تفسير سورة الكهف

المحرر في أسباب نزول القرآن
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة المعروف بـالمحرر في أسباب نزول القرآن .
لمؤلفه خالد بن سليمان المزيني .

سورة الكهف
١١٥ - قال اللَّه تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨)
سبب النزول:
أخرج ابن ماجه عن خباب في قوله تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ... ) إلى قوله: (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع صهيب وبلال وعمار وخباب. قاعدًا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقروهم فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العربُ فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد. فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك. فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال: (نعم) قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً. قال: فدعا بصحيفة. ودعا عليًا ليكتب ونحن قعود في ناحية فنزل جبرائيل - عليه السلام - فقال: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢). ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فقال: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣). ثم قال: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام
681
وتركنا. فأنزل الله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) ولا تجالس الأشراف (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) يعني عيينة والأقرع (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (قال: هلاكاً) قال: أمر عيينة والأقرع ثم ضرب لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا.
قال خباب: فكنا نقعد مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد ذهب جمهور المفسرين إلى المعنى الذي دلَّ عليه الحديث، على اختلاف بينهم وتفاوت في الأحاديث التي ذكروها. منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والشنقيطي وابن عاشور.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تعد عيناك عن هؤلاء المؤمنين الذين يدعون ربهم إلى أشراف المشركين، تبغي بمجالستهم الشرف والفخر، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه فيما ذكر قوم من عظماء أهل الشرك، وقال بعضهم: بل من عظماء قبائل العرب ممن لا بصيرة لهم بالإسلام فرأوه جالساً مع خباب وصهيب وبلال، فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا قالوا: فهمَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل اللَّه عليه: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ثم كان يقوم إذا أراد القيام، ويتركهم قعوداً فأنزل اللَّه عليه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) اهـ موضع الشاهد.
682
وقال البغوي: (نزلت في عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان وعليه شمله قد عرق فيها وبيده خوصة يشقها ثم ينسجها فقال عيينة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها، فإن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم عنك حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلساً ولهم مجلساً فأنزل اللَّه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ). اهـ.
وقال ابن عطية: (سبب هذه الآية: أن عظماء الكفار قيل من أهل مكة وقيل عيينة بن حصن وأصحابه والأول أصوب لأن السورة مكية قالوا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك يريدون عمار بن ياسر وصهيب بن سنان وسلمان الفارسي وابن مسعود وغيرهم من الفقراء كبلال ونحوه وقالوا: إن ريح جباتهم تؤذينا فنزلت الآية بسبب ذلك). اهـ.
وقال الشنقيطي: (وقد نزلت هذه الآية الكريمة في فقراء المهاجرين كعمار، وصهيب، وبلال وابن مسعود ونحوهم لما أراد صناديد الكفار من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يطردهم عنه ويجالسهم بدون حضور أولئك الفقراء المؤمنين، وقد قدمنا في سورة الأنعام أن اللَّه كما أمره هنا بأن يصبر نفسه معهم أمره بألا يطردهم، وأنه إذا رآهم يسلم عليهم وذلك في قوله: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) - إلى قوله - (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ). اهـ.
وقال ابن عاشور: (وتقدم في سوره الأنعام عند قوله تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أن سادة المشركين كانوا زعموا أنه لولا أن من المؤمنين ناساً أهل خصاصة في الدنيا وأرقاء لا يدانوهم ولا يستأهلون الجلوس معهم لأتوا إلى مجالسة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستمعوا القرآن فاقترحوا عليه أن يطردهم من حوله إذا غشيه سادة قريش، فرد اللَّه عليهم بما في سورة الأنعام وما في هذه السورة) اهـ.
هذه أقوال المفسرين في شأن الآية وقد أطبقت على أن سبب نزولها هو استكبار الكافرين عن الجلوس مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحضرة هؤلاء الضعفاء، وقد
683
تباينت أقوال المفسرين في تحديد هؤلاء الكافرين، وأصح الأقوال في ذلك - واللَّه أعلم - أنهم كفار قريش لأن سورة الكهف مكية متقدمة النزول.
بقي أن يقال: إن حديث خباب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضعيف السند فكيف يحتج به؟
فالجواب: أن يقال: هذا الكلام صحيح، ولعل مما يجبر الضعف إجماع المفسرين على المعنى الذي دلَّ عليه الحديث.
وكذلك سياق القرآن فإن السياق يطابق كلام المفسرين تماماً، ويدل عليه.
وإذا كان الفقهاء يلتزمون أحكاماً بالحلال والحرام مبنيةً على أحاديث ضعيفة لأن قواعد الشريعة تشهد لها، والأمة تلقتها بالقبول، أو كانت تعتضد بالمتابعات والشواهد فلعل هذا مما يشفع لنا هنا لأن الحديث قد أجمع على معناه المفسرون، وسياق القرآن يشهد له. واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن سبب النزول المذكور وإن كان ضعيفاً لكن يعتضد بإجماع المفسرين على معناه وبسياق الآيات القرآني ويكون سبب نزولها والله أعلم.
* * * * *
684
١١٦ - قال الله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥)، قالوا: أُوتينا علماً كثيراً، أُوتينا التوراة ومن أُوتي التوراة فقد أُوتي خيراً كثيراً قال فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة، وقد أورد البغوي والقرطبي وابن عاشور هذا الحديث لسبب نزولها.
وقال ابن عطية: (روي أن سبب الآية أن اليهود قالت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف، تزعم أنك نبي الأمم كلها، ومبعوث إليها، وأنك أُعطيت ما يحتاجه الناس من العلم، وأنت مقصر قد سئلت في الروح ولم تجب فيه، ونحو هذا من القول فنزلت الآية معلمةً باتساع معلومات اللَّه، وأنها غير متناهية) اهـ.
والظاهر - واللَّه أعلم - أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية وإن كان إسناده صحيحاً لأمرين:
685
الأول: أنه ليس بين الحديث المذكور وسياق الآية أيُّ ارتباط مما يجعل القول بأنه سبب نزولها بعيداً، إذ لا بد أن يكون بين السبب والآية قدر مشترك ولو كان يسيراً.
الثاني: إعراض كثير من المفسرين عن ذكر الحديث والاحتجاج به على السببية مما يوجب الشك والتردد.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سببًا لنزول الآية لعدم موافقته لسياق القرآن، وإعراض كثير من المفسرين عن ذكره - والله أعلم -.
* * * * *
686
سورة مريم
687
Icon