تفسير سورة ص

حومد
تفسير سورة سورة ص من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد .
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

﴿والقرآن﴾
(١) - صَادْ - اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِالقُرْآنِ ذِي الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ، المُشْتَمِلِ عَلَى مَا فِيهِ ذِكْرٌ لِلعِبَادِ، وَنَفْعٌ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَمَعَادِهِمْ.
(وَجَوَابُ القَسَمِ هُوَ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ السُّوُرَةِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَأَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَى الخَلْقِ كَافَّةً).
وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ جَوَابَ القَسَمِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الآيَةِ التَّالِيَةِ: ﴿بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ.﴾ ذِي الذِّكْرِ - ذِي الشَّرَفِ والرِّفْعَةِ، أَوْ ذِي البَيَانِ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الخَلْقِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ.
(٢) - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالقُرْآنِ لَمْ يَكْفُرُوا بِهِ لأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا فِيهِ عِبْرَةً وَعِظَةً وَذِكْرَى، وَإِنَّمَا كَفَرُوا بِهِ اسْتِكْبَاراً وَحَمِيَّةً (عِزَّةٍ)، وَمُخَالَفَةً وَمُشَاقَّةً لِلْرَّسُولِ.
عِزَّةٍ - حَمِيَّةٍ وَتَكَبُّرٍ عَنِ الانْصِيَاعِ لِلْحَقِّ.
شِقَاقٍ - مُشَاقَّةً وَمُخَالَفَةً للهِ وَلِلرَّسُولِ.
(٣) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالى هَؤُلاَءِ الكَافِرِينَ المُعَانِدِينَ المُشَاقِّينَ لِلرَّسُولِ الكَرِيمِ إِلى أَنَّهُ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَثِيراً مِنَ الأًمَمِ (مِنْ قَرْنٍ) المُكَذِّبَةِ، فَنَادَوْا حِينَ جَاءَهُمُ العَذَابُ، وَاسْتَغَاثُوا وَجَأَرُوا إِلى اللهِ بالدُّعَاءِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ شَيْئاً، لأَنَّ أَوَانَ العَمَلِ والتَّوْبَةِ قَدْ فَاتَ، وَجَاءَ البأْسُ، فَلَيْسَ الوَقْتُ وَقْتَ فِرَارٍ وَهَرَبٍ مِنَ العِقَابِ. كَمْ أَهْلَكْنَا - كَثِيراً مَا أَهْلَكْنَا.
قَرْنٍ - أُمَّةٍ.
فَنَادَوْا - فَاسْتَغَاثُوا حِينَ عَايَنُوا العَذَابَ.
وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ - لَيْسَ الوَقْتُ وَقْتَ فِرَارٍ وَخَلاَصٍ.
﴿الكافرون﴾ ﴿سَاحِرٌ﴾
(٤) - وَتَعَجَّبُوا مِنْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ يَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ لِيَدْعُوَهُمْ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَا يُمَيِّزُهُ عَنْهُمْ لِيَخْتَصَّهُ اللهُ بِحَمْلِ رِسَالَتِهِ مِنْ دُونِهِمْ، وَقَالَ الكَافِرُونَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مَا هُوَ إِلاَّ خَدَّاعٌ كَذَّابٌ فِيمَا يَنْسُبُهُ إِلَى اللهِ مِنْ إِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ رَسُولاً لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ.
﴿وَاحِداً﴾
(٥) - أَيَزْعُمُ أَنَّ المَعْبُودَ إِلَهٌ وَاحِدٌ، لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ؟ ثُمَّ تَعَجَّبُوا مِنْ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الإِقْلاَعِ عَنِ الشِّرْكِ الذِي أُشْرِبَتْهُ نُفُوسُهُمْ، وَتَلَقَّوْهُ عَنْ أَسْلاَفِهِمْ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ يُثِيرُ العَجَبَ الشَّدِيدَ.
(وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ والتَي تَليها، أَنَّهُ لَمَّا مَرْضَ أَبُو طَالِبٍ عَمُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ دَخَلَ عَلَيْهِ نَفْرٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَشْتُمُ آلِهَتَنَا، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ فَنَهَيْتَهُ. فَبَعَثَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَجَاءَهُ وَعِنْدَهُ القَوْمُ. فَقَالَ لَهُ: أَيِ ابْنَ أَخِي مَا لِقَومِكَ يَشْكُونَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَهُمْ، وَتَقُولُ وَتَقُولُ؟ فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَها تَدِينُ لَهُمْ بَهَا العَرَبُ، وَتُؤْدِّي لَهُمْ بِهَا العَجَمُ الجِزْيَةَ، فَفَرِحُوا لِكَلِمَتِهِ، فَقَالَ القَوْمُ: وَمَا هِيَ وَأَبِيكَ لَنُعْطِيَنَّكَهَا وَعَشراً. قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: (لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)، فَقَامُوا فَزِعِينَ يَنْفُضُونَ أَثْوَابَهُمْ وَيَقُولُونَ: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيءٌ عُجَابٌ: فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَاتِ).
عُجَابٌ - بَالِغُ الغَايَةِ فِي العَجَبِ - أَوْ مُثِيرٌ لِلْعَجَبِ.
﴿آلِهَتِكُمْ﴾
(٦) - وَانْطَلَقَ قَادَةُ قُريشٍ (المَلأُ) مِنْ مَجْلِسِ أَبي طَالِبٍ يَائِسِينَ لِمَا رَأَوْهُ مِنْ تَصَلُّبِ مُحَمَّدٍ فِي دِينِهِ، يَتَحَاوَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَوْلَ مَا جَرَى، وَيُقَلِّبُونَ أَوْجُهَ الرَّأْيِ فِيمَا يَفْعَلُونَ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اثْبُتُوا عَلَى عِبَادَةِ أَصْنَامِكُمْ، واحْتَمِلُوا القَدْحَ فِيهَا، وَالغَض مِنْ شَأْنِهَا، وَلاَ تَسْتَجِيبُوا لِمَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنَ التَّوحِيدِ، فَهَذَا الذِي يَدْعُوكُم إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَنَالَ بِهِ الشَّرَفَ، وَالرِّفْعَةَ، والاسْتِعْلاَءَ عَلَيْكُمْ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْكُم أَتْبَاعٌ، وَلَسْنَا بِمُسْتَجِيبِينَ لَهُ، (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ).
المَلأ مِنْهُمْ - كُبَرَاءُ المُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ.
امْشُوا - سِيرُوا عَلَى طَريقَتِكُمْ وَدِينِكُمْ.
﴿الآخرة﴾ ﴿اختلاق﴾
(٧) - مَا سَمِعْنَا بِهَذَا الذِي يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ فِي مِلَّةِ النَّصَارَى (المِلَّةِ الآخِرَةِ)، فإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بالتَّثِلِيثِ، وَيَقُولُونَ إِنَّهُ الدِّينَ الذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّداً لَوْ كَانَ نَبِيّاً حَقّاً لأَخْبَرَتْهُمْ بِهِ النَّصَارَى، وَبِمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُخْبِرُوهُمْ بِهِ فَإِنَّ الدِّينَ الذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مَا هُوَ إِلاَّ كَذِبٌ واخْتِلاَقٌ وَتَخَرَّصٌ.
المِلَّةِ الآخِرَةِ - مِلَّةِ النَّصَارَى.
اخْتِلاَقٌ - افْتِرَاءٌ وَكَذِبٌ.
﴿أَأُنزِلَ﴾
(٨) - إِنَّهُ مِنَ البَعِيدِ أَنْ يَخْتَصَّ اللهُ تَعَالَى مُحَمَّداً مِنْ بَيْنِهِمْ بِإِنْزَالِ القُرْآنِ عَلَيْهِ، وَبِجَعْلِهِ رَسُولاً مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمْ ذَوِي الجَاهِ والنُّفُوذِ والثَّرَاءِ العَرِيضِ. وَيُقرِّعُهُمْ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا القَوْلِ، وَهَذَا التَّشَكُّكِ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ تِلْكَ الدَّلاَئِلَ التِي لَوْ أَنَّهُمْ تَابَعُوهَا لَزَالَ مَا يَسْتَشْعِرُونَهُ مِنَ الشَّكِّ، لأَنَّهَا دَالَّةٌ بِنَفْسِهَا عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَلَكِنَّهُمْ حِينَ تَرَكُوا النَّظَرَ والاسْتِدْلاَلَ لَمْ يَصِلُوا إِلَى الحَقِّ، وَهُمْ فِي الحَقيقَةِ إِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ لأَنَّهُمْ لَمْ يَذُوقُوا عَذَابَ اللهِ وَنَقْمَتَهَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ ذَاقُوا عَذَابَ اللهِ لَزَايَلَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّكِّ والحَسَدِ، وَلَمَا كَذَّبُوَا رَسُولَ اللهِ مُحَمَّداً ﷺ.
﴿خَزَآئِنُ﴾
(٩) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى العِبَادَ بِأَنَّهُ هُوَ المُتَصَرِّفُ فِي الكَوْنِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لأَنَّهُ خَلْقُهُ وَمُلْكُهُ، وَأَنَّ اللهَ هُوَ الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَهُوَ الذِي يُنَزِّلُ الرُّوحَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّ العِبَادَ لاَ يَمْلِكُونَ مِنَ الأَمْرِ شَيئاً، فَيَقُولُ لَهُمْ: أَيَمْلِكُونَ هُمْ خَزَائِنَ رَحْمَةِ اللهِ القَهَّارِ لِخَلْقِهِ حَتَّى يَتَصَرَّفُوا هُمْ فِيهَا حَسْبَ مَا يُرِيدُونَ، وَيَمْنَحُوهَا مَنْ يَشَاؤُونَ، وَيَصرِفُوهَا عَمَّنْ لاَ يُحِبُّونَ؟
﴿السماوات﴾ ﴿الأسباب﴾
(١٠) - أَمْ يَمْلِكُونَ شَيئاً فِي السَّمَاءِ والأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا حَتَّى يَعْتَرِضُوا عَلَى التَّصْرُّفَاتِ الإِلَهِيَّةِ؟ فَإِنْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ شَيئاً مِنْ أَمْرِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ فَلْيَصْعَدُوا فِي طُرُقِ السَّمَاوَاتِ، وَليَصِلُوا إِلَى السَّمَاوَاتِ العَلاَ، وَليُدَبِّرُوا شُؤُونَهُمَا حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي دَعْوَاهُمْ، لأَنَّهُ لاَ سَبِيلَ إِلَى التَّصَرُّفِ بِهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ.
(١١) - إِنَّ أَعْدَاءَ اللهِ الذِينَ يَقُولُونَ هَذَا القَوْلَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ اللهِ حَسْبَ أَهْوَائِهِم وآرَائِهِم الفَاسِدَةِ، لاَ يَزِيدُونَ عَلَى أَنْ يَكُونُوا جُنْداً مَهْزُوماً هَيِّناً، لاَ يَمْلِكُ شَيئاً مِنْ تَصْرِيفِ مُلْكِ اللهِ، وَلاَ تَدْبِيرِ خَزَائِنِهِ، وَلاَ شَأنَ لَهُمْ فِيمَا يَجْرِي بِهِ قَضَاءُ اللهِ، وَلاَ قُدْرَةَ لهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ شَيءٍ مِمَّا قَضَاهُ اللهُ. وَهُوَ جُنْدٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ جَمَاعَاتٍ وَأَحْزَابٍ مُخْتَلِفَةِ الأَهْوَاءِ والآرَاءِ والمَشَارِبِ، وَسَيُهْزَمُ الأَحْزَابُ الذينَ تَأَلَّبُوا عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، كَمَا هُزِمَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الأَحْزَابِ الذِينَ تَأَلَّبُوا عَلَى رُسُلِ اللهِ السَّابِقِينَ، وَكَذَّبُوهُمْ.
جُنْدٌ مَا - جَمَاعَةٌ حَقِيرَةٌ هَيِّنَةٌ.
هُنَالِكَ - فِي مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ، أَو يَوْمَ بَدْرٍ.
(١٢) - وَيُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى هُؤَلاَءِ المُكَذِّبِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، بِأَقْوَامٍ كَانَتْ قَبْلَهُمْ، وَكَانَتْ أَشَدَّ مِنْهُمْ بَأْساً وَبَطْشاً وَقُوَّةً، فَطَغَوْا وَبَغَوْا، فَجَاءَهُمْ رُسُلُ اللهِ تَعَالَى، فَكَذَّبُوهُمْ، فَدَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُبْقِ لَهُمْ فِي أَرْضِهِمْ بَاقِيةً.
وَيَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الأَقْوَامِ المُكَذِّبَةِ: قَوْمَ نُوحٍ الذِينَ أَغْرَقَهُمْ بالطُّوفَانِ، وَقَوْمَ عَادٍ الذِينَ أَهْلَكَهُمْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، وَفِرْعُونَ مَلِكَ مِصْرَ وَجُنْدَهُ، وَقَدْ أَغْرَقَهُمُ اللهُ فِي البَحْرِ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَى ثَبَاتِ مُلْكِ فِرْعَوْنَ واسْتِقْرَارِهِ فَشَبَّهَهُ بِبَيْتٍ مِنَ الشَّعْرِ ثُبَّتَتْ أَوْتَادُهُ فِي الأَرْضِ.
(وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى - ذُو الأَوْتَادِ - هُوَ أَنَّهُ صَاحِبُ الأَهْرَامَاتِ والأَبْنِيَةِ الفَخْمَةِ المُتَرَسِّخَةِ فِي الأَرْضِ كَالأَوْتَادِ).
(وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ مَعْنَاهَا هُوَ أَنَّ فِرْعُونَ سُمِّيَ بِذِي الأَوْتَادِ لأَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ قَتْلَ خُصُومِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ لَهُمْ فِي الأَرْضِ أَوْتَادَاً يَشُدُّ إِلَيْهَا أَطْرَافَهُمْ، ثُمَّ يَقْتُلُهُمْ بِالنِّبَالِ).
﴿أَصْحَابُ﴾ ﴿الأَيْكَةِ﴾ ﴿أولئك﴾
(١٣) - ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى ثَمُودَ قَوْمَ صَالِحٍ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ اللهُ بِالصَّيْحَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْمَ لُوطٍ وَقَدْ دَمَّرَ اللهُ قُرَاهُمْ، وَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، فَلَمْ يَنْجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَصْحَابَ الأَيْكَةِ، وَهُمْ قَوْمُ شُعَيبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَكَانَتْ بِلادُهُمْ جَنُوبِيِّ الأَرْدُنِّ - قُرْبَ العَقَبَةِ - وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَهُؤُلاَءِ جَمِيعاً تَحَزَّبُوا عَلَى رُسُلِهِمْ، وَهُمْ كالأَحْزَابِ الذِينَ اجْتَمَعُوا عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ.
أَصْحَابُ الأَيْكَةِ - أَهْلُ الغَيْضَةِ الكَثِيفَةِ المُلْتَفَّةِ الشَّجْرِ، قَوْمُ شُعَيْبٍ.
(١٤) - وَكُلُّ هَؤُلاءِ الأَقْوَامِ قَدْ كَذَّّبُوا رُسُلَ اللهِ، وَكَانُوا ذَوِي قُوَّةٍ وَبَأْسٍ وَبَطْشٍ، وَعَدَدٍ وَبُنْيَانٍ رَاسِخٍ فِي الأَرْضِ فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُبَالِ بِهِمْ، فَكَيْفَ يَكُونَ حَالُ المَكَذِّبِينَ الضُّعَفَاءِ مِنْ قَوْمِكَ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ مَا لاَ قِبلَ لَهُمْ بِهِ مِنَ العَذَابِ؟
﴿واحِدَةً﴾
(١٥) - وَهَلْ يَنْتَظِرُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ (هَؤُلاَءِ) إِلاَّ نَفْخَةًَ وَاحِدَةً فِي الصُّورِ حَتَّى يُصْعَقُوا، وَيَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ مِنْ قَبْلَهُمْ، وَلاَ يَحْتَاجُ الأَمْرُ إِلَى صَيْحَةٍ ثَانِيَةٍ غَيْرِهَا لإِهْلاَكِهِمْ، وَإِذَا حَلَّ الأَجَلُ المَضْرُوبُ لِعَذَابِهِمْ فَإِنَّهُمْ لاَ يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ وَلَوْ مُدَّةً قَلِيلَةً.
الفَوَاقُ - الزَّمَنُ الفَاصِلُ بَيْنَ حَلْبَتَيْنِ لِلنَّاقَةِ، أَيْ إِنَّ العَذَابِ يَأتِيهِمْ فَوْراً وَلاَ يَتَأَخَّرُ لَحْظَةً وَاحِدَةً.
(١٦) - وَحِينَمَا سَمِعَ الكَافِرُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَخَّرَ عَذَابَهُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، قَالُوا سَاخِرِينَ مُسْتَهْزِئِينَ: رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا نَصِيبَنَا مِنَ العَذَابِ (قِطَّنَا) الذِي تُوِعدُنَا بِهِ، وَلاَ تُؤخِّرْهُ إِلَى يَوْمِ الحِسَابِ، الذِي يَبْدَأَ بِالصِّيْحَةِ المُهْلِكَةِ للبَشَرِ.
(وَالذِي قَالَ هَذَا القَوْلَ مِنَ المُشْرِكِينَ هُوَ النَّضْرُ بنُ الحَارِثِ أَوْ أَبُوا جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ).
القِطُّ - النَّصِِيبُ أَوِ الحَظُّ أَوْ كِتَابُ الأَعْمَالِ.
﴿دَاوُودَ﴾
(١٧) - يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ بِأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ والأَنْبِيَاء قَبْلَهُ كَذَّبَتْهُمْ أَقْوَامُهُمْ، وَاسْتَهْزَأَتْ بِهِمْ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْجَزَ لَهُمْ وَعْدَهُ بِأَنَّ النَّصْرَ والغَلَبَةَ سَتْكُونُ لَهُمْ، وَأَنَّ الكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ سَيَكُونُونَ هُمُ المَخْذُوِلِينَ الخَاسِرِينَ.
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّداً بالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الكَفَرَةُ الطُّغَاةُ مِنْ قَوْمِهِ الذِين قَالُوا عَنْهُ مَرَّةً سَاحِرٌ، وَمَرَّةً مَجْنُونٌ، وَمَرَّةً كَذَابٌ.. وَقَالُوا عَنْهُ سَاخِرِينَ: أَأُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ دُونِنَا.
وَيُذَكِّرُ اللهُ رَسُولَهُ بِقِصَّةِ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، الذِي حَبَاهُ اللهُ بالقُوَّةِ والسُّلْطَانِ (ذَا الأَيْدِ)، وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ أَوَّاباً كَثِيرَ الرُّجُوعِ إِلَى رَبِّهِ، طَائِعاً تَائِباً َذَاكِراً، وَكَانَ دَاوُدُ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً، وَكَانَ يَقُومُ ثُلُثَ الليلِ مُتَعَبِّداً رَبَّهُ.
ذَا الأَيْدِ - ذَا القُوَّةِ فِي الدِّين والعِبَادَةِ.
أَوَّابٌ - رَجَّاعٌ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ والتَّوْبَةِ.
(١٨) - وَقَدْ سَخَّرَ اللهُ تَعَالَى الجِبَالَ تُسَبِّحُ مَعَ دَاوُدَ، وَهِيَ تَسْمَعُ تَرَانِيمَهُ عِنْدَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا. وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِفَضْلِ العِبَادَةِ فِي هَذَيْنِ الوَقْتَينِ.
(١٩) - وَكَانَتِ الطَّيْرُ تَتَجَمَّعُ عِنْدَمَا تَسْمَعُ نَغَمَاتِ تَرَانِيمِهِ فِي تَمْجِيدِ اللهِ، وَتَقَدْيِسِهِ، لِتُشَارِكَهُ تَسْبِيحَهُ لِخَالِقِهِ، وَتَمْجِيدَهُ لَهُ، وَهِيَ مُطِيعَةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرِهِ يُُصَرِّفُها كَيْفَ يَشَاءُ.
﴿آتَيْنَاهُ﴾
(٢٠) - وَقَوَّى اللهُ مُلْكَ دَاوُدَ بِكَثْرَةِ الجَنْدِ، وَبَسْطَهِ الثَّرَاءِ، وَعِظَمِ الهَيْبَةِ، وَنُفُوذِ الكَلِمَةِ، والنَّصْرِ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَأَعْطَاهُ العَقْلَ والفَهْمَ والفِطْنَةَ (وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ)، فَكَانَ يَسُوسُ مُلْكَهُ بِالْحِكْمَةِ والحَزْمِ مَعاً، وَحُسْنِ الفَصْلِ فِي الخُصُومَاتِ.
شَدَدْنَا مُلْكَهُ - مَددْنَاهُ بِأَسْبَابِ القُوَّةِ كُلِّهَا.
آتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ - النُبُوَّةَ وَكَمَالَ العِلْمِ وَإِتقانَ العَمَلِ.
فَصْلَ الخِطَابِ - عِلْمَ الفَصْلِ فِي الخُصُومَاتِ.
﴿أَتَاكَ﴾ ﴿نَبَأُ﴾
(٢١) - وَهَلْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ خَبَرُ ذَلِكَ النَّبَإِ العَجِيبِ، نَبَأ الخُصُومِ الذِينَ تَسَلَّقُوا سُورَ الغُرْفَةِ التِي كَانَ دَاوُدُ يَتَعَبَّدُ رَبَّهُ فِيهَا (المِحْرَابَ)، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِنَ السُّورِ، لاَ مِنَ البَابِ، وَهُوَ مُنْشَغِلٌ بِالعِبَادَةِ؟
تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ - تَسَلَقُوا سُورَ غُرْفَةِ مُصَلاَّهُ وَنَزَلُوا إِلَيْهِ.
﴿دَاوُودَ﴾ ﴿الصراط﴾
(٢٢) - وَقَدْ دَخَلَ الخَصْمَانِ عَلَى دَاوُدَ وَهُوَ مُنْشَغِلٌ بِالعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِ جُلُوسِهِ لِلْحُكْمِ، وَكَانَ لاَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ حَتَّى يَخْرُجَ هُوَ إِلَى النَّاسِ، فَخَافَ هُوَ مِنَ الدَّاخِلَيْنِ عَلَيْهِ بِالتَّسَوُّرِ لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ بِالتَّسَوُّرِ إِلاَّ مَنْ أَرَادَ شَرّاً، فَطَمْأَنَهُ الخَصْمَانِ، وَقَالاَ لَهُ إِنَّهُمَا خَصْمَانِ تَجَاوَزَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ، وَقَدْ جَاءَا إِلَيْهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِالحَقِّ والعَدْلِ، وَطَلَبَا إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَجُورَ فِي حُكْمِهِ، وَأَنْ يَهْدِيَهُمَا إِلَى الحُكْمِ السَّوِيِّ العَادِلِ.
بَغَى بَعْضُنَا - تَعَدَّى وَظَلَمَ وَجَارَ.
لاَ تُشْطِطْ - لاَ تَجُرْ فِي حُكْمِكَ.
سَوَاءَ الصِّرَاطِ - وَسَطَ الطَّرِيقِ، وَهُوَ عَيْنُ الحَقِّ.
﴿وَاحِدَةٌ﴾
(٢٣) - وَقَالَ أَحَدُ الخَصْمَينِ لِدَاوُدَ: إِنَّهُ يَمْلِكُ شَاةً وَاحِدَةً وَإِنَّ صَاحِبَهُ يَمْلِكُ تِسْعاً وَتِسْعِينَ شَاةً (نَعْجَةً)، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ مَالِكُ النِّعَاجِ الكَثِيرَةِ: أَعْطِنِي نَعْجَتَكَ لأَضُمَّهَا إِلَى نِعَاجِي، وَأْكْفُلَهَا لَكَ، وَغَلَبَنِي فِي المُحَاجَّةِ، لأَنَّهُ جَاءَ بِحُجَجٍ - لَمْ أَسْتَطِعْ لَهَا دَفْعاً.
عَزَّنِي فِي الخِطَابِ - غَلَبَنِي فِي المُحَاجَّةِ، وَقِيلَ إِنَّهَا تَعْنِي شَدَّدَ عَلَيَّ فِي القَوْلِ وَأَغْلَظَ.
﴿آمَنُواْ﴾ ﴿الصالحات﴾ ﴿دَاوُودُ﴾ ﴿فَتَنَّاهُ﴾
(٢٤) فَقَالَ دَاوُدُ لِلْمُتَكَلِّمِ مِنَ الخَصْمَين: إِنَّ صَاحِبَكَ قَدْ ظَلَمَكَ وَجَارَ عَلَيْكَ إِذْ طَلَبَ مِنْكَ نَعْجَتَكَ الوَحِيدَةَ لِيَضُمَّهَا إِلَى نِعَاجِهِ. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الذِينَ يَتَعَامَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَجورُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَثْنَاءَ التَعَامُلِ، إِلاَّ المُتَقَّينَ الصَّالِحِينَ، فَهؤُلاَءِ يُرَاقِبُونَ الله وَيَخْشَوْنَهُ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ الظُّلْمِ والجَورِ وَلكِنَّ هَؤُلاَءِ قَلِيلُونَ.
وَيَبْدُو أَنَّ دَاودَ، عَلَيْهِ السَّلامَ، أَصْدَرَ حُكْمَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ حُجَّةَ الخَصْمِ الآخَر، إِذْ أَنَّهُ لَوْ سَمِعَهَا فَقَدْ يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ فِي النِّزَاعٍ، مَعَ أَنَّ الحَكَمَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يُسْتَثَارَ، وَأَنْ لاَ يُؤْخَذَ بِظَاهِرِ القَوْلِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَحَ الخَصْمَ الآخَرَ فُرْصَةً لِلدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُمَحِّصَ وَيُدَقِّقَ فِيمَا يَعْرِضُه الخُصُومُ عَلَيْهِ لِكَيْلاَ يَصْدُرَ حُكْمُهُ عَنْ هَوىً وَانْفْعَالٍ.
وَلَمَّا تَوَارَى الخَصْمَانِ - وَيَبْدُوا أَنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ مُرْسَلَينِ إِلَيْهِ مِن اللهِ تَعَالَى - أَدْرَكَ دَاوُدُ أَنَّ اللهَ أَرَادَ اخْتِبَارَهُ وَفِتْنَتَهُ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، وَخَرَّ سَاجِداً تَائِباً.
(وَقَدْ وَرَدَتْ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ لَيْسَ لَهَا سَنَدٌ صَحِيحٌ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ سُنَّةٍ فَيَحْسُنُ إِهْمَالُهَا).
الخُلَطَاءِ - الشُّرَكَاءِ.
فَتَنَّاهُ - امْتَحَنَّاهُ واخْتَبَرْنَاهُ.
أَنَابَ - رَجَعَ إِلى اللهِ بالتَّوْبَةِ.
﴿مَآبٍ﴾
(٢٥) - فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ، وَغَفَرَ لَهُ تَسَرُّعَهُ فِي الحُكْمِ، وَسَتَكُونُ لَهُ يَومَ القِيَامَةِ قُرْبَةٌ يُقَرِّبُهُ اللهُ بِهَا، وَسَيَكُونُ لَهُ حُسْنُ مَرْجِعٍ، لِتَوْبَتِهِ وَعَدْلِهِ التَّامِ فِي مُلْكِهِ.
لَزُلْفَى - لَقُرْبَةً وَمَكَانَةً.
حُسْنَ مَآبٍ - حُسْنَ مَرْجِعٍ فِي الآخِرَةِ.
﴿ياداوود﴾ ﴿جَعَلْنَاكَ﴾
(٢٦) - وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِدَاوُدَ: إِنَّهُ جَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ، نَافِذَ الكَلِمَةِ والحُكْمِ بَينَ الرَّعِيَّةِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَالعَدْلِ، وَأَنْ لاَ يَتَّبعَ الهَوَى لأَنَّ اتِّبَاعَ الهَوَى يَكُونُ سَبَباً لِلضَّلاَلَةِ وَالجَوْرِ عَنِ الطَّرِيقِ القَويمِ الذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى.
ثَمَّ يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ الذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَهُدَاهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ (يَوْمَ الحِسَابِ) عَذَابٌ شَدِيدٌ لِنِسْيَانِهِمْ ذَلِكَ اليَومَ، وَإِنَّ الله سَيُحَاسِبُ العِبَادَ فِيهِ عَلَى أَعَمَالِهِمْ جَمِيعاً، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا.
﴿بَاطِلاً﴾
(٢٧) - إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لِلْعَبَثِ وَاللَّهْوِ والتَّسْلِيَةِ، وَإِنَّمَا خَلَقَهَا بِالحَقِّ وَقَائِمَةً عَلَى الحَقِّ، لِلْعَمَلِ فِيهَا بِأَمْرِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، والانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى اللهُ عِبَادَهُ عَنْهُ، وَإِنَّهُ تَعَالَى لَنْ يَتْرُكَ الخَلْقَ سُدىً، بَلْ إِنَّهُ سَيَبْعَثُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَرَّةً أُخْرَى لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَلقَى كُلُّ وَاحِدٍ جَزَاءَهُ حَسْبَ عَمَلِهِ.
والذِينَ كَفَرُوا ظَنُّوا أَنَّ الله خَلَقَ الخَلْقَ عَبَثاً وَبَاطِلاً، وَلَمْ يُدْرِكُوا الحِكْمَةَ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنَّ الخَلْقَ إِنَّمَا وُجِدَ لِيَكُونَ دَلِيلاً عَلَى وُجُودِ اللهِ تَعَالَى الذِي خَلَقَهُ، وَبُرْهَاناً عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ فَالوَيْلُ والهَلاَكُ لِلكَافِرينَ مِنَ النَّارِ، التِي سَيُعَذِّبُهُم اللهُ فِيهَا، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَسُوءِ أَعْمَالِهِمْ.
بَاطِلاً - عََبثَاً وَلَهْواً وَلَعِباً.
فَوَيلٌ - فَهَلاَكٌ وَخِزيٌ.
﴿آمَنُواْ﴾ ﴿الصالحات﴾
(٢٨) - إِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يُسَوِّي بَينَ الأَخْيَارِ، الذِينَ آمَنُوا بَرَبِّهِمُ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ، وَبَينَ الفُجَّارِ، الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، واجْتَرحُوا السَّيِئَاتِ والفَسَادَ فِي الأَرْضِ، وَلاَ يَجْعَلُ الذينَ اتَّقُوا رَبَّهُمْ كالفُجَّارِ والمُفْسِدِينَ، وَإِنَّهُ سَيَجْمَعُ الجَمِيعَ يَومَ القِيَامَةِ لِيَجْزِيَ كُلَّ وَاحِدٍ بِعَمَلِهِ، وَهَذا دَلِيلٌ عَلَى عَدْلِ اللهِ تَعَالَى التَّام.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ المَقْصُودَ بالذِينَ آمَنُوا وَعِملُوا الصَّالِحَاتِ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُمْ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ وَعَلِيُّ بنُ أبي طَالِبٍ وَعُبَيْدَةُ بنُ الحَارِثِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، الذِين كَانُوا أَوَّلَ مَنْ بَرَزَ إِلَى مَيْدَانِ الحَرْبِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَتَلُوا ثَلاَثَةً مِنْ رُؤُوسِ الشِّرْكِ: هُمْ عُتبَةُ بَنُ رَبِيعَةَ وأَخُوهُ شَيْبَةُ، وَابْنُهُ رَبِيعَةُ. وَعُتْبَةُ وأخُوهُ وابْنُهُ هُمُ الذِينَ عَنَتْهُمُ الآيَةُ الكَرِيمَةُ بِالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ).
﴿كِتَابٌ﴾ ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ ﴿مُبَارَكٌ﴾ ﴿آيَاتِهِ﴾ ﴿أُوْلُواْ﴾ ﴿الألباب﴾
(٢٩) - وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى إلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، هَذَا القُرْآنِ، وَفِيهِ خَيرٌ وَبَرَكَةٌ، وَنَفْعٌ وَهُدىً لِلنَّاسِ، لِيُرْشدَهُمْ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ، وَلِيَتَدَبَّرَهُ أُولُو الأَفْهَامِ والعُقُولِ والأَلْبَابِ. وَتَدَبُّرُ القُرْآنِ لاَ يَكُونُ بِحُسْنِ تِلاَوَتِهِ، وَإِنَّما يَكُونَ بِالعَمَلِ بِمَا فِيهِ، واتِّبَاعِ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ أَوَامِرَ، وَالانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ.
﴿لِدَاوُودَ﴾ ﴿سُلَيْمَانَ﴾
(٣٠) - وَأَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى دَاوُدَ بِأَنْ وَهَبَهُ وَلَدَهُ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ عَبداً مُحْسِناً مُطِيعاً للهِ، حَسَنَ الاعْتِقَادِ والإِيْمَانِ، كَثِيرَ الإِنَابَةِ والرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى.
﴿الصافنات﴾
(٣١) - وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الخُيُولُ الجِيَادُ الصَّافِنَاتُ، مِن العَصْرِ حَتَّى نِهَايَةِ النَّهَارِ، لِيَنْظُرَ إِلَيْهَا، وَيَتَعَرَّفَ أَحْوَالَهَا، وَمَبْلَغَ صَلاَحِهَا لِخَوْضِ الحُرُوبِ فِي سَبِيلِ اللهِ.
الصَّافِنَاتُ - صِفَةٌ لِلْخُيُولِ الكَرِيمَةِ التِي تَقِفُ عَلَى ثَلاَثٍ مِنْ قَوائِمِها وَتَرْفَعُ طَرَفَ حَافِرِ الرَّابِعَةِ.
(٣٢) - فَقَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّهُ أَحَبَّ الخَيْلَ، وَإِنَّ تِلْكَ المَحَبَّةَ إِنَّمَا كَانَتْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَأَمْرِهِ، لاَ عَن الشَّهْوَةِ والهَوَى. وَظَلَّ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَهِيَ تَنْهَبُ الأًَرْض بِفُرْسَانِهَا، حَتَّى حَجَبَهَا الغُبَارُ عَنْ نَاظِرَيْهِ، فَأَعْجَبَهُ مِنْهَا حُسْنُ جَرْيِها.
(وَقِيلَ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: أَنَّهُ ظَلَّ يَنْظُرُ إِلَى الخَيْلِ وَهِيَ تَجْرِي، فَأَلهتْهُ عَن الصَّلاَةِ، وَلَمْ يَنْتَبِهْ إِلَى أَنَّ الشَّمْسَ تَمِيلُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَوَارَتِ الشَّمْسُ وَرَاءَ الأُفُقِ، فَأَضَاعَ صَلاَةَ العَصْرِ فَقَالَ إِنَّ حُبَّهُ لِلْخَيْلِ قَدْ أَنْسَاهُ الصَّلاَةَ).
(٣٣) - فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِمَنْ حَوْلَهُ: رُدُّوا هَذِهِ الخَيْلَ فَكَفَى مَا قَامَتْ بِهِ مِنْ جَريٍ فِي ذَلِكَ اليَومِ، وَلَما رُدَّتْ إِلَيْهِ أَخَذَ يَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِيَدَيْهِ تَكْرِيماً لَهَا.
(وَقِيلَ بَلْ إِنَّ المَعْنَى هُوَ أَنَّهُ طَلَبَ أَنْ تُرَدَّ الخَيْلُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللهِ لاَ تَشْغَلِنَنِي عَنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهَا، وَعَرَاقِبُها بالسُّيُوفِ. وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ).
﴿سُلَيْمَانَ﴾
(٣٤) - وَلَقَدِ امْتَحَنَ اللهُ تَعَالَ سُلَيْمَانَ حَتَّى لاَ يَغْتَرَّ بِأُبَّهَةِ المُلْكِ، فَابْتَلاَهُ بِمَرَضٍ عُضَالٍ، فَأَصْبَحَ مُلْقَى وَكَأَنَّهُ الجَسَدُ الذِي لاَ حَيَاةَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ صِحَّتَهُ وَعَافِيَتَهُ، وَأَعَادَهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
(وَقِيلَ بَلْ إِنَّ سُلَيْمَانَ سَلَبَهُ اللهُ مُلْكَهُ وَسُلْطَانَهُ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِ شَيْطَاناً جَلَسَ عَلَى كُرسِيٍّ مُلْكِهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيهِ مُلْكَهُ وَهَيْبَتَهُ). (وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ اللهَ وَهَبَهُ شِقَّ إِنْسَانٍ وُلِدَ لَهُ).
ابْتَلَيْنَاهُ - امْتَحَنَّاهُ وَعَاقَبْنَاهُ.
(٣٥) - فَسَأَلَ سُلَيْمَانُ رَبَّهُ المَغْفِرَةَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَمْنَحَهُ مُلْكاً عَظِيماً لاَ يَتَسَنَّى لأَحَدٍ بَعْدَهُ أَنْ يَمْلِكَهُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلاَلَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الوَهَّابُ الوَاسِعُ العَطَاءِ.
(٣٦) - فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لِدَعْوَتِهِ، وَسَخَّرَ لَهُ الرِّيَاحَ، وَجَعَلَهَا مُذللَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ لَيِّنَةً طَيِّعَةً، حَيْثُ أَرَادَ تُوْجِيهَهَا، لاَ تَمْتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ.
حَيْثُ أَصَابَ - حَيْثُ أَرَادَ مِنَ البِلاَدِ.
رُخَاءً - لَيِّنَةً أَوْ مُنْقَادَةً.
﴿الشياطين﴾
(٣٧) - وَسَخَّرَ اللهُ تَعَالَى لَهُ الشَّيَاطِينَ البَنَّائِينَ وَالغَوَّاصِينَ يَعْمَلُونَ بِأَمْرِهِ مَا يُكَلِّفُهُمُ القِيَامَ بِهِ مِنَ الأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، مِنْ غَوْصٍ فِي البِحَارِ لاسْتِخْرَاجِ اللآلِئِ والنَّفَائِسِ، وَمِنْ بِنَاءِ مَا يُرِيدُ بِنَاءَهُ مِنْ قُصُورٍ وَبُيُوتٍ وَمَعَابِدَ.
غَوَّاصٍ - يَغُوصُ فِي البَحْرِ لاسْتِخْرَاجِ النَّفَائِسِ.
﴿آخَرِينَ﴾
(٣٨) - وَأَخْضَعَ اللهُ تَعَالَى الشَّيَاطِينَ، المُشَاكِسِينَ المُتَمَرِّدِينَ، لأَمْرِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَوَضَعَهُمْ سُلَيمَانُ فِي القُيُودِ والأَصْفَادِ لِيَتَّقِيَ شَرَّهُمْ، وَيَكفَّ فَسَادَهُمْ عَنِ العِبَادِ.
الأَصْفَادِ - الأَغْلاَلِ تُجْمَعُ بِهَا الأَيْدِي إِلَى الأَعْنَاقِ.
(٣٩) - وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِسُلَيْمَانَ: هَذَا الذِي مَنَحَكَ اللهُ إِيَّاهُ، هُوَ عَطَاءٌ خَاصٌّ مِنَ اللهِ بِكَ، فَأَعْطِ مَا شِئْتَ لِمَنْ شِئتَ، وَامْنَعْ مَنْ شِئْتَ غَيْرَ مُحَاسَبٍ عَلَى شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَأَنْتَ حُرٌّ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ.
بِغَيْرِ حِسَابٍ - غَيْرَ مُحَاسَبٍ عَلَى شَيءٍ مِنَ الأَمْرَينِ.
﴿مَآبٍ﴾
(٤٠) - وَإِنَّ لِسُلِيْمَانَ فِي الآخِرَةِ عِنْدَ اللهِ لَقُرْبَةً وَكَرَامَةً وَحَظاً عَظِيماً.
﴿الشيطان﴾
(٤١) - وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ قِصَّةَ نَبِيِّ اللهِ وَعَبْدِهِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، إِذ ابْتَلاَهُ اللهُ بِجَسَدِهِ حَتَّى أَرْهَقَهُ المَرَضُ، وَابْتَلاَهُ بِأَوْلاَدِهِ فَمَاتَ مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ، وَتَفَرَّقَ مَنْ تَفَرَّقَ، وَابْتَلاَهُ بِهَلاَكِ مَالِهِ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ عِنْدَهُ مَا يَكْفِي لِعَيْشِهِ، فَصَبَرَ صَبْراً جَمِيلاً. وَلَمَّا طَالَ بِهِ البِلاَءُ دَعَا رَبَّهُ مُتَضَرِّعاً: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين﴾ كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى.
وَهُنَا قَالَ: لَقَدْ مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، إِذْ أَنَّ أَيُّوبَ لَمَّا طَالَ بَلاَؤُهُ تَخَلَّى عَنْهُ أَهْلُهُ وَأَصْدِقَاؤُهُ إِلاَّ زَوْجَتهُ، وَقِلَّة قَلِيلَة مِنَ الأَصْحَابِ.
فَأَخَذَ الشَّيْطَانُ يُوَسْوِسُ لِهَؤُلاَءِ المُقِيمِينَ عَلَى الإِخْلاَصِ لأَيُّوبَ لِيُنَفِّرَهُمْ مِنْهُ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: لَوْ أَنَّ اللهَ كَانَ يُحِبُّ أَيُّوبَ مَا ابْتَلاَهُ.
فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لِدُعَاءِ أَيُّوبَ لَمَّا رَأَى إِخْلاَصَهُ لِرَبِّهِ، وَنُفُورَهُ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ.
بِنُصْبٍ - بِتَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ.
وَعَذَابٍ - أَلَمٍ وَضُرٍّ.
(٤٢) - فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ بِرِجْلِهِ الأَرْضَ فَيَتَفَجَّرَ مِنْهَا المَاءُ، وَفِي هَذَا الماءِ المُتَفَجِّرِ شِفَاؤُهُ فَفَعَلَ، فَتَفَجَّرَ الماءُ فَشَرِبَ واغْتَسَلَ فَبَرِيءَ، وَعَادَ إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ عَلَيْهِ.
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ - اضْرِبْ بِهَا الأَرْضَ.
مُغْتَسَلٌ - مَاءٌ تَغْتَسِلُ بِهِ وَفِيهِ شِفَاؤُكَ.
﴿الألباب﴾
(٤٣) - فَلَمَّا عَادَتْ إِلَيْهِ صِحَّتُهُ جَمَعَ اللهُ لَهُ أَهْلَهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ والتَّشَتُّتِ، وَأَكْثَرَ نَسْلَهُمْ حَتَّى صَارُوا ضِعْفَي مَا كَانُوا عَلَيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنَ اللهِ بِأَيُّوبَ، وَجَزَاءً لَهُ عَلَى صَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ وَإِنَابَتِهِ إِلَى اللهِ، وَتَذْكِرَةً لِذَوِي العُقُولِ والأَلْبَابِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ، وَأَنَّ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ الفَرَجُ، وَعَاقِبَةَ التَّقْوَى وَالإِخْلاَصِ والثِّقَةِ بِاللهِ أَن الله لا يَتَخَلَّى عَنْ عِبَادِهِ المُخْلِصِينَ، بَلْ يَرْعَاهُمْ وَيُعِزُّهُمْ وَيُقَويهِمْ.
﴿وَجَدْنَاهُ﴾
(٤٤) - وَكَانَ أَيُّوبُ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قَدْ غَضِبَ عَلَى زَوْجَتِهِ فِي شَيءٍ فَعَلْتَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَأَقْسَمَ إِنْ شَفَاهُ اللهُ تَعَالَى لَيَضْرِبَنَّهَا مِئَةَ جَلْدَةٍ، وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ قَدْ أَخْلَصَتْ لَهُ، وَاحْتمَلَتْ بَلاَؤَهُ بِصَبْرٍ كَبِيرٍ فَكَانَ ضَرْبُها مَعَ كُلِّ مَا احْتَمَلَتْهُ جَزَاءً سَيِّئاً، فَأَفْتَاهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ حُزْمَةً مِنَ العِيدَانِ فِيهَا مِئَةُ عُودٍ، وَيَضْرِبَها بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَيَتَحَلَّلَ مِنْ يَمِينِهِ، وَلاَ يَحْنَثَ، فَرحِمَهُ اللهُ بِهَذِهِ الفَتْوَى، وَرَحِمَ زَوْجَتَهُ الصَّابِرَةَ، فَقَدْ كَانَ أَيُّوبُ عَبْداً مُخْلِصاً للهِ، كَثِيرَ الإِنَابَةِ إِلَيْهِ.
ضِغْثاً - طَاقَةً أَوْ حُزْمَةً صَغِيرَةً أَوْ قَبْضَةً.
﴿عِبَادَنَآ﴾ ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ ﴿وَإِسْحَاقَ﴾ ﴿الأبصار﴾
(٤٥) - وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ أَيْضاً صَبْرَ عِبَادِ اللهِ: إِبْرَاهِيمَ وإِسْحَاقَ وَيَعْقًُوبَ، الذِينَ شَرَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ، وَقَوَّاهُمْ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ الذِي يَرْضَى الله عَنْهُ، وَآتَاهُمُ البَصِيرَةَ فِي الدِّينِ والفِقْهِ فِي أَسْرَارِهِ، والعَمَلِ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ، فَجَعَلَهُمْ مِمَّنْ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَ بِأَيْدِيهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ بِعُقُولِهِمْ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى أُوْلِي الأَيْدِي: إنَّهُمْ ذَوُو قُوَّةٍ، وَقَالَ فِي مَعْنَى (وَالأَبْصَارِ)، إِنَّهُ الفِقْهُ فِي الدِّينِ).
﴿أَخْلَصْنَاهُمْ﴾
(٤٦) - وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْلَصَهُمْ وَمَيَّزَهُمْ خَاصَّةٍ، هِيَ ذِكْرُهُمُ الدَّار الآخِرَةَ لِيَعْمَلُوا لَهَا، فَهَذِهِ مِيزَتُهُمْ وَرِفْعَتُهُمْ.
أَخْلَصْنَاهُمْ - بِخصْلَةٍ لاَ شَائِبةَ فِيهَا.
(٤٧) - وَهَذِهِ السَّيرَةُ جَعَلَتْهُمْ عِنْدَ اللهِ مَجتَبْينَ أَخْيَاراً، وَمُصْطَفَيْنَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ.
﴿إِسْمَاعِيلَ﴾
(٤٨) - وَاذْكُر أَنْبِيَاءَ اللهِ إِسْمَاعِيلَ واليَسَعَ وَذَ الكِفْلِ الذِينَ شَرَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَجَعَلَهُمْ مِنَ المُصْطَفَيْن الأَخْيَارِ وَتَأَمَّلْ صَبْرَهُمْ، وَرَحْمَةَ اللهِ بِهِمْ.
﴿مَآبٍ﴾
(٤٩) - وَهَذَا الذِي تَقَدَّمَ سَرْدُهُ، مِنْ أَخْبَارِ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ، فِيهِ ذِكْرٌ لَهُمْ، وَشَرَفٌ، وَإِشَادَةٌ بِمَحَاسِنِهِمْ، وَفِيهِ تَذْكِيرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. والمُؤْمِنُونَ السُّعَدَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ المُنْقَلبُ الحَسَنُ، وَالمآبُ الكَرِيمُ.
هَذَا ذِكْرٌ - المَذْكُورُ مِنْ مَحَاسِنِهِم شَرَفٌ لَهُمْ.
﴿جَنَّاتِ﴾ ﴿الأبواب﴾
(٥٠) - وَهَذَا المآبُ الحَسَنُ هُوَ جَنّاَتُ اسْتِقْرَارٍ وَإِقَامَةٍ مُفَتَّحَةٌ أَبْوَابُهَا إِكْرَاماً لَهُمْ لِيَدْخُلُوهَا آمِنِينَ.
﴿بِفَاكِهَةٍ﴾
(٥١) - وَيَجْلِسُون فِي الجَنَّةِ مُتَّكِئِينَ عَلَى الأَرَائِكِ فِي وَضْعِ المُطْمَئِنِّ المُرْتَاحِ فِي جَلْسَتِهِ، وَيَطْلُبُونَ مَا يَشَاؤُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الفَوَاكِهِ والشَّرَابِ بِلاَ تَحْدِيدٍ، وَهَذَا هُوَ مُنْتَهَى النَّعِيمِ.
يَدْعُونَ - يَطْلُبُونَ.
﴿قَاصِرَاتُ﴾
(٥٢) - وَعِنْدَهُمْ نِسَاءٌ لاَ يَمْدُوْنَ أَبْصَارَهُنَّ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ حَيَاءً وَخَفَراً، وَهُنَّ مُتَسَاوِيَاتٌ فِي السِّنِّ مَعَهُمْ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الوِفَاقِ بَيْنَهُمْ.
قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ - لاَ يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ.
أَتْرَابٌ - مُسْتَوِيَاتٌ فِي السِّنِّ.
(٥٣) - وَهَذَا النَّعِيمُ فِي الجَنَّاتِ التِي وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى، فَيمَا تَقَدَّمَ، هُوَ مَا وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ بِأَنَّهُ سَيجْزِيهِمْ بِهِ فِي يَوْمِ الحِسَابِ فِي الآخِرَةِ.
(٥٤) - وَهَذَا النَّعِيمُ، وَتِلْكَ الكَرَامَةُ، عَطَاءٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، لاَ يْنْفَدُ، وَلاَ يَنْقَطِعُ عَنْ أَهْلِ الجَنَّةِ.
نَفَادٌ - انْقِطَاعٌ وَفَنَاءٌ.
﴿لِلطَّاغِينَ﴾ ﴿مَآبٍ﴾
(٥٥) - هَذَا الذِي تَقَدَّمَ هُوَ جَزَاءُ المُؤْمِنِينَ الأَخْيَارِ، عَلَى مَا قَدَّمُوهُ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَطَاعَةٍ لِرَبِّهِمْ. أَمَّا الكَافِرُونَ الخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وَالمُكَذِبُّونَ رُسُلَهُ الكِرَامَ، فَلَهُمْ سُوءُ المُنْقَلَبِ، وَشَرُّ العَاقِبَةِ.
لَشَرَّ مَآبٍ - لأَسْوَأَ مُنْقَلَبٍ وَمَصِيرٍ.
(٥٦) - إِذْ تَكُونُ عَاقِبَتُهُم العَذَابَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُقَاسُونَ حَرَّهَا الشَّدِيدَ، وَسَاءَتْ جَهَنَّمُ مَهْداً وَفِراشاً.
يَصْلَوْنَهَا - يَدْخُلُونَهَا أَوْ يُقَاسُونَ حَرَّهَا.
المِهَادُ - الفِراشُ.
(٥٧) - وَهَذَا العَذَابُ هُوَ جَزَاؤُهُمْ فِي الآخِرَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَسُوءِ أَعْمَالِهِمْ. فَلْيَذُوقُوهُ فَهْوَ مَاءٌ حَارٌّ، مَتَنَاهٍ فِي شِدَّةِ حَرَارَتِهِ، وَقَدْ مُزِجَ بالصَّدِيدِ الذِي يَسِيلُ مِنْ أَجْسَادِهِم المُحْتَرِقَةِ فِي النَّارِ (غَسَّاقٌ).
حَمِيمٌ - مَاءٌ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي الحَرَارَةِ.
غَسَّاقٌ - الصَّدِيدُ الذِي يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ المُحْتَرِقَةِ. وَقِيلَ إِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ العَذَابِ لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللهَ تَعَالَى.
﴿آخَرُ﴾ ﴿أَزْوَاجٌ﴾
(٥٨) - وَلَهُمْ صُنُوفٌ أُخْرَى مِنَ العَذَابِ مِنْ أَشْبَاهِ هَذَا العَذَابِ يُعَذِّبُونَ بِهَا، كَالزَّمْهَرِيرِ، والسَّمُومِ، وَشُرْبِ الحَمِيمِ والغَسَّاقِ، وَأَكْلِ الزَّقومِ.
وَآخَرُ - وَعَذَابٌ آخَرُ.
أَزْوَاجٌ - أَصْنَافٌ.
﴿صَالُواْ﴾
(٥٩) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى عَنْ أَهْلِ النَّارِ، وَكَيْفَ يَتَنَكَّرُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَكَيْفَ يَتَشَاتَمُونَ وَيَتَلاَعَنُونَ، وَيُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، وَحِينَمَا يَرَى جَمَاعَةُ الكُبَرَاءِ، الذِينَ دَخَلُوا النَّارَ، فَوْجاً يَدْخُلُهَا مِنَ الأَتْبَاعِ الذِينَ يَعْرِفُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَذَا فَوْجٌ مِنَ الكَفَرَةِ الضَّالينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ مَعَكُمْ، فَلاَ مَرْحَباً بِهِمْ، إِنَّهُمْ َسَيَذُوقُونَ عَذَابَ النَّارِ، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرَهَا.
فَوْجٌ - جَمْعٌ كَثِيفٌ.
مُقْتَحِمٌ - دَاخِلٌ النَّارَ قَهْراً عَنْهُ.
(٦٠) - فَيَردُّ عَلَيْهِمُ الأَتْبَاعُ الدَّاخِلُونَ قَائِلِينَ لَهُمْ، وَقَدْ سَمِعُوا مَقَالَتَهُمْ: بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ فَأَنْتُمْ الذِينَ أَضْلَلْتُمُونَا وَدَعَوْتُمُونَا إِلَى مَا أَفْضَى بِنَا إِلَى هَذَا المَصِيرِ، فَبِئْسَ المَنْزِلُ وَالمُسْتَقَرُّ وَالمَصِيرُ.
فَبِئْسَ القَرَارُ - بِئْسَ المُسْتَقَرُّ لِلْجَمِيعِ جَهَنَّمُ.
(٦١) - فَيَقُولُ الأَتباعُ دَاعِينَ عَلَى رُؤُوسِ الضَّلاَلَةِ: رَبَّنَا عَذِّبْ مَنْ كَانَ السَّبَبَ فِي وُصُولِنَا إِلَى هَذَا العَذَابِ وأذِقْهُ عَذَاباً مُضَاعَفاً فِي النَّارِ: عَذَاباً لِضَلاَلِهِ، وَعَذَاباً آخَرَ لإِضْلاَلِهِ غَيْرَهُ.
(٦٢) - ثُمَّ يَلْتَفِتُ أَهْلُ النَّارِ لِيَبْحَثُوا بِأنْظَارِهِمْ فِي النَّارِ عَنْ فُقَرَاءِ المُؤْمِنِينَ، وَضُعَفَائِهِمْ، الذِينَ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَعُدُّونَهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ، فَلاَ يَرَوْنَهُمْ فِي النَّارِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لِمَاذَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ أَشْرَاراً فِي الدُّنْيَا، وَكُنَّا نَسْخَرُ مِنْ دَعْوَتِهِمْ إِيَّانَا إِلى الإِيْمَانِ؟ (وَهُمْ يَقْصِدُونَ فَقَرَاءَ المُؤْمِنِينَ).
﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ﴾ ﴿الأبصار﴾
(٦٣) - ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلِ اتَّخَذْنَاهُمْ مَوْضُوعاً لِلْهُزْءِ والسُّخْرِيَةِ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلاً لِذَلِكَ، فَكَانُوا عَلَى حَقٍّ، وَكُنَّا عَلَى بَاطِلٍ، فَفَازُوا بِدُخُولِ الجَنَّةِ، وَلَمْ يَدْخُلُوا النَّارَ مَعَنَا، أَمْ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ مَعَنَا وَلَكِنَّ أَبْصَارَنَا زَاغَتْ عَنْهُمْ، فَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهِمْ؟
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِياً - هَلْ جَعَلْنَاهُمْ مَوْضِعَ سُخْرِيِتَنَا.
زَاغَتِ الأَبْصَارُ - مَالَتْ فَلَمْ تَعْلَمْ مَكَانَهُمْ.
(٦٤) - وَهَذَا الذِي أَخْبَرْنَاكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ النَّارِ وَتَخَاصُمِهِمْ وَتَلاَعُنِهِمْ، لَحَقٌّ وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَع.
﴿الواحد﴾
(٦٥) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ: إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ إِلَيْكُمْ لأُحَذِّرَكُمْ مُخَالَفَةَ أوَامِرِهِ حَتَّى لاَ يَحْلَّ بِكُمُ العَذَابُ مِثْلَمَا حَلَّ بِالأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ قَبْلِكُمْ كَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ.. وَلَسْتُ بِالسَّاحِرِ وَلاَ بِالكَذَّابِ، حِينَمَا أقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ الوَاحِدُ الذِي لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلاَ مُعِينَ وَلاَ صَاحِبَةَ وَلاَ وَلَدَ، وَقَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيءٍ وَغَلَبَهُ بِعِزَّتِهِ وَجَبَرُوتِهِ.
﴿السماوات﴾ ﴿الغفار﴾
(٦٦) - وَهُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّهُمَا وَمَالِكُهُمَا، وَهُوَ العَزِيزُ الذِي لاَ يُغَالَبُ، الغَفُورُ الذِي يَتَجَاوَزُ عَنْ ذُنُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، إِذَا تَابَ إِلَيْهِ وَأصْلَحَ وأَنَابَ.
﴿نَبَأٌ﴾
(٦٧) - وَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ، وَمَا يُعْرِضُونَ عَنْهُ هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِمَا يَظُنُّونَ، وَإِنَّ وَرَاءَهُ مَا وَرَاءَهُ.
(٦٨) - وَلَكِنَّكُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ، لاَ تُفَكِّرُونَ فِيهِ، فَتَمَادَيْتُمْ فِي الغَفْلَةِ، وَالضَّلاَلَةِ والجَهَالَةِ.
(٦٩) - وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّهُ لَوْلاَ مَا عَلَّمَنِي رَبِّي عَنْ طَرِيقِ الوَحْيِ، مَا كَانَ لِي أَنْ أَعْلَمَ شَيئاً مِنْ هَذَا الذِي ذَكَرْتُ مِنْ شَأْنِ المَلأِ الأَعْلَى: مِنْ أَمْرِ اللهِ لِلْمَلاَئِكَةِ بالسُّجُودِ لآدَمَ، وَامْتِنَاعِ إِبْلِيسَ عَنِ السُّجُودِ، وَأمرِ اللهِ لآدَمَ وَزَوْجِهِ وَإِبْلِيسَ بالهُبُوطِ إِلَى الأَرْضِ.
المَلأِ الأَعْلَى - المَلاَئِكَةِ.
يَخْتَصِمُونَ - يَتَجَادَلُونَ فِي آدَمَ وَخَلْقِِهِ.
(٧٠) - مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّني رَسُولٌ أُبْلِغُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي بِأَبْيَنِ عِبَارَةٍ وَأَوْضَحِ قَوْلٍ.
﴿لِلْمَلاَئِكَةِ﴾ ﴿خَالِقٌ﴾
(٧١) - وَاذْكُر لَهُمْ حِينَ أَعْلَمَ رَبُّكَ المَلاَئِكَةَ - قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ - بِأَنَّهُ سَيَخْلُقُ بَشَرَاً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمأٍ مَسْنُونٍ.
﴿سَاجِدِينَ﴾
(٧٢) - وَأَمَرَهُم اللهُ تَعَالَى بالسُّجُودِ لِهَذَا البَشَرِ، مَتَى أَتَمَّ اللهُ تَعَالَى خَلْقَهُ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، تَعْظِيماً لَهُ وَتَكْرِيماً.
سَوَّيْتُهُ - أَتْمَمْتُ خَلْقَهُ بالصُّورَةِ الإِنْسَانِيَّةِ.
سَاجِدِينَ - تَحِيَّةً لَهُ وَتَكْرِيماً.
﴿الملائكة﴾
(٧٣) - فَامْتَثَلَتِ المَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ لأَمْرِ رَبِّهِمْ فَسَجَدُوا لآدَمَ تَعْظِيماً وَتَكْرِيماً.
﴿الكافرين﴾
(٧٤) - وَلَمْ يَرْفٌضِ الامْتِثَالَ لأَمْرِ اللهِ تَعَالَى لِلمَلاَئِكَةِ بالسُّجُودِ لآدَمَ إِلاَّ إِبْلِيس، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ جِنْسِ المَلاَئِكَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنَ الجِنِّ، كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى، فَاسْتَنْكَفَ عَنِ السُّجُودِ تَكَبُّراً فَكَفَرَ بِهَذَا التَّكَبرِ وَالبَغْضَاءِ.
﴿ياإبليس﴾
(٧٥) - وَقَالَ الرَّبُّ الكَرِيمُ لإِبْلِيسَ: مَا الذِي مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ لآدَمَ الذِي خَلَقْتُهُ بِيَدِي، هَلِ اسْتَكْبَرْتَ عَنْ إِطَاعَةِ أَمْرِي؟ أَمْ كُنْتَ مِنَ المُتَعَالِينَ الذِينَ لاَ يَخْضَعُونَ لأَمْرِي؟
العَالِينَ - المُسْتَحِقِّينَ لِلْعُلُوِّ والرِّفْعَةِ.
(٧٦) - وَأَجَابَ إِبْلِيسُ رَبَّهُ الكَرِيمَ: إِنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ لآدَمَ لأَنَّ اللهَ خَلَقَهُ مِنْ نَارٍ، بَيْنَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، وَفِي ظَنِّ إِبْلِيسَ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الأَعْلَى لاَ يَسْجُدُ لِلأَدْنَى.
(٧٧) - فَأَصْدَرَ اللهُ تَعَالَى اَمْرَهُ إِلَى إِبْلِيسَ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنَ الجَنَّةِ (أَوْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ)، مَلْعُوناً مَطْرُوداً مِنْ رِحْمَةِ اللهِ.
رَجِيمٌ - مَطْرُودٌ مِنْ رِحْمَةِ اللهِ تَعَالَى.
(٧٨) - وَإِنَّ لَعْنَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ سَتُلاَزِمُهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، يَوْمِ البَعْثِ والنُّشُورِ، وَفِي ذَلِكَ اليَومِ يَجْزِي اللهُ إِبْلِيسَ بِكُفْرِهِ وَتَعَالِيهِ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ.
(٧٩) - وَسَأَلَ إِبْلِيسُ رَبَّهُ أَنْ يُنْظِرَهُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، وَأَنْ لاَ يُمِيتَهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِيَنْتَقِمَ مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَتِهِ، وَلِيُحَاوِلَ إِضْلاَلَهُمْ، كَمَا كَانَ آدَمُ سَبَبَ مَا لَحِقَ بِهِ مِنْ طَردٍ، وَلَعْنَةٍ وَغَضَبٍ مِنَ اللهِ.
فَأَنْظِرْنِي - أَمْهِلْنِي وَلاَ تُمِتْنِي.
(٨٠) - وَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتُهُ أَنْ يُجِيبَ إِبْلِيسَ إِلَى مَا سَأَلَهُ مِنْ النَّظِرَةِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنَ المُنْظَرِينَ المُمْهَلِينَ.
(٨١) - إِلَى اليَومِ الذِي حَدَّدَهُ اللهُ مُوْعِداً لِمَوتِ الخَلاَئِقِ ثُمَّ لِبَعْثِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَهُوَ يَوْمُ القِيَامَةِ.
يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ - يَوْمِ القِيَامَةِ.
(٨٢) - وَبَعْدَ أَنْ اسْتَوثَقَ إِبْلِيسُ مِنْ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى لَهُ بِالنَّظِرَةِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، كَشَفَ عَمَّا كَانَ يَسْتَهِدفُهُ مِنْ سُؤَالِهِ رَبَّهُ النَّظِرَةَ والإِمْهَالَ، فَأَقْسَمَ بِعَزَّةِ اللهِ تَعَالَى وَجَلاَلِهِ عَلَى أَنَّهُ سَيُضِلُّ جَمِيعَ ذُرِّيَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَيُغُوِيهمْ.
فَبِعِزَّتِكَ - أُقْسِمُ بِسُلْطَانِكَ وَجَبَرُوتِكَ.
لأُغْوِينَّهُمْ - لأَضِلَّنَّهُمْ بِتَزْيِينِ المَعَاصِي لَهُمْ.
(٨٣) - وَلاَ يَسْتَثْنِي إِبْلِيسُ مِنَ الذِينَ سَيُحَاوِلُ إِغْوَاءَهُمْ إِلاَّ عِبَادَ اللهِ المُخْلَصِينَ المُتَّقِينَ، لأَنَّهُ لاَ سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ.
(٨٤) - فَأَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ الحَق دَائماً.
(٨٥) - لَقَدْ أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ سَيَمْلأُ جَهَنَّمَ مِنْ إِبْلِيسَ وَذُرِّيتِهِ، وَمِمَّنْ يَتَّبعُ غَوَايَةَ الشَّيْطَانِ وَحَبَائِلَهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فَيُضِلُّهُ الشَّيْطَانُ عَنْ طَرِيقِ اللهِ القَوِيمِ.
﴿أَسْأَلُكُمْ﴾
(٨٦) - وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ: إِنَّنِي لاَ أَسْأَلُكُمْ أَجْراً عَلَى مَا أَقُومُ بِهِ مِنْ إِبلاَغِكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وَإِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّنِي لا أَتَكَلَّفُ مَا لَيْسَ عِنْدِي حَتَّى أَدَّعِيَ النُّبُوَّةَ، ولاَ أَتَقَوَّلُ القُرْآنَ.
المُتَكَلِّفُ - الذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ: وَالمُتَصَنِّعُ المُتَقَوِّلُ عَلَى اللهِ.
﴿لِّلْعَالَمِينَ﴾
(٨٧) - وَمَا هَذَا القُرْآنُ إِلاَّ عِظَةً لِلْعَالَمِينَ كَافَّةً مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ.
(٨٨) - وَإِذَا أَصْرَرْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ العِنَادِ والجَهْلِ، وَأَبَيْتُمْ إِلاَّ الإِقَامَةَ عَلَى الكُفْرِ والشِّرْكِ والضَّلاَلَةِ، وَمَا وَجَدْتُمْ عَلَيهِ آبَاءَكُمْ، فَسَتَعْلَمُونَ حِينَمَا يَنْزِلُ بِكم المَوتُ، إِنْ كُنْتُمْ عَلى حَقٍّ فِي إِعْرَاضِكُمْ وَضَلاَلِكُمْ، أَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ مُخْطِئِينَ.
نَبَأَهُ - صِدْقَ أَخْبَارِهِ.
Icon