تفسير سورة الحج

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الحج من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحج
هذه السورة مكية سوى ثلاث آيات قوله ' هذان خصمان١ ' إلى تمام ثلاث آيات. قاله ابن عباس ومجاهد وروي أيضا عن ابن عباس أنهن أربع آيات إلى قوله ' عذاب الحريق ' وقال الضحاك هي مدنية وقال قتادة سورة الحج مدنية إلا أربع آيات من قوله ' وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته٢ ' إلى قوله ' عذاب يوم عقيم ' فهن مكيات وعد النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات وقال الجمهور مختلطة فيها مكي ومدني وهذا هو الأصح والله أعلم لأن الآيات تقتضي ذلك٣ وروي عن أنس بن مالك أنه قال نزل أول السورة في السفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى بها فاجتمع الناس إليه فقال أتدرون أي يوم هذا فبهتوا فقال يوم يقول الله يا آدم أخرج بعث النار فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فاغتم الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشروا فمنكم رجل ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل الحديث. ٤
١ من الآية (١٩) من هذه السورة (الحج)..
٢ من الآية (٥٢) من هذه السورة (الحج)..
٣ لأن فيها ﴿يا أيها الناس﴾ وهو مكي، و ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ وهو مدني، قال الغرنوي: "هي من أعاجيب السور، نزلت ليلا ونهارا، وسفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، ناسخا ومنسوخا، محكما ومتشابها، مختلف العدد"..
٤ أخرجه عبد بن حميد، وعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن أنس رضي الله عنه، وأخرج نحوه سعيد بن منصور، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن الحسن وغيره، عن عمران ابن حصين. وكذلك أخرج نحوهما البزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وحديث (بعث النار) أخرجه أيضا البخاري عن أبي سعيد الخدري في تفسير هذه السورة (الحج)، وفي الأنبياء، وفي الرقاق، وفي التوحيد، وأخرجه مسلم في الإيمان، وفي الفتن..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الحج
هذه السورة مكية سوى ثلاث آيات قوله هذانِ خَصْمانِ [الحج: ١٩] إلى تمام ثلاث آيات قاله ابن عباس ومجاهد، وروي أيضا عن ابن عباس أنهن أربع آيات إلى قوله عَذابَ الْحَرِيقِ [الحج: ٩]، وقال الضحاك هي مدينة، وقال قتادة سورة الحج مدنية إلا أربع آيات من قوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: ٢٥] إلى قوله عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الحج: ٥٥] فهن مكيات، وعدّ النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات، وقال الجمهور مختلطة فيها مكي ومدني وهذا هو الأصح والله أعلم لأن الآيات تقتضي ذلك. وروي عن أنس بن مالك أنه قال: نزل أول السورة في السفر على رسول الله ﷺ فنادى بها فاجتمع الناس إليه، فقال «أتدرون أي يوم هذا؟» فبهتوا، فقال: «يوم يقول الله يا آدم أخرج بعث النار فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين» قال: فاغتم الناس فقال رسول الله ﷺ «أبشروا فمنكم رجل ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل» الحديث.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢)
صدر الآية تحذير لجميع العالم ثم أوجب الخبر وأكده بأمر زَلْزَلَةَ القيامة وهي إحدى شرائطها وسماها «شيئا» إما لأنها حاصلة متيقن وقوعها فيستسهل لذلك أن تسمى شيئا.
وهي معدومة إذ اليقين بها يشبهها بالموجودات وأما على المآل أي هي إذا وقعت شيء عظيم فكأنه لم يطلق الاسم الآن بل المعنى أنها إذا كانت فهي حينئذ شيء عظيم، والزلزلة التحريك العنيف وذلك مع نفخة الفزع ومع نفخة الصعق حسبما تضمن حديث أبي هريرة من ثلاث نفخات ومن لفظ الزلزلة قول الشاعر: [الخفيف]
105
فيحتمل أن تكون «الزلزلة» في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة كما قال تعالى مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة: ٢١٤] وكما قال عليه السلام «اللهم اهزمهم وزلزلهم»، والجمهور على أن زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ هي كالمعهودة في الدنيا إلا أنها في غاية الشدة، واختلف المفسرون في «الزلزلة» المذكورة هل هي في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم القيامة، أم هي في يوم القيامة على جميع العالم؟
فقال الجمهور هي في الدنيا والضمير في تَرَوْنَها
عائد عندهم على الزلزلة وقوى قولهم إن الرضاع والحمل إنما هو في الدنيا، وقالت فرقة «الزلزلة» في القيامة واحتجت بحديث أنس المذكور آنفا إذ قرأ رسول الله ﷺ الآية ثم قال «إنه اليوم الذي يقول الله تعالى فيه لآدم أخرج بعث النار».
ع وهذا الحديث لا حجة فيه لأنه يحتمل أن النبي ﷺ قرأ الآية المتضمنة ابتداء أمر الساعة ثم قصد في تذكيره وتخويفه إلى فصل من فصول يوم القيامة فنص ذكره وهذا من الفصاحة، والضمير عند هذه الفرقة عائد على السَّاعَةِ أي يوم يرون ابتداءها في الدنيا، فيصح لهم بهذا التأويل أن لا يلزمهم وجود الرضاع والحمل في يوم القيامة ولو أعادوه على الزلزلة فسد قولهم بما يلزمهم، على أن النقاش ذكر أن المراد ب كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ
من مات من الإناث وولدها في جوفها. ع وهذا ضعيف و «الذهول» الغفلة عن الشيء بطريان ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره وقال ابن زيد المعنى تترك ولدها للكرب الذي نزل بها، وقرأ ابن أبي عبلة «تذهل» بضم التاء وكسر الهاء ونصب «كلّ» وألحق الهاء في «مرضع» لأنه أراد فاعلات ذلك في ذلك اليوم فأجراه على الفعل وأما إذا أخبرت عن المرأة بأن لها طفلا ترضعه فإنما تقول مرضع مثل حامل قال علي بن سليمان هذه الهاء في مُرْضِعَةٍ
ترد على الكوفيين قولهم إن الهاء لا تكون فيما لا تلبس له بالرجال، وحكى الطبري أن بعض نحويي الكوفة قال أم الصبي مرضعة، وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
تشبيه لهم، أي من الهم، ثم نفى عنهم السكر الحقيقي الذي هو من الخمر قاله الحسن وغيره، وقرأ جمهور القراء «سكارى» بضم السين وثبوت الألف وكذلك في الثاني وهذا هو الباب فمرة جعله سيبويه جمعا ومرة جعله اسم جمع، وقرأ أبو هريرة بفتح السين فيهما وهذا أيضا قد يجيء في هذه الجموع قال أبو الفتح هو تكسير، وقال أبو حاتم هي لغة تميم، وقرأ حمزة والكسائي «سكرى» في الموضعين، ورواه عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قراءة ابن مسعود وحذيفة وأصحاب عبد الله، قال سيبويه وقوم يقولون «سكرى» جعلوه مثل مرضى لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان، ثم جعلوا روبى مثل سكرى وهم المستثقلون نوما من شرب الرائب، قال أبو علي ويصح أن يكون «سكرى» جمع سكر كزمن وزمنى وقد حكى سيبويه رجل سكر بمعنى سكران فتجيء «سكرى» حينئذ لتأنيث الجمع كالعلامة في طائفة لتأنيث الجمع، وقرأ سعيد بن جبير «وترى الناس سكرى وما هم بسكارى» بالضم والألف، وحكى المهدوي عن الحسن أنه قرأ الناس «سكارى وما هم بسكرى»، وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة بن عمرو بن جرير في الموضعين «سكرى» بضم السين، قال أبو الفتح هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو علي وقد سألته عن هذا، وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير وأبو هريرة وأبو نهيك «وترى» بضم التاء «الناس» بالنصب قال وإنما هي محسبة، ورويت هذه القراءة «ترى الناس» بضم التاء والسين أي ترى جماعة الناس.
106
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣ الى ٥]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥)
قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ الآية، قال ابن جريح نزلت في النضر بن الحارث وأبي بن خلف وقيل في أبي جهل بن هشام ثم هي بعد تتناول كل من اتصف بهذه الصفة، و «المجادلة» المحاجة والموادة مؤخوذة من الجدل وهو الفتل والمعنى في قدرة الله تعالى وصفاته، وكان سبب الآية كلام من ذكر وغيرهم في أن الله تعالى لا يبعث الموتى ولا يقيم الأجساد من القبور، و «الشيطان» هنا هو مغويهم من الجن ويحتمل أن يكون الشيطان من الإنس والإنحاء على متبعيه، و «المريد» المتجرد من الخير للشر ومنه الأمرد، وشجرة مردى أي عارية من الورق، وصرح ممرد أي مملس من زجاج، وصخرة مرداء أي ملساء. والضمير في عَلَيْهِ عائد على الشيطان قاله قتادة ويحتمل أن يعود على المجادل وأَنَّهُ في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله وأَنَّهُ الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها وقيل هي مكررة للتأكيد فقط وهذا معترض بأن الشيء لا يؤكد إلا بعد تمامه وتمام «أن» الأولى إنما هو بصلتها في قوله السَّعِيرِ وكذلك لا يعطف ولسيبويه في مثل هذا أَنَّهُ بدل، وقيل أَنَّهُ خبر ابتداء محذوف تقديره فشأنه أنه يضله وقدره أبو علي فله أن يضله.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر لي أن الضمير في أَنَّهُ الأولى للشيطان وفي الثانية لمن الذي هو المتولي، وقوله وَيَهْدِيهِ بمعنى يدله على طريق ذلك وليست بمعنى الإرشاد على الإطلاق، وقرأ أبو عمرو «إنه من تولاه فإنه يضله» بالكسر فيهما، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ الآية هذا احتجاج على العالم بالبداءة الأولى وضرب الله تعالى في هذه الآية مثلين إذا اعتبرهما الناظر جوز في العقل البعثة من القبور، ثم ورد خبر الشرع بوجوب ذلك ووقوعه، و «الريب» الشك، وقوله تعالى:
إِنْ كُنْتُمْ شرط مضمنه التوفيق، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «البعث» بفتح العين وهي لغة في البعث عند البصريين وهي عند الكوفيين تخفيف بعث وقوله تعالى: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ يريد آدم ثم سلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته، وقوله تعالى: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يريد المني الذي يكون من البشر، و «النطفة» تقع على قليل الماء وكثيره، وقال النقاش المراد نُطْفَةٍ آدم، وقوله تعالى: ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، يريد من الدم تعود النطفة إليه في الرحم أو المقارن للنطفة، والعلق، الدم العبيط وقيل العلق، الشديد الحمرة فسمي الدم لذلك، وقوله تعالى: ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ يريد بضعة لحم على قدر ما يمضغ، وقوله
107
تعالى: مُخَلَّقَةٍ معناه متممة البنية، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ غير متممة أي التي تستسقط قاله مجاهد وقتادة والشعبي وأبو العالية فاللفظة بناء مبالغة من خلق ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن في جملته تضعيف الفعل لأن فيه خلقا كثيرة، وقرأ ابن أبي عبلة «مخلقة» بالنصب «وغير» بالنصب في الراء ويتصل بهذا الموضوع من الفقه أن العلماء اختلفوا في أم الولد إذا أسقطت مضغة لم تصور هل تكون أم ولد بذلك فقال مالك والأوزاعي وغيرهما: هي أم ولد بالمضغة إذا علم أنها مضغة الولد، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا حتى يتبين فيه خلق ولو عضو واحد، وقوله تعالى: لِنُبَيِّنَ قالت فرقة معناه لنبين أمر البعث فهو اعتراض بين الكلامين، وقرأت هذه الفرقة بالرفع في «نقرّ»، المعنى ونحن نقر وهي قراءة الجمهور، وقالت فرقة لِنُبَيِّنَ معناه بكون المضغة غير مخلقة وطرح النساء إياها كذلك نبين للناس أن المناقل في الرحم هي هكذا، وقرأت هذه الفرقة «ونقرّ» بالنصب وكذلك قرأت «ونخرجكم» بالنصب وهي رواية المفضل عن عاصم، وحكى أبو عمرو الداني أن رواية المفضل هذه هي بالياء في «يقر» وفي «يخرجكم» والرفع على هذا التأويل سائغ ولا يجوز النصب على التأويل الأول، وقرأ ابن وثاب «ما نشاء» بكسر النون، و «الأجل المسمى» هو مختلف بحسب جنين جنين فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حيا، وقوله تعالى: طِفْلًا اسم الجنس أي أطفالا، واختلف الناس في «الأشد» من ثمانية عشر إلى ثلاثين، إلى اثنين وثلاثين، إلى ستة وثلاثين، إلى أربعين، إلى خمسة وأربعين، واللفظ تقال باشتراك، فأشد الإنسان على العموم غير أشد اليتيم الذي هو الاحتلام، و «الأشد» في هذه الآية يحتمل المعنيين، والرد إلى أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانة واختلال قوة حتى لا يقدر على إقامة الطاعات واختلال عقل حتى لا يقدر على إقامة ما يلزمه من المعتقدات، وهذا أبدا يلحق مع الكبر وقد يكون أَرْذَلِ الْعُمُرِ في قليل من السن بحسب شخص ما لحقته زمانة وقد ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أَرْذَلِ الْعُمُرِ خمسة وسبعون سنة وهذا فيه نظر وإن صح عن علي رضي الله عنه فلا يتوجه إلا أن يريد على الأكثر فقد نرى كثيرا أبناء ثمانين سنة ليسوا في أرذل العمر، وقرأ الجمهور «العمر» مشبعة وقرأ نافع «العمر» مخففة الميم واختلف عنه، قوله تعالى: لِكَيْلا يَعْلَمَ أي لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه فلا يعلم من ذلك شيئا فهذا مثال واحد يقضي للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى.
قوله عز وجل:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ...
108
هذا هو المثال الذي يعطي للمعتبر فيه جواز بعث الأجساد وذلك أن إحياء الأرض بعد موتها بين فكذلك الأجساد، وهامِدَةً معناه ساكنة دارسة بالية ومنه قيل همد الثوب إذا بلي، قال الأعشى:
[الكامل]
يعرف الجاهل المضلل أن الدهر فيه النكراء والزلزال
قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا وأرى ثيابك باليات همدا
واهتزاز الأرض هو حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء، وَرَبَتْ معناه نشزت وارتفعت ومنه الربوة وهو المكان المرتفع، وقرأ جعفر بن القعقاع «وربأت» بالهمز، ورويت عن أبي عمرو وقرأها عبد الله بن جعفر وخالد بن إلياس وهي غير وجيهة ووجهها أن تكون من ربأت القوم إذا علوت شرفا من الأرض طليعة فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو، و «الزوج» النوع، و «البهيج» فعيل من البهجة وهي الحسن قاله قتادة وغيره.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦ الى ١٠]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠)
قوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى كون ما تقدم ذكر ف ذلِكَ ابتداء، وخبره بِأَنَّ أي هو بِأَنَّ اللَّهَ تعالى «حق» محيي قادر وقوله وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ ليس بسبب لما ذكر لكن المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض أو على تقدير: والأمر أن الساعة، وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ الآية، الإشارة بقوله وَمِنَ النَّاسِ إلى القوم المتقدم ذكرهم، وحكى النقاش عن محمد بن كعب أنه قال نزلت الآية في الأخنس بن شريق وكرر هذه على جهة التوبيخ فكأنه يقول فهذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان وَمِنَ النَّاسِ مع ذلك مَنْ يُجادِلُ فكأن الواو واو الحال والآية المتقدمة الواو فيها واو عطف جملة الكلام على ما قبلها، والآية على معنى الإخبار وهي هاهنا مكررة للتوبيخ، وثانِيَ حال من ضمير في يُجادِلُ ولا يجوز أن تكون من مِنَ لأنها ابتداء والابتداء إنما عمله الرفع لا النصب وإضافة ثانِيَ غير معتد بها لأنها في معنى الانفصال إذ تقديرها ثانيا عطفه، وقوله ثانِيَ عِطْفِهِ عبارة عن المتكبر المعرض قاله ابن عباس وغيره، ع: وذلك أن صاحب الكبر يرد وجهه عما يتكبر عنه فهو يرد وجهه يصعر خده ويولي صفحته ويلوي عنقه ويثني عطفه وهذه هي عبارات المفسرين، والعطف الجانب وقرأ الحسن «عطفه» بفتح العين والعطف السيف لأن صاحبه يتعطفه أي يصله بجنبه، وقرأ الجمهور «ليضل» بضم الياء، وقرأ مجاهد وأهل مكة بفتح الياء، وكذلك قرأ أبو عمرو، و «الخزي» الذي توعد به النضر بن الحارث في أسره يوم بدر وقتله بالصفراء، و «الحريق» طبقة من طبقات جهنم، وقوله تعالى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ بمعنى يقال له ونسب التقديم إلى اليدين إذ هما آلتا الاكتساب واختلف في الوقف على قوله يَداكَ فقيل لا يجوز لأن التقدير: وبأن الله أي وَأَنَّ اللَّهَ هو العدل فيك بجرائمك وقيل يجوز بمعنى والأمر أن الله تعالى لَيْسَ بِظَلَّامٍ و «العبيد» هنا ذكروا في معنى مكسنتهم وقلة قدرتهم فلذلك جاءت هذه الصيغة.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١١ الى ١٣]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)
109
هذه الآية نزلت في أعراب وقوم لا يقين لهم كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له اتفاقات حسان من نمو ماله وولد ذكر يرزقه وغير ذلك قال هذا دين جيد وتمسك به لهذه المعاني، وإن كان الأمر بخلاف، تشاءم به وارتد كما صنع العرنيون وغيرهم، قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، وقوله تعالى: عَلى حَرْفٍ معناه على انحراف منه عن العقيدة البيضاء أو على شفى منها معدى للزهوق، و «الفتنة» :
الاختبار، وقوله تعالى: انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ عبارة للمولي عن الأمور وخسارته الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، أما الدُّنْيا فبالمقادير التي جرت عليه، وأما الْآخِرَةَ فبارتداده وسوء معتقده، وقرأ مجاهد وحميد والأعرج «خاسرا الدنيا والآخرة» نصبا على الحال، وقوله تعالى: ما لا يَضُرُّهُ يريد الأوثان، ومعنى يَدْعُوا يعبد، ويدعو أيضا في ملماته، واختلف الناس في قوله تعالى: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ فقالت فرقة من الكوفيين اللام مقدمة على موضعها وإنما التقدير «يدعو من لضره»، ويؤيد هذا التأويل أن عبد الله بن مسعود قرأ «يدعو من ضره»، وقال الأخفش يَدْعُوا يمعنى يقول، و «من» مبتدأ وضَرُّهُ مبتدأ، وأَقْرَبُ خبره، والجملة صلة، وخبر مِنْ محذوف والتقدير يقول لمن ضره أقرب منه نفعه إله وشبه هذا، يقول عنترة: «يدعون عنتر والرماح كأنها» ع وهذا القول فيه نظر فتأمل إفساده للمعنى إذ لم يعتقد الكافر قط أن ضر الأوثان أقرب من نفعها واعتذار أبي علي هنا مموه، وأيضا فهو لا يشبه البيت الذي استشهد به، وقيل المعنى في يَدْعُوا يسمى، وهذا كالقول الذي قبله، إلا أن المحذوف آخرا مفعول تقديره إلها، وقال الزجاج يجوز أن يكون يَدْعُوا في موضع الحال وفيه هاء محذوفة والتقدير ذلك هو الضلال البعيد يدعو أو يدعوه، فيوقف على هذا، قال أبو علي ويحسن أن يكون ذلك بمعنى الذي، أي الذي هو الضلال البعيد يدعو أو يدعوه، فيوقف على هذا، قال أبو علي ويحسن أن يكون ذلك بمعنى الذي، أي الذي هو الضلال البعيد يدعو أو يدعوه، فيوقف على هذا، قال أبو علي ويحسن أن يكون ذلك بمعنى الذي، أي الذي هو الضلال البعيد يَدْعُوا فيكون قوله ذلك موصولا بقوله ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ويكون يَدْعُوا عاملا في قوله ذلِكَ ع كون ذلِكَ بمعنى الذي غير سهل وشبهه المهدوي بقوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: ١٧] وقد يظهر في الآية أن يكون قوله يَدْعُوا متصلا بما قبله، ويكون فيه معنى التوبيخ كأنه قال يَدْعُوا من لا يضر ولا ينفع. ثم كرر يَدْعُوا على جهة التوبيخ غير معدى إذ عدي أول الكلام ثم ابتدأ الإخبار بقوله لَمَنْ ضَرُّهُ واللام مؤذنة بمجيء القسم والثانية التي في لَبِئْسَ لام القسم وإن كان أبو علي مال إلى أنها لام الابتداء والثانية لام اليمين، ويظهر أيضا في الآية أن يكون المراد يدعو من ضره ثم علق الفعل باللام وصح أن يقدر هذا الفعل من الأفعال التي تعلق وهي أفعال النفس كظننت وخشيت، وأشار أبو علي إلى هذا ورد عليه، والْعَشِيرُ القريب المعاشر في الأمور، وذهب الطبري إلى أن المراد بالمولى والعشير هو الإنسان الذي يعبد الله على حرف ويدعو الأصنام، والظاهر أن المراد ب الْمَوْلى والْعَشِيرُ هو الوثن الذي ضره أقرب من نفعه، وهو قول مجاهد والله أعلم.
110
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٤ الى ١٧]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)
لما ذكر تبارك وتعالى حالة من يعبده عَلى حَرْفٍ [الحج: ١١] وسفه رأيهم وتوعدهم بخسارة الآخرة عقب ذلك بذكر مخالفيهم من أهل الإيمان وذكر ما وعدهم به من إدخاله إياهم الجنة، ثم أخذت الآية في توبيخ أولئك الأولين وإسلامهم إلى رأيهم وإحالتهم على ما فيه عنتهم وليس فيه راحتهم كأنه يقول هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق وظنوا أن الله تبارك وتعالى لن ينصر محمدا وأتباعه ونحن إنما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا فمن ظن غير ذلك، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ وليختنق ولينظر هل يذهب بذلك غيظه، قال هذا المعنى قتادة وهذا على جهة المثل السائر قولهم دونك الحبل فاختنق، يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه، و «السبب» الحبل، و «النصر» معروف، إلا أن أبا عبيدة ذهب به إلى معنى الرزق كما قالوا أرض منصورة أي ممطورة وكما قال الشاعر: [الطويل]
وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره
وقال: وقف بنا سائل من بني أبي بكر فقال من ينصرني ينصره الله، والسَّماءِ على هذه الأقوال الهواء علوا فكأنه أراد سقفا أو شجرة أو نحوه وقال ابن زيد السَّماءِ هي المعروفة، وذهب إلى معنى آخر كأنه قيل لمن يظن أن الله تعالى لا ينصر محمدا إن كانت تظن ذلك فامدد بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ واقطعه إن كنت تقدر على ذلك فإن عجزت فكذلك لا تقدر على قطع سبب محمد ﷺ إذ نصرته من هنالك والوحي الذي يأتيه.
قال القاضي أبو محمد: و «القطع» على هذا التأويل ليس بالاختناق بل هو جزم السبب، وفي مصحف ابن مسعود «ثم ليقطعه» بهاء، والجمهور على أن القطع هنا هو الاختناق، وقال الخليل: وقطع الرجل إذا اختنق بحبل أو نحوه ثم ذكر الآية، وتحتمل الآية معنى آخر وهو أن يراد به الكفار وكل من يغتاظ بأن ينصره الله ويطمع أن لا ينصر قيل له من ظن أن هذا لا ينصر فليمت كمدا هو منصور لا محالة فليختنق هذا الظان غيظا وكمدا ويؤيد هذا أن الطبري والنقاش قالا: ويقال نزلت في نفر من بني أسد وغطفان قالوا نخاف أن ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من يهود من المنافع، والمعنى الأول الذي قيل فيه للعابدين عَلى حَرْفٍ [الحج: ١١] ليس بهذا ولكنه بمعنى من قلق واستبطأ النصر وظن أن محمدا لا ينصر فليختنق سفاهة إذ تعدى الأمر الذي حد له في الصبر وانتظار صنع الله، وقال مجاهد: الضمير في
111
يَنْصُرَهُ عائد على مَنْ والمعنى من كان من المتقلقين من المؤمنين. ع والضمير في التأويل الذي ذكرناه في أن يراد الكفار لا يعود إلا على النبي ﷺ فقط، وقالت فرقة: الضمير عائد على الدين والقرآن، وقرأ أبو عمرو وابن عامر «ليقطع فلينظر» بكسر اللام فيهما على الأصل وهي قراءة الجمهور، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون اللام فيهما في لام الأمر في كل القرآن مع الواو والفاء و «ثم»، واختلف عن نافع وهي قراءة الحسن وأبي عمرو وعيسى، ع أما الواو والفاء إذا دخلا على الأمر فحكى سيبويه أنهم يرونها كأنها من الكلمة، فسكون اللام تخفيف وهو أفصح من تحريكها، وأما «ثم» فهي كلمة مستقلة فالوجه تحريك اللام بعدها ع وقد رأى بعض النحويين الميم من «ثم» بمنزلة الواو والفاء، وقوله تعالى: ما يَغِيظُ يحتمل أن تكون ما بمعنى الذي، وفي يَغِيظُ عائد عليها، ويحتمل أن تكون مصدرية حرفا فلا عائد عليها، و «الكيد» هو مده السبب ع وأبين وجوه هذه الآية أن تكون مثلا ويكون «النصر» المعروف و «القطع» الاختناق والسَّماءِ الارتفاع في الهواء بسقف أو شجرة ونحوه فتأمله، وقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ إلى شَهِيدٌ المعنى وكما وعدنا بالنصر وأمرنا بالصبر كذلك أنزلنا القرآن آية بينة لمن نظر واهتدى لا ليقترح معها ويستعجل القدر، وقال الطبري: المعنى وكما بينت حجتي على من جحد قدرتي على إحياء الموتى كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ والضمير في أَنْزَلْناهُ عائد على القرآن، وجاءت هذه الضمائر هكذا وإن لم يتقدم ذكر لشهرة المشار إليه نحو قوله تعالى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢] وغيره، وقوله تعالى: وَأَنَّ في موضع خير الابتداء والتقدير والأمر أن الله يهدي من يريد، وهداية الله تعالى هي خلقه الرشاد والإيمان في نفس الإنسان، ثم أخبر الله تعالى عن فعله بالفرق المذكورين وهم المؤمنون بمحمد عليه السلام وغيره، واليهود والصابئون وهم قوم يعبدون الملائكة ويستقبلون القبلة ويوحدون الله ويقرؤون الزبور قاله قتادة وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وهم عبدة النار والشمس والقمر، والمشركون وهم عبدة الأوثان، قال قتادة الأديان ستة، خمسة للشيطان وواحد للرحمن وخبر إِنَّ قوله تعالى الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ، ثم دخلت إِنَّ على الخبر مؤكدة وحسن ذلك لطول الكلام فهي وما بعدها خبر إِنَّ الأولى، وقرن الزجاج هذه الآية. بقول الشاعر: [البسيط]
إن الخليفة إن الله سربله سربال ملك به ترجى الخواتيم
نقله من الطبري ع وليس هذا البيت كالآية لأن الخبر في البيت في قوله ترجى الخواتيم وإن الثانية وجملتها معترضة بين الكلامين، ثم تم الكلام كله في قوله تعالى: الْقِيامَةِ واستأنف الخبر عن إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ عالم به وهذا خبر مستأنف للفصل بين الفرق وفصل الله تعالى بين هذه الفرق هو إدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار.
قوله عز وجل:
112

[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٨ الى ٢٢]

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢)
أَلَمْ تَرَ تنبيه من رؤية القلب، وهذه آية إعلام بتسليم المخلوقات جمع لله وخضوعها، وذكر في الآية كل ما عبد الناس إذ في المخلوقات أعظم مما قد ذكر كالرياح والهواء ف مَنْ فِي السَّماواتِ الملائكة، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من عبد من البشر، وَالشَّمْسُ كانت تعبدها حمير وهم قوم بلقيس، والقمر كانت كنانة تعبده قاله ابن عباس، وكانت تميم تعبد الدبران، وكانت لخم تعبد المشتري، وكانت طيّىء تعبد الثريا وكانت قريش تعبد الشعرى، وكانت أسد تعبد عطارد، وكانت ربيعة تعبد المرزم، وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ منها النار وأصنام الحجارة والخشب، وَالدَّوَابُّ فيها البقر وغير ذلك مما عبد من الحيوان كالديك ونحوه، و «السجود» في هذه الآية هو بالخضوع والانقياد للأمر كما قال الشاعر «ترى الأكم فيه سجدا للحوافر». وهذا مما يتعذر فيه السجود المتعارف، وقال مجاهد: سجود هذه الأشياء هو بظلالها، وقال بعضهم سجودها هو بظهور الصنعة فيها. ع: وهذا وهم وإنما خلط هذه الآية بآية التسبيح وهناك يحتمل أن يقال هي بآثار الصنعة، وقوله تعالى: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ يحتمل أن يكون معطوفا على ما تقدم، أي وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ يسجد، أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره ونحو ذلك، قاله مجاهد، وقال: سجوده بظله ويحتمل أن يكون رفعا بالابتداء مقطوعا مما قبله وكأن الجملة معادلة لقوله وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لأن المعنى أنهم مرحومون بسجودهم ويؤيد هذا قوله تعالى بعد ذلك وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ الآية وقرأ جمهور الناس «من مكرم» بكسر الراء، وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على معنى من موضع كرامة أو على أنه مصدر كمدخل، وقرأ الجمهور «والدوابّ» مشددة الباء، وقرأ الزهري وحده بتخفيف الباء وهي قليلة ضعيفة وهي تخفيف على غير قياس كما قالوا ظلت وأحست وكما قال علقمة: [البسيط]
كأن إبريقهم ظبي على شرف مفدم بسبا الكتان ملثوم
أراد بسبائب الكتان وأنشد أبو علي في مثله: [الكامل]
حتى إذا ما لم أجد غير الشر كنت امرأ من مالك بن جعفر
وهذا باب إنما يستعمل في الشعر فلذلك ضعفت هذه القراءة وقوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ الآية، اختلف الناس في المشار إليه بقوله هذانِ فقال قيس بن عباد وهلال بن يساف: نزلت هذه الآية في المتبارزين يوم بدر وهم ستة: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، برزوا لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى، وأقسم أبو ذر على هذا القول ع ووقع أن الآية فيهم في صحيح البخاري، وقال ابن عباس: الإشارة
إلى المؤمنين وأهل الكتاب وذلك أنه وقع بينهم تخاصم فقالت اليهود نحن أقوم دينا منكم ونحو هذا، فنزلت الآية، وقال عكرمة: المخاصمة بين الجنة والنار، وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن وعاصم والكلبي: الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ع وهذا قول تعضده الآية، وذلك أنه تقدم قوله وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ المعنى هم مؤمنون ساجدون، ثم قال وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ثم أشار إلى هذين الصنفين بقوله هذانِ خَصْمانِ والمعنى أن الإيمان وأهله والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة بالعداوة والجدال والحرب، وقوله تعالى: خَصْمانِ يريد طائفتين لأن لفظة خصم هي مصدر يوصف به الجمع والواحد ويدل على أنه أراد الجمع قوله اخْتَصَمُوا فإنها قراءة الجمهور، وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما في ربهم» وقوله فِي رَبِّهِمْ معناه في شأن ربهم وصفاته وتوحيده، ويحتمل أن يريد في رضاء ربهم وفي ذاته، ثم بين حكمي الفريقين فتوعد تعالى الكفار بعذاب جهنم، وقُطِّعَتْ معناه جعلت لهم بتقدير، كما يفصل الثوب، وروي أنها من نحاس وقيل ليس شيء من الحجارة والفلز أحر منه إذا حمي، وروي في صب الْحَمِيمُ وهو الماء المغلي أنه تضرب رؤوسهم ب «المقامع» فتنكشف أدمغتهم فيصب الْحَمِيمُ حينئذ، وقيل بل يصب الحميم أولا فيفعل ما وصف، ثم تضرب ب «المقامع» بعد ذلك، والْحَمِيمُ الماء المغلي، ويُصْهَرُ معناه يذاب، وقيل معناه يعصر وهذه
العبارة قلقة، وقيل معناه ينضج ومنه قول الشاعر «تصهره الشمس ولا ينصهر» وإنما يشبه فيمن قال يعصر.
أنه أراد الحميم يهبط كل ما يلقى في الجوف ويكشطه ويسلته، وقد روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه يسلته ويبلغ به قدميه ويذيبه، ثم يعاد كما كان، وقرأ الجمهور «يصهر» وقرأت فرقة «يصهّر» بفتح الضاد وشد الهاء، و «المقمعة» بكسر الميم مقرعة من حديد يقمع بها المضروب، وقوله:
أَرادُوا روي فيه أن لهب النار إذا ارتفع رفعهم فيصلون إلى أبواب النار فيريدون الخروج فيضربون ب «المقامع» وتردهم الزبانية و «من» في قوله مِنْها الابتداء الغاية، وفي قوله مِنْ غَمٍّ يحتمل أن تكون لبيان الجنس ويحتمل أن تكون لابتداء غاية أيضا وهي بدل من الأولى. وقوله: وَذُوقُوا هنا محذوف تقديره ويقال لهم: ذُوقُوا والْحَرِيقِ فعيل بمعنى مفعل أي محرق، وقرأ الجمهور «هذان» بتخفيض النون، وقرأ ابن كثير وحده «هذانّ» بتشديد النون، وقرأها شبل وهي لغة لبعض العرب في المبهمات، كاللذان، وهذان وقد ذكر ذلك أبو علي.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥)
114
هذه الآية معادلة لقوله: فَالَّذِينَ كَفَرُوا [الحج: ١٩] وقرأ الجمهور «يحلون» بضم الياء وشد اللام من الحلي، وقرأ ابن عباس «يحلون» بفتح الياء واللام وتخفيفها، يقال حلي الرجل وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي وقيل هي من قولهم لم يحل فلان بطائل، ومِنْ في قوله مِنْ أَساوِرَ هي لبيان الجنس ويحتمل أن تكون للتبعيض، و «الأساور» جمع سوار وإسوار بكسر الهمزة، وقيل أَساوِرَ جمع أسورة وأسورة جمع سوار، وقرأ ابن عباس من «أسورة من ذهب»، و «اللؤلؤ» الجوهر وقيل صغاره وقيل كباره والأشهر أنه اسم للجوهر، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «ولؤلؤا» بالنصب عطفا على موضع الأساور لأن التقدير يحلون أساور، وهي قراءة الحسن والجحدري وسلام ويعقوب والأعرج وأبي جعفر وعيسى بن عمر، وحمل أبو الفتح نصبه على إضمار فعل، وقرأ الباقون من السبعة و «لؤلؤ» بالخفض عطفا إما على لفظ الأساور ويكون اللؤلؤ في غير الأساور، وإما على الذهب لأن الأساور أيضا تكون «من ذهب» و «لؤلؤ» قد جمع بعضه إلى بعض، ورويت هذه القراءة عن الحسن بن أبي الحسن وطلحة وابن وثاب والأعمش وأهل مكة، وثبتت في الإمام ألف بعد الواو قاله الجحدري، وقال الأصمعي: ليس فيها ألف، وروى يحيى عن أبي بكر عن عاصم همز الواو الثانية دون الأولى، وروى المعلى بن منصور عن أبي بكر عن عاصم ضد ذلك، قال أبو علي: همزهما وتخفيفهما وهمز إحداهما دون الأخرى جائز كله، وقرأ ابن عباس «ولئلئا» بكسر اللامين، وأخبر عنهم بلباس الحرير لأنها من أكمل حالات الآخرة، وقد روي عن النبي ﷺ «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة»، وقال ابن عباس: لا تشبه أمور الآخرة أمور الدنيا إلا في الأسماء فقط وأما الصفات فمتباينة، والطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ لا إله إلّا الله وما جرى معها من ذكر الله تعالى وتسبيحه وتقديسه وسائر كلام أهل الجنة من محاورة وحديث طيب فإنها لا تسمع فيها لاغية، وصِراطِ الْحَمِيدِ هو طريق الله تعالى الذي دعا عباده إليه، ويحتمل أن يريد ب الْحَمِيدِ نفس الطريق فأضاف إليه على حد إضافته في قوله «دار الآخرة» [الأنعام: ٣٢، يوسف: ١٠٩، النحل: ٣٠]، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ الآية، قوله وَيَصُدُّونَ تقديره وهم يصدون وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي وقالت فرقة الواو زائدة وَيَصُدُّونَ خبر إِنَّ وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله وَالْبادِ تقديره خسروا أو هلكوا، وجاء يَصُدُّونَ مستقبلا إذ هو فعل يديمونه كما جاء قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ [الرعد: ٢٨] ونحوه، وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صدّ رسول الله ﷺ عن المسجد الحرام وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع إلا أن يراد صدهم لأفراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر المبعث، وقالت فرقة الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أرادوا به مكة كلها ع وهذا صحيح لكنه قصد بالذكر المهم المقصود من ذلك، وقرأ جمهور الناس «سواء» بالرفع وهو على الابتداء والْعاكِفُ خبره، وقيل الخبر سَواءً وهو مقدم وهو قول أبي علي والمعنى الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا، وقرأ حفص عن عاصم «سواء» بالنصب وهي قراءة الأعمش وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مفعولا ثانيا ل «جعل» ويرتفع «العاكف» به لأنه مصدر في معنى مستو أعمل عمل اسم الفاعل، والوجه الثاني أن يكون حالا من الضمير في «جعلنا» وقرأت فرقة «سواء» بالنصب «العاكف» بالخفض عطفا على الناس. والْعاكِفُ، المقيم في البلد، والْبادِ، القادم عليه من غيره، وقرأ
115
ابن كثير في الوصل والوقف «البادي» بالياء. ووقف أبو عمرو بغير ياء، ووصل بالياء، وقرأ نافع «الباد» بغير ياء في الوصل والوقف في رواية المسيبي، وأبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس، وروى ورش الوصل بالياء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء وصلا ووقفا، وهي في الإمام بغير ياء، وأجمع الناس على الاستواء في نفس الْمَسْجِدِ الْحَرامِ واختلفوا في مكة، فذهب عمر بن الخطاب وابن عباس ومجاهد وجماعة معهم إلى أن
الأمر كذلك في دور مكة وأن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى، وقال: ذلك سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، قال ابن سابط: وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب، وقال جمهور من الأمة منهم مالك: ليست الدور كالمسجد ولأهلها الامتناع بها والاستبداد، وعلى هذا هو العمل اليوم، وهذا الاختلاف الأول متركب على الاختلاف في مكة هل هي عنوة كما روي عن مالك والأوزاعي، أو صلح كما روي عن الشافعي، فمن رآها صلحا فإن الاستواء في المنازل عنده بعيد، ومن رآها عنوة أمكنه أن يقول الاستواء فيها، قرره الأئمة الذين لم يقطعوها أحدا وإنما سكنى من سكن من قبل نفسه.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر قول النبي ﷺ «وهل ترك لنا عقيل منزلا»، يقتضي أن لا استواء وأنها متملكة ممنوعة على التأويلين في قوله عليه السلام لأنه تؤول بمعنى أنه ورث جميع منازل أبي طالب وغيره، وتؤول بمعنى أنه باع منازل بني هاشم حين هاجروا ومن الحجة لتملك أهلها دورهم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية دارا للسجن بأربعة آلاف، ويصح مع ذلك أن يكون الاستواء في وقت الموسم للضرورة والحاجة فيخرج الأمر حينئذ عن الاعتبار بالعنوة والصلح، وقوله تعالى: بِإِلْحادٍ قال أبو عبيدة الباء زائدة ومنه قول الشاعر:
بواد يمان ينبت الشت صدره وأسفله بالمرخ والشبهان
ومنه قول الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا وهذا كثير ويجوز أن يكون التقدير وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ الناس بِإِلْحادٍ و «الإلحاد» الميل، وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بذلك إلا في مكة، هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم، وقال ابن عباس: «الإلحاد» في هذه الآية الشرك، وقال أيضا: هو استحلال الحرام وحرمته، وقال مجاهد: هو العمل السيّء فيه، وقال عبد الله بن عمرو: قول لا والله وبلى والله بمكة من الإلحاد، وقال حبيب بن أبي ثابت: الحكرة بمكة من الإلحاد بالظلم. ع. والعموم يأتي على هذا كله، وقرأت فرقة «ومن يرد» من الورود حكاه الفراء، والأول أبين وأعم وأمدح للبقعة، ومَنْ شرط جازمة للفعل وذلك منع من عطفها على الَّذِينَ والله المستعان.
قوله عز وجل:
116

[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]

وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨)
المعنى واذكر إِذْ بَوَّأْنا، و «بوأ» هي تعدية باء بالتضعيف، و «باء» معناه رجع فكأن المبوّئ يرد المبوأ إلى المكان، واستعملت اللفظة بمعنى سكن، ومنه قوله تعالى: نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: ٧٤] وقال الشاعر:
كم من أخ لي صالح... بوأته بيديّ لحدا
واللام في قوله تعالى: لِإِبْراهِيمَ قالت فرقة هي زائدة، وقالت فرقة بَوَّأْنا نازلة منزلة فعل يتعدى باللام كنحو جعلنا ع والأظهر أن يكون المفعول الأول ب بَوَّأْنا محذوفا تقديره الناس أو العالمين، ثم قال لِإِبْراهِيمَ بمعنى له كانت هذه الكرامة وعلى يديه بوؤا، والْبَيْتِ هو الكعبة، وكان فيما روي قد جعله الله تعالى متعبدا لآدم عليه السلام، ثم درس بالطوفان، وغيره فلما جاءت مدة إبراهيم أمره الله تعالى ببنائه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا، فبعث الله ريحا فكشف له عن أساس آدم، فرفع قواعده عليه. وقوله أَنْ لا تُشْرِكْ هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام، في قول الجمهور حكيت لنا بمعنى قيل له لا تشرك، وقرأ عكرمة «ألا يشرك» بالياء على نقل معنى القول الذي قيل له، قال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى لأن لا يشرك ع يحتمل أن تكون «أن» في قراءة الجمهور مفسرة، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة، وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعد، وأنتم لم تفوا بل أشركتم، وقالت فرقة: الخطاب من قوله أَنْ لا تُشْرِكْ لمحمد ﷺ وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج ع والجمهور على أن ذلك لإبراهيم وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء وغير ذلك، و «القائمون»، هم المصلون، وذكر تعالى من أركان الصلاة: أعظمها. وهي القيام والركوع والسجود، وقرأ جمهور الناس «وأذّن» بشد الذال، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن «وآذن» بمدة وتخفيف الذال وتصحف هذا على ابن جني، فإنه حكى عنها «وأذن» فعل ماض وأعرب عن ذلك بأن جعله عطفا على بَوَّأْنا، وروي أن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالأذان بالحج قال يا رب وإذا ناديت فمن يسمعني؟ فقيل له ناد يا إبراهيم فعليك النداء وعلينا البلاغ فصعد على أبي قبيس وقيل على حجر المقام ونادى: أيها الناس، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا واختلفت الروايات في ألفاظه عليه السلام واللازم أن يكون فيها ذكر البيت والحج، وروي أنه يوم نادى أسمع كل من يحج إلى يوم القيامة في أصلاب الرجال وأجابه كل شيء في ذلك الوقت من جماد وغيره لبيك اللهم لبيك، فجرت التلبية على ذلك، قاله ابن عباس وابن جبير، وقرأ جمهور الناس «بالحج» بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها، ورِجالًا، جمع راجل كتاجر وتجار، وقرأ عكرمة وابن عباس وأبو مجلز وجعفر بن محمد «رجّالا» بضم الراء وشد الجيم، ككاتب وكتاب، وقرأ عكرمة أيضا وابن أبي إسحاق «رجالا» بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية
117
الجمع ورويت عن مجاهد، وقرأ مجاهد «رجالى» على وزن فعالى فهو كمثل كسالى، و «الضامر»، قالت فرقة أراد بها الناقة ع وذلك أنه يقال ناقة ضامر.
ومنه قول الأعشى:
عهدي بها في الحي قد ذرعت هيفاء مثل المهرة الضامر
فيجيء قوله يَأْتِينَ مستقيما على هذا التأويل، وقالت فرقة «الضامر» هو كل ما اتصف بذلك من جمل أو ناقة وغير ذلك ع وهذا هو الأظهر لكنه يتضمن معنى الجماعات أو الرفاق فيحسن لذلك قوله يَأْتِينَ وقرأ أصحاب ابن مسعود «يأتون» وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك، وفي تقديم رِجالًا تفضيل للمشاة في الحج، قال ابن عباس: ما آسى على شيء فاتني إلا أن أكون حججت ما شيا فإني سمعت الله تعالى يقول: «يأتونك رجالا» وقال ابن أبي نجيح: حج إبراهيم وإسماعيل ماشيين، واستدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط ع قال مالك في الموازية: لا أسمع للبحر ذكرا ع وهذا تأسيس لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه، وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس بالسفن ولا بد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامِرٍ فإنما ذكرت حالتا الوصول، وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا القوي، فأما إذا اقترن به عدو أو خوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصا ما، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع، وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاما ظاهره أن الوجوب لا يسقطه شيء من هذه الأعذار ع وهذا ضعيف و «الفج» الطريق الواسعة، و «العميق» معناه البعيد. وقال الشاعر: [الطويل]
إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة يمد بها في السير أشعث شاحب
و «المنافع» في هذه الآية التجارة في قول أكثر المتأولين ابن عباس وغيره، وقال أبو جعفر محمد بن علي: أراد الأجر ومَنافِعَ الآخرة، وقال مجاهد بعموم الوجهين وقوله تعالى: اسْمَ اللَّهِ، يصح أن يريد بالاسم هاهنا المسمى بمعنى ويذكروا الله على تجوز في هذه العبارة إلا أن يقصد ذكر القلوب، ويحتمل أن يريد بالاسم التسميات وذكر الله تعالى إنما هو بذكر أسمائه ثم بذكر القلب السلطان والصفات، وهذا كله على أن يكون الذكر بمعنى حمده وتقديسه شكرا على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليه السلام «إنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى»، وذهب قوم إلى أن المراد ذكر اسم الله تعالى على النحر والذبح، وقالوا إن في ذكر «الأيام» دليلا على أن الذبح في الليل لا يجوز، وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي، وقال ابن عباس «الأيام المعلومات» هي أيام العشر ويوم النحر وأيام التشريق، وقال ابن سيرين: بل أيام العشر فقط، وقالت فرقة: أيام التشريق، ذكره القتبي، وقالت فرقة فيها مالك وأصحابه: بل المعلومات يوم النحر ويومان بعده وأيام التشريق الثلاثة هي معدودات فيكون يوم النحر معلوما لا معدودا واليومان بعده معلومان معدودان والرابع معدود لا معلوم ع وحمل هؤلاء على هذا التفصيل أنهم أخذوا ذكر اسْمَ اللَّهِ هنا على الذبح للأضاحي والهدي وغيره، فاليوم الرابع لا يضحى فيه عند مالك وجماعة وأخذوا التعجل والتأخر بالنفر في
118
الأيام المعدودات فتأمل هذا، يبين لك قصدهم، ويظهر أن تكون المعدودات والمعلومات بمعنى أن تلك الأيام الفاضلة كلها ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا بمعلوم وتكون فائدة قوله مَعْلُوماتٍ ومَعْدُوداتٍ [البقرة: ١٨٤، آل عمران: ٢٤] التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي ليست كغيرها فكأنه قال: هي مخصوصات فلتغتنم. وقوله، فَكُلُوا ندب، واستحب أهل العلم للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بأكثرها مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل، والْبائِسَ الذي قد مسه ضر الفاقة وبؤسها، يقال: بأس الرجل يبؤس وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم تكن فقرا، ومنه قوله عليه السلام، «لكن البائس سعد بن خولة»، والمراد في هذه الآية أهل الحاجة.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١)
اختلفت القراءة في سكون اللام في قوله تعالى: لْيَقْضُوا وَلْيُوفُوا وَلْيَطَّوَّفُوا وفي تحريك جميع ذلك بالكسر وفي تحريك «ليقضوا» وتسكين الاثنين وقد تقدم في قوله: فَلْيَمْدُدْ [الحج: ١٥، مريم: ٧٥] بسبب توجيه جميع ذلك، و «التفث» ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعث ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضى التفث إلا بعد ذلك، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر «وليوفّوا» بفتح الواو وشد الفاء، ووفى وأوفى لغتان مستعملتان في كتاب الله تعالى، وأوفى أكثر. و «النذور» ما معهم من هدي وغيره، والطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج، قال الطبري لا خلاف بين المتأولين في ذلك، قال مالك: هو واجب يرجع تاركه من وطنه إلا أن يطوف طواف وداع فإنه يجزئه منه.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل بحسب الترتيب أن تكون الإشارة إلى طواف الوداع إذ المستحسن أن يكون ولا بد، وقد أسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيرا عن قوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فقال: هو طواف الوداع، وقال مالك في الموطأ واختلف المتألون في وجه صفة البيت ب الْعَتِيقِ، فقال مجاهد والحسن الْعَتِيقِ القديم يقال سيف عتيق وقد عتق الشيء، قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول يعضده النظر إذ هو أول بيت وضع للناس إلا أن ابن الزبير قال: سمي عتيقا لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة بمنعه إياه منهم وروي في هذا حديث عن النبي ﷺ ولا نظر مع الحديث، وقالت فرقة: سمي عتيقا لأنه لم يملك موضعه قط، وقالت فرقة: سمي عتيقا لأن الله تعالى يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب، قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا يرده التصريف، وقيل: سمي عتيقا لأنه أعتق من غرق الطوفان، قاله ابن جبير، ويحتمل أن يكون الْعَتِيقِ صفة مدح تقتضي جودة الشيء كما قال
119
عمر بن الخطاب رضي الله عنه «حملت على فرس عتيق» الحديث ونحوه قولهم كلام حر وطين حر، وقوله تعالى: ذلِكَ يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير فرضكم ذلك أو الواجب ذلك، ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير امتثلوا ذلك ونحو هذا الإضمار، وأحسن الأشياء مضمرا أحسنها مظهرا ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير: [البسيط]
هذا وليس كمن يعطي بخطته وسط الندى إذا ما قائل نطقا
والحرمات المقصودة هاهنا في أفعال الحج المشار إليها في قوله ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ويدخل في ذلك تعظيم المواضع، قاله ابن زيد وغيره، ووعد على تعظيمها بعد ذلك تحريضا، وتحريصا، ثم لفظ الآية بعد ذلك يتناول كل حرمة لله تعالى في جميع الشرع. وقوله تعالى: فَهُوَ خَيْرٌ، ظاهره أنها ليست للتفضيل وإنما هي عدة بخير، ويحتمل أن يجعل خَيْرٌ للتفضيل على تجوز في هذا الموضع، وقوله تعالى: أُحِلَّتْ إشارة إلى ما كانت العرب تفعله من تحريم أشياء برأيها كالبحيرة والسائبة فأذهب الله تعالى ذلك وأحل لهم جميع الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عليهم في كتاب الله تعالى. في غير موضع ثم أمرهم باجتناب الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ والكلام يحتمل معنيين أحدهما أن تكون مَنْ لبيان الجنس فيقع نهيه عن رجس الأوثان فيقع نهيها في غير هذا الموضع، والمعنى الثاني أن تكون مَنْ لابتداء الغاية فكأنه نهاهم عن الرجس عاما ثم عين لهم مبدأ الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس، ويظهر أن الإشارة إلى الذبائح التي كانت للأوثان فيكون هذا مما يتلى عليهم، ومن قال مَنْ للتبعيض قلب معنى الآية ويفسده، والمروي عن ابن عباس وابن جريج أن الآية نهي عن عبادة الأوثان، والزُّورِ، عام في الكذب والكفر وذلك أن كل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور، وقال ابن مسعود وابن جريج: إن رسول الله ﷺ قال: «عدلت شهادة الزور بالشرك»، وتلا هذه الآية، والزُّورِ مشتق من الزور وهو الميل ومنه في جانب فلان زور ويظهر أن الإشارة في زور أقوالهم في تحريم وتحليل مما كانوا قد شرعوه في الأنعام، وحُنَفاءَ، معناه مستقيمين أو مائلين إلى الحق بحسب أن لفظة الحنف من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل، وحُنَفاءَ نصب على الحال، وقال قوم حُنَفاءَ معناه حجاجا ع وهذا تخصيص لا حجة معه، وغَيْرَ مُشْرِكِينَ، يجوز أن يكون حالا أخرى، ويجوز أن يكون صفة لقول حُنَفاءَ ثم ضرب تعالى مثلا للمشرك بالله أظهره في غاية السقوط وتحمل والانبتات من النجاة بخلاف ما ضرب للمؤمن في قوله فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [البقرة: ٢٥٦] ومنه قول علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله فلأن أخر من السماء إلى الأرض أهون علي من أن أكذب عليه، الحديث. وقرأ نافع وحده «فتخطّفه الطير» بفتح الخاء وشد الطاء على حذف تاء التفعل وقرأ الباقون «فتخطفه» بسكون الخاء وتخفيف الطاء، وقرأ الحسن فيما روي عنه «فتخطّفه» بكسر التاء والخاء وفتح الطاء مشددة، وقرأ أيضا الحسن وأبو رجاء بفتح التاء وكسر الخاء والطاء وشدها، وقرأ الأعمش
«من السماء تخطفه» بغير فاء وعلى نحو قراءة الجماعة وعطف المستقبل على الماضي لأنه بتقدير فهو تخطفه الطير، وقرأ أبو جعفر، «الرياح»، و «السحيق» البعيد ومنه قولهم أسحقه الله ومنه قوله عليه السلام «فسحقا فسحقا» ومنه نخلة سحوق للبعيدة في السماء.
120
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)
التقدير في هذا الموضع الأمر ذلك، و «الشعائر» جمع شعيرة وهي كل شيء لله تعالى، فيه أمر أشعر به وأعلم، قالت فرقة: قصد ب «الشعائر» في هذه الآية الهدي والأنعام المشعرة، ومعنى تعظيمها تسميتها والاهتبال بأمرها والمغالاة بها قاله ابن عباس ومجاهد وجماعة، وعود الضمير في «إنها» على التعظمة والفعلة التي يتضمنها الكلام، وقرأ «القلوب» بالرفع على أنها فاعلة بالمصدر الذي هو تَقْوَى، ثم اختلف المتألون في قوله لَكُمْ فِيها مَنافِعُ الآية، فقال مجاهد وقتادة: أراد أن للناس في أنعامهم منافع من الصوف واللبن وغير ذلك ما لم يبعثها ربها هديا فإذا بعثها فهو «الأجل المسمى»، وقال عطاء بن أبي رباح: أراد في الهدي المبعوث منافع من الركوب والاحتلاب لمن اضطر، و «الأجل» نحرها وتكون ثُمَّ لترتيب الجمل، لأن المحل قبل الأجل ومعنى الكلام عند هاتين الفرقتين ثُمَّ مَحِلُّها إلى موضع النحر فذكر الْبَيْتِ لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وغيره، وقال ابن زيد وابن عمر والحسن ومالك:
«الشعائر» في هذه الآية مواضع الحج كلها ومعالمه بمنى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك، وفي الآية التي تأتي أن البدن من الشعائر، و «المنافع» التجارة وطلب الرزق، ويحتمل أن يريد كسب الأجر والمغفرة، وبكل احتمال قالت فرقة و «الأجل» الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة وقوله، مَحِلُّها مأخوذ من إحلال المحرم ومعناه ثم أخر هذا كله إلى طواف الإفاضة ب الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، ف الْبَيْتِ على هذا التأويل مراد بنفسه، قاله مالك في الموطأ، ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل أمة من الأمم المؤمنة مَنْسَكاً أي موضع نسك وعبادة وهذا على أن المنسك ظرف كالمذبح ونحوه، ويحتمل أن يريد به المصدر، كأنه قال عبادة ونحو هذا، والناسك العابد، وقال مجاهد: سنة في هراقة دماء الذبائح، وقرأ معظم القراء «منسكا» بفتح السين وهو من نسك ينسك بضم السين في المستقبل، وقرأ حمزة والكسائي «منسكا» بكسر السين قال أبو علي: الفتح أولى لأنه إما المصدر وإما المكان وكلاهما مفتوح والكسر في هذا من الشاذ في اسم المكان أن يكون مفعل من فعل يفعل مثل مسجد من سجد يسجد، ولا يسوغ فيه القياس، ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب. وقوله لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله وأن يكون الذبح له لأنه رازق ذلك، ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه فالإله واحد لجميعكم بالأمر كذلك في الذبيحة إنما ينبغي أن تخلص له، وأَسْلِمُوا معناه لحقه ولوجهه ولإنعامه آمنوا وأسلموا، ويحتمل أن يريد الاستسلام ثم أمر تعالى نبيه ﷺ أن يبشر بشارة على الإطلاق وهي أبلغ من المفسرة لأنها مرسلة مع نهاية التخيل،
والْمُخْبِتِينَ المتواضعين الخاشعين من المؤمنين، والخبت ما انخفض من الأرض والمخبت المتواضع الذي مشيه متطامن كأنه في حدود من الأرض وقال عمرو بن أوس المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مثال شريف من خلق المؤمن الهين اللين، وقال مجاهد: هم المطمئنون بأمر الله، ووصفهم تعالى بالخوف والوجل عند ذكر الله، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه، ووصفهم بالصبر وبإقامة الصلاة وإدامتها، وقرأ الجمهور «الصلاة» بالخفض، وقرأ ابن أبي إسحاق «الصلاة» بالنصب على توهم النون وأن حذفها للتخفيف، ورويت عن أبي عمرو، وقرأ الأعمش «والمقيمين الصلاة» بالنون والنصب في «الصلاة»، وقرأ الضحاك «والمقيم الصلاة»، وروي أن هذه الآية، قوله وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
البدن جمع بدنة وهي ما أشعر من ناقة أو بقرة، قاله عطاء وغيره وسميت بذلك لأنها تبدن أي تسمن، وقيل بل هذا الاسم خاص بالإبل، وقالت فرقة الْبُدْنَ جمع بدن بفتح الدال والباء ثم اختلفت، فقال بعضها الْبُدْنَ مفرد اسم جنس يراد به العظيم السمين من الإبل والبقر، ويقال للمسلمين من الرجال بدن، وقال بعضها الْبُدْنَ جمع بدنة كثمرة وثمر، وقرأ الجمهور «والبدن» ساكنة الدال، وقرأ أبو جعفر وشيبة والحسن وابن أبي إسحاق «البدن» بضم الدال، فيحتمل أن يكون جمع بدنة كثمر، وعدد الله تعالى في هذه الآية نعمته على الناس في هذه الْبُدْنَ، وقد تقدم القول في «الشعائر»، و «الخير» قيل فيه ما قيل في المنافع التي تقدم ذكرها والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة، وقوله، عَلَيْها يريد عند نحرها، وقرأ جمهور الناس «صوافّ» بفتح الفاء وشدها جمع صافّة أي مصطفة في قيامها، وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري وشقيق وسليمان التيمي والأعرج «صوافي» جمع صافية أي خالصة لوجه الله تعالى لا شركة فيها لشيء كما كانت الجاهلية تشرك، وقرأ الحسن أيضا «صواف» بكسر الفاء وتنوينها مخففة وهي بمعنى التي قبلها لكن حدفت الياء تخفيفا على غير قياس وفي هذا نظر، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جعفر محمد بن علي «صوافن» بالنون جمع صافنة وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب، والصافن من الخيل الرافع لفراهيته إحدى يديه وقيل إحدى رجنيه ومنه قوله تعالى: الصَّافِناتُ الْجِيادُ [ص: ٣١].
وقال عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه... مقلدة أعنتها صفونا
ووَجَبَتْ، معناه سقطت بعد نحرها، ومنه وجبت الشمس، ومنه قول أوس بن حجر: ألم تكسف الشمس والبدر والكواكب للجبل الواجب، وقوله «كلوا» ندب، وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هديه وفيه أجر وامتثال إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم، وقال مجاهد وإبراهيم والطبري: هي إباحة، والْقانِعَ، السائل يقال قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل، بفتح النون في الماضي، وقنع بكسر النون يقنع قناعة فهو قنع إذا تعفف واستغنى، قاله الخليل ومن الأول قول الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع
فمحرور القول من أهل العلم قالوا الْقانِعَ السائل وَالْمُعْتَرَّ المتعرض من غير سؤال، قاله محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن، وعكست فرقة هذا القول، حكى الطبري عن ابن عباس أنه قال الْقانِعَ المستغني بما أعطيه وَالْمُعْتَرَّ المتعرض، وحكي عنه أنه قال الْقانِعَ المتعفف وَالْمُعْتَرَّ السائل، وحكي عن مجاهد أنه قال الْقانِعَ الجار وإن كان غنيا، وقرأ أبو رجاء «القنع» فعلى هذا التأويل معنى الآية أطعموا المتعفف الذي لا يأتي متعرضا والمتعرض، وذهب أبو الفتح بن جني إلى أنه أراد القانع فحذف الألف تخفيفا وهذا بعيد لأن توجيه على ما ذكرته آنفا أحسن وإنما يلجأ إلى هذا إذا لم توجد مندوحة، وقرأ أبو رجاء وعمرو بن عبيد «المعتري» والمعنى واحد، وروي عن أبي رجاء «والمعتر» بتخفيف الراء وقال الشاعر: [الطويل]
لعمرك ما المعتر يغشى بلادنا لنمنعه بالضائع المتهضم
وذهب ابن مسعود إلى أن الهدي أثلاث، وقال جعفر بن محمد عن أبيه: أطعم الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ثلثا، والبائس الفقير ثلثا، وأهلي ثلثا، وقال ابن المسيب: ليس لصاحب الهدي منه إلا الربع وهذا كله على جهة الاستحسان لا على الفرض، ثم قال كَذلِكَ أي كما أمرناكم فيها بهذا كله سَخَّرْناها لَكُمْ، ولَعَلَّكُمْ، ترجّ في حقنا وبالإضافة إلى نظرنا، وقوله، يَنالَ عبارة مبالغة وتوكيد وهي بمعنى لن يرتفع عنده ويتحصل سبب ثواب، وقال ابن عباس إن أهل الجاهلية كانوا يضرجون البيت بالدماء فأراد المؤمنون فعل ذلك فنهى الله عن ذلك ونزلت هذه الآية، والمعنى ولكن ينال الرفعة عنده والتحصيل حسنة لديه، التَّقْوى، أي الإخلاص والطاعات، وقرأ مالك بن دينار والأعرج وابن يعمر والزهري، «تنال وتناله»، بتاء فيهما، والتسمية والتكبير على الهدي والأضحية هو أن يقول الذابح باسم الله والله أكبر، وروي أن قوله وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ، نزلت في الخلفاء الأربعة حسبما تقدم في التي قبلها فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠)
123
روي أن هذه الآية نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر فنزلت هذه الآية إلى قوله كَفُورٍ، ووكد فيها بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر، وقرأ نافع والحسن وأبو جعفر «يدافع» «ولولا دفاع»، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «يدفع» «ولولا دفع»، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «يدافع» «ولولا دفع»، قال أبو علي أجريت «دافع» في هذه القراءة مجرى «دفع» كعاقبت اللص وطابقت النعل فجاء المصدر دفعا، قال أبو الحسن والأخفش: أكثر الكلام أن الله «يدفع» ويقولون دافع الله عنك إلا أن دفع أكثر.
قال القاضي أبو محمد: فحسن في الآية يُدافِعُ لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء معارضته ودفعه مدافعة عنهم، وحكى الزهراوي أن دفاعا مصدر دفع كحسبت حسابا، ثم أذن الله تعالى في قتال المؤمنين لمن قاتلهم من الكفار بقوله أُذِنَ وصورة الإذن مختلفة بحسب القراءات فبعضها أقوى من بعض، فقرأ نافع وحفص عن عاصم «أذن» بضم الألف «يقاتلون» بفتح التاء، أي في أن يقاتلهم فالإذن في هذه القراءة ظاهر أنه في مجازات، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والحسن والزهري «أذن» بفتح الألف «يقاتلون» بكسر التاء، فالإذن في هذه القراءة في ابتداء القتال، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «أذن» بفتح الألف «يقاتلون» بكسر التاء، وقرأ ابن عامر بفتح الألف والتاء جميعا، وهي في مصحف ابن مسعود «أذن للذين يقاتلون في سبيل الله» بكسر التاء، وفي مصحف أبي «أذن» بضم الهمزة «للذين قاتلوا»، وكذلك قرأ طلحة والأعمش إلا أنهما فتحا همزة «أذن» وقوله بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا معناه كان الإذن بسبب أنهم ظلموا، قال ابن جريج: وهذه الآية أول ما نقض الموادعة، قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند هجرة النبي ﷺ إلى المدينة، وقال أبو بكر الصديق لما سمعتها علمت أنه سيكون قتال، وقال مجاهد الآية في مؤمنين بمكة أرادوا الهجرة إلى المدينة فمنعوا وما بعد هذا في الآية يرد هذا القول لأن هؤلاء منعوا الخروج لا أخرجوا، ثم وعد تعالى بالنصر في قوله وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، وقوله الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ يريد كل من نبت به مكة وآذاه أهلها حتى أخرجوا بإذايتهم طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة، ونسب الإخراج إلى الكفار لأن الكلام في معرض تقرير الذنب وإلزامه، وقوله إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ استثناء منقطع ليس من الأول هذا قول سيبويه ولا يجوز عنده فيه البدل وجوزه أبو إسحاق، والأول أصوب، وقوله وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ الآية تقوية للأمر بالقتال وذكر الحجة بالمصلحة فيه وذكر أنه متقدم في الاسم وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال أذن في القتال فليقاتل المؤمنون ولولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة، هذا أصوب تأويلات الآية، ثم ما قيل بعد من مثل الدفاع تبع للجهاد، وقال مجاهد وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا، ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المعنى ولولا دفع الله بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم وهذا كله فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق بما تقدم من الآية، وقالت فرقة
124
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ العذاب بدعاء الفضلاء ونحوه وهذا وما شاكله مفسد لمعنى الآية وذلك أن الآية تقتضي ولا بد مدفوعا من الناس ومدفوعا عنه فتأمله، وقرأ نافع وابن كثير «لهدمت» مخففة الدال، وقرأ الباقون «لهدّمت» مشددة وهذه تحسن من حيث هي صوامع كثيرة ففي هدمها تكرار وكثرة كما قال بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: ٧٨] فثقل الياء وقال قَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: ٤٥] فخفف لكونه فردا وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ [يوسف: ٤٣] ومُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: ٥٠] و «الصومعة» موضع العبادة وزنها فوعلة وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى، والأصمع من الرجال الحديد القول وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين، قاله قتادة، ثم استعمل في مئذنة المسلمين والبيع كنائس النصارى واحدتها بيعة قال الطبري: وقيل هي كنائس اليهود ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك، و «الصلوات» مشتركة لكل ملة واستعير الهدم للصلوات من حيث تعطل، أو أراد وموضع صلوات، وذهبت فرقة إلى أن الصلوات اسم لشنائع اليهود وأن اللفظة عبرانية عربت وليست بجمع صلاة، وقال أبو العالية الصلوات مساجد الصابئين، واختلفت القراءة فيها فقرأ جمهور الناس «صلوات» بفتح الصاد واللام وبالتاء بنقطتين وذلك إما بتقدير ومواضع صلوات وإما على أن تعطيل الصلاة هدمها، وقرأ جعفر بن محمد «صلوات» بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأت فرقة بكسر الصاد وسكون اللام حكاها ابن جني، وقرأ الجحدري فيما روي عنه «وصلوات» بتاء بنقطتين من فوق وبضم الصاد واللام على وزن فعول قال وهي مساجد
النصارى، وقرأ الجحدري والحجاج بن يوسف «وصلوب» بضم الصاد واللام وبالباء على أنه جمع صليب، وقرأ الضحاك والكلبي «وصلوث» بضم الصاد واللام وبالثاء منقوطة ثلاثا قالوا وهي مساجد اليهود، وقرأت فرقة «صلوات» بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأت فرقة «صلوات» بضم الصاد واللام حكاها ابن جني، وقرأت فرقة «صلوثا» بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء، وحكى ابن جني أن خارج باب الموصل بيوتا يدفن فيها النصارى يقال لها «صلوت»، وقرأ عكرمة ومجاهد «صلويثا» بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء قال القاضي: وذهب خصيف إلى أن هذه الأسماء قصد بها متعبدات الأمم، و «الصوامع» للرهبان ع وقيل للصابئين، و «البيع» للنصارى، و «الصلوات» لليهود و «المساجد» للمسلمين والأظهر أنها قصد بها المبالغة بذكر المتعبدات وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بانصارى في عرف لغة العرب، ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر ولم يذكر في هذه المجوس ولا أهل الاشتراك لأن هؤلاء ليس لهم ما تجب حمايته ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع، وقوله يُذْكَرُ فِيهَا الضمير عائد على جميع ما تقدم ثم وعد الله تعالى بنصره نصرة دينه وشرعه، وفي ذلك حض على القتال والجد فيه ثم الآية تعم كل من نصر حقا إلى يوم القيامة.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤)
قالت فرقة: هذه الآية في الخلفاء الأربعة ومعنى هذا التخصيص أن هؤلاء خاصة مكنوا في الأرض من جملة الذين يقاتلون المذكورين في صدر الآية، والعموم في هذا كله أبين وبه يتجه الأمر في جميع الناس، وإنما الآية آخذة عهدا على كل من مكنه الله، كل على قدر ما مكن، فأما الصَّلاةَ والزَّكاةَ فكل مأخوذ بإقامتها وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكل بحسب قوته والآية أمكن ما هي في الملوك، و «المعروف» والْمُنْكَرِ يعمان الإيمان والكفر فما دونهما، وقالت فرقة: نزلت هذه الآية في أصحاب محمد ﷺ خاصة من الناس وهذا على أن الَّذِينَ بدل من قوله يُقاتَلُونَ [الحج: ٣٩] أو على أن الَّذِينَ تابع ل مِنْ في قوله مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج: ٤٠]، وقوله وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ توعد للمخالف عن هذه الأوامر التي تقتضيها الآية لمن مكن، وقوله وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ يعني قريشا وهذه آية تسلية للنبي عليه السلام ووعيد لقريش، وذلك أنه مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة وأسند فعلا فيه علامة التأنيث إلى قوم من حيث أراد الأمة والقبيلة ليطرد القول في عادٌ وَثَمُودُ وقَوْمُ نُوحٍ هم أول أمة كذبت نبيها ثم أسند التكذيب في موسى عليه السلام إلى من لم يسم من حيث لم يكذبه قومه بل كذبه القبط وقومه به مؤمنون، و «أمليت»، معناه فأمهلت وكأن الإمهال أن تمهل من تنوي فيه المعاقبة، وأنت في حين إمهالك عالم بفعله. و «النكير»، مصدر كالعذير بمعنى الإنكار والإعذار وهو في هذه المصادر بناء مبالغة فمعنى هذه الآية فكما فعلت بهذه الأمم كذلك أفعل بقومك.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)
«كأين» هي كاف التشبيه دخلت على «أي» قاله سيبويه وقد أوعبت القول في هذه اللفظة وقراءتها في سورة آل عمران في قوله وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ [آل عمران: ١٤٦]، وهي لفظة إخبار وقد تجيء استفهاما، وحكى الفراء «كأين مالك»، وقرأت فرقة «أهلكناها»، وقرأت فرقة «أهلكتها»، بالإفراد والمراد أهل القرية وظالِمَةٌ معناه بالكفر، وخاوِيَةٌ، معناه خالية ومنه خوى النجم إذا خلا من النور، ونحوه ساقطة عَلى عُرُوشِها، والعروش السقوف والمعنى أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها فهي
على العروش، وَبِئْرٍ، قيل هو معطوف على «العروش» وقيل على «القرية» وهو أصوب، وقرأت فرقة «وبيئر» بهمزة وسهلها الجمهور، وقرأت فرقة «معطلة» بفتح الميم وسكون العين وفتح الطاء وتخفيفها، والجمهور على «معطّلة» بضم الميم وفتح العين وشد الطاء، و «المشيد» المبني بالشيد وهو الجص، وقيل «المشيد» المعلى بالآجر ونحو. فمن الشيد قول عدي بن زيد:
شاده مرمرا وجلله كلسا فللطير في ذراه وكور
شاد، بنى، بالشيد والأظهر في البيت أنه أراد علاه بالمرمر. وقالت فرقة في هذه الآية إن مَشِيدٍ معناه معلى محصنا، وجملة معنى الآية تقتضي أنه كان كذلك قبل خرابه ثم وبخهم على الغفلة وترك الاعتبار بقوله، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي في البلاد فينظروا في أحوال الأمم المكذبة المعذبة، وهذه الآية تقتضي أن العقل في القلب وذلك هو الحق ولا ينكر أن للدماغ اتصالا بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ، فَتَكُونَ، نصب بالفاء في جواب الاستفهام صرف الفعل من الجزم إلى النصب، وقوله فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، لفظ مبالغة كأنه قال: ليس العمى عمى العين وإنما العمى حق العمى عمى القلب، ومعلوم أن الأبصار تعمى ولكن المقصد ما ذكرناه، وهذا كقوله عليه السلام، «ليس الشديد بالصرعة وليس المسكين بهذا الطواف». والضمير في فَإِنَّها للقصة ونحوها من التقدير وقوله الَّتِي فِي الصُّدُورِ، مبالغة كقوله يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران: ١٦٧] كما تقول: نظرت إليه بعيني ونحو هذا، والضمير في يَسْتَعْجِلُونَكَ لقريش، وقوله وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وعد ووعيد وإخبار بأن كل شيء إلى وقت محدود، و «الوعد» هنا مقيد بالعذاب فلذلك ورد في مكروه، وقوله وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ، قالت فرقة: معناه وَإِنَّ يَوْماً من أيام عذاب الله كَأَلْفِ سَنَةٍ مما تعدون من هذه لطول العذاب وبؤسه، فكأن المعنى فما أجهل من يستعجل هذا وقالت فرقة معناه وَإِنَّ يَوْماً عند الله لإحاطته فيه وعلمه وإنفاذه قدرته كَأَلْفِ سَنَةٍ عندكم ع وهذا التأويل يقتضي أن عشرة آلاف سنة وإلى ما لا نهاية له من العدد في حكم الألف ولكنهم قالوا ذكر الألف لأنه منتهى العدد دون تكرار فاقتصر عليه ع وهذا التأويل لا يناسب الآية، وقالت فرقة: إن المعنى أن اليوم عند الله كألف سنة من هذا العدد، من ذلك قول النبي ﷺ «إني لأرجو أن تؤخر أمتي نصف يوم»، وقوله «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم» ذلك خمسمائة سنة، ومنه قول ابن عباس: مقدار الحساب يوم القيامة ألف سنة فكأن المعنى وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله وكرر قوله وَكَأَيِّنْ لأنه جلب معنى آخر ذكر أولا القرى المهلكة دون إملاء بل بعقب التكذيب ثم ثنى بالمهملة لئلا يفرح هؤلاء بتأخير العذاب عنهم، وقرأت فرقة «تعدون» بالتاء، وقرأت فرقة «يعدون» بالياء على الغائب.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٩ الى ٥٤]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤)
127
المعنى قُلْ يا محمد إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ عذاب ليس إلي أن أعجل عذابا ولا أن أؤخره عن وقته، ثم قسم حالة المؤمنين والكافرين بأن للمؤمنين سترة ذنوبهم ورزقه إياهم في الجنة، و «الكريم» صفة نفي المذام، كما تقول ثوب كريم، وأن للكافرين المعاجزين عذاب الْجَحِيمِ وهذا كله مما أمره أن يقوله، أي هذا معنى رسالتي لا ما تتمنون أنتم، وقوله سَعَوْا معناه تحيلوا وكادوا من السعاية، و «الآيات» :
القرآن، أو كادوه بالتكذيب وسائر أقوالهم، وقرأت فرقة، «معاجزين»، ومعناه مغالبين كأنهم طلبوا عجز صاحب الآيات والآيات تقتضي تعجيزهم فصارت مفاعلة، وعبر بعض الناس في تفسير مُعاجِزِينَ بظانين أنهم يفلتون الله وهذا تفسير خارج عن اللفظة، وقرأت فرقة «معجّزين» بغير ألف وبشد الجيم ومعناه معجزين الناس أي جاعلوهم بالتثبيط عجزة عن الإيمان وقال أبو علي: «معجزين» ناسبين أصحاب النبي إلى العجز كما تقول فسّقت فلانا وزنيته إذا نسبته إلى ذلك، وقوله وَما أَرْسَلْنا الآية تسلية للنبي عليه السلام عن النازلة التي ألقى الشيطان فيها في أمنية النبي عليه السلام، وتَمَنَّى معناه المشهور أراد وأحب، وقالت فرقة هو معناها في الآية، والمراد أن الشيطان ألقى ألفاظه بسبب ما تمناه رسول الله ﷺ من مقاربة قومه وكونهم متبعين له قالوا: فلما تمنى رسول الله من ذلك ما لم يقضه الله وجد الشيطان السبيل، فحين قرأ رسول الله ﷺ النجم في مسجد مكة وقد حضر المسلمون والمشركون بلغ إلى قوله أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: ٢٠] ألقى الشيطان تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترجى قال الكفار هذا محمد يذكر آلهتنا بما نريد وفرحوا بذلك، فلما انتهى إلى السجدة سجد الناس أجمعون إلا أمية بن خلف فإنه أخذ قبضة من تراب ثم رفعها إلى جبهته وقال يكفيني هذا، قال البخاري: هو أمية بن خلف، وقال بعض الناس: هو الوليد بن المغيرة، وقال بعض الناس: هو أبو أحيحة سعيد بن العاصي ثم اتصل بمهاجرة الحبشة أن أهل مكة اتبعوا محمدا ففرحوا بذلك وأقبل بعضهم فوجد ألقية الشيطان قد نسخت وأهل مكة قد ارتبكوا وافتتنوا، وقالت فرقة تَمَنَّى معناه تلا والأمنية التلاوة ومنه قول الشاعر: [الطويل]
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
ومنه قول الآخر: [الطويل] «تمنى داود الزبور على رسل» وتأولوا قوله تعالى «إلا أماني» أي إلا تلاوة، وقالت هذه الفرقة في معنى سبب «إلقاء الشيطان» في تلاوة النبي عليه السلام ما تقدم آنفا من ذكر الله.
128
قال القاضي أبو محمد: وهذا الحديث الذي فيه هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها ولم يدخله البخاري ولا مسلم ولا ذكره في علمي مصنف مشهور بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن «الشيطان ألقى» ولا يعينون هذا السبب ولا غيره، ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة بها وقعت الفتنة، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي ﷺ تكلم بتلك الألفاظ وأن الشيطان أوهمه ووسوس في قلبه حتى خرجت تلك الألفاظ على لسانه، ورووا أنه نزل إليه جبريل بعد ذلك فدراسه سورة النجم فلما قالها رسول الله ﷺ قال له جبريل لم آتك بهذا، فقال رسول الله ﷺ «افتريت على الله وقلت ما لم يقل لي» وجعل يتفجع ويغتم فنزلت هذه الآية وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ، ع وحدثني أبي رضي الله عنه أنه لقي بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال: هذا لا يجوز على النبي ﷺ وهو المعصوم في التبليغ وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي ﷺ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: ٢٠] وصوب صوته من صوت النبي ﷺ حتى التبس الأمر على المشركين وقالوا محمد قرأها ع وتَمَنَّى على هذا التأويل بمعنى تلا ولا بد، وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي ع و «الرسول» أخص من النبي وكثير من الأنبياء لم يرسلوا وكل رسول نبي، و «النسخ» في هذه الآية الإذهاب، كما تقول نسخت الشمس الظل وليس يرفع ما استقر من الحكم، ع وطرق الطبري وأشبع الإسناد في أن إلقاء الشيطان كان على لسان النبي عليه السلام واختلفت الروايات في الألفاظ ففي بعضها تلك الغرانقة، وفي بعضها تلك الغرانيق، وفي بعضها وإن شفاعتهن وفي بعضها منها الشفاعة ترتجى ع والغرانيق معناه السادة العظام الأقدار، ومنه قول الشاعر:
«أهلا بصائدة الغرانق» وقوله لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ الآية، اللام في قوله لِيَجْعَلَ متعلقة بقوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ و «الفتنة» الامتحان والاختبار، والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم، عامة الكفار، والقاسية قلوبهم خواص منهم عتاة كأبي جهل والنضر وعقبة، و «الشقاق»، البعد عن الخير، والضلال والكون في شق الصلاح، وبَعِيدٍ، معناه أنه انتهى بهم وتعمق فرجعتهم منه غير مرجوة، والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هم أصحاب محمد رسول الله عليه السلام، والضمير في أَنَّهُ عائد على القرآن و «تخبت» معناه تتطامن وتخضع وهو مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض، وقرأت فرقة «لهاد» بغير ياء بعد الدال، وقرأت فرقة: «لهادي» بياء، وقرأت فرقة «لهاد» بالتنوين وترك الإضافة وهذه الآية معادلة لقوله، قبل وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٥ الى ٦٢]
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)
129
«المرية» الشك، والضمير في قوله مِنْهُ قالت فرقة هو عائد على القرآن، وقالت فرقة: على محمد عليه السلام، وقالت فرقة: على ما أَلْقَى الشَّيْطانُ [الحج: ٥٢]، وقال سعيد بن جبير أيضا على سجود النبي ﷺ في سورة النجم، والسَّاعَةُ، قالت فرقة: أراد يوم القيامة، «واليوم العقيم»، يوم بدر، وقالت فرقة: السَّاعَةُ، موتهم أو قتلهم في الدنيا كيوم بدر ونحوه، و «اليوم العقيم»، يوم القيامة، ع وهذان القولان جيدان لأنهما أحرزا التقسيم ب أَوْ ومن جعل السَّاعَةُ و «اليوم العقيم»، يوم القيامة، فقد أفسد رتبة أَوْ، وسمي يوم القيامة أو يوم الاستئصال عقيما لأنه لا ليلة بعده ولا يوم، والأيام كأنها نتائج لمجيء واحد إثر واحد، فكأن آخر يوم قد عقم وهذه استعارة، وجملة هذه الآية توعد، وقوله الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ، السابق منه أنه في يوم القيامة من حيث لا ملك فيه لأحد من ملوك الدنيا، ويجوز أن يريد به يوم بدر ونحوه من حيث ينفذ فيه قضاء الله وحده ويبطل ما سواه ويمضي حكمه فيمن أراد تعذيبه، فأما من تأوله في يوم القيامة فاتسق له قوله فَالَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله مُهِينٌ، ومن تأوله في يوم بدر ونحوه جعل قوله «فالذين آمنوا»، ابتداء خبر عن حالهم المتركبة على حالهم في ذلك اليوم العقيم من الإيمان والكفر. وقوله وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية ابتداء معنى آخر وذلك أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه فنزلت هذه الآية مسوية بينهم في أن الله تعالى يرزق جميعهم رِزْقاً حَسَناً وليس هذا بقاض بتساويهم في الفضل، وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل، وقال بعض الناس: المقتول والميت في سبيل الله شهيدان، ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله، و «الرزق الحسن»، يحتمل أن يريد به رزق الشهداء عند ربهم في البرزخ ويحتمل أن يريد بعد يوم القيامة في الجنة، وقرأت فرقة، «مدخلا»، بضم الميم من أدخل فهو محمول على الفعل المذكور، وقرأت فرقة «مدخلا» بفتح الميم من دخل فهو محمول على فعل مقدر تقديره فيدخلون مدخلا، وأسند الطبري عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميرا على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والآخر متوفى فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل، فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل وتفضلونه فو الذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اقرؤوا قول الله تعالى وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية، إلى قوله حَلِيمٌ وقوله تعالى: ذلِكَ، إلى قوله الْكَبِيرُ المعنى الأمر ذلك، ثم أخبر تعالى عمن عاقب من المؤمنين من ظلمه من الكفرة ووعد المبغي
130
عليه بأنه ينصره وسمى الذنب في هذه الآية باسم العقوبة كما تسمى العقوبة كثيرا باسم الذنب وهذا كله تجوز واتساع، وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كفار في أشهر الحرم فأبى المؤمنون من قتالهم وأبى المشركون إلا القتال فلما اقتتلوا جد المؤمنون ونصرهم الله، فنزلت هذه الآية فيهم، وقوله ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، معناها نصر الله أولياءه ومن بغي عليه بأنه القادر على العظائم الذي لا تضاهى قدرته فأوجزت العبارة بأن أشار ب ذلِكَ إلى النصر وعبر عن القدرة بتفصيلها فذكر منها مثلا لا يدعى لغير الله تعالى، وجعل تقصير الليل وزيادة النهار وعكسهما إيلاجا تجوزا وتشبيها، وقوله ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ معناه نحو ما ذكرناه، وقرأت فرقة «وأن» بفتح الألف، وقرأت فرقة «وإن» بكسر الألف، وقرأت فرقة «تدعون» بالتاء من فوق، وقرأت فرقة «يدعون»، والإشارة بما يدعى من دونه، قالت فرقة هي إلى الشيطان، وقالت فرقة هي إلى الأصنام والعموم هنا حسن.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٥]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥)
أَلَمْ تَرَ تنبيه وبعده خبر أَنَّ اللَّهَ تعالى أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فظلت الْأَرْضُ تخضر عنه، وقوله فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ بمنزلة قوله فتضحي أو فتصير عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة، ورفع قوله فَتُصْبِحُ من حيث الآية خبر والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها جوابا لقوله أَلَمْ تَرَ فاسد المعنى، وروي عن عكرمة أنه قال: هذا لا يكون إلا بمكة وتهامة ومعنى هذا أنه أخذ قوله فَتُصْبِحُ مقصودا به صباح ليلة المطر وذهب إلى أن ذلك الاخضرار في سائر البلاد يتأخر.
قال القاضي أبو محمد: وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر بعد قحط وأصبحت تلك الأرض التي تسقيها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف دقيق، وقرأ الجمهور «مخضرة»، و «اللطيف» المحكم للأمور برفق، واللام في لَهُ ما فِي السَّماواتِ لام الملك والمعنى الذي لا حاجة به إلى شيء هكذا هو على الإطلاق، وقوله سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ يريد من الحيوان والمعادن وسائر المرافق، وقرأ الجمهور «والفلك» بالنصب، وذلك يحتمل وجهين من الإعراب أحدهما أن يكون عطفا على ما بتقدير وسخر الفلك، والآخر أن يكون عطفا على المكتوبة بتقدير وإن الفلك وقوله، تَجْرِي على الإعراب الأول. في موضع الحال، وعلى الإعراب الثاني في موضع الخبر. وقرأت فرقة «والفلك» بالرفع فتجري خبر على هذه القراءة. قوله: بِإِذْنِهِ يحتمل أن يريد يوم القيامة كأن طيّ السماء ونقض هذه الهيئة كوقوعها، ويحتمل أن يريد بذلك الوعيد لهم في أنه إن أذن في سقوط لكسفها عليهم سقطت، ويحتمل أن
يعود قوله إِلَّا بِإِذْنِهِ على «الإمساك» لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه، فكأنه أراد إلا بإذنه فيه يمسكها، وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٦ الى ٦٩]
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩)
الإحياء والإماتة في هذه الآية ثلاث مراتب وسقط منها الموت الأول الذي نص عليه في غيرها إلا أنه بالمعنى في هذه، و «المنسك» المصدر فهو بمعنى العبادة والشرعة، وهو أيضا موضع النسك، وقرأت فرقة بفتح السين وفرقة بكسرها وقد تقدم القول فيه في هذه السورة وقوله هُمْ ناسِكُوهُ يعطي أن المنسك المصدر ولو كان الموضع لقيل هم ناسكون فيه، وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح، وقولهم للمؤمنين تأكلون ما ذبحتم فهو من قتلكم ولا تأكلون ما قتل الله من الميتة فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة، وقوله فَلا يُنازِعُنَّكَ هذه البينة من الفعل والنهي تحتمل معنى التخويف، وتحتمل معنى احتقار الفاعل وأنه أقل من أن يفاعل وهذا هو المعنى في هذه الآية، وقال أبو إسحاق: المعنى فلا تنازعهم فينازعوك ع وهذا التقدير الذي قدر إنما يحسن مع معنى التخويف، وإنما يحسن أن يقدر هنا فلا يد لهم بمنازعتك، فالنهي إنما يراد به معنى من غير اللفظ، كما يراد في قولهم لا أرينك هاهنا أي لا تكن هاهنا، وقرأت فرقة «فلا ينزعنّك»، وقوله فِي الْأَمْرِ معناه على التأويل أن المنسك الشرعة لا ينازعنك في الدين والكتاب ونحوه، وعلى أن المنسك موضع الذبح على ما روت الفرقة المذكورة من أن الآية نزلت في الذبائح يكون الأمر الذبح، و «الهدى» في هذه الآية الإرشاد، وقوله وَإِنْ جادَلُوكَ الآية موادعة محضة نسختها آية السيف، وباقي الآية وعيد.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)
لما أخبر تعالى في الآية قبلها أنه يحكم بين الناس يوم القيامة فيما اختلفوا فيه أتبع ذلك الخبر بأن
عنده علم كل شيء ليقع الحكم في معلوم، فخرجت العبارة على طريق التنبيه على علم الله تعالى وإحاطته وإِنَّ ذلِكَ كله فِي كِتابٍ وهو اللوح المحفوظ وقوله: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، يحتمل أن تكون الإشارة إلى كون ذلك في كتاب وكونه معلوما، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى الحكم في الاختلاف. ثم ذكر تعالى على جهة التوبيخ فعل الكفرة في أنهم يَعْبُدُونَ من الأصنام مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ الله فيه حجة ولا برهانا. و «السلطان»، الحجة حيث وقع في القرآن، وقوله وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ، توعد، والضمير في عَلَيْهِمْ عائد على كفار قريش، والمعنى أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن من النبي عليه السلام أو من أحد من أصحابه وسمعوا ما فيه من رفض آلهتهم والدعاء إلى التوحيد عرفت المساءة في وجوههم والمنكر من معتقدهم وعداوتهم وأنهم يريدون ويتسرعون إلى السطوة بالتالي، والمعنى أنهم يَكادُونَ يَسْطُونَ دهرهم أجمع، وأما في الشاذ من الأوقات فقد سطا بالتالين نحو ما فعل بعبد الله بن مسعود وبالنبي عليه السلام حين أغاثه، وحل الأمر أبو بكر، وبعمر حين أجاره العاصي بن وائل وأبي ذر وغير ذلك، والسطو إيقاع بمباطشة أو أمر بها، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم على جهة الوعيد والتقريع أَفَأُنَبِّئُكُمْ أي أخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ والإشارة ب ذلِكُمُ إلى السطو ثم ابتدأ ينبىء كأن قائلا قال له وما هو قال النَّارُ أي نار جهنم، وقوله وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، يحتمل أن يكون أراد أن الله تعالى وعدهم بالنار فيكون الوعد في الشر ونحو ذلك لما نص عليه، ولم يجىء مطلقا، ويحتمل أن يكون أراد أن الله تعالى وعد النار بأن يطعمها الكفار فيكون الوعد على بابه إذ الذي يقتضيه تسرعها إلى الكفار وقولها هل من مزيد ونحوه أن ذلك من مسارها، والْمَصِيرُ مفعل من صار إذا تحول من حال إلى حال ع، ويقتضي كلام الطبري في هذه الآية أن الإشارة ب ذلِكُمُ هي إلى أصحاب محمد التالين ثم قال: ألا أخبركم بأكره إليكم من هؤلاء أنتم الذين وعدتم النار وأسند نحو هذا القول إلى قائل لم يسمه وهذا كله ضعيف.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)
الخطاب بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ قيل هو خطاب يعم العالم، وقيل هو خطاب للمؤمنين حينئذ الذين أراد الله تعالى أن يبين عندهم خطأ الكافرين ولا شك أن المخاطب هم ولكنه خطاب يعم جميع الناس.
متى نظره أحد في عبادة الأوثان توجه له الخطاب واختلف المتأولون في فاعل، ضُرِبَ، من هو فقالت فرقة: المعنى ضُرِبَ أهل الكفر مثلا لله أصنامهم وأوثانهم فاستمعوا أنتم أيها الناس لأمر هذه الآلهة، وقالت فرقة: ضُرِبَ الله مثلا لهذه الأصنام وهو كذا وكذا، فالمثال والمثل في القول الأول هي الأصنام والذي جعل له المثال الله تعالى، والمثال في التأويل الثاني هو في الذباب وأمره والذي جعل له هي الأصنام، ومعنى ضُرِبَ أثبت وألزم وهذا كقوله ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [آل عمران: ١١٢]،
وكقولك ضربت الجزية، وضرب البعث، ويحتمل أن يكون «ضرب المثل» من الضريب الذي هو المثل ومن قولك هذا ضرب هذا فكأنه قال مثل مثل، وقرأت فرقة «يدعون» بالياء من تحت والضمير للكفار، وقرأت فرقة «يدعون» بالياء على ما لم يسم فاعله والضمير للأصنام، وبدأ تعالى ينفي الخلق والاختراع عنهم من حيث هي صفة ثابتة له مختصة به، فكأنه قال ليس لهم صفتي ثم ثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز، وذكر تعالى أمر سلب الذباب لأنه كان كثيرا محسوسا عند العرب، وذلك أنهم كانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك وكانوا متألمين من هذه الجهة فجعلت مثلا، و «الذباب» جمعه أذبة في القليل وذبان في الكثير كغراب وأغربة وغربان ولا يقال ذبابات إلا في الديون لا في الحيوان، واختلف المتأولون في قوله تعالى، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ، فقالت فرقة أراد ب الطَّالِبُ الأصنام وب الْمَطْلُوبُ الذباب، أي أنهم ينبغي أن يكونوا طالبين لما يسلب من طيبهم على معهود الأنفة من الحيوان، وقالت فرقة معناه ضعف الكفار في طلبهم الصواب والفضيلة من جهة الأصنام، وضعف الأصنام في إعطاء ذلك وإنالته ع ويحتمل أن يريد ضَعُفَ الطَّالِبُ وهو الذباب في استلابه ما على الأصنام وضعف الأصنام في أن لا منفعة لهم وعلى كل قول، فدل ضعف الذباب الذي هو محسوس مجمع عليه وضعف الأصنام عن هذا المجمع على ضعفه على أن الأصنام في أحط رتبة وأخس منزلة، وقوله ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، خطاب للناس المذكورين، والضمير في قَدَرُوا للكفار والمعنى ما وفوه حقه من التعظيم والتوحيد ثم أخبر بقوة الله وعزته وهما صفتان مناقضتان لعجز الأصنام.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧)
روي أن هذه الآية إلى قوله الْأُمُورُ نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة أأنزل عليه الذكر من بيننا الآية فأخبر اللَّهُ تعالى أنه يَصْطَفِي أي يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى الأنبياء وغيرهم حسبما ورد في الأحاديث وَمِنَ النَّاسِ وهم الأنبياء المبعثون لإصلاح الخلق الذين اجتمعت لهم النبوءة والرسالة.
وقوله ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ عبارة عن إحاطة علمه بهم وحقيقتها ما قبلهم من الحوادث وما بعدهم، والْأُمُورُ، جمع أمر ليس يراد به المصدر ثم أمر الله تعالى المؤمنين بعبادته وخص «الركوع والسجود» بالذكر تشريفا للصلاة، واختلف الناس هل في هذه الآية سجدة؟ ومذهب مالك أنه لا يسجد هنا، وقوله وَافْعَلُوا الْخَيْرَ، ندب، فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع، وقوله لَعَلَّكُمْ ترجّ في حق المؤمنين كقوله لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: ٤٤] و «الفلاح» في هذه الآية نيل البغية وبلوغ الأمل.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٧٨]
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
قالت فرقة: هذه آية أمر الله تعالى فيها بالجهاد في سبيله وهو قتال الكفار، وقالت فرقة: بل هي أعم من هذا وهو جهاد النفس وجهاد الكافرين وجهاد الظلمة وغير ذلك، أمر الله تعالى عباده بأن يفعلوا ذلك في ذات الله حق فعله ع والعموم حسن وبين أن عرف اللفظة تقتضي القتال في سبيل الله، وقال هبة الله وغيره:
إن قوله حَقَّ جِهادِهِ وقوله في الأخرى، حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: ١٠٢]، منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة ع ومعنى الاستطاعة في هذه الأوامر هو المراد من أول الأمر فلم يستقر تكليف بلوغ الغاية شرعا ثابتا فيقال إنه نسخ بالتخفيف، وإطلاقهم النسخ في هذا غير محدق، واجْتَباكُمْ معناه تخيركم، وقوله وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ معناه من تضييق يريد في شرعة الملة، وذلك أنها حنيفية سمحة ليست كشدائد بني إسرائيل وغيرهم بل فيها التوبة والكفارات والرخص ونحو هذا مما كثر عده، والحرجة الشجر الملتف المتضايق، ورفع الحرج لجمهور هذه الأمة ولمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلابة والسرّاق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجا من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج، وقوله مِلَّةَ، نصب بفعل مضمر تقديره بل جعلها أو نحوه من أفعال الإغراء، وقال الفراء هو نصب على تقدير حذف الكاف كأنه قال كملة وقيل هو كما ينصب المصدر، وقوله هُوَ سَمَّاكُمُ، قال ابن زيد الضمير ل إِبْراهِيمَ والإشارة إلى قوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: ١٢٨]، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد الضمير لله تعالى، ومِنْ قَبْلُ، معناه في الكتب القديمة وَفِي هذا، في القرآن، وهذه اللفظة تضعف قول من قال: الضمير، ل إِبْراهِيمَ ولا يتوجه إلا على تقدير محذوف من الكلام مستأنف، وقوله لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ أي بالتبليغ، وقوله وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي بتبليغ رسلهم إليهم على ما أخبركم نبيكم، وأسند الطبري إلى قتادة أنه قال: أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبي، كان يقال للنبي أنت شهيد على أمتك وقيل لهذه وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وكان يقال للنبي ليس عليك حرج وقيل لهذه وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وكان يقال للنبي سل تعط وقيل لهذه ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠] ثم أمر تعالى ب الصَّلاةَ المفروضة أن تقام ويدام عليها بجميع حدودها، وب الزَّكاةَ أن تؤدى كما أنعم عليكم، فافعلوا كذا ثم أمر ب «الاعتصام بالله» أي بالتعلق به والخلوص له وطلب النجاة منه، ورفض التوكل على سواه، والْمَوْلى في هذه الآية الذي يليكم نصره وحفظه، وباقي الآية بين.
Icon