تفسير سورة النبأ

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة النبأ من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه ابن عثيمين . المتوفي سنة 1421 هـ

﴿ عم يتساءلون ﴾ يعني عم يتساءل هؤلاء،
ثم أجاب الله عز وجل عن هذا السؤال فقال :﴿ عن النبأ العظيم. الذي هم فيه مختلفون ﴾ وهذا النبأ هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من البينات والهدى، ولاسيما ما جاء به من الأخبار عن اليوم الاخر والبعث والجزاء،
وقد اختلف الناس في هذا النبأ الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم :: ﴿ الذي هم فيه مختلفون ﴾
فمنهم من آمن به وصدق، ومنهم من كفر به وكذب، فبين الله أن هؤلاء الذين كذبوا سيعلمون ما كذبوا به علم اليقين، وذلك إذا رأوا يوم القيامة يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق، ولهذا قال سبحانه هنا :﴿ كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون ﴾
﴿ كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون ﴾ والجملة الثانية توكيدٌ للأولى من حيث المعنى، وإن كانت ليست توكيداً باعتبار اصطلاح النحويين ؛ لأنه فُصل بينها وبين التي قبلها بحرف العطف، والتوكيد لا يُفصل بينه وبين مؤكدة بشيء من الحروف. والمراد بالعلم الذي توعدهم الله به هو علم اليقين الذي يشاهدونه على حسب ما أخبروا به.
ثم بين الله تعالى نعمه على عباده ليقرر هذه النعم فيلزمهم شكرها فقال
﴿ كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون ﴾ والجملة الثانية توكيدٌ للأولى من حيث المعنى، وإن كانت ليست توكيداً باعتبار اصطلاح النحويين ؛ لأنه فُصل بينها وبين التي قبلها بحرف العطف، والتوكيد لا يُفصل بينه وبين مؤكدة بشيء من الحروف. والمراد بالعلم الذي توعدهم الله به هو علم اليقين الذي يشاهدونه على حسب ما أخبروا به.
ثم بين الله تعالى نعمه على عباده ليقرر هذه النعم فيلزمهم شكرها فقال
﴿ ألم نجعل الأرض مهاداً ﴾ أي جعل الله الأرض مهاداً ممهدة للخلق ليست بالصلبة التي لا يستطيعون حرثها، ولا المشي عليها إلا بصعوبة، وليست باللينة الرخوة التي لا ينتفعون بها، ولكنها ممهدة لهم على حسب مصالحهم وعلى حسب ما ينتفعون به.
﴿ والجبال أوتاداً ﴾ أي جعلها الله تعالى أوتاداً بمنزلة الوتد للخيمة حيث يثبتها فتثبت به، وهو أيضاً ثابت كما قال تعالى :﴿ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها ﴾ [ فصلت : ١٠ ]. وهذه الأوتاد قال علماء الأرض : إن هذه الجبال لها جذور راسخة في الأرض كما يرسخ جذر الوتد بالجدار، ولذلك تجدها صلبة قوية لا تزعزعها الرياح وهذا من تمام قدرته ونعمته.
﴿ وخلقناكم أزواجاً ﴾ أي أصنافاً ما بين ذكر وأنثى، وصغير وكبير، وأسود وأحمر، وشقي وسعيد إلى غير ذلك مما يختلف الناس فيه، فهم أزواج مختلفون على حسب ما أراده الله عز وجل واقتضته حكمته ليعتبر الناس بقدرة الله تعالى، وأنه قادر على أن يجعل هذا البشر الذين خلقوا من مادة واحدة ومن أب واحد على هذه الأصناف المتنوعة المتباينة.
﴿ وجعلنا نومكم سباتاً ﴾ أي قاطعاً للتعب، فالنوم يقطع ما سبقه من التعب، ويستجد به الإنسان نشاطاً للمستقبل، ولذلك تجد الرجل إذا تعب ثم نام استراح وتجدد نشاطه، وهذا من النعمة وهو أيضاً من آيات الله كما قال الله تعالى :﴿ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله ﴾. [ الروم : ٢٣ ].
﴿ وجعلنا الليل لباساً ﴾ أي جعل الله هذا الليل على الأرض بمنزلة اللباس كأن الأرض تلبسه ويكون جلباباً لها، وهذا لا يعرفه تمام المعرفة إلا إذا صعد فوق ظل الأرض، وقد رأينا ذلك من الايات العجيبة إذا صعدت في الطائرة وارتفعت وقد غابت الشمس عن سطح الأرض ثم تبينت لك الشمس بعد أن ترتفع تجد الأرض وكأنما كسيت بلباس أسود.
﴿ وجعلنا النهار معاشاً ﴾ أي معاشاً يعيش الناس فيه في طلب الرزق على حسب درجاتهم وعلى حسب أحوالهم، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على العباد.
﴿ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً ﴾ وهي السماوات السبع، وصفها الله تعالى بالشداد لأنها قوية كما قال تعالى :﴿ والسماء بنيناها بأيدٍ وإنا لموسعون ﴾ [ الذاريات : ٤٧ ]. أي بنيناها بقوة.
﴿ وجعلنا سراجاً وهَّاجاً ﴾ يعني بذلك الشمس فهي سراج مضيء، وهي أيضاً ذات حرارة عظيمة. ﴿ وهاجاً ﴾ أي وقَّادة، وحرارتها في أيام الصيف حرارة شديدة مع بعدها الساحق عن الأرض، فما ظنك بما يقرب منها، ثم إنها تكون في أيام الحر في شدة حرها من فيح جهنم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :«إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم ». وقال عليه الصلاة والسلام :«اشتكت النار إلى الله فقالت : يا رب، أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم، وأشد ما يكون من الحر من فيح جهنم ». ومع ذلك فإن فيها مصلحة عظيمة للخلق فهي توفر على الخلق أموالاً عظيمة في أيام النهار حيث يستغني الناس بها عن إيقاد الأنوار، وكذلك الطاقة التي تستخرج منها تكون فيها فوائد كثيرة، وكذلك إنضاج الثمار وغير هذا من الفوائد العديدة من هذا السراج الذي جعله الله عز وجل لعباده.
ولما ذكر السراج الوهاج الذي به الحرارة واليبوسة ذكر ما يقابل ذلك فقال :﴿ وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجَّاجاً ﴾ والماء فيه رطوبة وفيه برودة، وهذا الماء أيضاً تنبت به الأرض وتحيا به، فإذا انضاف إلى هذا ماء السماء وحرارة الشمس حصل في هذا إنضاج للثمار ونمو لها على أكمل ما يكون. ﴿ وأنزلنا من المعصرات ﴾ يعني من السحاب، ووصفها الله بأنها معصرات كأنما تعصر هذا الماء عند نزوله عصراً، كما يعصر الثوب، فإن هذا الماء يتخلل هذا السحاب ويخرج منه كما يخرج الماء من الثوب المعصور، وقوله :﴿ ماء ثجَّاجاً ﴾ أي كثير التدفق واسعاً.
﴿ لنخرج به حبًّا ونباتاً ﴾ أي لنخرج بهذا الماء الذي أنزل من السماء إلى الأرض فتنبت الأرض ويخرج الله به من الحب بجميع أصنافه وأنواعه البر والشعير والذرة وغيرها.
﴿ وجنات ألفافا ﴾ أي بساتين ملتفاً بعضها إلى بعض، من كثرتها وحسنها وبهائها حتى إنها لتستر من فيها لكثرتها، والتفاف بعضها إلى بعض، وهي الأشجار التي لها ساق، فيخرج من هذا الماء الثجاج الزروع والنخيل والأعناب وغيرها سواء خرج منه مباشرة أو خرج منه بواسطة استخراج الماء من باطن الأرض ؛ لأن الماء الذي في باطن الأرض هو من المطر كما قال تعالى :﴿ فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ﴾ [ الحجر : ٢٢ ]. وقال تعالى في آية أخرى :﴿ فسلكه ينابيع في الأرض ﴾. [ الزمر : ٢١ ].
ولما ذكر الله تعالى ما أنعم به على العباد ذكر حال اليوم الاخر وأنه ميقات يجمع الله به الأولين والاخرين فقال تعالى :
﴿ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَتاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً * وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِّلطَّغِينَ مََاباً * لَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً * لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَآءً وِفَقاً * إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُواْ بَِايَتِنَا كِذَّاباً * وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَهُ كِتَباً * فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ﴾.
قال تعالى :﴿ إن يوم الفصل كان ميقاتاً ﴾ وهو يوم القيامة، وسمي يوم فصل لأن الله يفصل فيه بين العباد فيما شجر بينهم، وفيما كانوا يختلفون فيه، فيفصل بين أهل الحق وأهل الباطل، وأهل الكفر وأهل الإيمان، وأهل العدوان وأهل الاعتدال، ويفصل فيه أيضاً بين أهل الجنة والنار، فريق في الجنة وفريق في السعير. ﴿ كان ميقاتاً ﴾ يعني موقوتاً لأجل معدود كما قال تعالى :﴿ وما نؤخره إلا لأجل معدود ﴾ [ هود : ١٠٤ ]. وما ظنك بشيء له أجل معدود وأنت ترى الأجل كيف يذهب سريعاً يوماً بعد يوم حتى ينتهي الإنسان إلى آخر مرحلة، فكذلك الدنيا كلها تسير يوماً بعد يوم حتى تنتهي إلى آخر مرحلة، ولهذا قال تعالى :﴿ وما نؤخره إلا لأجل معدود ﴾ كل شيء معدود فإنه ينتهي. ﴿ يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً ﴾ والنافخ الموكل فيها إسرافيل، ينفخ فيها نفختين : الأولى : يفزع الناس ثم يصعقون فيموتون، والثانية : يبعثون من قبورهم تعود إليهم أرواحهم، ولهذا قال هنا :﴿ يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً ﴾
﴿ يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً ﴾ وفي الاية إيجاز بالحذف أي فتحيون فتأتون أفواجاً ؛ فوجاً مع فوج أو يتلو فوجاً، وهذه الأفواج والله أعلم بحسب الأمم كل أمة تدعى إلى كتابها لتحاسب عليه، فيأتي الناس أفواجاً في هذا الموقف العظيم الذي تسوى فيه الأرض فيذرها الله عز وجل قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً،
وفي هذا اليوم يقول الله عز وجل :﴿ وفتحت السماء فكانت أبواباً ﴾ فتحت وانفرجت فتكون أبواباً يشاهدها الناس بعد أن كانت سقفاً محفوظاً تكون في ذلك اليوم أبواباً مفتوحة، وفي هذا دليل على كمال قدرة الله عز وجل أن هذه السبع الشداد يجعلها الله تعالى يوم القيامة كأن لم تكن، تكون أبواباً ﴿ يوم تكون السماء كالمهل. وتكون الجبال كالعهن. ولا يسأل حميم حميماً. يبصرونهم ﴾ [ المعارج : ٨ ١١ ].
﴿ وسيرت الجبال فكانت سراباً ﴾ أي أن الجبال العظيمة الصماء تُدك فتكون كالرمل ثم تكون كالسراب تسير ﴿ وسيرت الجبال فكانت سراباً ﴾.
قوله تعالى :﴿ للطاغين مئاباً ﴾
الطغيان مجاوزة الحد، وحد الإنسان مذكور في قوله تعالى :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾. [ الذاريات : ٥٦ ].
قوله تعالى :﴿ لابثين فيها أحقاباً ﴾
فمن جاوز حده ولم يعبد الله فهو الطاغي، فجهنم كانت للطاغين مآبهم ومرجعهم وأنهم لابثون فيها أحقاباً.
﴿ لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً ﴾ نفى الله سبحانه وتعالى عنهم البرد الذي تبرد به ظواهر أبدانهم، والشراب الذي تبرد به أجوافهم.
﴿ إلا حميماً وغساقاً ﴾ الاستثناء هنا منقطع عند النحويين لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والمعنى ليس لهم إلا هذا الحميم وهو الماء الحار المنتهي في الحرارة. ﴿ يغاثون بماء كالمهل يشوي الوجوه ﴾ [ الكهف : ٢٩ ]. ﴿ وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم ﴾. [ محمد : ١٥ ]. ﴿ وغساقاً ﴾ قال المفسرون : إن الغساق هو شراب منتن الرائحة شديد البرودة، فيجمع لهم والعياذ بالله بين الماء الحار الشديد الحرارة، والماء البارد الشديد البرودة ليذوقوا العذاب من الناحيتين : من ناحية الحرارة، ومن ناحية البرودة، بل إن بعض أهل التفسير قالوا : إن المراد بالغساق صديد أهل النار، وما يخرج من أجوافهم من النتن والعرق وغير ذلك. وعلى كل حال فالاية الكريمة تدل على أنهم لا يذوقون إلا هذا الشراب الذي يقطع أمعاءهم من حرارته، ويفطّر أكبادهم من برودته، نسأل الله العافية. وإذا اجتمعت هذه الأنواع من العذاب كان ذلك زيادة في مضاعفة العذاب عليهم.
﴿ جزاء وفاقاً ﴾ أي يجزون بذلك جزاء موافقاً لأعمالهم من غير أن يظلموا، قال الله تبارك وتعالى :﴿ إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون ﴾ [ يونس : ٤٤ ]. فهذا الجزاء موافق مطابق لأعمالهم.
ثم بين وجه الموافقة أي موافقة هذا العذاب للأعمال فقال :﴿ إنهم كانوا لا يرجون حساباً. وكذبوا بآياتنا كِذَّاباً ﴾ فذكر انحرافهم في العقيدة وانحرافهم في القول، ﴿ إنهم كانوا لا يرجون حساباً ﴾ أي لا يؤملون أن يحاسبوا بل ينكرون الحساب، ينكرون البعث يقولون :﴿ ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ﴾ فلا يرجون حساباً يحاسبون به لأنهم ينكرون ذلك، هذه عقيدة قلوبهم،
﴿ وكذبوا بآياتنا كِذَّاباً ﴾
أما ألسنتهم فيكذبون يقولون هذا كذب، هذا سحر، هذا جنون، وما أشبه ذلك كما جاء في كتاب الله ما يصف به هؤلاء المكذبون رسل الله، كما قال عز وجل :﴿ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ﴾ [ الذاريات : ٥٢ ]. وقال الله تعالى عن المكذبين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم :﴿ وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ﴾ [ ص : ٤ ]. وقالوا إنه شاعر ﴿ أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ﴾ [ الطور : ٣٠ ]. ﴿ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ﴾ [ الحجر : ٧ ]. ولولا أن الله ثبت أقدام الرسل وصبرهم على قومهم ما صبروا على هذا الأمر، ثم إن قومهم المكذبين لهم لم يقتصروا على هذا بل آذوهم بالفعل كما فعلوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام من الأذية العظيمة بل آذوهم بحمل السلاح عليهم، فمن كانت هذه حاله فجزاؤه جهنم جزاءً موافقاً مطابقاً لعمله كما في هذه الاية الكريمة :﴿ جزاء وفاقاً. إنهم كانوا لا يرجون حساباً. وكذبوا بآياتنا كذاباً ﴾.
قوله تعالى :﴿ وكل شيء أحصيناه كتاباً ﴾ ﴿ كل شيء ﴾ يشمل ما يفعله الله عز وجل من الخلق والتدبير في الكون، ويشمل ما يعمله العباد من أقوال وأفعال، ويشمل كل صغير وكبير ﴿ أحصيناه ﴾ أي ضبطناه بالإحصاء الدقيق الذي لا يختلف. ﴿ كتاباً ﴾ يعني كتباً، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله تعالى كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، ومن جملة ذلك أعمال بني آدم فإنها مكتوبة، بل كل قول يكتب، قال الله تعالى :﴿ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ﴾ [ ق : ١٨ ]. رقيب يعني مراقب، والعتيد يعني الحاضر. ودخل رجل على الإمام أحمد رحمه الله وهو مريض يئن من مرضه فقال له : يا أبا عبدالله إن طاووساً وهو أحد التابعين المشهورين يقول : إن أنين المريض يكتب، فتوقف رحمه الله عن الأنين خوفاً من أن يكتب عليه أنين مرضه. فكيف بأقوال لا حدّ لها ولا ممسك لها، ألفاظ تترى طوال الليل والنهار ولا يحسب لها الحساب، فكل شيء يكتب حتى الهم يكتب إما لك وإما عليك، من همّ بالسيئة فلم يعملها عاجزاً عنها فإنها تكتب عليه، وإن هم بها وتركها لله فإنها تكتب له، فلا يضيع شيء كل شيء أحصيناه كتاباً.
﴿ فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً ﴾ هذا الأمر للإهانة والتوبيخ، يعني يقال لأهل النار : ذوقوا العذاب إهانة وتوبيخاً فلن نزيدكم إلا عذاباً ولن نخفف عنكم بل ولا نبقيكم على ما أنتم عليه لا نزيدكم إلا عذاباً في قوته ومدته ونوعه، وفي آية أخرى أنهم يقولون لخزنة جهنم :﴿ ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب ﴾ [ غافر : ٤٩ ]. تأمل هذه الكلمة من عدة أوجه :
أولاً : أنهم لم يسألوا الله سبحانه وتعالى وإنما طلبوا من خزنة جهنم أن يدعوا لهم. لأن الله قال لهم :﴿ اخسئوا فيها ولا تكلمون ﴾. [ المؤمنون : ١٠٨ ]. فرأوا أنفسهم أنهم ليسوا أهلاً لأن يسألوا الله ويدعوه إلا بواسطة.
ثانياً : أنهم قالوا :﴿ ادعوا ربكم ﴾ ولم يقولوا : ادعوا ربنا، لأن وجوههم وقلوبهم لا تستطيع أن تتحدث أو أن تتكلم بإضافة ربوبية الله لهم أي بأن يقولوا ربنا، عندهم من العار والخزي ما يرون أنهم ليسوا أهلاً لأن تضاف ربوبية الله إليهم بل قالوا ﴿ ربكم ﴾.
ثالثاً : لم يقولوا يرفع عنا العذاب بل قالوا :﴿ يخفف ﴾ لأنهم آيسون نعوذ بالله، آيسون من أن يرفع عنهم.
رابعاً : أنهم لم يقولوا يخفف عنا العذاب دائماً، بل قالوا ﴿ يوماً من العذاب ﴾ يوماً واحداً، بهذا يتبين ما هم عليه من العذاب والهوان والذل ﴿ وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي ﴾ [ الشورى : ٤٥ ]. أعاذنا الله منها.
﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَآئِقَ وَأَعْنَباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لاَّيَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَباً * جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً ﴾.
ذكر الله عز وجل ما للمتقين من النعيم بعد قوله :﴿ إن جهنم كانت مرصاداً. للطاغين مآباً ﴾. لأن القرآن مثاني إذا ذكر فيه العقاب ذكر فيه الثواب، وإذا ذكر الثواب ذكر العقاب، وإذا ذكر أهل الخير ذكر أهل الشر، وإذا ذكر الحق ذكر الباطل، مثاني حتى يكون سير الإنسان إلى ربه بين الخوف والرجاء ؛ لأنه إن غلب عليه الرجاء وقع في الأمن من مكر الله، وإن غلب عليه الخوف وقع في القنوط من رحمة الله، وكلاهما من كبائر الذنوب، كلاهما شر، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله :«ينبغي أن يكون الإنسان في عبادته لربه بين الخوف والرجاء، فأيهما غلب هلك صاحبه ». لذلك تجد القرآن الكريم يأتي بهذا وبهذا، ولئلا تمل النفوس من ذكر حال واحدة والإسهاب فيها دون ما يقابلها. وهكذا، لأجل أن يكون الإنسان حين يقرأ القرآن راغباً راهباً، وهذا من بلاغة القرآن الكريم.
﴿ إن للمتقين مفازاً ﴾ المتقون هم الذين اتقوا عقاب الله، وذلك بفعل أوامر الله واجتناب نواهيه، وأحياناً يأمر الله بتقواه، وأحياناً يأمر بتقوى يوم الحساب، وأحياناً يأمر بتقوى النار، قال الله تعالى :﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار ﴾ [ آل عمران : ١٣٠ ]. فجمع بين الأمر بتقواه والأمر بتقوى النار، وقال تعالى :﴿ واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ]. فأمر بتقوى يوم الحساب، وكل هذا يدور على معنى واحد وهو : أن يتقي الإنسان محارم ربه فيقوم بطاعته وينتهي عن معصيته، فالمتقون هم الذين قاموا بأوامر الله واجتنبوا نواهي الله، هؤلاء لهم ﴿ مفازاً ﴾، والمفاز هو مكان الفوز وزمان الفوز أيضاً، فهم فائزون في أمكنتهم، وفائزون في أيامهم.
﴿ حدائق وأعنابا ﴾ هذا نوع المفاز، ﴿ حدائق ﴾ أي بساتين أشجارها عظيمة وكثيرة ومنوعة الأشجار. ﴿ وأعناباً ﴾ الأعناب جمع عنب وهي من جملة الحدائق لكنه خصها بالذكر.
﴿ وكواعب أترابا ﴾ الكواعب جمع كاعب وهي التي تبين ثديها ولم يتدل، بل برز وظهر كالكعب، وهذا أكمل ما يكون في جمال الصدر. ﴿ وأتراباً ﴾ أي على سن واحدة لا تختلف إحداهن عن الأخرى كبراً كما في نساء الدنيا، لأنها لو اختلفت إحداهن عن الأخرى كبراً فربما تختل الموازنة بينهما، وربما تكون إحداهما محزونة إذا لم تساوي الأخرى، لكنهن أتراب.
﴿ وكأساً دهاقاً ﴾ أي كأساً ممتلئة، والمراد بالكأس هنا كأس الخمر. وربما يكون للخمر وغيره، لأن الجنة فيها ﴿ أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ﴾ [ محمد : ١٥ ].
﴿ لا يسمعون فيها لغواً ﴾ لا يسمعون في الجنة لغواً أي كلاماً باطلاً لا خير فيه. ﴿ ولا كذاباً ﴾ أي ولا كذباً فلا يكذبون، ولا يكذب بعضهم بعضاً، لأنهم على سرر متقابلين قد نزع الله ما في صدورهم من غل وجعلهم أخواناً.
﴿ جزاء من ربك عطاء ﴾ أي أنهم يجزون بهذا جزاء من الله سبحانه وتعالى على أعمالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا واتقوا بها محارم الله. ﴿ حساباً ﴾ أي كافياً، مأخوذة من الحسب وهو الكفاية أي أن هذا الكأس كأس كافٍ لا يحتاجون معه إلى غيره لكمال لذته وتمام منفعته.
﴿ رَّبِّ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً * يَوْمَ يَقُومُالرُّوحُ وَالْمَلَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مََاباً * إِنَّآ أَنذَرْنَكُمْ عَذَاباًقَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَلَيْتَنِى كُنتُ تُرَباً ﴾.
﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن ﴾ فالله سبحانه وتعالى هو رب كل شيء، قال الله تعالى :﴿ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء ﴾ [ النمل : ٩١ ]. فهو رب السماوات السبع الطباق، ورب الأرض وهي سبع كما ثبت ذلك في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ﴿ وما بينهما ﴾ أي ما بين السماوات والأرض من المخلوقات العظيمة كالغيوم والسحب والأفلاك وغيرها مما نعلمه، ومما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. وقوله :﴿ لا يملكون منه خطاباً ﴾ يعني أن الناس لا يملكون الخطاب من الله، ولا يستطيع أحد أن يتكلم إلا بإذن الله، وذلك
﴿ يوم يقوم الروح ﴾ وهو جبريل ﴿ والملائكة صفًّا ﴾ أي صفوفاً. صفًّا بعد صف، لأنه كما جاء في الحديث :«تنزل ملائكة السماء الدنيا فتحيط بالخلق، ثم ملائكة السماء الثانية من وراءهم، ثم الثالثة والرابعة والخامسة » وهكذا.. صفوفاً لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم سبحانه وتعالى. ﴿ لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً ﴾ أي لا يتكلمون ملائكة ولا غيرهم كما قال تعالى :﴿ وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً ﴾ [ طه : ١٠٨ ]. ﴿ إلا من أذن له الرحمن ﴾ بالكلام فإنه يتكلم كما أُذن له. ﴿ وقال صواباً ﴾ أي قال قولاً صواباً موافقاً لمرضات الله سبحانه وتعالى وذلك بالشفاعة إذا أذن الله لأحد أن يشفع شفع فيما أذن له فيه على حسب ما أُذن له.
﴿ ذلك اليوم الحق ﴾ أي ذلك الذي أخبرناكم عنه هو اليوم الحق، والحق ضد الباطل أي الثابت الذي يقوم فيه الحق، ويقوم فيه العدل يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ﴿ فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً ﴾ أي من شاء عمل عملاً يؤوب به إلى الله ويرجع به إلى الله، وذلك العمل الصالح الموافق لمرضاة الله تعالى. وقوله :﴿ فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً ﴾ قيدتها آية أخرى وهي قوله تعالى :﴿ لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ﴾ [ التكوير : ٢٨، ٢٩ ]. يعني أننا لنا الخيار فيما نذهب إليه لا أحد يكرهنا على شيء ؛ لكن مع ذلك خيارنا وإرادتنا ومشيئتنا راجعة إلى الله ﴿ وما تشاءون إلا أن يشاء الله ﴾ وإنما بين الله ذلك في كتابه من أجل أن لا يعتمد الإنسان على نفسه وعلى مشيئته بل يعلم أنها مرتبطة بمشيئة الله، حتى يلجأ إلى الله في سؤال الهداية لما يحب ويرضى. لا يقول الإنسان أنا حر أريد ما شئت وأتصرف كما شئت، نقول الأمر كذلك لكنك مربوط بإرادة الله عز وجل.
﴿ إنا أنذرناكم عذاباً قريباً ﴾ أي خوفناكم من عذاب قريب وهو يوم القيامة. ويوم القيامة قريب، ولو بقيت الدنيا ملايين السنين فإنه قريب ﴿ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ﴾ [ النازعات : ٤٦ ]. فهذا العذاب الذي أنذرنا الله قريب، ليس بين الإنسان وبينه إلا أن يموت، والإنسان لا يدري متى يموت قد يصبح ولا يمسي، أو يمسي ولا يصبح، ولهذا كان علينا أن نحزم في أعمالنا، وأن نستغل الفرصة قبل فوات الأوان. ﴿ يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ﴾ المرء : أي كل امرىء ينظر ما قدمت يداه ويكون بين يديه ويعطى كتابه، ويقال :﴿ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ﴾ [ الإسراء : ١٤ ]. ويقول الكافر من شدة ما يرى من الهول وما يشاهده من العذاب :﴿ يا ليتني كنت تراباً ﴾ أي ليتني لم أخلق، أو ليتني لم أبعث، أو إذا رأى البهائم التي يقضي الله بينها ثم يقول كوني تراباً فتكون تراباً يتمنى أن يكون مثل البهائم فقوله :﴿ كنت تراباً ﴾ تحتمل ثلاثة معانٍ :
المعنى الأول : يا ليتني كنت تراباً فلم أُخلق، لأن الإنسان خُلق من تراب.
المعنى الثاني : ياليتني كنت ترابًا فلم أُبعث، يعني كنت ترابًا في أجواف القبور.
المعنى الثالث : أنه إذا رأى البهائم التي قضى الله بينها وقال لها كوني تراباً فكانت تراباً قال : ليتني كنت تراباً أي كما كانت هذه البهائم والله أعلم وإلى هنا تنتهي سورة النبأ، وفيها من المواعظ والحكم وآيات الله عز وجل ما يكون موجباً للإيقان والإيمان، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بكتابه، وأن يجعله موعظة لقلوبنا، وشفاء لما في صدورنا، إنه جواد كريم.
Icon