تفسير سورة المؤمنون

المحرر في أسباب نزول القرآن
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة المعروف بـالمحرر في أسباب نزول القرآن .
لمؤلفه خالد بن سليمان المزيني .

سورة المؤمنون
١٢٢ - قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: جاء أبو سفيان إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا محمد أنشدك اللَّه والرحم، فقد أكلنا العِلهِز - يعني الوبر والدم - فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد هذا الحديث الطبري وابن كثير.
709
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: ولقد أخذنا هؤلاء المشركين بعذابنا، وأنزلنا بهم بأسنا وشخطنا وضيقنا عليهم معايشهم، وأجدبنا بلادهم، وقتلنا سراتهم بالسيف (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ) يقول: فما خضعوا لربهم فينقادوا لأمره ونهيه وينيبوا إلى طاعته (وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) يقول: وما يتذللون له.
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أخذ الله قريشًا بسني الجدب إذ دعا عليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اهـ.
وذكر البغوي وابن عطية والقرطبي الحديث بلفظ مقارب.
قال البغوي: (وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف فأصابهم القحط فجاء أبو سفيان إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: أنشدك الله والرحم، ألستَ تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟
فقال: بلى، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع، فادع الله أن يكشف عنا هذا القحط، فدعا فكشف عنهم فأنزل اللَّه هذه الآية (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ) أي: ما خضعوا وما ذلوا لربهم (وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) أي لم يتضرعوا إلى ربهم بل مضوا على تمردهم) اهـ.
وقال ابن عطية: (هذا إخبار من اللَّه تعالى عن استكبارهم وطغيانهم بعد ما نالهم من الجوع هذا قول روي عن ابن عبَّاسٍ وابن جريج أن العذاب هو الجوع والجدب المشهور نزوله بهم حتى أكلوا الجلود وما جرى مجراها) اهـ.
وقال السعدي: (قال المفسرون: المراد بذلك الجوع الذي أصابهم سبع سنين وأن اللَّه ابتلاهم بذلك ليرجعوا إليه بالذل والاستسلام، فلم ينجع فيهم ولا نجح منهم أحد، فما خضعوا وذلوا بل مر عليهم ذلك ثم زال كأنه لم يصبهم لم يزالوا في غيهم وكفرهم) اهـ بتصرف يسير.
وقال الشنقيطي: (ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أخذ الكفار بالعذاب والظاهر أنه هنا العذاب الدنيوي كالجوع والقحط والمصائب
710
والأمراض والشدائد فما خضعوا له ولا ذلوا (وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) أي ما يبتهلون إليه بالدعاء متضرعين له، ليكشف عنهم ذلك العذاب لشدة قسوة قلوبهم وبعدهم من الاتعاظ، ولو كانوا متصفين بما يستوجب ذلك من إصابة عذاب اللَّه لهم) اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن الآية لم تنزل بسبب قول أبي سفيان، بل نزلت تتحدث عن حال المشركين، مع دعوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتكذيبهم بها وإصرارهم على ذلك حتى وإن أصابتهم الضراء كما قال تعالى: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
ولعل مما يؤيد أن الحديث ليس سببًا للنزول أن قول أبي سفيان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العلهز، لا يشكل حدثًا أو علةً للنزول، وإن كان قوله يوافق قول اللَّه: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ).
غاية ما فيه إن صح أن الآية نزلت بعد قوله، أن يكون هذا من باب التصديق لشكواه كما يأتي في بعض الأحاديث فأنزل اللَّه تصديق ذلك.
ومما يدل على انتفاء السببية ما روى البخاري عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، في الركعة الآخرة من صلاة العشاء قنت: (اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف).
وجه الدلالة من الحديث: أن الدعاء كان بالمدينة بدليل دعائه بنجاة المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا في مكة.
وفي الحديث أنه قال: (اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وهذا الدعاء هو سبب العقوبة.
وسورة المؤمنون مكية بالاتفاق.
711
وإذا كان الأمر كذلك فكيف تنزل الآية في شأن القحط في مكة؟ مع أن سبب القحط وهو الدعاء كان بالمدينة.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سببب نزول الآية؛ لأن الآية نزلت قبل القحط بزمن بل قبل الهجرة، كما أن ما أصابهم لا يشكل حدثًا أو علةً للنزول، وإنما الآية تتحدث عن الكافرين وحالهم مع سنن اللَّه فيهم والله أعلم.
* * * * *
712
سورة النور
713
Icon