ﰡ
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها ويعاينون قيامها يتيقنون حينئذ على سبيل الجزم انهم لَمْ يَلْبَثُوا ولم يمكثوا في دار الدنيا مدة حياتهم فيها إِلَّا عَشِيَّةً اى عشية يوم أَوْ ضُحاها اى ضحى تلك العشية يعنى يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا بالنسبة الى يوم الدين وطولها. نعوذ بك من النار ومما قرب إليها يا غفار
خاتمة سورة النازعات
عليك ايها المحمدي المحقق الواقف لقيام الساعة وما يترتب عليها من الثواب والعقاب والجنة والنار ان تبذر وتزرع في محرثك هذا ما ستحصده هناك من بذور الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية والأطوار المحمودة المحمدية وسائر السنن والآداب المقبولة المأثورة من النبي المختار ومن عترته الأخيار الاطهار ولا بدلك ان تكون دائما على ذكر كامل من قيامها وأهوالها في عموم أوقاتك وحالاتك وإياك إياك الاغترار بالحياة المستعارة والالتفات الى مزخرفات الدنيا الغدارة المكارة فإنها تمكر بك وتغويك وتضلك عن طريق الحق وترديك فعليك ان لا تتبع لغوائلها ولا تنخدع بمخائلها حتى لا تكون من زمرة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين. جعلنا الله من زمرة الآمنين الفائزين المستبشرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[سورة عبس]
فاتحة سورة عبس
لا يخفى على من تمكن بمقر عز الوحدة وتوطن في السواد الأعظم اللاهوتى ان علامة التمكين والتثبيت ان لا يبقى مع الموحد المحقق شيء من لوازم عالم الناسوت بحيث لا يتكبر على من دونه ولا يتحسر على من فوقه بل لم يبق في عين شهوده سدل الاثنينية ورمد الفوقية والتحتية مطلقا بل قد صار الكل في نظر شهوده على السواء بحيث ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت سيما ترجيح اصحاب الثروة والغفلة وذوى البطر والاستكبار والاستنكار على ارباب الارادة والاعتبار وان فقد منهم الحس الظاهر. ثم لما كان صلّى الله عليه وسلّم مشغوفا بإيمان رؤساء مكة شرفها الله تعالى وصناديدهم طالبا لدعوتهم وإرشادهم جلس يوما من الأيام معهم على سبيل الملاينة رجاء ان يوفقوا للايمان ويرغبوا الى قبول الدعوة وكان صلّى الله عليه وسلّم يصاحبهم ويداريهم حتى دخل عليه صلى الله عليه وسلّم ابن أم مكتوم الأعمى رضى الله عنه ولم يدر من هم عنده ﷺ فقال يا رسول الله علمني بما علمك الله ولم يلتفت صلى الله عليه وسلّم واشتغل مع اهل الثروة فناداه بما نادى مرة بعد اخرى حتى غضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقطب وجهه فعبس فجرى في نجواه ما جرى من لحوق العار بان يعيب عليه أولئك الصناديد الأشرار بان اتباعه ما هي الا العجزة والعميان والمساكين وكان عليه صلّى الله عليه وسلّم حتى أوحاه سبحانه معاتبا عليه مؤدبا له فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على قلوب أوليائه بمقتضى سعة رحمته الرَّحْمنِ عليهم بحفظ مرتبتهم الرَّحِيمِ عليهم يوقظهم من غفلتهم قد
[الآيات]
عَبَسَ وجهه من جهة الكراهة عن المسترشد الفقير الضرير وَتَوَلَّى اى اعرض عنه وانصرف وحول صفحة وجهه منه كارها إياه وذلك وقت
أَنْ جاءَهُ المسترشد الْأَعْمى اخرج الكلام سبحانه مع حبيبه
وَما يُدْرِيكَ وأى شيء يكشف لك حاله وقلبه لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يتزكى ويتطهر عن الآثام ويهتدى الى طريق الإسلام بهدايتك وارشادك هذا الأعمى بخلاف أولئك الجهلة الغفلة الذين قد تحننت نحوهم وأحببت دعوتهم فإنهم لا يهتدون ولا يتطهرون
أَوْ يَذَّكَّرُ اى يتعظ ويتذكر هذا المريد الفقير الضرير من كلامك فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى والعظة ويتوجه هو بسببها نحو المولى
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى عن الله واعرض عن آياته وعن تذكيرك ودعوتك إياه مستكبرا بماله وثروته وسيادته وكمال نخوته
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى يعنى تميل وتتعرض بالإقبال اليه وتتحنن بكمال المحبة نحوه
وَما عَلَيْكَ وأى شيء عرض عليك ولحق بك من المكاره الامكانية حتى حجبك وأغفلك أَلَّا يَزَّكَّى اى انه لا يتطهر عن خبائث الآثام وادناس الكفر والعصيان ذلك المعرض المستغنى والمسرف المفسد المستعلى وما سبب اهتمامك حتى يبعثك على الاعراض عن اهل الحق وعدم الالتفات نحوهم مع ان ما عليك الا البلاغ والتبليغ لا الهدى فكيف تحننت نحو اعداء الله
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ من ارباب الطلب والإخلاص يَسْعى ويسرع بطلب الخير والهداية منك في دين الله
وَالحال انه هُوَ يَخْشى من غضب الله وهو يرجو من ثوابه مؤملا منك الإرشاد ومن الله الهداية والرشد
فَأَنْتَ مع كونك مبعوثا على الهداية والإرشاد الى اصحاب الارادة والقبول عَنْهُ تَلَهَّى تتشاغل وتنصرف كأنك تحقره ولا تبالي بشأنه وإيمانه لرثاثة حاله وفقره. ثم بالغ سبحانه في تأديب حبيبه صلّى الله عليه وسلّم وأكده حيث قال
كَلَّا ردع اى ارتدع عن فعلتك هذه ايها المبعوث للرسالة العامة ولا تمل الى اصحاب الزيغ والضلال معرضا عن ارباب الهداية والكمال إذ ليس عليك التمييز والاختيار بل ما عليك الا التبليغ والإنذار إِنَّها اى عموم دعواتك وتذكيراتك إياهم بمقتضى الآيات البينات انما هي تَذْكِرَةٌ نازلة عليك من ربك وأنت مأمور بتبليغها الى الناس من لدنه
فَمَنْ شاءَ وأراد سبحانه اتعاظه من عباده ذَكَرَهُ بالقرآن ووعظه به سواء كان فقيرا او غنيا ومن لم يشأ لم يتعظ وكيف لا يوعظ ولم يتعظ به مع انه منزل من عند الله مثبت
فِي صُحُفٍ نازلة على رسل الله مُكَرَّمَةٍ عنده سبحانه
مَرْفُوعَةٍ مقبولة لديه درجة ومكانا ملقاة من عند الله الى رسل الله مُطَهَّرَةٍ عن تخليطات الوهم والخيال منزهة عن تحريفات الشياطين إذ هي نازلة من عند الله الى رسل الله
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ اى ملائكة يتوسلون سفراء بين الله ورسله
كِرامٍ أعزة عند الله ذوى كرم وكرامة عظيمة على اهل الايمان بَرَرَةٍ أتقياء مبرورين في أنفسهم بارين على عباد الله ومع هذه الكرامة العظيمة الإلهية والإشفاق البليغ من لدنه سبحانه والرحمة العامة
قُتِلَ الْإِنْسانُ اى لعن وطرد عن ساحة عز القبول ما أَكْفَرَهُ أى أىّ شيء حداه وبعثه الى الكفر والاعراض عن الله المنعم المفضل والانصراف عن طاعته وعبادته مع انه عالم بكمال كرامته سبحانه عليه معترف ببدائع صنعه وصنعته معه ووفور انعامه وإحسانه عليه متذكر في نفسه مستحضر بشئونه وتطوراته السالفة القذرة الخبيثة الواردة عليه سيما
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ مسترذل مستنزل خَلَقَهُ وأوجده سبحانه حسب قدرته
مِنْ نُطْفَةٍ مهينة خبيثة خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ اى هيأ آلاته وأعضاءه منها فعدله وسوى هيكله كل ذلك ليعرف مبدأه ومعاده
ثُمَّ السَّبِيلَ الموضح الموصل الى ربه وموجده
ثُمَّ أَماتَهُ عن نشأة الابتلاء والاختبار تخليصا وتقريبا الى ربه فَأَقْبَرَهُ في البرزخ
ثُمَّ إِذا شاءَ وتعلقت مشيئته للأحياء أَنْشَرَهُ من القبر وحشره الى المحشر فحاسبه فجازاه على مقتضى حسابه خيرا كان او شرا فضلا عنه او عدلا
كَلَّا ردع له وويل عليه ما هذا النسيان والكفران لهذه النعم العظام والكرامات الجسام لَمَّا يَقْضِ اى لم يقض ولم يجر من لدن وجوده وظهوره على ما أَمَرَهُ الحق به إذ قلما يخلو افراد الإنسان عن الكفر والكفران والإثم والعدوان الا ان بعضه متدارك متلاف قد جبر بالتوبة والايمان ما كسر بالكفر والكفران وبعضه مغمور في عصيانه ونسيانه وبغيه وطغيانه الى حيث لا يتنبه قط وبالجملة
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ المجبول على الكفران والنسيان إِلى طَعامِهِ المسوق له من لدنا تفضلا عليه وتكريما لتقويته وتقويم بنيته
أَنَّا من مقام عظيم جودنا كيف صَبَبْنَا الْماءَ وافضناه من جانب السماء صَبًّا ترويحا له وتهيئة لأسباب معاشه
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ بعد ما صببنا الماء عليها شَقًّا بديعا
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا من انواع الحبوب التي يقتات بها نوع الإنسان
وَعِنَباً متضمنا لانواع الأدم والمشروبات وَقَضْباً هو نبات يقطع في السنة مرة بعد اخرى مثل النعناع والطرخون والكراث وغيرها مما يعين للأكل
وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا
وَبالجملة حَدائِقَ غُلْباً مملوة بأنواع الأشجار والثمار
وَفاكِهَةً اى ألوان الفواكه وأنواعها وأصنافها وَأَبًّا علفا لمواشيه ومراكبه التي بها يتم ترفهه وتنعمه وبالجملة قد اعطاكم واحسن إليكم سبحانه ما اعطى واحسن من النعم العظام والكرامات الجسام ليكون
مَتاعاً وتمتيعا لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ التي بها يتم ترفهكم وتنعمكم وانما أنعم عليكم سبحانه لتعرفوا المنعم وتواظبوا على شكر نعمه وأنتم ايها المسرفون المفرطون تكفرون للنعم والمنعم جميعا واذكروا
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ الصيحة المقرعة لصماخكم وأسماعكم فحينئذ شق عليكم الأمر وصعب الهول مع انه لا نصر يومئذ ولا مظاهرة ولا اغاثة حينئذ من احد ولا اعانة بل
يَوْمَ اى يومئذ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ شقيقه وشفيقه
وَمن أُمِّهِ التي يأوى إليها في الوقائع والملمات وَأَبِيهِ الذي يظاهر ويفتخر به
وَصاحِبَتِهِ التي هي أحب اليه من عشائره وَبَنِيهِ الذين هم أعز عليه من عموم أقاربه وسبب التفرة والفرار اشتغال كل منهم بحاله بلا التفات منه الى حال غيره إذ
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ يشغله عن شئون غيره ويزعجه عن الاهتمام به مع انه لا يكف ولا يكفيه احد منه وكيف لا يكون كذلك إذ
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ مضيئة مشرقة منورة بنور الايمان والعرفان
ضاحِكَةٌ فرحا وسرورا بلقاء الرحمن مُسْتَبْشِرَةٌ بعلو الدرجات والمقامات وبأنواع السعادات والكرامات
وَوُجُوهٌ أخر يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ غبار وكدورة ناشئة من إكدار الكفر والكفران واقذار الآثام والعصيان مظلمة الى حيث
تَرْهَقُها وتغشيها قَتَرَةٌ مذلة وصغار وذلة وخسار موجبة لانواع الهلاك والبوار وبالجملة
أُولئِكَ الأشقياء البعداء عن ساحة عز القبول المكدرون بكدورات الكفر والشرك وانواع الفسوق والفجور هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية وعن نور المعرفة والايمان بمتابعة القوى البهيمية من الشهوية والغضبية إذ كلتاهما مناط عموم الشرور والخسران. أعاذنا الله وعموم عباده من شرهما بمنه وجوده