سورة الحشر وتسمى سورة النضير، مقصودها بيان ما دل عليه آخر المجادلة من التنزه عن شوائب النقص بإثبات القدرة الشاملة بدليل شهودي على أنه يغلب هو ورسله، ومن حاده في الأذلين، لأنه قوي عزيز، المستلزمة للعلم التام المستلزم [ للحكمة البالغة المستلزمة- ] للحشر المظهر لفلاح المفلح وخسار الخاسر على وجه الثبات الكاشف أتم كشف لجميع صفات الكمال، وأدل ما فيها على ذلك تأمل قصة [ بني- ] النضير المعلم بأول الحشر المؤذن بالحشر الحقيقي بالقدرة عليه بعد إطباق الولي والعدو على الظن أنه لا يكون، فلذا سميت بالحشر وببني النضير لأنه سبحانه وتعالى حشرهم بقدرته من المدينة الشريفة إلى خيبر والشام والحيرة ثم حشرهم [ وغيرهم- ] من اليهود الحشر الثاني من خيبر إلى الشام الذي هو آية الحشر الأعظم إلى أرض الحشر لقهر هذا النبي الكريم أهل الكتاب المدعين، لأنهم أفضل الناس وأنهم مؤيدون بما لهم من الدين الذي أصله قويم بما لوحت إليه الحديد، كما قهر أهل الأوثان الذين هم عالمون بأنهم بدلوا الدين الصحيح فثبت –بظهور دينه على كل دين على حد سواء، كما وعد به سبحانه صدقه في كل ما جاء به بعد التوحيد- الإيمان بالبعث الآخر لأنه محط الحكمة وموضع إظهار النقمة والرحمة ( بسم الله ) الملك الأعظم الذي لا راد لأمره فلا خلف لعباده ( الرحمن ) الذي عمت نعمة إيجاده فلا محيص عن معاده ( الرحيم ) الذي خص أهل وداده بالتوفيق لما يرضيه عنهم فيوجب لهم الفوز بإسعاده.
لما ختمت المجادلة بأنه معز أهل طاعته، ومذل أهل معصيته ومحادته، علله بتنزهه عن النقائص تأييداً للوعد بنصرهم فقال:
﴿سبح﴾ أي أوقع التنزيه الأعظم عن كل شائبة نقص
﴿لله﴾ الذي أحاط بجميع صفات الكمال.
ولما كان الكفار من جميع بني آدم قد عبد بعضهم الشمس
403
وبعضهم القمر وبعضهم غيرهما من الكواكب، وكانت الكواكب مبثوثة في السماوات كلها لا تخص سماء بعينها وكذا الملائكة، جمع دلالة على أن الكل عبيد فقال:
﴿ما في السماوات﴾ أي كلها. ولما كان الكلام في النهي عن موادة الذي يحادون الله، وكان ذلك لمن دون الخلص، أكد بإعادة النافي لاحتياجهم للتأكيد فقال:
﴿وما﴾ ولما كان جميع ما عبدوه ما أشركوا به من الأرضيات من شجر وصنم وبقر وغيرها لا يعد والأرض التي هم عليها، أفرد فقال:
﴿في الأرض﴾.
ولما شمل هذا جميع العالم، أشار إلى أن عظمته لا تنتهي فقال:
﴿وهو﴾ أي والحال أنه وحده
﴿العزيز﴾ الذي يغلب كل شيء ولا يمتنع عليه شيء
﴿الحكيم *﴾ الذي نفذ علمه في الظواهر والبواطن وأحاط بكل شيء فأتقن ما أراد، فكل ما خلقه جعله على وحدانيته دليلاً، وإلى بيان ما له من العزة والحكمة سبيلاً.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لا خفاء باتصال أيها بما تأخر من آي سورة المجادلة، ألا ترى أن قوله تعالى
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم﴾ إنما يراد به يهود فذكر سبحانه سوء سريرتهم وعظيم جرأتهم ثم قال في آخر السورة
﴿لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله﴾ فحصل من هذا كله
404
تنفير المؤمنين عنهم وإعلامهم بأن بغضهم من الإيمان وودهم من النفاق لقبيح ما انطووا عليه وشنيع ما ارتكبوه، فلما أشارت هذه الآي إلى ما ذكر أتبعت بالإعلام في أول سورة الحشر بما عجل لهم من هوانهم وإخراجهم من ديارهم وأموالهم وتمكين المسلمين منهم، جرياً على ما تقدم الإيماء إليه سوء مرتكبهم، والتحمت الآي باتحاد المعنى وتناسبه، وتناسج الكلام، وافتتحت السورة بالتنزيه لبنائها على ما أشار إليه غضبه تعالى عليهم إذ لا يكون إلا على أعظم جريمة وأسوأ مرتكب وهو اعتداؤهم وعصيانهم المفصل في مواضع من الكتاب وقد قال تعالى فيهم بعد ذكر غضبه عليهم
﴿أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل﴾ [المائدة: ٦٠] وقال تعالى:
﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون﴾ [المائدة: ٧٨] فبين تعالى أن لعنته إياهم إنما ترتبت على عصيانهم واعتدائهم، وقد فصل اعتداءهم أيضاً في مواضع، فلما كان الغضب مشيراً إلى ما ذكر من عظيم الشرك، أتبعه سبحانه وتعالى تنزيه نفسه جل وتعالى فقال:
﴿سبح لله ما في السماوات وما في الأرض﴾ وإنما يرد مثله من التنزيه أثر جريمة تقع من العباد وعظيمة يرتكبونها وتأمل ذلك حيث وقع، ثم عاد الكلام إلى الإخبار بما فعل تعالى بأهل الكتاب مما يتصل بما تقدم، ثم تناسجت الآي - انتهى.
405
ولما نزه نفسه الأقدس دل على ذلك التنزه على العزة والحكمة بدليل شهودي من أنه أنفذ ما كتب من أنه يغلب هو ورسله ومن أنه كبت الذين حادوه وخيب ظن الذين نافقوا، فتولوا اليهود من أهل الكتاب ليعتزوا بهم، فأذل اليهود وطردهم من مهبط الوحي وأخزى المنافقين الذين جعلوهم محط اعتمادهم وموضع ولايتهم وودادهم، فقال:
﴿هو﴾ أي وحده من غير إيجاف خيل ولا ركاب
﴿الذي أخرج﴾ على وجه القهر
﴿الذين كفروا﴾ أي ستروا ما في كتبهم من الشواهد التي تشهد لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه النبي الخاتم وما في فطرهم الأولى من أن اتباع الحق أحق، وقبح عليهم كفرهم بقوله موضع
﴿من بني النضير﴾ أو
﴿اليهود﴾ مثلاً:
﴿من أهل الكتاب﴾ أي الذي أنزله الله على رسوله موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم، وفي التعبير ب
﴿كفروا﴾ إشعار بأنهم الذين أزالوا بالتبديل أو الإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة دالاًّ على نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما كان الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح، فكان الخروج منه في غاية العسر، دل على مزيد قهرهم به بأن قال:
﴿من ديارهم﴾ ولما كان كان منهم من جلا من المدينة الشريفة إلى خيبر، وهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ولحق سائرهم بأريحا من
406
أرض الشام أرض المحشر، ولحق بعضهم بالحيرة، لوح إلى فتح خيبر وحشرهم منها حشراً ثانياً بقوله معللاً أو موقتاً:
﴿لأول﴾ أي لأجل أول أو عند أول
﴿الحشر﴾ وفي ذلك إشارة إلى أن كل بلد حشروا إليه سيفتح، ويزلزلون منه زلزلة أخرى، لا تزال مصائبهم بأهل الإسلام قائمة حتى يكون الحشر الأعظم بالقيامة، والحشر: الجمع من مكان والسوق إلى غيره بكره، وسمي أولاً لأنهم أول من أجلي من اليهود من جزيرة العرب، والحشر الثاني لهم من خيبر على زمن عمر رضي الله عنه، وعند ابن إسحاق أن إجلاءهم في مرجع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحد وفتح قريظة في مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان، قال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اخرجوا قالوا: إلى أين، قال: إلى أرض المحشر»، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من شك أن المحشر بأرض الشام فليقرأ هذه الآية. انتهى، وهذا الحشر يدل على المحشر الأعظم وبينه على قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«بعثت أنا والساعة كهاتين».
407
ولما كان قد أخبر أن حشرهم لم يكن بسبب غير محض قدرته، استأنف شرح ذلك بقوله:
﴿ما ظننتم﴾ أي أيها المؤمنون
﴿أن يخرجوا﴾ أي يوقعوا الخروج من شيء أورثتموه منهم لما كان لكم من الضعف ولهم من القوة لكثرتهم وشدة بأسهم وشكيمتهم وقرب بني قريظة منهم فكانوا بصدد مظاهرتهم، وأهل خيبر أيضاً غير بعيدين عنهم وكلهم أهل ملتهم، والمنافقون من أنصارهم وأسرتهم، فخابت ظنونهم في جميع ذلك وفالت أراؤهم وسلط عليهم المؤمنون على قلتهم وضعفهم، وإذا أراد الله نصر عبد استأسد أرنبه وإذا أراد قهر عدو استنوق أسده.
ولما كانت الحصون تمنع إلى إتيان الأمداد قال:
﴿وظنوا أنهم﴾ ودل على قوة ظنهم وثباته بالجملة الاسمية فقال:
﴿مانعتهم حصونهم﴾ أي ثابت لها المنع ولهم الامتناع، قالوا: وفي تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي جعل ضميرهم اسم (إن) وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عز
408
ومنعة لا مطمع معها في معازّتهم، ودل على ضعف عقولهم بأن عبر عن جنده باسمه وباسمه الأعظم فقال:
﴿من الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا عز إلا له وأنتم جنده، لا تقاتلون إلا فيه وبه، بأسكم من بأسه، فقد اجتمع الظنان على شيء واحد. ولما كان إسناد ما للمضاف إلى المضاف إليه شائعاً في لسان العرب وكثيراً جداً لأنه لا يلتبس على من له إلمام بكلامهم، وبليغاً جداً لما له من العظمة، قال:
﴿فآتاهم الله﴾ أي جاءهم الملك الأعظم الذي يحتملون مجيئه بما صور لهم من حقارة أنفسهم التي اضطرتهم إلى الجلاء
﴿من حيث لم يحتسبوا﴾ أي من الجهة التي لم يحملوا أنفسهم على حسبها وهي خذلان المنافقين لهم رعباً كرعبهم واستضعافاً كاستضعاف أنفسهم عن مقاومة جند الله بعد أن كان الشيطان زين لهم غير ذلك، وملأ قلوبهم من الأطماع الفارغة حتى قطعوا بما مناهم وقربه لهم وأغواهم.
ولما كان التقدير: فأوهنهم الله بذلك، عطف عليه قوله:
﴿وقذف﴾ أي أنزل إنزالاً كأنه قذفه بحجارة، فثبت وارتكز
﴿في قلوبهم الرعب﴾
409
أي الخوف الذي سكنها فرضّها وملأها وعبر منها إلى جميع قواهم فاجتثها من أصلها، ثم بين حالهم عند ذلك أو فسر قذف الرعب بقوله:
﴿يخربون بيوتهم﴾ أي يبالغون - على قراءة أبي عمرو بالتشديد - في إخرابها، أي إفسادها، فإن الخربة الفساد، وقراءة غيره يفهم الفعل المطلق الذي لا ينافي المقيد
﴿بأيديهم﴾ ضعفاً منهم - بما أشار إليه جمع القلة، ويأساً من قوتهم ليأخذوا ما استحسنوا من آلاتها، فكان الرجل منهم لما تحملوا للرحيل يهدم بيته عن نجاف بابه وما استحسن من خشبه فيضعه على ظهر بعيره فيأخذه وينقب الجدار ويهدم السقف حسداً للمسلمين أن يسكنوها بعدهم لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهم أن يخلوا له عن البلد ولهم ما حملت إبلهم.
ولما كان السبب في تخريب الصحابة رضي الله عنهم لبيوتهم ما أحرقوهم به من المكر والغدر كانوا كأنهم أمروهم بذلك، فنابوا عنهم فيه، فقال أيضاً بجمع القلة للدلالة على أن الفعل له سبحانه وحده:
﴿وأيدي المؤمنين﴾ أي الراسخين في الإيمان استيلاء وغلبة عليهم وقد كان المؤمنون يخربون ما ضيق عليهم المجال منها لأجل القتال، وقدم
410
تخريبهم لأنه أعجب.
ولما كان في غاية الغرابة أن يفعل الإنسان في نفسه كما يفعل فيه عدوه، سبب عن ذلك قوله:
﴿فاعتبروا﴾ أي احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمل في عظيم قدرة الله تعالى على أن تعبروا من ظواهر العلم في هذه القضية بما دبر الله في إخراجهم إلى بواطن الحكمة بأن لا تعدوا لكم ناصراً نم الخلق ولا تعتمدوا على غير الله، فإن الاعتبار - كما قال القشيري - أحد قوانين الشرع، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره - انتهى. وقد احتج بالآية مثبتو القياس فإنه مجاوزة من الأصل إلى الفرع، والمجاوزة اعتبار، وهو مأمور به في هذه الآية فهو واجب.
ولما كان الاعتبار عظيم النفع، لا يحصل إلا للكمل، زاده تعظيماً بقوله تعالى:
﴿يا أولي الأبصار *﴾ بالنظر بأبصاركم وبصائركم في غريب هذا الصنع لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إظهار دينه وإعزاز نبيه ولا تعتمدوا على غير الله كما اعتمد هؤلاء على المنافقين، فإن من اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته، ولا تلموا بغدر كما أرادوا أن يغدروا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيطرحوا عليه وهو قاعد بفناء دار من دورهم رحى من السطح ليقتلوه بها - زعموا، ولا تفعلوا شيئاً من قبيح أفعالهم لئلا يحصل لكم مثل
411
نكالهم كما أحكمه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«لتتبعن سنن من كان قبلكم» الحديث، وذلك الغدر منهم بعد أن حرضوا قريشاً على غزوة أحد ودلوهم على بعض العورات، وقال البغوي: إن كعب بن الأشرف أتى قريشاً بعد أحد في أربعين راكباً فحالفهم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزل جبريل عليه السلام عليه يخبره بذلك، وقال: إنه لما قصدهم عليه السلام أرسلوا إليه أن يخرج في ثلاثين ويخرج منهم ثلاثون ليسمعوا منه، فإن آمنوا به آمن الكل، فأجابهم فأرسلوا أن الجمع كثير فاخرج في ثلاثة ليخرج ثلاثة منا، فأرسلت امرأة منهم إلى أخيها وكان مسلماً أنهم اشتملوا على الخناجر يريدون الفتك برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، وكل ما ذكر من أسباب قصتهم كما ترى دائر على المكر بل هو عين المكر.
412
ولما دل هذا على غاية الوهن منهم فكان موضع التعجب من الكف عن قتلهم، بين أن السبب في ذلك أمره الباهر وعزه القاهر حثاً على ما ختم به الآية السابقة من الاعتبار والتدبر والاستبصار فقال:
﴿ولولا أن كتب الله﴾ أي فرض فرضاً حتماً الملك الذي له
412
الأمر كله، ودل على أنه كتب إذلالاً وإخزاء بقوله:
﴿عليهم﴾ أي بخصوصهم فيما كتب على بني إسرائيل في الأزل كما كتب على بني قينقاع
﴿الجلاء﴾ أي الخروج من ديارهم والجولان في الأرض، فأما معظمهم فأجلاهم بخت نصر من بلاد الشام إلى العراق، وأما هؤلاء فحماهم الله بمهاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك الجلاء وجعله على يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأجلاهم فذهب بعضهم إلى خيبر وبعضهم إلى الشام مرة بعد مرة
﴿لعذبهم في الدنيا﴾ أي بالسيف كما سيفعل بأحوالهم من بني قريظة الذين كتب عليهم العذاب دون الجلاء من قتل المقاتلة وسبي الذرية، فإنه تعالى قد قضى قضاء حتماً أنه يطهر المدينة بلد الوحي منهم.
ولما كان التقدير: ولكنه كتب عليهم ذلك فهو عذابهم الآن في الدنيا لا محالة وإن اجتمع أهل الأرض على نصرهم، عطف عليه قوله على طريق التهكم بالتعبير بأداة النفع:
﴿ولهم﴾ أي على كل حال أجلوا أو تركوا
﴿في الآخرة﴾ التي هي دار البقاء
﴿عذاب النار *﴾ وهو العذاب الأكبر.
ولما أخبر بما نالهم في الدنيا وينالهم في الآخرة، علله بقوله:
﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي فعله بهم من الجلاء ومقدماته
413
في الدنيا ويفعله بهم في الآخرة
﴿بأنهم﴾ ولما كانوا قد ضموا فى هذه القضية إلى ما كانوا عليه من الكفر الظاهر كفراً باطناً بما أرادوا من إلقاء الرحى وغيره من الأذى مكراً منهم، أدغم في قوله:
﴿شاقوا الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامة، فكانوا في شق غير شقه بأن صاروا في شق الأعداء المحاربين بعد ما كانوا في شق الموادعين.
ولما جارى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخفاءهم لما أرادوا أن يفعلوا به بالإخفاء لخلاصه منهم بأن رجع إلى المدينة الشريفة وترك أصحابه رضي الله عنهم عندهم قال:
﴿ورسوله﴾ الذي إجلاله من إجلاله. ولما أخبر بفعله وبسببه، عطف عليه تأكيداً لمضمونه وإفاده لأنه يفعل في غيرهم ممن كان على أمرهم أعظم من فعلهم فقال:
﴿ومن يشاق الله﴾ أي يوقع في الباطن مشاققة الملك الأعلى الذي لا كفوء له في الحال أو الماضي أو الاستقبال سواء أبطن معها مشاققة أخرى أو لا، وترك الإدغام على حاله لأنهم ما أظهروا معاداة وإنما كان ما فعلوا مكراً ومساترة، وذلك أخف من المجاهرة، وأظهر في الأنفال لقوة أمر المجاهرين كما مضى، ولم يعد ذكر الرسول تفخيماً له بإفهام أن مشاققته مشاققة لله من غير مثنوية أصلاً، وإشارة إلى أنهم بالغوا في إخفاء مشاققتهم، فلم يظهر عليها غير الله، فلم يحصل منهم في ذلك مفاعلة بينهم وبين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لم يمكر بهم، وإنما جاهرهم حين أعلمه الله بمكرهم بخلاف ما تقدم في الأنفال،
414
فإن المقام اقتضى هناك الذكر لأنهم مكروا به كما قال تعالى
﴿وإذ يمكر بك الذين كفروا﴾ [الأنفال: ٣٠] الآية وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخفى أمر هجرته وأعمل الحيلة في الخلاص من مكرهم على حسب ما أمره الله به فحصلت المفاعلة في تحيز كل من الفريقين إلى شق غير شق الآخرة خفية
﴿فإن الله﴾ أي المحيط بجميع العظمة يشدد عقابه له لأنه
﴿شديد العقاب *﴾ وذلك كما فعل ببني قريظة بعد هذا حيث نقضوا عهدهم وأظهروا المشاققة في غزوة الأحزاب وكما فعل أهل خيبر، وكانوا يماكرون ويساترون في الأولى عند فتحها وفي الثانية عند إجلائهم منها، فقد سوى بين المساترين والمجاهرين في العذاب وهو للمجاهرين أشد عذاباً كما هو واضح.
ولما دل سبحانه على عزته وحكمته بما فعل ببني النضير الذين يقولون
415
إنهم أشجع الناس وأشدهم شكيمة بما لهم من الأصالة والاصطفاء على العالمين، مع التأييد بالكتاب والحكمة، وختم بأن من شاق رسوله فقد شاقه، ومن شاقه فقد شدد عقابه، أتبعه بيان ما عاقبهم به من قطع الصحابة رضي الله عنهم بأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنخلهم الذي هو أعز عليهم من أبكارهم وهم ينظرون إليه لا يغنون شيئاً ولا منعة لديهم فقال:
﴿ما﴾ وهي شرطية وأتبعها بشرطها الناصب لها فقال:
﴿قطعتم﴾ أي كل ما قطعتموه، وبين ما في
«ما» من الإبهام بقوله معبراً عن النخل، بما يفيد نوعه وأنه هان عليهم القطع ولان:
﴿من لينة﴾ وهي ضرب من النخل، قال ابن إسحاق: هو ما خالف العجوة من النخل، وقال ابن هشام: اللينة من الألوان، وهي ما لم يكن برنية ولا عجوة من النخل فيما حدثني أبو عبيدة - انتهى. وقال صاحب القاموس اللون: الدقل من النخل، وهي جماعة واحدتها لونه ولينة، قال المهدوي: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً أنها لون من النخل، وقال البغوي: ورواية زاذان عن
416
ابن عباس رضي الله عنه قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقطع نخلهم إلا العجوة. وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمر الألوان واحدها لون ولينة، وقال عطية والحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون: اللينة: النخلة، اسمان بمعنى واحد، وجمعها لين وليان، وقال سفيان الثوري: اللينة ما تمرها لون وهو نوع من التمر شديد الصفرة يشف عن نواة فيرى من خارج، قال البغوي: يغيب فيها الضرس، وكان من أجود تمرهم وأعجبها إليهم، وكانت النخلة الواحدة ثمنها ثمن وصيف أحب إليهم من وصيف، فلما رأوهم يقطعونها شق عليهم وقالوا للمؤمنين: إنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون، دعوا هذه النخلة، فإنما هي لمن غلب عليها، وقال الرازي في اللوامع واختلاف الألوان فيها ظاهر لأنها أول حالها بيضاء كصدف مليء درّاً منضداً، ثم غبراء ثم خضراء كأنها قطع زبرجد خلق فيها الماء ثم حمراء كأنها ياقوت رص بعضه ببعض ثم صفراء كأنها شذو عقيان، ولذلك إذا بلغ الإرطاب نصفها سميت مجزعة لاختلاف ألوانها الجزع الظفاري.
ولما كان ما فسر بمؤنث هو اللينة، أعاد الضمير مؤنثاً فقال:
417
﴿أو تركتموها﴾ ولما كان الترك يصدق ببقائها مغروسة أو مقطوعة قال:
﴿قائمة﴾ ولما كان المراد نخيلاً كثيرة لإرادة الجنس قال:
﴿على أصولها﴾ بجمع الكثرة
﴿فبإذن الله﴾ أي فقطعها بتمكين الملك الأعظم ورضاه، قال القشيري: وفي هذا دليل على أن الشريعة غير معللة وإذا جاء الأمر الشرعي بطل طلب التعليل وسكتت الألسنة عن التقاضي ب
«لِمَ» وحضور الاعتراض والاستقباح بالبال خروج عن حد العرفان.
ولما فطم عن طلب العلل خطاباً للكمل، طيب قلوب من دونهم بعلة معطوفة على ما تقديره: فليس ذلك بفساد ولكنه صلاح أذن لكم فيه ليشفي به صدور المؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم، فقال واضعاً موضع ضميرهم ظاهراً يدل على ما أوجب خزيهم:
﴿وليخزي الفاسقين *﴾ الذين هم أصلاء في المروق من دائرة الحق بأن يذلهم ويفضحهم ببيان كذبهم في دعواهم العز والشجاعة والتأييد من الله لأنهم على الدين الحق وأنه لا يتطرق إليه نسخ، وروى أبو يعلى عن جابر رضي الله عنه أنه قال: رخص لهم في قطع النخل ثم شدد عليهم فأتوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله! علينا إثم فيما قطعنا أو علينا فيما تركنا، فأنزل الله الآية - انتهى وكان ناس من المؤمنين مالوا إلى
418
الكف عن القطع لما سموه اليهود فساداً وطائفة أشاروا بالاستمرار على القطع لأنه يغيظهم، فصوب سبحانه في الآية من أمر بالكف وحلل من أشاروا بالاستمرار بالقطع من الإثم، فدلت الآية على جواز إفساد أموال أهل الحرب على أي حال كان مثمراً كان أو لا بالتحريق والتغريق والهدم وغيره لإخزائهم بذلك.
419
ولما كانت الغنائم التي تقسم بين الجيش إنما هي ما قاتلوا عليه، وأما ما أتى منها بغير قتال فهو فيء يأخذه الإمام فيقسمه خمسة أخماس، ثم يقسم خمساً منها خمسة أقسام، أحدها وهو كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون بعده لمصالح المسلمين، والأقسام الأربعة الأخرى من هذا الخمس لمن ذكر في الآية بعدها، والأربعة الأخماس الكائنة من أصل القسمة وهي التي كانت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنها حصلت بكفايته وإرعابه للعدو، تفرق بين المرتزقة من جميع النواحي، فكانت الأموال كلها لله إنعاماً على من يعبده بما شرعه على ألسنه رسله عليهم الصلاة والسلام، كانت أموال الكفار في أيديهم غصباً غصبوه
419
من أوليائه، فخص سبحانه رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأموال بني النضير يضعها حيث يشاء لأنها فيء فقال:
﴿وما أفاء الله﴾ أي رد الملك الذي له الأمر كله رداً سهلاً بعد أن كان فيما يظهر في غاية العسر والصعوبة
﴿على رسوله﴾ فصيره في يده بعد أن كان خروجه عنها بوضع أيدي الكفار عليه ظلماً وعدواناً كما دل عليه التعبير بالفيء الذي هو عود الظل إلى الناحية التي كان ابتدأ منها
﴿منهم﴾ أي رداً مبتدئاً من الفاسقين، فبين أن هذا فيء لا غنيمة، ويدخل في الفيء أموال من مات منهم عن غير وارث وكذا الجزية، وأما الغنيمة فهي ما كان بقتال وإيجاف خيل وركاب.
ولما كان الحرب إنما هو كر وفر في إسراع وخفة ورشاقة بمخاتلة الفرسان ومراوغة الشجعان ومغاورة أهل الضرب والطعان، قال معللاً لكونه فيئاً:
﴿فما أوجفتم﴾ أي أسرعتم، وقال ابن إسحاق: حركتم واتبعتم في السير - انتهى، وذلك الإيجاف للغلبة
﴿عليه﴾ وأعرق في النفي بالجار فقال:
﴿من خيل﴾ وأكد بإعادة النافي لظن من ظن أنه غنيمة لإحاطتهم بهم فقال:
﴿ولا ركاب﴾ أي إبل، غلب ذلك عليها نم بين المركوبات، ولا قطعتم من أجله مسافة، فلم تحصل لكم كبير مشقة في حوز أموالهم لأن قريتهم كانت في حكم المدينة الشريفة ليس بينها
420
وبين ما يلي منها مسافة بل هي ملاصقة لإحدى قرى الأنصار التي المدينة اسم لها كلها، وهي قرية بني عمرو بن عوف في قباء بينهما وبين القرية التي كان رسول الله نازلاً بها نحو ميلين، فمشى الكل مشياً ولم يركب إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يقاتلوا بها قتالاً بعد، فلذلك جعلها الله فيئاً ولم يجعلها غنيمة، فهي تقسم قسمة الفيء، لا قسمة الغنيمة، فخمسها لأهل خمس الغنيمة وهم الأصناف الخمسة المذكورون في الآية التي بعدها، وما فضل فهو الأربعة الأخماس له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مضمومة إلى ما حازه من خمس الخمس.
ولما كان معنى هذا: فما كان التسليط بكم، استدرك بقوله:
﴿ولكن الله﴾ أي الذي له العز كله فلا كفوء له
﴿يسلط رسله﴾ أي له هذه السنة في كل زمن
﴿على من يشاء﴾ بجعل ما آتاهم سبحانه من الهيبة رعباً في قلوب أعدائه، فهو الذي سلط رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هؤلاء بأن ألقى في روعه الشريف أن يذهب إليهم فيسألهم الإعانة في دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه خطأ، فلما جلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جانب بيت من بيوتهم، وكانوا موادعين له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقضوا عهدهم خفية مكراً منهم بعد أن رحبوا به ووعدوه الإعانة وأمروا أحدهم أن يرمي عليه من
421
فوق السطح صخرة لتقتله، فأعلمه الله بهذا فذهب وترك أصحابه هناك حتى لحقوا به، وهذا بعد ما كان حيي فعل من قدومه مكة وندبه لقريش إلى حرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعاقدته لهم على أن يكون معهم عليه عليه الصلاة والسلام، وإعلام الله بذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسل إليهم بعد ما أصبح أنكم قد خنتم الله ورسوله، فأردتم أن تفعلوا كذا، وأن الأرض لله ورسوله، فاخرجوا منها وقد أجلتكم عشراً، فمكثوا على ذلك أياماً يتجهزون ودس إليهم ابن أبي ومن معه من المنافقين أنهم معهم في الشدة والرخاء لا يسلمونهم، وقال ابن أبي: معي ألفان من قومي وغيرهم نم العرب يدخلون حصنكم فيموتون من عند آخرهم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فطمع حيي بن أخطب في ذلك فأرسل إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك، فقصدهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المؤمنين يحمل رايته علي بن أبي طالب رضي الله عنه فصلى العصر بفنائهم بعد أن استعمل على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه وأقام عليهم ست ليال وهم متحصنون، فقطع من نخلهم وحرق فنادوه أن قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بالك تقطع النخل، وتربصوا نصر ابن أبي ومن معه على
422
ما قالوا فلم يفوا لهم، فألقى الله الرعب في قلوبهم فأرسلوا بالإجابة، فقال: لا إلا أن يكون لي سلاحكم وما لم تقدروا على حمله على إبلكم من أموالكم، فتوقفوا ثم أجابوا فحملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل إلا الحلقة، وذهبوا على ستمائة بعير، وأظهروا الحلي والحلل وأبدى نساؤهم زينتهن فلحق بعضهم بخيبر وبعضهم بالشام وخلوا الأموال والحلقة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يسلم منهم إلا رجلان يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها فجعل الله أموال من لم يسلم منهم فيئاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة به يضعها حيث يشاء كما روي ذلك في الصحيح عن عمر رضي الله عنه في قصة مخاصمة علي والعباس رضي الله عنهما، وفيه أنه من خصائصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه قال: إن الله قد خص رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره، ثم قرأ
﴿ما أفاء الله على رسوله منهم﴾ إلى قوله تعالى:
﴿قدير﴾ فكانت خالصة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم قد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال - يعني الذي وقع خصامهما فيه، فكان ينفق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
423
على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل ما لله، وفي الصحيح أيضاً عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر رضي الله عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله - انتهى، وقد قسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموالهم بعد ما تركه لنفسه بين المهاجرين، لم يعط الأنصار منه شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة شديدة: أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة رضي الله عنهم، وكان لسيف ابن أبي الحقيق عندهم ذكر فنفله سعد بن معاذ رضي الله عنه وقال الأصبهاني: إن الفيء كان يقسم على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خمسة وعشرين سهماً أربعة أخماسها وهي عشرون سهماً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل بها ما يشاء ويحكم فيها ما أراد، والخمس الباقي على ما يقسم عليه خمس الغنيمة - يعني على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذوي القربى ومن بعدهم، هكذا كان عمله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صفاياه،
424
فلما توفي كانت إلى إمام المسلمين وكذا جميع ما ترك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه قال:
«لا نورث، ما تركناه صدقة». فولي ذلك أبو بكر رضي الله عنه ثم عمر رضي الله عنه، فكانا يفعلان فيها ما فعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الأصبهاني رضي الله عنه أيضاً عن مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه
﴿إنما الصدقات للفقراء﴾ [التوبة: ٦٠] حتى بلغ
﴿عليم حكيم﴾ ثم قال: هذه لهؤلاء ثم قرأ
﴿واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه﴾
[الأنفال: ٤١] ثم قال هذه لهؤلاء، ثم قرأ
﴿ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى﴾ [الحشر: ٧] حتى بلغ
﴿الفقراء المهاجرين والذين تبوءوا الدار والإيمان والذين جاؤوا من بعدهم﴾ [الحشر: ٧] ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة فليس أحد إلا له فيها حق، ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي نصيبه منه لم يعرف جبينه فيه - انتهى.
وقال ابن عطية: ما أخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبني النضير ومن فدك فهو خاص بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس على حكم الغنيمة التي يوجف عليها ويقاتل فيها، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أن هذه الأموال التي هي فيء كبقية الفيء يقسم على خمسة أسهم: خمس منها للأصناف المذكورة أولها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأربعة أخماسها له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، وأجاب الشافعي عن قول عمر رضي الله عنه، «
425
فكانت هذه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة» بأنه عام أريد به الخاص، ومعناه، فكان ما بقي منها في يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد إعطاء الخمس لأربابه خاصاً به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يشك أحد في خصوصيته به، ثم إنه مع ذلك ما احتازه دونهم بل كان يفعل ما ذكر في الحديث من الإيثار، قال الشافعي رضي الله عنه: لأنا لا نشك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى الأصناف المذكورين في الآية منها حقهم وقد عهدنا أن حق هؤلاء الأصناف من مال المشركين الخمس كما هو صريح في سورة الأنفال، واستفيد من قول عمر رضي الله عنه
«إنها كانت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» أنه كان له ما كان يشترك فيه المسلمون من الخمس من الغنيمة التي حصلت بما حصل للكفار من الرعب منهم، والذي كان يشترك فيه المسلمون بعد الخمس هو أربعة الأخماس والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام مقام المسلمين فيه إذ هم لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب، وإنما حصل ذلك بالرعب الذي ألقاه الله لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قلوب المشركين، فكانت الأربعة الأخماس تختص ممن كان السبب في حصول الجميع كما في الغنيمة، فعلى هذا الفيء الغنيمة لا يختلفان في أن الأربعة الأخماس تختص لمن كان السبب
426
في حصول الجميع وأن خمس المالين يكون للأصناف المذكورة، والذي كان له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفيء من الأربعة الأخماس يكون بعد موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمقاتلة لأنه حصل بالرعب الحاصل للكفار منهم كأربعة أخماس الغنيمة التي حصلت بقتالهم.
ولما كانت قدرته سبحانه عامة بالتسليط وغيره، أظهر ولم يضمر فقال:
﴿والله﴾ أي الملك الذي له الكمال كله
﴿على كل شيء﴾ أي أي شيء يصح أن تتعلق المشيئة به وهو كل ممكن من التسليط وغيره
﴿قدير *﴾ أي بالغ القدرة إلى أقصى الغايات، والآية تدل على أن إيجاف الخيل والركاب وقصد العدو إلى الأماكن الشاسعة له وقع كبير في النفوس ورعب عظيم.
427
ولما نزع سبحانه أموالهم من أيدي الجيش، بين مصرف غيرها مما كان مثلها بأن فتح له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغير قتال فقال مستأنفاً جواباً لمن كأنه قال: هل يعم هذا الحكم كل فيء يكون بعد بني النضير:
﴿ما أفاء الله﴾ أي الذي اختص بالعزة والحكمة والقدرة
﴿على رسوله﴾ ولما كان سبحانه محيط العلم بأنه يسلط على أهل وادي القرى وغيرهم
427
أعظم من هذا التسليط، قال ليكون علماً من أعلام النبوة:
﴿من أهل القرى﴾ أي قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية
﴿فالله﴾ أي الملك الأعلى الذي الأمر كله بيده
﴿وللرسول﴾ لأنه أعظم خلقه، فرتبته تلي رتبته، وهذان يتراءى أنهما قسمان وليس كذلك، هما قسم واحد، ولكنه ذكر سبحانه نفسه المقدس تبركاً، فإن كل أمر لا يبدأ به فهو أجذم، وتعظيماً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إعلاماً بأنه لا هوى له أصلاً في شيء من الدنيا، وإنما رضاه رضا مولاه، خلقه القرآن الذي هو صفة الله فهو مظهره ومجلاه، وسهمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصرف بعده لمصالح المسلمين كالسلاح والثغور والعلماء والقضاة والأئمة.
ولما أبان هذا الكلام لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفضل والعظمة ما لا يدخل تحت الوصف، أتبعه تعظيماً آخر بتعظيم أقاربه لأجله، ولذلك أعاد العامل فقال:
﴿ولذي القربى﴾ أي منه لأن رتبتهم من بعد رتبته وهم بنو هاشم وبنو المطلب رهط إمامنا الشافعي رضي الله عنه سواء فيه غنيهم وفقيرهم، لأن أخذهم لذلك بالقرابة لا بالحاجة كما هو مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه. ولما ذكر أهل الشرف، أتبعه أهل الضعف جبراً لوهنهم فقال مقدماً أضعفهم:
﴿واليتامى﴾
428
أي الذين هم أحق الناس بالعطف لأن مبنى الدين على التخلق بأخلاق الله التي من أجلّها تقوية الضعيف وجبر الكسير
﴿والمساكين﴾ فإنهم في الضعف على أثرهم ودخل فيهم الفقراء فإنه إذا انفرد لفظ الفقير أو المساكين دخل كل منهما في الآخر، وإنما يفرق إذا جمع بينهما، وكذا الفيء والغنيمة إذا أفردا جاز أن يدخل كل في الآخر، وإذا جمعا فالفيء ما حصل بغير قتال وإيجاف خيل وركاب، والغنيمة ما حصل بذلك
﴿وابن السبيل﴾ وهم الغرباء لانقطاعهم عن أوطانهم وعشائرهم، وقسمة الفيء على هذه الأصناف كما مضى أن يقسم خمسة أقسام: خمس منها لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن ذكر معه من المخلوقين وذكر الله فيهم للتبرك، لأن الأصناف المذكورة هي التي يعبر عنها باسمه سبحانه، والأربعة الأخماس خاصة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفق منها نفقة سنة وما فضل عنه أنفقه في مصالح المسلمين السلاح والكراع ونحوه، وما كان له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته فهو للمصالح بعد وفاته، كما كان يفعل بعد ما يفضل عن حاجته، قال الشافعي رضي الله عنه في الأم: وما أخذ من مشرك
429
بوجه من الوجوه غير ضيافة من مر بهم من المسلمين فهو على وجهين لا يخرج منهما، كلاهما مبين في كتاب الله تعالى وعلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي فعله فأحدهما الغنيمة، قال الله تعالى في سورة الأنفال:
﴿واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول﴾ [الأنفال: ٤١] والوجه الثاني الفيء، وهو مقسوم في كتاب الله في سورة الحشر، قال الله تبارك وتعالى:
﴿وما أفاء الله على رسوله منهم﴾ - إلى قوله -
﴿رؤف رحيم﴾ فهذان المالان اللذان خولهما الله من جعلهما له من أهل دينه، وهذه أموال يقوم بها الولاة لا يسعهم تركها. فالغنيمة والفيء تجتمعان في أن فيهما معاً الخمس من جميعهما لمن سماه الله تعالى، ومن سماه الله تعالى في الآيتين معاً سواء مجتمعين غير مفترقين، ثم يفترق الحكم في الأربعة الأخماس بما بين الله عز وجل على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي فعله فإنه قسم أربعة أخماس الغنيمة، والغنيمة هي الموجف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقير، والفيء وهو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قرى عرينة التي أفاءها الله عليها أن أربعة أخماسها لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
430
خاصة دون المسلمين يضعه رسوله الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أراه الله عز وجل، ثم ذكر حديث عمر رضي الله عنه من رواية مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه في خصام علي والعباس رضي الله عنهما، قال الشافعي: فأموال بني النضير التي أفاء الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي ذكر عمر رضي الله عنه فيها ما بقي منها في يد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الخمس وبعد أشياء فرقها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها بين رجال من المهاجرين لم يعط منها أنصارياً إلا رجلين ذكرا فقراً وهذا مبين في موضعه، وفي هذا الحديث دلالة على أن عمر رضي الله عنه إنما حكى أن أبا بكر رضي الله عنه وهو أمضيا ما بقي من هذه الأموال التي كانت بيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجه ما رأيا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعمل به فيها، وأنهما لم يكن لهما مما لم يوجف عليه المسلمون من الفيء ما كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنهما إنما كانا فيه أسوة للمسلمين، وذلك سيرتهما وسيرة من بعدهما، والأمر الذي لم يختلف فيه أحد من أهل العلم عندنا علمته ولم يزل يحفظ من
431
قولهم أنه ليس لأحد ما كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صفي الغنيمة ولا من أربعة أخماس ما لم يوجف عليه منها، وقد مضى من كان ينفق عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أزواجه وغيرهن إن كان معهن، فلم أعلم أحداً من أهل العلم قال لورثتهم تلك النفقة التي كانت لهم، ولا خلاف أن تجعل تلك النفقات حيث كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل فضول غلات تلك الأموال فيما فيه صلاح الإسلام وأهله، قال الشافعي: والجزية من الفيء وسبيلها سبيل جميع ما أخذه مما أوجف من مال مشرك أن يخمس فيكون لمن سمى الله عز وجل الخمس وأربعة أخماسه على ما سأبينه إن شاء الله تعالى، وكذلك كل ما أخذ من مشرك من مال غير إيجاف، وذلك مثل ما أخذ منه إذا اختلف في بلاد المسلمين ومثل ما أخذ منه إذا مات ولا وارث له، وغير ذلك ما أخذ من ماله، وقد كان في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيء من غير قرى عرينة، وذلك مثل جزية أهل البحرين وهجر وغير ذلك فكان له أربعة أخماسها يمضيها حيث أراد الله عز وجل وأوفى خمسه من جعله الله له - انتهى.
ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في
432
الجاهلية من اختصاص الأغنياء به، بين علته المظهرة لعظمته سبحانه وحسن تدبيره ورحمته فقال معلقاً بما علق به الجار:
﴿كي لا يكون﴾ أي الفيء الذي سيره الله سبحانه بقوته وما خص به نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قذف الرعب في قلوب أعدائه ومن حقه أن يعطاه الفقراء
﴿دولة﴾ أي شيئاً يتناوله أهل الغنى والشرف على وجه القهر والغلبة إثرة جاهلية - هذا على قراءة الجماعة، وقرأ أبو جعفر وهشام عن ابن عامر بالتأنيث من
﴿كان﴾ التامة و
﴿دولة﴾ بالرفع على أنها فاعل
﴿بين الأغنياء منكم﴾ يتداولونه بينهم فإنهم كانوا يقولون: من عزيز، ومنه قال الحسن: اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً - يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به، وقيل: الضم اسم للمتداول كالغرفة اسم لما يغترف، والفتح التداول.
ولما كان التقدير: فافعلوا ما أمرتكم من قسمته لمن أمرت به، عطف عليه قوله:
﴿وما﴾ أي وكل شيء
﴿آتاكم﴾ أي أحضر إليكم وأمكنكم منه
﴿الرسول﴾ أي الكامل في الرسلية من هذا وغيره
﴿فخذوه﴾ أي فتقبلوه تقبل من حازه
﴿وما نهاكم عنه﴾ من جميع الأشياء
﴿فانتهوا﴾ لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يقول ولا يفعل إلا ما أمره به الله ربه، فمن قبل ذلك هانت عليه الأمور كما ورد (القرآن صعب مستصعب على من تركه ميسر على من طلبه وتبعه) روي أن الآية
433
نزلت في ناس من الأنصار قالوا: لنا من هذه القرى سهمنا.
ولما كان الكف عما ألفته النفوس صعباً، ولا سيما ما كان مع كونه تمتعاً بمال على وجه الرئاسة، رهب من المخالفة فيه بقوله:
﴿واتقوا الله﴾ أي اجعلوا لكم بطاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة، وعلل ذلك بقوله، معظماً له بإعادة الجلالة مؤكداً لأن فعل المخالف فعل المنكر:
﴿إن الله﴾ أي الذي له وحده الجلال والإكرام على الإطلاق
﴿شديد العقاب *﴾ أي العذاب الواقع بعد الذنب، ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ، لأن الأنفال نزلت في بدر وهي قبل هذه بمدة.
434
ولما نزع سبحانه أموال الفيء وما كانت عليه في الجاهلية، وبين مصرف الفيء من القرى، وتهدد في المخالفة في ذلك لصعوبته على النفوس، فكان ذلك جديراً بالتقبل بعد أن أفهم أن أموال بني النضير لمن سلطه عليهم وهو رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان من المعلوم من حاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإيثار على نفسه والقناعة بما دون الكفاف، بين المصرف فيها بعد كفايته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن بيان ذلك هو المقصود الأعظم لكونه حاصلاً حاضراً، الموطأ له بأموال أهل القرى، فقال مبدلاً من {لله
434
وللرسول} وما عطف عليهما لأن من أعطى المهاجرين لهجرتهم وتجردهم من أموالهم وديارهم فإنما أعطاهم لوجه الله ووجه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يكون بدلاً من
﴿ذي القربى﴾ لئلا يختص بفقيرهم، أو يكون جواباً لمن كأنه قال: قد سمعنا وأطعنا فلمن يكون ما سلط الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أموالهم؟ فقيل له:
﴿للفقراء﴾ أي الذي كان الإنسان منهم يعصب الحجر على بطنه من الجوع ويتخذ الحفرة في الشتاء لتقيه البرد، ما له دثار غيرها بعد أن كان له من الأموال ما يسعه ويفضل منه ما يصل به غيره، وإنما وصفهم بالفقر لأنهم كانوا عند نزولها كذلك، ثم خصص بالوصف فقال:
﴿المهاجرين﴾ ولما كانت الهجرة قد تطلق على من هجر أهل الكفر من غير مفارقة الوطن فقال:
﴿الذين أخرجوا﴾ وبناه للمفعول لأن المنكئ الإخراج، لا كونه من مخرج معين
﴿من ديارهم﴾ ولما كان الإخراج هنا مضمناً معنى المنع، واختبر التعبير به إشارة إلى أن المال السترة للإنسان لأنه ظرف له، قال:
﴿وأموالهم﴾.
435
ولما كان غلب الدنيا من النقائص، بين أنه إذا كان من الله لم يكن كذلك، وأنه لا يكون قادحاً في الإخلاص، وأن أمر بني النضير إنما يسر تحقيقاً لرجائهم فقال:
﴿يبتغون﴾ أي أخرجوا حال كونهم يطلبون على وجه الاجتهاد. وبين أنه لا يجب عليه شيء لأحد بقوله تعالى:
﴿فضلاً من الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له لأنه المختص بجميع صفات الكمال من الدنيا والدين والآخرة فيغنيهم بفضله عمن سواه
﴿ورضواناً﴾ يوفقهم لما يرضيه عنهم ولا يجعل رغبتهم في العوض منه قادحاً في الإخلاص فيوصلهم إلى دار كرامته.
ولما وصفهم بتعليق بواطنهم به سبحانه وقطعها بالرضا بالإخراج عمن أو عما سواه، وصفهم ببذل ظواهرهم له فقال:
﴿وينصرون﴾ أي على سبيل التجديد في كل وقت والاستمرار
﴿الله﴾ أي الملك الأعظم المجيد
﴿ورسوله﴾ الذي عظمته من عظمته بأنفسهم وأموالهم ليضمحل حزب الشيطان. ولما بان ما له بهم سبحانه من العناية ترقب السامع من مدحهم ما يليق بهذا الإحبار.
فقال مستأنفاً ما هو كالعلة لتخصيصهم:
﴿أولئك﴾ أي العالو الرتبة في الأخلاق الفاضلة
﴿هم﴾
436
أي خاصة لا غيرهم
﴿الصادقون﴾ العريقون في هذا الوصف لأن مهاجرتهم لما ذكر وتركهم لما وصف دل على كمال صدقهم فيما ادعوه من الإيمان بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث نابذوا من عاداهما وهو القريب الصافي نسباً وداراً وأولوا أولياءهما من كانوا وإن بعدت دارهم وشط مزارهم، وهذا يدل على أن مبنى الدين على إقامة البينات بالثبات عن الابتلاءات على أن العون قد يأتي على قدر البلاء لأن الله تعالى قد خص المهاجرين مما أذن فيه من أموال بني النضير.
ولما مدح المهاجرين وأعطاهم فطابت نفوس الأنصار بذلك وكانوا في كل حال معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالميت بين يدي الغاسل، مهما شاء فعل، ومهما أراد منهم صار إليه ووصل، أتبعه مدحهم جبراً لهم وشكراً لصنيعهم فقال عاطفاً على مجموع القصة:
﴿والذين تبوؤ﴾ أي جعلوا بغاية جهدهم
﴿الدار﴾ الكاملة في الدور وهي التي أعدها الله في الأزل للهجرة وهيأها للنصرة وجعلها دائرة على جميع البلدان محيطة بها غالبة عليها محل إقامتهم وملابستهم وصحبتهم وملازمتهم لكونها أهلاً لأن يعود إليها من خرج منها فلا يهجرها أصلاً، فهي محل مناه وليست
437
موضعاً يهاجر منه لبركتها أو خيرها.
ولما كان المراد الإبلاغ في مدحهم، قال مضمناً
«تبوؤا» معنى لازم:
﴿والإيمان﴾ أي ولابسوه وصحبوه وخصوه بالصحبة ولزموه لزوماً هو كلزوم المنزل الذي لا غنى لنازله عنه، ويجوز أن يكون الإيمان وصفاً للدار بإعادة العاطف للإشارة إلى التمكن في كل من الوصفين فيكون كأنه قيل: تبوؤا المدينة التي هي الدار وهي الإيمان لأنها محل تمكن الإيمان وانتشاره وظهوره في سائر البلدان فلشدة ملابستها له سميت به، ويجوز أن يكون المعنى: ومحل الإيمان إشارة إلى أنهم ما أقاموا بها لأجل أن أموالهم بها بل محبة في الإيمان علماً منهم بأنه لا يتم بدره، ويكمل شرفه وقدره، وتنشر أعلامه ويقوى ذكره إلا بها، ولولا ذلك لهجروها وهاجروا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أي مكان حله، فهو مدح لهم بأنه متصفون بالهجرة بالقوة مع اتصافهم بالنصرة بالفعل.
ولما كان انفرادهم بإقامة الإيمان في الدار المذكورة قبل قدوم المهاجرين عليهم مدحاً تاماً، قال مادحاً لهم بذلك دالاً بإثبات الجارّ على أنهم لم يستغرقوا زمان القبل من حين إرسال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
438
بالأمرين:
﴿من قبلهم﴾ أي قبل هجرة المهاجرين لأن وصفهم بالهجرة لم يكن إلا بعد إيجادها فالأنصار جمعوا التمكن في الإيمان إلى التمكن في الدار من قبل أن يجمع المهاجرون بينهما بالهجرة.
ولما ابتدأ ذكرهم هذا الابتداء الجليل، أخبر عنهم بقوله:
﴿يحبون﴾ أي على سبيل التجديد والاستمرار، وقيل العطف على المهاجرين، وهذه حال فيكون هذا حكماً بالمشاركة
﴿من هاجر﴾ وزادهم محبة فيهم وعطفاً عليهم بقوله:
﴿إليهم﴾ لأن القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه، والدليل الشهودي على ما أخبر الله عنهم به من المحبة أنهم شاطروا المهاجرين في أموالهم وعرضوا عليهم أن يشاطروهم نساءهم على شدة غيرتهم، فأبى المهاجرون المشاطرة في النساء وقبلوا منهم الأموال.
ولما أخبرهم بالمحبة ورغبهم في إدامتها، عطف على هذا الخبر ما هو من ثمراته فقال:
﴿ولا يجدون﴾ أي أصلاً
﴿في صدورهم﴾ التي هي مساكن قلوبهم فتصدر منها أوامر القلوب فضلاً عن أن تنطق ألسنتهم. ولما كان المراد نفي الطلب منهم لما خص به المهاجري، وكان الحامل على طلب ذلك الحاجة، وكان كل أحد يكره أن ينسب
439
إلى الحاجة وإن أخبر بها عن نفسه في وقت ما لغرض قال:
﴿حاجة﴾ موقعاً اسم السبب على المسبب
﴿مما أوتوا﴾ أي المهاجرون من الفيء وغيره من أموال بني النضير وغيرهم من أي مؤت كان فكيف إذا كان المؤتي هو الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا لم يجدوا حاجة تدعوهم إلى الطلب فلأن لا يجدوا حسداً ولا غيظاً من باب الأولى، فهذه الآية من أعظم حاث على حسن الإخاء محذر من الحسد والاستياء. ولما أخبر عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الإخبار بتحليهم بالفضائل فقال:
﴿ويؤثرون﴾ عظم ذلك بقصر الفعل فصار المعنى: يوقعون الأثرة وهي اختيار الأشياء الحسنة لغيرهم تخصيصاً لهم بها لا على أحبائهم مثلاً بل
﴿على أنفسهم﴾ فيبذلون لغيرهم
﴿كائناً﴾ من كان ما في أيديهم، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة من الرذائل لأن النفس إذا ظهرت كان القلب أطهر، وأكد ذلك بقوله:
﴿ولو كان﴾ أي كوناً هو في غاية المكنة
﴿بهم﴾ أي خاصة لا بالمؤثر
﴿خصاصة﴾ أي فقر وخلل في الأحوال وحاجة شديدة تحيط بهم من كل جانب، من خصائص البناء وهي فرجه.
ولما كان التقدير: فمن كان كذلك فهو من الصادقين: عطف عليه قوله:
﴿ومن﴾ ولما كان المقصود النزاهة عن الرذيلة من أي جهة كانت، وكان علاج الرذائل صعباً جداً، لا يطيقه الإنسان
440
إلا بمعونة من الله شديدة، بنى للمفعول قوله:
﴿يوق شح نفسه﴾ أي يحصل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس، وقاية تحول بينه وبينها، فلا يكون مانعاً لما عنده، حريصاً على ما عند غيره حسداً، قال ابن عمر رضي الله عنه: الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم».
ولما كان النظر إلى التطهير من سفساف الأخلاق عظيماً، سبب عنه إفهاماً لأنه لا يحصل ما سببه عنه بدونه قوله
﴿فأولئك﴾ : أي العالو المنزلة
﴿هم﴾ أي خاصة لا غيرهم
﴿المفلحون *﴾ أي الكاملون في الفوز بكل مراد، قال القشيري: وتجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة والأكابر، ومن أسرته الأخطار وبقي في شح نفسه فهو في مصارفة معاملته ومطالبة الناس في استيفاء حظه، فليس له من مذاقات هذه الطريقة شيء.
وشرح الآية أن الأنصار كانوا لما قدم عليهم المهاجرون قسموا دورهم وأموالهم بينهم وبينهم، فلما أفاء الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموال بني النضير خطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ما صنعوا بالمهاجرين من إنزالهم إياهم
441
وأثرتهم على أنفسهم، ثم قال
«إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليّ من بني النضير»، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطتيهم وخرجوا من دياركم، فقال السعدان رضي الله عنهما: بل يقسم بين المهاجرين خاصة ويكونون في دورنا كما كانوا، وقالت الأنصار: رضينا وسلمنا، وفي رواية أنهم قالوا: اقسم فيها هذه خاصة واقسم لهم من أموالنا ما شئت، فنزلت
﴿ويؤثرون على أنفسهم﴾ - الآية، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: جزاكم الله خيراً يا معشر الأنصار»، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال العنزي:
جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت | بنا نعلنا في الواطئين فزلت |
أبوا أن يملونا ولو أنا أمنا | تلاقي الذي يلقون منا لملت |
فهم لعمري الحقيقون باسم إخوان الصفاء، وخلان المروءة والوفاء، والكرامة والاصطفاء، ورضي الله عنهم وعن تابعيهم من الكرام الخلفاء والسادة والحنفاء.
442
ولما أثنى الله سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم بما هم أهله، التابعين لهم بإحسان ما يوجب لهم الثناء فقال عاطفاً على المهاجرين فيقتضي التشريك معهم، أو على أصل القصة من عطف الجمل:
﴿والذين جاؤوا﴾ أي من أي طائفة كانوا، ولما كان المراد المجيء ولو في زمن يسير، أثبت الجار فقال:
﴿من بعدهم﴾ أي بعد المهاجرين والأنصار وهم من آمن بعد انقطاع الهجرة بالفتح وبعد إيمان الأنصار الذين أسلموا بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يوم القيامة، ثم ذكر الخبر أو الحال على نحو ما مضى في الذي قبله فقال تعالى:
﴿يقولون﴾ أي على سبيل التجديد والاستمرار تصديقاً لإيمانهم بدعائهم لمن سنه لهم:
﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا بإيجاد من مهد الدين قبلنا. ولما كان الإنسان وإن اجتهد موضعاً للنقصان قال ملقناً لنا:
﴿اغفر﴾ أي أوقع الستر على النقائص أعيانها وآثارها
﴿لنا﴾ ولما بدؤوا بأنفسهم، ثنوا بمن كان السبب في إيمانهم فقالوا:
﴿ولإخواننا﴾ أي في الدين فإنه أعظم أخوة، وبينوا العلة بقولهم:
﴿الذين سبقونا بالإيمان﴾ ولما لقنهم سبحانه حسن الخلافة لمن مهد لهم ما هم فيه، أتبعه تلقين ما يعاشرون به أعضادهم الذين هم
443
معهم على وجه يعم من قبلهم، فقال معلماً بأن الأمر كله بيده حثاً على الالتجاء إليه من أخطار النفس التي هي أعدى الأعداء:
﴿ولا تجعل﴾ وأفهم قوله:
﴿في قلوبنا﴾ أن رذائل النفس قل أن تنفك وأنها إن كانت مع صحة القلب أوشك أن لا تؤثر
﴿غلاًّ﴾ أي ضغناً وحسداً وحقداً وهو حرارة وغليان يوجب الانتقام
﴿للذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان وإن كانوا في أدنى درجاته.
ولما كان هذا دعاء جامعاً للخير، لقنهم ما يجيبهم في لزومه والتخلق به مع ما فيه من التملق للإله والتعريض له بقوة الرجاء فقال:
﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا بتعليم ما لمن نكن نعلم، وأكدوا إعلاماً بأنهم يعتقدون ما يقولونه وإن ظهر من أفعالهم ما يقدح في اعتقادهم ولو في بعض الأوقات فقالوا:
﴿إنك رؤوف﴾ أي راحم أشد الرحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير
﴿رحيم *﴾ مكرم غاية الإكرام لمن أردته ولو لم يكن له وصلة، فأنت جدير بأن تجيبنا لأنا بين أن يكون لنا وصلة فنكون من أهل الرأفة، أو لا فنكون من أهل الرحمة، فقد أفادت هذه الآية أن من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة رضي الله عنهم
444
فليس ممن عنى الله بهذه الآية.
445
ولما دل على أن هذا الثناء للصادقين في الإيمان بإقامة السنة بالهجرة والإيثار والاجتهاد في الدعاء لمن تبين الإيمان فسهل به طريق الأمان، فأخرج ذلك المنافقين وأفهم أنهم لا يفعلون ذلك لأنهم لا رسوخ لهم في الإيمان الحامل على ذلك، دل على نفاقهم الموجب لكذبهم بقوله متمماً للقصة مخاطباً لأعلى الخلق إشارة إلى أنه لا يطلع على نفاقهم لما لهم فيه من دقة المكر حق الاطلاع غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معجباً من حالهم في عدم رسوخهم مع ما يرون من المعجزات والآيات البينات ويرون من حال المؤمنين من إسباغ الرحمة عليهم بتسهيل الأمور والنصرة على الجبابرة والإعراض عن الدنيا مع الإقبال على الآخرة والاجتهاد في الدين الذي هو وحده داع إلى الإيمان ومرقق للقلوب ومبين للحقائق غاية البيان:
﴿ألم تر﴾ أي تعلم علماً هو في قوة الجزم به كالمشاهد يا أعلى الخلق، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف الغالي بأداة الانتهاء فقال تعالى:
445
﴿إلى الذين نافقوا﴾ أي أظهروا غير ما أضمروا، أظهروا الخير وبالغوا في إخفاء عقائدهم بالشر مبالغة من ساجل غيره، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه، قالوا: والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبله، وهو استعارة من فعل الضب في نافقائه وقاصعائه، وصور حالهم بقوله:
﴿يقولون لإخوانهم﴾ أي من الموالاة بالضلالة.
ولما جمعهم في الكفر وإن افترقوا في المساترة والمجاهرة، وصف المجاهرين بنوع مساترة توجب النفرة منهم وتقضي بهلاك من صادقهم فقال:
﴿الذي كفروا﴾ أي غطوا أنوار المعارف التي دلتهم على الحق، وعينهم بما أبلغ في ذمهم من حيث إنهم ضلوا على علم فقال:
﴿من أهل الكتاب﴾ وهم بنو النضير هؤلاء، وبكتهم بكذبهم فيما أكدوا الموعد به لأنه في حيز ما ينكر من جهة أنهم لا يقدرون على المجاهرة بكفرهم فكيف بالمبارزة بالخلاف لقومهم الأنصار والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم في قولهم:
﴿لئن أخرجتم﴾ أي من مخرج ما من بلدهم الذي في المدينة الشريفة فخرجتم من غير أن تقاتلوا
﴿لنخرجن معكم﴾ فكان ما قضي به على إخوانهم من الإخراج فألاً وكل بمنطقهم.
446
ولما كان من المعلوم أن للمنافقين أقارب من أكابر المؤمنين، وكان من المعلوم - أنهم يقومون عليهم في منعهم من القيام معهم نصيحة لهم وإحساناً إليهم، وكان تجويز بني النضير موهناً لذلك، قالوا مؤكدين للكون معهم:
﴿ولا نطيع فيكم﴾ أي في خذلانكم، والمعنى أنه لو فرض أنه صار أحد في القرب منكم مثل قرب المظروف من الظرف ما أطعناه في التقصير فيما يسركم
﴿أحداً﴾ أي يسألنا خذلانكم من الرسول والمؤمنين، وأكدوا بقولهم:
﴿أبداً﴾ أي ما دمنا نعيش، وبمثل هذا العزم استحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب.
ولما قدموا في معونتهم ما كان فألاً قاضياً عليهم، أتبعوه قولهم:
﴿وإن قوتلتم﴾ أي من أي مقاتل كان فقاتلتم ولم تخرجوا
﴿لننصرنكم﴾ فالآية من الاحتباك: ذكر الإخراج أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والقتال ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً، ومعنى الآية أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بني النضير:
«اخرجوا من بلدي ولا تساكنوني، قد هممتم بالغدر بن وقد أجلتكم عشراً، فمن رئي بعد لك منكم ضربت عنقه» فأرسل إليهم ابن أبي بما تقدم.
ولما كان قولهم هذا كلاماً يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث
447
كونه مؤكداً مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه، بين حاله سبحانه بقوله:
﴿والله﴾ أي يقولون ذلك والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً
﴿يشهد﴾ بما يعلم من بواطنهم في عالم الغيب. ولما كان بعض من يسمع قولهم هذا ينكر أن لا يطابقه الواقع، وكان إخلافهم فيه متحققاً في علم الله، أطلق عليه ما لا يطلق إلا على ما كشف الواقع عن أنه غير مطابق، فقال تشجيعاً للمؤمنين على قتالهم مؤكداً
﴿إنهم﴾ أي المنافقون
﴿لكاذبون *﴾ وهذا من أعظم دلائل النبوة لأنه إخبار بمغيب بعيدة عن العادة بشهادة ما ظننتم أن يخرجوا فحققه الله عن قريب.
ولما كان الكذب في قولهم هذا كونه إخباراً بما لا يكون، شرحه بقوله مؤكداً بأعظم من تأكيدهم:
﴿لئن أخرجوا﴾ أي بنو النضير من أي مخرج كان
﴿لا يخرجون﴾ أي المنافقون
﴿معهم﴾ أي حمية لهم لأسباب يعلمها الله
﴿ولئن قوتلوا﴾ أي اليهود من أي مقاتل كان فكيف بأشجع الخلق وأعلمهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿لا ينصرونهم﴾ أي المنافقون ولقد صدق الله وكذبوا في الأمرين معاً: القتال والإخراج، لا نصروهم ولا خرجوا معهم، فكان ذلك من أعلام النبوة، وعلم به من كان شاكاً فضلاً عن الموقنين، صدق
448
الكلام على ما لم يكن ولا ليكون لو كان كيف كان يكون بصدق الكلام على ما لم يكن ويكون كيف يكون إذا كان في قوله تعالى:
﴿ولئن نصروهم﴾ أي المنافقون في وقت من الأوقات
﴿ليولن﴾ أي المنافقون ومن ينصرونه، وحقرهم بقوله:
﴿الأدبار﴾ ولما كان من عادة العرب الكر بعد الفر، بين أنهم لا كرة لهم بعد هذه الفرة وإن طال المدى فقال:
﴿ثم لا ينصرون *﴾ أي لا يتجدد لفريقيهم ولا لواحد منهما نصرة في وقت من الأوقات، وقد صدق سبحانه لم يزل المنافقون واليهود في الذل ولا يزالون.
ولما كان ربما قيل: إن تركهم لنصرهم إنما هو لخوف الله أو غير ذلك مما يحسن وقعه، علل بما ينفي ذلك ويظهر أن محط نظرهم المحسوسات كالبهائم فقال مؤكداً له لأجل أن أهل النفاق ينكرون ذلك وكذا من قرب حاله منهم:
﴿لا أنتم﴾ أيها المؤمنون
﴿أشد رهبة﴾ أي من جهة الرهبة وهو تمييز محول عن المبتدأ أي لرهبتكم الكائنة فيهم أشد وأعظم
﴿في صدورهم﴾ أي اليهود ومن ينصرهم مما أفاض إليها من قلوبهم
449
﴿من الله﴾ أي من رهبتهم التي يظهرونها لكم منه وإن ذكروه بكل صفة من صفاته فرهبتهم منكم بسبب لإظهارهم أنه يرهبون الله رياء لكم.
ولما كان هذا مما يتعجب منه المؤمن علله بقوله:
﴿ذلك﴾ أي الأمر الغريب وهو خوفهم الثابت اللازم من مخلوق مثلهم ضعيف يزينهم له وعدم خوفهم من الخالق على ما له من العظمة وذاته ولكونه غنياً عنهم
﴿بأنهم قوم﴾ أي على ما لهم من القوة
﴿لا يفقهون *﴾ أي لا يتجدد لهم بسبب كفرهم واعتمادهم على مكرهم في وقت من الأوقات فهم يشرح صدورهم ليدركوا به أن الله هو الذي ينبغي إن يخشى لا غيره، بل هم كالحيوانات لا نظر لهم إلى الغيب إنما هم مع المحسوسات، والفقه هو العلم بمفهوم الكلام ظاهره الجلي وغامضه الخفي بسرعة فطنة وجودة قريحة.
ولما أخبر برهبتهم دل عليها بقوله:
﴿لا يقاتلونكم﴾ أي كل من الفريقين اليهود والمنافقين أو أحدهما. ولما كان الشيء قد يطلق ويراد بعضه، حقق الأمر بقوله:
﴿جميعاً﴾ أي قتالاً يقصدونه مجاهرة وهم مجتمعون كلهم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن
﴿إلا في قرى محصنة﴾ أي ممنعة بحفظ الدروب وهي السكك الواسعة بالأبواب والخنادق ونحوها
﴿أو من وراء جدر﴾ أي محيط بهم سواء كان بقرية أو غيرها لشدة خوفهم، وقد أخرج بهذا ما حصل من بعضهم
450
عن ضرورة كاليسير، ومن كان ينزل من أهل خيبر من الحصن يبارز ونحو ذلك، فإنه لم يكن عن اجتماع، أو يكون هذا خاصاً ببني النضير في هذه الكرة.
ولما كان ربما ظن أن هذا عن عجز منهم لازم لهم دفعه بقوه إعلاماً بأنه إنما هو من معجزات هذا الدين:
﴿بأسهم﴾ أي قوتهم ما فيهم من الصفات التي يتأثر عنها العذاب
﴿بينهم شديد﴾ أي إذا أداروا رأياً أو حارب بعضهم بعضاً فجرأ المؤمنين عليهم بأن ما ينظرونه من شدتهم وشجاعتهم إذا حاربوا المشركين لا ينكر عند محاربة المؤمنين كرامة أكرم الله بها المؤمنين تتضمن علماً من أعلام النبوة تقوية لإيمانهم وإعلاء لشأنهم.
ولما كانت علة الشدة الاجتماع، شرح حالتي الشدة والرهبة بقوله مخاطباً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إشارة إلى شدة ما يظهرون من ألف
451
بعضهم لبعض:
﴿تحسبهم﴾ أي اليهود والمنافقين يا أعلى الخلق ويا أيها الناظر من كان ذلك التعاطف الظاهر
﴿جميعاً﴾ لما هم فيه من اجتماع الدفاع وعن ذلك نشأت الشدة
﴿وقلوبهم شتى﴾ أي مفترقة أشد افتراق، وعن ذلك نشأت الرهبة، وموجب هذا الشتات اختلاف الأهواء التي لا جامع لها من نظام العقل كالبهائم وإن اجتمعوا في عداوة أهل الحق كاجتماع البهائم في الهرب من الذئب، قال القشيري: اجتماع النفوس مع تنافر القلوب واختلافها أصل كل فساد وموجب كل تخاذل، ومقتض لتجاسر العدو، واتفاق القلوب والاشتراك في الهمة والتساوي في القصد يوجب كل ظفر وكل سعادة.
ولما كان السبب الأعظم في الافتراق ضعف العقل، قال معللاً:
﴿ذلك﴾ أي الأمر الغريب من الافتراق بعد الاتفاق الذي يخيل الاجتماع
﴿بأنهم قوم﴾ أي مع شدتهم
﴿لا يعقلون *﴾ فلا دين لهم
452
يجمعهم لعلمهم أنهم على الباطل فهم أسرى الأهوية، والأهوية في غاية الاختلاف، فالعقل مدار الاجتماع كما كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أن الهوى مدار الاختلاف.
453
ولما كان الإخبار بعدم عقلهم دعوى دل عليها بأمر مشاهد فقال:
﴿كمثل﴾ أي قصتهم في عدم فقههم بل عقلهم الذي نشأ عنه إخراجهم هذا وما سببه من مكرهم وغدرهم واعتمادهم على ابن أبيّ ومن معه من المنافقين كمثل قصة
﴿الذين من قبلهم﴾ ولما كان إدخال الجار مع دلالته على عدم استغراق زمان القبل يدل على قرب الزمن، صرجح به فقال:
﴿قريباً﴾ وهم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما بنو قينقاع من أهل دينهم اليهود أظهروا بأساً شديداً عند ما قصدهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة بدر فوعظهم وحذرهم بأس الله فقالوا: لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم، وأما والله لو قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس، ثم مكروا بامرأة من المسلمين فأرادوها
453
على كشف وجهها فأبت فعقدوا طرف ثوبها من تحت خمارها، فما قامت انكشفت سوأتها فصاحت فغار لها شخص من الصحابة رضي الله عنهم، فقتل اليهودي الذي عقد ثوبها فقتلوه، فانتقض عهدهم، فأنزل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بساحتهم جنود الله فأذلهم الله ونزلوا من حصنهم على حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد كانوا حلفاء ابن أبيّ، ولم يغن عنهم شيئاً غير أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أن لا يقتلهم وألح عليه حتى كف عن قتلهم فذهبوا عن المدينة الشريفة بأنفسهم من غير حشر لهم بالإلزام بالجلاء.
ولما كان كأنه قيل: ما كان خبرهم؟ قال:
﴿ذاقوا وبال﴾ أي وخامة وسوء عاقبة
﴿أمرهم﴾ في الدنيا وهو كفرهم وعداوتهم لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحزبه الذين هم حزب الله، وسماه أمراً لأنه مما ائتمروا فيه
﴿ولهم﴾ أي في الآخرة
﴿عذاب أليم *﴾ أي شديد الإيلام، ولما شبه سبحانه أمرهم في طاعتهم لابن أبي ومن معه وهم البعداء المحترقون بسبب إبعاد المؤمنين لهم بإبعاد الله واحتراق أكبادهم لذلك مع ما أعد لهم في الآخرة بأمر بني قينقاع، شبه قصة الكل بقصة
454
الشيطان ومن أطاعه من الإنس والجن، فقال مبيناً لمعنى ما حط عليه آخر الكلام:
﴿كمثل﴾ أي مثل الكل الواعدين بالنصر والمغترين بوعدهم مع علمهم بأن الله كتب في الذكر
﴿لأغلبن أنا ورسلي﴾ [المجالة: ٢١] في إخلافهم الوعد وإسلامهم إياهم عند ما حق الأمر يشبه مثل
﴿الشيطان﴾ أي البعيد من كل خير لبعده من الله المحترق بعذابه، والشيطان هنا مثل المنافقين
﴿إذا قال للإنسان﴾ أي كل من فيه نوس واضطراب وهو هنا مثل اليهود:
﴿اكفر﴾ أي بالله بما زين له ووسوس إليه من اتباع الشهوات القائم مقام الأمر.
ولما كان الإنسان بما يساعد تزيين الشيطان عليه من شهواته وحُظوظه وأخلاقه يطيع أمره غالباً قال:
﴿فلما كفر﴾ أي أوجد الكفر على أي وجه كان، ودلت الفاء على إسراعه في متابعة تزيينه
﴿قال﴾ أي الشيطان الذي هو هنا عبارة عن المنافقين مؤكداً لما لمن تعلق بمن أكد له الوعد بشيء من صادق الاعتماد عليه والتكذيب بأنه يخذله:
﴿إني بريء منك﴾ أي ليس بيني وبينك علاقة في شيء أصلاً ظناً منه أن هذه البراءة تنفعه شيئاً مما استوجبه المأمور بقبوله لأمره، وذلك
455
كناية عن أنه فعل معه من الإعراض عنه والتمادي في كل ما يدل على إهماله من أكد البراءة منه، وذلك كما فعل المنافقون باليهود جرؤوهم على أمر ينهى وهو الإقامة في بلدهم، فلما نصبوا الحرب طمعاً في نصرهم فعل المنافقون بتباطؤهم عنهم فعل المتبرئ منهم فكان ذلك أشد عليهم مما لم يطمعوهم في نصرهم لأن هذا بمنزله انهزامهم عنهم من الصف الموجب لانهزامهم لا محالة، ثم علل البراءة بقوله:
﴿إني أخاف الله﴾ أي الملك الذي لا أمر لأحد معه فلا تطاق صولته، ثم شرح ذلك بقوله:
﴿رب العالمين *﴾ أي الذي أوجدهم من العدم ورباهم بما يدل على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، فلا يغني أحد من خلقه عن أحد شيئاً إلا بإذنه وهو لا يغفر أصلاً لمن يقدح ربوبيته ولا سيما إن نسبها إلى غيره، وكان هذا كمثل ما يجد الإنسان بعد الوقوع في المعصية من الندم والحيرة، فإذا وجد ذلك وهم بالتوبة زين له المعصية وصعب عليه أمر التوبة وعسره وجرأه على المعصية بعينها أو على ما هو أكبر منها، ولا يزال كذلك حتى يتعذر عليه الرجوع فيتحقق هلاكه وهلاك من أوقعه، فلذلك سبب عنه قوله:
﴿فكان﴾ ولما كان تقديم الشيء على محله موجباً لروعة تنبه الإنسان للتفتيش عن السبب والتشويق إلى المؤخر قال:
﴿عاقبتهما﴾ مقدماً
456
لخبر
«كان» ﴿أنهما﴾ أي الغار والمغرور
﴿في النار﴾ حال كونهما
﴿خالدين فيها﴾ لأنهما ظلما ظلماً لا فلاح معه.
ولما كان ذلك قد يحمل على أنه في الإنسان بعينه، قال معلقاً بالوصف، تعميماً وزجراً عنه:
﴿وذلك﴾ أي العذاب الأكبر
﴿جزاء الظالمين *﴾ أي كل من وضع العبادة في غير محلها.
457
ولما أبلغ سبحانه في المواعظ في هذه السورة قولاً وفعلاً، وكانت الإيقاعات المذكورة فيها مسببة عن الخيانات ممن كان له عهد فنقضه، أو ممن كان أظهر الإيمان فأبان فعله كذبه، قال سبحانه وتعالى استنتاجاً عن ذلك وعظاً للمؤمنين لأن الوعظ بعد المصائب أوقع في النفس وأعظم في ترقيق القلب وتحذيره مما يوجب العقوبة:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ منادياً لهم نداء البعد معبراً بأدنى أسنان الإيمان لأنه عقب ذكر من أقر بلسانه فقط
﴿اتقوا الله﴾ أي اجعلوا لكم وقاية تقيكم سخط الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه ولا بد أن يستعرض عبيده، فاحذروا عقوبته بسب التقصير فيما حده لكم من أمر أو نهي
﴿ولتنظر نفس﴾ أي كل نفس تنظر إلى نفاستها وتريد العلو على أقرانها، ولعله وحدها للإشارة مع إفادة التعميم إلى قلة الممثل لهذا الأمر جداً
﴿ما قدمت﴾
457
أي من الزاد الذي يكون به صلاح المنزل الذي من لم يسع في إصلاحه لم يكن له راحة، هل يرضي الملك ما قدمته فينجيها أو يغضبه فيرديها.
ولما كان الأجل مبهم الوقت، فكان لقاء الله في كل يوم بل كل لحظة للعاقل مترقباً لكونه ممكناً مع كونه على الإطلاق محققاً لا يجهله أحد، قال مشيراً بتنكيره وإبهامه إلى تهويله وإعظامه:
﴿لغد﴾ أي لأجل العرض بعد الموت أو في يوم القيامة الذي هو في غاية القرب لأن هذه الدنيا كلها يوم واحد يجيء فيه ناس ويذهب آخرون، والموت أو الآخرة غده، لا بد من كل منهما، وكل ما لا بد منه فهو في غاية القرب لا سيما إن كان باقياً غير منقض، وكل من نظر لغده أحسن مراعاة يومه، وتنوينه للتعظيم من جهات لا تحصى.
ولما أمر بتقواه سبحانه خوفاً من سطواته أمر بتقواه لأجل مراقبته حياء من جلالته وهيبته تأكيداً للأمر لأن مدار النجاة على التقوى لأن مكايد الشيطان دقيقة، فمن لم يبالغ في محاسبة نفسه وتفقد ما يمكن أن يكون من الخلل في أعماله أوشك أن يحبط الشيطان أعماله فقال تعالى:
﴿واتقوا الله﴾ أي الجامع لجميع صفات الكمال أي اتقوه حياء منه، فالتقوى الأولى لإيجاد صور الأعمال، وهذه لتصفيتها وتزكية أرواحها، ولذلك علل بقوله
458
مرغباً مرهباً:
﴿إن الله﴾ أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى
﴿خبير﴾ أي عظيم الاطلاع على ظواهركم وبواطنكم والإحاطة
﴿بما تعملون *﴾ فلا تعملون عملاً إلا كان بمرأى منه ومسمع فاستحيوا منه، وكرر الاسم الأعظم كراهية أن يظن تقييد التقوى بحيثية من الحيثيات تعظيماً لهذا المقام إعلاماً بأن شؤونه لا تنحصر وأن إحاطته لا تخص مقاماً دون مقام ولا شأناً سوى شأن.
ولما هز إلى تقواه تارة بالخوف وأخرى بالحياء تأكيداً لها، وعلل ذلك بما له شعبة من التحذير، وكان الإنسان لما له من النسيان أحوج إلى التحذير، قال مؤكداً لشعبته وإيضاحاً لأن التقوى الثانية لمحاسبة النفس في تصفية العمل:
﴿ولا تكونوا﴾ أيها المحتاجون إلى التحذير وهم الذي آمنوا
﴿كالذين نسوا الله﴾ أي أعرضوا عن أوامره ونواهيه وتركوها ترك الناسين لمن برزت عنه مع ما له من صفات الجلال والإكرام لما استغواهم به من أمره الشيطان حتى أبعدهم جداً عن العمران
﴿فأنساهم﴾ أي فتسبب عن ذلك أن أنساهم بما له من
459
الإحاطة بالظواهر والبواطن
﴿أنفسهم﴾ فلم يقدموا لها ما ينفعها وإن قدموا شيئاً كان مشوباً بالمفسدات من الرياء والعجب، فكانوا مما قال فيه. سبحانه وتعالى
﴿وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية تسقى من عين آنية﴾ [الغاشية: ٢ - ٣ - ٤ - ٥] لأنهم لم يدعوا باباً من أبواب الفسق فإن رأس الفسق الجهل بالله، ورأس العلم ومفتاح الحكمة معرفة النفس، فأعرف الناس بنفسه أعرفهم بربه
«من عرف نفسه فقد عرف ربه».
ولما كانت ثمرة ذلك أنهم أضاعوها - أي التقوى - فهلكوا قال:
﴿أولئك﴾ أي البعيدون من كل خير
﴿هم﴾ أي خاصة دون غيرهم
﴿الفاسقون *﴾ أي العريقون في المروق من دائرة الدين.
ولما تم الدليل على أن حزب الله هم المفلحون لما أيدهم به في هذه الحياة الدنيا من النصر والشدة على الأعداء واللين والمعاضدة للأولياء وسائر الأفعال الموصلة إلى جنة المأوى، وصرح في آخر الدليل بخسران حزب الشيطان فعلم أن لهم مع هذا الهوان عذاب النيران، وكان المغرور بعد هذا بالدنيا الغافل عن الآخرة لأجل شهوات فانية وحظوظ زائلة عاملاً عمل من يعتقد أنه لا فرق بين الشقي بالنار
460
والسعيد بالجنة لتجشمه التجرع لمرارات الأعمال المشتملة عليها، أشج ذلك قوله منزلاً لهم منزلة الجازم بذلك أو الغافل عنه تنبيهاً لهم على غلطهم وإيقاظاً من غفلتهم:
﴿لا يستوي﴾ أي بوجه من الوجوه
﴿أصحاب النار﴾ التي هي محل الشقاء الأعظم
﴿وأصحاب الجنة﴾ التي هي دار النعيم الأكبر لا في الدنيا ولا في الآخرة وهي من أدلة أنه لا يقتل مسلم بكافر.
ولما كان نفي الاستواء غير معلم في حد ذاته بالأعلى من الأمرين، كان هذا السياق معلماً بما حفه من القرائن بعلو أهل الجنة، صرح به في قوله:
﴿أصحاب الجنة هم﴾ أي خاصة
﴿الفائزون *﴾ المدركون لكل محبوب الناجون من كل مكروه، وأصحاب النار هم الهالكون في الدارين كما وقع في هذه الغزوة لفريقي المؤمنين وبني النضير ومن والاهم من المنافقين، فشتان ما بينهما.
ولما كان قد مر في هذه السورة فضلاً عما تقدمها من حكمة هذا القرآن وإعجازه تارة بمطابقته لما نزل بسببه مطابقة تجلو عنه كل إشكال، وتارة بما يشاهد من صدقه فيما أخبر بإتيانه من الأفعال، وأخرى بما يتحدى به من الأقوال، ومرة بنظم كل جملة مع ما تقدمها على ما لم يكن لبشر مثله في الأحوال إلى غير ذلك من أمور لا يحصرها المقال، ترتب على ذلك قوله مبيناً أن سبب افتراق الفريقين في العقبى افتراقهم في
461
هذا القرآن في الأولى تمثيلاً للقلوب في قسوتها أو لينها عند سماع القرآن وتخيلاً توبيخاً للقاسي ومدحاً للعاطف اللين لافتاً القول إلى أسلوب العظمة لاقتضاء الحال لها:
﴿لو أنزلنا﴾ بعظمتنا التي أبانها هذا الإنزال
﴿هذا القرآن﴾ أي الجامع لجميع العلوم، الفارق بين كل ملتبس - المبين لجميع الحكم
﴿على جبل﴾ أي أي جبل كان
﴿لرأيته﴾ مع صلابته وفوته يا أشرف الخلق إن لم يتأهل غيرك لمثل تلك الرؤية
﴿خاشعاً﴾ أي مطمئناً مخبتاً على صلابته متذللاً باكياً
﴿متصدعاً﴾ أي متشققاً غاية التشقق كما تصدع الطور لتجلينا له بما دون ذلك من العظمة التي جلونا كلامنا الشريف لموسى عليه السلام في ملابسها
﴿من خشية الله﴾ أي من الخوف العظيم من له الكمال كله حذراً من أن لا يكون مؤدياً ما افترض عليه من تعظيم القرآن عند سماعه فما لابن لآدم وقد آتاه الله من العقل ما لم يؤت الجبل يستخف بحقه، ويعرض عما فيه من العبر، وفي الآية مدح للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثباته لما لا تثبت له الجبال، وذم للمعرضين بكونهم أقسى من الجبال.
ولما كان التقدير تبكيتاً وتوبيخاً لمن لم يرق للقرآن {أفلم يأن
462
للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} [الحديد: ١٦] فإنا قد فصلنا لهم الحلال والحرام والأمر والنهي وأوضحنا الحكم ودللنا على المتشابه وقصصنا الأقاصيص بعد جعلهم عقلاء ناطقين، فتلك أقاصيص الماضين لعلهم يعتبرون عطف عليه قوله:
﴿وتلك الأمثال﴾ أي التي لا يضاد فيها شيء
﴿نضربها للناس﴾ أي الذي يحتاجونها وهم من فيهم تذبذب واضطراب
﴿لعلهم يتفكرون *﴾ أي لتكون حالهم عند من ينظرهم حال من يرجى تفكره في تلك الأمثال فينفعه ذلك إذا أراد التفكر إلى التذكر فرأى تنبيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له أن كل ما في القرآن من شيء فيه مشاهد منه متطابق له كتاب الخلق وكتاب الأمر فتخلى عن الشهوات البهيمية فنجا من الحظوظ النفسية فتحلى بالملابس الروحانية فصار بالمجاهدات والمنازلات إلى الصفات الملكية فكان أهلاً للمقامات القدسية في الجنان العلية.
463
ولما أعلى سبحانه أولياءه بأن فتح السورة بالإيمان بالغيب وهو العزيز الحكيم بعد التنزيه عن نقائص التعطيل وكل شائبة نقص وينزل لعباده في أسباب الصفات والأفعال إلى أن أوصلهم إلى محسوس الأمثال فتأهلوا للفناء في ذاته وما على صفاته الموجبة لخشيته، رقاهم إلى التفكر في تفصيل ما افتتح به، فقال عادلاً عن أسلوب العظمة إلى
463
أعظم منها بإسبال حجب العزة على منهاج الحكمة:
﴿هو﴾ أي الذي وجوده من ذاته فلا عدم له أصلاً بوجه من الوجوه، فلا يستحق الوصف ب
«هو» غيره لأنه الموجود دائماً أزلاً وأبداً، فهو حاضر في كل ضمير غائب بعظمته عن كل حس، فلذلك يتصدع الجبل من خشيته.
ولما عبر بأخص أسمائه، أخبر عنه لطفاً بنا وتنزلاً لنا بأشهرها الذي هو مسمّي الأسماء كلها فقال:
﴿الله﴾ أي المعبود الذي لا ينبغي العبادة إلا له، الذي بطن بما لم تحط ولا تحيط به العقول من نعوت الكبرياء والعظمة والإكرام، فظهر بأفعاله التي لا تضاهى بوجه غاية الظهور، فتميز غاية التميز، فلم يلحقه شرك أصلاً في أمة من الأمم ولا نسمة من النسم، قال الحرالي في شرح الأسماء: وهو لوه القلوب والعقول أي محارها الذي لا تدركه، فلزم الخلق من توحيد اسم الإله ما حصل لهم من توحيد اسم الله من الأحدية الإحاطية - انتهى - فلذلك كان وصفه
﴿الذي لا إله إلا هو﴾ فإنه لا مجانس له ولا يليق ولا يصبح ولا يتصور أن يكافئه أو يدانيه شيء والإله أول اسم الله فلذلك -
464
لا يكون أحداً مسلماً إلا بتوحيده فتوحيده فرض وهو أساس كل فريضة، وتوحيد سائر الأسماء نقل وهو أساس كل نافلة، فمن وحد في الكل فقد كمل دينه وتمت النعمة عليه وإلا كان من الذين آمنوا، فإن كان ذلك منه قولاً عصم من نار الأحكام على الأبدان في الدنيا، وإن كان علماً تخلص من نار الهلع على النفوس في الدنيا، وهو الجزع عند مس الشر، والمنع والبخل عند مس الخير، ولن يشهد التوحيد في هذه الكلمة التي مضمونها توحيد اسم الإله إحساناً إلا بعد إحصاء جميع الأسماء علماً، قال الحرالي: والإله: التعبد وهو التذلل، فمن توهم حاجته بشيء وتوهم أن عنده قوام حاجته تذلل فكان تذلله له تألهاً، وكل من عبد ما أحاط عينه فقد خذل عقله عن تصحيح معنى الإله الذي يجب أن يكون غيباً، فكان تصحيح معنى الإله أنه غيب قائم مستحق للعبادة والتذلل لأجل قيامه والاستغناء به.
ولما أخبر بتفرده، دل عليه بآية استحقاقه لذلك، فقال مقدماً لما هو متقدم في الوجود:
﴿عالم الغيب﴾ أي الذي غاب عن علم جميع
465
خلقه.
ولما كنا ربما ظن أن وصفه بالغيب أمر نسبي سمي غيباً بالنسبة لناس دون ناس، دل بذكر الضد على أن المراد كل ما غاب وكل ما شهد فقال تعالى:
﴿والشهادة﴾ أي الذي وجد فكان بحيث يحسه ويطلع عليه بعض خلقه.
ولما تعالى في صفات العظمة ونعوت الجلال والكبر فبطن غاية البطون، أخذ رحمة العبادة بالتنزيل لهم بالتعرف إليهم بعواطف الرحمة فقال بانياً الكلام على الضمير إعلاماً بأن المحدث عنه أولاً هو بعينه المحدث عنه ثانياً:
﴿هو الرحمن﴾ أي العام الرحمة، قال الحرالي رحمه الله تعالى: والرحمة إجراء الخلق على ما يوافق حسبهم ويلائم خلقهم وخلقهم ومقصد أفئدتهم، فإذا اختص ذلك بالبعض كان رحيمية، وإذا استغرق كان رحمانية، ولاستغراق معنى اسم الرحمن لم يكن لإتمام في معنى استغراقه - يعني باسم الله.
ولما كانت الرحيمية خاصة بما ترضاه الإلهية قال تعالى:
﴿الرحيم *﴾ أي ذو الرحمة العامة المسعدة في الظاهر والرحمة الخاصة المسعدة في
466
الباطن، قال الحرالي: الرحمة من الرحيم اختصاص من شملته الرحمانية بمزية ما أوثر به من الرحمة في مقابلة من آل أمره إلى نعمه ليجمع مقتضى الاسمين بين عموم الرحمانية واختصاص الرحيمية: ولما أظهر على الخلق خصوص الإيثار، أجرى عليهم اسم الرحيم كرحمة الخلق أبناءهم. ولما كان حق اسم الرحيم إثبات رحمة غير مجذوذة ولم يكن ذلك للخلق لم يكن بالحقيقة الرحيم إلا الله الذي إذا اختص بالرحمة لم يحدها
﴿فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم﴾ [البقرة: ٢٥٦]
«إن الله لا ينزع العلم انتزاعاً بعد أن أعطاكموه» ﴿وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ﴾ [هود: ١٠٨] فلذلك لا رحيم بالحقيقة إلا الله تحقيق علم كما أنه لا رحمان إلا الله بادي معنى.
ولما كان الملك كمال استيلاء على الخلق يقصرهم به ملكهم على بعض مستطاعهم ويدينهم - أي يجيزهم - على حسب دينهم أي ما وضع لهم من عادة قصره لهم وحكمه عليهم وبحسب إحصائه عليهم دقيق أعمالهم وإحاطته بخفي أحوالهم والاطلاع على سرائرهم بتحقيق استيفاء الجزاء فيتحقق بذلك كمال الملك، فكان لذلك لا تتحقق حقيقة الملك فيمن هو دون العلم
467
بالسر وأخفى، والمحصي الحسيب لمثاقيل الدر، الخبير بخبأ الكون، فكان لا ملك في الحقيقة إلا الله، ولكنه تعالى لما كان قد أولى الخلق من رفعه بعضهم فوق بعض ما أجرى عليهم اسم الملك فتنة لهم فضل بسبب ذلك قوم ادعوا الملك الحقيقي، فغلط من أراد الله من الخلق فيهم فضلوا بهم، أعاد التهليل مع اسمه الملك كما ابتدأ مع اسمه الإله أول أسماء الله، ولذلك أيضاً قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه الشيخان وأبو داود والترمذى في حديث الذي يسمى ملك الملوك في رواية المسلم:
«لا ملك إلا الله»، فقال مصرحاً بما في باطن اسمي الرحمة من القهر والجبر على النسق الأول في البناء على الضمير تأكيداً لتعين المحدث عنه وتوحيده:
﴿هو الله﴾ أي الذي لا يقدر على تعميم الرحمة لمن أراد وتخصيصها بمن شاء
﴿الذي لا إله﴾ أي معبود بحق
﴿إلا هو الملك﴾ فلا ملك في الحقيقة إلا هو لأنه لا يحتاج إلى شيء، فإنه مهما أراد كان.
ولما كان الملك أصل ما لحق الخلق من الآفات لأنه رأس الشرف الذي هو باب الترف الملازم لمخالفة كتاب الله أما في الأعمال فيكون فتنة، وأما في الرأي فيكون علواً وكبراً وكفراً، فإن أمر الله في آدم على ماهو نبوة ثم ينزل فيصير خلافة ثم ينتهي نزوله فيكون
468
ملكاً ثم تتداعى الأحداث، فلمكان تداعي الملك لموجبات الذم قال عقب صفات الملك:
﴿القدوس﴾ مصرحاً بما لزم عن تمام ملكه من أنه بليغ في النزاهة عن كل وصم يدركه حسن أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم أيو يختلج به ضمير، فإن القدس طهر لا يقبل التغير ولا يلحقه رجس فلا يزال على وصف الحمد بثبات القدس، ولمكان ما حوّل سبحانه الخلق من حال طهر لا يظهر فيه تغير بما دونه أجرى عليهم اسم القدس كروح القدس المؤيد للشارع ينفث في روعة المؤيد لشاعره في مكافحته عنه، ولأجل قصر تخلي الخالق بالملك في قليل متاع الدنيا رغب النبي العبد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه، واختار العبودية الدائمة بدوام العزة لسيده، فوضح بذلك علم أن لا قدوس إلا الله حقيقة معنى وتصحيح إحاطة.
ولما كان سبحانه لتمام ملكه وعلو ملكه وكمال قدسه لا يتصور أن يلحقه نقص في ذات ولا صفة ولا فعل، فلا يقبح منه إهلاك على حال من الأحوال ولا مس بضر في الدنيا والآخرة في وقت من الأوقات لأنه سبحانه، لعلمه بالظواهر والبواطن على حد سواء، يصنع الأمور في
469
أحكم مواضعها بما لا يدركه غيره أصلاً أو لا يدركه حق إدراكه فاحتيج إلى ما يؤمن من ذلك، وكان السلام حد ما بين الألفة والفرقة وحد ما بين الرحمة والسطوة وهو أدنى منال الجاهل من عباد الرحمان، ومنال المعتدي من المقتدر، وكان سلام المسلم للجاهل مداراة لئلا يزيد في جهله عليه، أو ارتقاباً لاستقبال مكنة، وكان الله لا يعبأ بالخلق ولا يحتاج لارتقاب مكنة لأنه لا يعجزه شيء فلم يتحقق السلام بكل معنى من وجود السلامة له وإفاضتها على غيره تماماً إلا منه إعفاء من معاجلة استحقاق السطوة وحفيظة لحرمة اختصاص الرحمة، أتبع ذلك مؤمناً للعاصي من المعاجلة وللمطيع من سوء المعاملة قوله:
﴿السلام﴾ لأنه حد ما بينهما ظاهراً، ولذلك أردفه بما يتعلق بالباطن لتحصل إحاطة السلامة ظاهراً وباطناً فقال:
﴿المؤمن﴾ لأن الأمن حد ما بين المحبة والكره فيمن لا وسيلة له للحب وهو أدنى ما يقبله ذو الحق ممن يستحق منه الحب، ولذلك لم يقبل الحق ممن كان ظاهر الوسيلة للحب - إلا بالحب فلم يثبت إيمان المؤمن بمجرد الإيمان
470
حباً له بل إيثاراً لمحبته على كل حب ومساواة لأخيه المؤمن فيما يحب لنفسه، وأدناه الأمنة في الغيب من الغيبة والعيب إلى غاية الأمان من بوائق الغشم والظلم من الجار المستحق حفظ جاره في غيبه، فالإحلال بالإيمان لكونه الأمنة في الغيب نفاق، والإخلال بالإسلام لكونه السلم في المواجهة إحرام، فبأدنى إخلال في جانب الحق أو الخلق ينثلم الإسلام والإيمان، وذلك كله إنما هو في الحقيقة من الله تعالى فهو الذي يعزى إليه الأمن والأمان بإفادته أسبابه ومنع أسباب المخاوف فلا أمن في الوجود ولا أمان إلا وهو مستفاد من جهته.
ولما كان الاطلاع على بيّن ما ذكر ليتحقق معنى السلم والأمن، وعلى كل من تلك الحدود خفياً جداً يفتقر إلى مزيد علم، قال:
﴿المهيمن﴾ فإن الهيمنة شهادة خبرة وإحاطة وإبصار لكلية ظاهر الأمر وباطنه بحيث لا يخفى منه خافية هوية ولا بادية ظاهر، ولإحاطة معناه لا يكاد يقع له في الخلق مسوغ إطلاق إلا مسامحة لأن الخلق لا يشهدون إلا الظواهر ولا يشهدون من الباطن، ولذلك انعجم معناه على كثير من فصحاء العرب، فمفهوم معناه موجب توحيده فواضح إذ لا مهيمن بمعنى أنه شهيد على الوجه المشروح مع الأمانة المأمونة والحفظ والرعاية فيكون قائماً على كل شيء بكل ما له من رزق وعمل وأجل
471
إلا هو، ولذلك كان القرآن الذي هو صفته سبحانه وتعالى مهيمناً على جميع الكتب التي قبله مصدقاً لما يستحق التصديق منها مكذباً لما يستحق التكذيب، فمن كان به أمهر كان بذلك أعلم.
ولما كان تمام الخبرة ملزوماً لتمام القدرة، صرح بها اللازم فقال؛
﴿العزيز﴾ والعزة غلبة لا يجد معها المغلوب وجه مدافعة وجه مدافعة ولا انفلات ولا إعجاز، فالعزيز الذي صعب على طالبه إدراكه مع افتقار كل شيء إليه في كل لحظة، الشديد في انتقامه الذي لا معجز له في إنفاذ حكمه، ولذلك ينظم كثير بآيات إمضاء الأحكام متصلاً بالحكمة والعلم إنباء عن العدل، قال الغزالي: وهو الذي يقل وجود مثله وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه. ولما كان المغلوب على الشيء فيؤخذ من يده قد لا ينقاد باطناً فلا يباشر ما غلب عليه للغالب وقد لا يكون العز ظاهراً لكل أحد، أردفه بقوله:
﴿الجبار﴾ وهو العظيم الذي يفوت المقاوم مناله، فهو على هذا من أسماء الذات ويصلح أمور من يريد من الخلق ويقهرهم على ما يريد، فهم أحقر من أن يعصوه طرفة عين بغير إرادته، والجبر: طول يلجيء الأدنى لما يريد منه الأعلى ويغيب من
472
الأعلى ما يحاول مناله منه الأدنى مع الظهور التام الذي تدور مادته عليه، فالجبار لا يخرج شيء من قبضته، وتقصر الأيدي عن حمى عز حصرته، ولا ينال منه إلا ما نوّل، وهو أبعد شيء عن أوصاف الخلق لمنال الذباب منهم منا شاء وعجزهم عنه، ولما فيه من الإلجاء كان هو الاسم الذي يجليء النار لقصرها على مراده منها من الحسب الذي جبلها على ضده من الاستزادة فلا تزال تقول ما جبلت عليه: هل من مزيد، حتى يضع الجبار فيها قدمه أي يهينها فإن القدم موضع الإهانة، وهذه الإهانة - هي من مبدأ ظهور غلبة الرحمة للغضب، فله الملك ظهوراً بالأيدي الظاهرة من الإنسان وما دونه، وله الملكوت بطوناً بالأيدي الباطنة من الملك وما دونه، ولو الجبروت اختصاصاً من وراء كل ملك وملكوت.
ولما كان الإلجاء قد يكون بنوع ملاطفة، أتبعه قوله:
﴿المتكبر﴾ ليعم الإلجاء الظاهر والباطن فالكبرياء جملة تأدي أمر الله وظاهر خلقه الذي يجد الخلق صغرهم من دونه وكبره عليهم وامتناعه عما لا يريد من مرادهم، لأن الكل حقيرون بالإضافة إلى جلاله وعز جبروته وعظمته
473
وكماله، ولسواء الخلق في عام حضرة القدرة شملهم الصغر فلم يصح منهم كبر، ولا شرع لهم تكبر، فلم يكن للخلق منهم حقيقة حظ ولا لبس حق، فاختص بهذا الاسم لاستيلائه على الظواهر بإظهار ما لهم من الكبر لعدم الحاجة إلى شيء وبإلجاء غيره إلى الاحتياج إليه والإيقاع بجبابرتهم وإذلالهم وغير ذلك من الأمور المزعجة المرهبة من غير مبالاة بشيء كما اختص بالجبار لاستيلائه على البواطن.
ولما تقرر بما ذكر من مظاهر عظمته استيلاؤه على الظواهر والبواطن باللطف والعنف، أنتج ذلك تعاليه عن شوب نقص لا سيما بالشرك فقال سبحانه:
﴿سبحان الله﴾ أي تنزه الملك الأعلى الذي اختص بجميع صفات الكمال تنزهاً لا تدرك العقول منه أكثر من أنه علا عن أوصاف الخلق فلا يدانيه شيء من نقص
﴿عما يشركون *﴾ أي من هذه المخلوقات من الأصنام وغيرهما مما في الأرض أو في السماء من كبير وصغير. وجليل وحقير.
ولما تم دليل الوحدانية بما حل من التفهيم بالتدني إلى الملك ثم بالتعلي إلى التكبر فأنتج هذه الخاتمة، ابتدأ سبحانه دليلاً آخر هو في غاية التنزل والوضوح، فقال مفتتحاً بما افتتح به الأول من الترتيب في المراتب الثلاث، غيب الغيب ثم الغيب ثم الظهور على مراتبه،
474
إعلاماً بأنه لا براح عن الإيمان بالغيب، ومن برح عنه هلك
﴿وهو﴾ أي الذي لا شيء يستحق أن يطلق عليه هذا الضمير غيره لأن وجوده من ذاته ولا شيء غيره إلا وهو ممكن فهو أهل لأن لا يكون فلا يكون له ظهور ليكون له بطون.
ولما ابتدأ بهذا الغيب المحض الذي هو أظهر الأشياء، أخبر عنه بأشهر الأسماء الذي لم يقع فيه شركة بوجه فقال:
﴿الله﴾ أي الذي ليس له سمي فلا كفوء له فهو المعهود بالحق فلا شريك له بوجه. ولما بدأ سبحانه بهذا الدليل الجامع بين الغيب والظهور، ثنى بتنزيل متضمن للعلم والقدرة فهو في غاية الظهور فقال:
﴿الخالق﴾ أي الذي لا خالق على الحقيقة إلا هو لأن الخلق فرض حد وقدر في مطلق منه لم يكن فيه بعد حد ولا قدر كالحاذي يخلق أي يقدر في الجلد حداً وقدراً لنعل ونحوه وهو سابق للفري والبري ونحو
«سبق العلم العمل» فالخالق في الحقيقة هو الذي كل شيء عنده بمقدار، الذي يقول
﴿يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق﴾ [الزمر: ٦]
﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ [الحجر: ٢١] ومن ناشئة القدر الفرق والترتيب، ومن ناشئة
475
الفرق والترتيب الإحياء والإماتة، ومن معاد الفرق والإحياء والإماتة على أول أمره الجمع والرب، فلا يملك الخلق والفرق إلا من يملك الجمع والرب، وقد أوتي الحق ملكة ما في الفرق والشتات، ولم يملكوا جمع ما فرقوا ولا ألف ما شتتوا كالقاطع عضواً لا يقدر على لأمه، والهادم بناء لا يقدر على رمه على حده، والكاسر شيئاً لا يقدر على وصله، فلأن الخلق لا يحيطون بتقدير ما يسرعون في قدره ولا يقدرون بعد الفرق والفري على رمه ووصله كان المحيط التقدير في الشيء من جميع جهاته وجملة حدوده، القادر على جمع ما فرق الذي كما بدء أول خلق يعيده هو أحسن الخالقين، وتلايح تحت هذا اللبس في إطلاق اسم الخالق على الخالق الحق ذي الحول والقوة والقدرة والإحاطة والإبداء والإعادة، وعلى الخالق من الخلق المقدر بغير إحاطة علم ولا تأصيل حول ولا قدرة، ولا إتمام إبداء لاحظ من إعادة أنه لا خالق إلا الله كما أنه لا معيد لما بدأ إلا الله، وأن ليس إطلاق هذا الاسم على الخلق مبدأ فتنته التي يضل بها من يشاء ويهدي من يشاء، وتحقيق أفراد الخلق لله فيما ظهر على أيدي أهل الملك والملكوت وإحاطة جبروته بما ظهر وما بطن من أعمالهم وصنائعهم، هو أول مجمع من
476
مجامع التوحيد، وهو أساس لإيمان أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث فرض عليهم في الفاتحة
﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ فهم خير أمة أخرجت للناس حيث أخلصوا الدين لله، ولموقع الشرك فيه كان القدرية مجوس هذه الأمة.
ولما كان الخالق الحق هو من أتقن التقدير والبريء وإن كان أغلب الخلق لقصورهم لا يفهمون منه إلا مطلق التقدير كما قال شاعرهم:
ولأنت تفري ما خلقت... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
أردفه تنبيهاً على ذلك وتصريحاً وتأكيداً قوله:
﴿البارئ﴾ أي الذي يدقق بما وقع به التقدير ويقطعه ويصلحه لقبول الصورة على أتم حال، فإن كان من المحيط العلم كان تمام التهيؤ للصورة على كمال المشيئة فيها، وإن كان ممن لا يحيط علماً طرأ له في البرء من النقص عن التمام ما لا يمكن معه حصول المقصود في الصورة، ولا يكاد يقع الإحسان للخلق في مصوراتهم إلا وفاقاً لا يعلمون كنهه ولا يثقون بحصوله.
ولما كان من يهيئ الأمور للتصوير قد لا يتقنه قال:
﴿المصور﴾
477
فإن التصوير إتمام تفصيل الخلق الظاهر وإكمال تخطيطه وإحكام أعضائه وهو حد ما انتهى إليه الخلق في الظهور، وليس وراء ظهور الصور كون إلا لطائف تطويرها في إسنان كمالها بعد بعثها بإحيائها بما لها من الروح المقوم لها سواء كان حيوانياً أو غيره إلى غاية كما لها الذي يعطيه المصور لها إفضالاً ومزيداً ويظهره إبداعاً، ويتضح الفرق جداً بين الأسماء الثلاثة بالبناء فإنه يحتاج أولاً إلى مقدر يقدر ما لا بد منه من الحجر واللبن والخشب والحديد ومساحة الأرض وعدد الأبنية وطولها وعرضها، وهذا يتولاه المهندس فيرسمه وهو الخلق ثم يحتاج إلى حجار ينحت الحجارة ويهيئها لتصلح لمواضعها التي تكون فيها من الأبواب وأوساط الجدر وأطرافها وزواياها غير ذلك، وكذا الخشاب والحداد في الخشب والحديد وهو البرئ ثم يأخذ الكل البناء فيضعها مواضعها إلى أن تقوم صورتها التي رسمها المهندس أولاً وقدرها، ولا تقوم الصورة بالحق إلا إذا كانت محكمة بحسب الطاقة كما أن البناء يضع الحجارة أولاً ثم يجعل الخشب فوقها لا بالاتفاق بل بالحكمة، ولو قلب ذلك لم تثبت الصورة ولم يكن لها الاسم إلا على أقل وجوه الضعف فكل من كان أحكم كان تصويره أعظم، ولذلك
478
لا مصور في الحقيقة إلا الله الخالق البارئ المصور سبحانه، قال الرازي في اللوامع: والتصوير موجود في كل أجزاء العالم وإن صغر حتى في الذرة والنملة بل في كل عضو من أعضاء النملة، بل الكلام يطول في طبقات العين وعددها وهيئاتها وشكلها ومقاديرها وألوانها، ووجه الحكمة فيها، فمن لم يعرف صورتها لم يعرف مصورها إلا بالاسم المجمل، وهكذا القول في كل صورة لكل حيوان ونبات بل لكل جزء من نبات وحيوان.
ولما علم من هذا أنه لا بد أن يكون المصور بالغ الحكمة، أردفه بقوله تعالى:
﴿له﴾ أي خاصة لا لغيره
﴿الأسماء الحسنى﴾ أي من الحكيم وغيره ممن لا يتم التصوير إلا به ولا تدركونه أنتم حق إدراكه.
ولما أخبر سبحانه أول السورة أن الكائنات أوجدت تسبيحه خضوعاً لعزته وحكمته، ودل على ذلك بما تقدم إلى أن أسمعه الآذان الواعية بالأسماء الحسنى، دل على دوام اتصافه بذلك من يحتاج لما له من النقص من الخلق إلى التذكير فعبر بالمضارع فقال:
﴿يسبح﴾ أي يكرر التنزيه الأعظم من كل شائبة نقص على سبيل التجدد والاستمرار
﴿له﴾ أي على وجه التخصيص بما أفهمه قصر المتعدي وتعديته باللام
﴿ما في السماوات﴾ ولما كان هذا المنزه الذي استجلى التنزيه من الأسماء الحسنى قد أشرقت أنفاسه ولطفت أقطاره
479
وأغراسه حتى صار علوياً فرأى الأرض عالية كالسماء لما شاركتها به في الدلالة على تمام كماله لجعلها معها لأنه لا يحتاج إلى تأكيد كالشيء الواحد بإسقاط
«ما» وألصقها بها إلاحة إلى ذلك فقال:
﴿والأرض﴾ فمن تأمل الوجود مجملاً ومفصلاً، علم تسبيح ذلك كله بنعوت الكمال وأوصاف الجلال والجمال
﴿وهو﴾ أي والحال أنه وحده
﴿العزيز﴾ أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ولا يوجد له مثل، ويعز الوصول إليه ويشتد الحاجة إليه.
ولما كان من يكون بهذه الصفة لا يتم أمره وثبت كل ما يريده إلا إن كان على قانون الحكمة قال:
﴿الحكيم *﴾ من الحكمة وهي إتقان الحكم وإنهاؤها إلى جد لا يمكن نقضهن والحكم قال الحرالي: المنع عما يترامى إليه المحكوم إيالة عليه وحمله على ما يمتنع منه نظراً له، ففي ظاهره الجهد وفي باطنه الرفق، وفي عاجله الكره، وفي آجله الرضى والروح، فموقعه في الأبدان المداواة
«تداووا عباد الله فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء»، وموقعه في الأديان التزام الأحكام والصبر والمصابرة على مجاهدة الأعمال وجهاد الأعداء ظاهراً من عدو الدين والبغي وباطناً من عدو النفس (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)
480
ومن بعض الأهل والولد عدو، والشيطان عدو يجري من ابن آدم مجرى الدم
﴿إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً﴾ [فاطر: ٦] فالحمل على جميع أنواع الصبر والمصابرة ظاهراً بالإيالة العالية هو الحكم والعلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم من قوام أمر عاجلته وحسن العقبى في آجلته من الحكمة، فالحكم مباح التعليم للناس عامة بل واجب أن يتعلم كل امرئ من الأحكام ما يخصه، وأن ينتدب طائفة لعلم ما يعم جميع الناس
﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين﴾ [التوبة: ١٢٢] والحكمة التي هي العلم بما لأجله وجب الحكم من مشروطه التعليم بالتزكية
﴿هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ [الجمعة: ٢] فما يعلمهم الحكمة إلا بعد التزكية فمن تزكى فهو من أهلها ومن يترك فليس من أهلها، فالحكمة تحلي مرارة جهد العمل بالأحكام فييسر بها ما يعسر دونها، والحكم ضيق الأمر للنفس كما أن السجن ضيق الخلق للبدن، والحكمة تود محمل ضيق الحكم لأنها تخرج وتؤول إلى سعة الواسع، ولا يتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم.
ولما لم يكن للخلق من العلم إلا بقدر ما يهبهم الله لم يكن لهم من الحكمة إلا مقدار ما يورثهم {ولقد آتينا لقمان
481
الحكمة} [لقمان: ١٢] ولما كان إنما العلم عند الله كان إنما الحكمة حكمة الله وإنما الحكم حكم الله، فهو الحكيم الذي لا حكيم إلا هو - انتهى. وقد علم سر اتباع الأسماء الشريفة من غير عطف، وذاك أنه لما ابتدأ ب
«هو» وأخبر عنه بالاسم العلم الأعظم المفرد المصون الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى، أتبعه تلك الأوصاف العلى من غير عطف إعلاماً بأنه لا شيء منها يؤدي جميع معناه بالمفهوم المتعارف عند أهل اللغة، ولذلك جمع بعدها الأسماء إشارة إلى أنه لا يجمع معناه إلا جميع الأوصاف المنزلة في كتبه والمأخوذة عن أوليائه التي استأثر بها في غيبه وليس شيء مما ذكر ههنا مضاداً في المعنى الظاهري للآخر كالأول والآخر حتى يظن لأجله نقص في المعنى بسبب ترك العطف، وأما ترتيبها هكذا فلأن كل اسم منها كما مضى شارح لما خفي من الذي قبله ومبين للازمه، وموضع لما ألاح أنه من مضمونه، وقد انعطف على افتتاحها وختامها وعانق ابتداؤها تمامها، ووفى مطلعها مقطعها، وزاد وبلغ الغاية من الإرشاد إلى سبيل الرشاد، فسبحان من أنزله برحمته رحمة للعباد، وهادياً إلى الصواب والسداد.
482
سورة الممتحنة
مقصودها براءة من أقر بالإيمان ممن اتسم بالعدوان دلالة على صحة مدعاه كما أن الكفار تبرؤوا من المؤمنين وكذبوا بما جاءهم من الحق لئلا يكونوا على باطلهم أحرص من المؤمنين على حقهم، وتسميتها بالممتحنة أوضح شيء فيها وأدله على ذلك لأن الصهر أعظم الوصل وأشرفها بعد الدين، فإذا نفى ومنع دل على أعظم المقاطعة لدلالته على الامتهان بسبب الكفران الذي هو أقبح العصيان) بسم الله (الكافي من لجأ إليه فمن تولاه أغناه عمن سواه) الرحمن (الذي عم بنعمة الإيجاد من فلق عن وجوده العدم وبراه وشمل، برحمته البيان من حاطه بالعقل ورعاه) الرحيم (الذي خص بالتوفيق من أحبه وارتضاه.
483