تفسير سورة الفجر

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الفجر من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

أمّا الفجر فمعروف وهو الصبح، وعن مسروق : المراد به فجر يوم النحر خاصة، وهو خاتمة الليالي العشر، وقيل : المراد بذلك الصلاة التي تفعل عنده، والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة، وقد ثبت في « صحيح البخاري » :« » ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام « يعني عشر ذي الحجة، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال :» ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجُلاً خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء « » وقيل : المراد بذلك العشر الأول من المحرم، عن ابن عباس :﴿ وَلَيالٍ عَشْرٍ ﴾ قال : هو العشر الأول من رمضان، والصحيح القول الأول. روي عن جابر يرفعه :« إن العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر » وقوله تعالى :﴿ والشفع والوتر ﴾ الوتر يوم عرفة لكونه التاسع، والشفع يوم النحر لكونه العاشر، قاله ابن عباس : قول ثانٍ : عن واصل بن السائب قال : سألت عطاء عن قوله :﴿ والشفع والوتر ﴾ قلت : صلاتنا وترنا هذا؟ قال : لا، ولكن الشفع يوم عرفة والوتر ليلة الأضحى. قول ثالث : عن أبي سعيد بن عوف قال : سمعت عبد الله بن الزبير يخطب الناس فقام غليه رجل، فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن الشفع والوتر؟ فقال : الشفع قول الله تعالى :﴿ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ]، والوتر قوله تعالى :﴿ وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ]. وفي الصحيحين :« إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر » قول رابع : قال الحسن البصري : الخلق كلهم شفع ووتر، أقسم تعالى بخلقه، وقال ابن عباس :﴿ والشفع والوتر ﴾ قال : الله وتر واحد، وأنتم شفع، ويقال : الشفع صلاة الغداة، والوتر صلاة المغرب. قول خامس : عن مجاهد ﴿ والشفع والوتر ﴾ قال : الشفع الزوج، والوتر الله عزَّ وجلَّ، وعنه : الله الوتر وخلقه الشفع الذكر والأنثى، وعنه : كل شيء خلقه الله شفع : السماء والأرض، والبر والبحر، والجن والإنس، والشمس والقمر، ونحو هذا، كقوله تعالى :﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الذاريات : ٤٩ ] أي لتعلموا أن خالق الأزواج واحد. قول سادس : قال الحسن :﴿ والشفع والوتر ﴾ هو العدد منه شفع، ومنه وتر. قول سابع : قال أبو العالية والربيع بن أنَس؛ هي الصلاة منها شفع كالرباعية والثنائية، ومنها وتر كالمغرب، فإنها ثلاث، وهي وتر النهار، وكذلك صلاة الوتر في آخر التهجد من الليل، ولم يجزم ابن جرير بشيء من الأقوال في الشفع والوتر.
وقوله تعالى :﴿ واليل إِذَا يَسْرِ ﴾ قال ابن عباس : أي إذا ذهب، وقال مجاهد وأبو العالية ﴿ واليل إِذَا يَسْرِ ﴾ : إذا سار أي ذهب، ويحتمل إذا سار، أي أقبل، وهذا أنسب لأنه في مقابلة قوله :﴿ والفجر ﴾ فإن الفجر هو إقبال النهار، وإدبار الليل، فإذا حمل قوله :﴿ واليل إِذَا يَسْرِ ﴾ على إقباله كان قسماً بإقبال الليل وإدبار النهار وبالعكس.
2701
كقوله :﴿ والليل إِذَا عَسْعَسَ * والصبح إِذَا تَنَفَّسَ ﴾ [ التكوير : ١٧-١٨ ] وقال الضّحاك :﴿ واليل إِذَا يَسْرِ ﴾ أي يجري، وقال عكرمة :﴿ واليل إِذَا يَسْرِ ﴾ يعني ليلة جمع ليلة المزدلفة، وقوله تعالى :﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ ﴾ أي لذي عقل ولب وحجى، وإنما سمي العقل ( حجراً ) لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال، وحجَر الحاكم على فلان إذا منعه التصرف، وهذا القسم هو بأوقات العبادة، وبنفس العبادة من حج وصلاة وغير ذلك من أنواع القرب، التي يتقرب إليه عباده المتقون المطيعون له، الخائفون منه، المتواضعون لديه، الخاشعون لوجهه الكريم، ولما ذكر هؤلاء وعبادتهم طاعتهم قال بعده :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴾ ؟ وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين، خارجين عن طاعته مكذبين لرسله، فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم وجعلهم أحاديث وعبراً، فقال :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد ﴾ ؟ وهؤلاء ( عاد الأولى ) وهم الذي بعث الله فيهم رسوله هوداً عليه السلام فكذبوه وخالفوه، فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم وأهلكهم ﴿ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٦ ]، وقد ذكر الله قصتهم في القرآن، ليعتبر بمصرعهم المؤمنون، قوله تعالى :﴿ إِرَمَ ذَاتِ العماد ﴾ عطف بيان زيادة تعريف بهم، وقوله تعالى :﴿ ذَاتِ العماد ﴾ لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشاً، ولهذا ذكّرهم ( هود ) بتلك النعمة، وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم فقال :﴿ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً فاذكروا آلآءَ الله... وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾ [ الأعراف : ٦٩-٧٤ ].
وقوله تعالى :﴿ فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ [ فصلت : ١٥ ]، وقال هاهنا :﴿ التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد ﴾ أي القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم، وقال مجاهد : إرم أمة قديمة يعني عاداً الأولى، قال قتادة والسدي : إن إرم بيت مملكة عاد، وكانوا أهل عمد لا يقيمون، وقال ابن عباس : إنما قيل لهم ذات العماد لطولهم، واختار الأول ابن جرير، وقوله تعالى :﴿ التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد ﴾ الضمير يعود على القبيلة، أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد يعني في زمانهم، روي عن المقدام أنه ذكر ﴿ إِرَمَ ذَاتِ العماد ﴾ فقال :« كان الرجل منهم يأتي على الصخرة فيحملها على الحي فيهلكهم »
2702
، وسواء كانت العماد أبنية بنوها، أو أعمدة بيوتهم للبدو، أو سلاحهم يقاتلون به، أو طول الواحد منهم، فهم قبيلة وأمة من الأمم، وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضع، المقرنون بثمود كما ههنا، والله أعلم. ومن زعم أن المراد بقوله :﴿ إِرَمَ ذَاتِ العماد ﴾ مدينة إما دمشق، أو اسكندرية أو غيرهما، فضعيف لأنه لا يتسق الكلام حينئذٍ، ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يرد، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم، وقوله ابن جرير : يحتمل أن يكون المراد بقوله :﴿ إِرَمَ ذَاتِ العماد ﴾ قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها فلذلك لم تصرف، فيه نظر، لأن المراد من السياق إما هو الإخبار عن القبيلة، ولهذا قال بعده :﴿ وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد ﴾ يعني يقطعون الصخر بالوادي، قال ابن عباس : ينحتونها ويخرقونها، يقال : اجتاب الثوب : إذا فتحه، وقال تعالى :﴿ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٤٩ ]، وقال ابن إسحاق : كانوا عرباً وكان منزلهم بوادي القرى، وقد ذكرنا قصة عاد مستقصاة في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته. وقوله تعالى :﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد ﴾ قال ابن عباس : الأوتاد الجنود الذين يشدون له أمره، ويقال : كان فرعون يوتد أيديهم وأرجلهم في أوتاد من حديد يعلقهم بها، وكذا قال مجاهد : كان يوتد الناس بالأوتاد، وقال السدي : كان يربط الرجل كل قائمة من قوائمه في وتد ثم يرسل عليه صخرة عظيمة فيشدخه، وقال ثابت البناني : قيل لفرعون ذي الأوتاد، لأنه ضرب لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت، وقوله تعالى :﴿ الذين طَغَوْاْ فِي البلاد * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد ﴾ أي تمردوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذية للناس، ﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴾ أي أنزل عليهم رجزاً من السماء، وأحل بهم عقوبة لا يردها عن القوم المجرمين، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد ﴾ قال ابن عباس : يسمع ويرى يعني يرصد خلقه فيما يعملون، ويجازي كلاً بسعيه في الدنيا والأخرى، وسيعرض الخلائق كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله ويقابل كلاً بما يستحقه وهو المنزه عن الظلم والجور.
2703
يقول تعالى منكراً على الإنسان، إذ وسع الله تعالى عليه في الرزق ليختبره، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له، وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال تعالى :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥-٥٦ ] وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له، قال الله تعالى :﴿ كَلاَّ ﴾ أي ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا، فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنياً بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيراً بأن يصبر، وقوله تعالى :﴿ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم ﴾ فيه أمر بالإكرام له كما جاء في الحديث :« خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت في يتيم يساء إليه » وقال ﷺ :« » أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة « وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام »، ﴿ وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين ﴾ يعني لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين ويحث بعضه على بعض في ذلك ﴿ وَتَأْكُلُونَ التراث ﴾ يعني الميراث ﴿ أَكْلاً لَّمّاً ﴾ أي من أي جهة حصل لهم من حلال أو حرام ﴿ وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً ﴾ أي كثيراً فاحشاً.
يخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة فقال تعالى :﴿ كَلاَّ ﴾ أي حقاً ﴿ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً ﴾ أي وطئت ومهدت وسويت الأرض والجبال، وقام الخلائق من قبورهم لربهم ﴿ وَجَآءَ رَبُّكَ ﴾ يعني لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعدما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق، محمد صلوات الله وسلامه عليه، فيجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً، وقوله تعالى :﴿ وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾ روى الإمام مسلم في « صحيحه » : عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صل الله عليه وسلم :« يؤتى لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها »، وقوله تعالى :﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان ﴾ أي عمله موما كان أسفله في قديم دهره وحديثه، ﴿ وأنى لَهُ الذكرى ﴾ أي وكيف تنفعه الذكرى، ﴿ يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ يعني يندم على ما كان سلف منه من المعاصي إن كان عاصياً، ويود لو كان ازداد من الطاهات إن كان طائعاً، كما قال الإمام أحمد بن حنبل عن جبير بن نفير عن محمد بن عمرة، وكان أصحاب رسول الله ﷺ قال : لو أن عبداً خرَّ على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت في طاعة الله لحقره يوم القيامة، ولَوَدَّ أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب، وقال الله تعالى :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ﴾ أي ليس أحد أشد عذابا من تعذب الله من عصاه، ﴿ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾ أي وليس أحد أشد قبضاً ووثقاً من الزبانية لمن كفر بربهم عزَّ وجلَّ، وهذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين، فأما النفس الزكية المطمئنة وهي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق، فيقال لها :﴿ ياأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى رَبِّكِ ﴾ أي إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته ﴿ رَاضِيَةً ﴾ أي في نفسها، ﴿ مَّرْضِيَّةً ﴾ أي قد رضيت عن الله، ورضي الله عها وأرضاها، ﴿ فادخلي فِي عِبَادِي ﴾ أي في جملتهم، ﴿ وادخلي جَنَّتِي ﴾ وهذا يقال لها عند الاحتضار، وفي يوم القيامة أيضا، كما ِأن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره فكذلك هاهنا، ثم اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية، فروي أنها نزلت في عثمان بن عفّان، وقيل : إنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وقال ابن عباس في قوله تعالى :﴿ ياأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ﴾ قال :« نزلت وأبو بكر جالس فقال : يا رسول الله ما أحسن هذا؟ فقال :» أما إنه سيقال لك هذا « » وروى الحافظ ابن عساكر، عن أمامة أن رسول الله ﷺ قال لرجل :« قل : اللهم إني أسألك نفساً بك مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك ».
Icon