هذه السورة مدنية كلها. وقد كانت تعدل سورة البقرة ؛ إذ كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه، أو نسخ لفظه دون حكمه، كآية الرجم " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " وقد استدل العلماء بذلك على أن الله تعالى رفع من سورة الأحزاب ما يزيد عل ما في أيدينا.
وقد روي عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي مرة. فلما كتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي الآن. على أن سورة الأحزاب حافلة بالأحكام والمواعظ والعبر وغير ذلك من ألوان التذكير والتنبيه والتحذير والتنديد والوعيد. ويحتل الحديث عن المنافقين شطرا كبيرا من السورة. فقد آذى المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يلمزون المسلمين في سلوكهم وأخلاقهم فشدد الله عليهم النكير وتوعدهم ببالغ عذابه في الدنيا والآخرة.
وفي السورة تنديد بالظهار والذين يظاهرون من نسائهم. وخصلة الظهار ابتدعها الجاهليون نكاية بالمرأة وعدوانا عليها، فمن تلبَّس بذلك فقد احتمل زورا وعليه بذلك التوبة والكفارة.
وفي السورة ترسيخ لأحقية أولي الأرحام بالصلة والبر والعطاء. وفيها بيان بحال المسلمين في غزوة الأحزاب وقد أحاط بهم المشركون بعد أن اجتمعوا عليهم من كل مكان، فضلا عن ممالأة أهل الكتاب للمشركين، ونقضهم العهد مع المسلمين. إلى غير ذلك من مختلف المعاني والأحكام.
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ١ ) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ٢ ) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾يأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتقواه وهو الخوف من جلاله العظيم وما يقتضيه ذلك من طاعة الله والتزام شرعه وأوامره ومجانبة نواهيه. وقد نهاه الله أيضا عن طاعة الكافرين والمنافقين وحذره خداعهم ومكرهم، وما يبتغونه له من تخذيل وتثبيط ومداهنة. وقد ذكر أن هذه الآيات نزلت في أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الأعور عمرو بن سفيان، إذ نزلوا المدينة على عبد الله بن أُبيّ ابن سلول رأس المنافقين بعد أحد وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا اللات والعُزّى ومناة، وقل إن لها شفاعة ومنعة لمن عبدها وندعك وربك، فشق على النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا : فقال عمر : يا رسول الله ائذن لي في قتلهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني قد أعطيتهم الأمان ". فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من المدينة فنزلت الآية١.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ إن الله لذو علم بما تكنه صدور هؤلاء الماكرين المخادعين، وهو يعلم كذلك ما يبتغونه لك من إظهار النصيحة. وهو كذلك حكيم في تدبيره أمرك وأمر عبادك جميعا، فاحذر هؤلاء المكذبين أن يفتنوك عن دين الله فتطريَ أصنامهم وآلهتهم المصطنعة، وتطرد المؤمنين الضعفاء من عندك طمعا في مجالستهم لك.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ ذلك تأكيد من الله بأنه يعلم ما يفعله العباد أو يقولونه من خير أو شر. فما يصدر عن بني آدم في السر والعلن لهو ظاهر لله وغير خاف عليه. وهو سبحانه مجازيهم على كل ذلك.
قوله :﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾ أي حسبك الله حفيظا، يحفظك من السوء والمكاره، ويدفع عنك أذى المشركين المتربصين١.
نزلت في جميل بن معمر الفهري، وكان رجلا حافظا لما سمع فقالت قريش : ما حفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان. وكان يقول : إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما من عقل محمد صلى الله عليه وسلم. فلما كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر، تلقاه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله. فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس ؟ قال : انهزموا. قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك ؟ قال : ما شعرت إلا أنهما في رجلي، وعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده١.
وقيل : هذه الآية نزلت مثلا ضربه الله للذي يظاهر من أمه. فكما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه فيكون له أمان.
وكذلك لا يكون الدعي ابنا لرجلين. وقيل : لا يجتمع الكفر والإيمان بالله في قلب واحد، كما لا يجتمع قلبان في جوف واحد. ولذلك لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب رجل واحد. فما يحتمل القلب في المرء إلا صنفا واحدا، فإما الإيمان أو الكفر. وإما الهدى أو الضلال. والأظهر أن الآية تعم ذلك كله.
قوله :﴿ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ ﴿ تُظَاهِرُونَ ﴾ من الظهار، وهو قول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي. والمعنى : ما جعل الله نساءكم اللائي تقولون لهن إن أمهاتكم كأمهاتكم في التحريم ؛ بل إن هذا القول منكم لأزواجكم كذب ومنكر وزور ؛ فيلزمكم بسببه كفارة عقوبة لكم.
قوله :﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ﴾ أجمع أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام قد تبنّاه قبل النبوة فكان يقال له : زيد بن محمد. فأراد الله أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله :﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ﴾ أدعياء جمع دعي وهو الذي يُدعى إلى غير أبيه أو يدعيه غير أبيه، من الدِّعوة بكسر الدال، أي ادعاء الولد الدعيّ غير أبيه٢.
قال ابن العربي في ذلك : كان الرجل يدعو الرجل ابنا إذا ربَّاه كأنه تبناه أي يقيمه مقام الابن. فردّ الله قولهم ؛ لأنهم تعدَّوا به إلى أن قالوا : المسيح ابن الله، وإلى أن يقولوا : زيد بن محمد. فمسخ الله هذه الذريعة، وبت حبلها، وقطع وصلها بما أخبر من إبطال ذلك٣
قوله :﴿ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾ يعني هذا القول، وهو قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي وادعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه، إنما هو مجرد قول بأفواهكم ولا حقيقة له ؛ فإنه لا يثبت بهذه الدعوى نسب ولا تصير الزوجة أمّا، بقول الرجل لها : أنت عليّ كظهر أمي.
قوله :﴿ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ ﴾ ما يقوله الله في ذلك عدل وصدق. وهو جدير بالاعتبار دون غيره من أقوال الجاهلين الباطلة.
قوله :﴿ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ الله يبين للناس طريق الحق، ويهديهم سبيل الرشاد٤.
٢ المصباح المنير ج ١ ص ٢٠٨..
٣ أحكام القرآن لابن العربي ج ٥ ص ١٤٩٢..
٤ تفسير الطبري ج ٢١ ص ٧٥-٧٦ وفتح القدير ج ٣ ص ٢٦٠.
.
نزلت هذه الآية في زيد بن حارثة كما بيناه آنفا. وفي ذلك كان ابن عمر يقول : ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد. وهذا يدل على أن التبني كان معمولا به في الجاهلية وبعض من الوقت في الإسلام. وكانوا يتوارثون به ويتناصرون حتى نسخ الله ذلك بقوله :﴿ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾
أي انسبوا هؤلاء الأدعياء الذين ألحقتم أنسابهم بكم – لآبائهم. فوجب بذلك أن يُنسب زيد لأبيه حارثة، فلا يدعي : زيد بن محمد. وذلك عند الله أعدل وأصوب وأصدق من دعائكم إياهم لغير آبائهم.
قوله :﴿ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ يعني إذا لم تعلموا من هم أدعيائكم لتنسبوهم إليهم فهم إخوانكم في الدين ؛ أي ينادي أحدكم الدعي بقوله : يا أخي. والمقصود أخوة العقيدة والدين لا أخوة النسب. ﴿ وَمَوَالِيكُمْ ﴾ أي أولياؤكم في الدين. فليقل أحدكم : هذا أخي وهذا مولاي. ويا أخي ويا مولاي، يريد بذلك الأخوة في الدين والولاية فيه.
قوله :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾ أي لا بأس عليكم، ولا إثم فيما وقعتم فيه من الخطأ بنسبة بعض الأدعياء إلى آبائهم وأنتم تحسبون أنهم أبناؤهم وهم في الحقيقة أبناء لغيرهم. فلو دعوت رجلا إلى غير أبيه وأنت ترى أنه أبوه فلا بأس عليك في ذلك.
قوله :﴿ وَلَكِنْ مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ ﴿ مَّا ﴾، في موضع رفع على الابتداء. وتقديره : ولكن ما تعمدت قلوبكم يؤاخذكم به. وقيل : في موضع جر بالعطف على ﴿ مَّا ﴾ في قوله تعالى :﴿ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾ ١
والمعنى : ولكن الإثم والحرج عليكم فيما نسبتموه إلى غير أبيه، وأنتم تعلمون أنه ابن لغير ما تنتسبونه إليه.
قوله :﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ الله يستر الذنب على من ظاهر زوجته فقال الباطل والزور من القول، وكذلك يستره على من ادعى ولد غيره ابنا له، إذا تابا وأنابا وانتهيا عن قول المنكر والزور من الكلام. الله جل وعلا يتجاوز بفضله عن سيئاتهما ويرحمهما برحمته فلا يعاقبهما على ما بدر منهما بعد توبتهما٢.
٢ الكشاف ج ٣ ص ٢٥٠ وفتح القدير ج ٣ ص ٢٦٠ وتفسير الطبري ج ٢١ ص ٧٦ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ١١٩-١٢٠..
يبين الله م كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من بالغ الشفقة والرحمة بأمته وما كان عليه من شديد الحرص عليهم والنصح لهم. لا جرم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد العالمين حدبا ورأفة واهتماما بالمسلمين، بل بالبشرية كافة. وهو عليه الصلاة والسلام حريص على هداية الناس وإيمانهم ؛ لكي يستقيموا وتصلح حالهم، فتكتب لهم النجاة والسلامة والصلاح في الدنيا والآخرة ؛ فهو بذلك أولى بالمؤمنين من أنفسهم فضلا عن كونه أولى بهم من غيرهم، فوجب على المسلمين بذلك أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم ؛ وأن يقدموه فيما دعاهم إليه، ويؤخروا ما دعتهم إليه أنفسهم، وأن يحبوه أعظم الحب أكثر من حبهم أنفسهم. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " وكذلك جاء في الصحيح أن عمر ( رضي الله عنه ) قال : يا رسول الله والله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي فقال صلى الله عليه وسلم : " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال : يا رسول الله لأنت أحبُّ إلي من كل شيء حتى من نفسي. فقال صلى الله عليه وسلم : " الآن يا عمر ".
وروى البخاري عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة. اقرؤوا إن شئتم ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا. وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه ".
وأخرج الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " أنا أولى مؤمن من نفسه، فأيما رجل مات وترك دينا فإليّ، ومن ترك مالا فهو لورثته ".
قوله :﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ ذلك تشريف من الله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ جعلهن أمهات المؤمنين. وذلك في وجوب التوقير والاحترام والإعظام وحرمة النكاح على الرجال. لكن لا تجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع، بل إن هذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة النبي.
قوله :﴿ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ﴾ المراد بكتاب الله، القرآن أو هو حكم الله. والمعنى : أن أولي القرابات أولى بالتوارث في حكم الله، من المهاجرين والأنصار وهذا نسخ للتوارث بالهجرة ؛ فقد كانوا من قبل يتوارثون بالحِلف، والمؤاخاة في الدين، التي كانت بينهم. قال ابن عباس في ذلك : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قرابته وذوي رحمه ؛ للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذا قال آخرون من السلف والخلف. فقد روي عن الزبير بن العوام ( رضي الله عنه ) قال : أنزل الله عز وجل فينا خاصة معشر قريش والأنصار ﴿ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نِعْمَ الإخوانُ، فواخيناهم ووارثناهم. فآخى أبو بكر ( رضي الله عنه ) خارجة بنت زيد، وآخى عمر ( رضي الله عنه ) فلانا، وآخى عثمان ( رضي الله عنه ) رجلا من بني زريق، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة فرجعنا إلى مواريثنا.
قوله :﴿ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا ﴾ يعني، إلا أن توصوا لذوي قراباتكم من غير أهل الإيمان والهجرة. فقد ذهب الميراث، وبقي البر والإحسان والصلة والوصية. وقيل : نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني. أي يُفعل هذا مع الولي القريب وإن كان كافرا. فالمشرك وليّ في النسب لا في الدين فيوصى له بوصية.
قوله :﴿ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ المراد بالكتاب اللوح المحفوظ. وقيل : القرآن. و ﴿ مَسْطُورًا ﴾ يعني مكتوب. سطرت الكتاب سطرا أي كتبته. ويجمع السطر على أسطر وسطور١.
والمعنى : أن هذا الحكم وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض مكتوب ومُثبت من الله في كتابه الأزلي الذي فيه علم الأولين والآخرين، فهو لا يأتي عليه التغيير أو التبديل٢
وتخصيص أولي الأرحام والقرابات بالميراث، مراعاة حقيقة وكبرى لفطرة الإنسان الذي جُبل على حب ذويه أولي القربى والميل إليهم بشدة واحترار. والإنسان قد جُعلت في أعماقه مودة مطبوعة ؛ لأقربائه من البنين والبنات والآباء والأمهات والأجداد والجدات والأعمام والعمات والأخوال والخالات. أولئك يميل الطبع البشري إليهم ؛ ليفيض عليهم بالرأفة والرقة والحدْب والتحتان. فلا جرم أن هذه مزية أصلية ومفطورة من مزايا الإسلام العظيم، وهي خِصِّيصة من خصائص الإسلام تشهد له بالصلوح للبشرية في كل زمان.
٢ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٦٨ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٢٦..
الميثاق : معناه العهد والوصية١ فقد كان مسطورا في كتاب الله أخْذُه من النبيين عهدهم على إقامة الدين وإبلاغ رسالته للناس، وأن يتعاونوا ويتناصروا فيما بينهم، وأن يصدق بعضهم بعضا. وذلك إخبار من الله عن العهد الذي أخذه على أولي العزم من الرسل وبقية النبيين المرسلين، وقد نصّ من بينهم على الخمسة أولي العزم من باب العطف الخاص على العام.
قوله :﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ الميثاق ههنا تأكيد للميثاق الأول. والميثاق العهد، وقيل : اليمين. فقد أخذ الله على النبيين عهدا وثيقا على الوفاء بما التزموه من تبليغ الرسالة وأن يصدق بعضهم بعضا.
.
قوله :﴿ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ ذلك تخويف من الله ووعيد منه للكافرين الذين كذبوا الرسل، وأبوا إلا الجحود بأن لهم عذابا أليما وهي النار وبئس المهاد والقرار١.
.
المراد بذلك غزوة الخندق والأحزاب. وفي الآية هذه إخبار من الله عما أنعم به على عباده المؤمنين ؛ إذ أعقبهم نصرا من عنده ونجاة وتوفيقا بعد ما نزل بهم من بالغ الحرج وشديد الكرب والخوف. فقد تألب عليهم الكافرون وتحزَّبوا عام الخندق. وذلك في شوال عام خمسة من الهجرة وهو المشهور. وكان سبب قدوم الأحزاب أ فرا من أشراف يهود بني النضير الذين كانوا قد أجلوا من المدينة إلى خيبر منهم سلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع، خرجوا إلى مكة فاجتمعوا بأشراف قريش وألَّبوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، ووعدوهم أن يناصروهم ويعينوهم، وظلوا يحرضونهم على ذلك حتى أجابوهم فخرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم كذلك. وخرجت قريش في أحابيشها وأتباعها بقيادة أبي سفيان صخر بن حرب. وكانوا جميعا عشرة آلاف رجل. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرتهم إليه أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق، وذلك بإشارة من سلمان الفارسي ( رضي الله عنه ) فعمل فيه المسلمون جادين مجتهدين، ونقل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب وحفر. ثم جاء المشركون ونزلوا شرقي المدينة قريبا من أحد ونزلت طائفة منهم في أعالي أرض المدينة. وهو قوله سبحانه وتعالى :﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ﴾ وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين وهم نحو من ثلاثة آلاف رجل وقيل : سبعمائة. وكانت بنو قريظة وهم طائفة من اليهود لهم حصن شرقي المدينة ولهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم وذمة وهم قريب من ثمانمائة مقاتل فذهب إليهم حيي بن أخطب النضري فلم يَزلْ بهم حتى نقضوا العهد ومالأوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعظم الخطبُ على المسلمين واشتد الأمر وضاق بهم الحال ضيقا عظيما وأحاط بهم من لكروب والأهوال ما أحاط. ويدل على ذلك قوله سبحانه :﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا ﴾.
وفي مثل هذه الأحوال من اشتداد الكروب والأهوال تتجلى همم الرجال وعزائم الأبطال. فهم الصحابة الغُرُّ الأشاوس التفوا من حول رسول لله صلى الله عليه وسلم ثابتين صابرين، وهم يتحدَّون المخاطر وكيد الظالمين والمتربصين والخائنين. وحينئذ يستبين الخائرون الخاسرون وهم المنافقون الذي تنثني صدورهم على الغش والخيانة للإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم. فقد نكص هؤلاء المنافقون على أعقابهم وجعلوا يتسللون لواذا. ولقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون محاصرين في المدينة قريبا من شهر دون أن يصلهم المشركون، ولم يقع بينهم قتال إلا أن عمرو بن عبد وَدّ العامري، وكان من الفرسان الشجعان المشهورين في الجاهلية، قد ركب ومعه فوارس فاقتحموا الخندق ونفذوا إلى ناحية المسلمين فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل المسلمين إليه. ويقال إنه لم يبرز إليه أحد. فأمر عليّا ( رضي الله عنه ) فخرج إليه فتجاولا ساعة فقتله علي ( رضي الله عنه ) وكان ذلك علامة النصر.
ثم أرسل الله عز وجل على الأحزاب ريحا شديدة عاصفة فلم يبق لهم خيمة ولا شيئا إلا قلبته أو أكفأته. وبذلك لم يستقر لهم قرار فبادروا للرحيل خائبين خاسرين. وفي ذلك يقول سبحانه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ﴾ والمراد بالجنود غير المرئية، الملائكة فقد بعثها الله على هؤلاء الظالمين لتمزيق صنعهم وتبديد شملهم فقلعوا أوتاد بيوتهم وقطعوا فساطيطهم، وأطفئوا قدورهم، وجالت الخيل بعضها في بعض، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وتعالت في المعسكرات صيحات الملائكة وهي تردد، الله أكبر. حتى كان سيد كل خباء١ يقول : يا بني فلان هلم إلي. فإذا اجتمعوا قال لهم : النجاء النجاء٢. وذلك بما بعث الله عليهُم من الرعب.
قوله :﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ الله عليهم بأعمال المسلمين لما تمالأت عليهم أحزاب الكفر والباطل. والمراد بأعمالهم صبرهم على كيد المعتدين وعلى ما كانوا فيه من الجهد والشدة، وما كانوا عليه من الثبات وفرط الشجاعة واشتداد العزم في وجه أعدائهم الظالمين. الله تعالى بصير بذلك كله ولا تخفى عليه منه خافية.
.
٢ النجاء: اسم للفعل نجا ينجو من الهلاك نجاة. أي خلص. لمصباح المنير ج ٢ ص ١٧٥.
قوله :﴿ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ ﴾ أي شخصت من شدة الخوف، وفرط الهول والحيرة والفزع ﴿ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ﴾، جمع حنجرة وهي جوف الحلق ؛ أي زالت القلوب عن أماكنها من الصدور حتى بلغت الحناجر وهي الحلاقيم ؛ والمراد أن قلوبهم قد اضطربت اضطرابا شديدا من هول ما أصابهم من الذعر. وهو مَثَل مضروب في شدة الخوف.
قوله :﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴾ أي تظنون الظنون المختلفة ؛ فقد ظن المنافقون أن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يُستأصلون، وأيقن المؤمنون الصادقون أن ما وعد الله رسوله حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون٢
٢ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٧٠-٤٧٢ وفتح القدير ج ٣ ص ٢٦٥.
﴿ هُنَالِكَ ﴾ للبعيد، وهنا للقريب. وهنا للوسط. أي عند ذلك امتُحن المؤمنون أصعب امتحان ليستبين فيهم المخلصون من المنافقين والذين في قلوبهم مرض. لقد ابتُلوا بالضيق والكرب والجوع والفزع والحصار والقتال ﴿ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا ﴾ أي اضطربت نفوسهم أيَّما اضطراب، وأصابهم من الشدة والبأس والهول ما أصابهم.
قوله :﴿ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ ﴾ أي يستأذنوه في الرجوع إلى بيوتهم في المدينة وهم يصطنعون لأنفسهم العذر في ذلك وهو قوله :﴿ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ﴾ أي فيها خلل لا يأمن صاحبُها السارق على متاعه. أو سائبة وغير حصينة. أو معوَّرة وذات عورة إذا كان يسهل دخولها١
قوله :﴿ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ﴾ ذلك تكذيب لهم من الله وردّ منه لما تذرعوا به مما ذكروه من عورة بيوتهم، وإنما يبتغون الفرار من وجه المشركين لما استحوذ عليهم الشيطان فأفزعهم أيما إفزاع. وهو قوله :﴿ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا ﴾ أي ما يريد هؤلاء الخائرون المرجفون إلا الهرب من مواجهة المشركين٢.
٢ تفسير الرازي ج ٢٥ ص ٢٠٠ والكشاف ج ٣ ص ٢٥٣-٢٥٤.
يبين الله مدى الخور الذي استحوذ على نفوس هؤلاء الذين في قلوبهم نفاق أو شك، القائلين إن بيوتنا عورة. والأقطار جمع قطر بضم القاف ويعني الجانب أو الناحية١ والمعنى : لو أن هؤلاء الخائرين الجبناء دُخلت عليهم المدينة من كل جانب من جوانبها أو ناحية من نواحيها ﴿ ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ ﴾ أي سُئلوا الرجوع إلى الكفر أو الشرك ﴿ لَآَتَوْهَا ﴾ أي لفعلوا ما سُئلوا فرجعوا عن الإسلام إلى الكفر ﴿ وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا ﴾ أي ما احتسبوا عن استجابتهم للكفر إلا قليلا. فبادروا الرجوع للشرك مسرعين وذلك لما يكمن في نفوسهم من النفاق.
قوله :﴿ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً ﴾ الله سائلهم يوم القيامة عن عهدهم الذي التزموه وهو ثباتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه وعدم فرارهم عند لقاء العدو.
.
قوله :﴿ وَإِذًا لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أي بعد فراركم لا تُمتعون في دنياكم إلا مدة قصيرة وهي أن تجيء آجالكم، وإنما الدنيا كلها قليل.
قوله :﴿ وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ﴾ إذا أراد الله بهؤلاء المنافقين والمرتابين الهاربين من وجه العدو، إهلاكا، فلن يجدوا لهم من دون الله قريبا ينفعهم أو ناصر ينصرهم١.
ذلك إخبار من الله عن إحاطة علمه بالمعوِّقين الذين يصدون الناس عن دين الله ويصرفونهم عن شهود القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نقول : عاقه عوقا وعوَّقه، أي منعه١ فهؤلاء منافقون مثبّطون كانوا يصدون الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكرِّهون إليهم متابعته في قتال المشركين، ويخذِّلونهم عن الإسلام وأهله تخذيلا.
قوله :﴿ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾ ﴿ هَلُمَّ ﴾، بمعنى أقبل. وها، للتنبيه، ضُمت إليها لمَّ، ثم حذفت الألف استخفافا وبنيت على الفتح ؛ أي تعالوا إلينا وفارقوا محمدا ودعوه وشأنه ولا تشهدوا نعه قتالا أو حربا فإنا نخشى عليكم الهلاك بهلاكه.
قوله :﴿ وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أي لا يشهدون الحرب أو القتال إلا تعذيرا أو رياء وسمعة.
على أن الذين قالوا لإخوانهم ﴿ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾ هم المنافقون ؛ إذ قالوا للمسلمين – على سبيل التخذيل والتثبيط – ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس – أي قلة يشبعهم رأس واحد فهو والذين معه هلكى، فهلم إلينا. وقيل : قائل ذلك يهود بني قريظة. فقد قالوا لإخوانهم المنافقين – على سبيل الترويع – هلم إلينا. أي أقبلوا إلينا ودعوا محمد وأصحابه فإنهم هالكون، ولئن ظفر بهم أبو سفيان فلن يبقي منهم أحدا.
وقيل : هذا يوم الأحزاب إذ انصرف رجل مؤمن من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه بين يديه شواء ونبيذ، فقال له : أنت ههنا في الشواء والرغيف والنبيذ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف. فقال : هلم إلى هذا فقد بلغ بك وبصاحبك – أي قد أحبط بك وبصاحبك. فقال له أخوه : كذبت أما والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم أمرك. وذهب إليه ليخبره فوجده قد نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله :﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾ الآية.
.
قوله :﴿ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾ وهذا وصف كامل وحكيم لهؤلاء الجبناء الخائرين، فإنهم إذ وقع القتال وحصل بسببه الخوف ﴿ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ﴾ جملة فعلية في موضع نصب على الحال ﴿ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ ﴾ جملة فعلية، حال بعد حال١. أي لفرط خوف هؤلاء المنافقين وما غشيهم من شديد الفزع تدور أعينهم يمينا وشمالا كأنما سُلبت عقولهم فهم ﴿ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾ أي تدور أعينهم دورانا كدوران عين الذي يُغشى عليه الموت. فحال هؤلاء الرعاديد، إذا حضر القتال ووقع الخوف كحال الذي يغشاه الموت فإنه يذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرف.
قوله :﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾ ﴿ سَلَقُوكُمْ ﴾، أي خاطبوكم بما تكرهون٢ فإذا وقف القتال وانقطعت الحرب واطمأن المنافقون والذين في قلوبهم مرض عضوكم بألسنة ذَرِبة فأسمعوكم من الكلام ما يؤذيكم، أو بالغوا في مخاصمتكم والاحتجاج عليكم. وقيل : بسطوا ألسنتهم فيكم عند قسمة الغنيمة قائلين : أعطنا، أعطنا ؛ فإنا قد شهدنا معكم. فعند الغنيمة أشح قوما وأبسطهم لسانا، ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم.
قوله :﴿ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْر ﴾ ﴿ أَشِحَّةً ﴾، منصوب على الحال من الواو في ﴿ سلقوكم ﴾ ٣ أي أنهم أشحة على الغنيمة، فهم يشاحون المسلمون عند القسمة. وقيل : أشحة على المال أن ينفقوه في سبيل الله. أو هم بخلاء في بذل الخير على اختلاف وجوهه.
قوله :﴿ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي هؤلاء الذين تبينت صفاتهم من الشح والجبن والخور وفساد القلب وتثبيط المسلمين ﴿ لَمْ يُؤْمِنُوا ﴾ أي لم تؤمن قلوبهم وإن كان ظاهرهم الإيمان بما تنطقه أفواههم ؛ فهم بذلك كافرون ﴿ أَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي لم يجزهم الله عليها خيرا، ولم يؤجروا عليها ؛ لأنهم منافقون لا يقصدون وجه الله.
قوله :﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ يعني إحباط أعمالهم التي عملوها هين على الله٤.
٢ المصباح المنير ج ١ ص ٣٠٦.
٣ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٦٦
.
٤ تفسير الطبري ج ٢١ ص ٩٠ وفتح القدير ج ٣ ص ٢٧٠.
هؤلاء المنافقون والذين في قلوبهم مرض – لفرط جبنهم – أن الأحزاب، وهم قريش وغطفان وغيرهم من الكافرين ﴿ لَمْ يَذْهَبُوا ﴾ أي لم ينصرفوا، وكانوا قد انصرفوا.
قوله :﴿ وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابَ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ ﴾ أي إن يأتِ المشركون لقتال المسلمين فإن المنافقين يتمنون ﴿ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ ﴾ ﴿ بَادُونَ ﴾ أي خارجون في البادية١. بدا فلان يبدو إذا صار في البدو فهو باد.
وأما الأعراب فهم جمع أعرابي. وأما العرب فهم جمع عربي. وإنما قيل أعراب لأهل البدو فرقا بين أهل البوادي والأمصار. فالأعراب أهل البادية والعرب أهل المصر.
قوله :﴿ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ ﴾ هؤلاء المنافقون الجبناء يستخبرون الناس عن أخباركم وعما جرى لكم وهم في البادية، فيتحدثون : هل هلك محمد وأصحابه. فهم يتمنون سماع الأخبار بهلاككم وهم بعيدو عنكم.
قوله :﴿ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أي لو كانوا هؤلاء المنافقون فيكم وخلال صفكم ما نفعوكم بشيء وما قاتلوا المشركين إلا تعذيرا كأنْ يرموا بالحجارة أو النبل على سبيل الرياء.
الأسوة، بكسر الهمزة وضمها وتعني القدوة. وتأسيت به أي اقتديت١ وفي هذا عتاب من الله للذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عسكره بالمدينة. وإنما ينبغي أن يتأسى المؤمنون برسولهم الكريم فلا يخذلوه، ولا يتخلوا عن شيء من سننه وشمائله، وأن يمضوا على نهجه وخلقه في المصابرة والمرابطة والمجاهدة والحلم وكمال الإقبال على الله.
والمعنى : كان لكم أيها الناس قدوة حسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتأسوا به وتقتفوا آثاره فيما يقول أو يفعل، وتكونوا معه حيث كان مهتدين بهديه، سالكين سبيله الحق. وفي ذلك هداية لكم ومنجاة في حياتكم هذه ويوم معادكم. وذلك كله ﴿ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ أي يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم تمام التأسي، ويقتدي به حق الاقتداء. من كان يبتغي وجه الله فيرجوا ثوابه ورحمته في الآخرة ويذكره ذكرا كثيرا في كل الأحوال، من الأمن والخوف، أو الضيق والرخاء.
في سبب نزول هذه الآية روى الإمام أحمد عن أنس ( رضي الله عنه ) أن عمه أنس بن النضر ( رضي الله عنه ) لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فشقّ عليه وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرينَّ الله عز وجل ما أصنع، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله عز وجل ما أصنع، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فاستقبل سعد بن معاذ ( رضي الله عنه ) فقال أنس ( رضي الله عنه ) : يا أبا عمرو أين ؟ واهًا لريح الجنة إني أجده دون أحُد، فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه. قال : فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية. فقالت أخته عمتي الرُّبَيِّع ابنة النضر، فما عرفت أخي إلا ببنانه، فنزلت الآية١.
وفي رواية أخرى عن أنس قال : غاب عمي أنس بن النضر – وبه سميت أنسا – عن قتال بدر، فشقَّ لما قدم وقال : غبت عن أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله لئن أشهدني الله سبحانه قتالا ليَريَنّ اللهُ ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال : اللهم إني أبرأ مما جاء به هؤلاء المشركون، وأعتذرُ إليك فيما صنع هؤلاء – يعني المسلمين – ثم مشى بسيفه فلقيه بن معاذ فقال : أي سعد والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد. فقاتلهم حتى قتل. قال أنس : فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة من بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح ورمية بالسهم، وقد مثلوا به. وما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه.
فنزل قوله :﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ ٢ ﴿ ما ﴾، مصدرية، وهي في موضع نصب بقوله :﴿ صَدَقُوا ﴾ وتقديره : صدقوا الله في العهد٣.
والمعنى : أن من المؤمنين المخلصين رجالا صَدَقوا العهد مع الله، وأوفوا ما عاهدوا الله عليه من الثبات على الحق والقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه انتصارا لدين الله ودفعا للفتنة والعدوان أن يصبيا المسلمين ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ﴾ أي مات أو قتل في سبيل الله. وأصل النحب الوفاء بالنذر٤. فقد ذكر أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نذروا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد وحمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وغيرهم رضي الله عنهم. فمن هؤلاء من أوفى بنذره فمات شهيدا في أحد كحمزة ومصعب وأنس بن النضر ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ﴾ أي ينتظر قضاء نحبه وهو حضور الأجل. يعني عثمان وطلحة والزبير وأمثالهم من المؤمنين المخلصين الأبرار.
قوله :﴿ وما بدلوا تبديلا ﴾ أي ما غيَّروا عهدهم الذي عاهدوا الله عليه من الثبات على الحق، والمضي على دينه القويم، وعدم الزيغ عن صراط الله ومنهجه المستقيم. ذلك هو شأن المؤمنين المخلصين الذين احْتَلَفَتْ٥ قلوبهم بالحب لله ولرسوله وللإسلام والمسلمين والذين يخشون أشد الخشية أن يحيق بالإسلام عدوان من معتدين فجار، أو ينزل بالمسلمين فتنة من الفتن التي تجتالهم عن دينهم بفعل الأشقياء الأشرار من شياطين البشر الذين يتمالأون على الإسلام والمسلمين في كل الآناء والأنحاء. أولئك هم المؤمنون المخلصون الأبرار الثابتون على الحق، الماضون على صراط الله، الذين لم يترددوا في دينهم ولم يستبدلوا به غيره، ولم يغيروا من اهتماماتهم أو سلوكهم أو مساعيهم في سبيل الله، ولم يبدلوا من قناعاتهم وتصوراتهم الراسخة النيِّرة. بل هم ثابتون مستمرون في طريق الله حتى يلقوا ربهم مرضيين، غير مفتونين ولا مُبدّلين ولا مستيئسين. جعلنا الله منهم.
٢ أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٣٨.
٣ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٦٧.
٤ المصباح المنير ج ٢ ص ٢٣٦..
٥ احتفلت: امتلأت. انظر المصباح المنير ج ١ ص ١٥٤.
قوله :﴿ ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم ﴾ أي يعذبهم إن شاء بسبب كفرهم ونفاقهم إن لم يتوبوا، أو يتوب عليهم من كفرهم ونفاقهم بهدايتهم للإيمان والتوبة قبل أن يموتوا ﴿ إنّ الله كان غفورا رحيما ﴾ الله يستر على ذنوب عباده التائبين، وهو رحيم بهم أن يعاقبهم بعد أن يتوبوا.
قوله :﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ﴾ كفهم الله القتال بجنود الملائكة وبالريح العاصف الذي أعمى أبصارهم وبدد شملهم، والمسلمون حينئذ آمنون سالمون : إذ لم يحتاجوا إلى منازلتهم أو قتالهم لإخراجهم من وطنهم بل كفاهم الله ذلك فردهم مذعورين متفرقين خزايًّا. وفي الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى ( رضي الله عنه ) قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال : " اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم ".
وبعد غزوة الخندق لم يقم المشركون بغزو المسلمين بل غزاهم المسلمون في بلادهم. وفي هذا روى الإمام أحمد عن سليمان بن صرد ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : " الآن نغزوهم ولا يغزونا "
قوله :﴿ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ الله قوي قادر على فعل ما يشاء وعلى نصر جنده المؤمنين، والله عزيز لا يغلبه غالب، ينتقم لدينه وعباده المؤمنين من الظالمين المجرمين١
.
لما قدمت جنود الأحزاب إلى المدينة لقتال المسلمين نقض بنو قريظة ما كان من عهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك بتحريض من حُيَيْ بن أخطب النضري ؛ إذ دخل حصنهم ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد وكان قد قال له : ويحك قد جئتك بعز الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها وغطفان وأتباعها، ولا يزالون ههنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه. فقال له كعب : بل والله أتيتني بدل الهر، ويحك يا حيي إنك مشئوم فدعنا منك فلم يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجابه كعب واشترط له حيي، إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم شيء إن يدخل معهم في الحصن، فيكو لهم أسوتهم. فلما نقضت قريظة وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءه ذلك وشقَّ عليه وعلى المسلمين. فلما رد الله المشركين خائبين خاسرين، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ظاهرا منصورا ووضع الناس السلاح، تبدّى جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أوضَعْتَ السلاح. فقال عليه الصلاة والسلام " نعم " قال جبريل : لكن الملائكة لم تضع أسلحته. ثم قال : إن الله يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة. وفي رواية قال : إن الله أمرني أن أزلزل عليهم. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة وكانت على أميال من المدينة وذلك بعد صلاة الظهر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يصلين أحد منك العصر إلا في بني قريظة ".
فسار الناس فأدركتهم الصلاة في الطريق فصلى بعضهم في الطريق وقال آخرون : لا نصليها إلا في بني قريظة فلم يعنِّف واحدا من الفريقين، وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم ( رضي الله عنه ) وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ). ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلنا طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس ( رضي الله عنه ) لأنهم كانوا حلفاء في الجاهلية واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك كما فعل عبد الله ابن سلول في مواليه بني قينقاع حين استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم كما فعل أبيّ في أولئك. لكن سعدا ( رضي الله عنه ) كان قد أصابه سهم في أكحله١ أيام الخندق فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب. وكتب الله على بني قريظة أن ينزلوا على حكمه باختيارهم طلبا من تلقاء أنفسهم. وعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم. فلما أقبل وهو راكب على حمار جعل الأوس يلوذون به ويقولون : يا سعد إنهم مواليك فأحسن فيهم، ويرققونه عليهم ويُعطّفونه وهو ساكت لا يرد عليهم. فلما أكثروا عليه قال ( رضي الله عنه ) : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومةُ لائم، فعرفوا أنه غير مستبقيهم، فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هؤلاء – وأشار إليهم – قد نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت " فقال ( رضي الله عنه ) : وحكمي نافذ عليهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " نعم " فقال ( رضي الله عنه ) : إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتُسبي ذريتهم وأموالهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة " ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فخُذَّت في الأرض، وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة وسبى من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم٢ ولهذا قال تعالى ﴿ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ ﴾ يعني أنزل الذين عاونوا الأحزاب من أهل الكتاب وهم بنو قريظة ﴿ مِنْ صَيَاصِيهِمْ ﴾ أي من قلاعهم أو حصونهم جمع صيصة وهي ما يُتحصّنُ به.
قوله :﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾ قذف الله في قلوب يهود الخوف والذعر فاستسلموا للقتل والسبي. وهو قوله سبحانه وتعالى :﴿ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ﴾ أي تقتلون الرجال وتأسرون النساء والذرية. وكان عدد المأسورين ما بين سبعمائة وتسعمائة.
٢ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٧٨.
قوله :﴿ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا ﴾ اختلفوا في المراد بذلك. فقد قيل : أراد فارس والروم وقيل : خيبر. وقيل : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة.
قوله :﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ الله قادر على فعل ما يشاء. فقد جعل لكم النصر ؛ إذ أظهركم على عدوكم، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم، وهو سبحانه لا يعزّ عليه أن يفعل ما يريد١.
ذكر أنن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد تأذى ببعض الزوجات ؛ إذ سألنه شيئا من عرض الدنيا. وقيل : زيادة في النفقة، فأُمر النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهنّ وتخييرهن بين الدنيا والآخرة.
فقد روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال : دخل أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا، فقال : والله لأقولن شيئا أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله، لو رأيتُ بنتَ خارجة سألتني النفقةََ فقمتُ إليها فوجأتُ١ عنقها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" " هن حولي كما ترى يسألنني النفقة " فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها. كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ! فقلن : والله لا نسأل الآن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين يوما، ثم نزلت هذه الآية ﴿ أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ ﴾ حتى بلغ ﴿ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ قال : فبدأ بعائشة فقال : " يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك " قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال : " لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولك بعثني معلما مُيَسرا ". ٢
قوله :﴿ قل لأزواجك ﴾ فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم زوجات قد دخل بهن، وأولهن : خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب. وكانت قبله زوجة لأبي هالة وولدت منه هند بن أبي هالة. وكانت قبل أبي هالة زوجة لعتيق بن عائذ. ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة غيرها حتى ماتت وكانت يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة، وكان لها حين توفيت خمس وستون سنة، وهي أول امرأة آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أولاده منها غير إبراهيم.
ثم سودة بنت زمعة العامرية أسلمت قديما وبايعت، وكانت زوجة لابن عمها واسمه السكران بن عمرو وكلاهما هاجرًا إلى الحبشة فلما قدما مكة مات زوجها. وقيل : مات بالحبشة ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر بها.
ثم عائشة بنت أبي بكر الصديق، تزوجها رسول الله بمكة قبل الهجرة بسنتين وقيل بثلاث سنين وبقيت عنده تسع سنوات ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة سنة ولم يتزوج بكرا غيرها.
ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها فأتاه جبريل فقال : إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوّامة قوّامة، فراجعها، توفيت في خلافة عثمان وهي ابنة ستين سنة.
ثم أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أربع من الهجرة وكان ابنها عمر صغير. وقد قُبرت بالبقيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة.
ثم أم حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان، كانت زوجة لعبيد الله بن جحش الذي مات بأرض الحبشة على النصرانية فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة.
ثم زينب بنت جحش الأسدية، وكان اسمها بَرَّة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، تزوجها النبي بالمدينة سنة خمس من الهجرة، وتوفيت سنة عشرين وهي بنت ثلاث وخمسين.
ثم زينب بنت خذيمة بن الحارث الهلالية، وكانت تسمى في الجاهلية أم المساكين ؛ لإطعامها إياهم. مكثت عند النبي ثمانية أشهر وتوفيت في حياته ودفنت بالبقيع.
ثم جويرية بنت الحارث المصطلقية أصابها في غزوة بني المصطلق فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها، توفيت سنة ست وخمسين وهي ابنة خمس وستين.
ثم صفية بنت حيي بن أخطب أصابها النبي يوم خيبر واصطفاها لنفسه وأسلمت وأعتقها. وماتت سنة خمسين ودفنت بالبقيع.
ثم ريحانه بنت زيد بن عمرو من بني النَّضير أعتقها النبي وتزوجها في سنة ستٍّ وماتت وهو راجع من حجة الوداع فدفنها بالبقيع.
ثم ميمونة بنت الحارث الهلالية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَرف على عشرة أميال من مكة سنة سبع من الهجرة، وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم٣
قوله :﴿ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ ﴾ المراد بالحياة الدنيا وزينتها، ما فيها من السعة والنضارة ووجوه النعمة.
وذلك أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخيِّر نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن تتحصل لهن عندهم البحبوحة والسعة، وبين الصبر على ما عنده من ضيق العيش ورقة الحال ولهن عند الله في مقابل ذلك خير الجزاء. فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة. ويذلك اجتمع لهن في كنفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الدنيا من حسن الذكر وطيب الثناء يوم القيامة، وفي الآخرة ما أعده لهن من عظيم المنزلة في عليين بجوار خير زوج في العالمين. ﴿ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ ﴾ أي أَقبِلن إليّ أعطكن متعة الطلاق. وهي واجبة للتي لم يُدخَل بها ولم يُفرض لها حين العقد صداق. أما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة. والمتعة للمرأة تقدر بدرع٤ وخمار٥ وملحفة٦ وذلك على حسب السعة والإقتار، وقد مضى تفصيل المتعة في سورة البقرة.
قوله :﴿ وأسرّحكنّ ﴾ أي أطلقكن. وتسريح المرأة، تطليقها. والاسم السراح، بالفتح٧
قوله :﴿ سراحا جميلا ﴾ أي طلاقا للسُّنة من غير ضِرار ولا منع لها من واجب. وقد اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه. وثمة قولان في ذلك. أحدهما : أنه خيرهن بإذن الله في البقاء على الزوجية أو الطلاق فاخترنَ البقاء وهو قول عائشة وآخرين.
ثانيها : أنه خيرهن بين الدنيا فيفارقهن، وبين الآخرة فيمسكهن لتكون لهن المنزلة العليا، ولكم يخيرهن في الطلاق. وهو قول الحسن وقتادة، وهو مروي عن علي ( رضي الله عنه ) والقول الأول الراجح ؛ لما روته عائشة من خبر ثابت في الصحيحين قالت : " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعدّه طلاقا " ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور به بين البقاء والطلاق.
واختلف العلماء أيضا في المخيرة إذا اختارت زوجها هل يكون ذلك طلقة رجعية أو بائنة أو لا يلزم بذلك شيء ؟ فقد ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم أنه لا يلزمه طلاق، لا طلقة واحدة ولا أكثر. وقيل : إن اختارت زوجها فواحدة بائنة. وهو قول الحسن البصري والليث. وروي مثله عن مالك. واحتجوا بأن قوله لها : اختاري، كناية عن إيقاع الطلاق فإذا ما أضافه إليها وقعت طلقة. والراجح القول الأول ؛ لما أخرجه الصحيحان عن عائشة قالت : " خيرنا رسول الله صلى اله عليه وسلم، فاخترناه، فلم يعد علينا طلاقا " قال ابن المنذر : وحديث عائشة يدل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا.
واختلفوا في المخيرة إذا اختارت نفسها فهل ذلك طلقة رجعية أو بائنة ؟ فقد قيل : طلقة رجعية يملك زوجها رجعتها. وقد روي عن عمر وابن مسعود وابن عباس. وهو قول ابن أبي ليلى والثوري والشافعي.
وقيل : إذا اختارت نفسها فتلك طلقة واحدة بائنة. وهو قول الحنفية. وهي رواية عن مالك٨.
٢ تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٦٣ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٧٩.
٣ تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٦٢-١٦٧ وتفسير الطبري ج ٢١ ص ١٠٠.
٤ درع المرأة: قميصها. انظر المصباح المنير ج ١ ص ٢٠٥.
٥ الخمار: ثوب تغطي المرأة به رأسها. وجمعه خُمُر. انظر المصباح المنير ج ١ ص ١٩٥.
٦ الملحفة: الملاءة التي تلتحف بها المرأة.. انظر المصباح المنير ج ٢ ص ٢١٢.
٧ مختار الصحاح ص ٢٩٣.
٨ تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٧٠-١٧٣ وفتح القدير ج ٣ ص ٢٧٦ والكشاف ج ٣ ص ٢٥٨ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٣ ص ١٥٠٥-١٥١٣.
( الفاحشة ) من الفحش وهو كل شيء جاوز الحد. وفحش الشيء فُحشا أي قَبُح قُبحا. وجمعها فواحش١ والمراد بالفاحشة هنا، الكبيرة من الكبائر. وهي السيئة البليغة في القبح ؛ فإنه لما اختار نساء النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله واستقرّ أمرهن زوجات لشخصه الكريم، أخبرهن الله بشأنهن المميز وبما لهن من خصيصة التكريم والإجلال أكثر من غيرهن من النساء المسلمات. فناسب بذلك إبلاغهن حكمهن بأن من يأت منهن فاحشة ﴿ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ أي معصية ظاهرة، كالنشوز والإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يشق عليه أو يحزنه أو غير ذلك من وجوه المساءات والمعاصي ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ أي يعذبهن الله مثليْ عذاب غيرهن من النساء. وذلك لشرفهن وعظيم منزلتهن وفضلهن على سائر النساء.
قال القرطبي في هذا الصدد : إنه كلما تضاعفت الحرمات فهتِكت تضاعفت العقوبات ؛ ولذلك ضوعف حَدُّ الحرِّ على العبد، والثيب على البكر. وقيل : لما كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله ونواهيه، قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن فضوعف لهن الأجر والعذاب. وقيل : إنما ذلك لعِظَم الضرر في جرائمهن بإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
على أنه أراد بالضعفين المثلين أو المرتين. والضعف في كلام العرب المثل.
وضعف الشيء مثله. وضعفاه مثلاه. وأضعافه أمثاله٢
وهذا التضعيف في العذاب إنما يكون في الآخرة. وقيل : في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ وكان ذلك على الله يسيرا ﴾ أي مضاعفة العذاب على التي تعصي الله من نساء النبي أمر يسير على الله. أو لا يعزّ على الله أن يضاعف العذاب للمسيئة منهن.
٢ مختار الصحاح ص ٣٨٠.
قوله :﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴾ أي أَعدّ الله لها يوم القيامة طيب العيش وهانئ المقام في الجنة. ٢
٢ تفسير الطبري ج ٢١ ص ١٠١ وفتح القدير ج ٣ ص ٢٧٦ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٧٤ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٣ ص ١٥١٥-١٥٢٣.
.
نساء النبي صلى الله عليه وسلم مكرمات لشرفهن، وعلو منزلتهن، فهن لسن كأحد من النساء في الفضل والشرف. وذلك مشروط بالتقوى منهن، وهو قوله :﴿ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ﴾ وذلك بخشية الله وطاعته والتزام أوامره، فإنهن بذلك لا يشبههن أحد من النساء، ولا يلحقهن في الفضيلة وعلو الدرجة. أي إن اتقين الله انفردتنّ بخصائص من جملة النساء١ ونساء النبي، وإنْ كُن من الآدميات، فهن لسن كإحداهن. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه وإن كان من البشر من حيث الجبلَّة، فهو ليس منهم من حيث الفضيلة وعلو المنزلة. فلئن كانت نَساء النبي بهذه المكانة من شرف المنزلة وهن ممن يُقتدى بهن ؛ فإنه جدير بهن أن تعلو أفعالهن فوق الأفعال، وأن تربو صفاتهن على سائر الصفات.
أما قوله :﴿ كأحد ﴾ وليس كواحدة فوجهه أن أحدا ينفي المذكر والمؤنث والواحد والجماعة.
قوله :﴿ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ﴾ الخضوع بالقول منهن يراد به لين الحديث، وترقيق الكلام إذا خاطب الأجانب من الرجال. لا جرم أن ترخيم الخطاب من المرأة ؛ إذ تخاطب الأجانب يفضي إلى الفتنة التي تجنح بضعاف العزائم إلى الميل والاسترخاء والهوى. ولذلك قال :﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ المرض معناه هنا الدغل وهو الفساد٢، وذلك يعم كل وجوه الفسق، والتشوُّف للفجور. فما تترفق المرأة في حديثها الرخيم اللين أمام الرجال إلا كان ذلك مدعاة لانفتال القلوب الضعيفة، فتميل في الغالب للفتنة والاحترار والانشغال. وجدير بالنساء المسلمات الفضليات اللواتي يتقين الله، ويطعن أوامره أن يخاطبن الأجانب من الرجال في جِدٍّ وخشونة بعيدا عن الترخيم والترقيق والريبة.
قال ابن العربي في تأويل قوله تعالى :﴿ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ﴾ : أمرهن الله تعالى أن يكون قولُهن جزلا، وكلامُهن فصلا، ولا يكون على وجه يحدث في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين المُطمع للسامع.
قوله :﴿ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا ﴾ أي قولا حسنا بعيدا من طمع المريب. وقيل : المراد بالمعروف الذي تدعو إليه الحاجة.
٢ مختار الصحاح ص ٢٠٦
.
والخطاب، وإنْ كان لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فإن حكمه يعم النساء جميعا. والمعنى : الْزَمْنَ القرار في بيوتكن ولا تخرجن إلا لحاجة. ومن الحوائج المشروعة التي تجوز الخروج للنساء، خروجهن للصلاة في المسجد. وفي الخبر : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " وفي رواية : " وبيوتهن خير لهن ".
ومن جملة الحوائج، خروجها في طلب العلم. فإن طلب العلم فريضة على المسلمين ولا مناص لها من الخروج إذا أرادت أن تشهد مجالس العلم أو تنهل من مناهله ؛ إذ تلقاه من أهله.
ومنها : خروجها لمشاهدة أولي القربى والأرحام كالآباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وغيرهم من أولي القربى.
ومنها : خروجهن لتطبيب أنفسهن أو مداواة أولادهن أو قضاء حوائج أبنائهن وبناتهن، التي لا يُحسِن القيام بها غيرهن.
ومنها : خروجهن في طلب الرزق إذا لم يكن لهن من يضطلع بالإنفاق عليهن نفقة كافية تحقق لها البحبوحة والسعة.
قوله :﴿ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾ التبرج، إظهار الزينة والمحاسن للرجال١ واختلفوا في المراد بالجاهلية الأولى. والأظهر أنها جاهلية الكفر قبل الإسلام. وأن الجاهلية الأخرى هي جاهلية الفسوق والفجور والضلال والبعد عن منهج الله عقب غياب الإسلام.
وصور الجاهلية من الضلال والكفر والجحود كثيرة ومغالية ومفْرِطة. إنها كثيرة وفادحة ومفحشة فحشا فاق كل تصور. لقد برعت الجاهلية في الزمان الراهن في ابتداع الضلال والفسق واصطناع الأساليب والظواهر المختلفة من الفساد والغواية التي تهوي بالأفراد والمجتمعات في مستنقع الرجس والدنس، وتنزلق بهم إلى كحمأة الرذيلة والفواحش والخنا. ويأتي في طليعة ذلك كله ظاهرة التبرج في أفحش صوره في المغالاة والإسفاف والابتذال مما يفضي بالضرورة إلى الفتنة والسقوط في الدركات من القَذَر والانحطاط، ولقد أسهم في إشاعة هذه الخسيسة الذميمة من التبرج، تلك الأسباب المسخرة من وسائل الإعلام. وهي وسائل الإعلام. وهي وسائل كثيرة ومختلفة ولها من بالغ التأثير في سلوك المجتمعات ما أثار فيها الفتة وألْهَبَ فيها الشهوات والغرائز أيما إلْهاب.
لقد أسهمت أسباب الإعلام الكثيرة والمختلفة بلغ الإسهام في إذكاء الغريزة والفسق، وإشاعة الفجور والتهتك، وإثارة الهوى والشهوة لتظل على الدوام متأججة ومضطربة ومشوبة.
وهذه هي الحضارة المادية الحديثة بجحودها وتحللها وعتوها وتمردها على منهج الله، تُحرّض على التبرج الفاحش والزراية المُسفّة، والابتذال المُستقذر. كتبرج العاريات في الشوارع والمنازل والأندية، وفي بيوت العلم ودوائر الدولة، وسائر المحافل الرسمية والشعبية. ثم التبرج على المسارح وفي دور الملاهي حيث الانفلات الكامل من ربقة القيم والعفة، وحيث العري والتهتك والسقوط، والتحلل المذهل من كل الضوابط التي قررتها شرائع السماء، ونطقت به فطرة الإنسان السوي. تلك هي الجاهلية المظلمة التي طغت على البشرية عقب غياب الإسلام. جاهلية المادية الثقيلة الصماء حيث الشهوات والأهواء وحيث الأنانيات والغرائز المحمومة وظلم الإنسان للإنسان.
قوله :﴿ وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ ﴾ أمرهن بإقامة أعظم فريضة وهي الصلاة المفروضة، وأن يؤدين الزكاة الواجبة في أموالهن.
قوله :﴿ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ أمرهن بالعام بعد الخاص. فقد أمرهن ههنا بسائر الطاعات.
قوله :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾ إنما يريد الله مما نهاكنّ وأمركنّ ووعظكنّ أن يذهب عنكن الإثم والفحشاء ﴿ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾ ﴿ أهل ﴾ منصوب على المدح، أو على النداء٢ أي يا أهل بيت محمد، وأن يطهركم من السوء والدنس تطهيرا.
واختلفوا في المراد بأهل البيت. فقيل : محمد صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم ؛ فقد أخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرّ بباب فاطمة ( رضي الله عنها ) ستة أشهر إذْ خرج إلى صلاة الفجر يقول : " الصلاة يا أهل البيت ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ ".
وقيل : إن المراد بأهل البيت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الآية نزلت فيهن خاصة. والصحيح أن المراد نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأهله الذين هم أهل بيته. فنساء النبي سبب في نزول الآية، وسبب النزول داخل فيه مع غيره. فيكون المراد عموم زوجات الرسول وأهله.
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٦٩.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ الله لطيف بكُنَّ ؛ إذ علم ما ينفعكن ويصلحكن فنجعلكن في بيت النبوة حيث الطهر والفضيلة والنور. وهو كذلك خبير إذ اختاركن لرسوله أزواجا١
في سبب نزول هذه الآية روى النسائي وغيره من أصحاب السنن عن أم سلمة ( رضي الله عنها ) أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : يا نبي الله مالي أسمع الرجال يُذكرون في القرآن ؛ والنساء لا يُذكرن ؟ فأنزل الله :﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ... ﴾ الآية. وكل هذه الأسماء منصوب بالعطف على ﴿ إنّ ﴾ وخبرها قوله :﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً ﴾ ١
وقد بدأ في هذه الآية بذكر الإسلام، وهو الدخول في دين الله والتزام شرعه وأحكامه. ثم الإيمان، وهو التصديق بأركان العقيدة وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، تصديقا قاطعا لا ريب فيه. ويستدل من ذلك على أن الإسلام علانية وأنه عام. فهو يعمّ الإيمان المستكن في القلب وكذا عمل الجوارح. وقد ذكر الإيمان على سبيل التخصيص له.
قوله :﴿ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ﴾ من القنوت وهو الطاعة. والمراد أنهم العابدون لله المطيعون له فيما أمر.
قوله :﴿ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ﴾ من الصدق. وهذه شيمة كبرى من شيم المسلمين وهي أنهم يصْدُقون الحديث إن تكلموا أو خاطبوا غيرهم ؛ لأن قلوبهم وجلة من الله، صادقة معه بعد أن استقر فيها الإيمان به سبحانه. أما الكذب فإنه ذميمة مقبوحة شدّد عليها الإسلام النكير ووصم الذين يتلبسون بالكذب بأنهم على شعبة من النفاق.
قوله :﴿ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ ﴾ هم الذين يصبرون على الطاعات، وعن المعاصي على اختلافها. ويصبرون على المصائب والمحن التي يلاقونها في حياتهم الدنيا. وهم في ذلك ثابتون لا يتزعزعون ولا يترددون.
قوله :﴿ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ ﴾ من الخشوع وهو الخضوع لله والانقياد لأمره وسلطانه والخوف من حسابه وعقابه. وتلك هي حال المؤمنين والمؤمنات فإنهم يخشون الله في السر والعلن فيبادرون الطاعة لله والإذعان له والاستسلام.
قوله :﴿ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ ﴾ الذين يبذلون للفقراء والمحاويج صدقات أموالهم سواء منها المفروضة أو المندوبة. أولئك طيبون رحماء، يرحمهم الله ويصلح حالهم.
قوله :﴿ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ ﴾ سواء في الصوم ما كان مفروضا أو كان مندوبا. وذلك خلق المؤمنين الصادقين فإنهم يمسكون عن الطعام والشراب والشهوة، يبتغون بذلك مرضاة الله ربهم وحُسن جزائه.
قوله :﴿ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ﴾ أي عما لا يحل من السفاح. وإنما يأتون من الوطء أو الوقاع ما كان حلالا.
قوله :﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ﴾ أي يذكرون الله بقلوبهم وألسنتهم غدوًّا وعشيًّا وفي أدبار الصلوات وفي المضاجع وعند اليقظة من النوم. وقيل : قراءة القرآن والاشتغال بالعلم من الذكر.
قوله :﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ أي غفر الله لهؤلاء المذكورين من الرجال والنساء فستر عليهم ذنوبهم وسيئاتهم وأثابهم منه خير الجزاء في الجنة حيث النعيم المقيم٢
٢ الكشاف ج ٣ ص ٢٦١ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٨٥..
روي في سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش – وكانت بنت عمته – فظنت أنه خطبها لنفسه. فلما تبين أنه يريدها لزيد، أبت وامتنعت. فنزلت الآية فأذعنت زينب حينئذ ورضيت أن تتزوج من زيد.
وتقضي الآية بأنه ليس لمؤمن بالله ورسوله، أو مؤمنة إذا حكم رسول الله في أنفسهم بحكم أن يختاروا غير ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعصوه ويخالفوا أمره. فإن عصيان رسول الله صلى الله عليه وسلم عصيان لله سبحانه. فقد أمر الله عباده المؤمنين بطاعة رسوله الأمين ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ ١.
قوله :﴿ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ ﴿ الْخِيَرَةُ ﴾، مصدر بمعنى الاختيار أي ليس لهم أن يختاروا خلاف ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن الآية عامة في كل الأمور ؛ فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فليس لأحد من بعده أن يخالفه فيما أمر أو يختار غير ما قضى به.
فما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا محالة ملزم إلزاما ؛ لأنه وحي من الوحي. وفي ذلك يقول سبحانه :﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ وبذلك لا يتحقق لأحد إيمان حتى يرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل الأمور والقضايا. وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ".
قوله :﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا ﴾ ذلك تحذير مَخوف من الله، يتهدد به الذين يخالفون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر ويعرضون عما جاءهم به من عند الله فيرتضون بغيره من الشرائع بديلا فأولئك قد أوغلوا في الضلال والزيغ عن الحق.
ذلك إخبار من الله عما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة ( رضي الله عنه )، الذي أنعم الله عليه أن هداه للإسلام وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أعتقه من الرق فصار سيدا عظيم الشأن، جليل القدر، حبيبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يقال له، الحبُّ. ويقال لابنه أسامة الحبُّ ابن الحبِّ. وقد روى الإمام أحمد عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلا أمَّره عليهم. ولو عاش بعده لاستخلفه.
قوله :﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ﴾ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوَّج مولاه زيدا بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية ( رضي الله عنها ) وقد أصدقها عشرة دنانير وستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وخمسين مدّا من طعام وعشرة أمداد من تمر. فمكثت عنده قريبا من سنة أو أكثر ثم وقع بينهما شقاق ونفور فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له :﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ﴾ أي أمسك عليك زوجك زينب واتق الله في أمرها ولا تعجل بطلاقها.
قوله :﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ ذُكر في تأويل هذه الآية جملة أقوال وآثار عن بعض السلف ينبغي أن يُضرَبَ عنها صفحا لكونها مريبة، بعيدة عن اليقين فهي منافية للعصمة التي تتجلى في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي طبيعته المثلى وجبلَّته الناصعة العليا. والأمر يسير وفي غاية اليسر على من يسَّرهُ الله عليه. وجملة ذلك ما ذكره الحسن بن علي ( رضي الله عنهما ) في قوله تعالى :﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ إذ قال : إن الله تعالى قد أعلم نبيه أن زينب بنت جحش ستكون من أزوجه قبل أن يتزوجها فلما أتاه زيد ( رضي الله عنه ) يشكوها إليه قال له : " اتق الله وأمسك عليك زوجك " أي أخبرتك أني مزوجك إياها وتخفي في نفسك ما الله مظهره.
وروي كذلك عن علي بن الحسين ( رضي الله عنهما ) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيدا يطلّقُ زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها. فلما اشتكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خُلُقَ زينب وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الوصية والنُّصْح : " اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك " وهو يعلم أنه سيفارقها ويتزوجها وهذا هو الذي أخفاه في نفسه ولم يرد أن يأمره بالطلاق لِما علم أنه سيتزوجها. وقد خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه وقد أمره بطلاقها. فعاتبه الله تعالى على أن خشي في شيء قد أباحه الله له وهو قوله لزيد ﴿ أمسك ﴾ مع علمه بأنه يطلِّق. وأخبره الله أيضا أنه أحق بالخشية في كل الأحوال.
وعلى هذا فالمراد بقوله :﴿ وتخشى الناس ﴾ إرجاف١ المنافقين والذين في قلوبهم مرض، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج هو بزوجة ابنه - أي زيد -.
أما ما روي في ذلك من أقوال تشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقع في نفسه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد مولاه وكان حريصا على أن يطلقها زيد ليتزوجها هو فإن ذلك مما لا يركن إليه العقل ولا تطمئن به النفس لمنافاته ما يتصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عصمة كاملة تحول بينه وبين تمنيه ما لا يملكه أو تدرأ عنه خصلة التشهي لما هو عند الآخرين. لا جرم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أوتيه من فطرة فُضلى، وطبع نوراني ساطع لهو أسمى من أن يقع من نفسه استحباب لحظ من حظوظ الدنيا. ومثل هذه المقالة برغبته صلى الله عليه وسلم ما عند الآخرين تفضي إلى ما يبتغيه الدساسون والمتربصون في كل زمان من اصطناع ما يجدونه مطعنا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي شخصه ودينه. ونسمع أو نقرأ في زماننا الراهن حول هذه المسألة كثيرا من تلفيقات المرْجِفين أولي الهوى والنفاق أو الذين يجيدون الثرثرة والَّغَط ويرومون الإساءة إلى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المتبرَّأ بعصمته من كل الخطايا والذنوب ظاهرة وباطنة، بل من مجرد التشهي لما لدى الناس من حظوظ الدنيا وزينتها.
قال الترمذي مسندا إلى علي بن الحسين قوله : فعلي بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهرا من الجواهر ودُرّا من الدرر أنه إنما عتب عليه في أنه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجك فكيف قال بعد ذلك لزيد : " أمسك عليك زوجك " وأخذتك خشية الناس أن يقولوا : تزوج امرأة ابنه، والله أحق أن تخشاه.
قوله :﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ الوطر معناه الحاجة، جمعه أوطار٢ أي لما قضى زيد إربه من زينب ففرغ منها وفارقها ﴿ زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ فكان لذي تولى نكاحها هو الله جل وعلا. إذ أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من الناس. وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها أحد ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى النسائي عن أنس بن مالك قال : كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول : إن الله عز وجل أنكحني من السماء. وفيها نزلت أية الحجاب، وكذلك أخرج الإمام أحمد عن أنس ( رضي الله عنه ) قال : فلما انقضت عدة زينب ( رضي الله عنها ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : " اذهب فاذكرها علي " أي اخطبها لي. فانطلق حتى أتاها وهي تخمِّر عجينها. فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت : يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. قالت ما أنا بصانعة بشيء حتى أوامَرَ٣ ربي عز وجل فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن.
قوله :﴿ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾ أي أبحنا لك الزواج من زينب كيلا يجد المسلمون ضيقا أو مشقة في الزواج من أزواج أدعيائهم الذين كانوا يجعلونهم أبناءهم كما كانت تفعل العرب ؛ إذ كانوا يتبنون الأولاد الأدعياء حتى نزل النهي عن ذلك.
قوله :﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ﴾ أي كان قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتما مقضيّا. أو هو كائن لا محالة.
٢ مختار الصحاح ص ٧٢٧.
٣ آمر يؤامره مؤامرة، أي شاوره مشاورة. وأتمروا به أي تشاوروا فيه والائتمار والاستئمار بمعنى المشاورة. انظر مختار الصحاح ص ٢٤ وأساس البلاغة ص ٢١.
قوله :﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ أي ما يكتبه الله من الأقدار كائن لا محالة. وواقع لا محيد عنه ولا ريب فيه.
وإنه صلى الله عليه وسلم له ولد ذكر حتى بلغ الحلم ؛ فقد ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة ( رضي الله عنها ) فماتوا صغارا وولد لهم إبراهيم من مارية القبطية فمات كذلك رضيعا. وكان له من خديجة أربع بنات، هن : زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهن أجمعين.
قوله :﴿ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ ﴿ رَسُولَ ﴾، منصوب على أنه خبر كان مقدرة، وتقديره : ولكن كان محمد رسول الله. ومن قرأه بالرفع جعله خبرا لمبتدأ محذوف وتقديره، هو رسول الله١ وهذه الآية تدل بالقطع على أنه لا نبي بعد رسول الله محمد الله صلى الله عليه وسلم فهو خاتم النبيين والمرسلين. وفي ذلك أخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي " فشق ذلك على الناس فقال : " ولكن المبشرات " قالوا : يا رسول الله وما المبشرات ؟ قال " رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة " وغير ذلك من الأخبار كثير في نفي النبوة بعد النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ أحاط الله بكل شيء علما. ومن جملة ذلك هذه الأخبار والأحكام التي بينها لعباده.
أمر الله عباده المؤمنين أن يكثروا من ذكره وشكره، فيديموا ذكر الله بقلوبهم فتظل خاشعة وجلة من عظيم سلطانه وجلاله، وبألسنتهم التي لا تبرح النطق بذكره سبحانه. وكذلك يؤدون الشكر المستديم لله على ما هداهم إلى نعمة الإسلام وما خوّلهم من نعم الحياة الدنيا، وهي كثيرة وجزيلة لا تحصى. وفي هذا الصدد من ذكر الله روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون ".
ودأْبُ المؤمنين ألا يغفلوا عن ذكر الله بقلوبهم وألسنتهم في كل الأحوال، وأن يكثروا من التسبيح والتحميد والتهليل في طرفي النهار وهما العشي والإبكار.
قوله :﴿ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ أي يخرجكم من ظلمات الضلال والباطل إلى نور الهداية والحق، ومن فساد الجاهلية وتعْسها وشرورها إلى نور الإسلام بعقيدته الصلبة السمحة، ونظامه الوارف الظليل.
قول :﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ الله رحيم بعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة. ففي الدنيا بعث الله فيهم رسله يبلغونهم دعوة الحق ويدعونهم إلى الهداية والصواب فدخلوا في دين الله بفضله وتوفيقه. وأما رحمته بهم في الآخرة، بأن نجاهم من العذاب وكتب لهم السلامة وحسن المآب، وأسكنهم الجنة بنعيمها الكريم المقيم.
قوله :﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ﴾ أعدَّ الله للمؤمنين في الجنة من صنوف الطيبات والملاذ والخيرات ما لا يتصور كماله ومداه بشر١
هذا تأنيس من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وتكريم له ولأمته من بعده. فرسول الله صلى الله عليه وسلم حامل لواء الهداية للبشرية كافة. وقد بعثه الله لهداية العالمين أجمعين إلى يوم البعث والدين. وأمته من بعده قد أُنيط بها أن تدعو الناس جميعا في سائر الأمكنة والأدهار وفي كل الأحوال والأعصار، إلى عقيدة التوحيد والإذعان لله وحده بالخضوع والامتثال دون غيره من الآلهة المصطنعة، والطواغيث العتاة، وتدعوهم إلى منهج الله الذي تضمن من قواعد الحق والعدل والفضيلة والرحمة ما تستقيم به حياة العباد فيكونوا إخوانا متعاونين غير متباغضين ولا متصارعين. وهذه حقيقة ينطق بها المنصفون، ويعترف بها الصادقون من أولي النباهة والألباب الذي يوقنون أن محمدا صلى الله عليه وسلم حق فقد شهد له القرآن بصدق نبوته، وشهدت له سيرته المميزة الفضلى التي لا تتجلى بمثل هذا الكمال من مكارم الصفات وحسن الخلال إلا في نبي مرسل مكرم كمحمد صلى الله عليه وسلم. وشهدت له بذلك أيضا الكتب السماوية المتقدمة من قبل أن يأتي عليها التحريف والتزييف من أولي الأهواء والأباطيل من بني إسرائيل. فقد روى الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ( رضي الله عنه ) فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال : أجلّ والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ وحرزا للأمين ؛ فأنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صُمّا وقلوبا غُلْفا.
وروي عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) قال : لما نزلت ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ وقد كان أمر عليّا ومعاذا ( رضي الله عنهما ) أ يسيرا إلى اليمن فقال : " انطلقا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا " إنه قد أنزل عليّ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ هذه الأسماء : شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا وسراجا، كلها منصوبات على الحال١ أنا صاانعة بشيء
قوله :﴿ شاهدا ﴾ أي شاهدا لله بالوحدانية وأنه الحق الذي لا إله غيره. أو تشهد على الناس بأعمالهم يوم القيامة.
قوله :﴿ ومبشرا ﴾ أي تبشّر المؤمنين برحمة الله بهم وبما أعده لهم من حسن الجزاء ﴿ ونذيرا ﴾ من الإنذار وهو التبليغ ولا يكون إلا في التخويف٢ أي تنذر الكافرين والعصاة الذين لجّوا مستكبرين فتُخوفهم من وبيل العقاب في النار.
٢ مختار الصحاح ص ٦٥٣.
قول :﴿ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ السراج معناه المضيء الزاهر. ومن المجاز : سَرَج الله وجهه أي حسَّنه وبهَّجه. والشمس سراج النهار والهدى سراج المؤمنين، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، السراج الوهاج١. والمراد : أن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم للعالمين هاديا لهم ليهتدوا بدينه المشرق المنير ويستضيئون بنوره الذي جاء به من عند الله وهو الإسلام الذي كتبه الله للبشرية استنقاذا لهم من الضلالة إلى الهداية، ومن الظلم والباطل إلى الحق والعدل. ذلكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهو كالمصباح المضيء ينير للبشرية طريقها إلى النجاة بما يحمله للعالمين من عقيدة راسخة بنيت على الطهر والتوحيد والفضيلة.
قوله :﴿ وَدَعْ أَذَاهُمْ ﴾ أي لا تؤذهم مجازاة لهم على إذايتهم لك بل اصفح عن زلاتهم وتجاوز عمن مساءاتهم. وقيل : اصبر على أذاهم ولا تشغل نفسك بما يؤذونك به من سوء الأقوال والفعال. ١
يستفاد من هذه الآية جملة أحكام منها : أن النكاح يطلق على العقد وحده، وهو ما يفهم من ظاهر الآية ﴿ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾.
وقد اختلف العلماء في حد النكاح، هل هو حقيقة في العقد وحده أو في الوطء أو فيهما معا، على ثلاثة أقوال. فهو عند الحنفية، وكذا الشافعية في قول لهم حقيقة في الوطء، مجاز في العقد. وعند المالكية والشافعية في الأصح من مذهبيهما، حقيقة في العقد، مجاز في الوطء. وقيل : إنه حقيقة في العقد والوطء بالاشتراك، كالعين، فهي اسم مشترك بين أكثر من معنى١.
ومنها : إباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها، ولا فرق في هذا الحكم بين المؤمنات والكافرات. وإنما ذكر هنا ﴿ المؤمنات ﴾ لخروجهن مخرج الغالب.
ومنها : أن الطلاق لا يقع من غير أن يسبقه نكاح، لقوله تعالى :﴿ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ﴾ فذكر الطلاق عقب النكاح مما يدل على أن الطلاق لا يقع ولا يصح قبل النكاح. وقد ذهب إلى ذلك أكثر أهل العلم. وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن البصري وآخرين. وهو مذهب الشافعي وأحمد. وقال به آخرون من السلف والخلف، خلافا لمالك وأبي حنيفة ؛ إذ قالا بصحة الطلاق قبل النكاح. فلو قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق، فقد ذهبا إلى أنها تطلق بمجرد زواجه منها. والراجح عدم وقوع الطلاق قبل النكاح، لظاهر الآية. ولما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا طلاق لابن آدم فيما يملك " وكذلك ما رواه ابن ماجة عن علي والمسور بن مخرمة ( رضي الله عنهما ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا طلاق قبل النكاح ".
قوله :﴿ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ﴾ إذا طُلقت المرأة قبل الدخول بها فإنه لا عدة عليها ولها أن تتزوج من تشاء من فورها. ولا يُستثنى من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها فإنها تعتد عدة الوفاة وهي أربعة أشهر ولو لم يكن دخل بها. وذلك كله بالإجماع.
قوله :﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ﴾ إن طلقها قبل الدخول وكان قد سمى لها صداقا فلها نصف ما سمى من الصداق. وإن لم يكن سمى لها صداقا أعطاها المتعة على قدر يسره وعسره دون حرج في ذلك ولا حيف، وذلك هو السراح الجميل في قوله :﴿ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ﴾ ﴿ وَسَرِّحُوهُنَّ ﴾ أي طلقوهن. والسراح أو التسريح كناية عن الطلاق عند أبي حنيفة، وهو عند الشافعي طلاق صريح٢.
٢ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٩٨ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢٠٣-٢٠٥.
لما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه حرَّم الله عليه التزوج بغيرهن أو الاستبدال بهن مكافأة لهن على فعلهن بحسن الاختيار. ويؤيد ذلك قوله تعالى :﴿ لا يحل لك النساء من بعد ﴾ وفي الآية يخاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن أجورهن أي مهورهن. وهو قوله :﴿ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ والمراد بأزواجه في الآية، زوجاته الكائنات عنده، لأنهن قد اخترنه، إذ اخترن الله ورسوله والدار الآخرة. وهو قول الجمهور من العلماء. ويعزز هذا التأويل ما قاله ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج من أي النساء شاء. وكان ذلك يشق على نسائه. فلما نزلت هذه الآية وحُرّم عليه النساء إلا ما سُمّي، سُرَّ نساؤه بذلك.
وقيل : المراد أن الله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها فالآية بذلك تبيح له جميع النساء باستثناء ذوات المحارم.
قوله :﴿ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ﴾ أي أباح لك التسري مما أخذت من الغنائم. فقد أخذ صفية وجويرية فأعتقهما ثم تزوجهما. وكذلك مارية القبطية أم إبراهيم ابنه.
قوله :﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾ أحلَّ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من الأزواج من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته اللواتي هاجرن معه منهن دون من لم يهاجر منهن معه. فقد روي عن أم هانئ ابنة عمه صلى الله عليه وسلم قالت : خطبني النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذرت له بعذري ثم أنزل الله عليه ﴿ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ﴾ الآية. قل أحل له، لأني لم أهاجر معه، إذ كنت من الطلقاء.
وقد خصَّ بنات عمه وعماته وخاله وخالاته بالذكر تشريفا لهن. وقيل : إن ذلك ترسيخ لقاعدة العدل والوسط بين الإفراط والتفريط، بين النصارى واليهود. فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعدا، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته، فجاءت شريعة الإسلام بطهرها وكمالها لتهدم إفراط النصارى فأباحت بنت العم والعمة وبنت الخال والخالة، ولتحرم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت. لا جرم أن هذه شناعة مقبوحة.
أما ذكر العم فردا والعمات جمعا، وذا الخال والخالات، فلأن كلا من العم والخال إذا أطلق فهو اسم جنس بخلاف العمة والخالة.
قوله :﴿ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا ﴾ ﴿ امرأة ﴾، منصوب على العطف على قوله :﴿ أزواجك ﴾ ١ فقد أحل الله في هذه الآية لرسوله صلى الله عليه وسلم زواج المرأة المؤمنة من غير مهر إن وهبت نفسها له، وشاء هو الزواج منها. فثمة شرطان لذلك وهما : أن تهب المؤمنة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يشاء هو أن يتزوجها. على أنه ليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا صداق إلا للنبي كانت له خالصة من دون الناس. وفي ذلك روى الإمام أحمد بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله إني وهبت نفسي لك فقام قياما طويلا فقام رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل عندك من شيء تصدقها إياه ؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئا " فقال : لا أجد شيئا " فقال : " التمس ولو خاتما من حديد " فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " هل معك من القرآن شيء ؟ " قال : نعم. سور كذا وسورة كذا – لسور يسميها – فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " زوجتكها بما معك من القرآن ".
وقد روى عن ابن عباس أنه قال : لم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين. فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد. وقيل : كانت عنده موهوبة. فقد روى البخاري عن عائشة أنها قالت : كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على أنهن كن أكثر من واحدة. والله تعالى أعلم.
قوله :﴿ خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي لا تحل الموهوبة لغيرك. فهبةُ أنفسهن، خالصة وخصوصية من خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم، لا تجوز لغيره من الناس. فليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل. بل إن الهبة لا يتم بها نكاح إلا ما روي عن أبي حنيفة وصاحبيه.
قوله :﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ أي أوجب الله على المؤمنين في زواجهم ألا يتزوجوا أكثر من أربع نسوة، كل واحدة منهن بمهر وولي وشاهدي عدل، ثم ما شاءوا بعد ذلك من الإماء ﴿ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ﴾ أي أحللنا لك أجناس المنكوحات وزدنا لك الواهبة نفسها لئلا يكون عليك ضيق أو إثم في نكاحهن ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ الله رحيم بالمؤمنين ؛ إذ يستر عليهم ذنوبهم ويجزيهم من فضله الجزاء الحسن٢.
٢ أحكام القرآن لابن العربي ج ٣ ص ١٥٤١-١٥٤٩ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٠٠ والكشاف ج ٣ ص ٢٦٩.
في سبب نزول هذه الآية روى الإمام أحمد عن عائشة ( رضي الله عنها ) أنها كانت تغير من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت : ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ؟ فأنزل سبحانه ﴿ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ﴾ فقالت : إني أرى ربك يسارع لك في هواك. و ﴿ تُرْجِي ﴾، بمعنى تؤخر. ﴿ وَتُؤْوِي ﴾ أي تضم. أي تؤخر من تشاء وتضم من تشاء. يقال : أرجأته إذا أخرته وآويت فلانا إذا ضممته. فيكون المعنى : تُطلّق من شئت وتمسك من شئت. وهو قول ابن عباس. وقيل : تترك من شئت وتنكح من شئت. وقيل : تَقْسِم لمن شئت وتترك قَسْم من شئت. أي لا حرج عليك أن تترك القَسْم لزوجاتك فتقدم من شئت منهن، وتؤخر من شئت. ومع ذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لزوجاته من قِبل نفسه دو أن يُفْرض عليه القَسْم.
قوله :﴿ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ ﴾ ﴿ ابْتَغَيْتَ ﴾، من الابتغاء وهو الطلب. وعزلت، من العزلة وهي الإزالة. والمراد إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن رددتهن فأنت بالخيار في ذلك أيضا.
فإن شئت عدت إليها فأويتها بعد أن رددتها ﴿ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ﴾ لا إثم عليك في ذلك كله.
قوله :﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ﴾ اسم الإشارة ﴿ ذلك ﴾ عائد إلى التفويض إلى مشيئتك أي هذا الذي جعلت لك يا محمد من التخيير في صحبتهن أو تنحيتهن، فتؤخر من تشاء منهن وتضم من تشاء، وترد من تشاء ردها. ووضع الحرج عنك في ذلك كله ﴿ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ ﴾ أي ذلك أدنى إلى رضاهن إذا علمن أن ذلك كله من أمرنا.
فهن إذا علمن أن ذلك من الله قرَّت أعينهم به ورضين فلا يحزنَّ والمرء إذا علم أنه غير محق في شيء فإنه لا يبتئس بحرمانه منه وإنْ علم أنه له حقّا في أخذته الغيرة وهيَّجه الغضب. قال الزمخشري في ذلك : إذا سوى بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء وارتفع التفاضل ولم يكن لإحداهن مما تريد ومما لا تريد إلا مثل ما للأخرى وعلمن أن هذا التفويض من عند الله وبوحيه اطمأنت نفوسهن وذهب التنافس والتغاير وحصل الرضا وقرت العيون وسلت القلوب.
قوله :﴿ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ﴾ ﴿ كُلُّهُنَّ ﴾ مرفوع ؛ لأنه تأكيد للضمير في قوله :﴿ وَيَرْضَيْنَ ﴾ ١ أي يرضين كلهن بتفضيل من فضلت من قبل من قسم فترضى كل واحدة بما أوتيت من قليل أو كثير لعلمها بأن ذلك فضل من الله تفضل به عليها.
قوله :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ الله يعلم ما يستكن في قلوبكم من الميل إلى بعض النساء دون بعض مما لا يمكن دفعه. وفي ذلك روى الإمام أحمد عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : " اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " والمراد به القلب.
قوله :﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ﴾ الله عليم بما يفعله الناس، بل إن علمه محيط بكل شيء وهو سبحانه ذو حلم ولطف بعباده فلا يعامل المذنبين بالعقوبة ولكنه رحيم بهم وهو ممهلهم ليتوبوا٢.
٢ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٠١ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٣ ص ١٥٥٧.
اختلفوا في تأويل هذه الآية. فقد قيل : نزلت هذه الآية لتبين رضا الله عز وجل عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على حُسْن صنيعهن ؛ إذْ اخترن الله ورسوله والدار الآخرة فكان جزاؤهن أن حظر الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الزواج بغيرهن. وهو قول كثير من علماء السلف منهم ابن عباس.
وقيل : نسخ هذا الحظر وأبيح له التزويج ممن شاء لكنه لم يقع منه بعد ذلك أي زواج بغير نسائه. قال الإمام أحمد : عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء.
وقيل : معنى قوله :﴿ لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ﴾ أي من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك اللاتي آتيت أجورهن، وما ملكت يمينك، وبنات العم والعمات والخال والخالات، والواهبة نفسها لك. وأما ما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك.
واختار الطبري قول من قال : معنى ذلك، لا يحل لك النساء من بعد اللواتي أحللتهن لك بقولي :﴿ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ إلى قوله :
﴿ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾.
قوله :﴿ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ﴾ اختلفوا في المراد بذلك على عدة أقوال. منها : أنه لا يحل لك أن تبدَّل بالمسلمات غيرهن من الكوافر من النصارى واليهود والمشركين ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك منهن.
ومنها : أنه لا يحل لك أن تبدل بأزواجك اللواتي في عصمتك أزواجا غيرهن بأن تطلقهن وتنكح غيرهن ولو أعجبك فيهن الحسن.
ومنها : أنه لا يحل لك أن تبادل من أزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته، وهو ما كانت تفعله العرب في جاهليتها ؛ فقد روي عن أبي هريرة قال : " كان البدل في الجاهلية، أن يقول الرجل للرجل : بادلني امرأتك وأبادلك بامرأتي. أي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي فأنزل الله ﴿ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ﴾ قال الإمام الطبري : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ولا أن تطلق فتستبدل بهن غيرهن أزواجا.
أما ما ملكت يمينه من الإماء فإنما يحل للنبي منهن المؤمنات لما في ذلك من تنزيه لقدره عليه الصلاة والسلام عن معاشرة الأمة الكافرة. ويعزز ذلك قول سبحانه :﴿ ولا تمسكوا بعِصَمِ الكوافر ﴾.
وقيل : يحل له من الإماء الكافرة لعموم قوله :﴿ إلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ وهو الأظهر.
ويستفاد من هذه الآية أيضا استحباب النظر إلى المخطوبة قبل زواجها كيلا يأخذه الندم بعد الزواج إن لم ينظر إليها، وحرصا من الشريعة الكريمة على ترسيخ المودة بين الزوجين ؛ فقد روى أبو داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منا إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل " وقد ذكر أن المغيرة بن شعبة أراد زواج امرأة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " انظر إليها فإنه أحب أن يؤدَمَ١ بينكما " يعني أن تكون بينكما المحبة والاتفاق.
قوله :﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾ الله حفيظ على كل شيء فلا يعزب عن جلاله علم شيء، صغيرا أو كبيرا. سواء في ذلك ما أحله الله لكم أو حرمه عليكم. أو غير ذلك من أخبار الكون كله، فاحذروه سبحانه٢.
٢ تفسير الطبري ج ٢٢ ص ٢٤-٢٥ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٠٢ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢١٩-٢٢٢..
قال أكثر المفسرين : سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش أَوْلَم عليها بتمر وسويق وذبح شاة. قال أنس : فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أدعو أصحابه إلى الطعام فجعل القوم يجيئون فيأكلون فيخرجون ثم يجيء القوم ويأكلون ويخرجون. فقلت : يا نبي الله قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه فقال : " ارفعوا طعامكم "، فرفعوا، وخرج القوم، وبقي ثلاثة أنفار يتحدثون في البيت فأطالوا المكث فتأذى منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحياء، فنزلت هذه الآية وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينه سترا.
وقال ابن عباس : نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام فيقعدون إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون١
هذه بعض آداب الإسلام في الدخول إلى بيوت الناس، فإنه لا يحل لامرئ أن يدخل بيت أحد من الناس إلا أن يستأذن. فإن أذن له دخل. وذلك لما للبيوت من حرمات لا يجوز هتكها أو المساس بها إلا أن يؤذِنَ الداخلُ أهلَ البيت أنه آت، فإن أذنوا له وإلا عاد ومضى في سبيله. أما بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أشدُّ حرمة وأعظمُ قداسة وطهرا وأجدر أن تحاط بالتكريم والإجلال والمهابة أكثر من غيرها من البيوت. وهذا هو قوله سبحانه وتعالى مخاطبا المؤمنين :﴿ لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ ﴾ ﴿ غير ﴾، منصوب على الحال من واو الجماعة في قوله ﴿ تَدْخُلُوا ﴾ ٢ و ﴿ إِنَاهُ ﴾، يعني وقت نضجه وإدراكه. وفعله أنى يأني، بوزن رمى يرمي، نقول : انتظرنا إنى الطعام أي إدراكه. ويقال : أنى الطعام أنىً وإني. وأنى الحميم أي انتهى حره، ومنه قوله :﴿ حميم آن ﴾ ٣
والمعنى : لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يأذن لكم في الدخول أو يطعمكم طعاما حاضرا لا تنتظرون نضجه ولا ترتقبون حضوره فيطول بذلك مقامكم في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيتأذى منكم.
قوله :﴿ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا ﴾ إذا نالوا حظهم من الطعام وجب عليهم الانتشار وهو الخروج من المنزل والتفرق. فإنه إذا تحقق المقصود وهو الإطعام لم يبق بعد ذلك أيما سبب للبقاء أو المكث وبذلك لزم الخروج والتفرق.
قوله :﴿ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ﴾ معطوف على قوله :﴿ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ﴾ أي لا تمكثوا في البيت مستأنسين بالحديث كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب.
قوله :﴿ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ﴾ المكث في البيت أو طول البقاء فيه من غير حاجة فيه إذاية لصاحب البيت. والإذاية أو الأذيّة كل ما تكرهه النفس مما فيه إساءة أو ضيق أو حرج. وذلك محرم على المسلمين فيما بينهم. فلا جرم أن تكون الإذاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغ في التحريم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء. فطبعه وجبلَّتهُ الحياء وهو يتأذى من طول مكثكم من غير حاجة إذا كان يستحيي أن يبين لكم ما به من ضيق.
قوله :﴿ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾ أي لا يمتنع الله من بيان الحق وإظهاره.
قوله :﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ﴾ روي عن أنس قال : قال عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) قلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأزل الله تعالى آية الحجاب٤، وهي قوله :﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ﴾ اختلفوا في المراد بالمتاع هنا، فقيل : العارية من العواري. وقيل : الحاجة من الحاجات وقيل : الفتوى من الفتاوى. وقيل غير ذلك : والصواب أن المتاع عام في جميع ما يطلبه الناس من المواعين وسائر المرافق.
وذلك لأمر من الله للمسلمين إذا سألوا نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الأشياء أو حاجة من الحاجات كفتوى أو استفسار عن مسألة، أن لا يخاطبوهن أو يسألوهن إلا من وراء ستار بينهم وبينهن. وكذلك نساء المسلمين فإنه لا مساغَ للمسلمين أن يسألوهن أو يخاطبوهن إلا من وراء ستار وأن لا يدخلوا عليهن بيوتهن.
قوله :﴿ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ أطهر من الخواطر التي تعرض للرجال من أمر النساء، وللنساء من أمر الرجال وكيلا يكون للشيطان عليكم وعليهن سبيل. وسرعان ما ينفذ الشيطان اللعين إلى نفس الناظر والمنظور كليهما. وذلك لدى التخاطب بينهما في البيوت أو الخلوات. ومن أجل ذلك قطعت الشريعة الإسلامية كل سبيل للشيطان وكل احتمالات الوساوس والخواطر المريبة التي تؤزّ النفس وتثير فيها الانفعال والتململ بعد السكينة والرقاد.
ويستدل من هذه الآية الكريمة أنه ما ينبغي لأحد من الناس أن يثق بنفسه في الخلوة بامرأة أجنبية. فإن مجانبة الخلوة بالأجنبية أحصن للنفس، وأنفى للريبة، وأبعد للتهمة، وهذه حقيقة ظاهرة للعيان فلا يجهلها إلا الجاهلون، ولا يجحده إلا الأفاكون السادرون في الخطيئة والغواية والفسق. حقيقة الحيلولة دون الخلوة المريبة بين الذكر والأنثى. فهما ما يلبثان أن يختليا مرات مكرورة حتى يختلج في نفسيهما طارق الفتنة المنبعثة، ووخز الغريزة المشبوبة الحرّى.
إنها حقيقة نبَّه إليها الإسلام أشدَّ تنبيه، صرفا للفتنة، وصونا للهمم أن تلين، ودرءا للفحات الشهوة أن تستفحل وتستعر. حقيقة قد غفل عنها صانعو الحضارة المادية الحديثة الذين غرروا بالمجتمعات أشنع تغرير فانتكسوا بها إلى الحضيض من التهتك والتفكك والإباحية.
قوله :﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا ﴾ ذلك تكرار للنهي عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بمختلف وجوه الإذاية. ثم نهى سبحانه عن نكاح أزواجه من بعده، فزوجاته صلى الله عليه وسلم أمهات للمسلمين في حياته وبعد مماته. وهذه من خصوصياته صلى الله عليه وسلم. فقد خصَّه الله بجملة أحكام لم يشاركه فيها أحد، تنبيها لرشفه المميز، وعلو منزلته الفضلى. وليت شعري هل لامرئ فيه مسكة من عقل أو بقية من طبع سليم يجترئ على مجرد الرغبة في واحدة من زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن الأمهات الفضليات لسائر المؤمنين في الدنيا والآخرة ؟ !
قوله :﴿ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ﴾ الإشارة إلى إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك بأي وجه من وجوه الإيذاء من القول أو الفعل. وكذلك نكاح أزواجه من بعده فإن ذلك جُرم عظيم وهو من أكبر الكبائر.
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٧٢.
٣ مختار الصحاح ص ٣١ وأساس البلاغة ص ٢٣.
٤ أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٤٣.
لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب ؟ فنزلت هذه الآية. أي لا إثم ولا حرج على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في المذكورين في الآية وهم الآباء والأبناء وأبناؤهم والنساء المؤمنات وما ملكت أيمانهن.
واختلف العلماء في الذي نفى عنه الجناح. فقد قيل : الجلابيب أي لا حرج على الناس أن يضعن جلابيبهن عند هؤلاء المذكورين في الآية.
وقيل : الاحتجاب، فقد رخَّص لهن أن لا يحتجبن، وهذا هو الأولى بالصواب ؛ لأن هذه الآية عقيب آية الحجاب ؛ فيكون المعنى لا إثم على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين في إذنهن للمذكورين في الآية وترك الحجاب عندهم.
أما لِمَ لَمْ يذكر في الآية العم والخال، فسببه أنهما يقومان مقام الأبوين وقد جاءت تسمية العم أبا ؛ إذْ قال الله سبحانه :﴿ وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ﴾ وعلوم أن إسماعيل عم يعقوب. وقيل : كره الاحتجاب عنهما ؛ لأنهما يصفانها لأبنائهما، وأبناؤهما غير محارم.
قوله :﴿ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ﴾ بعد أن رخّص الله للنساء في رفع الحجاب عند الرجال المحارم أمرهن بالتقوى ليخفن الله فلا يتجاوزن ما حدّه لهن، ولا يتركن الاحتجاب عن الأجانب من الرجال، وعليهن أن يطعن الله، ويلتزمن أوامره وشرعه ؛ فإنه سبحانه رقيب شهيد مطلع على السر والعلن ولا تخفى عليه الخوافي١
يُشرّف اللهُ في هذه الآية رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ويجعل له من بالغ التكريم والتعظيم ما لم يجعل لأحد سواه في العالمين ؛ إذْ يصلي عليه الرب بما يفيض عليه من واسع رحمته. وكذلك الملائكة يصلون عليه بدوام الدعاء. وهذه غاية التشريف من الله لعبده المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أما سبب نزول الآية فقد ذكر أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : قد عرفنا السلام عليك مكيف الصلاة عليك فنزلت :﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﴾ الآية١
والصلاة من الله على رسوله، هي ثناؤه عليه، وصلاة الملائكة عليه معناها الدعاء له وقيل : صلاة الله عليه معناها الرحمة، وصلاة الملائكة، الاستغفار. على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض في العمر بغير خلاف.
أما الصلاة عليه في الصلاة فقد قال الشافعي : إنها فرض، فمن تركها لم تصح صلاته، وقال أكثر العلماء : إنها في الصلاة سنة. وقيل : تجب الصلاة على رسول الله كلما ذكر اسمه في مجلس. وبذلك يتكرر وجوب الصلاة عليه بتكرر ذكره صلى الله عليه وسلم. كما في آية السجدة، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره. والأولى بالصواب أن يُصلى عليه عند كل ذكر على سبيل الاحتياط.
وقد وردت أخبار كثيرة في كيفية الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. منها ما رواه البخاري عن كعب بن عجرة قال : قيل : يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة ؟ قال : " قولوا : اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ".
وفي فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج الإمام احمد عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من صلى عليّ صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي " وأخرج الإمام أحمد أيضا عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحطَّ عنه عشر خطيئات ".
وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رغمَ أنفُ رجل ذكرتُ عنده فلن يصل عليّ، ورغم أنف رجل دخل عليه شهرُ رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة ".
وروى رزين بن معاوية في كتابه مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدعاء موقوف بسن السماء والأرض لا يصعد حتى يُصلى عليّ " ثم قال : " صلوا علي أول الدعاء وآخره ووسطه ".
ويستحب الإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وليلة الجمعة. فقد روى الإمام أحمد عن أوس بن أوس الثقفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أفضل أيامكم يوم الجمعة في خلق آدم، وفيه قُبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي " قالوا : يا رسول الله وكيف تُعرض عليك صلاتنا وقد أرمت ؟ قال : " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ".
ولا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة. وهو قول الجمهور من العلماء ؛ لأن ذلك شعارا للأنبياء كلما ذكروا فلا يلحق بهم غيرهم. فلا يقال : قال أبو بكر صلى الله عليه وسلم، وقال علي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه لا يصلى على غير الأنبياء إلا أهل الأهواء والبدع فلا يقتدى بهم.
وقال الإمام النووي : إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم فلا يقتصر على أحدهما، فلا يقول : صلى الله عليه فقط. ولا عليه السلام فقط. وهذا مستفاد من قوله تعالى في الآية :﴿ صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾. ٢
٢ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٠٦-٥١٧ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢٣٢-٢٣٧ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٣ ص ١٥٧٠ والكشاف ج ٣ ص ٢٧٢.
ذلك تهديد من الله ووعيد للمجرمين من الناس الذين يؤذون الله بالكفر به ووصفه بما لا يليق به، كنسبة الشريك أو الولد أو الصاحبة إليه.
ومن إيذائه سبحانه، مخالفة أوامره وارتكاب زواجره ونواهيه، ومجانبة شرعه ومنهجه للبشرية. فإن مجانبة شرع الله والإصرار الغاشم على مخالفة الإسلام واجتناب تعاليمه وأحكامه وتصوراته واستبدال ذلك كله بغيره من ملل الكفر والجحود والإباحية والإلحاد – كل ذلك إيذاء لله سبحانه وإعلان صريح للحرب عليه. وهذه غاية الاجتراء الكنود والتوقّح البشع الذي يتلبس به عصاة البشرية وفسّاقها، وهم يولون جامحين مدبرين عن دين الإسلام ثم يكيدون له بالغ الكيد، ويمكرون به وبأهله في الليل والنهار غاية المكر.
وكذلك يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل وجوه الأذية من القول أو الفعل. فقد أذوه بالفعل، إذ كسروا رباعيته وشجعوا وجهه في أحد، وفي مكة ألقوا سلى الناقة على ظهره وهو ساجد.
وأما الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأقوال فذلك كثير ومذهل وشنيع والحديث عنه تفصيلا يطول. فلقد مَرَدَ الظالمون في بدايتهم الأولى على التقوّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، زورا بأنه : ساحر، كاهن، كذاب، وأنه مجنون. وهي افتراءات سقيمة ومكشوفة لفرط سذاجتها ووضوح كذبها فهي بذلك لا تستعصي على استخفاف المستخفين واستسخارهم.
لكن الظالمين في الأزمنة المتعاقبة قد انتحوا مناحي أشد براعة في الخداع والتخريص، إذ غالوا في الطعن في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سيرته العطرة الفضلى. فقد افتروا عليه بمختلف المطاعن المكذوبة والأباطيل المقبوحة ما يكشف عن مدى الكراهية المركومة التي تستقرّ في قلوب الظالمين في كل زمان.
لقد افترى الأفاكون والدجاجلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واصطنعوا من الأكاذيب والشبهات والترهات ما يشير إلى أنهم موغلون في الضلالة والجهالة. وأنهم مستغرقون في الاضطغان وهوان العقول. وهم ما فتئوا سادرين في ضلالهم وغيهم طيلة حياتهم حتى يموتوا بغيظهم من غير أن ينالوا من شرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سمو منزلته أي منال. ولا تزداد ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرط الكيد من الظالمين الحاقدين وافترائهم عليه إلا رسوخا في أعماق الزمن، واستقرارا في قلوب المسلمين حيثما كانوا.
وهؤلاء الذين يؤذون الله ورسوله قد ﴿ لعنهم الله في الدنيا والآخرة ﴾ اللعن، معناه الطرد والإبعاد من الخير١. لقد أبعد الله هؤلاء الظالمين الخاسرين من رحمته، وحجب عنهم كل ظواهر الخير والفضل ليكونوا مع التاعسين الأشقياء في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ إنهم صائرون إلى ما أعده الله لهم من العذاب الوجيع في النار وبئس القرار٢.
٢ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥١٧ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢٣٧-٢٣٨.
ذلك تنديد بالغ بالذين يرمون السوء والأذية للمسلمين لينتقصوا من أقدارهم وليلحقوا بهم العيوب والنقائص ويبهتونهم بالأكاذيب، ويفتروا عليهم من الأقوال ما يؤذيهم في شرفهم وكرامتهم وسمعتهم أو ينسبوا إليهم ما هم منه برئاء مما لم يفعلوه.
وشِرارُ البرية من هذا الصنف كثيرون موجودون في كل زمان ومكان. أولئك الذين يعيبون على المسلمين بمقالة السوء ليثيروا فيهم الفتنة وليستفزوهم أيما استفزاز وليقضوهم قضّا. وأعتى الفساق من هذا الصنف من الناس، أولئك الذي ينتقصون الصحابة ويعيبونهم بمحقرات الصفات ويفترون عليهم من باطل الأقوال ما يصِمُ هؤلاء المفترين بالفسق والضلال. فإنه لا يفتري على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطعن في أقدارهم ومقاماتهم الكريمة بالتجريح والهراء من القول إلا كذب أشر، أو مفتر أثيم وهو قوله :﴿ فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ أي احتملوا زورا وكذبا وافتراء شنيعا، وسقطوا في الإثم الظاهر الذي يصير بهم إلى الخزي وسوء المصير.
قيل في سبب نزول الآية أن المدينة كانت ضيقة المنازل وكان النساء إذا كان الليل خرجوا لقضاء الحاجة وكان فُسّاق من فُسّاق المدينة يخرجون فإذا رأوا المرأة عليها قناع قالوا هذه حرة فتركوها، وإذا رأوا المرأة بغير قناع قالوا هذه أمة، فكانوا يراودونها. فنزلت هذه الآية١ وفيها يأمر الله نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ونساء المؤمنين إذا خرجن لقضاء الحاجة أن ﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ﴾ والجلابيب جمع جلباب وهو الثوب الكبير الساتر الذي تغطي به المرأة بدنها بدءا بأعلى خمار الرأس حتى أسفل الكعبين فلا يبدو منها غير عينيها وبعض وجهها. وذلك كيلا يتحرَّشَ بهن الفساق في الطريق فيسمعن منهم فاحش الكلام. وهو قوله :﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ﴾ والإشارة عائدة إلى إدناء الجلابيب. وهو مبتدأ، وخبره ﴿ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ ﴾ يعني أقرب أن يعرفن أنهن حرائر فيتميزن عن الإماء ﴿ فَلا يُؤْذَيْنَ ﴾ أي لا يؤذيهن الفساق والمنافقون وأهل الريبة. فقد كانت الأمة إذا مرت تناولها المنافقون بالإذاية والفاحش من الكلام. فنهى الحرائر أن يشتبهن بالإماء كيلا يتعرضن لمثل تلك الإذاية من الفساق والمريبين.
قوله :﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ ذلك عَفْوٌ من الله عنهن ورحمة منه بهن لما سلف منهن ؛ إذْ كُنّ لا يدنين على أنفسهن الجلابيب. على أن النساء المسلمات في أحوالهن المعتادة وهن خارج البيت أو أمام الأجانب مأمورات بإدناء الجلابيب عليهن ليسترن بذلك كل أجسادهن باستثناء الوجه والكفين استدلالا بقوله تعالى :﴿ ولا يُبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ﴾ والمراد بالمستثنى ﴿ إلا ما ظهر منها ﴾ الوجه والكفان، وهو قول أكثر العلماء.
وقيل : هم أهل الفواحش والزنا، والذين في قلوبهم حب الفجور. ثم المرجفون. من الإرجاف وهو التماسُ الفتنة أو إشاعة الكذب والباطل ليغتم به الناس ويستيئسوا. والمراد بالمرجفين، قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يغمهم ويسوؤهم من عدوهم فيقولون إذا خرجت سرايا المسلمين للجهاد : إنهم قد قتلوا جميعا. أو يقولون للمسلمين : قد أتاكم العدو. وغير ذلك من الأخبار الكاذبة. وذلك هو الإرجاف فهو حرام لما فيه من إيذاء للمسلمين وإثارة للفتنة والاضطراب والفزع بينهم. وبذلك فإن المرجفين فريق مريب مفسد من أهل النفاق والخور، يرمون إضعاف المسلمين وتداعي صفهم وانهيار مجتمعهم بإثارة البلبلة والهلع والارتباك بينهم. فقد ندد الله بهذا الصنف من الناس وتوعدهم بالعقوبة في الدنيا والآخرة. وهو قوله :﴿ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ﴾ أي لنسلطنّك عليهم ولنحرشنّك بهم فتقتلهم ﴿ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ﴿ قليلا ﴾، صفة لمصدر محذوف ؛ أي لا يسكنون معك في المدينة إلا مدة يسيرة حتى تخرجهم منها :﴿ مّلعونين ﴾
قوله :﴿ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ﴾ أي حيثما وجدوا من الأرض أو أدركوا أُخذوا وقُتلوا تقتيلا بكفرهم وإيذائهم المسلمين. وقيل : هذا دعاء عليهم وهو أن يؤخذوا ويُقتلوا تقتيلا.
قوله :﴿ ولَن تجد لسنّة الله تبديلا ﴾ أي لا مُبدل لسنة الله في هؤلاء المرجفين والمنافقين إذا أصروا على إرجافهم وكيدهم وخيانتهم لله ورسوله والمؤمنين. وسنة الله فيهم تسليطه المؤمنين عليهم ليقهروهم ويذلوهم١.
يخبر الله عما يقوله المرجفون والمرتابون وأهل النفاق الذي في قلوبهم مرض، إذْ يسألون عن قيام الساعة، على سبيل الاستبعاد والتكذيب موهمين أنها لا تقوم ﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ أي لا يعلم الساعة وقيامها وأخبارها إلا الله. فهو سبحانه وحده عنده علم الساعة، فإليه وحده يرد علمها.
قوله :﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴾ يعني وما أشعرك يا محمد أن الساعة قد دنا وقت مجيئها. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت أنا والساعة كهاتين " وأشار إلى السبابة والوسطى.
وقيل : منصوب بفعل مقدر وهو اذكر. والتقليب يراد به هنا تغيير ألوان الخاسرين الذين يَرِدون النار فيصلونها إصلاءً، فإن ألوانهم تتغير بلفح النار لتسودّ مرة وتخضر مرة أخرى. وقيل : المراد تقلبها تارة على جهة وتارة على جهة أخرى. وهذا ضرب من ضروب العذاب المرير والتنكيل الفظيع الذي يذوقه المجرمون الخاسرون وهم في السعير. وحينئذ يقولون وهم في هذه الحالة من الشدة والهوان والاستيئاس ﴿ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ ﴾ يتمنون لو أطاعوا الله فيما أمرهم به من إيمان برسوله، وأطاعوا رسول الله فيما جاءهم به من عند الله لينجوا كما نجا المؤمنون.
قوله :﴿ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ﴾ أي العنهم أشد اللعن وأعظمه بسبب إغوائهم إيانا وبما اجتالونا عن محجتك المستقيمة البيضاء١.
ذلك بعض حال الكافرين الذين خسروا أنفسهم فباءوا بالارتكاس في جهنم ليذوقوا الوبال والهوان وليعضهم الندم الشديد، وتغشى قلوبهم الحسرة فيجأرون بالأنين والشكوى وهم في النار يصطرخون وينادون وليس لهم من شفيع ولا مجيب.
يحذِّر المؤمنين من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أو فعل يكرهه منهم كيلا يكونوا كبني إسرائيل الذين آذوا نبيهم موسى عليه السلام ؛ إذْ رموه بالعيب كذبا وزورا فبرأه الله من مقالتهم الكاذبة وافترائهم الظالم.
وفي ذلك روى البخاري عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة، وكان موسى عليه السلام يتستَّر كثيرا ويخفي بدنه فقال قوم : هو آدر١ وأبرص أو به آفة فانطلق ذات يوم يغتسل في عين بأرض الشام وجعل ثيابه على صخرة ففرَّ الحجر بثيابه وأتبعه موسى عريانا يقول : ثوبي حجر، ثوبي حجر – يعني يا حجر – حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فنظروا إليه وهو من أحسنهم خلْقا وأعْدلهم صورة وليس به الذي قالوا ؛ فهو قوله تبارك وتعالى ﴿ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ﴾.
قوله :﴿ وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ أي ذا وجاهة ومنزلة عند الله فدفع عنه التهم والأباطيل كيلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة٢.
٢ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٢٠ والكشاف ج ٤ ص ٢٧٦ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٥٢٠.
قوله :﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ أي من أطاع الله فيما أمر، وانتهى عما نهى عنه وزجر وأطاع رسوله الصادق الأمين فيما جاء به من ربه فقد ظفر بالنعيم المقيم ونجا من سوء العاقبة ومن المصير المهين.
اختلف أهل التأويل في المراد بالأمانة على عدة أقوال، منها : أن الأمانة هي الفرائض التي افترضها الله على العباد. وقيل : المراد بذلك أمانات الناس. وقيل : المراد بذلك الأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن الأمانة يراد بها جميع معاني الأمانات في الدين والدنيا. سواء في ذلك الطاعات والعبادات وسائر الفرائض الدينية والأحكام الشرعية من صلاة، وزكاة، وصيام وحج، وجهاد إلى غير ذلك من أمور الدين والعبادة، وكل ما أنيط بالمسلم من واجبات وحقوق للآخرين كالديون والودائع وصلة الأرحام والبر بأولي الجوار والقربى. إلى غير ذلك من وجوه الأمانات التي يناط بالمسلم رعيها وصونها، كحفظ الأوطان ودرء الشر والأذى عن المسلمين في أرواحهم وأعراضهم وأموالهم وكراماتهم.
ومن جملة الأمانات حفظ الضروريات الخمس أولها : العقل. وهو لدى صاحبه أمانة. فما ينبغي أن يفرط فيه بتجهيل أو تغرير أو تحذير بمسكر.
وثانيها : النسل، أو الذرية. وهم أمانات عظام يناط بالوالدين رعيهم وتنشئتهم على الحق والدين وحسن الخلق.
وثالثهما : النفس. وهي أمانة أساسية عظمى تنشر في الإنسان الحياة والحركة وبغيرها يصير الإنسان خامدا مع الخامدين. فما ينبغي الاعتداء على النفس. بإزهاق أو إضرار. قال سبحانه :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾.
ورابعها : المال. وهو أمانة في عنق المرء ليس له أن يُفرّط فيه بل يُنمّيه بالأسباب الحلال ثم يصرفه وينفقه في وجوهه المشروعة، وإلا كان مفرِّطا ظلوما.
وخامسها : الدين. وهو جماع كل الخير، ويناط بالمسلم أن يرعاه ويحافظ عليه وأن يدرأ عنه كل ظواهر التشويه والتحريف والفتنة وما يُفترى عليه من الأباطيل.
وقوله :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ﴾ أي عرض الله الأمانة – على اختلاف صورها ومعانيها وبالغ شأنها وجليل قدرها – على السماوات والأرض، فإن أدوها أثابهم الله جزيل الثواب وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك مشفقين ألا يقوموا بها قياما كاملا.
وقيل : إن الله عرض طاعته وفرائضه على السماوات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت وجوزيت خيرا. وإن ضيعت عوقبت. فأبت حملها إشفاقا ألا تقوم بما يجب عليها، ثم حملها الإنسان إنه كان ظلوما لنفسه جهولا بربه.
أي حمل الإنسان الأمانة وكان مقتضى حمله لها أن يكون الناس صنفين. فصنف المنافقين والمنافقات الذين يستسرون الكفر ويظهرون الإيمان، ثم المشركون والمشركات الذين اتخذوا مع الله آلهة أخرى فكفروا بالله وكذبوا رسله وأولئك يصار بهم إلى العذاب الذي أعده الله لهم جزاءً وفاقا.
ثم صنف المؤمنين والمؤمنات الذين أيقنوا أن الله حق فأطاعوه وأذعنوا له إذعانا وأولئك يتوب الله عليهم ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ الله غفار للذنوب ؛ إذ يسترها على المذنبين والمسيئين الذين يتوبون إليه متابا. وهو سبحانه رحيم بهم ؛ إذ يكتب لهم النجاة من العذاب والفوز بالجنة١.