوا تحقيق مقام الإحسان. فمن رام صدّهم عن ذلك فهو خائن كفور، ﴿ إن الله لا يحب كل خَوّانٍ كفور ﴾.
﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير( ٣٩ ) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ( ٤٠ ) الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور( ٤١ ) ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أُذِنَ ﴾ أي : رُخص وشرع، أو أَذن اللهُ ﴿ للذين يُقاتَلون ﴾ أي : يُقاتلهم الكفارُ المشركون، وحذف المأذون فيه ؛ لدلالة " يُقاتَلون " عليه، أي : في قتالهم، ﴿ بأنهم ظُلموا ﴾ أي : بسبب كونهم مظلومين، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مشركو مكة يؤذونهم أذىً شديدًا، وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروبٍ ومشجوج، فيتظلمون إليه، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اصبروا ؛ فإني لم أومر بالقتال ". حتى هاجر، فنزلت هذه الآية. وهي أول آية نزلت في الجهاد، بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية.
﴿ وإِنّ الله على نصرهم لقديرٌ ﴾. وعدٌ لهم بالنصر، وتأكيد لِما مرّ من العِدَة الكريمة بالدفع، وتصريح بأن المراد ليس مجرد تخليصهم من يد المشركين، بل بغلبتهم وإظهارهم عليهم. وتأكيده بكلمة التحقيق. واللام ؛ لمزيد من تحقيق مضمونه، وزيادة توطين نفوس المؤمنين.
وقوله تعالى :﴿ الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق ﴾ ؛ هم الذين أُمروا بقتل نفوسهم، فإنهم إذا خرقوا عوائد نفوسهم، وخرجوا عن عوائد الناس، رفضوهم وأنكروهم، وربما أخرجوهم من ديارهم، فقلَّ أن تجد وليًا بقي في وطنه الأول، وما نقموا منهم وأخرجوهم إلا لقصدهم مولاهم، وقولهم : ربُّنا الله دون شيء سواه، فحيث خرجوا عن عوائدهم وقصدوا مولاهم، أنكروهم وأخرجوهم من أوطانهم، ولولا دفع الناس بعضهم ببعض ؛ بأن شفع خيارهم في شرارهم، لهدمت دعائم الوجود ؛ لأنَّ من آذى وليًا فقد آذن بالحرب.
قال القشيري :﴿ ولولا دفع الله الناس ﴾، أي : يتجاوز عن الأصاغر لِقَدْرِ الأكابر ؛ استبقاء لمنازل العبادة، تلك سُنَّة أجراها. ثم قال :﴿ الذين إن مكّناهم في الأرض ﴾، أي : لم يشتغلوا في ذلك بحظوظٍ، ولكن قاموا لأداء حقوقنا. هـ.
لا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
﴿ ولولا دفعُ اللهِ الناسَ ﴾ : لولا أن يدفع الله الناس ﴿ بعضهم ببعض ﴾ ؛ بتسليط المؤمنين على الكافرين في كل عصر وزمان، وإقامة الحدود وكف المظالم، ﴿ لهُدِّمت ﴾ أي لخربت ؛ باستيلاء الكفرة على الملل، ﴿ صَوَامِعُ ﴾ : جمع صومَعة -بفتح الميم-، وهي : متعبد النصارى والصابئين منهم، ويسمى أيضًا الدير. وسُمي بها موضع الأذان من الإسلام :﴿ وَبِيَعٌ ﴾ : جمع بيعة -بكسر الباء- : كنائس النصارى، ﴿ وصلوات ﴾ : كنائس اليهود، سميت بما يقع فيها، وأصلها : صلَوتا بالعبرانية، ثم عُربت، ﴿ ومساجد ﴾ للمسلمين، ﴿ يُذْكَرُ فيها اسمُ الله كثيرًا ﴾ أي : ذكرًا كثيرًا، أو وقتًا كثيرًا، صفة مادحة للمساجد، خُصت بها ؛ دلالةً على فضلها وفضل أهلها. وقيل يرجع للأربع، وفيه نظر ؛ فإنَّ ذكر الله تعالى في الصوامع والبيع والكنائس قد انقطع بظهور الإسلام، فَقَصْدُ بيانِه، بعد نسخ شرائعها مما لا يقتضيه المقام، ولا ترتضيه الأفهام. وقدمت الثلاثة على المساجد ؛ لتقدمها وجودًا، أو لقربها من التهديم.
﴿ ولينصرنّ اللهُ مَن ينصره ﴾ أي : وتالله، لينصرن الله من ينصر دينه ونبيه -عليه الصلاة والسلام- وأولياءه. ومن نصرِه : إشهاره وإظهاره، وتعليمه لمن لا يعلَمه، وإعزاز حامل لوائه من العلماء والأولياء. وقد أنجز الله وعده، حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم، وأورثهم أرضهم وديارهم، ﴿ إِن الله لقوي عزيز ﴾ : غالب على ما يريد، ومن جملته : نصرهم وإعلاؤهم.
وقوله تعالى :﴿ الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق ﴾ ؛ هم الذين أُمروا بقتل نفوسهم، فإنهم إذا خرقوا عوائد نفوسهم، وخرجوا عن عوائد الناس، رفضوهم وأنكروهم، وربما أخرجوهم من ديارهم، فقلَّ أن تجد وليًا بقي في وطنه الأول، وما نقموا منهم وأخرجوهم إلا لقصدهم مولاهم، وقولهم : ربُّنا الله دون شيء سواه، فحيث خرجوا عن عوائدهم وقصدوا مولاهم، أنكروهم وأخرجوهم من أوطانهم، ولولا دفع الناس بعضهم ببعض ؛ بأن شفع خيارهم في شرارهم، لهدمت دعائم الوجود ؛ لأنَّ من آذى وليًا فقد آذن بالحرب.
قال القشيري :﴿ ولولا دفع الله الناس ﴾، أي : يتجاوز عن الأصاغر لِقَدْرِ الأكابر ؛ استبقاء لمنازل العبادة، تلك سُنَّة أجراها. ثم قال :﴿ الذين إن مكّناهم في الأرض ﴾، أي : لم يشتغلوا في ذلك بحظوظٍ، ولكن قاموا لأداء حقوقنا. هـ.
وقوله تعالى :﴿ الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق ﴾ ؛ هم الذين أُمروا بقتل نفوسهم، فإنهم إذا خرقوا عوائد نفوسهم، وخرجوا عن عوائد الناس، رفضوهم وأنكروهم، وربما أخرجوهم من ديارهم، فقلَّ أن تجد وليًا بقي في وطنه الأول، وما نقموا منهم وأخرجوهم إلا لقصدهم مولاهم، وقولهم : ربُّنا الله دون شيء سواه، فحيث خرجوا عن عوائدهم وقصدوا مولاهم، أنكروهم وأخرجوهم من أوطانهم، ولولا دفع الناس بعضهم ببعض ؛ بأن شفع خيارهم في شرارهم، لهدمت دعائم الوجود ؛ لأنَّ من آذى وليًا فقد آذن بالحرب.
قال القشيري :﴿ ولولا دفع الله الناس ﴾، أي : يتجاوز عن الأصاغر لِقَدْرِ الأكابر ؛ استبقاء لمنازل العبادة، تلك سُنَّة أجراها. ثم قال :﴿ الذين إن مكّناهم في الأرض ﴾، أي : لم يشتغلوا في ذلك بحظوظٍ، ولكن قاموا لأداء حقوقنا. هـ.
﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ﴾ * ﴿ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ﴾ * ﴿ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ * ﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإن يُكذبوك ﴾ يا مُحمد، أي : أهل مكة، فلا تحزن ؛ فلست بأول من كُذب، ﴿ فقد كَذَّبت قبلهم ﴾ أي : قبل قومك ﴿ قومُ نوح ﴾ نوحًا، ﴿ وعادٌ ﴾ هودًا، ﴿ وثمودُ ﴾ صالحًا.
وقال الضحاك : كانت هذه البئر المعطلة بحضرموت، في بلدة يقال لها : حاضوراء، وذلك أن أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب، أتوا حضرموت، ومعهم صالح، فلما حضروا ذلك الموضع، مات صالح، فسُمي حضرموت ؛ لأن صالحًا لما حضره مات، فبنوا حاضوراء، وقعدوا على هذه البئر، فأقاموا دهرًا طويلاً، وتناسلوا حتى كثروا، ثم عبدوا الأصنام وكفروا، فأرسل الله إليهم نبيًا يقال له :" حنظلة بن صفوان "، فقتلوه فأهلكهم الله، وعطلت بئرهم وخربت قصورهم. ه.
وحاصل المعنى : وكم قرية أهلكناها، وكم بئر عطلناها عن سقاتها، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنه، أي : أهلكنا البادية والحاضرة جميعًا، فخلت القصور عن أربابها، والآبار عن روادها. فالأظهر أن البئر والقصر على العموم.
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ * ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ * ﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾
قلت :﴿ أفلم ﴾ : الفاء عطف على مقدار ؛ أي أَغفلوا فلم يسيروا فيعتبروا، ﴿ فإنها ﴾ : ضمير القصة، أو مبهم يُفسره ما بعده.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أَفَلَمْ يسيروا في الأرض ﴾ فيروا مصارعَ من أهلكهم اللهُ بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم الدارسة وقصورهم الخالية، وديارهم الخربة، فيعتبروا. وهو حث لهم على السفر ليشاهدوا ذلك. ﴿ فتكون لهم ﴾ ؛ بسبب ما شاهدوه من مظان الاعتبار ومواطن الاستبصار ﴿ قلوبٌ يعقلون بها ﴾ ما يجب أن يُعقل من التوحيد ونحوه، ﴿ أو آذانٌ يسمعون بها ﴾ ما يجبُ أن يُسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورُهم من الناس ؛ فإنهم أعرف بحالهم. قال ابن عرفة : لما تضمن الكلام السابق إهلاك الأمم السالفة، وبقيت آثارهم خرابًا، عقبه بذم هؤلاء في عدم اتعاظهم بذلك. والسير في الأرض : إمَّا حسي، أو معنوي باعتبار سماع أخبارها من الغير، أو قراءتها في الكتب. فقوله :﴿ فتكون لهم قلوب ﴾ : راجع للسير الحسي، وقوله :﴿ أو آذان ﴾ للسير المعنوي. ه.
﴿ فإنها لا تعمى الأبصارُ ﴾ الحسية، ﴿ ولكن تعمى القلوبُ ﴾ عن التفكر والاعتبار، أي : ليس الخلل في مشاعرهم، ولكن الخلل في عقولهم، باتباع الهوى والانهماك في الغفلة. وذكر الصدور ؛ للتأكيد، ونفي توهم التجوز ؛ لأن قلب الشيء : لبه، فربما يقال : إن القلب يراد به هذا العضو، ولكل إنسان أربع أعين : عينان في رأسه، وعينان في قلبه، وتسمى البصيرة، فإن انفتح ما في القلب، وعمي ما في الرأس ؛ فلا يضر، وإن انفتح ما في الرأس وانطمس ما في القلب لم ينفع، والتحق بالبهائم، بل هو أضل.
مَنَ نَظَرَ الكَوْن بِالْكَوْنِ غَرَّهُ في عمى البصيرة | ومن نظر الكون بالمكون صادق علاج السريرة |
قلُوبُ العَارفينَ لَهَا عُيُونٌ | تَرَى مَا لا يُرَى للنَّاظِرِينَا |
وأجْنِحَةٌ تَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ | إلَى مَلَكُوتِ رَبِّ العَالمِينا |
وألْسِنَةٌ بأسْرَارٍ تُنَاجِي | تَغيبُ عن الكِرَامِ الكَاتِبِينا |
ثم ذكر علامة عمى القلوب، وهو الاستهزاء بالوعد الحق، فقال :﴿ ويستعجلونك بالعذاب ﴾ المتوعد به ؛ استهزاء وإنكارًا وتعجيزًا، ﴿ ولن يخلف الله وعده ﴾ أي : يستعجلون به، والحال أنه تعالى لا يخلف وعده أبدًا، وقد سبق الوعد به، فمن لا يخلف وعده فلا بد من مجيئه، ولو بعد حين. ﴿ وإِن يومًا عند ربك كألفِ سنةٍ مما تَعدُّون ﴾ أي : كيف يستعجلونك بعذاب من يومْ واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم ؛ لأن أيام الشدة طُوال. وقيل : تطول حقيقة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :" يَدْخُلُ الفُقَرَاءُ الجَنَّةَ قِبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْم، وذَلِكَ خَمْسِمِائِةِ سَنَةٍ " ١
مَنَ نَظَرَ الكَوْن بِالْكَوْنِ غَرَّهُ في عمى البصيرة | ومن نظر الكون بالمكون صادق علاج السريرة |
قلُوبُ العَارفينَ لَهَا عُيُونٌ | تَرَى مَا لا يُرَى للنَّاظِرِينَا |
وأجْنِحَةٌ تَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ | إلَى مَلَكُوتِ رَبِّ العَالمِينا |
وألْسِنَةٌ بأسْرَارٍ تُنَاجِي | تَغيبُ عن الكِرَامِ الكَاتِبِينا |
مَنَ نَظَرَ الكَوْن بِالْكَوْنِ غَرَّهُ في عمى البصيرة | ومن نظر الكون بالمكون صادق علاج السريرة |
قلُوبُ العَارفينَ لَهَا عُيُونٌ | تَرَى مَا لا يُرَى للنَّاظِرِينَا |
وأجْنِحَةٌ تَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ | إلَى مَلَكُوتِ رَبِّ العَالمِينا |
وألْسِنَةٌ بأسْرَارٍ تُنَاجِي | تَغيبُ عن الكِرَامِ الكَاتِبِينا |
﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ * ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِيا آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قُل ﴾ يا محمد :﴿ يا أيها الناس إِنما أنا لكم نذيرٌ مبينٌ ﴾ أي : أنذركم إنذارًا مبينًا بما أوحي إليَّ من أخبار الأمم المهلَكة، من غير أن يكون لي دخل في الإتيان بما توعَدُونه من العذاب الذي تستعجلونه… وإنما لم يقل : نذير وبشير، مع ذكر الفريقين بعده ؛ لأن الحديث مسوق إلى المشركين فقط. والمراد بالناس : الذين قيل فيهم :﴿ أفلم يسيروا في الأرض ﴾، ووصفوا بالاستعجال، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم ؛ زيادة في غيظهم.
وكان عليه الصلاة والسلام -يحرص على هداية قومه-، فلما نهاه الحق تعالى عن ذلك، رجع وتأدب بكمال العبودية، وبه اقتدى خلفاؤه من بعده، فكان صلى الله عليه وسلم في أول أمره يتمنى أن ينزل عليه ما يُقارب بينه وبين قومه، لعلهم يتدبرون فيما ينزل عليه فيُسلموا، فقرأ يومًا سُورَةَ النَّجْمِ، فَأُلقِي في مسامعهم ما يدل على مدح آلهتهم، فحزن -عليه الصلاة والسلام- حين نسبوا ذلك له.
وكان عليه الصلاة والسلام -يحرص على هداية قومه-، فلما نهاه الحق تعالى عن ذلك، رجع وتأدب بكمال العبودية، وبه اقتدى خلفاؤه من بعده، فكان صلى الله عليه وسلم في أول أمره يتمنى أن ينزل عليه ما يُقارب بينه وبين قومه، لعلهم يتدبرون فيما ينزل عليه فيُسلموا، فقرأ يومًا سُورَةَ النَّجْمِ، فَأُلقِي في مسامعهم ما يدل على مدح آلهتهم، فحزن -عليه الصلاة والسلام- حين نسبوا ذلك له.
وكان عليه الصلاة والسلام -يحرص على هداية قومه-، فلما نهاه الحق تعالى عن ذلك، رجع وتأدب بكمال العبودية، وبه اقتدى خلفاؤه من بعده، فكان صلى الله عليه وسلم في أول أمره يتمنى أن ينزل عليه ما يُقارب بينه وبين قومه، لعلهم يتدبرون فيما ينزل عليه فيُسلموا، فقرأ يومًا سُورَةَ النَّجْمِ، فَأُلقِي في مسامعهم ما يدل على مدح آلهتهم، فحزن -عليه الصلاة والسلام- حين نسبوا ذلك له.
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِيا أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ * ﴿ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ * ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
قال ابن عباس وغيره من المفسرين الأولين -رضي الله عنهم- : لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم مباعدة قومه وتوليهم، وشق عليه ذلك تمنى أن يأتيه من الله تعالى ما يُقارب بينه وبين قومه، فجلس يومًا في جمع لهم، فنزلت سورة النجم، فقرأها عليهم، فلما بلغ :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى ( ١٩ ) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى( ٢٠ ) ﴾ [ النّجْم : ١٩، ٢٠ ]، ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العُلى وإنْ شفاعتهم لترجى. ه. قلت : بلى، ألقى ذلك في مسامعهم فقط، ولم ينطق بذلك -عليه الصلاة والسلام- فلما سمعت ذلك قريش فرحوا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم في آخر السورة، وسجد المسلمون والمشركون، إلا الوليد بن المغيرة، رفع حفنة من التراب وسجد عليه، فقالت قريش : ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا : قد عرفنا أن الله يُحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعل محمد لها نصيبًا فنحن معه، فلما أمسى أتاه جبريل. فقال يا محمد ؛ ما صنعتَ فقد تلوتَ على الناس ما لم آتك به ؟ فحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزنًا شديدًا، فنزلت الآية ؛ تسلية له عليه الصلاة والسلام.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ﴾، يُوحى إليه بشرع، ويُؤمر بالتبليغِ، ﴿ ولا نبيٍّ ﴾ يُوحى إليه، ولم يُؤمر بالتبليغ، فالرسول مكلف بغيره، والنبي مقتصر على نفسه، أو الرسول : مَن بُعث بشرع جديد، والنبي : مَنْ قرر شريعة سابقة، ولذلك شبه صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم، فالنبي أعم من الرسول، وقد سئل -عليه الصلاة والسلام- عن الأنبِيَاءِ، فقال :" مِائَةُ أَلْفٍ وأرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ ألْفًا، قِيل : فَكمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ ؟ قال : ثَلاثُمِائةٍ وثلاثَةَ عَشَرَ، جَمًّا غَفِيرًا " ١
﴿ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى ﴾ ؛ هيأ في نفسه ما يهواه ؛ كهداية قومه ومقاربتهم له، ﴿ ألقى الشيطانُ في أُمنيته ﴾ ؛ في تشهيه ما يُوجب حصول ما تمناه، أو مقاربته، كما ألقى في مسامع قريش ما يُوجب مقاربتهم له -عليه الصلاة والسلام- ثم ينسخ الله ذلك. أو ﴿ إذا تمنى ﴾ : قرأ، كما قال الشاعر٢ :
تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ *** تَمَنَّى دَاوُدَ الزَّبُورَ علَى رِسْلِ
﴿ ألقى الشيطان في أُمنيته ﴾ : في قراءته، حين قرأ سورة النجم بعد قوله :﴿ ومناة الثالثة الأخرى ﴾، تلك الغرانيق العُلى، كما تقدم.
قال القشيري : كانت لنبينا صلى الله عليه وسلم سكتات، في خلال قراءته عند قراءة القرآن، عند انقضاء كل آية، فتلفظ الشيطان ببعض الألفاظ، فمن لم يكن له تحصيل توهم أنه من ألفاظ الرسول. ه. وقال ابن البنا : التمني هو التلاوة التي يُتمنى فيها، فيتلو النبي وهو يريد أن يفهم عنه معناها، فيلقي الشيطان في فهوم السامعين غير المعنى المراد، وما قال الزمخشري : قرأ تلك الغرانيق العلى، على جهة السهو والغلط، فباطل، لقول الله العظيم :﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( ٣ ) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى( ٤ ) ﴾ [ النّجْم : ٣، ٤ ]، فهو معصوم من السهو والغلط في تبليغ الوحي. ه.
قلت : فتحصل أنه -عليه الصلاة والسلام- لم ينطق بتلك الكلمات قط، لا سهوًا ولا عمدًا، وإنما أُلقيت في مسامع الكفار ليحصل ما تمناه -عليه الصلاة والسلام- من المقاربة. ويدل على هذا أن من حضر من المسلمين لم يسمعوا من ذلك شيئًا. فإذا تقرر هذا علمت أن ما حكاه السلف الصالح من المفسرين وأهل السير من أصل القصة في سبب نزول الآية صحيح، لكنه يحتاج إلى نظر دقيق وتأويل قريب، فلا تَحْسُن المبادرة بالإنكار والرد عليهم، وهم عدول، لا سيما حبر هذه الأمة، وإنما يحتاج اللبيب إلى التطبيق بين المنقول والمعقول، فإن لم يمكن، قدَّم المنقول، إن ثبتت صحته، وحكم على العقل بالعجز. هذا مذهب المحققين من الصوفية -رضي الله عنهم- ونسبة الإلقاء إلى الشيطان أدب وتشريع ؛ إذ لا فاعل في الحقيقة سواه تعالى.
﴿ فينسخ اللهُ ما يُلقي الشيطانُ ﴾ أي : يَذهب به ويُبطله، أو يُرشد إلى ما يزيحه، ﴿ ثم يُحْكِمُ اللهُ آياته ﴾ أي : يُثبتها ويحفظها عن لحوق الزيادة من الشيطان، ﴿ والله عليمٌ حكيم ﴾ أي : عليم بما يوحى إلى نبيه، حكيم في وحيه، لا يدع الباطل يأتيه من بين يديه ولا من خلفه.
٢ يروى صدر البيت:
تمنى كتاب الله آخر ليله ***...
والبيت بلا نسبة في لسان العرب (مني)، وتاج العروس (منا)..
﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾ * ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ * ﴿ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولا يزال الذين كفروا في مريةٍ ﴾ : شك ﴿ منه ﴾ ؛ من القرآن، أو الصراط المستقيم، ﴿ حتى تأتيهم الساعةُ بغتةً ﴾ : فجأة، ﴿ أو يأتيهم عذاب يومٍ عقيم ﴾، وهو عذاب يوم القيامة، كأنه قيل : حتى تأتيهم الساعة أو عذابها، فزاد " اليوم العقيم " ؛ لمزيد التهويل. واليوم العقيم : الذي لا يوم بعده، كأنَّ كل يوم يلد ما بعده من الأيام، فما لا يوم بعده يكون عقيمًا. وقيل : اليوم العقيم : يوم بدر، فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فَرح أو راحة، كالريح العقيم ؛ لا تأتي بخير، أو لأنه لا مثل له في عِظم أمره ؛ لقتال الملائكة فيه، ولكن لا يساعده ما بعده، من قوله :﴿ المُلكُ يومئذٍ لله ﴾.
ثم بيّن حكمه فيهم، فقال :﴿ فالذين آمنوا ﴾ بالقرآن الكريم ولم يُماروا فيه، ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ امتثالاً لما أمر به في تضاعيفه ﴿ في جنات النعيم ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ وإِن الله لهو خير الرازقين ﴾، فإنه يرزق بغير حساب، مع أنَّ ما يرزقه لا يقدر عليه غيره.
﴿ ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾ * ﴿ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ * ﴿ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾
قلت :﴿ ذلك ﴾ : خبر، أي : الأمر ذلك. و﴿ مَن عاقب ﴾ : شرط سدّ مسد جوابه، أي : من عاقب بمثل ما عُوقب به ينصره الله.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر ذلك، كما أخبرتك في بيان الفريقين، ثم استأنف فقال :﴿ ومن عاقب بمثل ما عُوقِبَ به ﴾ أي : لم يزد في القصاص على ما فُعل به، وسمى الابتداء عقابًا ؛ للمشاكلة ولملابسته له، من حيث إنه سبب له وهو مسبب عنه. ﴿ ثم بُغِيَ عليه لينصُرَنَّه اللهُ ﴾ أي : من جازى بمثل ما فُعل به من الظلم، ثم ظُلم، بعد ذلك، وبُغي عليه بعد ذلك، فحق على الله أن ينصره ؛ ﴿ إِنَّ الله لعفوٌّ ﴾ يمحو آثار الذنوب، ﴿ غفورٌ ﴾ يستر أنواع العيوب.
ومناسبة الوصفين لما قبلهما : أن المعاقب مأمور بالعفو من عند الله، بقوله ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]، ﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ [ الشورى : ٤٣ ]، فحين لم يفعل ذلك، وانتصر لنفسه، فكأنه مُذنب، فمعنى العفو في حقه أنه لا يلزمه على ترك الفضل شيء، وأنه ضامن لنصره في الكرة الثانية، إذا ترك العفو وانتقم من الباغي عليه، وعَرَّضَ، مع ذلك، بما كان أولى به من العفو بذكر هاتين الصفتين.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ * ﴿ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ * ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾
قلت :﴿ فتصبح ﴾ : عطف على ﴿ أنزل ﴾، والعطف بالفاء أغنى عن الضمير، وإيثار صيغة الاستقبال ؛ للإشعار بتجدد أثر الإنزال، وهو الاخضرار واستمراره، أو لاستحضار صورة الاخضرار، وإنما لم ينصب جوابًا للاستفهام ؛ لأنه لو نصب لبطل الغرض ؛ لأن معناه في الرفع إثبات الاخضرار، فينقلب في النصب إلى نفيه، كما تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر، إن نصبته نفيت شكره، وشكوت من تفريطه، وإن رفعته أثبت شكره.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ألم تر ﴾ يا محمد، أو يا من يسمع، ﴿ أن الله أنزل من السماء ماءً ﴾ ؛ مطرًا ﴿ فتصبحُ الأرض مخضرةً ﴾ بالنبات، بعدما كانت مسودة يابسةً، ﴿ إِنَّ اللهَ لطيفٌ ﴾ بعباده، أو في ذاته لا يدرك، ﴿ خبيرٌ ﴾ بمصالح خلقه ومنافعهم، أو اللطيف المختص بدقائق التدبير، الخبير بكل جليل وحقير، قليل وكثير.
﴿ وَهُوَ الَّذِيا أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وهو الذي أحياكم ﴾ بعد أن كنتم جمادًا، عناصر ونطفًا في الأصلاب والأرحام، حسبما فُصل في صدر السورة، ﴿ ثم يُميتُكم ﴾ عند مجيء آجالكم، ﴿ ثم يُحييكم ﴾ عند البعث، لإيصال جزائكم، ﴿ إِنَّ الإِنسان لكفور ﴾ : لَجَحُود لِمَا أفاض عليه من ضُروب النعم، ودفع عنه من صنوف النقم، أو لا يعرف نعمة الإيجاد المُظهرة للوجود، ولا نعمة الإمداد الممدة بعد الوجود، ولا نعمة الإفناء المقربة إلى الموعود، ولا نعمة الإحياء الموصلة إلى المقصود، وهو التنعم في جوار الملك الودود، فله الحمد دائمًا وله الشكر.
الإشارة : وهو الذي أحياكم باليقظة بعد الغفلة، وبالعلم بعد الجهل، ثم يميتكم عن حظوظ نفوسكم وهواها، ثم يُحييكم بالمعرفة به، حياةٌ لا موت بعدها، فمن لم يعرف هذا فهو كنود.
﴿ لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ﴾ * ﴿ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ * ﴿ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ * ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذالِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ * ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لكل أمةْ ﴾ من الأمم الخالية والباقية ﴿ جعلنا ﴾ أي : وضعنا، وعَيَّنا ﴿ منسَكًا ﴾ : شريعة خاصة يتمسكون بها، أي : عيّنا كل شريعة لأمة معينة من الأمم، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى، لا استقلالاً ولا اشتراكًا، فكل جيل لهم شرع مخصوص، ﴿ هم ناسكوه ﴾ : عاملون به، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى -عليهما السلام- منسكهم التوراة، هم عاملون به لا غيرهم. والتي كانت من مبعث عيسى عليه السلام إلى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم منسكهم الإنجيل، هم ناسكوه وعاملون به. وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي -عليه الصلاة والسلام- ومن بعدهم إلى يوم القيامة ؛ فهم أمة واحدة، منسكهم القرآن، ليس إلا.
والفاء في قوله :﴿ فلا ينازعنك في الأمر ﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها ؛ فإن تعيين كل أمة بشرع مخصوص، يجب اتباعه، يُوجب اتباع هؤلاء الموجودين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم منازعتهم له في أمر الدين، أي : فلا يجادلنك في أمر الدين، بل يجب عليهم الاستسلام والانقياد لكل أمر ونهي. أو : فلا تلتفت إلى قولهم، ولا تمكنهم من أن ينازعوك في الأمر، أي : أمر الدين أو أمر الذبائح. قيل : نزلت حين قال المشركون للمسلمين : ما لكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله ؟ يعني : الميتة، فأمر الله بالغيبة عنهم، وعدم الالتفات إلى قولهم. ﴿ وادعُ إلى ربك ﴾ أي : دم على الدعاء إلى الله، والتمسك بدينه القويم ؛ ﴿ إِنك لعلى هُدىً مستقيم ﴾ : طريق قويم موصل إلى الحق.
فإن تأهلتَ للتربية بإذن خاص، فلا ينازعنك في الأمر، أي : لا تلفت إلى من ينازعك ويحتج عليك بانقطاع التربية ؛ تعنتًا وعنادًا. وادع إلى ربك، إنك لعلى هدى مستقيم. قال القشيري : قوله :﴿ وإن جادلوك… ﴾ الخ، أي : كِلْهُم إلينا، عندما راموا أمر الجدال، ولا تتكل على ما تختاره من الاحتيال، واحذر جنوحَ قلبك إلى الاستغاثة بالأمثال والأشكال ؛ فإنهم قوالبُ خاويةٌ. وأشباحٌ من رؤية المعاني خالية. هـ. ويوم القيامة يظهر المحق من المبطل، ويقال في شأن من يعبد هواه :﴿ ويعبدون من دون الله… ﴾ الآية.
فإن تأهلتَ للتربية بإذن خاص، فلا ينازعنك في الأمر، أي : لا تلفت إلى من ينازعك ويحتج عليك بانقطاع التربية ؛ تعنتًا وعنادًا. وادع إلى ربك، إنك لعلى هدى مستقيم. قال القشيري : قوله :﴿ وإن جادلوك… ﴾ الخ، أي : كِلْهُم إلينا، عندما راموا أمر الجدال، ولا تتكل على ما تختاره من الاحتيال، واحذر جنوحَ قلبك إلى الاستغاثة بالأمثال والأشكال ؛ فإنهم قوالبُ خاويةٌ. وأشباحٌ من رؤية المعاني خالية. هـ. ويوم القيامة يظهر المحق من المبطل، ويقال في شأن من يعبد هواه :﴿ ويعبدون من دون الله… ﴾ الآية.
فإن تأهلتَ للتربية بإذن خاص، فلا ينازعنك في الأمر، أي : لا تلفت إلى من ينازعك ويحتج عليك بانقطاع التربية ؛ تعنتًا وعنادًا. وادع إلى ربك، إنك لعلى هدى مستقيم. قال القشيري : قوله :﴿ وإن جادلوك… ﴾ الخ، أي : كِلْهُم إلينا، عندما راموا أمر الجدال، ولا تتكل على ما تختاره من الاحتيال، واحذر جنوحَ قلبك إلى الاستغاثة بالأمثال والأشكال ؛ فإنهم قوالبُ خاويةٌ. وأشباحٌ من رؤية المعاني خالية. هـ. ويوم القيامة يظهر المحق من المبطل، ويقال في شأن من يعبد هواه :﴿ ويعبدون من دون الله… ﴾ الآية.
فإن تأهلتَ للتربية بإذن خاص، فلا ينازعنك في الأمر، أي : لا تلفت إلى من ينازعك ويحتج عليك بانقطاع التربية ؛ تعنتًا وعنادًا. وادع إلى ربك، إنك لعلى هدى مستقيم. قال القشيري : قوله :﴿ وإن جادلوك… ﴾ الخ، أي : كِلْهُم إلينا، عندما راموا أمر الجدال، ولا تتكل على ما تختاره من الاحتيال، واحذر جنوحَ قلبك إلى الاستغاثة بالأمثال والأشكال ؛ فإنهم قوالبُ خاويةٌ. وأشباحٌ من رؤية المعاني خالية. هـ. ويوم القيامة يظهر المحق من المبطل، ويقال في شأن من يعبد هواه :﴿ ويعبدون من دون الله… ﴾ الآية.
والله تعالى أعلم.
فإن تأهلتَ للتربية بإذن خاص، فلا ينازعنك في الأمر، أي : لا تلفت إلى من ينازعك ويحتج عليك بانقطاع التربية ؛ تعنتًا وعنادًا. وادع إلى ربك، إنك لعلى هدى مستقيم. قال القشيري : قوله :﴿ وإن جادلوك… ﴾ الخ، أي : كِلْهُم إلينا، عندما راموا أمر الجدال، ولا تتكل على ما تختاره من الاحتيال، واحذر جنوحَ قلبك إلى الاستغاثة بالأمثال والأشكال ؛ فإنهم قوالبُ خاويةٌ. وأشباحٌ من رؤية المعاني خالية. هـ. ويوم القيامة يظهر المحق من المبطل، ويقال في شأن من يعبد هواه :﴿ ويعبدون من دون الله… ﴾ الآية.
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذالِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾
قلت :﴿ وإذا تُتلى ﴾ : عطف على ﴿ يعبدون ﴾، وصيغة المضارع ؛ للدلالة على الاستمرار التجددي.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وإِذا تُتلى عليهم ﴾ أي : على المشركين ﴿ آياتُنا ﴾ القرآنية، حال كونها ﴿ بيناتٍ ﴾ : واضحات الدلالة على العقائد الحقية، والأحكام الصادقة، ﴿ تعرِفُ في وجوه الذين كفروا المنكَر ﴾ أي : الإنكار بالعبوس والكراهة، فالمُنكَر : مصدر بمعنى الإنكار. ﴿ يكادون يَسطُون ﴾ : يبطشون، والسطو : الوثب والبطش، أي : يثبون على الذين ﴿ يتلُون عليهم آياتنا ﴾ ؛ من فرط الغيظ والغضب، والتالون هم : النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ﴿ قلْ ﴾ لهم :﴿ أفأنبئُكُم بشرٍّ من ذلكم ﴾ ؛ من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم، أو مما أصابكم من الكراهة والضجر، بسبب ما يتلى عليكم، هو ﴿ النارُ وَعَدها اللهُ الذين كفروا ﴾ مثلكم، ﴿ وبئس المصيرُ ﴾ النار، التي ترجعون إليها مخلدين.
الإشارة : من شأن أهل العتو والتكبر أنهم إذا وعظهم الفقراء عنفوا واستنكفوا، ويكادون يسطون عليهم من شدة الغضب، فما قيل لكبراء الكفار يجرُ ذيله على من تشبّه بهم من المؤمنين.
﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ * ﴿ مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الناس ضُرب مثلٌ ﴾ أي : يُبين لكم حالٌ مستغربة، أو قصة بديعة رائقة حقيقة بأن تسمى مَثَلاً، وتنشر في الأمصار والأعصار، ﴿ فاستمعوا له ﴾ ؛ لضرب هذا المثل ؛ استماع تدبر وتفكر، وهو :﴿ إِنَّ الذين تدْعُون ﴾، وعن يعقوب : بياء الغيبة، أي : إن الذين تدعونهم آلهة وتعبدونهم ﴿ من دون الله لن يخلقُوا ذُبابًا ﴾ أي : لن يقدروا على خلقه أبدًا، مع صغره وحقارته. و﴿ لن ﴾ : لتأبيد النفي، فتدل على استحالته، ﴿ ولو اجتمعوا له ﴾ أي : الذباب. ومحله : نصب على الحال، كأنه قال : لا يقدرون على خلقه مجتمعين له، متعاونين عليه، فكيف إذا كانوا منفردين ؟ ! وهذا أبلغ ما أنزل في تجهيل قريش، حيث وَصَفوا بالألوهية -التي من شأنها الاقتدار على جميع المقدورات، والإحاطة بكل المعلومات- صُورًا وتماثيل، يستحيل منها أن تقدر على أضعف ما خلقه الله تعالى وأذله، ولو اجتمعوا له.
﴿ وإِن يسلبْهُمُ الذبابُ شيئًا ﴾ من الطيب وغيره، ﴿ لا يستنقذوه منه ﴾ أي : هذا الخلق الأرذل الأضعف، لو اختطف منهم شيئًا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه، لم يقدروا وعن ابن عباس رضي الله عنه : أنهم كانوا يطلُونها بالعسل والطيب، ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذبابُ من الكُوِي فيأكله، فتعجز الأصنام عن أخذه. ﴿ ضَعُفَ الطالبُ ﴾ : الصنمُ بطلب ما سُلب منه، ﴿ والمطلوبُ ﴾ : الذباب بما سَلَب. وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف، ولو حققت لوجدت الطالب أضعفَ وأضعفَ ؛ فإنَّ الذباب حيوان والصنم جماد.
﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ * ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الله يصطفي ﴾ : يختار ﴿ من الملائكة رُسلاً ﴾ يرسلهم إلى صفوة خلقه، كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم، ﴿ ومن الناسِ ﴾، كإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يُعرِّفون بجلال الله ومعرفة قدره، حتى يقدروه حق قدره باعتبارهم لا باعتباره ؛ فإنَّ الله تعالى لا يمكن لأحد أن يقدرُه حق قدره. قال سيد العارفين :" لا أُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ". وقيل : نزلت ؛ ردًا لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر، وبيانًا أن رُسل الله على ضربين : ملك وبشر. وقيل : نزلت في قولهم :﴿ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ﴾ [ ص : ٨ ]. ﴿ إِن الله سميع بصير ﴾ أي : سميع لقولهم، بصير بمن يختاره للرسالة. أو سميع لأقوال الرسل، بصير بأحوال الأمم في الردِّ والقبول.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ * ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ﴾ في صلاتكم، وكانوا أول ما أسلموا يصلون بلا ركوع وسجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود، وفيه دليل على أن الأعمال ليست من الإيمان، وأن هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة، قاله النسفي. ﴿ واعبدوا ربكم ﴾ أي : واقصدوا بعبادتكم وجه الله، وأخلصوا فيها، أو هو عطف عام على خاص ؛ فإن العبادة أعم. ﴿ وافعلوا الخير ﴾ كله. قيل : لما كان للذكر مزية على غيره دعا المؤمنين أولاً للصلاة التي هي ذكر خالص ؛ لقوله :﴿ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي ﴾ [ طه : ١٤ ]، ثم إلى العبادة بغير الصلاة، كالصوم والحج، ثم عم بالحث على سائر الخيرات. وقال ابن عرفة : وافعلوا الخير : راجع للعبادة المتعدية، وما قبله يختص بالقاصرة. قال المحشي : وفيه نظر ؛ لشمول العبادة لِمَا هو متعدي النفع، كتعليم العلم، والصدقة ونحو ذلك، بل أمر أولاً بالصلاة، وهي نوع من العبادة، وثانيًا بالعبادة، وهي نوع من فعل الخير، وثالثًا بفعل الخير، وهو أعم من العبادة. فبدأ بخاص ثم عام ثم بأعم. ه. ﴿ لعلكم تُفلحون ﴾ : كي تفوزوا، أي : افعلوا هذا كله، وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين، فلا تتكلوا على أعمالكم.
والمأمورُ به من التقرب والمجاهدة قدر الاستطاعة، من غير تشديد ولا تعقيد، لقوله :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حَرج ﴾ ؛ لأن مبني الشرع الكريم على السهولة، فالذي يتوصل إلى رضوانه أو صريح معرفته، لا يشترط أن يستغرق كنه إمكان العبد فيه. " لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبدًا، ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونَعْتَكَ بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليه ". كما في الحِكَم.
وقال الورتجبي :﴿ وما جعل... ﴾ الآية، أي : إذا شاهدتم مشاهد جمالي سهل عليكم فناؤكم في جلالي، وسهل عليكم بذل مهجكم إليه. ألا ترى كيف قال :﴿ ملة أبيكم إبراهيم ﴾، ومن ملته : الاستسلام والانقياد، وبذل الوجوه بنعت السخاء والكرم، يا أسباط خليلي، رأى أبوكم استعداد هذه المراتب الشريفة فيكم، قبل وجودكم بنور النبوة، فسماكم المسلمين، أي : منقادين بين يديَّ، عارفين بوحدانيتي. وفيما ذكرنا من أوصافكم، حبيبي شاهد عليكم، يعرف هذه الفضائل منكم، وهو بلغكم نشر فضائلي عليكم. ثم قال : اطلبوا الاعتصام مني، استعينوا لأقويكم في طاعتي. ثم قال :﴿ فنعم المولى ﴾ حيث لا مولى غيره، ﴿ ونعم النصير ﴾ حيث لا يُخذل من نصره ؛ فإن الله عزيز ممتنع من نقائص النقص. قال جعفر في قوله :﴿ حق جهاده ﴾ : ألاَّ تختارَ عليه شيئًا، كما لم يختر عليك ؛ لقوله :﴿ هو اجتباكم ﴾. هـ.
وقوله تعالى :﴿ وتكونوا شهداء على الناس... ﴾ الآية، أي : اجتباكم واختاركم وسماكم مسلمين، لتكونوا مرضيين عدولاً، تشهدون على الأمم، كما يشهد محمد صلى الله عليه وسلم عليكم ويزكيكم، فهو كقوله تعالى :﴿ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ ﴾ [ البَقَرَة : ١٤٣ ] الخ. وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به، ولا تطلبوا الولاية والنصرة إلا منه فهو خير ولي وناصر، ومن كان الله تعالى مولاه وناصره فقد أفلح وفاز، ولذلك افتتح السورة التي تليها به. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
﴿ وجاهدوا في الله ﴾ أي : في ذات الله ومن أجله ﴿ حقَّ جهاده ﴾، أمرٌ بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى، وهو الجهاد الأكبر، ومنه : كلمة حق عند أمير جائر. قال -عليه الصلاة والسلام- :" أعمال البر كلها، إلى جنب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كنفثة إلى جنب البحر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جنب الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ كنفثة في بحر، والجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ إلى جنب مجاهدة النفس عن هواها في اجتناب النهي، كنفثة في جنب بحر لجيّ ". وهذا على معنى الخبر الذي جاء :" جئتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " ١ يعني : مجاهدة النفس. قاله في القوت.
قال القشيري : حق الجهاد ما يوافق الأمر في القَدْرِ والوقتِ والنوعِ، فإذا حَصَل في شيءٍ منه مخالفة فليس حَقَّ جهاده. ه. قلت : موافقة القَدْر، في جهاد النفس، أن يكون بغير إفراط ولا تفريط، فالإفراط يُمل، والتفريط يُخل، وموافقة الوقت أن يكون قبل حصول المشاهدة ؛ إذ لا تجتمع مجاهدة ومشاهدة في وقت واحد. والنوع أن يجاهدها بما يُباح في الشرع، لا بمحرم ولا مكروه. وقال في الحاشية : هو الوفاء بالمشروع مع رفع الحرج، بدليل ما بعده، فهو موافق لقوله تعالى :﴿ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [ التّغَابُن : ١٦ ]، ومما هو ظاهر في الآية : الذب عن دينه وتغيير المناكر. ه.
﴿ هو اجتباكم ﴾ : اختاركم لدينه بإظهاره والذب عنه، وهو تأكيد للأمر بالجهاد، أي : وجب عليكم أن تجاهدوا ؛ لأنَّ الله اختاركم لإظهار دينه، ﴿ وما جعل عليكم في الدين من حَرجٍ ﴾ : ضيقٍ، بل وسع عليكم من جميع ما كلفكم به، من الطهارة، والصلاة والصوم والحج، بالتيمم والإيماء، وبالقصر في السفر، والإفطار لعذر، وعدم الاستطاعة في الحج. فاتبعوا ﴿ ملةَ أبيكم إِبراهيم ﴾ ؛ فإن ما جاءكم به رسولكم موافق لملته في الجملة، لقوله صلى الله عليه وسلم :" جئتكم بالحنيفية السمحة " ٢.
وسماه أبًا، وإن لم يكن أبًا للأمة كلها ؛ لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبًا لأمته ؛ لأن أمة الرسول في حكم أولاده. قال صلى الله عليه وسلم :" إنَمَّا أَنَا لكُمْ مِثْلُ الوَالِدِ ".
﴿ هو سماكم المسلمين ﴾ أي : الله، بدليل قراءة أُبي :" الله سماكم " أو إبراهيم لقوله :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ [ البَقَرَة : ١٢٨ ] ﴿ من قبلُ ﴾ أي : سماكم من قبل ظهورهم في الكتب السالفة، ﴿ وفي هذا ﴾ أي : القرآن، فقد فضلكم على سائر الأمم، وسماكم بهذا الاسم الأكرم، ﴿ ليكون الرسولُ شهيدًا عليكم ﴾ أنه قد بلغكم رسالة ربكم، ﴿ وتكونوا شهداء على الناس ﴾ بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم. وإذا خصكم بهذه الكرامة والأثرة ﴿ فأقيموا الصلاة ﴾ بواجباتها، ﴿ وآتوا الزكاة ﴾ لشرائطها، ﴿ واعتصموا بالله ﴾ أي ثقوا به وتوكلوا عليه، لا بالصلاة والزكاة. أو : ثقوا به في جميع أموركم، ولا تطلبوا الإعانة والنصر إلا منه. ﴿ هو مولاكم ﴾ : مالككم وناصركم ومتولي أموركم، ﴿ فنعم المولى ﴾ ؛ حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم، ﴿ ونعمَ النصير ﴾ أي : الناصر ؛ حيث أعانكم على طاعتكم ومجاهدة نفوسكم وأعدائكم.
والمأمورُ به من التقرب والمجاهدة قدر الاستطاعة، من غير تشديد ولا تعقيد، لقوله :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حَرج ﴾ ؛ لأن مبني الشرع الكريم على السهولة، فالذي يتوصل إلى رضوانه أو صريح معرفته، لا يشترط أن يستغرق كنه إمكان العبد فيه. " لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبدًا، ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونَعْتَكَ بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليه ". كما في الحِكَم.
وقال الورتجبي :﴿ وما جعل... ﴾ الآية، أي : إذا شاهدتم مشاهد جمالي سهل عليكم فناؤكم في جلالي، وسهل عليكم بذل مهجكم إليه. ألا ترى كيف قال :﴿ ملة أبيكم إبراهيم ﴾، ومن ملته : الاستسلام والانقياد، وبذل الوجوه بنعت السخاء والكرم، يا أسباط خليلي، رأى أبوكم استعداد هذه المراتب الشريفة فيكم، قبل وجودكم بنور النبوة، فسماكم المسلمين، أي : منقادين بين يديَّ، عارفين بوحدانيتي. وفيما ذكرنا من أوصافكم، حبيبي شاهد عليكم، يعرف هذه الفضائل منكم، وهو بلغكم نشر فضائلي عليكم. ثم قال : اطلبوا الاعتصام مني، استعينوا لأقويكم في طاعتي. ثم قال :﴿ فنعم المولى ﴾ حيث لا مولى غيره، ﴿ ونعم النصير ﴾ حيث لا يُخذل من نصره ؛ فإن الله عزيز ممتنع من نقائص النقص. قال جعفر في قوله :﴿ حق جهاده ﴾ : ألاَّ تختارَ عليه شيئًا، كما لم يختر عليك ؛ لقوله :﴿ هو اجتباكم ﴾. هـ.
وقوله تعالى :﴿ وتكونوا شهداء على الناس... ﴾ الآية، أي : اجتباكم واختاركم وسماكم مسلمين، لتكونوا مرضيين عدولاً، تشهدون على الأمم، كما يشهد محمد صلى الله عليه وسلم عليكم ويزكيكم، فهو كقوله تعالى :﴿ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ ﴾ [ البَقَرَة : ١٤٣ ] الخ. وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به، ولا تطلبوا الولاية والنصرة إلا منه فهو خير ولي وناصر، ومن كان الله تعالى مولاه وناصره فقد أفلح وفاز، ولذلك افتتح السورة التي تليها به. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
٢ أخرجه أحمد في المسند ٥/٢٦٦..