تفسير سورة النّور

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة النور من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

حاصل من غير دليل عقل، ولا شهادة خبر أو نقل، فما هو إلا إفك وبهتان، وقول ليس يساعده برهان.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١١٨]
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
اغفر الذنوب، واستر العيوب، وأجزل الموهوب. وارحم حتى لا تستولى علينا هواجم التفرقة ونوازل الخطوب. والرحمة المطلوبة بالدعاء من صنوف النعمة، ويسمى الحاصل بالرحمة باسم الرحمة على وجه التوسع وحكم المجاز «١».
السورة التي يذكر فيها النور
قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
بسم الله اسم نذير الوفاة فرقته، اسم بشير الحياة وصلته، اسم سبب الرّوح عرفانه، اسم راحة الرّوح إحسانه، اسم كمال الأنس إقباله، اسم، فتنة قلوب المهيّمين جماله، اسم من شهده دامت سلامته، اسم من وجده قامت قيامته، اسم لا إليه حظوة، ولا بدونه سلوة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)
سورة هى شرف لك- يا محمد- أنزلناها لأن أقلّ ما ورد به التحدي سورة «٢» فكلّ سورة شرف له عليه السلام لأنها له معجزة، بيّناها وشرعنا فيها من الحلال والحرام، وبيّنا (فيها من الأحكام ما) «٣» لكم به اهتداء، وللقلوب من غمرة الاستعجام شفاء.
أنزلنا فيها آيات بينات، ودلائل واضحات، وحججّا لائحات لتتذكروا تلك الآيات، وتعتبروا بما فيها من البراهين والبينات.
(١) لأن الرحمة- فى الأصل- وصف للذات، والنعمة من صفات الفعل.
(٢) إشارة إلى قوله تعالى فى سورة البقرة: «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ»، وإلى قوله تعالى فى سورة يونس: «قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ».
(٣) ما بين القوسين موجود فى ص وغير موجود فى م.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)
والعقوبة على الزنا شديدة أكيدة، ولكن جعل إثبات أمره وتقرير حكمه والقطع بكونه على أكثر الناس خصلة عسيرة بعيدة إذ لا تقبل الشهادة عليه حتى يقول: رأيت ذلك منه فى ذلك منها! وذلك أمر ليس بالهّين، فسبحان من أعظم العقوبة على تلك الفعلة الفحشاء، ثم جعل الأمر فى إثباتها بغاية الكدّ والعناء! وحين اعترف واحد له بذلك قال له صلى الله عليه وسلّم: لعلّك قبّلت.. لعلّك لا مست، وقال لبعض أصحابه: «استنكهوه» «١» وكلّ ذلك روما لدرء الحدّ عنه، إلى أن ألحّ وأصرّ على الاعتراف.
قوله جل ذكره: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ما يأمر به الحقّ فالواجب مقابلته بالسمع والطوع.
والرحمة من موجب الشرع وهو المحمود، فأمّا ما يقتضيه الطّبع والعادة والسوء فمذموم غير محمود. ونهى عن الرحمة على من خرق الشرع، وترك الأمر، وأساء الأدب، وانتصب فى مواطن المخالفة.
ويقال نهانا عن الرحمة بهم، وهو يرحمهم بحيث لا يمحو عنهم- بتلك الفعلة الفحشاء- رقم الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن» «٢» ولولا رحمته لما استبقى عليه حلّة إيمانه مع قبيح جرمه وعصيانه.
(١) وردت الإشارة إلى حادث «ما عز» في هامش سبق، وقوله «استنكهوه» اى ابحثوا هل فى فمه ريح الخمر، وبعدها سأله النبي للمرة الأخيرة «أزتيت؟ فقال نعم. فأمر به فرجم» صحيح مسلم ط أولى سنة ١٩٣٠ م المصرية بالأزهر ج ١١ ص ١٩٩.
(٢) عن أبى سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب أنهما قالا: عن أبى هريرة أن النبي (ص) قال (لا يزنى... ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) صحيح مسلم ج ٢ ص ٤١.
قوله جل ذكره: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليكون عليهم أشدّ، وليكون تخويفا لمتعاطى ذلك الفعل، ثم من حقّ الذين يشهدون ذلك الموضع أن يتذكروا عظيم نعمة الله عليهم أنهم لم يفعلوا مثله، وكيف عصمهم من ذلك. وإن جرى منهم شىء من ذلك يذكروا عظيم نعمة الله عليهم كيف ستر عليهم ولم يفضحهم، ولم يقمهم فى الموضع الذي أقام فيه هذا المبتلى به. وسبيل من يشهد ذلك الموضع ألّا يعيّر صاحبه بذلك، وألا ينسى حكم الله تعالى فى إقدامه على جرمه.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣]
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
الناس أشكال فكلّ نظير «١» مع شكله، وكلّ يساكن شكله، وأنشدوا:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكلّ قرين بالمقارن يقتدى
فأهل الفساد الفساد يجمعهم- وإن تباعد مزارهم (وأهل السداد السداد يجمعهم- وإن تناءت ديارهم) «٢» قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٤]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤)
لئلا يستبيحوا أعراض المسلمين، ولئلا يهتكوا أستار الناس أمر بتأديبهم، وإقامة الحدّ عليهم إذا لم يأتوا بالشهداء.
(١) هكذا فى ص وهى فى م (وكل طير..) وربما كانت (وكلّ يطير) أو (فكل طير)، والمثل يقول: (الطيور على أشكالها تقع).
(٢) ما بين القوسين موجود فى م وغير موجود فى س. [.....]
ثم بالغ فى عدد الشهود، وألّا تقبل تلك الشهادة إلّا بالتضرع التام، ثم أكمله بقوله «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً». وفى الخبر المسند قوله عليه السلام: «من أتى منكم بشىء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنّ من أبدى لنا صفحته، أقمنا عليه حدّ الله» «١» قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٥]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
جعل من شرط قبول شهادته صحّة توبته، وجعل علامة صحة توبته إصلاحه، فقال:
«وَأَصْلَحُوا»، وهو أن تأتى على توبته مدة تنشر فيها بالصلاح صفته، كما اشتهرت بهتك أعراض المسلمين قالته.. كلّ هذا تشديدا لمن يحفظ على المسلمين ظاهر صلاحه.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٦]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦)
لمّا ضاق الأمر على من رأى أهله على فاحشة، إذ أن فى ذلك قبول نسب غير صحيح- فقد نهى الشرع عن استلحاقه ولدا من غيره. وكان أمرا محظورا هتك عرض المرأة والشهادة عليها بالفحشاء، إذ يجوز أن يكون الأمر فى المعيب أي بخلاف ما يدّعيه الزوج.
ولأن ذلك أمر ذو خطر شرع الله حكم اللّعان «٢» ليكون للخصومة قاطعا، وللمقدم على
(١) رواه البيهقي والحاكم عن ابن عمر بإسناد جيد بلفظ: «اجتنبوا هذه القاذورات التى نهى الله تعالى عنها، فمن ألم بشىء منها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله» (ص ١٥٥ ج ١ فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوى الطبعة الأولى سنة ١٣٥٦ هـ).
(٢) اللعان فى الشريعة أن يقسم الزوج أربع مرات على صدقه فى قذف زوجته بالزنا، والخامسة باستحقاقه لعنة الله إن كان كاذبا وبذا يبرأ من حدّ القذف. ثم تقسم الزوجة أربع مرات على كذبه، والخامسة باستحقاقها غضب الله إن كان صادقا فتبرأ من حد الزنا. وقد نزلت آية اللعان في هلال بن أمية أو عويمر حيث قال وجدت على بطن امرأتى خولة شريك بن سحماء فكذبته، فلا عن النبي (ص) بينهما.
فإذا قذف الزوج زوجته بالزنا- وهما من أهل الشهادة- صح اللعان بينهما، واختلف الفقهاء هل تقع الفرقة بينهما بالتلاعن أم بتفريق القاضي.
الفاحشة زاجرا، ففى مثل هذه الأحوال عنها خرجة «١». ولولا أنّ الله على كل شىء قدير وإلا ففى عادة الناس. من الذي يهتدى لمثل هذا الحكم لولا تعريف سماوى وأمر نبوى، من الوحى متلقّاه «٢»، ومن الله مبتداه وإليه منتهاه؟
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ١٠]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
... لبقيتم فى هذه الواقعة المعضلة، ولم تهتدوا للخروج من هذه الحالة المشكلة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ١١]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١)
هذا قصة عائشة رضى الله عنها، وما كان من حديث الإفك.
بيّن الله- سبحانه- أنه لا يخلى أحدا من المحنة والبلاء، فى المحبة والولاء فالامتحان من أقوى أركانه وأعظم برهانه وأصدق بيانه، كذلك قال ﷺ «يمتحن الرجل على قدر دينه»، وقال: «أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» «٣».
ويقال إنّ الله- سبحانه- غيور على قلوب خواصّ عباده، فإذا حصلت مساكنة بعض إلى بعض يجرى الله ما يردّ كلّ واحد منهم عن صاحبه، ويردّه إلى نفسه، وأنشدوا:
إذا علقت روحى بشىء، تعلّقت به غير الأيام كى تسلبنّيا
وإن النبي- صلى الله عليه وسلم- لمّا قيل له: أي الناس أحب إليك؟
(١) الخرجة هى الخروج والخلاص من أمر شديد.
(٢) هكذا فى ص وهى فى م (مستفاد) وكلاهما صحيح، ولكن الأولى أقوى مراعاة للموسيقى اللفظية، وربما كانت (مستقاه).
قال: عائشة. فساكنها.
وفى بعض الأخبار أن عائشة قالت: «يا رسول الله إنى أحبك وأحب قربك»..
فأجرى الله حديث الافك حتى ردّ قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنها إلى الله، وردّ قلب عائشة عنه إلى الله حيث قال- لما ظهرت براءة ساحتها: بحمد الله لا بحمدك كشف الله عنها به تلك المحقة، وأزال الشكّ، وأظهر صدقها وبراءة ساحتها.
ويقال إن النبي ﷺ قال: «اتقوا فراسة المؤمن فإنّ المؤمن ينظر بنور الله» «١»، فإذا كانت الفراسة صفة المؤمن فأولى الناس بالفراسة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تظهر له بحكم الفراسة براءة ساحتها، حتى كان يقول: «إن فعلت فتوبى».
والسبب فيه أنه فى أوقات البلاء يسدّ الله على أوليائه عيون الفراسة إكمالا للبلاء.
وكذلك إبراهيم- عليه السلام- لم يميّز ولم يعرف الملائكة حيث قدّم إليهم العجل الحنيذ، وتوهمهم أضيافا. ولوط عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة إلى أن أخبروه أنهم ملائكة.
ويقال إنه كان- صلى الله عليه وسلم- يقول لعائشة: «يا حميراء».
فلما كان زمان الإفك، وأرسلها إلى بيت أبويها، واستوحش الأبوان معها، ومرضت عائشة- رضى الله عنها- من الحزن والوجد، كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رأى واحدا من دار أبى بكر يقول:
كيف بيتكم؟ لا عائشة ولا حميراء! فما كان يطيب بالتغافل عنها، فتعبيره- إن لم يفهم بالتصريح- فيفقه بالتلويح.
ثم إنه- سبحانه- قال: «لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ» : فبمقدار جرمهم احتمل كلّ واحد ما يخصّه من الوزر.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ١٢]
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢)
(١) الترمذي والطبراني، الترمذي من حديث أبى سعد، والطبراني وأبو نعيم بسند حسن عن أنس.
عاتبهم على المبادرة إلى الاعتراض وبسط ألسنتهم بالسوء عنها، وتركهم الإعراض عن حرم النبي صلى الله عليه. ثم قال: وهلّا جاءوا على ما قالوا بالشهداء؟ وإذا لم يجدوا ذلك فهلّا سكتوا عن بسط اللسان؟
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ١٤]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤)
لأنه أخبر أن جرمهم- وإن كان عظيما- فإنه فى علم الله عنهم غير مؤثّر، ولولا أن الله- سبحانه- ينتقم لأوليائه ما لا ينتقم لنفسه فلعلّه لم يذكر هذه المبالغة فى أمرهم فإنّ الذي يقوله الأجانب والكفار فى وصف الحق- سبحانه- بما يستحيل وجوده وكونه يوفى ويربى على كل سوء- ثم لا يقطع عنهم أرزاقهم، ولا يمنع عنهم أرفاقهم، ولكن ما تتعلّق به حقوق أوليائه- لا سيما حق الرسول صلى الله عليه وسلم- فذاك عظيم عند الله.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ١٥]
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
بالغ فى الشكاية منهم لما أقدموا عليه بما تأذّى به قلب الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقلوب جميع المخلصين من المسلمين.
ثم قال: «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» : وسبيل المؤمن ألا يستصغر فى الوفاق طاعة، ولا يستصغر فى الخلاف زلّة فإنّ تعظيم الأمر تعظيم للآمر. وأهل التحقيق لا ينظرون ما ذلك الفعل ولكن ينظرون من الآمر به.
ويقال: يسير الزّلّة- يلاحظها العبد بعين الاستحقار- فتحبط كثيرا من الأحوال، وتكدّر كثيرا من صافى المشارب.
واليسير من الطاعة- ربما يستقلّها العبد- ثم فيها نجاته ونجاة عالم معه.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ١٦]
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦)
استماع الغيبة نوع من الغيبة، بل مستمع الغيبة شرّ المغتابين إذ بسماعة يتمّ قصد صاحبه. وإذا سمع المؤمن ما هو سوء قالة فى المسلمين- مما لا صحّة له فى التحقيق- فالواجب الردّ على قائله، ولا يكفى فى ذلك السكوت دون النكير، ويجب ردّ قائله بأحسن نصيحة، وأدقّ موعظة، ونوع تشاغل عن إظهار المشاركة له فيما يستطيب من نشره من إخجال لقائله موحش، فإن أبى إلا انهما كا فيما يقول فيرد عليه بما أمكن لأنه إن لم يستح فائله من قوله فلا ينبغى أن يستحى المستمع من الرّدّ عليه «١».
قوله جل ذكره
[سورة النور (٢٤) : آية ١٧]
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧)
يتعلّق هذا بأنّ من بسط لسانه فى عائشة- رضى الله عنها- بعد ذلك لم يكن مؤمنا لظاهر هذه الآية، (ولعمرى قائل ذلك مرتكب كبيرة ولكن لا يخرج عن الإيمان بذلك) «٢» أي ينبغى للمؤمن ألا يتكلم فى هذا، وهذا كما يقول القائل: «إذا كنت أخى فواسنى عند شدّتى فإن لم تواسنى لم تخرج عن الأخوّة بذلك».. ومعنى هذا القول أنّه ينبغى للأخ أن يواسى أخاه فى حال عثرته، وترك ذلك لا يبطل النّسب.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ١٩]
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩)
(١) فى هذه الوصية تتجلى نزعة القشيري فيما يمكن أن نسميه (آداب السلوك) ونزمع بعون الله أن نتجز بحثا شاملا عن «علم الأخلاق عند الصوفية».
(٢) ما بين القوسين موجود فى ص وغير موجود فى م، والعبارة هامة فى توضيح الرأى فى مرتكب الكبيرة، ورد على من يلصقون وصمة الكفر- دون حساب- بالكثير من الناس.
هؤلاء فى استحقاق الذمّ أقبح منزلة، وأشدّ وزرا حيث أحبوا افتضاح المسلمين، ومن أركان الدين مظاهرة المسلمين، وإعانة أولى الدّين، وإرادة الخير لكافة المؤمنين.
والذي يودّ فتنة للمسلمين فهو شرّ الخلق، والله لا يرضى منه بحاله، ولا يؤهله لمنال خلاصة التوحيد.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٠]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
كرّر قوله: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ..» ليبيّن للجميع أنّ حسن الدفع عنهم كان بفضله ورحمته وجميل المنح لهم، وكلّ يشهد حسن المنح ويشكر عليه، وعزيز عبد يشهد حسن الدفع عنه فيحمده على ذلك «١».
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١)
إذا تنقى القلب عن الوساوس، وصفا عن الهواجس بدت فيه أنوار الخواطر، فإذا سما وقت العبد عن ذلك سقطت الخواطر، وبدت فيه أحاديث الحق- سبحانه- كما قال فى الخبر: «لقد كان فى الأمم محدّثون فإن يكن فى أمتى فعمر». وإذا كان الحديث منه فذلك يكون تعريفا يبقى مع العبد، ولا يكون فيه احتمال ولا إشكال ولا إزعاج، وصاحبه يجب أن يكون أمينا، غير مظهر لسرّ ما كوشف به «٢» قوله جل ذكره: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(١) أي يكثر فى الحياة من يشكر على نعمة المنح ويقل من يشكر على نعمة الدفع لأن الأولى تجرى بأثر ملموس، والثانية تجرى ولا يكاد يشعر بها المرء.
(٢) هنا نجد القشيري يطالب بالكتمان دون الإفصاح ففى الكتمان حفظ للأمانة.
ردّهم فى جميع أحوالهم إلى مشاهدة ما منّ الحقّ في قسمى النفع والدفع، وحالتى العسر واليسر، والزّكى «١» من الله، والنّعمى من الله، والآلاء من الله، قال تعالى: «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ».
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٢]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)
تحرّك فى أبى بكر عرق من البشرية فى وصف الانتقام من مسطح «٢» حين شرع وخاض فى ذلك الحديث، وكان فى رفق أبى بكر فقطع عنه ذلك، وأخبر به الرسول- صلى الله عليه وسلم- وانتظر الأمر من الله فى ذلك، فأنزل الله تعالى: «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ..» فلم يرض من الصديق رضى الله عنه أن يتحرك فيه عرق من الأحكام النفسية والمطالبات البشرية، فأعاد أبو بكر له ما كان يفعله فى ماضى أيامه. والإحسان إلى المحسن مكافأة، وإلى من لا يسىء ولا يحسن فضل، وإلى الجاني فتوّة وكرم «٣»، وفى معناه أنشدوا:
(٣) رواه الترمذي وقال حسن صحيح وقد سبق تخريج هذا الحديث.
وما رضوا بالعفو عن كلّ زلة حتى أنالوا كفّه وأفادوا
قوله: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا» : العفو والصفح بمعنى، فكررهما تأكيدا.
ويقال العفو فى الأفعال، والصفح فى جنايات القلوب «٤».
(١) الزكي والزكاء- النماء والزيادة، وزكى الشيء- أصلحه وظهره.
(٢) مسطح ابن خالة أبى بكر، وكان مسكينا، بدريا مهاجرا، كان ينفق عليه أبو بكر، فلما قرأ الرسول عليه الآية قال: بلى: أحب أن يغفر الله لى، ورد إلى مسطح نفقته رغم ما خاض فى عائشة رضى الله عنها.
(٣) يمكن أن يضاف هذا الشاهد إلى الباب الذي عقده القشيري «للفتوة» في رسالته.
(٤) نعرف عن القشيري أنه لا يتحمس كثيرا للقول بأن بالقرآن تكرارا، لأجل ذلك نراه يسرع إلى التمييز بين العفو والصفح عقيب ذكره أنهما بمعنى. [.....]
قوله جل ذكره: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا من كمال تلطفه- سبحانه. وفى الخبر: أن الله لما أنزل هذه الآية قال أبو بكر- رضى الله عنه: «بلى، أحبّ يا رب»، وعفا عن مسطح. وإن الله لا يغادر فى قلوب أوليائه كراهة من غيرهم، وأنّى بالكراهة من الخلق والمتفرّد بالإيجاد الله؟! وفى معناه أنشدوا:
ربّ رام لى بأحجار الأذى لم أجد بدّا من العطف عليه
فعسى أنّ يطلع الله على قدح القوم فيدنينى إليه
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٣]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣)
بالغ فى توعده لهم حيث ذكر لفظ اللعنة فى شأنهم.
ووصف المحصنات بالغفلة: أي بالغفلة عما ينسبن إليه فليس الوصف على جهة الذمّ، ولكن لبيان تباعدهن عمّا قيل فيهن.
واستحقاق القذفة للعنة- فى الدنيا والآخرة- يدل على أنه لشؤم زلتهم تتغير عواقبهم، فيخرجون من الدنيا لا على الإسلام «١».
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٤]
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)
تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوا من غير اختيار منهم، ثم كما تشهد بعض أعضائهم عليهم تشهد بعض أعضائهم لهم، فالعين كما تشهد: أنه نظر بي، تشهد بأنه بكى بي.. وكذلك سائر الأعضاء.
(١) عن ابن عباس رضى الله عنه: من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض فى أمر عائشة.
وهذا تعظيم ومبالغة في أمر الإفك.
ويقال شهادة الأعضاء فى القيامة مؤجّلة، وشهادتها فى المحبة اليوم معجّلة من صفرة الوجه إذا بدا المحبوب، وشحوب اللون، ونحافة الجسم، وانسكاب الدموع، وخفقان القلب، وغير ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٥]
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
يجازيهم على قدر استحقاقهم للعابدين بالجنان والمثوبة على توفية أعمالهم، وللعارفين بالوصلة والقربة على تصفية أحوالهم فهؤلاء لهم علوّ الدرجات، وهؤلاء لهم الأنس بعزيز المشاهدات ودوام المناجاة.
«وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ» : فتصير المعرفة ضرورية فيجدون المعافاة من النّظر وتذكّره، ويستريح القلب من وصفي تردّده وتغيّره: (لاستغنائه ببصائره عن تبصّره) «١».
ويقال لا يشهدون غدا إلا الحقّ فهم قائمون بالحق للحق مع الحق، يبيّن لهم أسرار التوحيد وحقائقه، ويكون القائم عنهم، والآخذ لهم منهم من غير أن يردّهم إليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٦]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
«الْخَبِيثاتُ» : من الأعمال وهى المحظورات «لِلْخَبِيثِينَ» : من الرجال المؤثرين لها طوعا، والذين يجنحون إلى مثل تلك الأعمال فهم لها، كلّ مربوط بما يليق به فالفعل لائق بفاعله، والفاعل بفعله فى الطهارة والقذارة، والنفاسة والخساسة، والشرف والسّرف.
ويقال «الْخَبِيثاتُ» : من الأحوال وهى الحظوظ والمني والشهوات لأصحابها والساعين لها. والساعون لمثلها لها، غير ممنوع أحدهما من صاحبه، فالصفة للموصوف ملازمة، والموصوف لصفته ملازم.
(١) هكذا فى النسختين، ويكون مراد القشيري أنه لم يعد مجال للتبصر فقد أصبح الشهود عيانا، وتحققت لهم الرؤية البصرية التي لم ينالوها فى الدنيا، ونفهم أن القشيري لا يرى الرؤية العيانية إلا فى الآخرة.
ويقال «الْخَبِيثاتُ» :
من الأشياء للخبيثين من الأشخاص، وهم الراضون بالمنازل السحيقة وإنّ طعام الكلاب الجيف.
ويقال «الْخَبِيثاتُ» : من الأموال- وهى التي ليست بحلال- لمن بها رتبته، وعليها تعتكف همّته فالخبيثون من الرجال لا يميلون إلّا لمثل تلك الأموال، وتلك الأموال لا تساعد إلا مثل أولئك الرجال.
قوله جل ذكره: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ.
«الطَّيِّباتُ» : من الأعمال هى الطاعات والقرب للطيبين، والطيبون هم المؤثرون لها والساعون فى تحصيلها.
«وَالطَّيِّباتُ» : من الأحوال- وهى تحقيق المواصلات بما هو حقّ الحق، مجرّدا عن الحظوظ- «لِلطَّيِّبِينَ» من الرجال، وهم الذين سمت همّتهم عن كلّ مبتذل خسيس، ولهم نفوس تسمو إلى المعالي، وهى التجمّل بالتذلل لمن له العزّة.
ويقال الطيبات من الأموال- وهى التي لا نكير للشرع عليها، ولا منّة لمخلوق فيها- للطيبين من الرجال، وهم الأحرار الذين تخلّصوا من رقّ الكون.
ويقال «الطَّيِّباتُ» من الأشخاص وهن المبرّات من وهج الخطر، المتنقيات عن سفساف أخلاق البشرية، وعن التعريج فى أوطان الشهوات- «لِلطَّيِّبِينَ» من الرجال الذين هم قائمون بحقّ الحقّ لا يصحبون الخلق إلا للتعفّف، دون استجلاب الشهوات.
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لهم مغفرة فى المآل، ورزق. كريم فى الحال وهو ما ينالون من غير استشراف، ولا تطلب طمع، ولا ذلّ منّة «١»، ولا تقديم تعب «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧)
(١) أي (منّة) من مخلوق.
(٢) (التعب) الذي ينشأ عن الاستعجال وعدم التفويض ونقص الثقة.
الخواص لا يرون لأنفسهم ملكا يتفردون به لا من الأموال المنقولة ولا من المساكن التي تصلح لأن تكون مدخولة، فمن فاتحهم بشىء منها فلا يكون منهم منع ولا زجر، ولا حجب لأحد ولا حظر.. هذا فيما نيط بهم. أمّا فيما ارتبط بغيرهم فلا يتعرّضون لمن هى فى أيديهم لا باستشراف طمع، ولا بطريق سؤال، ولا على وجه انبساط «١». فإن كان حكم الوقت يقتضى شيئا من ذلك فالحقّ يلجىء من فى يده الشيء ليحمله إليه بحكم التواضع والتقرّب، والولىّ يأخذ ذلك بنعت التعزّز، ولا يليق معنى ذلك إلا بأحوال تلك القصة «٢»، وأنشد بعضهم فى هذا المعنى:
وإنى لأستحى من الله أن أرى أسير بخيل ليس منه بعير
وأن أسأل المرء اللئيم بعيره وبعران ربّى فى البلاد كثير
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٨]
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨)
فى هذا حفظ أمر الله وحفظ حرمة صاحب الدار لأنّ من دخلها بغير إذن صاحبها ربما تكون فيها عورة منكشفة، وربما يكون لصاحب الدار أمر لا يريد أن يطّلع عليه غيره، فلا ينبغى أن يدخل عليه من غير استئذان.
وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
(١) يقول السرى السقطي فى مثل هذا السياق: «أعرف طريقا مختصرا قصدا إلى الجنة. فقيل له ما هو؟ فقال: لا تسأل من أحد شيئا. ولا تأخذ من أحد شيئا، ولا يكن معك شىء تعطى منه أحدا «الرسالة ص ١١».
(٢) أي بأرباب الطريق الصوفي
إن قيل لكم: ارجعوا.. فارجعوا فقد تكون الأعذار قائمة، وصاحب الملك بملكه أولى.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٩]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
رفع الله الجناح والحرج فى الانتفاع بما لا يستضرّ به صاحبه بغير إذنه كدخول أرض للداخل فيها أغراض لقضاء حاجته- ولا يجد طريقا غير ذلك- إذا لم يكن فى دخوله ضرر على صاحبها، وجرى هذا مجرى الاستظلال بظلّ حائط إذا لم يكن قاعدا فى ملكه، وكالنظر فى المرآة المنصوبة فى جدار غيره.. وكل هذا إنما يستباح بالشرع دون قضية العقل- على ما توهمه قوم.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٠]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠)
: «يَغُضُّوا» : من أبصار الظواهر عن المحرّمات، ومن أبصار القلوب عن الفكر الرّدّية، ومن تصوّر الغائبات عن المعاينة»
، ولقد قالوا: إنّ العين سبب الحين، وفى معناه أنشدوا:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك- يوما- أتعبتك المناظر
وقالوا: من أرسل طرفه اقتضى حتفه.
وإن النظر إلى الأشياء بالبصر يوجب تفرقة القلوب.
ويقال إن العدوّ إبليس يقول: قوسى القديم وسهمى الذي لا يخطىء النظر. وأرباب
(١) ربما يقصد القشيري أن ينهى عن إقحام فكرة النظر بالعين فى الأمور الغيبية، وبمعنى آخر النهى عن إخضاع كل شىء للحس، فطبيعة الغيبيات تختلف عن ذلك وإلا كنت كمن يحاول عبور الماء فوق جواد، أو يعبر اليابسة وهو فى سفينة- على حد تعبير جلال الدين الرومي فى سياق مماثل.
المجاهدات إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر الردية لم ينظروا إلى المحسّات- وهذا أصل كبير لهم فى المجاهدة فى أحوال الرياضة «١».
ويقال قرن الله النهى عن النظر إلى المحارم بذكر حفظ الفرج فقال: «وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» تنبيها على عظم خطر النظر فإنه يدعو إلى الإقدام على الفعل.
ويقال قوم لا ينظرون إلى الدنيا وهم الزّهّاد، وقوم لا ينظرون إلى الكون وهم أهل العرفان، وقوم هم أهل الحفاظ والهيبة كما لا ينظرون بقلوبهم إلى الأغيار لا يرون نفوسهم أهلا للشهود، ثم الحق- سبحانه- يكاشفهم من غير اختيار منهم أو تعرّض أو تكلف.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣١]
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
المطالبة عليهن كالمطالبة على الرجال لشمول التكليف للجنسين، فالواجب عليهن ترك المحظورات، والندب والنّفل لهن صون القلب عن الشواغل والخواطر الردية، ثم إن ارتقين عن هذه الحالة فالتعامى بقلوبهن عن غير المعبود، والله يختص برحمته من يشاء.
قوله: «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها» : ما أباح الله- سبحانه- على بيان مسائل الفقه فمستثنّى من الحظر، وما وراء ذلك فالواجب عليهن حفظ أنفسهن عن العقوبات فى الآجل، والتصاون عن أن يكون سببا لفتنة قلوب عباده. والله سبحانه كما يحفظ أولياءه عما يضرهم فى الدّين يصونهم عما يكون سببا لفتنة غيرهم، فإن لم يتصل منهم نفع بالخلق فلا تصيب أحدا بهم فتتة.
وفى الجملة ما فيه زينة العبد لا يجوز إظهاره فكما أنّ للنساء عورة ولا يجوز لهن إبداء زينتهن فكذلك من أظهر للخلق ما هو زينة سرائره «٢» من صفاء أحواله، وزكاء أعماله
(١) سقطت (الرياضة) من النسخة ص.
(٢) هنا يجدد القشيري رأيه بدقة فى قضية الإفصاح والكتمان. فالأصل عنده الكتمان، فإذا افصح العبد فلا يكون ذلك إلّا لاضطرار ويكون عندئذ غير مؤاخذ لأنه بعيد عن التعمل والتكلف.
انقلب زينه شينا، إلا إذا ظهر على أحد شىء- لا بتعمله ولا بتكلّفه- فذلك مستثنى لأنه غير مؤاخذ بما لم يكن بتصرفه وتكلفه، فذوات المحارم على تفصيل بيان الشريعة يستثنى حكمهن عن الحظر «١».
قوله جل ذكره: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ تراعى فى جميع ذلك آداب الشرع فى الإباحة والحظر.
قوله جل ذكره وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ التوبة الرجوع عن المذمومات من الأفعال إلى أضدادها المحمودة، وجميع المؤمنين مأمورون بالتوبة، فتوبة عن الزّلّة وهى توبة العوام، وتوبة عن الغفلة وهى توبة الخواص.
وتوبة على محاذرة العقوبة، وتوبة على ملاحظة الأمر.
ويقال أمر الكافة بالتوبة العاصين بالرجوع إلى الطاعة من المعصية، والمطيعين من رؤية الطاعة إلى رؤية التوفيق، وخاصّ الخاصّ من رؤية التوفيق إلى مشاهدة الموفّق.
ويقال أمر الكلّ بالتوبة لئلا يخجل العاصي من الرجوع بانفراده.
ويقال مساعدة الأقوياء مع الضعفاء- رفقا بهم- من أمارات الكرم.
ويقال فى قوله: «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» يتبين أنّه أمرهم بالتوبة لينتفعوا هم بذلك، لا ليكون للحقّ- سبحانه- بتوبتهم وطاعتهم تجمّل.
ويقال أحوج الناس إلى التوبة من توهّم أنّه ليس يحتاج إلى التوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٢]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)
(١) يصلح هذا نموذجا (للقياس) إن أردنا بحث ما اسميناه (الفقه الصوفي).
إذا كان القصد فى المناكحة التأدب بآداب الشرع يكفى الله ببركاته مطالبات النفس والطبع، وإنما يجب أن يكون القصد إلى التعفّف ثم رجاء نسل يقوم بحقّ الله «١».
قوله: «إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ: يغنيهم الله فى الحال، أولا بالنفس ثم غنى القلب وغنىّ القلب غني عن الشيء، فالغني عن الدنيا أتمّ من الغنى بالدنيا.
ويقال إن يكونوا فقراء فى الحال يغنهم الله فى المستأنف والمآل.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٣]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)
من تقاصر وسعه عن الإنفاق على العيال فليصبر على مقاساة التحمل فى الحال، فعن قريب تجيبه نفسه إلى سقوط الأرب، أو الحق- سبحانه- يجود عليه بتسهيل السبب من حيث لا يحتسب، ولا تخلو حال المتعفّف عن هذه الوجوه.
قوله جل ذكره: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أي إن سمحت نفوسكم بإزالة الرّقّ عن المماليك- الذين هم فى الدين إخوانكم- من غير عوض تلاحظون منهم فلن تخسروا على الله فى صفقتكم. وإن أبيتم إلا العوض ودعوا إلى الكتابة، وعلمتم بغالب ظنكم صحة الوفاء بمال الكتابة من قبلهم فكاتبوهم «٢»
،
(١) كذلك دعا الأنبياء ربهم حين طلبوا الذرية.
(٢) المكاتبة أن يقول لمملوكه: «كاتبتك على ألف درهم» مثلا فإن أداها عتق، ومعناها كتبت عليك بالوفاء وكتبت على بالعتق، ويجوز أداء المال حالا ومؤجلا ومنجما وغير منجم لإطلاق الأمر.
ثم تعاونوا على تحصيل المقصود بكل وجه من قدر يحط من مال الكتابة، وإعانة لهم من فروض الزكاة «١»، وإمهال بقدر ما يحتمل المكاتب ليكون ترفيها له.
وإذا كنا فى الشرع مأمورين بكل هذا الرّفق حتى يصل المملوك المسكين إلى عتقه فبالحرىّ أن يسمو الرجاء إلى الله بجميل الظنّ أن يعتق العبد من النار بكثرة تضرعه، وقديم سعيه- بقدر وسعه- من عناء قاساه، وفضل من الله- عن قديم- رجاه «٢».
ثم فى الخبر: «إن المكاتب عبد ما بقى عليه درهم» : والعبد يسعى بجهده ليصل إلى تحرر قلبه، وما دام تبقى عليه بقية من قيام الأخطار وبقية من الاختيار وإرادة شىء من الأغيار فهو بكمال رقّه وليس فى الحقيقة بحرّ.. فالمكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
قوله جل ذكره: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
حامل العاصي على زلّته، والداعي له إلى عثرته، والمعين له على مخالفته تتضاعف عليه العقوبة، وله من الوزر أكثر من غيره، وبعكسه لو كان الأمر فى الطاعة والإعانة على العبادة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
(١) إشارة إلى قوله تعالى فى أسهم الزكاة: (وفى الرقاب) وعند الشافعي- رحمه الله- حطوا من بدل الكتابة ربعا.
(٢) للنسفى كلام لطيف يصلح لتوضيح مقصد القشيري حيث يقول: العابد كالعبد فهو يشترى نفسه من ربه بنجوم مرتبة ليسعى فى فكاك رقبته خوفا من البقاء فى ربقة العبودية وطمعا فى فتح باب الحرية ليسرح فى رياض الجنة، فعليه فى اليوم والليلة خمس، وفى المائتي درهم خمسة، وفى السنة شهر، وفى العمر زورة إشارة إلى الصلاة والزكاة والصوم والحج على الترتيب. [.....]
لم يغادر على وجه الدليل غبرة «١»، ولم يترك الحقّ- سبحانه- للإشكال محلا بل أوضح المنهاج وأضاء السّراج، وأنار السبيل وألاح الدليل، فمن أراد أن يستبصر فلا يلحقه نصب، ولا يمسّه تعب.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٥]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)
أي هادى أهل السماوات والأرض، ومنه نورهما. والذي منه الشيء يسمى باسمه الشيء.
ومنه نور السماوات والأرض خلقا فنظام السماوات والأرض وإحكامها وترتيبها بوصف إتقانها حاصل بالله تعالى.
ويقال نور السماوات والأرض أي منوّرها وخالق ما فيها من الضياء والزينة، وموجد ما أودعها من الأدلة اللائحة.
ويقال نوّر الله السماء بنجومها فقال: «وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ» «٢» فكذلك زين القلوب بأنوار هى نور العقل ونور الفهم ونور العلم ونور اليقين ونور المعرفة ونور التوحيد «٣»، فلكلّ شىء من هذه الأنوار مطرح شعاع بقدره فى الزيادة والنقصان.
قوله جل ذكره: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
قوله «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ..» : أراد بهذا نور قلب المؤمن وهو معرفته، فشبّه صدره
(١) الغبرة- لطخ الغبار.
(٢) آية ١٢ سورة فصلت.
(٣) نلفت النظر إلى أهمية هذا الترتيب فى توضيح مراحل المعرفة عند الصوفية وهى تتدرج فى الضياء من السراج إلى النجم إلى القمر إلى البدر إلى الشمس إلى شمس الشموس.
611
بالمشكاة، وشبّه قلبه فى صدره بالقنديل فى المشكاة، وشبّه القنديل- الذي هو قلبه- بالكوكب الدرىّ، وشبه إمداده بالمعرفة بالزيت الصافي الذي يمدّ السراج فى الاشتعال.
ثم وصف الزيت بأنّه على كمال إدراك زيتونه من غير نقصان أصابه، أو خلل مسّه. ثم وصف ذلك الزيت- فى صفوته- بأنه بحيث يكاد يضىء من غير أن تمسّه نار.
ويقال إن ضرب المثل لمعرفة المؤمن بالزيت أراد به شريعة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ودينه الحنيفي، فما كان يهوديا- وهم الذين قبلتهم إلى جانب المغرب، ولا نصرانيا- وهم الذين قبلتهم فى ناحية المشرق.
وقوله: «نُورٌ عَلى نُورٍ» : نور اكتسبوه بجهدهم بنظرهم واستدلالهم، ونور وجدوه بفضل الله فهو بيان أضافه إلى برهانهم، أو عيان أضافه إلى بيانهم، فهو نور على نور.
ويقال أراد به قلب محمد- صلى الله عليه وسلم- ونور معرفته موقد من شجرة هى إبراهيم عليه السلام، فهو ﷺ على دين إبراهيم.
قوله: «لا شَرْقِيَّةٍ» بحيث تصيبه الشمس بالعشي دون الغداة، ولا غربية بحيث تصيبه الشمس بالغداة دون العشى، بل تصيبه الشمس طول النهار ليتمّ نضج زيتونه، ويكمل صفاء زيته. والإشارة فيه أنه لا ينفرد خوف قلوبهم عن الرجاء فيقرب من اليأس، ولا ينفرد رجاؤهم عن الخوف فيقرب من الأمن، بل هما يعتدلان فلا يغلب أحدهما الآخر تقابل هيبتهم أنسهم، وقبضهم بسطهم، وصحوهم محوهم، وبقاؤهم فناءهم، وقيامهم بآداب الشريعة تحقّقهم بجوامع الحقيقة «١».
ويقال «لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» : أي أن هممهم لا تسكن شرقيا ولا غربيا، ولا علويا ولا سفليا، ولا جنيا ولا إنسيا، ولا عرشا ولا كرسيا، سطعت «٢» عن الأكوان، ولم تجد سبيلا إلى الحقيقة لأن الحقّ منزّه عن اللحوق والدرك، فبقيت عن الحق منفصلة، وبالحق غير
(١) فالقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه بين طرفى الأحوال حتى يصفو له.
(٢) هكذا فى م وهى فى ص (شطحت) وربما قبلناها فالسياق لا يرفضها.
612
متصلة «١» وهذه صفة الغرباء.. وإن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ.
ويقال نور القلب: ثم موجبه هو دوام الانزعاج فلا يذره يعرّج فى أقطار الكسل، فيصل سيره بسراه فى استعمال فكره، والحقّ يمده: بنور التوفيق حتى لا يصده عن عوارض الاجتهاد شىء من حبّ رياسة، أو ميل لسوء، أو هوادة. فإذا أسفر صبح غفلته، واستمكن النظر من موضعه حصل العلم لا محالة. ثم لا يزال يزداد يقينا على يقين مما يراه فى معاملته من القبض والبسط، والمكافأة والمجازاة فى زيادة الكشف عند زيادة الجهد، وحصول الوجد عند أداء الورد.
ثم بعده نور المعاملة، ثم نور المنازلة، ثم متوع نهار المواصلة. وشموس التوحيد مشرقة، وليس فى سماء أسرارهم سحاب ولا فى هوائها ضباب، قال تعالى: «نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ».
ويقال نور المطالبة يحصل فى القلب فيحمل صاحبه على المحاسبة، فإذا نظر فى ديوانه، وما أسلفه من عصيانه يحصل له نور المعاينة، فيعود على نفسه باللائمة، ويتجرّع كاسات ندمه، فيرتقى عن هذا باستدامة قصده، والتّنقّى عما كان عليه فى أوقات فترته. فإذا استقام فى ذلك كوشف بنور المراقبة فيعلم أنّه- سبحانه- مطّلع عليه. وبعد هذا نور المحاضرة وهى لوائح تبدو فى السرائر. ثم بعد ذلك نور المكاشفة وذلك بتجلّى الصفات.
ثم بعده نور المشاهدة فيصير ليله نهارا، ونجومه أقمارا، وأقماره بدورا، وبدوره شموسا.
ثم بعد هذا أنوار التوحيد، وعند ذلك يتحقق التجريد بخصائص التفريد، ثم مالا تتناوله عبارة ولا تدركه إشارة، فالعبارات- عند ذلك- خرس، والشواهد طمس، وشهود الغير عند ذلك محال «٢». عند ذلك: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ» «٣»، و «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، وانْفَطَرَتْ..»
(١) هذا نموذج للتصوف الإسلامى الحق الذي لا تشوبة شائبة حلول أو اتحاد أو امتزاج، فالرب رب والعبد عبد، ولا تداخل بينهما.
(٢) لأنه لا وجود عندئذ للغير والسوي، فقد فنى العبد عن نفسه وعن الغير الله تماما فناء ذوقيا شهوديا، لا فناء طبيعيا كما هو الشأن فى بعض التصوفات الأخرى.
(٣) سورة التكوير.
613
فهذه كلها أقسام الكون. وما من العدم لهم صار إلى العدم. القائم عنهم غيرهم، والكائن عنهم سواهم. وجلّت الأحدية وعزّت الصمدية، وتقدّست الديمومية، وتنزهت الإلهية.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧)
المساجد بيوته- سبحانه- وإنّ الله أذن أن ترفع الحوائج فيها إليه فيقضيها، ورفع أقدار تلك البيوت على غيرها من الأبنية والآثار. المساجد بيوت العبادة والقلوب بيوت الإرادة فالعابد يصل بعبادته إلى ثواب الله، والقاصد يصل بإرادته إلى الله.
ويقال القلوب بيوت المعرفة، والأرواح مشاهد المحبة، والأسرار محالّ المشاهدة.
قوله: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ... » لم يقل: لا يتجرون ولا يشترون ولا يبيعون، بل قال: لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فإن أمكن الجمع بينهما فلا بأس- ولكنه كالمتعذر- إلّا على الأكابر الذين تجرى عليهم الأمور وهم عنها مأخوذون «١».
ويقال هم الذين يؤثرون حقوق الحقّ على حظوظ النّفس.
ويقال إذا سمعوا صوت المؤذن: حىّ على الصلاة تركوا ما هم فيه من التجارة والبيع، وقاموا لأداء حقه.
ويقال هم الخواص والأكابر الذين لا يشغلهم قوله: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» عن التحقق يذكره من غير ملاحظة عوض أو مطالعة سبب.
قوله جل ذكره: يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ
(١) هذا رأى حاسم فى مدى وجوب السعى من أجل الرزق على طوائف أرباب الأحوال وتقدير لموقف من يعجزون عن ذلك.
أقوام ذلك اليوم مؤجّل لهم، وآخرون: ذلك لهم معجّل وهو بحسب ما هم فيه من الوقت فانّ حقيقة الخوف ترقّب العقوبات مع مجارى الأنفاس.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٨]
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)
من رفع الحساب من الوسط يرفع معه الحساب «١»، ومن هو فى أسر مطالباته فالوزن يومئذ الحقّ.
والرزق بغير حساب فى أرزاق الأرواح، فأمّا أرزاق الأشباح فمحصورة معدودة لأن أرزاق الأشباح حظوظ وهى وجود أفضال وفنون نوال. وما حصره الوجود من الحوادث فلا بدّ أن يأتى عليه العدد، وأما مكاشفة الأرواح بشهود الجمال والجلال فذلك على الدوام.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩)
وقال تعالى: «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» «٢»، وقال: «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ» «٣». ومن أمّل السراب شرابا فلا يلبث إلا قليلا حتى يعلم أنّه كان تخييلا فالعطش يزداد، والروح تدعو للخروج.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٤٠]
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
(١) ربما يقصد القشيري من هذه العبارة أولئك الذين يعبدون الله لذاته دون حساب فى العلاقة لثواب أو عقاب، ويتأيد ذلك بقوله فى العبارة التالية (ومن هو فى أسر مطالباته..) أي من ابتغى العوض لأنه يكون على حد تعبير رابعة كالأجير السوء.
(٢) آية ١٠٤ سورة الكهف.
(٣) آية ١٨ سورة المجادلة.
ظلمات الحسبان، وغيوم التفرقة، وليالى الجحد، وحنادس الشّكّ إذا اجتمعت فلا سراج لصاحبها، ولا نجوم، ولا أقمار ولا شموس.. فالويل ثم الويل! قوله: «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» : إذا لم يسبق لعبد نور القسمة، ولم يساعده تعلّق فجهده وكدّه، وسعيه وجدّه عقيم من ثمراته، موئس من نيل بركاته.
والبدايات غالبة للنهايات فالقبول لأهله غير مجتلب، والردّ لأهله غير مكتسب.
وسعيد من سعد بالسعادة فى علمه فى آزاله، وأراد كون ما علم من أفعاله يكون، وأخبر أن ذلك كذلك يكون، ثم أجرى ذلك على ما أخبر وأراد وعلم «١».
وهكذا القول فى الشقاوة فليس لأفعاله علّة، ولا تتوجّه عليه لأحد حجّة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٤١]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١)
التسبيح على قسمين: تسبيح قول ونطق، وتسبيح دلالة وخلق فتسبيح الخلق عام من كل مخلوق وعين وأثر، منه تسبيح خاصّ بالحيوانات، وتسبيح خاص بالعقلاء وهذا منقسم إلى قسمين: تسبيح صادر عن بصيرة، وتسبيح حاصل من غير بصيرة فالذى قرينته البصيرة مقبول، والذي تجرّد عن العرفان مردود.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٤٢]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢)
(١) هذا شرح جميل لفكرة القشيري عن: «الله خالق أفعال العباد» التي هى إحدى أصول عقيدته الكلامية.
الملك مبالغة من الملك، والملك القدرة على الإيجاد فالمقدورات- قبل وجودها- للخالق مملوكة، كذلك فى أحوال حدوثها بعد عدمها عائدة إلى ما كانت عليه، فملكه لا يحدث ولا يزول ولا يئول شىء منه إلى البطول.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤)
تعرّف إلى قلوب العلماء بدلالات صنعه فى بديع حكمته، وبما يدل منها على كمال قدرته، وشمول علمه وحكمته، ونفوذ إرادته ومشيئته. فمن أنعم النظر وصل إلى برد اليقين، ومن أعرض بقي فى وهدة الجحد وظلمات الجهل.
ترتفع بقدرته بخارات البحر، وتصعد بتسيره «١» وتقديره إلى الهواء وهو السحاب، ثم يديرها إلى سمت يريد أن ينزل به المطر، ثم ينزل ما فى السحاب من ماء البحر قطرة قطرة ويكون الماء قبل حصول بخارات البحر غير عذب فيقلبه عذبا، ويسحّه السحاب سكبا، فيوصل إلى كلّ موضع قدرا يكون له مرادا معلوما، لا بالجهد من المخلوقين يمسك أو ينزّل، ولا بالحيلة يستنزل على المكان الذي لا يمطره «٢».
«يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» : وكذلك جميع الأغيار من الرسوم والآثار.. ذلك تقدير العزيز العليم.
(١) ربما كانت فى الأصل (بتيسيره) وكلاهما مقبول فى السياق. [.....]
(٢) نفى الجهد والحيلة من أمارات الاعتماد على التقدير وإسقاط التدبير
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٤٥]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥)
يريد خلق كلّ حيوان من ماء، يخرج من صلب الأب وتريبة «١» الأمّ. ثم أجزاء الماء متساوية متماثلة، ثم ينقسم إلى جوارح فى الظاهر وجوارح فى الباطن، فيختصّ كلّ عضو وينفرد كل شلو «٢» بنوع من الهيئة والصورة، وضرب من الشكل والبنية. ثم اختلاف هيئات الحيوانات فى الريش والصوف والوبر والظفر والحافر والمخلب، ثم فى القامة والمنظر، ثم انقسام ذلك إلى لحم وشحم وجلد وعظم وسنّ ومخّ وعصب وعرق وشعر.
فالنظر فى هذا- مع العبرة به- يوجب سجود البصيرة وقوة التحصيل.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٤٦]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦)
الآيات بيّنة ولكنّ الله يهدى إليها قوما ويلبّس على آخرين، والذي سدّ بصره أنّى ينفعه طلوع الشمس والنجوم؟ وكذلك الذي سدّت بصيرته أنّى تنفعه شواهد العلوم ودلائل الفهوم؟ وقالوا فى معناه:
وما انتفاع أخى الدنيا بمقلته إذا استوت عنده الأنوار والظلم
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٤٧]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧).
(١) وردت (تربة) والصواب أن تكون (تريبة) الأم وهى عظمة الصدر مما يلى الترقوتين والجمع ترائب.
(٢) الشلو- العضو.
يستسلمون فى الظاهر ويقرّون باللسان، ثم المخلص يبقى على صدقه.
والذي قال لخوف سيف المسلمين، أو لغرض له آخر فاسد يتولّى بعد ذلك، وينحاز إلى جانب الكفرة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٤٨]
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨)
علموا أن افتضاحهم فى حكم نيتهم، فمن علم أنه قاسط فى خصومته لم يطب نفسا بحكمه.
وكذلك المريب يهرب من الحقّ، ويجتهد فى الفرار «١».
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٤٩]
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩)
منقادين يميلون مع الهوى، ولا يقبلون حكمه إيمانا. وكذلك شأن المريض الذي يميل بين الصحة والسقم فأرباب النفاق مترددون بين الشك والعلم، فليس منهم نفى بالقطع ولا إثبات بالعلم، فهم متطوّحون فى أودية الشك، وهذا معنى قوله:
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٠]
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)
فلمّا انخرطوا فى سلك التجويز ما حصلوا إلا فى ظلم الشك، ولما لم يكن لهم يقين فى القلب لم يكن معهم لأهل القلوب ذكر.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٥١]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١).
(١) ذكر الواحدي فى «أسباب النزول» ص ٢٢١ ان هذه الآية نزلت فى بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما فى أرض، فجعل اليهودي يجره إلى رسول الله (ص) ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجره إلى كعب بن الأشرف ويقول: إن محمدا يحيف علينا... إلخ.
الذين إيمانهم حقيقة بحكم التصديق شأنهم قيامهم بإظهار ما ضمنوه من التحقيق.
ومن يقابل أمر الله بالطاعة، ويستقبل حكمه بالاستخذاء.. فأولئك هم الصادقون فى الحقيقة، السالكون فى الطريقة، الآخذون بالوثيقة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
أقسموا بالله غاية اليمين، ووعدوا من أنفسهم الطاعة لو أمرهم بالخروج فى المستقبل، فقال: لا تعدوا بما هو معلوم منكم ألا تفوا به فطاعة فى الوقت أولى من تسويف بالوعد.
ثم قال: قل يا محمد أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.. فإن أجابوا سعدوا فى الدارين، وأحسنوا إلى أنفسهم. وإن تولّوا عن الإجابة فما أضرّوا إلا بأنفسهم ويكون الندم فى المستقبل عليهم، وسوف يلقون سوء عواقبهم، وليس على الرسل إلا حسن البلاغ. ويوم الحشر يعطى كلّ أحد كتابه، ويعامل بمقتضى حساب نفسه.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٥]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥)
وعد الله حقّ وكلامه صدق، والآية تدل على صحة الخلفاء الأربعة لأنه- بالإجماع-
لم يتقدمهم فى الفضيلة- إلى يومنا- أحد «١» فأولئك مقطوع بإمامتهم، وصدق وعد الله فيهم، وهم على الدين المرضىّ من قبل الله، ولقد أمنوا بعد خوفهم، وقاموا بسياسة المسلمين، والذّبّ عن حوزة الإسلام أحسن قيام.
وفى الآية إشارة إلى أئمة الدين الذين هم أركان الملّة ودعائم الإسلام، الناصحون لعباده، الهادون من يسترشد فى الله إذ الخلل فى أمر المسلمين من الولاة الظّلمة ضرره مقصور على ما يتعلّق بأحكام الدنيا، فأما حفّاظ الدين فهم الأئمة من العلماء وهم أصناف:
قوم هم حفّاظ أخبار الرسول عليه السلام وحفّاظ القرآن وهم بمنزلة الخزنة، وقوم هم علماء الأصول الرادّون على أهل العناد وأصحاب البدع بواضح الأدلة، وهم بطارقة الإسلام وشجعانه.
وقوم هم الفقهاء المرجوع إليهم فى علوم الشريعة من العبادات وكيفية المعاملات وما يتعلق بأحكام المصاهرات وحكم الجراحات والدّيّات، وما فى معانى الأيمان والنذور والدعاوى، وفصل الحكم فى المنازعات وهم فى الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين فى الملك.
وقوم هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق وهم فى الدّين كخواصّ الملك وأعيان مجلس السلطان فالدين معمور بهؤلاء- على اختلافهم إلى يوم القيامة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٧]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
إنّ الباطل قد تكون له دولة ولكنها تخييل- وما لذلك بقاء- وأقلّ لبثا من عارض ينشأ عن الغيظ.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)
(١) فى م بعدها (وما بعدهم مختلف فيهم).
«١» ضيّق الأمر من وجه ووسّعه من وجه، وأمر بمراعاة الاحتياط وحسن السياسة لأحكام الدين ومراعاة أمر الحرم، والتحرر من مخاوف الفتنة، وإذا كانت الجوانب محروسة صارت المخاوف مأمونة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٠]
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
يحدث تأثير بالمضرّة لبنات الصدور «٢» من دواعى الفتنة واستيلاء سلطان الشهوة فإذا سكنت تلك الثائرة سهل الباب، وأبيحت الرّخص وأمنت الفتنة.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٦١]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
إذا جاءت الأعذار سهل الامتحان والاختيار، وإذا حصلت القرابة سقطت الحشمة، وإذا صدقت القرابة انتفت التفرقة والأجنبية فبشهادة هذه الآية إذا انتفت هذه الشروط صحّت المباسطة فى الارتفاق.
(١) ذكر ابن عباس أن الرسول (ص) وجّه غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر ابن الخطاب رضى الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فقال:
يا رسول الله: وددت لو أن الله تعالى أمرنا ونهانا فى حال الاستئذان، فنزلت هذه الآية.
وقال مقاتل نزلت فى أسماء بنت مرند حين دخل عليها غلام كبير فى وقت كرهته فشكت إلى رسول الله.
فانزل الله هذه الآية.
(٢) بنات الصدور تعبير بالكناية عن الأسرار والخواطر.
ثم قال: «أَوْ صَدِيقِكُمْ» : وعزيز من يصدق فى الصداقة فيكون فى الباطن كما يرى فى الظاهر، ولا يكون فى الوجه كالمرآة ومن ورائك كالمقراض، وفى معناه ما قلت:
من لى بمن يثق الفؤاد بودّه فإذا ترحّل لم يزغ عن عهده
يا بؤس نفسى من أخ لى باذل حسن الوفاء بوعده لا نقده
يولى الصفاء بنطقه لا خلقه ويدسّ صابا فى حلاوة شهده
فلسانه يبدى جواهر عقده وجنانه تغلى مراجل حقده
لاهمّ إنى لا أطيق مراسه بك أستعيذ من الحسود وكيده
(وقوله: «أَوْ صَدِيقِكُمْ» من تؤمن منه هذه الخصال وأمثالها) «١».
قوله جل ذكره: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ السلام الأمان، وسبيل المؤمن إذا دخل بيتا أن يسلّم من الله على نفسه أي يطلب الأمان والسلامة من الله لتسلم نفسه من الإقدام على ما لا يرضاه الله، إذ لا يحل لمسلم أن يفتر لحظة عن الاستجارة بالله حتى لا يرفع عنه- سبحانه- ظلّ عصمته بإدامة حفظه عن الاتصاف بمكروه فى الشرع «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)
(١) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود فى م.
(٢) فى هذه الإشارة غمز بأصحاب البدع الذين يرتكبون ما يخالف الشرع بدعوى الوله والانمحاء
شرط الاتباع موافقة المتبوع، وألا يتفرقوا فيصيروا أحزابا كما قال: «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» «١» والعلماء ورثة الأنبياء، والمريدون لشيوخهم كالأّمة لنبيّهم فشرط المريد ألا يتنفّس ينفس إلا بإذن شيخه، ومن خالف شيخه فى نفس- سرّا أو جهرا- فإنه يرى غبّه سريعا فى غير ما يحبّه. ومن خالفة الشيوخ فيما يستسرونه «٢» عنهم أشدّ ممّا يظهر بالجهر بكثير لأن هذا يلتحق بالخيانة. ومن خالف شيخه لا يشمّ رائحة الصّدق، فإن بدر منه شىء من ذلك فعليه بسرعة الاعتذار والإفصاح عمّا حصّل منه من المخالفة والخيانة، ليهديه شيخه إلى ما فيه كفّارة جرمه، ويلتزم فى الغرامة بما يحكم به عليه. وإذا رجع المريد إلى شيخه بالصدق وجب على شيخه جبران تقصيره بهمته فإن المريدين عيال على الشيوخ فرض عليهم أن ينفقوا عليهم من قوّة أحوالهم بما يكون جبرانا لتقصيرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٣]
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)
أي عظّموه فى الخطاب، واحفظوا فى خدمته الأدب، وعانقوا طاعته على مراعاة الهيبة والتوقير.
قوله جل ذكره: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ «٣» أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
(١) آية ١٤ سورة الحشر.
(٢) فى ص (يستبشرونه) وفى م (يستسترونه) ونحن نؤيد هذه حتى تتلاءم مع (ما يظهر بالجهر) فينتظم السياق بها.
(٣) يقال خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه.
سعادة الدارين فى متابعة السّنّة، وشقاوة المنزلين فى مخالفة السّنّة. ومن أيسر ما يصيب من خالف سنته حرمان الموافقة، وتعذّر المتابعة بعده، وسقوط حشمة الدارين عن قلبه.
قوله جل ذكره:
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٤]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
«١» «٢» إنّ لليوم غدا، ولمّا يفعل العبد حسابا، وسيطالب المكلّف بالصغير والكبير، والنقير والقطمير.
سورة الفرقان
قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله اسم جليل شهدت بجلاله أفعاله، ونطقت بجماله أفضاله. دلّت على إثباته آياته، وأخبرت عن صفاته مفعولاته.
بسم الله اسم عزيز عرفت بفعله قدرته، اسم كريم شهدت بفضله نصرته.
بسم الله اسم عزيز عرفه العقلاء بدلالات أفعاله، وعرفه الأصفياء باستحقاقه لجلاله وجماله فبلطف جماله عرفوا جوده، وبكشف جلاله عرفوا وجوده.
بسم الله اسمه عزيز من دعاه لبّاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن توسّل إليه أكرمه وآواه، ومن تنصّل إليه «٣» رحمه وأدناه، ومن شكا إليه أشكاه «٤»، ومن سأله خوّله وأعطاه.
(١) وفى قراءة (يرجعون) بفتح الياء وكسر الجيم.
(٢) يروى أن ابن عباس رضى الله عنه قرأ سورة النور على المنبر فى الموسم وفسرها على وجه لو سمعت الروم به لأسلمت. [.....]
(٣) تنصل إليه هنا معناها تبرأ من ذنبه وتاب.
(٤) أشكى أي قبل الشكاة وأعان الشاكي.
Icon