تفسير سورة الحديد

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية أو مدنية وهي تسع وعشرون آية وخمسمائة وأربع وأربعون كلمة وألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي أحاطت هيبته بجميع الموجودات ﴿ الرحمن ﴾ الذي وسعهم جوده في جميع الحركات والسكنات ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل ولايته بما يرضيه من العبادات.

ولما ختمت الواقعة بالأمر بتنزيهه عما أنكره الكفرة من البعث جاءت هذه لتقرير ذلك التنزيه فقال تعالى :﴿ سبح لله ﴾ أي : الملك المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ ما في السماوات ﴾ أي : الإجرام العالية والذي فيها ﴿ والأرض ﴾ والذي فيها أي : نزهه كل شيء فاللام مزيدة وجيء بما دون من تغليباً للأكثر ﴿ وهو ﴾ أي : وحده ﴿ العزيز ﴾ الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ﴿ الحكيم ﴾ أي : الذي أتقن كل شيء صنعه، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها.
﴿ له ﴾ أي : وحده ﴿ ملك السماوات والأرض ﴾ وما فيهما وما بينهما ظاهراً أو باطناً فالملك الظاهر ما هو الآن موجود في الدنيا من أرض مدحية وسماء مبنية وكواكب مضية وأفلاك ورياح وسحاب مرئية وغير ذلك مما يحيط به علمه تعالى والملك الباطن الغائب عنا وأعظمه المضاف إلى الآخرة وهو الملكوت ﴿ يحيي ﴾ أي : له صفة الإحياء فيحيي ما شاء من الخلق بأن يوجده على صفة الحياة كيف شاء في أطوار يقلبها كيف شاء ومما شاء ﴿ ويميت ﴾ أي : له هاتان الصفتان على سبيل الاختيار والتجدد والاستمرار فهو قادر على البعث بدليل ما ثبت له من صفة الإحياء ﴿ وهو على كل شيء ﴾ أي : من الإحياء والإماتة وغيرهما من كل ممكن ﴿ قدير ﴾ أي : بالغ القدرة.
﴿ هو ﴾ أي : وحده ﴿ الأول ﴾ بالأزلية قبل كل شيء فلا أوّل له، والقديم الذي منه وجود كل شيء، وليس وجوده من شيء لأنّ كل ما نشاهده متأثر لأنه متغير وكل ما كان كذلك فلا بدّ له من موجد غير متأثر ولا متغير ﴿ والآخر ﴾ أي : بالأبدية الذي ينتهي إليه وجود كل شيء في سلسلة الترقي وهو بعد فناء كل شيء باق فلا آخر له، لأنه يستحيل عليه نعت العدم لأنّ كل ما سواه متغير وكل ما تغير بنوع من التغير جاز إعدامه وما جاز إعدامه فلا بدّ له من معدم يكون بعده ولا يمكن إعدامه ﴿ والظاهر ﴾ أي : الغالب العلي على كل شيء ﴿ والباطن ﴾ أي : العالم بكل شيء هذا معنى قول ابن عباس، وقال يمان : هو الأوّل القديم والآخر الرحيم والظاهر الحكيم والباطن العليم ؛ وقال السدي : هو الأول ببره إذ عرفك توحيده والآخر بجوده إذ عرفك التوبة على ما جنيت والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له والباطن بستره إذ عصيته فستر عليك ؛ وقال الجنيد : هو الأول بشرح القلوب والآخر بغفران الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب ؛ وسأل عمر كعباً عن هذه الآية فقال : معناها أن علمه بالأوّل كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن ﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾ أي : لكون الأشياء عنده على حد سواء والبطون والظهور إنما هو بالنسبة إلى الخلق، وأما هو سبحانه وتعالى فلا باطن من الخلق عنده بل هم في غاية الظهور لديه لأنه الذي أوجدهم.
فإن قيل : ما معنى هذه الواوات ؟ أجيب : بأنّ الواو الأولى : معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية ؛ والثالثة : أنه الجامع بين الظهور والخفاء، وأمّا الوسطى : فعلى أنه الجامع بين الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الآخريين فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والحاضرة والآتية وهي في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك بالحواس ؛ قال الزمخشري : وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة وهذا على رأيه الفاسد وهو على رأي المعتزلة المنكرين رؤية الله تعالى في الآخرة ؛ وأما أهل السنة فإنهم يثبتون الرؤية للأحاديث الدالة على ذلك من غير تشبيه ولا تكييف تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ؛ وعن سهل قال : كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول : اللهمّ ربّ السماوات والأرض ربّ العرش العظيم ربنا ورب كل شيء، فالق الحبّ والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهمّ أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من فضلك. وكان يروى ذلك عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
﴿ هو ﴾ أي : وحده ﴿ الذي خلق السماوات ﴾ وجمعها لعلم العرب بتعددها ﴿ والأرض ﴾ أي : الجنس الشامل للكل وأفردها لعدم توصلهم إلى العلم بتعدّدها وقال تعالى :﴿ في ستة أيام ﴾ أي : من أيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة سناً للتأني في الأمور وتقدير للأيام التي أوترها سابعها الذي خلق فيه الإنسان الذي دل يوم خلقه باسمه الجمعة على أنه المقصود بالذات وبأنه السابع نهاية المخلوقات وقوله تعالى :﴿ ثم استوى على العرش ﴾ أي : السرير كناية عن انفراده بالتدبير وإحاطة قدرته وعلمه، كما يقال في ملوكنا جلس فلان على سرير الملك بمعنى : أنه انفرد بالتدبير لا يكون هناك سرير فضلاً عن جلوس وأتى بأداة التراخي تنبيهاً على عظمته ﴿ يعلم ما يلج ﴾ أي : يدخل دخولاً يغيب فيه ﴿ في الأرض ﴾ أي : من النبات وغيره من أجزاء الأموات وغيرها وإن كان ذلك في غاية البعد فإنّ الأماكن كلها بالنسبة إليه تعالى على حد سواء في القرب والبعد ﴿ وما يخرج منها ﴾ كذلك.
تنبيه : في التعبير بالمضارع دلالة على ما أودع في الخافقين من القوى فصارا بحيث يتجدد منهما ذلك بخلقه تجدّد مستمرّاً إلى حين خرابهما ﴿ وما ينزل من السماء ﴾ من الوحي والأمطار والحرّ والبرد وغيرها من الأعيان والمنافع التي يوجدها سبحانه وتعالى من مقادير أعمار بني آدم وأرزاقهم وغيرها من جميع شؤونهم ﴿ وما يعرج ﴾ أي : يصعد ويرتقي ويغيب ﴿ فيها ﴾ كالأبخرة والأنوار والكواكب والأعمال وغيرها ولم يجمع السماء لأنّ المقصود حاصل بالواحدة مع إفهام التعبير بها الجنس الشامل للكل ﴿ وهو معكم ﴾ بالعلم والقدرة أيها الخلق ﴿ أينما كنتم ﴾ لا ينفك علمه وقدرته عنكم بحال فهو عالم بجميع أموركم وقادر عليكم تعالى الله عن اتصال بالعالم ومماسة أو انفصال عنه بغيبة أو مسافة ﴿ والله ﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ بما تعملون ﴾ أي : على سبيل التجدّد والاستمرار ﴿ بصير ﴾ أي : عالم بجليله وحقيرة فيجازيكم به وقدم الجار لمزيد الاهتمام والتنبيه على تحقيق الإحاطة.
﴿ له ﴾ أي : وحده ﴿ ملك السماوات ﴾ وجمع لاقتضاء المقام له ﴿ والأرض ﴾ وأفرد لخفاء تعدّدها عليهم مع إرادة الجنس، ودل على إرادة ملكه وإحاطته بقوله تعالى :﴿ وإلى الله ﴾ أي : الملك الذي لا كفؤ له وحده ﴿ ترجع ﴾ بكل اعتبار على غاية السهولة ﴿ الأمور ﴾ أي : كلها حساً لبعث ومعنى بالابتداء والإفناء ودل على ذلك بقوله تعالى :﴿ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور ﴾.
﴿ يولج ﴾ أي : يدخل ويغيب بالنقص والمحو ﴿ الليل في النهار ﴾ فإذا هو قد قصر بعد طوله وقد انمحى بعد شخوصه وحلوله، وزاد النهار وملأ الضياء الأقطار بعد ذلك الظلام ﴿ ويولج النهار ﴾ الذي عمّ الكون ضياؤه ﴿ في الليل ﴾ الذي كان قد غاب في علمه فإذا الظلام قد طبق الآفاق فيزيد الليل والطول الذي كان في النهار قد صار نقصاً ﴿ وهو ﴾ أي : وحده ﴿ عليم ﴾ أي : بالغ العلم ﴿ بذات الصدور ﴾ أي : بما فيها من الأسرار والمعتقدات على كثرة اختلافها وتغيرها وإن خفيت على أصحابها.
ولما قامت الأدلة على تنزيهه سبحانه قال تعالى آمراً بالإذعان له ولرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ آمنوا ﴾ أي : أيها الثقلان ﴿ بالله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا مثل له ﴿ ورسوله ﴾ الذي عظمته من عظمته، ونزل في غزوة العسرة وهي غزوة تبوك ﴿ وأنفقوا ﴾ أي : في سبيل الله ﴿ مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ أي : من الأموال التي في أيديكم فإنها أموال الله تعالى لأنها بخلقه وإنشائه لها، وإنما موّلكم إياها وخولكم بالاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرّف فيها فليست هي بأموالكم في الحقيقة وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم بتوريثه إياكم فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم وسينقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم.
ولما أمر تعالى بالإنفاق ووصفه بما سهله سبب عنه ما يرغب فيه فقال تعالى :﴿ فالذين آمنوا منكم وأنفقوا ﴾ من أموالهم في الوجوه التي ندب إليها على وجه الإصلاح على ما دلّ عليه التعبير بالإنفاق ﴿ لهم أجر كبير ﴾ أي : لا تبلغ عقولكم حقيقة كبره فاغتنموا الإنفاق في أيام استخلافكم قبل عزلكم وإتلافكم، وخصهم بالذكر بقوله تعالى :﴿ منكم ﴾ لضيق في زمانهم، وقيل : إنّ ذلك إشارة إلى عثمان فإنه جهز جيش العسرة.
وقوله تعالى :﴿ وما ﴾ أي : وأيّ شيء ﴿ لكم ﴾ من الأعذار أو غيرها في أنكم أو حال كونكم ﴿ لا تؤمنون بالله ﴾ أي : تجدّدون الإيمان تجديداً مستمراً بالملك الأعلى، أي : الذي له الملك كله والأمر كله خطاب للكفار، أي : لا مانع لكم بعد سماعكم ما ذكر ﴿ والرسول ﴾ أي : والحال أن الذي له الرسالة العامة ﴿ يدعوكم ﴾ في الصباح والمساء ﴿ لتؤمنوا ﴾ أي : لأجل أن تؤمنوا ﴿ بربكم ﴾ الذي أحسن تربيتكم بأن جعلكم من أمّة هذا النبيّ الكريم فشرفكم به ﴿ وقد ﴾ أي : والحال أنه قد ﴿ أخذ ميثاقكم ﴾ أي : وقع أخذه فصار في غاية القباحة، ترك التوثق بسبب نصب الأدلة والتمكين من النظر بإبداع العقول وذلك كله منضم إلى أخذ الذرّية من ظهر آدم عليه السلام حين أشهدهم على أنفسهم ﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] وقرأ أبو عمرو : بضم الهمزة وكسر الخاء ورفع القاف على البناء للمفعول ليكون المعنى : من أيّ أخذ كان من غير نظر إلى معين وقرأ الباقون بفتح الهمزة والخاء ونصب القاف على البناء للفاعل والآخذ هو الله القادر على كل شيء العالم بكل شيء، والحاصل : أنهم نقضوا الميثاق في الإيمان فلم يؤاخذهم حتى أرسل الرسل ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي : مريدين الإيمان فبادروا إليه.
﴿ هو ﴾ أي : لا غيره ﴿ الذي ينزل ﴾ أي : على سبيل التدريج والموالاة بحسب الحاجة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي ﴿ على عبده ﴾ الذي هو أحق الناس بحضرة جماله وإكرامه وهو محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ آيات ﴾ أي : علامات هي من ظهورها حقيقة أن يرجع إليها ويتعبد بها ﴿ بينات ﴾ أي : واضحات وهي آيات القرآن الكريم ﴿ ليخرجكم ﴾ أي : الله بالقرآن أو عبده بالدعوة ﴿ من الظلمات ﴾ التي أنتم منغمسون فيها من الحظوظ والنقائص التي جبل عليها الإنسان والغفلة الكاملة على تراكم الجهل، فمن آتاه الله تعالى العلم والإيمان فقد أخرجه من هذه الظلمات التي طرأت عليه ﴿ إلى النور ﴾ الذي كان له وصفاً لروحه وفطرته الأولى السليمة ﴿ وإن الله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ بكم لرؤوف رحيم ﴾ أي : حيث نبهكم بالرسل والآيات ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة، والباقون بالمدّ، وورش على أصله بالمدّ والتوسط والقصر، وليس قصره كقصر أبي عمرو ومن معه وإنما قصره كمدّ قالون ومن وافقه.
﴿ وما ﴾ أي : وأي شيء يحصل ﴿ لكم ﴾ في ﴿ أن لا تنفقوا ﴾ أي : توجدوا الإنفاق للمال ﴿ في سبيل الله ﴾ أي : في كل ما يرضى الملك الأعظم الذي له صفات الكمال ليكون لكم به وصلة فيخصكم بالرأفة التي هي أعظم الرحمة، فإنه ما يبخل أحد عن وجه خير إلا سلط الله عليه غرامة في وجه شرّ ﴿ ولله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال لاسيما صفة الإرث المقتضية للزهد في الموروث ﴿ ميراث السماوات والأرض ﴾ أي : يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال فمن تأمّل أنه زائل هو وكل ما في يده والموت من ورائه وطوارق الحوادث مطبقة به وعما قليل ينقل ما في يده إلى غيره هان عليه الجود بنفسه وماله.
ثم بين تعالى التفاوت بين المنفقين منهم فقال تعالى :﴿ لا يستوي منكم من أنفق ﴾ أي : أوجد الإنفاق في ماله وجميع قواه وما يقدر عليه ﴿ من قبل الفتح ﴾ أي : الذي هو فتح جميع الدنيا في الحقيقة وهو فتح مكة الذي كان سبباً لظهور الدين الحق ﴿ وقاتل ﴾ سعياً في إنفاق نفسه لمن آمن به قبل الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً وقله الحاجة إلى القتال والنفقة فيه ومن أنفق من بعد الفتح، فحذف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه، وفضل الأوّل لما ناله إذ ذاك بالإنفاق من كثرة المشاق لضيق المال حينئذ، وفي هذا دليل على فضل أبي بكر فإنه أوّل من أنفق لم يسبقه في ذلك أحد، وخاصم الكفار حتى ضرب ضرباً شديداً أشرف منه على الهلاك، روى محمد بن فضيل عن الكلبي : أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وعن ابن عمر قال :«كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها بخلال ؟ فقال : أنفق ماله عليّ قبل الفتح قال : فإنّ الله عز وجل يقول : اقرأ عليه السلام وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال أبو بكر : أسخط على ربي إني عن ربي راض » ﴿ أولئك ﴾ أي : المنفقون المقاتلون وهم السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلع مدّ أحدهم ولا نصيفه » لمبادرتهم إلى الجود بالنفس والمال ﴿ أعظم درجة ﴾ وتعظيم الدرجة يكون لعظم صاحبها ﴿ من الذين أنفقوا من بعد ﴾ أي : من بعد الفتح ﴿ وقاتلوا ﴾ أي : من بعد الفتح ﴿ وكلا ﴾ أي : وكل واحد من الفريقين ﴿ وعد الله ﴾ أي : الذي له الجلال والإكرام ﴿ الحسنى ﴾ أي : المثوبة الحسنى وهي : الجنة مع تفاوت الدرجات، وقرأ ابن عامر : برفع اللام على الابتداء أي : وكل وعده ليطابق ما عطف عليه والباقون بنصبها أي : وعد كلا ﴿ والله ﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة بجميع صفات الكمال ﴿ بما تعملون ﴾ أي : تجدّدون عمله على الأوقات ﴿ خبير ﴾ أي : عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها.
تنبيه : التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدين وقد يكون في أحكام الدنيا فأمّا التقدّم في أحكام الدين فقالت عائشة «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم وأعظم المنازل مرتبة الصلاة » وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه :«مروا أبا بكر فليصل بالناس » وقال :«يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله » وقال :«فليؤمكما أكبركما » وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين فمن قدّم في الدين قدّم في الدنيا، وفي الحديث «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا » وفي الحديث :«ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه ».
ثم رغب في الإنفاق بقوله تعالى :﴿ من ﴾ وأكد بالإشارة بقوله تعالى :﴿ ذا ﴾ لأجل ما للنفوس من الشح ﴿ الذي يقرض الله ﴾ أي : يعطي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز لأنه إذا أعطى المستحق ما له لوجه الله تعالى فكأنه أقرضه إياه ﴿ قرضاً حسناً ﴾ أي : طيباً خالصاً مخلصاً فيه متحرياّ به أفضل الوجوه من غير منّ وكدر بتسويف وغيره ﴿ فيضاعفه له ﴾ أي : يؤتي أجره من عشرة إلى أكثر من سبعمائة كما ذكره في البقرة إلى ما شاء الله تعالى من الأضعاف، وقيل : القرض الحسن أن يقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال زيد بن أسلم : هو النفقة على الأهل، وقال الحسن : التطوع بالعبادات، وقرأ ابن عامر وعاصم بنصب الفاء بعد العين والباقون بالرفع وقرأ ابن كثير وابن عامر بغير ألف بعد الضاد وتشديد العين، والباقون بألف بعد الضاد وتخفيف العين ﴿ وله ﴾ أي : للمقرض زيادة على ذلك ﴿ أجر ﴾ لا يعلم قدره إلا الله تعالى وهو معنى وصفه بقوله تعالى :﴿ كريم ﴾ أي : حسن طيب زاك تامّ.
وقوله تعالى :﴿ يوم ﴾ ظرف لقوله تعالى :﴿ وله أجر كريم ﴾ أو منصوب بإضمار أذكر أي : واذكر يوم ﴿ ترى ﴾ أي : بالعين ﴿ المؤمنين والمؤمنات ﴾ أي : الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة ﴿ يسعى نورهم ﴾ أي : ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة ﴿ بين أيديهم وبأيمانهم ﴾ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أنّ الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم فيجعل النور في الجهتين شعار لهم وآية لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومرّوا على الصراط يسعون يسعى معهم ذلك النور حبيباً لهم ومتقدّماً، والأوّل : نور الإيمان والمعرفة والأعمال المقبولة، والثاني : نور الإنفاق لأنه بالإيمان نبه عليه الرازي وقال قتادة : ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم «قال من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن ودون ذلك حتى أنّ من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه ». وقال عبد الله بن مسعود :«يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نوراً نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويتقد أخرى ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة :﴿ بشراكم اليوم ﴾ أي : بشارتكم العظيمة في جميع ما يستقبلكم من الزمان.
تنبيه :﴿ بشراكم اليوم ﴾ مبتدأ واليوم ظرف وقوله تعالى :﴿ جنات ﴾ خبره على حذف مضاف أي : دخول جنات وهو المبشر به ثم وصفها بما لا تكمل اللذة إلا به بقوله :﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ ثم آمنهم من خوف الانقطاع بقوله تعالى :﴿ خالدين فيها ﴾ أي : خلوداً لا آخر له لأنّ الله تعالى أورثهم ذلك فلا يورث عنه لأنّ الجنة لا موت فيها ﴿ ذلك ﴾ أي : هذا الأمر العظيم المتقدّم من النور والبشرى بالجنات المخلدة ﴿ هو الفوز العظيم ﴾ أي : الذي ملأ بعظمته جميع جهاتهم.
ولما شرح تعالى حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين بقوله :﴿ يوم يقول المنافقون والمنافقات ﴾ وهم المظهرون الإيمان المبطنون الكفر.
تنبيه : يوم بدل من يوم ترى أو منصوب بأذكر ﴿ للذين آمنوا ﴾ أي : ظاهراً وباطناً ﴿ انظرونا ﴾ أي : انتظرونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف على ركائب تزف بهم وهؤلاء مشاة، أو انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به، وقرأ حمزة : بقطع الهمزة في الوصل وكسر الظاء والباقون بوصل الهمزة ورفع الظاء، وأما الوقف على آمنوا والابتداء بانظرونا فحمزة على حاله كما يقرأ في الوصل، والباقون بضم همزة الوصل في الابتداء والظاء على حالها من الضم ﴿ نقتبس ﴾ أي : نستضيء ﴿ من نوركم ﴾ أي : هذا الذي نراه لكم ولا يلحقنا منه شيء كما كنا في الدنيا نرى إيمانكم بما نرى من ظواهركم ولا نتعلق من ذلك بشيء، ﴿ جزاء وفاقاً ﴾ [ النبأ : ٢٦ ] وذلك لأنّ الله تعالى يضيء للمؤمنين نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضاً نوراً خديعة لهم وهو قوله تعالى :﴿ وهو خادعهم ﴾ [ النساء : ١٤٢ ] فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحاً وظلمة فأطفأت نور المنافقين فذلك قوله تعالى :﴿ يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه ﴾ [ التحريم : ٨ ] الآية مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين والقبس الشعلة من النار أو السراج، قال ابن عباس وأبو إمامة : يغشى الناس يوم القيامة ظلمة ؛ قال الماوردي : أظنها بعد فصل القضاء ثم يعطون نوراً يمشون فيه ؛ وقال الكلبي : بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون وبقوا في الظلمة قالوا للمؤمنين :﴿ انظرونا نقتبس من نوركم ﴾ قيل لهم جواباً لسؤالهم ؛ قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون : أي : قول ردّ وتوبيخ وتهكم وتنديم ﴿ ارجعوا وراءكم ﴾ أي : ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا النور ﴿ فالتمسوا نوراً ﴾ هناك فمن ثم يقتبس أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا والتمسوا نوراً آخر فلا سبيل لكم إلى هذا النور، وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما هو تخييب وإقناط لهم، وقال قتادة : تقول لهم الملائكة : ارجعوا وراءكم من حيث جئتم، وقرأ هشام والكسائي : بضم القاف والباقون بكسرها.
ولما كان التقدير فرجعوا أو فأقاموا في الظلمة سبب عنه وعقب قوله تعالى :﴿ فضرب بينهم ﴾ أي : بين المؤمنين والمنافقين ﴿ بسور ﴾ أي : حائط حائل بين شق الجنة وشق النار ﴿ له ﴾ أي : لذلك السور ﴿ باب ﴾ موكل به حجاب لا يفتحون إلا لمن أذن له الله تعالى من المؤمنين لما يهديهم إليه من نورهم الذي بين أيديهم بشفاعة أو نحوها ﴿ باطنه ﴾ أي : ذلك السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة من جهة الذين آمنوا جزاء لإيمانهم الذي هو غيب ﴿ فيه الرحمة ﴾ وهي ما لهم من الكرامة لأنه يلي الجنة التي هي ساترة تبطن من فيها بأشجارها وبأستارها كما كانت بواطنهم ملآنة رحمة ﴿ وظاهره ﴾ أي : ما ظهر لأهل النار ﴿ من قبله ﴾ أي : من عنده ومن جهته ﴿ العذاب ﴾ وهو الظلمة والنار لأنه يليها لاقتصار أهلها على الظواهر من غير أن يكون لهم نفوذ إلى باطن، وروي عن عبد الله بن عمر أنّ السور الذي ذكر الله تعالى في القرآن هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم.
وقال ابن سريج : كان كعب يقول : في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس إنه الباب الذي قال الله تعالى :﴿ فضرب بينهم بسور له باب ﴾ الآية، وقيل : السور عبارة عن منع المنافقين عن طلب المؤمنين ﴿ ينادونهم ﴾ أي : ينادي المنافقون الذين آمنوا ويترققون لهم ﴿ ألم نكن معكم ﴾ أي : في الدنيا نصلي ونصوم فنستحق المشاركة فيما صرتم إليه بسبب ذلك الذي كنا معكم فيه ﴿ قالوا ﴾ أي : الذين آمنوا ﴿ بلى ﴾ أي : كنتم معنا في الظاهر ﴿ ولكنكم فتنتم أنفسكم ﴾ أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلها فتنة ﴿ وتربصتم ﴾ أي : بالإيمان والتوبة وبمحمد صلى الله عليه وسلم وقلتم : يوشك أن يموت فنستريح منه ﴿ وارتبتم ﴾ أي : شككتم في الدين وفي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفيما وعدكم به ﴿ وغرّتكم الأمانيّ ﴾ أي : ما تتمنون من الإرادات التي معها شهوة عظيمة من الأطماع الفارغة التي لا سبب لها غير شهوة النفس إياها بما كنتم تتوقعون لنا من دوائر السوء ﴿ حتى جاء أمر الله ﴾ أي : قضاء الملك المتصف بجميع صفات الكمال فلا كفؤ له ولا خلف وقرأ قالون وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية، وأيضاً لهما إبدالها والباقون بتحقيقهما، وأمال الألف بعد الميم حمزة وابن ذكوان، والباقون بالفتح وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة الثانية مع المدّ والتوسط والقصر ﴿ وغرّكم بالله ﴾ أي : الملك الذي له جميع العظمة ﴿ الغرور ﴾ أي : من لا صنع له إلا الكذب وهو الشيطان فإنه يزين لكم بغروره التسويف ويقول : إنّ الله غفور رحيم وعفو كريم وماذا عسى أن تكون ذنوبكم عنده وهو عظيم ومحسن وحليم ونحو ذلك فلا يزال حتى يوقع الإنسان فإذا أوقعه واصل عليه مثل ذلك حتى يتمادى فإذا تمادى صار الباعث له حينئذ من قبل نفسه فصار طوع يده.
﴿ فاليوم ﴾ أي : بسبب أفعالكم تلك ﴿ لا يؤخذ منكم فدية ﴾ أي : نوع من أنواع الفداء وهو البدل والعوض للنفس على أي حال كان من قلة أو كثرة لأنّ الإله غني وقد فات محل العمل الذي شرعه لكم لانقياد أنفسكم، وقرأ ابن عامر بالتاء الفوقية على التأنيث والباقون بالتحتية على التذكير ﴿ ولا من الذين كفروا ﴾ أي : الذين أظهروا كفرهم ولم يستروه كما سترتموه أنتم لمساواتكم لهم في الكفر، وإنما عطف الكافر على المنافق وإن كان المنافق كافراً في الحقيقة لأنّ المنافق أبطن الكفر والكافر أظهره فصار غير المنافق فحسن عطفه على المنافق ﴿ مأواكم النار ﴾ أي : منزلكم ومسكنكم لا مقر لكم غيرها تحرقكم كما كنتم تحرقون قلوب الأولياء بإقبالكم على الشهوات وإضاعة حقوق ذوي الحاجات، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، وورش لا يبدل هذه الهمزة ثم أكد ذلك بقوله تعالى :﴿ هي ﴾ أي : لا غيرها ﴿ مولاكم ﴾ أي : هي أولى بكم وأنشد قول لبيد :
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها
والشاهد في مولى المخافة فمولى بمعنى أولى والفرجان الجانبان وهو الخلف والقدام وهو وصف بقرة وحشية أي : غدت على حالة كلا جانبيها مخوف وحقيقته في الآية محراكم بحاء مهملة وراء أي : مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي : مكان، كقول القائل : إنه لكريم، ويجوز أن يراد هي ناصركم، أي : لا ناصر لكم غيرها، والمراد : نفي الناصر على البنات، وقيل : تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.
ولما كان التقدير بئس المولى هي عطف عليه قوله تعالى :﴿ وبئس المصير ﴾ أي : هذه النار.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿ ألم يأن ﴾ أي : يحن ويدرك وينتهي إلى الغاية ﴿ للذين آمنوا ﴾ أي : أقرّوا بالإيمان ﴿ أن تخشع ﴾ أي : تلين وتسكن وتخضع وتذل وتطمئن ﴿ قلوبهم لذكر الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا خير إلا منه فيصدق في إيمانه من كان كاذباً ويقوى في الدين من كان ضعيفاً فيعرض عن الفاني ويقبل على الباقي ولا يطلب لداء دينه دواء ولا لمرض قلبه شفاء في غير القرآن، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، وعن الحسن : أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل ما تقرؤون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق، وقيل : كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت ؛ وعن أبي بكر رضي الله عنه : أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم وقال : هكذا كنا حتى قست القلوب وقال الشاعر :
ألم يأن لي يا قلب أن نترك الجهلا وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا
وقوله تعالى :﴿ وما نزل من الحق ﴾ أي : القرآن عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر لأن القرآن جامع للأمرين للذكر والموعظة أو أنه حق نازل من السماوات ؛ ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله تعالى، وقرأ نافع وحفص بتخفيف الزاي والباقون بالتشديد وقوله تعالى :﴿ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ﴾ أي : قبل ما نزل إليكم وهم اليهود والنصارى معطوف على تخشع والمراد : النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكى عنهم بقوله تعالى :﴿ فطال عليهم الأمد ﴾ أي : الأجل لطول أعمارهم أو آمالهم أو ما بينهم وبين أنبيائهم ﴿ فقست ﴾ أي : بسبب الطول ﴿ قلوبهم ﴾ أي : صلبت واعوجت بحيث لا تنفعل بالطاعات والخير فكانوا كل حين في تعنت جديد على أنبيائهم عليهم السلام يسألونهم المقترحات، وأما بعد أنبيائهم فابعدوا في القساوة فمالوا إلى دار الكدر وأعرضوا عن دار الصفاء فانجروا إلى الهلاك باتباع الشهوات ؛ قال القشيري : وقسوة القلب إنما تحصل باتباع الشهوة فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان ؛ وعن أبي موسى الأشعري : أنه بعث إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاث مئة رجل قد قرؤوا القرآن فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاقرؤه ولا تطيلوا عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ﴿ وكثير منهم ﴾ أخرجته قساوته عن الدين أصلاً ورأسا فهم ﴿ فاسقون ﴾ أي : عريقون في صفة الإقدام على الخروج من دائرة الحق التي حدها لهم الكتاب حتى تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
وقوله تعالى :﴿ اعلموا أن الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي له الكمال كله فلا يعجزه شيء ﴿ يحيي ﴾ أي : على سبيل التجديد والاستمرار كما تشاهدونه ﴿ الأرض ﴾ أي : بالنبات ﴿ بعد موتها ﴾ أي : يبسها تمثيل لإحياء الأموات بجميع أجسادهم وإفاضة الأرواح عليها كما فعل بالنبات وكما فعل بالأجسام أول مرة، ولإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة فاحذروا سطوته واخشوا غضبه وارجوا رحمته، لإحياء القلوب فإنه قادر على إحيائها بروح الوحي كما أحيا الأرض بروح الماء لتصير بأحيائها بالذكر خاشعة بعد قسوتها كما صارت الأرض رابية بعد خشوعها وموتها.
ولما انكشف الأمر بهذه غاية الانكشاف أنتج قوله تعالى :﴿ قد بينا ﴾ أي : على مالنا من العظمة ﴿ لكم الآيات ﴾ أي : العلامات النيرات ﴿ لعلكم تعقلون ﴾ أي : لتكونوا عند من يعلم ذلك ويمنعه من الخلائق على رجاء من حصول العقل لكم بما يتجدد لكم من فهمه على سبيل التواصل الدائم بالاستمرار.
وقرأ :﴿ إن المصدقين ﴾ أي : العريقين في هذا الوصف من الرجال ﴿ والمصدقات ﴾ أي : من النساء، ابن كثير وشعبة بتخفيف الصاد فيهما من التصديق بالإيمان والباقون بالتشديد فيهما من التصدق أدغمت التاء في الصاد أي : الذين تصدقوا وقوله تعالى :﴿ وأقرضوا الله ﴾ أي : الذي له الكمال كله عطف على معنى الفعل في المصدقين لأنّ اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى أصدقوا كأنه قيل : إنّ الذين أصدقوا وأقرضوا الله ﴿ قرضاً حسناً ﴾ أي : بغاية ما يكون من طيب النفس وإخلاص النية والنفقة في سبيل الخير وحسنه ؛ كما قال الرازي : أن يصرف بصره عن النظر إلى فعله والنفقة وإلا متنا به وطلب العوض عليه ﴿ يضاعف ﴾ أي : ذلك القرض ﴿ لهم ﴾ من عشرة إلى سبعمائة كما مرّ لأنّ الذي كان له العرض كريم، وقرأ ابن كثير وابن عامر : بتشديد العين ولا ألف بينها وبين الضاد ؛ والباقون بتخفيف العين وبينها وبين الضاد ألف ﴿ ولهم ﴾ أي : مع المضاعفة ﴿ أجر كريم ﴾ أي : ثواب حسن وهو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم.
ثم بين سبحانه وتعالى الحامل على الصدقة ترغيباً فيه وهو الإيمان فقال تعالى :﴿ والذين آمنوا ﴾ أي : أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم ﴿ بالله ﴾ أي : الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام ﴿ ورسله ﴾ أي : كلهم لأجل ما لهم من النسبة إليه فمن كذب واحد منهم لم يكن مؤمناً بالله تعالى :﴿ أولئك ﴾ أي : هؤلاء العالو الرتبة ﴿ هم الصديقون ﴾ أي : الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه ؛ وقال القشيري الصديق من استوى ظاهره وباطنه ؛ ويقال : هو الذي يحمل الأمر على الأشق ولا ينزل إلى الرخص ولا يجنح للتأويلات ؛ وقال مجاهد : كل من آمن بالله تعالى ورسله عليهم السلام فهو صدّيق وتلا هذه الآية ؛ وقال الضحاك : الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى آله، واختلف في نظم قوله تعالى :﴿ والشهداء عند ربهم ﴾ أي : المحسن إليهم بالتربية لمثل تلك الرتبة العالية فمنهم من قال : هي متصلة بما قبلها والواو للنسق وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين، وقال الضحاك : هم التسعة الذين سميناهم رضي الله عنهم ؛ وقال مجاهد : كل مؤمن صدّيق وشهيد وتلا هذه الآية، وقال قوم : تم الكلام عند قوله تعالى :﴿ هم الصديقون ﴾ ثم ابتدأ بقوله تعالى :﴿ والشهداء ﴾ فهو مبتدأ وخبره ﴿ لهم أجرهم ﴾ أي : جعله ربهم لهم ﴿ ونورهم ﴾ أي : الذي زادهموه من فضله برحمته قالوا : والواو للاستئناف وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وجماعة ؛ ثم اختلفوا فيهم فمنهم من قال : هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو قول مقاتل بن حيان، وقال مقاتل بن سليمان : هم الذين استشهدوا في سبيل الله عز وجل.
ولما ذكر تعالى أهل السعادة جعلنا الله تعالى ووالدينا ومحبينا منهم جامعاً لأصنافهم أتبعهم أهل الشقاوة لذلك بقوله تعالى :﴿ والذين كفروا ﴾ أي : ستروا ما دلت عليه الأدلة ﴿ وكذبوا بآياتنا ﴾ أي : على مالها من العظمة بنسبتها إلينا ﴿ أولئك ﴾ أي : هؤلاء البعداء من كل خير ﴿ أصحاب الجحيم ﴾ أي : النار التي هي غاية في توقدها وفي ذلك دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة عرفاً، وأما غيرهم من العصاة فدخولهم فيها ليس على وجه الصحبة الدالة على الملازمة.
ولما ذكر تعالى حال الفريقين في الآخرة حقر أمر الدنيا بقوله تعالى :﴿ اعلموا ﴾ أي : أيها العباد المبتلون بحب الدنيا ﴿ أنما الحياة الدنيا ﴾ أي : الحاضرة التي رغب في الزهد فيها والخروج عنها بالصدقة والقرض الحسن، وما مزيدة للتأكيد أي : الحياة في هذه الدار ﴿ لعب ﴾ أي : لعب لا ثمرة له فهو باطل كلعب الصبيان ﴿ ولهو ﴾ أي : شيء يفرح به الإنسان فيلهيه أي يشغله عما يعنيه ثم ينقضي كلهو الفتيان، ثم أتبع ذلك أعظم ما يلهي في الدنيا بقوله تعالى :﴿ وزينة ﴾ أي : شيء يبهج العين ويسر النفس كزينة النسوان وأتبعها ثمرتها بقوله تعالى :﴿ وتفاخر بينكم ﴾ أي : كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض فيجر ذلك إلى الحسد والبغضاء وأتبع ذلك بما يحصل به الفخر بقوله تعالى :﴿ وتكاثر ﴾ أي : من الجانبين كتكاثر الرهبان ﴿ في الأموال ﴾ أي : التي لا يفتخر بها إلا أحمق لكونها مائلة ﴿ والأولاد ﴾ أي : التي لا يغتر بها إلا سفيه لأنها زائلة وآفاتها هائلة وإنما هي فتنة وابتلاء يظهر بها الشاكر من غيره، ثم ذلك كله قد يكون ذهابه عن قريب فيكون على أضداد ما كان عليه فيكون أشد في الحسرة ثم في آخر ذلك يموت فإذا هو قد اضمحل أمره ونسى عما قليل ذكره وصار ماله لغيره وزينته متمتعاً بها سواه، فالدنيا حقيرة وأحقر منها طالبها لأنها جيفة وطالب الجيفة ليس له خطر وأخسهم من يبخل بها، وقال علي لعمار : لا تحزن على الدنيا فإنّ الدنيا ستة أشياء : مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل مشمومها المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها تقتل الرجال، وأما المنكوح فهو النساء وهو مبال في مبال والله إنّ المرأة لتزين أحسنها فيراد منها أقبحها ا. ه. ويناسب بعض ذلك قول الشاعر :
فخير لباسها نسجات دود وخير شرابها قيء الذباب
وأشهى ما ينال المرء فيها مبال في مبال مستطاب
قال القشيري : وهذه الدنيا المذمومة هي ما يشغل العبد عن الآخرة فكل ما يشغله عن الآخرة فهو الدنيا ا. ه. أي : وأما الطاعات وما يعين عليها فمن أمور الآخرة ثم ضرب الله للدنيا مثلاً بقوله تعالى :﴿ كمثل ﴾ أي : هذا الذي ذكرته من أمرها يشبه مثل ﴿ غيث ﴾ أي : مطر حصل بعد جدب وسوء حال ﴿ أعجب الكفار ﴾ أي : الزراع الذين حصل منهم الحرث والبذر الذي يستره الحارث كما يستر الكافر حقيقة أنوار الإيمان بما يحصل منه من الجحد والطغيان ﴿ نباته ﴾ أي : نبات ذلك الغيث كما يعجب الكافر في الغالب بسط الدنيا له استدراجاً من الله تعالى :﴿ ثم يهيج ﴾ أي : ييبس فيتم جفافه فيحين حصاده ﴿ فتراه ﴾ أي : عقب كل ذلك وبالقرب منه ﴿ مصفراً ﴾ أي : على حالة لا نموّ بعدها ﴿ ثم ﴾ أي : بعد تناهي الجفاف ﴿ يكون ﴾ أي : كونا كأنه مطبوع عليه ﴿ حطاماً ﴾ أي : فتاتاً يضمحل بالرياح.
ولما ذكر تعالى الظل الزائل ذكر أثره الثابت الدائم مقسماً له إلى قسمين فقال تعالى :﴿ وفي الآخرة عذاب شديد ﴾ أي : على من آثر الدنيا وأخذها بغير حقها معرضاً عن ذكر الله تعالى وعن الآخرة هذا أحد القسمين، وأما القسم الآخر فهو : ما ذكره بقوله تعالى :﴿ ومغفرة ﴾ أي : ولمن أقبل على الآخرة ورفض الدنيا ولم تشغله عن ذلك الله تعالى مغفرة ﴿ من الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ ورضوان ﴾ أي : في جنة عالية تفضلاً منه تعالى ورحمة، وقوله تعالى جل وعلا :﴿ وما الحياة الدنيا ﴾ أي : لكونها تشغل بزينتها مع أنها زائلة ﴿ إلا متاع الغرور ﴾ أي : هو في نفسه غرور لا حقيقة له إلا ذلك لأنه لا يسر بقدر ما يضر تأكيد لما سبق، قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
ثم أرشدهم الله تعالى إلى المسابقة إلى الخيرات لأنّ الدنيا خيال ومحال، والآخرة بقاء وكمال بقوله تعالى :
﴿ سابقوا ﴾ أي : سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار ﴿ إلى مغفرة ﴾ أي : ستر لذنوبكم عيناً وأثراً ﴿ من ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم بأنواع الخيرات التي توجب المغفرة لكم من ربكم، وقال الكلبي : سارعوا بالتوبة لأنها تؤدي إلى المغفرة، وقال مكحول : هي التكبيرة الأولى مع الإمام، وقيل : الصف الأول ﴿ وجنة ﴾ أي : وبستان هو من عظم أشجاره واطراد أنهاره بحيث يستر داخله ﴿ عرضها كعرض السماء والأرض ﴾ أي : السماوات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكان عرض الجنة في قدرها جميعاً، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة، وقال مقاتل : إنّ السماوات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها إلى بعض لكانت عرض جنة واحدة من الجنان، وسأل عمر ناس من اليهود إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين النار ؟ فقال لهم : أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل ؟ فقالوا : إنه لمثلهما في التوراة. ومعناه : أنه حيث شاء الله وهذا عرضها ولا شك أن الطول أزيد من العرض فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك، وقيل إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في أنفسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في أنفسهم مقدار السماوات والأرض فشبه عرض الجنة بما تعرفه الناس ﴿ أعدت ﴾ أي : هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر ﴿ للذين آمنوا ﴾ أي : أوقعوا هذه الحقيقة ﴿ بالله ﴾ أي : الذي له جميع العظمة لأجل ذاته مخلصين له الإيمان ﴿ ورسله ﴾ فلم يفرقوا بين أحد منهم وفي هذا أعظم رجاء وأقوى أمل لأنه ذكر أنّ الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر، يدل عليه قوله تعالى في سياق الآية ﴿ ذلك ﴾ أي : الفضل العظيم جداً ﴿ فضل الله ﴾ أي : الملك الذي لا كفؤ له فلا اعتراض عليه ﴿ يؤتيه من يشاء ﴾ فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله لا بعمله، لما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لن يدخل الجنة أحداً منكم عمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمة ». ولا ينافي ذلك قوله تعالى :﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ﴾ [ النحل : ٣٢ ] لأنّ الباء في الحديث عوضيه، وفي الآية سببية، فإن قيل : يلزم على هذا أن يقطع بحصول الجنة لجميع العصاة وأن يقطع بأنه لا عقاب عليهم ؟ أجيب : بأنا نقطع بحصول الجنة ولا نقطع بنفي العقاب عنهم لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة بقوا فيها أبد الآباد فكانت معدة لهم ﴿ والله ﴾ أي : والحال أنّ الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله ﴿ ذو الفضل العظيم ﴾ أي : الذي جل أن تحيط بوصفه العقول.
﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ﴾ أي : من قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمرات وغلاء الأسعار وتتابع الحوائج وغير ذلك ﴿ ولا في أنفسكم ﴾ أي : من الأمراض والفقر وذهاب الأولاد وضيق العيش وغير ذلك ﴿ إلا في كتاب ﴾ أي : مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله تعالى :﴿ من قبل أن نبرأها ﴾ أي : نخلق ونوجد ونقدر المصيبة في الأرض والأنفس، وهذا دليل على أنّ اكتساب العباد بخلقه سبحانه وتعالى وتقديره ﴿ إن ذلك ﴾ أي : الأمر الجليل وهو علمه بالشيء وكتبه له على تفاصيله قبل أن يخلقه ﴿ على الله ﴾ أي : لما له من الإحاطة بصفات الكمال ﴿ يسير ﴾ لأن علمه محيط بكل شيء فقدرته شاملة لا يعجزه فيها شيء.
ثم بين ثمرة إعلامه بذلك بقوله تعالى :﴿ لكيلا ﴾ أي : أعلمناكم بأنا على مالنا من العظمة قد فرغنا من التقدير فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير لا الحزن يدفعه ولا السرور يجلبه ويجمعه كما قال صلى الله عليه وسلم «يا معاذ ليقل همك ما قدر يكن » لأجل أن ﴿ لا تأسوا ﴾ أي : تحزنوا حزناً كبيراً زائداً على ما في أصل الجبلة فربما جرّ ذلك إلى السخط وعدم الرضا بالقضاء ﴿ على ما فاتكم ﴾ أي : من المحبوبات الدنيوية ﴿ ولا تفرحوا ﴾ أي : تسروا سروراً يوصلكم إلى البطر بالتمادي على ما في أصل الجبلة وقوله تعالى :﴿ بما آتاكم ﴾ قرأه أبو عمرو بقصر الهمزة، أي : جاءكم منه، والباقون بالمد أي أعطاكم قال جعفر الصادق رضي الله عنه : مالك تأسف على مفقود ولا يردّه عليك الفوت ومالك تفرح بموجود ولا يتركه في يدك الموت ا. ه.
ولقد عزى الله تعالى المؤمنين رحمة بهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده، وفرحهم بحصول المحبوب لا يفيده، وبأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بادخاره عند الله تعالى وذلك بأن يقول : المصيبة قدر الله تعالى وما شاء فعل ويصبر ؛ وفي النعمة هكذا قضى وما أدري مآله هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر فلا يزال خائفاً عند النعمة قائلاً في الحالين ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن، وأكمل من هذا أن يكون مسروراً بذكر ربه في كلتا الحالتين، وقيمة الرجال إنما تعرف بالواردات المغيرة فمن لم يتغير بالمضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته كما أشار إليه القشيري ؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان تتعدى فيهما إلى ما لا يجوز ﴿ والله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ لا يحب ﴾ أي : لا يفعل فعل المحب بأن يكرم ﴿ كل مختال ﴾ أي : متكبر نظراً إلى ما في يده من الدنيا ﴿ فخور ﴾ أي : به على الناس قال القشيري : الاختيال من بقايا النفس ورؤيتها، والفخر من رؤية خطر ما به يفتخر.
وقوله تعالى :﴿ الذين يبخلون ﴾ بدل من كل مختال فخور فإنّ المختال بالمال يضن به غالباً ﴿ ويأمرون الناس ﴾ أي : كل من يعرفونه ﴿ بالبخل ﴾ إرادة أن يكونوا لهم رفقاء يعملون بأعمالهم الخبيثة أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله تعالى :﴿ ومن يتول ﴾ أي : يكلف نفسه الإعراض ضد ما في فطرته من محبة الخير والإقبال على الله تعالى :﴿ فإن الله ﴾ الذي له جميع صفات الكمال ﴿ هو ﴾ أي : وحده ﴿ الغني الحميد ﴾ لأنّ معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإنّ الله غني أي : عن ماله وعن إنفاقه وكل شيء مفتقر إليه وهو مستحق للحمد سواء أحمده الحامدون أم لا.
﴿ لقد أرسلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ رسلنا ﴾ أي : الذين لهم نهاية الجلال بما لهم بنا من الاتصال من الملائكة إلى الأنبياء على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ومن الأنبياء إلى الأمم ﴿ بالبينات ﴾ أي : الحجج القواطع ﴿ وأنزلنا ﴾ أي : بعظمتنا التي لا شيء أعلى منها ﴿ معهم الكتاب ﴾ أي : الكتب المتضمنة للأحكام وشرائع الدين ﴿ والميزان ﴾ أي : العدل، وقيل : الآلة روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام وقال مر قومك يزنوا به ﴿ ليقوم الناس بالقسط ﴾ أي : ليتعاملوا بينهم بالعدل ﴿ وأنزلنا ﴾ أي : خلقنا خلقا عظيماً بما لنا من القوة ﴿ الحديد ﴾ أي : المعروف على وجه من القوّة والصلابة واللين فلذلك سمي إيجاده إنزالاً ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نزل آدم عليه السلام من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد وروي من آلة الحدادين السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة، وحكاه القشيري قال : والميقعة ما يحدد به يقال : وقعت الحديدة أقعها أي : حددتها وفي الصحاح : الميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشبة القصار التي يدق عليها والمطرقة والمسن الطويل، وروي ومعه المبرد والمسحاة، وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد والنار والماء والملح ». وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :«أنزل ثلاثة أشياء مع آدم عليه السلام الحجر الأسود وكان أشد بياضاً من الثلج وعصا موسى عليه السلام وكانت من آس طولها عشرة أذرع مع طول موسى » ؛ وعن الحسن ﴿ وأنزلنا الحديد ﴾ خلقناه كقوله تعالى :﴿ وأنزل لكم من الأنعام ﴾ [ الزمر : ٦ ] وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه ﴿ فيه بأس ﴾ أي : قوة وشدّة ﴿ شديد ﴾ أي : قوة شديدة فمنه جنة وهي آلة الدفع ومنه سلاح وهو آلة الضرب ﴿ ومنافع للناس ﴾ بما يعمل منه من مرافقهم لتقوم أحوالهم بذلك قال البيضاوي : ما من صنعة إلا والحديد آلتها، وقال مجاهد : يعني جنة، وقيل : انتفاع الناس بالماعون الحديد كالسكين والفأس ونحو ذلك، وروي أنّ الحديد أنزل في يوم الثلاثاء فيه بأس شديد، أي مهراق الدماء ولذلك نهي عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء لأنه يوم جرى فيه الدم ؛ وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«أن في يوم الثلاثاء ساعة لا يراق فيها الدم ».
وقوله تعالى :﴿ وليعلم الله ﴾ أي : الذي له جميع العظمة علم شهادة لأجل إقامة الحجة بما يليق بعقول الخلق فيكون الجزاء على العمل لا على العلم، عطف على قوله تعالى :﴿ ليقوم الناس ﴾ أي : لقد أرسلنا رسلنا وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس وليعلم الله ﴿ من ينصره ﴾ أي : ينصر دينه بآلات الحرب من الحديد وغيره وقوله تعالى :﴿ ورسله ﴾ عطف على مفعول ينصره أي : وينصر رسله وقوله تعالى :﴿ بالغيب ﴾ حال من هاء ينصره، أي : غائباً عنهم في الدنيا، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ينصرونه ولا يبصرونه ﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له العظمة كلها ﴿ قوي ﴾ أي : فهو قادر على إهلاك جميع أعدائه وتأييد من ينصره من أوليائه ﴿ عزيز ﴾ فهو غير مفتقر إلى نصرة أحد وإنما دعا عباده إلى نصرة دينه ليقيم الحجة عليهم فيرحم من أراد بامتثال المأمور ويعذب من يشاء بارتكاب المنهي لبناء هذه الدار على حكمة ربط المسببات بالأسباب.
ولما أجمل الرسل في قوله تعالى :﴿ لقد أرسلنا رسلنا ﴾ فصل هنا ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب فقال تعالى :﴿ ولقد أرسلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ نوحاً ﴾ وهو الأب الثاني وجعلنا الأغلب على رسالته مظهر الجلال ﴿ وإبراهيم ﴾ وهو أبو العرب والروم وبني إسرائيل الذي أكثر الأنبياء من نسله وجعلنا الأغلب على رسالته تجلى الإكرام ﴿ وجعلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ في ذريتهما النبوّة ﴾ فلا يوجد نبي إلا من نسلهما ﴿ والكتاب ﴾ أي : الكتب الأربعة وهي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الكتاب الخط بالقلم يقال : كتب كتاباً وكتابة والضمير في قوله تعالى :﴿ فمنهم مهتد ﴾ يعود على الذرية لتقدم ذكرها لفظاً وقيل : يعود على المرسل إليهم لدلالة أرسلنا، أي : هو بعين الرضا منا وهو من لزم طريقة الأصفياء وإن كان من أولاد الأعداء ﴿ وكثير منهم ﴾ أي : المذكورين ﴿ فاسقون ﴾ أي : هم بعين السخط وإن كانوا من أولاد الأصفياء، والمراد بالفاسق هاهنا : الكافر لأنه جعل الفساق ضد المهتدين، وقيل : هو الذي ارتكب الكبيرة سواء أكان كافراً أم لم يكن لإطلاق هذا الاسم وهو يشمل الكافر وغيره.
﴿ ثم قفينا ﴾ أي : أتبعنا بما لنا من العظمة ﴿ على آثارهم ﴾ أي : الأبوين المذكورين ومن مضى قبلهما من الرسل أو عاصرهما منهم ﴿ برسلنا ﴾ أي : فأرسلناهم واحداً في أثر واحد كموسى وإلياس وداود وغيرهم، ولا يعود الضمير على الذرية لأنها باقية مع الرسل وبعدهم وأيضاً الرسل المقفى بهم من الذرية ﴿ وقفينا ﴾ أي : أتبعنا بما لنا من العظمة على آثارهم قبل أن تندرس ﴿ بعيسى بن مريم ﴾ وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه وهو آخر من جاء قبل النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام فأمته أولى الأمم باتباعه صلى الله عليه وسلم ﴿ وآتيناه ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ الإنجيل ﴾ كتاباً ضابطاً لما جاء به مقيماً لملته مبشراً بالنبيّ العربيّ موضحاً لأمره مكثراً من ذكره ﴿ وجعلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ في قلوب الذين اتبعوه ﴾ أي : على دينه بغاية جهدهم فكانوا على منهاجه ﴿ رأفة ﴾ أي : أشدّ رقة على من كان ينسب إلى الاتصال بهم ﴿ ورحمة ﴾ أي : رقة وعطفاً على من لم يكن له سبب في الاتصال بهم كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أنّ قلوبهم في غاية الصلابة فهم أعزة على الكافرين متوادين بعضهم لبعض وقوله تعالى :﴿ ورهبانية ﴾ منصوب بفعل مقدر يفسره الظاهر وهو قوله تعالى :﴿ ابتدعوها ﴾ قال أبو علي : ابتدعوا رهبانية ابتدعوها فتكون المسألة من باب الاشتغال وإلى هذا نحا الفارسي والزمخشري وأبو البقاء وجماعة إلا أن هذا يقال : إنه إعراب المعتزلة، وذلك أنهم يقولون : ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له فالرحمة والرأفة لما كانتا من فعل الله تعالى نسب خلقهما إليه، والرهبانية لما لم تكن من فعل الله تعالى بل من فعل العبد يستقل بفعلها نسب ابتداعها إليه، وقيل : إن رهبانية معطوفة على رأفة ورحمة، وجعل إما بمعنى خلق أو بمعنى صيّر وابتدعوها على هذا صفة الرهبانية، وإنما خصت بذكر الابتداع لأنّ الرأفة والرحمة في القلب أمر غريزي لا تكلف للإنسان فيهما بخلاف الرهبانية فإنها أفعال البدن وللإنسان فيها تكسب، لكن أبو البقاء منع هذا بأن ما جعله الله تعالى ليبتدعونه. وجوابه : ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك بها والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين متحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلو واللباس والخشن والاعتزال عن النساء والتعبد في الكهوف والغيران.
روي أنّ ابن عباس رضي الله عنهما قال : في أيام الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم غير الملوك التوراة والإنجيل فساح نفر وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا ؛ قال الضحاك : إن ملوكاً بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقي بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع. وقال قتادة : الرهبانية التي ابتعدوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع هي لحوقهم بالبراري والجبال.
وقوله تعالى :﴿ ما كتبناها ﴾ صفة لرهبانية ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك، قال ابن زيد : معناه ما فرضناها ﴿ عليهم ﴾ ولا أمرنا هم بها في كتابهم ولا على لسان رسولهم وقوله تعالى :﴿ إلا ابتغاء رضوان الله ﴾ أي : الملك الأعظم استثناء منقطع، أي : ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، وقيل : متصل بما هو مفعول من أجله والمعنى : ما كتبناها عليهم الشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله ويكون كتب بمعنى : قضى فصار المعنى : كتبناها عليهم ابتغاء مرضاة الله ﴿ فما رعوها حق رعايتها ﴾ أي : ما قاموا بها حق القيام بل ضموا إليها التثليث وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملكهم وبقي على دين عيسى كثير منهم وآمنوا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ فآتينا ﴾ أي : بما لنا من صفات الكمال ﴿ الذين آمنوا ﴾ أي : بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ منهم أجرهم ﴾ أي : اللائق بهم وهو الرضوان المضاعف ﴿ وكثير منهم ﴾ أي : من هؤلاء الذين ابتدعوها فضيعوا ﴿ فاسقون ﴾ أي : عريقون في وصف الخروج عن الحدود التي حدّها الله تعالى وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه السلام، روى البغوي بسنده عن ابن مسعود أنه قال :«دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم فرقة غزت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى وفرقة لم يكن لهم طاقة بمعاداة الملوك ولا أن يقيموا بين أظهرهم فدعوهم إلى دين الله تعالى ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد فترهبوا وهم الذين قال الله عز وجل :﴿ ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ﴾ » ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم «من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون ».
وعن ابن مسعود أيضاً قال :«كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فقال : يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ فقلت الله ورسوله أعلم، قال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزموا أهل الإيمان ثلاث مرار فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء قتلونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله تعالى النبيّ الذي وعدنا عيسى عليه السلام يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم فتفرّقوا في غيران الجبال وأحدثوا الرهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية ﴿ ورهبانية ابتدعوها ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ﴾ يعني من ثبت عليها أجرهم ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي قلت الله ورسوله أعلم قال : الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة ».
وعن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ لكلّ أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله تعالى » وعن ابن عباس قال : كانت ملوك بني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله تعالى : فقيل لملوكهم : لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل وإلا فما بدلوا منهما فقالوا نحن نكفيكم أنفسنا، فقالت طائفة : ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقر فلا نرد عليكم ولا نراكم ففعلوا بهم ذلك، فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه السلام، وخلف قوم من بعدهم ممن غير الكتاب فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فذلك قوله عز وجلّ :﴿ ورهبانية ابتدعوها ﴾ ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها حق رعايتها، يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم ﴿ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ﴾ يعني : الذين اتبعوها ابتغاء مرضاة الله ﴿ وكثير منهم فاسقون ﴾ هم الذين جاؤوا من بعدهم قال : فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب دير من ديره فآمنوا وصدّقوا فقال الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم ﴾.
﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : بموسى وعيسى عليهما السلام إيماناً صحيحاً ﴿ اتقوا الله ﴾ أي : خافوا عقاب الملك الأعظم ﴿ وآمنوا برسوله ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بمن تقدّمه، هذا إذا كان خطاباً لمؤمني أهل الكتاب، وأمّا إذا كان خطاباً للمؤمنين من أهل الكتاب وغيرهم، فالمعنى : آمنوا برسوله إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بالله تعالى فإنه لا يصح الإيمان بالله إلا مع الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ يؤتكم ﴾ أي : يثبكم على اتباعه ﴿ كفلين ﴾ أي : نصيبين ضخمين ﴿ من رحمته ﴾ يحصنانكم من العذاب كما يحصن الكفل الراكب من الوقوع وهو كساء يعقد على ظهر البعير فيلقي مقدّمه على الكاهل ومؤخره على العجز وهذا التحصين لأجل إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيمانكم بمن تقدّمه مع خفة العمل ورفع الآصار، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق وإن كان منسوخاً ببركة الإسلام. وقيل : الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم وقال أبو موسى الأشعري : كفلين ضعفين بلسان الحبشة، وقال ابن زيد : كفلين أجر الدنيا وأجر الآخرة، وعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ثلاث يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوّجها، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده » ﴿ ويجعل لكم ﴾ أي : مع ذلك ﴿ نوراً ﴾ مجازياً في الدنيا من العلوم والمعارف القلبية وحسياً في الآخرة بسبب العمل ﴿ تمشون به ﴾ أي : مجازاً في الدنيا بالتوفيق للعمل وحقيقة في الآخرة بسبب العمل، وقال مجاهد : النور هو البيان والهدى، وقال ابن عباس : هو القرآن، وقال الزمخشري : هو النور المذكور في قوله تعالى :﴿ نورهم يسعى ﴾ [ التحريم : ٨ ]
وقيل : يمشون في الناس يدعونهم إلى الإسلام فيكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياستكم فيه وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله تعالى لا الرياسة الحقيقية في الدين ﴿ ويغفر لكم ﴾ أي : ما فرط منكم من سهو وعمد وهزل وجدّ ﴿ والله ﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ غفور ﴾ أي : بليغ المحو للذنوب عيناً وأثر ﴿ رحيم ﴾ أي : بليغ الإكرام لمن يغفر له ويوفقه للعمل بما يرضيه.
ولما بلغ من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله تعالى :﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين ﴾ قالوا للمسلمين : أمّا من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وبكتابنا ومن لم يؤمن منا فله أجره كأجوركم فما فضلكم علينا فأنزل الله تعالى :﴿ لئلا يعلم ﴾ أي : ليعلم ولا زائدة للتأكيد ﴿ أهل الكتاب ﴾ الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ أن ﴾ مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن والمعنى أنهم ﴿ لا يقدرون على شيء ﴾ في زمن من الأزمان ﴿ من فضل الله ﴾ أي : الملك الأعلى فلا أجر لهم ولا نصيب في فضله إن لم يؤمنوا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة : حسد الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب المؤمنين منهم فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد : قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبيّ يقطع الأيدي والأرجل فلما خرج من العرب كفروا به فنزلت الآية. وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادّعوا الفضل عليهم فنزلت، وقيل : المراد من فضل الله الإسلام، وقيل : الثواب، وقال الكلبي : من رزق الله وقيل : نعم الله تعالى التي لا تحصى ﴿ وأنّ ﴾ أي : وليعلموا أن ﴿ الفضل ﴾ أي : الذي لا يحتاج إليه من هو عنده ﴿ بيد الله ﴾ الذي له الأمر كله ﴿ يؤتيه من يشاء ﴾ لأنه قادر مختار فآتى المؤمنين منهم أجرهم مرتين ﴿ والله ﴾ أي : الذي أحاط بجميع صفات الكمال ﴿ ذو الفضل العظيم ﴾ أي : مالكه ملكاً لا ينفك ولا ملك لأحد فيه معه ولا تصرف بوجه أصلاً فلذلك يخص من يشاء بما يشاء.
روى البخاري عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو قائم على المنبر :«إنما بقاؤكم فيمن سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين، قال أهل التوراة : ربنا هؤلاء أقل عملاً وأكثر أجراً قال : هل ظلمتكم من أجركم شيئاً ؟ قالوا : لا، قال فذلك فضلي أوتيه من أشاء » وفي رواية «فغضبت اليهود والنصارى وقالوا : ربنا » الحديث، وفي رواية «إنما أجلكم في أجل من كان قبلكم خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس » ؟ «وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً فقال : من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعلمت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى العصر على قيراط قيراط، ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ألا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا : نحن أكثر عملاً وأقل عطاء قال الله تعالى : هل ظلمتكم من حقكم شيئاً ؟ قالوا : لا، قال : فإنه فضلي أوتيه من شئت ». وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا : لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل، فقال لهم : لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملاً فأبوا وتركوا واستأجر آخرين من بعدهم فقال : أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى
إذا كان حين صلاة العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه فقال : أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا فاستأجر آخرين على أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كلاهما فذلك مثلهم ومثل ما بقوا من هذا النور ».
Icon