تفسير سورة هود

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة هود من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة هود
عبادة الله تعالى
في أوائل سورة هود المكّية ركّزت الآيات على إحكام القرآن الكريم، فهو لا يشتمل على أي نقض أو تناقض، كما أمرت بعبادة الله وحده باعتبار أن العبادة هي المقصود الديني الأعظم من خلق الإنسان كما في قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) [الذّاريات: ٥١/ ٥٦]. وقوله سبحانه: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) [البيّنة: ٩٨/ ٥].
والعبادة الخالصة لله تعالى تتطلب الاستغفار والتوبة من الذنوب السابقة وعلى رأسها الكفر، قال الله تعالى مبيّنا هذه الأصول المبدئية والتكليفية في مطلع سورة هود المكّية:
[سورة هود (١١) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)
«١» «٢» [هود: ١١/ ١- ٤].
افتتحت سورة هود بالحروف المقطعة الر للتنبيه وتحدّي العرب بأن يأتوا بمثل القرآن، ما دام مكوّنا من حروف لغتهم التي ينطقون بها ويكتبون بها. ثم قررت هذه
(١) ذات نظم محكم.
(٢) فرّقت في التنزيل بحسب المناسبات والأحوال.
1020
الآيات أصول الدين: وهي إحكام القرآن وتفصيله، والدعوة إلى عبادة الله وتوحيده والإنابة إليه، والإيمان بالبعث والجزاء في عالم الآخرة.
والمعنى: هذا القرآن كتاب عظيم الشأن، جليل القدر، محكم النظم والمعنى، لا خلل فيه ولا نقص، فهو كامل الصورة والمبنى والمعنى لأنه صادر من عند الله الحكيم في أقواله وأفعاله، الخبير بحوائج عباده، وبعواقب الأمور.
نزل هذا الكتاب بألا تعبدوا غير الله، ولا تشركوا به شيئا، فالعبادة لله تحقق معنى العبودية والانقياد لله تعالى، مع قيامها على الحبّ، لا على القهر والقسر، وإنني أنا رسول الله مرسل من عند الله، نذير من العذاب إن عصيتموه أو خالفتموه، وبشير مبشّر بالثواب إن أطعتموه. وفي هذا تبيان مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ووظيفته وهي الإنذار لمن عصاه بالنّار، والتّبشير لمن أطاعه بالجنة.
ومن مهامي أنا النّبي المرسل أن آمركم بالاستغفار من الذنوب السابقة، وهي الشّرك والكفر والمعاصي والمنكرات، وأن تتوبوا منها إلى الله عزّ وجلّ بالإقلاع عنها وبالنّدم على ما مضى، والعزم على عدم العودة إلى أي ذنب في المستقبل، فإن استغفرتم وندمتم، وتبتم من كفركم وشرككم، يمتّعكم الله متاعا حسنا في الدنيا، بإطالة النفع فيها بمنافع حسّية مرضية، وعيشة طيبة هنيّة، ورزق واسع متتابع، ويظل هذا التمتع الهني في الدنيا إلى أن يأتي الأجل المعين وهو الموت.
فالمطلوب للتّخلي عن سيرة الكفر السابقة أمران: الاستغفار من الشّرك، ثم التوبة المخلصة والرجوع إلى الله بالطاعة والعبادة، فتصفو النفس من آثار الشّرك، وتقبل على حياة الدنيوية لله عزّ وجلّ بالانقياد لأوامره وعبادته على وفق مراده.
وثمرة إطاعة الله لا تقتصر على توفير الحياة الهانئة السعيدة في الدنيا، وإنما تشمل أيضا في الآخرة إعطاء كل ذي فضل في العمل جزاء فضله وإحسانه، لا يبخس منه
1021
شيء، فيجمع الله بين الجزاءين: التّمتيع في الدنيا، والثواب في الآخرة. ولكن متاع الدنيا قليل فان، ومتاع الآخرة كثير خالد.
فإن أعرضتم أيها الناس عما دعوتكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، فإني أخشى عليكم وأحذّركم من عذاب يوم كبير هو يوم القيامة. ووصف هذا اليوم بالكبر، لما فيه من السّعة والأهوال، كما وصف بالعظم والثّقل لما فيه من العظائم والشدائد، والأثقال والآلام. وهذا توعّد بيوم القيامة.
وأضاف الله تعالى إليه توعّدا آخر وهو تفرّد الله بسلطان الحساب في الآخرة، فجميع الناس مرجعهم وطريقهم إلى الله، أي إلى عقابه وجزائه، وهو سبحانه القادر الذي لا يضرّه شيء، ولا يجير عليه مجير، ولا وقاية من قضائه وحكمه، فالله قادر تمام القدرة على ما يشاء من الإحسان إلى أوليائه وأحبّائه وعبّاده، والانتقام من أعدائه. وقوله تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ يفيد الحصر، يعني أن مرجعنا إلى الله، لا إلى غيره.
فضل الله وعلمه وقدرته
عجيب أمر هذا الإنسان، إنه مغمور بأفضال الله التي لا تحصى، مضمون له رزقه، محوط بعلم الله في سرّه وعلانيته، مقدور عليه في كل تحرّكاته، لا يستطيع النّفاذ أو الهرب من سلطان الله وعزّته، وإنما مصيره ومرجعه إلى الله، يحاسبه على كل ما قدم وأخّر، وهو مع ذلك معرض عن ربّه المنعم عليه، القادر الرّازق. وما ذلك إلا لضعفه وقصور عقله وسوء تقديره في فهم الأشياء. وهذه دلائل قدرة الله على كل مخلوق وفضله عليه في قوله سبحانه:
1022

[سورة هود (١١) : الآيات ٥ الى ٧]

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
«١» »
«٣» «٤» [هود: ١١/ ٥- ٧].
نزلت الآية الأولى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ.. في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثنوا صدورهم، أي طووها على الحقد والعداوة والحسد، كالمستتر، وردّوا إليه ظهورهم، وغطّوا وجوههم بثيابهم تباعدا عنه، وكراهية للقائه، وهم يظنّون أن ذلك يخفى عليه وعلى الله عزّ وجلّ.
والمعنى: ألا إن الكفار المشركين حين يسمعون الدعوة إلى الله وتوحيده، يعرضون عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم بصدورهم، كيلا يراهم هو ولا غيره، إمعانا في العناد والكفر. ألا حين يتغطون بثيابهم ليستخفوا أو يتواروا من محمد أو من الله، يظنّون أن الله لا يراهم، مع أن الله تعالى يعلم ما يسرّونه في قلوبهم، وما يعلنونه من أقوال وأفعال، إنه سبحانه علّامة بالأسرار ذات الصدور، وبخواطر القلوب، ويرصد الله عليهم كل أمورهم، كما جاء في آية أخرى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ
[النّساء: ٤/ ١٠٨].
ومن مظاهر علم الله وفضله أنه سبحانه تكفل برزق كل ما يدب على الأرض أو في البحر أو في الجو، ويعلم مستقر كل دابّة ومستودعها، أي يعلم منتهى سيرها في
(١) يطوونها على الكفر والعداء.
(٢) يتغطون بها مبالغة في الستر.
(٣) موضعها في الأصلاب والأرحام ونحوها.
(٤) موضعها في الأرحام والأصلاب ونحوها.
1023
الأرض حيث تأوي إليه، وهو مستقرّها، وموضع إيوائها ومكان موتها ودفنها، وهو مستودعها، وكل ما يتعلق بمخلوقات الأرض من أحوال وأرزاق وتحرّكات وسكنات: ثابت مكتوب في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع مقادير المخلوقات، وتوضّح فيه كل شؤونها. وهذا دليل واضح على تكفل الله بأرزاق المخلوقات كلها، غير أن ذلك مرتبط بقانون السببية أو مبدأ ارتباط الأسباب بالمسبّبات والغايات، أي إن تحصيل الرزق منوط بالسّعي والعمل، موجه بالإلهام الإلهي، مشمول بهداية الله إلى الطلب والتحصيل، كما قال الله تعالى: قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) [طه: ٢٠/ ٥٠].
وبعد إثبات كون الله عالما تمام العلم بالمعلومات، أثبت تعالى كونه قادرا قدرة تامة بخلقه السماوات والأرض، خلقها في ستة أيام بمقدار أيام الدنيا في رأي أكثر المفسرين. وكان العرش: وهو أعظم المخلوقات، فوق الماء، وكان موجودا قبل أن يخلق الله شيئا. ومقتضى استواء الله على العرش أنه صاحب السلطان المطلق في التّصرف والملك والأمر والحكم. قال جماعة من العلماء: خلق الله تعالى هذه المخلوقات في ستة أيام، مع قدرته على خلقها في لحظة، نهجا إلى طريق التّؤدة والمهلة في الأعمال، ليحكم البشر أعمالهم.
وعلّة الخلق الإلهي العجيب للسماوات والأرض: هي نفع العباد الذين خلقهم الله ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وليعاملهم معاملة المبتلي المختبر لأحوالهم، لينظر كيف تعملون، ويظهر أيّكم أحسن عملا، فيقوم الدليل الواقعي على أفعال الإنسان ومعرفة من يقابل النّعم بالشكران أو بالكفران.
ولئن أقمت يا محمد الأدلة على البعث بعد الموت، وذكرت ذلك للمشركين، لقال الكافرون: ما هذا إلا سحر واضح، أي غرور باطل، لأن السّحر في مفهومهم
1024
باطل. فهم يرون أن التحدث عن البعث كالسحر في الخديعة أو البطلان. وهذا موقف متناقض، فهم يقرّون بأن الله خالق السماوات والأرض، ثم ينكرون ما هو أيسر من ذلك، وهو البعث من القبور، لأن البداءة للخلق أعسر من الإعادة، وخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.
موقف الإنسان من النعمة الإلهية أو النقمة
لا يدرك الإنسان إدراكا كافيا مدى نعم الله تعالى عليه، ولا يقدرها حقّ قدرها، ولا يشكر ربّه المنعم بها، وقد يستبدّ به الغرور والطيش فيطلب نزول العذاب، وربما تكبّر وبطر وتفاخر وقت النعمة. وإذا تعرّض لنقمة أو محنة، جحد وجود الإله القادر، ويئس من رحمة الله، إلا القليل من الناس الذين يصبرون في وقت المحنة، ويشكرون الله على أي حال. وهذا هو خلق الإنسان، كما صوّره القرآن الكريم في قوله تعالى:
[سورة هود (١١) : الآيات ٨ الى ١١]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [هود: ١١/ ٨- ١١].
تصوّر هذه الآيات سوء طبع الإنسان، فإنه يجهل سنّة الله وحكمته، ويطلب أن يكون كل شيء على وفق هواه، فتراه كما أقسم الحقّ سبحانه، إذا أخّر الله العذاب
(١) طائفة قليلة من الأيام. [.....]
(٢) حاق: معناه حلّ وأحاط، وهي مستعملة في المكروه.
(٣) شديد اليأس.
(٤) نائبة أصابته.
(٥) لبطر النعمة مغتر بها.
1025
وقتا من الزمان عن بعض الكفار، بحسب توعّد الله إياهم، بادر إلى القول استهزاء وتكذيبا: ما يحبس هذا العذاب؟ أي ما الذي يؤخّره عنّا؟ فأجاب الله تعالى بأنه إذا حان الوقت وحلّ الأجل الذي حدّده الله لنزول العذاب الذي يستهزئون به، لم يصرفه عن الكفار صارف، وسيحيط بهم من كل جانب، جزاء بما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه. وعلى الجميع أن يعلموا أن وعد الله بالخير كائن حتما، ووعيده بالجزاء واقع قطعا، كما قال تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرّعد: ١٣/ ٣٨]، وقال سبحانه: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) [الطّور: ٥٢/ ٧- ٨].
ومن صفات الإنسان الذّميمة إلا من رحم ربّك: أنه إذا منحه الله نعمة من صحة ورزق وأمن وولد بارّ، رحمة منه، ثم سلبه تلك النّعمة، وأبدله بها نقمة من مرض أو فقر أو خوف أو موت أو كارثة، إذا أنعم الله عليه، ثم تغيّر حاله، يئس وتحرّج وسخط، وجحد وكفر، ونسي النّعمة، ولم يذكر إلا المحنة والمصيبة، ولو تأمل قليلا، ونظر إلى نعمة الله الباقية عليه في عقله وحواسه وغير ذلك، أو قارن المصاب بغيره، لهان عليه الأمر، ولم يكفر ولم يجحد.
وإذا منح الله الإنسان (أي جنس الإنسان) نعمة من بعد ضرّاء، كشفاء من مرض، وقوة من بعد ضعف، ويسر من بعد عسر، لقال: ذهب ما كان يسوؤني من المصائب، ولن ينالني بعد اليوم ضيم ولا سوء، وأصبح شديد الفرح والبطر بتلك النعمة، وتفاخر وتعاظم على غيره، محتقرا من دونه. فكان في موقفه هذا أيضا مخطئا خطأ شديدا، لأنه لا يقابل النعمة بالشكر عليها، بل تفاخر على الناس، وقصر في حقوق الله عليه. والسّيئات في قوله تعالى: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي كل ما يسوء في الدنيا. وقوله سبحانه: إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ أي متماد في الفرح والبطر، متفاخر على غيره.
1026
وكل من هذين الموقفين خطأ وسوء طبع ومرض شديد، ففي حال المحنة أو النقمة يجب على الإنسان الصبر وطلب الفرج والرّضا بالقضاء والقدر، لأن الصبر مفتاح الفرج، وفي حال النعمة يلزمه الشكر والاعتراف بالجميل والوفاء بالمعروف، لأن بالشكر تدوم النّعم، وبالحمد لله والتفويض له يظهر الإيمان، ويتم الإحسان.
ثم استثنى الله تعالى من جنس الإنسان إذا ساء طبعه غالبا جماعة تميّزوا بالصبر على الشدائد والمكاره، كالجهاد والفقر والمصيبة، وعملوا الأعمال الصالحة، أي الأفعال الطيبة المفيدة، كأداء الفرائض وشكر النعمة، وعمل الخير والإحسان للناس، والتّقرب إلى الله بصالح الأعمال، أولئك لهم مغفرة لذنوبهم بسبب عملهم الصالح أو بصبرهم على الضرّ، ولهم ثواب كبير في الآخرة على ما عملوا من أعمال الخير، وما أسلفوا في زمن الرخاء، وأقل مراتب هذا الثواب الظفر بالجنة.
وفي معنى الآية قوله تعالى: وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣) [العصر: ١٠٣/ ١- ٣].
كل هذا يذكرنا بأن الإنسانية السّوية والأصول الرشيدة تقتضي من كل إنسان الصبر عند الشدائد ومثابرة عبادة الله، والشكر عند النعم، حتى لا يتعرض المرء للسخط الإلهي أو العذاب الرّبّاني. والذي يحمل على الصبر هو حبّ الله وخوف الدار الآخرة. والعمل الصالح لا ينفع إلا مع هداية وإيمان.
تحدي العرب بالقرآن
وقف العرب في مكة من القرآن والنبي ودعوة الإسلام موقف المعاند والمكابر، وحاولوا أن يدافعوا عن أنفسهم بأساليب ملتوية، والمطالبة بأمور تعجيزية غير مقنعة ولا متفقة مع أصول المنهج العقلاني أو الخصام السياسي الشريف، وتجاوز التمرد
1027
والغلوّ بهم إلى أن يزعموا أن القرآن افتراه محمد من عند نفسه، فكان القرآن يرصد لهم هذه المواقف الشاذة ويتحداهم بالقرآن أن يأتوا بمثله إن صدقوا في افترائهم وزعمهم الباطل أن القرآن كلام بشر.
وهذا تصوير لمواقف التّعنت والاستكبار عند مشركي قريش في الآيات التالية:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢ الى ١٤]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
[هود: ١١/ ١٢- ١٤].
سبب نزول الآية: ما
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رؤساء مكة قالوا: يا محمد، اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا. وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوّتك، فقال: لا أقدر على ذلك، فنزلت هذه الآيات.
ومن أسبابها أيضا أن كفار قريش قالوا: يا محمد، لو تركت سبّ آلهتنا وتسفيه آبائنا، لجالسناك واتّبعناك، وقالوا: ايت بقرآن غير هذا أو بدّله، ونحو هذا من الأقوال، فخاطب الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم على هذه الصورة من المخاطبة، وردّ على أقوالهم مبطلا لها، وليس المعنى أنه صلّى الله عليه وسلّم هم بشيء من هذا، فزجر عنه، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه، ولا ضاق صدره، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان.
والمعنى: لعلك أيها الرسول تارك بعض ما يوحى إليك أن تلقيه إليهم، وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به، بسبب تسفيه أحلامهم والتّنديد بعبادتهم الأوثان، وضائق به صدرك بأن تتلوه عليهم، أو لأجل أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز، أي لا
1028
تتضايق لأجل قولهم: هلا أنزل عليه كنز من ربّه يغنيه عن التجارة والكسب، ويدلّ على صدقه. أو هلا جاء ملك من السماء يؤيد دعوته. والقائل: هو عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي.
ثم أوضح الله تعالى بمناسبة الرّد على المشركين في مطالبهم التعجيزية مهمة النّبي الرّسول، وهي إنذار من عصاه بالنار، فليس عليك أيها النّبي إلا إنذارهم بالوحي، من غير مبالاة بما يقولون، ولا آت بما يقترحون، ولك أسوة بالرّسول السابقين قبلك، فإنهم كذّبوا وأوذوا، فصبروا حتى نصرهم الله، والله هو الرقيب على أعمالهم، الحفيظ للأمور، فتوكّل عليه، ولا تبال بهم، فإنه عالم بحالهم ومجازيهم على أعمالهم.
ثم تحدى الله العرب بالإتيان بمثل القرآن أو سور معدودات منه، ردّا على موقفهم، فقال: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ... أي بل يقول مشركو مكة: افترى محمد القرآن واختلقه من عند نفسه. والافتراء أخصّ من الكذب، فهو الزعم بما ليس موجودا أصلا. فإن كان ما يزعمون صحيحا فليأتوا بعشر سور مثله مفتريات، تحاكيه في الفصاحة والبلاغة، وإتقان الأحكام والتشريعات الناظمة لشؤون الحياة. والمختار عند أكثر المفسرين أن القرآن معجز بسبب الفصاحة والمعاني. وطالبهم القرآن وترك لهم المجال بأن يستعينوا بمن استطاعوا من الإنس والجن إن كانوا صادقين في زعمهم أن القرآن مفترى. ولكنهم عجزوا أن يأتوا بمثل أقصر سورة من القرآن، لأن كلام الله لا يشبه كلام المخلوقين.
وبعد هذا التّحدي إن لم يستجيبوا لكم، أي إن لم يأتوا بمعارضة ما دعوتموهم إليه، فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك، وأن القرآن إنما نزل من عند الله وبإذنه وعلمه، وبما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق، وإخبار بمغيبات لا معرفة لهم
1029
بها، ووعد ووعيد منجز، ومعان عالية، وتشريع بأمر ونهي لا يبلغون مستواه. وأن الله واحد لا شريك له، فهل أنتم أيها البشر منقادون خاضعون لأمر الله وحكمه، وهل أنتم أيها المسلمون مخلصون في تدينكم وعبادتكم لله؟
من أراد الدّنيا ومن أراد الآخرة
وازن القرآن المجيد بين جزاء من قصد العمل للدنيا وحدها، من جاه ولباس، وزينة وأثاث، وثروة ومال، وطعام وشراب، وبين من قصد بعمله تعمير الآخرة وبناء مستقبل الخلود. الأول يجازى بعمله وثمرة جهده، فيعيش بمشيئة الله مترفا منعما بالصحة والسيادة والرزق الوفير وكثرة الأولاد، وطالب الآخرة يحظى بنعيم الخلود وتأتيه الدنيا مع ذلك صاغرة منقادة له. وما أجمل هذه المقارنة في القرآن بين عامل الدنيا وعامل الآخرة، فقال الله تعالى:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٥ الى ١٧]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)
«١» «٢» «٣» [هود: ١١/ ١٥- ١٧].
إن سبب معارضة المشركين وتكذيبهم بالقرآن هو الهوى والشهوة، ومحض الحسد والرغبة في حظوظ الدنيا، لذا قارن الله بين قاصد الدنيا وقاصد الآخرة. أما قاصد الدنيا: فهو من كانت إرادته متجهة لحبّ الدنيا وزينتها ومتاعها، وكان يريد بأعماله
(١) أي لا ينقصون شيئا من أجورهم.
(٢) أي فسد وبطل ولم ينتفعوا به.
(٣) شكّ من وعيد النار.
1030
الدنيا فقط، إذ لا يعتقد الآخرة، فإن الله يجازيه على حسن أعماله في الدنيا بالنّعم والحواس وغير ذلك، فمنهم مضيّق عليه، ومنهم موسّع له، ثم حكم عليهم بأنهم لا يحصل لهم يوم القيامة إلا النار، ولا تكون لهم حال سواها. والسبب أنهم استوفوا حقوقهم في الدنيا ثمرة إحسان عملهم، وبقي لهم في الآخرة وزر العمل السيء لأنهم لم يريدوا وجه الله تعالى، والمطلوب في الثواب الأخروي هو الإخلاص لله عزّ وجلّ.
ولقد أحبط الله في ميزان الآخرة ثواب عمل أهل الدنيا فقط، وتبدد وذهب عنهم أثر عملهم الدنيوي، وبطل ثواب عملهم في الآخرة. وهذا وارد في آية أخرى هي:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) [الإسراء: ١٧/ ١٨- ١٩].
وأما قاصد الآخرة بعمله فهو على حق وخير من أمره. ومعنى الآية: أفمن كان على نور وبصيرة من الله تدّله على الحق والصواب، ويؤيده شاهد له على صدقه، وهو كتاب الله من إنجيل أو توراة أو قرآن، كمن كان يريد زينة الحياة ومتاعها؟! وهذا فريق المؤمنين بأنه لا إله إلا الله، المصدقين باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب.
وخصّ الله تعالى بالذّكر بعد التعميم كتاب موسى وهو التوراة، لأنه يشبه ما جاء في القرآن من تشريعات وأحكام، ولا يقتصر على مجرد الآداب والأخلاق كالإنجيل.
وأولئك الذين يؤمنون بما في التّوراة من التبشير برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم يؤمنون بالقرآن إيمانا حقّا عن يقين وإذعان، كما قال النّجاشي رحمه الله: «إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة».
1031
ومن يكفر بالقرآن من أهل مكة، ومن تحزّبوا على الإسلام ونبيّه من جميع الأمم، فالنار مورده، لا ريب في وروده إياها، والمعنى: أن مآله حتما إلى جهنم، وهو من أهل النار جزاء تكذيبه.
فلا تكن أيها المكلف السامع، في شكّ من أمر هذا القرآن، فإنه حقّ من الله لا ريب ولا شكّ فيه، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بهذا القرآن، كما جاء في آية أخرى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) [يوسف: ١٢/ ١٠٣].
والسبب: أن المشركين مستكبرون مقلّدون زعماءهم، وأن أتباع الأديان حرّفوا كتبهم ودين أنبيائهم.
والخلاصة: في آية أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ معادلة محذوفة، يقتضيها ظاهر اللفظ، تقديرها: «أفمن كان على بيّنة من ربّه، كمن كفر وكذّب أنبياءه؟
وإن ثمرة المقارنة أوضحت البون الشاسع بين مريد الدنيا، فيوفى منها، ومن يريد الآخرة فيعطاها وزيادة عليها وهو الدنيا»
. والقصد من آية مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ذمّ الحريصين على الدنيا ونسيان الآخرة. والقصد من آية: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الرّد على منكري نبوّة الرسول عليه السّلام والطعن في معجزاته.
جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين
ليس من المنطق ولا من العدل أن يتساوى المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمحسن والمسيء، وإنما لا بدّ من جزاء متفاوت لكل صنف، وهذا التفاوت ناشئ من الأعمال الاختيارية الإرادية التي يمارسها كل منهم، فأهل الإيمان هم أهل الجنة خالدين فيها، وأصحاب الجحود والكفر والظلم هم الملعونون في الدنيا، الخاسرون
1032
في الآخرة، المعذبون في نيران الجحيم عذابا مضاعفا، وهذا ما أبانه القرآن الكريم في الآيات التالية:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٨ الى ٢٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [هود: ١١/ ١٨- ٢٤].
المراد من آية وَمَنْ أَظْلَمُ.. الرّد على المشركين الذين يزعمون أن الأصنام شفعاؤهم عند الله، وهذا محض الافتراء على الله تعالى، ومعنى الآية: لا أحد أشد ظلما ممن افترى الكذب على الله تعالى في صفته أو حكمه أو وحيه، أو زعم وجود شفعاء له من دون إذنه، أو ادّعى أن لله ولدا من الملائكة أو من البشر الأنبياء أو الرّسل أو الأولياء. أولئك الواقعون في الكفر يعرضون على ربّهم، أي يحاسبهم ربّهم حسابا شديدا، ويقول الشهود من الأنبياء والملائكة: هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم وافتروا عليه، فلعنة الله على الظالمين، أي إنهم مطرودون من رحمة الله تعالى.
وإن هؤلاء الظالمين يردّون الناس عن اتّباع الحق والإيمان والطاعة، ويريدون أن
(١) أي الشهداء أو الشهود من الأنبياء والملائكة.
(٢) يطلبونها معوجة.
(٣) فائتين من العذاب بالهرب.
(٤) يختلقون من ادّعاء الشريك لله.
(٥) أي حقّا وثابتا أو لا محالة.
(٦) أي خشعوا وأخلصوا لله واطمأنّوا إليه.
1033
تكون طريقهم معوجة غير معتدلة، والحال أنهم جاحدون بالآخرة مكذبون بوجودها.
إن أولئك الظالمين الذين يصدون الناس عن سبيل الله الحق، سبيل القيم العليا والحياة الطيبة، لا يعجزون ربّهم أن يعاقبهم بالدمار والخسف، كما فعل بغيرهم، وإنما هم تحت قهره وسلطانه، وهو سبحانه قادر على تعذيبهم، وليس لهم أولياء، أي أنصار ينصرونهم من دون الله، ويمنعون عنهم العذاب، ويضاعف لهم العقاب بسبب إضلالهم غيرهم، كما ضلّوا بأنفسهم، وكانوا صمّا عن سماع الحق، عميا عن اتّباع سبيل الهدى والرّشاد.
أولئك المتّصفون بهذه الصفات خسروا أنفسهم وأهليهم، وضلّ عنهم ما كانوا يفترون، أي ذهب عنهم ما كانوا يفترونه من دون الله من الأنداد والأصنام، فلم تجد عنهم شيئا، بل ضرّتهم كل الضّرر: كما جاء في آية أخرى: وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) [الأحقاف: ٤٦/ ٦].
لا جرم، أي حقّا إنهم في الآخرة هم أخسر الناس صفقة، لأنهم استبدلوا بنعيم الجنة ودرجاتها عذاب جهنم ودركاتها.
أما المؤمنون المصدقون بالله ورسوله، وعملوا الأعمال الصالحة، فأقاموا الصلاة، وآتوا الزّكاة، وأدّوا الطاعات، وتركوا المنكرات، وخشعوا لله وأنابوا إليه، فلهم جنان الخلد ذات النعم التّليدة، وهم ماكثون فيها على الدوام، لا يموتون ولا يمرضون، ولا تلازمهم نقائص الدنيا وعيوبها، وإنما هم متبرئون منها.
مثل هذين الفريقين المذكورين وهم الأشقياء الكفرة، والمؤمنون البررة، كمثل الأعمى والأصم، والسميع والبصير، أي إن الكافر كالأعمى، لتعاميه عن إدراك الحق، وكالأصم لعدم سماع الحجج والأدلة الدّالة على النّور والهدى. والمؤمن مثل
1034
المبصر السّامع لكل شيء، لاستفادته بما يرى في الأكوان، ويسمع من القرآن، والسمع والبصر، وسيلتا العلم والهدى، وطريقا تكوين العقل والمعرفة، وإقامة الثقافة الصحيحة التي ترقى بالأمة والمجتمع، وبالوطن والدولة.
قصة نوح عليه السّلام مع قومه
- ١- دعوته ونقاش قومه
أورد الله تعالى في قرآنه مجموعة من قصص الأنبياء السابقين للعظة والعبرة، وتمثيل الأوضاع لقريش وكفار العرب، والاعلام بأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس ببدع من الرّسل، وإنما هو كغيره دعا إلى عبادة الله وحده، فعارضه قومه، فناقشهم وجادلهم.
وهذا أنموذج من قصة نوح عليه السّلام أول رسول إلى الناس بدعوة إلهية. أذكر هنا طائفة من القصة، قال الله تعالى:
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٥ الى ٣١]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)
«١» «٢» «٣» «٤»
(١) أشراف القوم وزعماؤهم. [.....]
(٢) ظاهره دون تعمق.
(٣) أخبروني.
(٤) أي أخفيت عليكم فلم تهدكم.
1035
«١» [هود: ١١/ ٢٥- ٣١].
كان قوم نوح عليه السّلام يعبدون الأوثان ونحوها، فأرسل الله إليهم نوحا يدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده، فقال لهم: إني لكم منذر واضح، أنذركم عذاب الله وبأسه إن أنتم عبدتم غير الله، فآمنوا به وأطيعوا أمره، ولا تعبدوا غيره، ولا تشركوا به شيئا، إني أخشى عليكم الوقوع في عذاب يوم شديد الألم، هو يوم القيامة.
فأوردوا عليه أربع شبهات:
الشبهة الأولى- بشرية الرسل: قال أشراف القوم وزعماؤهم: ما أنت يا نوح إلا بشر مثلنا، ولست بملك، فلا مزية لك علينا حتى نطيعك في أمرك.
الشبهة الثانية- أتباعك أراذل القوم. لم يتبعك إلا الأخسّاء أصحاب الحرف الخسيسة كالزّرّاع والصّنّاع، وهم الفقراء والضعفاء، في بادي الأمر وظاهره دون تأمل ولا تفكر ولا تدبّر في عواقب الأمور، ولو كنت صادقا لاتّبعك الأشراف والكبراء.
الشبهة الثالثة- لا فضل لك علينا: ما رأينا لكم علينا امتيازا في فضيلة أو قوة أو نروة أو علم أو عقل أو جاه أو رأي، يحملنا على اتّباعك.
الشبهة الرابعة نتهمك بالكذب: يترجح لدينا كذبكم في ادّعائكم الصلاح والسعادة في الآخرة. ويلاحظ أنهم خاطبوه بصيغة الجمع لإشراك أتباعه معه في التّهم.
أجابهم الله عن شبهاتهم فيما حكاه عن نوح عليه السّلام قائلا: أخبروني يا قوم
(١) تستحقرهم وتستهين بهم.
1036
عماذا أفعل إن كنت على يقين وحجة ظاهرة فيما جئتكم به من ربّي، وآتاني رحمة من عنده وهي النّبوة والوحي، فخفيت عليكم، فلم تهتدوا بها، ولا عرفتم قدرها، أنكرهكم على قبولها، وأنتم لها كارهون، معرضون عنها؟! ويا قوم، لا أطلب منكم مالا على نصحي لكم، أي أجرا آخذه منكم، وإنما أجري على الله عزّ وجلّ. وليس من شأني طرد المؤمنين برسالتي، وتنحيتهم من مجلسي. وهذا إعلان المساواة في الكرامة بين الناس من غير امتياز للأغنياء. إن هؤلاء الأتباع سيلقون ربّهم، ويحاسبهم على أعمالهم، كما يحاسبكم، ويعاقب من طردهم، وأراكم قوما جهلة في مطالبتكم بطردهم من مجلسي، فإن المفاضلة بين الناس إنما هي بالعمل الطيب الصالح، لا بالثروة والجاه كما تزعمون.
ويا قوم من ينصرني من عذاب الله إن طردتهم، فذلك ظلم عظيم، أفلا تتعظون وتتفكرون فيما تقولون؟! وتوابع النّبوة وتملك الثروة غير متوافرين لدي، فلا أقول لكم بموجب النّبوة: إني أملك خزائن رزق الله، وأتصرّف فيها، ولا أعلم من الغيب إلا ما أطلعني الله عليه، ولست أحد الملائكة، ولا أستطيع القول لهؤلاء الذين تحتقرونهم: لن ينالهم خير، وليس لهم ثواب على أعمالهم، الله أعلم بما في صدورهم وبواطنهم من القصد الحسن والنّية الطيبة، فإن تطابق باطنهم مع ظاهرهم، كان لهم الحسنى، وإن حكمت على سرائرهم بغير دليل ظاهر، كنت ظالما قائلا ما لا أعلم به. والخلاصة:
إن نوحا قصر مهمته على تبليغ الوحي بالنّبوة، وأخبرهم عن تواضعه أمام الله عزّ وجلّ.
1037
- ٢- استعجال العذاب من قوم نوح
يقع أتباع الرّسل وأقوامهم في الحماقة والطيش حينما يعادون رسولهم، ويصفونه بأوصاف كاذبة، ويلصقون به التّهم الباطلة، لتسويغ ضلالهم وزيغهم، ومن هؤلاء الحمقى: قوم نوح حينما انهزموا أمام حجته الدامغة، أوردوا عليه أمرين: الأول- أنه أكثر جدالهم، والثاني- مطالبتهم بالعذاب الذي توعدهم به. وأدى هذان الأمران إلى إعلان نوح اليأس من إجابتهم لدعوته، وزعمهم أن نوحا افترى هذا التوعد بالعذاب، وأراد الإرهاب عليهم بذلك. وهذا ما سجّله القرآن الكريم عليهم في الآيات التالية:
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)
«١» «٢» «٣» [هود: ١١/ ٣٢- ٣٥].
الكلام عن قوم نوح تصوير دائم لأحوال مشابهة للكفرة في كل زمان ومكان، فما صدر من قوم نوح متجسد في أحداث التاريخ، وعقلية الأقوام المتلاحقة، فليست القضية إذن مجرد تاريخ للعبرة، وإنما هي صورة متكررة معادة لدى بعض الناس في أفكارهم وسلوكهم، ما دام خطاب القرآن واحدا.
والمعنى: قال قوم نوح له: قد طال منك هذا الجدال، وهو المراجعة في الحجة ومقابلة الأقوال ومناقشتها حتى تقع الغلبة، فأتنا بما تعدنا به من العذاب والهلاك
(١) بفائتين من عذاب الله بالهرب.
(٢) يضلّكم.
(٣) عقاب ذنبي.
1038
المعجل في الدنيا، إن كنت صادقا في ادّعائك أن الله يعذبنا على عصيانه في الدنيا قبل الآخرة.
والجدال نوعان: محمود ومذموم مكروه، أما المحمود: فهو ما كان بالحسنى مع إنسان يطمع بالجدال أن يهتدي، ومنه قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النّحل: ١٦/ ١٢٥]. وأما الجدال المذموم أو المكروه: فهو ما يقع بين المسلمين بعضهم مع بعض في طلب علل الشرائع، وتصور ما يخبر به الشرع من قدرة الله. وقد نهى النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، وكرهه العلماء.
أجاب نوح قومه عن اتّهامه بكثرة الجدال قائلا: ليس إنزال العذاب أو العقاب بيدي، وليس لي توقيته، وإنما ذلك بيد الله، وهو الآتي به إن شاء وإذا شاء، ولستم من المنعة بحال من يفلت أو يعتصم لتنجوا، وإنما أنتم في قبضة القدرة الإلهية، وتحت سلطان الملك الإلهي، وليس نصحي بنافع، ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك، الله ربّكم، أي خالقكم والمتصرّف في أموركم، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور، وإليه ترجعون في الآخرة، فيجازيكم بما كنتم تعملون في هذا العالم من خير أو شرّ.
ومعنى قوله تعالى: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ بيان ربط الأسباب بالمسببات، فمن تسبب في الضّلال والغواية أضلّه الله، وليس معنى الآية: أن الله يخلق الغواية والشقاوة فيهم، فذلك منوط بالعمل والكسب، والنتائج متوقفة على المقدمات.
وقوله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ.. إما اعتراض في قصة نوح، كما ذكر الطّبري وغيره، وهي في شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم مع كفار قريش الذين قالوا: افترى محمد القرآن، وافترى هذه القصة على نوح، فنزلت الآية في ذلك. ويحتمل كون الكلام في شأن نوح عليه السّلام، فإن قومه زعموا أن العذاب الذي توعّدهم به أمر مفترى
1039
بقصد إرهابهم، فيصبح اتّساق الآية مطّردا غير معترض. فأجابهم الله تعالى بأن النّبي إن افترى هذا الادّعاء بنزول العذاب، فعليه تبعة قوله وهو مسئول عن ذنبه وجرمه، وهو بريء من جرائم قومه وآثامهم، وسيجزيهم الله على أعمالهم، والنبي أعلم بما عند الله من عقوبة المكذبين، وكل إنسان مسئول عن ذنبه، كما جاء في آية أخرى:
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) [يونس: ١٠/ ٤١].
والراجح أن آية أَمْ يَقُولُونَ هو من محاورة نوح لقومه، كما قال ابن عباس، لأنه ليس قبل هذا الكلام ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه، والخطاب منهم ولهم، وهم يقولون: افترى ما أخبركم به من دين الله، وعقاب من أعرض عنه.
والحقيقة أن حكاية هذه الأوضاع ستظل في سجلّ التاريخ صورة للمعارضين دعوة الأنبياء، وستكون عاقبة المعارضة أو الاتّهام بالباطل لنبي هي التعرض للعذاب.
- ٣- يأس نوح من قومه وصنعه السفينة
تجاوز قوم نوح الحدود المعقولة، وتغالوا في الإعراض عن نوح عليه السّلام، ورفضوا دعوته رفضا عنيدا، واستبدادا وتكبّرا، فيئس نوح من هدايتهم وإجابتهم لدعوته، فمهّد ذلك لإغراقهم وإهلاكهم، بسبب سخريتهم وتهكمهم، وبدأ الإعداد بصنع السفينة لنجاة نوح ومن آمن معه. وهذا ما وصفه القرآن الكريم في الآيات التالية:
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)
«١»
(١) فلا تحزن.
1040
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [هود: ١١/ ٣٦- ٤١].
أخبر الله تعالى بوحيه إلى نوح عليه السّلام أنه لن يؤمن أحد من قومك بدعوتك إلا من قد آمن سابقا، وهم قلّة قليلة، فلا تحزن عليهم، ولا يهمنك أمرهم، فدعا عليهم نوح بإذن ربّه وبعد هذا الوحي قائلا: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٧١/ ٢٦].
واصنع السفينة برعايتنا وحفظنا وحراستنا وبتعليمنا لك ما تصنعه لتنجو بها مع المؤمنين، وكيلا تخطئ، ولا تراجعني يا نوح ولا تدعني في شأن قومك ودفع العذاب بشفاعتك، فقد وجب عليهم العذاب، وتم الحكم عليهم بالإغراق.
وبدأ نوح عليه السّلام بصنع السفينة، وكلما مرّ عليه جماعة من أشراف قومه، استهزءوا به ومن صناعته، وكذبوا بما توعّدهم به من الغرق، فقال نوح على سبيل الوعيد والتهديد الأكيد: إن تسخروا منا لصنع هذه السفينة، فإنا سنسخر منكم في المستقبل حين الغرق، كما تسخرون منا الآن، فسوف تعلمون قريبا بعد تمام العمل من يأتيه عذاب يهينه في الدنيا، وهو عذاب الغرق، ويحل عليه عذاب مقيم، أي دائم مستمر.
(١) بحفظنا وكلاءتنا.
(٢) ينزل به.
(٣) نبع الماء من تنور الخبز المعروف.
(٤) وقت إجرائها.
(٥) وقت إرسائها.
1041
حتى إذا حان وقت مجيء أمرنا بالهلاك من المطر الغزير، ونبع الماء من التّنور:
موقد الخبز أو وجه الأرض، وارتفع كما تفور القدر بغليانها، وكان ذلك علامة لنوح عليه السّلام، كما جاء في آية أخرى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) [القمر:
٥٤/ ١١- ١٣].
وقلنا لنوح: احمل في السفينة من كل نوع من الحيوان زوجين اثنين: ذكرا وأنثى، حفاظا على أصل النوع الحيواني، واحمل فيها أهل بيتك إلا امرأتك وابنك: كنعان، وهما من سبق عليه القول واستقرّ عليه الحكم بأنه من أهل النار، لاختياره الكفر وإبائه الإيمان، لا لتقديره عليه.
وخذ معك من آمن من قومك، وإن لم يؤمن إلا عدد قليل، أو نزر يسير، مع طول المدة واستمرار دعوتهم إلى الإيمان ألف سنة إلا خمسين عاما. وكان المؤمنون ثمانين نفسا، منهم نساؤهم.
وأخبر الله تعالى نوحا عليه السّلام أنه قال لمن حملهم في السفينة أن يدعوا:
بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود: ١١/ ٤١]. أي باسم الله وبركته يكون جريها على سطح الماء، وباسم الله يكون منتهى سيرها، وهو رسوها على مرفأ آمن، بتسخير الله وقدرته، إن ربي غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم، فلولا مغفرته لذنوب عباده ورحمته بهم لما نجاكم. وذكر المغفرة والرحمة بعد ذكر حكم الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين هو شأن القرآن في بيان الأضداد والمتقابلات، كما في آية: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف: ٧/ ١٦٧]. وآية المغفرة والرحمة في هذا المقام الخطير وقت الإهلاك والغرق في غاية الإشعار بفضل الله ورحمته على عباده المؤمنين الذين نجاهم.
1042
أما الطوفان: ففي ظاهر الروايات وكتب التفاسير أنه نال جميع أهل الأرض المأهولة قديما، وعم الماء جميع المعمورة، كما ذكر ابن عباس وغيره، ويوجب ذلك أمر نوح بحمل الأزواج من الحيوان، خوف فناء أجناسها من جميع أنحاء الأرض.
- ٤- رحلة سفينة نوح
كانت سفينة نوح أول سفينة في التاريخ، وكانت رحلتها أول رحلة بحرية لمسافة طويلة، تكتنفها المخاطر، وتحيط بها الجهالة والغموض، والتّكهنات، لكن أمان الله ووعده بنجاة المؤمنين كان بردا وسلاما، وحماية من القلق والخوف. وتم أمر الله ومراده ونجت السفينة، وهبطت في مكان آمن، وكان ابن نوح من امرأته مثلا للجحود والعناد ومحاولة الإفلات من الغرق، فطالته بسهولة إرادة الله، وكان من الهالكين. صوّر القرآن الكريم هذه الرحلة الأولى لسفينة نوح عليه السّلام في الآيات التّالية:
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٢ الى ٤٧]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦)
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)
«١» »
«٣» «٤» «٥» «٦»
(١) سألتجي. [.....]
(٢) لا مانع ولا حافظ.
(٣) أمسكي عن إنزال المطر.
(٤) نقص وذهب في الأرض.
(٥) جبل قرب الموصل.
(٦) هلاكا.
1043
[هود: ١١/ ٤٢- ٤٧].
هذه أول رحلة بحرية في التاريخ، تسير بها سفينة نوح عليه السّلام، تمخر عباب البحر، وتشقّ أوساط الأمواج العظيمة بسبب الرياح الشديدة العاصفة، فسارت بركّابها بإذن الله ورعايته، وهي تجري بهم بسرعة على وجه الماء الذي ارتفعت أمواجه، كالجبال الشاهقة، وطالت قمم الجبال ورؤوسها العالية، ونادى نوح ابنه كنعان- وكان ابن امرأته- وكان في معزل- أي ناحية- عنه، وكافرا برسالة نوح، فطالبه بالإيمان والركوب معه، حتى لا يغرق ويكون مع الكافرين الهالكين.
فردّ الابن الجاحد العاصي على نوح قائلا: سآوي وأصير إلى جبل يحفظني من الغرق في الماء، ظنّا منه أنه ماء سيل عادي، يمكن النّجاة منه بالتّحصّن في مكان عال أو جبل شامخ. فأجابه نوح عليه السّلام: ليس شيء يعصم اليوم من الماء وأمر الله وعذابه الذي يعاقب به الكافرين، لكن يحفظ من رحم الله، ومن رحمه فهو المعصوم.
وحال الماء الذي بدأ يرتفع بين الوالد والولد أثناء النقاش، فكان من المغرقين الهالكين.
وتم الحدث الرهيب، وغمر الماء الأرض كلها، ولما تحقق المراد ونجى الله أصحاب السفينة، أمر الله الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها، وأمر السماء أن تكفّ عن نزول المطر، ونادى الرّبّ عزّ وجلّ: يا أرض ابلعي ماءك الذي تفجر منك، ويا سماء كفّي عن المطر، فغاض الماء، أي نقص، امتثالا للأمر الإلهي، وقضي الأمر، أي أنجز ما وعد الله به نوحا من هلاك قومه الظالمين، واستقرّت السفينة بمن فيها على جبل الجودي بالجزيرة شمالي العراق، في الموصل، وقيل: هلاكا وخسارا للقوم الظالمين، وبعدا من رحمة الله.
1044
وكرّر نوح سؤال ربّه قائلا: ربّ إن ابني من أهلي، وقد وعدتني بنجاتهم، ووعدك الحق الذي لا يخلف، فما مصيره؟ وأنت أحكم الحاكمين وأعدلهم بالحق.
وهذه الآية تقتضي أن نوحا عليه السّلام ظنّ أن ابنه مؤمن.
فأجابه ربّه: يا نوح إن ابنك ليس من ولدك ولا من أهلك الذين وعدت بإنجائهم، إنما وعدتك بإنجاء من آمن، وابنك ذو عمل غير صالح، أي تنكّر لدعوة الهدى والرّشاد والصّلاح، وانضم إلى فئة الكافرين، فلا تطالب مني شيئا ليس لك به علم صحيح، ولا تعرف مدى صوابه، وأنهاك أن تكون من جماعة الجاهلين الذين يطلبون إبطال حكمة الله وحكمه، فلا تكن من الآثمين. وهذا دليل على أن العبرة بقرابة الدين، لا بقرابة النّسب، وأن حكم الله في خلقه قائم على السواء والعدل المطلق دون محاباة أحد. وأن المخالف يستوجب التقريع، وأن الجهل كناية عن الذنب.
فقال نوح: ربّ إني ألتجئ إليك وأستعيذ بك وبجلالك أن أسألك ما ليس لي به علم صحيح، وإن لم تغفر لي ذنب سؤالي هذا، وترحمني بقبول توبتي وإنابتي، أكن من الخاسرين أعمالا. وهذا طريق الصالحين بالتّذلل والانقياد لربّ العالمين، وإن كان العبد نبيّا أو رسولا. وفي قصة نوح عبرة وعظة شديدة التأثير لكل من كفر بالله وكذب رسله.
فائدة قصة نوح عليه السّلام
إن في إيراد قصص الأنبياء السابقين فوائد جليلة وحكما تشريعية ودينية عظيمة، ففيها ربط الماضي بخاتمة الرسالات السماوية، ودفعة قوية دائمة إلى الأمام بالإفادة من تاريخ الأنبياء، ومعرفة مدى مؤازرة الله لهم لأنهم دعاة الحق، والعلم بمواطن العبرة والعظة البالغة من القصة القرآنية التي هي منار الطريق، وبيان السبيل لكل من
1045
أراد الخير للأمة والمجتمع، والإنسان ذاته. وقصة نوح عليه السّلام نبراس القصص القرآني، ومنطلق كل التوجّهات والتحرّكات الدّعوية لعبادة الله وتوحيده، وإعلان هزيمة الشّرك والوثنية، وإنهاء تاريخ العتاة والطّغاة وعبدة الأوثان باستئصالهم وتطهير ساحة الأرض من أرجاسهم. لذا أورد القرآن آيات بليغة تصوّر مواطن العظة والعبرة من قصة نوح عليه السّلام في الآيات التالية:
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)
«١» [هود: ١١/ ٤٨- ٤٩].
بعد أن نجى الله تعالى نوحا ومن آمن معه برسوّ سفينته على جبل الجودي في أرض الموصل بالعراق، في ديار بكر، وأهلك الظلمة الوثنيين الكفار بالغرق في الطوفان، أبان تعالى العبرة من القصة، ممثّلة في أمرين:
الأمر الأول: تكريم نوح عليه السّلام والمؤمنين معه بالخروج من السفينة بسلام، ثم بالبركة بعدئذ له وللمؤمنين معه.
والأمر الثاني: الإخبار عن أمور غائبة مجهولة عن الناس، تكون بمثابة الإنذار لمن كفر بالله، وبيان فائدة الصبر لأهل الإيمان.
والمعنى: قيل لنوح عليه السّلام إما بالوحي المباشر من الله تعالى أو بواسطة الملائكة بعد انتهاء الطوفان وحبس المطر وابتلاع الأرض ماءها: اهبط من السفينة إلى الأرض على جبل الجودي بسلام وأمان وحفظ من جهتنا، ومصحوبا ببركات:
وهي النّعم الثابتة والخيرات النامية، والبركات: تغمرك وتعمّ بهذا الوعد جميع
(١) خيرات.
1046
المؤمنين إلى يوم القيامة. وقوله تعالى: مِمَّنْ مَعَكَ تعني ذرّية من معك ومن نسلهم. وقوله سبحانه: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ تعني: وممن معك أمم سنمتعهم في الدنيا: وهم الكفار إلى يوم القيامة، وهذا يشمل كل كافر إلى يوم القيامة.
فيصير المعنى: إن السّلام منا، والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين، ينشأون ممن معك. وممن معك أمم ممتعون في الدنيا، منقلبون إلى النار.
وكان نوح عليه السّلام أب الأنبياء، والمخلوقات البشرية بعد الطوّفان منه وممن كان معه في السفينة. وهكذا عم السّلام الإلهي والتّبريك كل المؤمنين، ولله الحمد.
لكن سيكون بعض نسل المؤمنين جماعة آخرين من بعدهم، كفرة، يمتّعهم الله في الدنيا بالأرزاق والبركات، ثم يصيبهم العذاب الأليم في الآخرة. ويصير الناس بعد نوح قسمين: قسم مؤمنون صالحون ممتّعون في الدنيا والآخرة، وقسم ممتّعون في الدنيا فقط، معذّبون في الآخرة.
ثم أورد الله تعالى العبرة من قصة نوح بقوله: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ.. أي تلك الأخبار عن نوح وقومه من أخبار الغيبيات التي تقادم العهد عليها، ولم يبق علمها إلا عند الله تعالى، ولا تعلم بها أيها النّبي، كما لا يعلم بها قومك. ونحن نوحيها إليك لتكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء، وتكون لقومك مثالا وتحذيرا، لئلا يصيبهم إذا كذّبوك مثل ما أصاب هؤلاء وغيرهم من الأمم المعذّبة.
فاصبر على تكذيب قومك وأذاهم لك، واجتهد في تبليغ رسالتك، وجدّ في إيضاح الرسالة القرآنية، واصبر على الشدائد، كما صبر نوح عليه السّلام على أذى الكفار، واعلم أن العاقبة والنصر والنجاة لك، كما كانت لنوح في هذه القصة، كما أن النصر يكون من بعدك لأهل التقوى الذين يطيعون الله، ويتجنّبون المعاصي.
وهذه سنّة الله الدائمة بنصر المرسلين على أعدائهم الكافرين، كما أخبر الله تعالى في
1047
قوله: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) [غافر: ٤٠/ ٥١].
هود عليه السّلام مع قومه
- ١- دعوته إلى عبادة الله
هذه قصة عجيبة أخرى تثير الوجدان والضمير بعد قصة نوح عليه السّلام أبي البشر الثاني وأول رسول إلى الناس، وهي قصة هود عليه السّلام أول من تكلم بالعربية من ذرّية نوح، وفي القصّتين تشابه غريب، ففي كل منهما تبليغ القوم الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده، وردّهم على رسولهم أسوأ ردّ، ونهاية متشابهة وهي إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين. قال الله تعالى:
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٠ الى ٥٦]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [هود: ١١/ ٥٠- ٥٦].
(١) خلقني.
(٢) غزيرا متتابعا.
(٣) أصابك.
(٤) احتالوا في كيدي وضرّي.
(٥) لا تمهلوني.
(٦) مالكها وقادر عليها.
1048
وكما أرسلنا نوحا إلى قومه، أرسلنا هودا إلى قبيلة عاد العربية التي كانت تسكن الأحقاف (شمالي حضرموت وغربيّ عمان) وكانت ذات قوة وبأس وزراعة وماشية، وزادهم الله بسطة في الجسم والمال، وهم خلفاء قوم نوح.
دعاهم هود عليه السّلام إلى نوعين من التكاليف:
النوع الأول- دعاهم إلى عبادة الله وتوحيده، مبيّنا لهم بالدليل أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فلا تعبدوا وثنا ولا صنما، ولا تشركوا به شيئا، ما لكم من إله غيره، هو الخالق والرّزاق، وما أنتم إلا مفترون على الله الكذب باتّخاذ الشّركاء لله وأنها شفعاء لكم.
ويا قوم، لا أطلب على دعوتي إياكم لعبادة الله وترك عبادة الأوثان أجرا أو مالا ينفعني، فما أجري أو ثوابي إلا على الله الذي خلقني على الفطرة السليمة- فطرة التوحيد- أفلا تعقلون قول من يدعوكم إلى صلاحكم في الدنيا والآخرة، وتدركون أنه ليس غير الله الفاطر الخالق إلها.
والنوع الثاني من التكاليف التي دعا إليها هود: الاستغفار والتوبة. والاستغفار:
طلب المغفرة بالإيمان، والتّوبة: الاعتراف بالذّنب والنّدم عليه والرجوع عنه. وإيمان الكافر: هو توبته من كفره، لأنه هو نفسه رجوعه عنه.
يا قوم، اطلبوا المغفرة على الشّرك والكفر والمعاصي السابقة، وأخلصوا التوبة له، فإذا استغفرتم وتبتم، يرسل الله عليكم مطرا غزيرا متتابعا- وكانوا بأشد الحاجة إلى المطر بعد منعه عنهم ثلاث سنين، لأنهم أصحاب زروع وبساتين- ويزدكم قوة إلى قوتكم بالأموال والأولاد، وعزّا إلى عزّكم- وقد كانوا أقوياء أشدّاء يهمهم التّفوق على الناس- ولا تعرضوا عن دعوتي، مصرّين على إجرامكم وآثامكم، فلا تتولوا عن الحق ولا تعرضوا عن أمر الله تعالى.
1049
فأجابه القوم بمطالب أربعة: وهي تقديم البيّنة على صدق قوله، والإصرار على عبادة الأصنام الآلهة المزعومة بالرغم من قوله ودعوته، وعدم التّصديق برسالته (أي رسالة هود) حفاظا على الموروثات والتقليد، وما نقول إلا أن بعض الآلهة لما سببتها وضلّلت عبدتها، أصابك بجنون، وفسد عقلك.
فأجابهم هود معتصما بالله ربّه: أشهد الله واشهدوا على أني بريء من شرككم ومن عبادة الأصنام. وإذا كنت بريئا من جميع الأصنام التي تشركونها مع الله، فاجمعوا كل ما لديكم من أنواع الكيد لي، ولا تمهلوني طرفة عين، إني فوّضت أمري كله لله ربّي وربّكم، وتوكّلت عليه، مع ضعفي وانفرادي، وقوتكم وكثرتكم، إنه هو الذي يمنعني منكم، ويحجز بيني وبينكم.
ثم وصف قدرة الله تبارك وتعالى بقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، والتعبير بالنّاصية لأنها في العرف حيث يسيطر عليها المالك، أي ما من دابّة تدبّ على الأرض إلا وهي تحت سلطان الله وقهره، فهو مصرف أمرها ومسخّرها، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور، إنّ ربّي على صراط مستقيم، أي على الحق والعدل.
وهذا الجواب من هود عليه السّلام فيه تحد وقلّة مبالاة بالقوم لعدة أمور هي:
البراءة من الشّرك، وإشهاد الله على ذلك، وإشهادهم على براءته من شركهم، وطلبه المكايدة له، وإظهار قلة المبالاة بهم، وعدم خوفه منهم ومن آلهتهم المزعومة.
- ٢- نهاية قبيلة عاد وقوم هود
إن نهاية الطّغاة الذين يعارضون دعوة الرّسل عليهم السّلام نهاية وخيمة، لأنهم هم الذين يحجبون الخير والصلاح عن أمتهم، ويبقونها في حالة من المذلّة والتّخلف
1050
والهوان. وما كان أسعدهم وأنفعهم لمجتمعهم لو أخذوا بأيديهم نحو القيم العليا، فأقرّوا بتوحيد الله، والتزموا الأخلاق السوية، وتسبّبوا في إمداد الله لهم بالنّعم الوفيرة، والخيرات الكثيرة، فاستحقّوا البقاء والعزّة والتّفوق، وكانوا أمثولة الأمم والشعوب.
وفي القرآن الكريم بيان لنهاية أقوام عتاة، تمرّدوا على أنبيائهم، ومن أشهرهم قبيلة عاد قوم هود، الذين عادوا رسولهم وأعرضوا عن دعوته، قال الله تعالى واصفا موقفهم العنيد ونهايتهم السّيئة:
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٧ الى ٦٠]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
«١» «٢» «٣» «٤» [هود: ١١/ ٥٧- ٦٠].
يمتلئ قلب النّبي عادة بعاطفة الحبّ لقومه، مريدا لهم الهداية، ويكون مهموما مغموما إذا أعرضوا عن رسالته، منكّد العيش، كاسف (عابس) الوجه، حزين البال (القلب أو الحال). وهذا ما نراه في نفس هود عليه السّلام فإنه قال لقومه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ.. أي إن تتولّوا وتعرضوا عما جئتكم به من عبادة الله ربّكم وحده لا شريك له، فقد بلّغتكم رسالة ربّي التي بعثني بها إليكم، وبقدرة الله أن يهلككم ويستخلف قوما غيركم في دياركم وأموالكم، ويكونون أطوع لله منكم، ولا تضرّونه شيئا بتولّيكم وكفركم، بل يعود وبال ذلك عليكم، ولا تضرّونه شيئا، وإنما تضرّون أنفسكم، إن ربّي على كل شيء رقيب، مهيمن عليه، فما تخفى عليه أعمالكم، ولا يغفل عن مؤاخذتكم.
(١) شديد.
(٢) متعاظم. [.....]
(٣) معاند للحق.
(٤) هلاكا لهم.
1051
وتحقق ما توعّدهم به هود، ونزل العذاب بهم، ولما حان وقت نزول أمر الله بالعذاب، ووقع العذاب فعلا، وهو تدميرهم بريح صرصر عاتية، نجى الله هودا والمؤمنين معه من عذاب شاق شديد، برحمة من الله ولطف، وأهلك الله القوم الظالمين، فجعل ديارهم- عاليها سافلها، ودمّرت الريح كل شيء من منازل القوم وممتلكاتهم.
وأسباب ذلك العقاب الشامل ثلاثة أمور: هي جحود عاد دلائل المعجزات على صدق نبيّهم هود، وأدلّة المحدثات المخلوقات على وجود الصانع الحكيم، وعصيان رسولهم، ومن عصى رسولا واحدا، فقد عصى جميع الرّسل، لذا قال تعالى:
وَعَصَوْا رُسُلَهُ. وتقليدهم رؤساءهم واتّباعهم أوامر كل جبّار عات، عنيد مكابر.
ولم يقتصر العقاب على الإهلاك والتدمير، وإنما أتبعوا في الدنيا وفي الآخرة لعنة دائمة، واللعنة: الإبعاد والخزي، فلحقتهم لعنة الله وعباده المؤمنين في الدنيا كلما ذكروا، وتجوز لعنة الذين ماتوا على الكفر، ولا يلعن معين حي، لا من كافر ولا من فاسق ولا من بهيمة، وكل ذلك مكروه بالأحاديث. وينادى عليهم يوم القيامة على رؤوس الخلائق: ألا إن عادا كفروا بربّهم وبنعمه، وجحدوا بآياته، وكذبوا رسله، ألا بعدا وطردا من رحمة الله لعاد قوم هود. فعلّة لعنهم هي كفرهم بربّهم، وهذا دعاء عليهم بالهلاك والدّمار والبعد عن الرحمة.
لو علم هؤلاء قبل هذه النهاية الوخيمة ما يحلّ بهم، لفكّروا وراجعوا حسابهم، وأصلحوا أمورهم، وصحّحوا عقائدهم، واستقاموا على أمر الله ربّهم. وإذا لم يفعلوا كانوا حمقى، ولم يكونوا مأسوفا عليهم، لقد طواهم التاريخ، وأنهى ذكرهم إلا من طريق التذكير والاعتبار للأجيال اللاحقة بهم، حتى لا يتورّطوا بمثل ما فعلوا، فيعاقبوا بمثل ما عوقبوا. وهذه هي الفائدة والعبرة التي نستفيدها من تكرار تلاوة الآيات القرآنية في شأنهم إلى يوم القيامة، لنعلم علم اليقين أن الجزاء العادل
1052
حق وواجب، حقّ للضعفاء، وواجب على الأقوياء الذين تسبّبوا إضلال أتباعهم، وإنهاء وجودهم في الحياة.
وفائدة قوله تعالى: لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ هو تعيين عاد القديمة، تمييزا لهم عن عاد التي هي إرم ذات العماد، فهما قومان مختلفان، ومتشابهان في عقاب الدنيا.
صالح عليه السّلام مع قومه
- ١- دعوته إلى عبادة الله
إن دعوة الأنبياء والرّسل عليهم السّلام لأقوامهم واحدة الجوهر، متشابهة الرّد والقبول، متماثلة في الغايات والنتائج، مقرونة بالمعجزات الدّالة على صدقهم بترتيب الله تعالى وإذنه. ومن هؤلاء الرّسل: صالح عليه السّلام دعا قبيلة ثمود في مساكن الحجر بين الحجاز والشام إلى عبادة الله وتوحيده، فقاوموه وعادوه بالرغم من تأييد الله له بمعجزة النّاقة، فاستحقّوا عقاب الله وتعذيبه. وهذا مضمون دعوته الأصلية، قال الله سبحانه:
[سورة هود (١١) : الآيات ٦١ الى ٦٣]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)
«١» «٢» «٣» [هود: ١١/ ٦١- ٦٣].
(١) موقع في الريبة.
(٢) أخبروني.
(٣) خسران إن عصيته.
1053
هناك تشابه في النّظم بين قصة هود وقصة صالح عليهما السّلام، إلا أن صالحا لما أمر قومه بالتوحيد في مساق إيراد القصة هنا ذكر دليلين على وجود الله ووحدانيته:
هما الإنشاء من الأرض، والاستعمار فيها، أي جعلهم عمارا لها. ومعنى الآيات:
وأرسلنا إلى قبيلة ثمود الذين كانوا يسكنون الحجر بين تبوك والمدينة المنورة رجلا منهم، أخاهم في النّسب والقبيلة، وهو صالح عليه السّلام، فأمرهم بعبادة الله وحده، فلا إله غيره، وأقام لهم دليلين على توحيد الإله:
الدليل الأول- قوله: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي ابتدأ خلقكم منها، إذ خلق منها أباكم آدم عليه السّلام، فهو أبو البشر، ومادة التراب هي المادة الأولى التي خلق منها آدم، ثم خلقكم أنتم من سلالة من طين بوسائط النطفة والعلقة والمضغة، وأصل النطفة من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء إما من نبات الأرض أو من اللحم الذي يرجع إلى النبات.
والدليل الثاني- قوله: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها أي جعلكم عمّارا تعمرونها وتستغلونها بالزراعة والصناعة والبناء والتّعدين، فتكون الأرض قابلة للعمارة النافعة للإنسان، وكون الإنسان قادرا عليها دليل على وجود الصانع الحكيم الذي قدّر فهدى، ومنح الإنسان القدرة على التّصرف، والعقل على تنظيم الإدارة والاستثمار.
وإذا كان الله هو المستحق للعبادة وحده، فاستغفروه لسالف ذنوبكم من الشّرك والمعصية، ثم توبوا إليه بالإقلاع عن الذنب في الماضي، والعزم على عدم العودة إليه، والنّدم على ما حدث.
إن ربّي قريب من خلقه بالرحمة والعلم والسمع، ومجيب دعوة الدّاعي المحتاج المخلص، بفضله ورحمته. كما جاء في آية أخرى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) [البقرة: ٢/ ١٨٦].
1054
فأجابه قومه جهلا وعنادا بقولهم: يا صالح قد كنت فينا مرجوّا، أي مسوّدا، نؤمل فيك أن تكون سيّدا من الأكابر، قبل دعوتك هذه، فهي محل تعجّب لأنك تنهانا عن عبادة الآباء والأسلاف، وهي عبادة الأوثان والأصنام، وإننا نشك كثيرا في صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وحده، وترك التّوسّل إليه بالشّفعاء المقرّبين عنده.
والشّك: التّوقف بين النّفي والإثبات. والمريب: هو الذي يظن به السوء.
والمقصود التزام التقليد ومتابعة الآباء والأجداد في عبادة الأوثان. فأجابهم صالح عليه السّلام مبيّنا ثباته على منهج النّبوة بقوله: كيف أعصي الله في ترك ما أنا عليه من البيّنة، أخبروني عماذا أفعل، إن كنت على برهان وبصيرة ويقين فيما أرسلني به إليكم، وآتاني منه رحمة، أي نبوّة ورسالة تتضمن وجوب تبليغ ما أوحى الله به إلي.
وبما أنني نبي مرسل من عند الله، فانظروا من الذي ينصرني ويمنعني من عذاب الله إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره؟ وإذا تابعتكم وتركت دعوتكم إلى عبادة الله وحده، لما نفعتموني، ولما زدتموني حينئذ غير الوقوع في الخسارة والضلال، بأخذ ما عندكم، وترك ما عند الله الذي يريد الخير لكم.
إن الفرق واضح في الأسلوب بين القوم والنّبي، فالقوم ثمود قابلوا صالحا عليه السّلام بما يفيد التوبيخ والاتّهام، ويدلّ على التصميم على الكفر، والنّبي صالح يتلطّف بهم ويحاول إقناعهم بصحة دعوته إلى توحيد الله، معتمدا على أسلوب النّقاش العقلي الهادئ، والمثير كوامن التفكير والتأمل فيمن هو أجدر بالعبادة، أهي الأصنام الصّماء التي لا تضرّ ولا تنفع، أم الإله الخالق الرّازق، الممكّن عباده من الانتفاع بخيرات الأرض وثمارها؟! إن العاقل البصير هو الذي يختار عبادة الأحقّ والأنفع، وترك غيره مما لا يشبهه في شيء من صفاته.
1055
- ٢- معجزة النّاقة
علم الله تعالى ما في طبع البشر من العناد والاستبداد، والمطالبة بالدليل على صدق الدعوة، فأيّد رسله وأنبياءه الكرام بالمعجزات لتدلّ على صدقهم، والمعجزة:
هي الأمر الخارق للعادة والإمكانات البشرية المألوفة. ومن غرائب المعجزات: ناقة صالح عليه السّلام، سواء في طريقة إيجادها، أم في نتاجها ولبنها، فهي بخلق مباشر من الله تعالى من غير تناسل ولا توالد، وتدرّ لبنا غزيرا لا ينفد ولا ينقطع، تكفي جميع أبناء القبيلة الذين يحلبون منها ما شاؤوا، دون أن يجفّ الضّرع أن ينضب اللبن.
وهذا ما أخبر به القرآن الكريم في الآيات التالية:
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٤ الى ٦٨]
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [هود: ١١/ ٦٤- ٦٨].
هذه معجزة النّاقة. روي أن قوم صالح طلبوا منه آية تضطرهم إلى الإيمان، فأخرج الله جلّت قدرته لهم النّاقة من الجبل. وخرجت عشراء، ووضعت بعد خروجها، فمنحها صالح عليه السّلام لهم قائلا:
هذه آية على صدقي ناقة الله، التي تتميز عن سائر الإبل بأكلها وشربها وغزارة
(١) معجزة دالّة على نبوّتي.
(٢) صوت مهلك.
(٣) ميتين لا حراك لهم.
(٤) لم يقيموا فيها طويلا برغد.
(٥) هلاكا لهم.
1056
لبنها، كما في آية أخرى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) [القمر: ٥٤/ ٢٧- ٢٨].
فاتركوها تأكل ما شاءت في أرض الله من المراعي، دون أن تتحملوا عبء مؤنتها، وإياكم أن تمسّوها بسوء من أي نوع كان، فيقع بكم عذاب عاجل، لا يتأخر عن إصابتكم، فقالوا: عياذا بالله أن نفعل ذلك.
فلم يمعوا نصحه، وكذّبوه وعقروا النّاقة، عقرها بتواطؤ معهم أشقاهم وهو قدار بن سالف، كما قال الله تعالى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) [القمر: ٥٤/ ٢٩].
فقال لهم صالح: تمتعوا بالعيش في بلدكم (دياركم) مدة ثلاثة أيام، أي هذا ميعاد ثلاثة أيام للعذاب، ذلك وعد صادق مؤكد غير مكذوب فيه.
ثم وقع ما أوعدهم به، فلما حان وقت أمر الله بالعذاب والهلاك، ونزلت الصاعقة، نجى الله تعالى صالحا والمؤمنين معه، برحمة سابغة منه، نجاهم من عذاب شديد، ومن ذلّ ومهانة حدثت يومئذ، أي يوم وقوع الهلاك: يوم التعذيب.
والخزي: الذّلّ العظيم البالغ حدّ الفضيحة، إن ربّك هو القوي القادر الغالب على كل شيء، العزيز، أي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وأصبح أمرهم أنه أخذتهم صيحة العذاب، وهي الصاعقة ذات الصوت الشديد المهلك، التي تزلزل القلوب، وتصعق عند سماعها النفوس، فصعقوا بها جميعا، وأصبحوا جثثا هامدة ملقاة على الأرض.
وكأنهم لسرعة هلاكهم لم يوجدوا في الدنيا، ولم يقيموا في ديارهم، بسبب كفرهم وجحودهم بآيات ربّهم، ألا إنهم كفروا بربّهم، فاستحقّوا عقابه الشديد، ألا بعدا لهم عن رحمة الله، وسحقا لثمود، وهلاكا لهم ولأمثالهم. وقوله سبحانه: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا من غني في المكان: إذا أقام فيه في خفض عيش، وهي المغاني.
1057
قد يتعجب سائل فيسأل: كيف يهلك قوم من أجل قتل ناقة؟ والجواب: أن المعادلة أو المساواة لا يصح أن تكون هي أساس الحكم هنا، لأن تواطؤ قبيلة ثمود وأمرهم أشقاها بعقر الناقة دليل على الإصرار على الكفر، والتّمسّك بعبادة الأوثان والأصنام، ورفض دعوة الأنبياء والمرسلين هداة البشرية إلى الحقّ والنّور والخير، فاذا قورنت هذه المساوئ ممثّلة بعقر النّاقة مع ما تؤول إليه من خسارة اجتماعية كبري، ومأساة إنسانية عامّة، هان الأمر، وأدرك الناس عن وعي وتقدير أن معاداة الرسالات الإلهية تنبئ عن معان مثيرة ومواقف مدهشة، وأوضاع قلقة مليئة بالفوضى والمنازعات، فيكون عقر الناقة موجبا لمثل هذا العذاب الاستئصالي ليدرك البشر أن الحقّ والخير في دعوة الأنبياء، ولا يصلح لأحد الوقوف أمامها وتحدّيها.
بشارة إبراهيم عليه السّلام بولد عند الكبر
تتعدد مظاهر قدرة الله في خلق الإنسان، فإما أن يخلقه الله مباشرة من غير أب ولا أم كآدم عليه السّلام، وإما أن يخلقه من غير أب كعيسى عليه السّلام، وإما أن يخلقه من غير أم كحواء أم البشرية، وإما أن يحدث الخلق في الوقت المعتاد زمن الشباب كأغلب الناس، أو يحدث الخلق في حال العجز والشيخوخة والكبر، كخلق يحيى وإسحاق عليهما السّلام. وتصف لنا آي القرآن المجيد كيفية ولادة إسحاق من أبوين كبيرين عجوزين هما إبراهيم عليه السّلام وامرأته سارّة الآيسة من الحيض، فقال تعالى:
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٩ الى ٧٦]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)
«١» «٢» «٣».
(١) مشوي بالحجارة المحماة في حفرة.
(٢) أنكرهم ونفر منهم.
(٣) أحسّ في قلبه منهم خوفا.
1058
«١» «٢» «٣» «٤» [هود: ١١/ ٦٩- ٧٦].
لما ولد لإبراهيم أبي الأنبياء عليه السّلام إسماعيل من هاجر، تمنّت زوجته الثانية أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنّها، فبشّرت بولد يكون نبيّا، ويلد نبيّا، وكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها.
والقصة في الآيات التي معناها: تالله لقد جاءت رسلنا الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، أو عزرائيل ملك الموت إلى إبراهيم الخليل تحمل له البشارة بولده إسحاق، فلما دخلوا عليه قالوا له: سلاما عليك، قال: سلام عليكم. وهذا أحسن مما حيّوه، لأن صيغة الرفع تدلّ على الثبوت والدوام. فما لبث، أي أبطأ وذهب سريعا، فأتاهم بالضيافة بعجل حنيذ، أي مشوي يقطر ماؤه على الحجارة المحماة. فلما رأى إبراهيم عليه السّلام هؤلاء الأضياف لا تمتد أيديهم إلى الطعام، أنكر ذلك منهم، وملأه الذعر والخوف، إذ أدرك أنهم ليسوا بشرا، وربما كانوا ملائكة عذاب. قال ابن عطية: وفي هذه الآية من أدب الطعام أن للمضيف أن ينظر نظرة لطيفة غير محددة النظر إلى ضيفه، هل يأكل أم لا؟
قالوا له: لا تخف، فنحن لا نريد سوءا بك، وإنما أرسلنا لإهلاك قوم لوط، وكانت ديارهم قريبة من دياره. ونحن نبشّرك بولادة غلام عليم لك، يحفظ نسلك،
(١) كثير الإحسان والخير. [.....]
(٢) الخوف.
(٣) كثير التّأوّه خوفا من الله.
(٤) راجع إلى الله تعالى.
1059
ويبقي ذكرك، وهو إسحاق، وبلد من بعده يعقوب الذي من ذرّيته أنبياء بني إسرائيل، ويسمى ولد الولد الولد من الوراء.
وكانت امرأة إبراهيم ابنة عمه (سارّة بنت هارون بن ناحور) واقفة تخدم القوم، وراء ستار، بحيث ترى الملائكة وتسمع محاورة إبراهيم مع أضيافه، فضحكت سرورا بزوال الخوف ونشر الأمن. قال الجمهور: وهو الضحك المعروف، وكان الضحك من البشارة بإسحاق. بشّرتها الملائكة بولد هو إسحاق، وسيلد له ولد هو يعقوب، فقالت لما بشرت بالولد: عجبا كيف ألد، وأنا عجوز كبيرة عقيم، وزوجي في سنّ الشيخوخة لا يولد لمثله، إن هذا الخبر لشيء عجيب، غريب عادة. وكلمة فَبَشَّرْناها أضيف الضمير إلى الله تعالى، وإن كانت البشارة من فعل الملائكة لأن ذلك بأمر الله ووحيه. وروي أن سارّة كانت في وقت هذه البشارة بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة.
فأجابتها الملائكة: كيف تعجبين من قضاء الله وقدره بأن يرزقكما الله الولد وهو إسحاق، فإن الله لا يعجزه شيء في الكون، وهو على كل شيء قدير. ورحمة الله الواسعة وبركاته الكثيرة عليكم يا أهل بيت النّبوة، وقد حدث توارث النّبوة في نسل إبراهيم إلى يوم القيامة، إنه تعالى المحمود في جميع أفعاله وأقواله، المستحقّ لجميع المحامد، الممجّد في صفاته وذاته، فهو محمود ماجد.
ولما ذهب الخوف من الملائكة عن إبراهيم عليه السّلام حين لم يأكلوا، وبشّروه بالولد، وأخبروه بهلاك قوم لوط، أخذ يجادل الملائكة وهم رسل الله في هؤلاء القوم، وجعلت مجادلتهم مجادلة لله لأنهم جاؤوا بأمره، وينفذون الأمر، وجداله لأن إبراهيم حليم غير متعجل بالانتقام من المسيء إليه، كثير التّأوّه مما يسوء الناس ويؤلمهم، ويرجع إلى الله في كل أموره، فهو رقيق القلب، مفرط الرحمة. فأجابته
1060
الملائكة: يا إبراهيم أعرض عن الجدال في أمر قوم لوط، إنه قد جاء أمر ربّك بتنفيذ القضاء والعذاب فيهم، وإنهم آتيهم عذاب غير مصروف ولا مدفوع عنهم أبدا، لا بجدال ولا بدعاء ولا بشفاعة ونحوها.
قصة لوط عليه السلام مع قومه
انتقل الملائكة الرسل المكلفون بتعذيب قوم لوط أضياف إبراهيم عليه السلام من عند إبراهيم إلى قرى قوم لوط، وهم أهل سدوم وما جاورها من القرى في غور الأردن، وبينهم وبين بلد إبراهيم ثمانية أميال، ولما وصلوا بدأت مأساة عجيبة من قوم لوط بالنسبة لهؤلاء الملائكة الحسان، فأرادوا بهم سوءا، قال ابن عباس:
انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط (ابن أخي إبراهيم) وبين القريتين أربعة فراسخ، ودخلوا عليه، على صورة شباب مرد من بني آدم، وكانوا في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله. كما لم يعرفهم إبراهيم عند أول مقدمهم. وصف القرآن العظيم ماذا حدث في هذه الآيات التالية:
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
«١» »
«٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨»
(١) نالته المساءة بمجيئهم.
(٢) ضعف عن تدبير خلاصهم.
(٣) أي شديد في الشر.
(٤) يسرعون.
(٥) لا تفضحوني في ضيفي.
(٦) من حاجة.
(٧) أنضم إلى جانب حصين.
(٨) ببقية من الليل.
1061
«١» «٢» [هود: ١١/ ٧٧- ٨٣].
قدم وفد الملائكة إلى بلد لوط، بعد ما أعلموا إبراهيم بهلاك قوم لوط في ليلة قريبة، وكانوا في أجمل صورة بهيئة شباب حسان الوجوه، ابتلاء من الله، فساء لوطا عليه السلام مجيئهم، وضاقت نفسه بسببهم لأنه خاف عليهم شذوذ قومه الجنسي، وخبثهم، وعجزه عن مقاومتهم، وقال: هذا يوم عصيب، أي شديد البلاء والشر، مشيرا إلى ما كان يتخوفه من تعدي قومه على أضيافه، واحتياجه إلى المدافعة، مع ضعفه عنها.
وجاء قوم لوط حينما سمعوا بقدوم الضيوف، بإخبار امرأته إياهم، مسرعين مهرولين من فرحهم بذلك، لارتكاب الفاحشة معهم، وكانوا قبل مجيئهم يعملون السيئات، ويرتكبون الفواحش، وشهد عليهم لوط بقوله: أشهد بالله لهم شر قوم في الأرض، وعدّدت آية أخرى جرائمهم: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) [العنكبوت: ٢٩/ ٢٩].
فقام لوط إليهم مدافعا وقال: هؤُلاءِ بَناتِي أي بنات القوم ونساؤهم جملة، إذ نبي القوم أب لهم، والنبي للأمة بمنزلة الوالد. وهن أكرم وأطهر لكم، أي تحت طلبكم وأحلّ لكم. وأَطْهَرُ هنا ليس على سبيل المفاضلة، وليس معناها أن إتيان الرجال شيء طاهر، وكذلك مثل قولنا: أحمر، وأسود، أي ذو حمرة، وسواد.
فاخشوا الله، وخافوه، وأقبلوا ما آمركم به من التمتع بالنساء دون الرجال بعقد الزواج، ولا تفضحوني أو لا تخجلوني في ضيوفي، فإن إهانتهم إهانة لي، أليس منكم رجل ذو رشد وحكمة وعقل وخير، يرشد إلى الطرق القويم.
(١) من طين متتابع.
(٢) لها علامة خاصة عند ربك.
1062
قالوا: لقد علمت سابقا ألا حاجة لنا في النساء ولا نميل إليهن، فلا فائدة فيما تقول، وليس لنا غرض إلا في الذكور، وأنت تعلم ذلك، فأي فائدة في الوعظ؟ قال لوط لقومه متوعدا: لو كان لدي قوة تقاتل معي، أو عشيرة تؤازرني، لقاتلتكم ومنعتكم من تحقيق مرادكم السيّئ. والمراد بالركن الشديد: العشيرة والمنعة بالكثرة بحسب العرف، يعاجلهم به، وهو يعلم أن الله تعالى من وراء عقابهم.
قالت الملائكة بعد هذا الحوار الشديد: يا لوط، إنا رسل ربك، أرسلنا إلى نجاتك من شرهم، وإهلاكهم، ولن يصلوا إليك بسوء، فاخرج مع أهلك بجزء من الليل يكفي لتجاوز حدودها، ولا ينظر أحد منكم إلى ما وراءه أبدا، حتى لا يصيبه شيء من العذاب. امض بأهلك إلا امرأتك. فلا تأخذها معك، إنه مصيبها ما أصابهم من العذاب، لكفرها وخيانتها بدلالة قومها على المنكر. إن موعد عذابهم هو الصبح، من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، أليس موعد الصبح بموعد قريب؟ واختيار هذا الوقت لتجمعهم فيه في مساكنهم.
فلما جاء أمر الله بالعذاب، عند طلوع الشمس، ونفذ قضاؤه في قوم لوط، جعل ديارهم وهي قرى سدوم عاليها سافلها، وخسف بهم الأرض، وأمطر عليهم حجارة من طين متحجر، منظم متتابع، معلمة للعذاب، عليهم علامة خاصة عند ربك، أي في خزائنه، وليست هي من الكفار الظالمين أي قريش ونحوهم بمكان بعيد، فهي تشمل كل ظالم، ويمرون على تلك الديار في الأسفار، ويشاهدون آثار الدمار والخراب، سواء في الليل أو في النهار.
1063
شعيب عليه السلام مع قومه
- ١- دعوته لعبادة الله والإصلاح الاجتماعي
في وسط غنّاء من الحدائق والثمار، والزروع والأشجار، والأرزاق والأنهار، قام النّبي شعيب عليه السّلام خطيب الأنبياء في مدين قرب معان بين الحجاز والشام بدعوة قومه إلى عبادة الله وتوحيده، وإلى إصلاح الحياة الاجتماعية بإقامة القسط والعدل في الموازين والمكاييل، والحفاظ على الحقوق، وترك الإفساد في الأرض، واستئصال سبب المنازعات والخلافات بين الناس، وإشاعة المحبة والمودة بينهم.
وهذه صفحة مشرقة من حياة هذا النّبي مصورة في الآيات التالية:
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٤ الى ٨٨]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [هود: ١١/ ٨٤- ٨٨].
هذا مقطع من قصة شعيب عليه السلام في تبليغ دعوته لأهل مدين، ومناقشتهم له وردّه عليهم. والمعنى: ولقد أرسلنا إلى مدين أخاهم في القبيلة شعيبا، الذي كان
(١) مهلك. [.....]
(٢) لا تنقصوا.
(٣) لا تفسدوا بشدة.
(٤) ما أبقاه لكم من الحلال.
(٥) أخبروني.
1064
من أشرفهم نسبا، فقال: يا قوم، اعبدوا الله وحده لا شريك له، وإياكم نقص الناس حقوقهم في المكيال والميزان، فلا حاجة لكم للظلم، وأراكم بخير، وهذا عام في جميع نعم الله تعالى، أي أراكم بثروة وسعة في الرزق ورفاه في المعيشة، تغنيكم عن الطمع والدناءة في بخس الناس حقوقهم، وإني أخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله تعالى، وأخشى عليكم عذاب يوم يحيط بكم جميعا، فلا يترك أحدا منكم، وهو إما عذاب الاستئصال في الدنيا، وإما عذاب الآخرة في نار جهنم.
ويا قوم، وفّوا الكيل والوزن بالعدل، أخذا وعطاء، والأمر بالإيفاء زيادة على النهي عن البخس (أي إنقاص الحقوق) للتأكيد والتنبيه على أنه لا يكفي الامتناع عن تعمد التطفيف، بل يلزمهم الإكمال والإيفاء ولو بزيادة قليلة.
ثم نهاهم شعيب عليه السّلام عن النقصان في كل شيء، بإلحاق الظلم والجور في حقوق الناس، كما نهاهم عن السعي في الفساد في أمر الدنيا والدين، مثل قطع الطريق، وقوله بعد النهي عن الإفساد مُفْسِدِينَ تكرار على جهة التأكيد، أو قصد الإفساد.
وعلل شعيب دعوته إلى إيفاء الحقوق بأن بقية الله خير لهم، أي ما يبقى لهم من الربح الحلال بعد إيفاء الكيل والميزان خير لهم من الحرام، وأكثر بركة، وأرجى عاقبة مما يأخذونه بطريق الحرام، بشرط أن يكونوا مؤمنين، لأن تحقيق الخيرية وثمرتها إنما يكون في حال الإيمان، لا في حال الكفر، والإيمان حافز باعث على الطاعة. ثم قال لهم: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي لست عليكم برقيب على أعمالكم، ولا مستطيع منعكم من القبائح، فالأمر ينبغي أن يصدر عن قناعة ذاتية منكم، ولست أنا إلا ناصحا أمينا، فافعلوا ما فيه الخير لذاته، لا ليراكم الناس.
فردّ أهل مدين على شعيب عليه السّلام عما أمرهم به، أما الرّد على عبادة الله
1065
وحده فقالوا: يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أي هل صلاتك التي تكثر منها تأمرك بترك عبادة آبائنا وأجدادنا، وهي عبادة الأوثان والأصنام، وهذا منهم على سبيل الاستهزاء والسخرية، فهم مصرّون على تقليد أسلافهم في الوثنية.
وأما الرّد على ترك البخس (النقصان) في الكيل والميزان فقالوا: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا أي وهل صلاتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نريد فعله؟
ومقصودهم أن مطلبه بالعدل وأداء الزكاة مناف لسياسة تنمية المال وتكثيره، وهو حجر وتقييد لحريتهم الاقتصادية. وهذا هو الفكر المادي الذي لا يميز بين الحلال والحرام، والإفراط في الطمع المادي. وأكّدوا سخريتهم وهزءهم بقولهم: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ أي إنّك لصاحب الحلم والأناة، والرشد والاستقامة، وأرادوا بذلك وصفه بأضداد هذه الصفات من الجهالة والطيش والغواية.
أجابهم شعيب بما يحسم أطماعهم بقوله: أخبروني يا قوم إن كنت على بصيرة من ربي فيما أدعو إليه، ورزقني منه رزقا حسنا، وهو النّبوة والحكمة، ولا أنهاكم عن الشيء وأقع في المنهي عنه، ولا أريد إلا إصلاحكم بمقدار استطاعتي، وليس توفيقي في إصابة الحق فيما أريده إلا بالله وهدايته وعونه، وعليه توكلت في جميع أموري، ومنها تبليغ رسالتي، وإليه أنيب وأرجع. وهذا دليل على ثبات شعيب على المبدأ وإخلاص الدعوة، دون أن يخشى من قومه سوءا.
- ٢- إنذار شعيب قومه بالعذاب ووقوعه بالفعل
لم تجد وسائل الإصلاح اللينة والكلمة الطيبة بقوم شعيب، فتحول أسلوبه من ليّن القول إلى الإنذار بالعذاب، وطلب المغفرة من الله والتوبة إليه، فازداد تعنّتهم
1066
وإعراضهم، وأمهلهم ليصلحوا شأنهم أو يترقبوا إنزال العقاب بهم، فلم يبدّلوا حالهم، فكانت النتيجة عقابهم بالصيحة التي دمّرتهم، وإنجاء المؤمنين. وهذا ما سجّله القرآن الكريم في الآيات التالية:
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٩ الى ٩٥]
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» [هود: ١١/ ٨٩- ٩٥].
اشتدّ حال المعارضين المعاندين لدعوة شعيب، فأنذرهم بالتعرّض للعقاب قائلا:
يا قوم، لا يحملنكم خلافي معكم، ولا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد، فيصيبكم مثل ما أصاب غيركم وأمثالكم من العذاب والنقمة، كإغراق قوم نوح، وإهلاك قوم هود بالرّيح الصّرصر العاتية، وقوم صالح بالرّجفة أو الزّلزلة، وقوم لوط بالصيحة المدمرة، وهذا ليس ببعيد عنكم زمانا ولا مكانا.
(١) لا يحملنكم عداوتي وبغضي.
(٢) جماعتك وعشيرتك.
(٣) منبوذا خلفكم.
(٤) غاية تمكنكم من أمركم.
(٥) انتظروا العاقبة.
(٦) صوت مهلك.
(٧) ميتين لا يتحركون.
(٨) لم يقيموا فيها بنعمة ورفاه عيش.
(٩) هلاكا.
(١٠) هلكت من قبل. [.....]
1067
واطلبوا المغفرة من ربّكم على سالف الذنوب من عبادة الأوثان وبخس المكيال والميزان، ثم توبوا إليه فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة، وارجعوا إلى طاعته، فإن ربي رحيم بمن تاب إليه وأناب، كثير الود والحب، يحب التائب ويرحم المذنب.
وهذا يدل على أن الاستغفار والتوبة يسقطان الذنوب.
لم ينفعهم هذا الأسلوب أيضا، فلجئوا إلى الإهانة والتهديد، قائلين: يا شعيب، ما نفهم كثيرا من قولك، مع أنه خطيب الأنبياء، وأنت واحد ضعيف، ولولا رهطك أو عشيرتك وقرابتك لرجمناك بالحجارة، وليس لك معزّة ولا تكريم.
والرّهط: الجماعة من الثلاثة إلى العشرة.
فأجابهم شعيب عليه السّلام بحلم وأناة قائلا: يا قومي أرهطي أعزّ وأكرم عليكم من الله القوي القادر القاهر، واتّخذتموه وراءكم ظهريّا، أي تركتموه خلفكم، لا تطيعونه ولا تعظمونه، ولا تخافون بأسه وعقابه، إن ربي محيط علمه بعملكم، عالم بأحوالكم، فلا يخفى عليه شيء منها، وسيجازيكم على أفعالكم.
ولما يئس شعيب عليه السلام من إجابتهم دعوته، حسم الموقف قائلا: يا قوم، اعملوا على طريقتكم، واعملوا كل ما في وسعكم وطاقتكم من إلحاق الشّرّ بي، فإني عامل أيضا على طريقتي بما آتاني الله من القدرة، أي فأنتم ثابتون على الكفر والضّلال، وأنا ثابت على الدعوة إلى عبادة الله والثقة بقدرته. ولسوف تعلمون من ينزل به عذاب يخزيه ويذله في الدنيا والآخرة، ومن هو كاذب في قوله مني ومنكم، وانتظروا ما أقول لكم من إيقاع العذاب، إني معكم رقيب منتظر. وهذا وعيد وتهديد لمن يفهم ويدرك المقال.
وبعد نفاد كل محاولات الإصلاح لأهل مدين، نزل بهم العقاب على كفرهم وفسادهم، فلما جاء أمر الله بعذابهم، ونفذ قضاؤه فيهم، نجى الله تعالى رسوله
1068
شعيبا عليه السلام ومن آمن معه، برحمة إلهية خاصة بهم، وأخذت الظالمين الصيحة:
وهي صوت من السماء، شديد مهلك مرجف، فأصبحوا قعودا ميتين لا يتحركون.
كأنهم لم يقيموا في بلادهم طويلا في رغد عيش، ولم يعيشوا فيها قبل ذلك، وصدر بحقهم الدعاء المرجّى تنبيها للسامع في كلمة: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ أي ألا هلاكا ودمارا لهم، كما هلكت ودمرت من قبلهم قبيلة ثمود، وكانوا جيرانهم بقرب منهم في الدار، وبينهم تشابه في الكفر وقطع الطريق، وكانوا عربا مثلهم.
هذه هي نهاية الظالمين العتاة، الذين أفسدوا الدين والحياة الاجتماعية، فكانوا عبرة للأجيال. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يعذب الله تعالى أمّتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح، فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم.
عافانا الله من البلاء، وجعل نفوسنا لينة لأمر الله، واعية دروس الماضي، وعبرة الأمم السالفة، وهذا درس بليغ لا يتغير أثره ونفعه في كل زمان ومكان.
إرسال موسى عليه السلام إلى فرعون
كان من أخطر وأعقد مهام الأنبياء والرسل بعثة موسى عليه السلام إلى فرعون ملك مصر وطاغيتها ومدّعي الألوهية فيها، ولم تختلف هذه البعثة عن غيرها من البعثات، فمضمونها الدعوة إلى وجود الله تعالى ووحدانيته، وترك عبادة الأصنام والأوثان أو تأليه البشر، وغايتها بيان العبرة والعظة بإنجاء المؤمنين، وإهلاك الظالمين الذين أعرضوا عن دعوة رسلهم. وهذا ما أوجزته الآيات التالية:
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٦ الى ٩٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)
1069
«١» «٢» «٣» «٤» [هود: ١١/ ٩٦- ٩٩].
تأكيد وقسم تضمنته هذه الآيات للدلالة على عظمة المهمة، وتأييد صاحبها بما يؤيد رسالته ويدعو إلى تصديق دعوته. والمعنى: تالله لقد أرسلنا موسى بآيات تسع، أي بعلامات ظاهرة، وسلطان مبين، أي برهان وبيان في الحجّة، دالّ على توحيد الله وعبادته، إلى فرعون ملك القبط في مصر وملئه: أشراف قومه وأتباعها. وتلك الآيات والأدلة والبراهين المؤيدة بالحس المشاهد والواقع القائم كافية في إثبات صدق نبوة موسى ورسالته، بالإيمان بالله تعالى. والآيات التسع: هي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص الثمرات، والسنون القاحلة.
وكان المصريون الأقباط والملأ: أشراف القوم قد اتّبعوا أوامر فرعون ومناهجه، وصدّهم عن الإيمان بالله، وكفروا، ولم يكن أمر فرعون وتصرفه ومنهجه برشيد، أي ليس بمصيب ولا معقول ولا بعيد عن السفاهة، وإنما هو محض الجهل والضلال.
لذا أخبر الله تعالى في هذه الآية: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عن فرعون أنه يأتي يوم القيامة متقدما قومه وقائدا لهم إلى نار جهنم، فيدخلهم فيها، لأنه كما اتبعوه في الدنيا، وكان مقدّمهم ورئيسهم، كذلك هو يقدم يوم القيامة إلى النار، فأوردهم إياها، وله فيها الحظ الأوفر من العذاب الأكبر، وبئس المورد (موضع الورود) الذي يردونه، وهو ورود الدخول، والمدخول فيه وهو النار لأن وارد الماء يرده للتبريد وإطفاء حرّ الظمأ، ووارد النار يزداد احتراقا بلهبها ويتلظى بسعيرها. وسبب ذلك
(١) يتقدمهم.
(٢) أدخلهم فيها.
(٣) المدخل والمكان المدخول فيه وهو النار.
(٤) العطاء المعطى لهم وهو اللعن.
1070
عصيان فرعون وقومه، كما جاء في آية أخرى: فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا (١٦) [المزمل: ٧٣/ ١٦].
وفرعون القائد إلى النار يضاعف له العذاب، وهو أول من تلتقطه ألسنة النار يوم القيامة في المحشر الرهيب لادّعائه أنه إله من دون الله، ومضاعفة العذاب هو شأن المتبوعين من كل أمة، يحملون راية العذاب، كما جاء في قوله تعالى: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: ٧/ ٣٨].
وثبت في القرآن الكريم أيضا أن آل فرعون يعذبون أيضا في الدنيا قبل الآخرة في قبورهم، منذ ماتوا وإلى يوم القيامة، صباحا ومساء، كل يوم، كما قال تعالى:
وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦) [غافر: ٤٠/ ٤٥- ٤٦].
ومن ألوان تعذيب آل فرعون تتابع لعنة الله عليهم في عالم الدنيا والآخرة معا، لقوله تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي ألحق الله بهم زيادة على عذاب النار لعنة عظيمة في الدنيا، من الأمم الآتية بعدهم، وكذلك في يوم القيامة، يلعنهم أهل الموقف جميعا، وهم من المقبوحين. وقوله: فِي هذِهِ يريد دار الدنيا. وقوله:
يَوْمَ الْقِيامَةِ أي يلعنون أيضا بدخولهم جهنم. قال مجاهد: فهما لعنتان. أي في الدنيا والآخرة فوق عذابهم، كما جاء في آية أخرى: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) [القصص: ٢٨/ ٤٢].
ومعنى قوله سبحانه بعدئذ: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي قبح وبئس العون المعان والعطاء المعطى هذه اللعنة اللاحقة بهم في الدنيا والآخرة، فقد سميت اللعنات رفدا تهكّما بهم. والرّفد في كلام العرب: هو العطية، قال ابن عباس مبينا المراد من هذه الجملة: هو اللعنة بعد اللعنة.
1071
إن تجنّب سوء المصير لكل إنسان أمر يسير، وهو إعلان الإيمان بالله تعالى، فذلك ليس أمرا صعبا ولا محرجا، وأما التسبب في العذاب فهو طيش وحماقة، وما أشد عذاب المتكبرين الرافضين دعوة الإيمان بالله ربّا هاديا، كما جاء في قوله تعالى:
فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) [الحج: ٢٢/ ١٩- ٢٢].
العبرة من قصص العذاب الشامل
لا بد لكل نظام من مؤيدات مدنية وجزائية، حتى يحترم النظام، وتسود كلمته وتعلو هيبته، لأنه ليس كل الناس يستجيبون لنداء الحق والضمير، والوعي والعقل والتفكير، فيكون الجزاء الرادع مرهبا ومؤدبا العصاة، وحاملا مجموع الناس على الالتزام بقواعد النظام. وهذا هو المنهج المتّبع في كل تشريع إلهي أو وضعي بشري.
لذا اشتمل القرآن الكريم على قصص الأمم السابقة الذين رفضوا دعوة الإيمان بالله تعالى، وآذوا الرسل والأنبياء، واتبعوا الأهواء والشهوات، وكان في إيراد هذه القصص عبرة واضحة وعظة بليغة. قال الله تعالى مصورا هذه الغاية:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٢]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)
«١» «٢» [هود: ١١/ ١٠٠- ١٠٢].
(١) لا أثر له كالزرع المحصود.
(٢) التتبيب: أي الخسران والهلاك.
1072
ذكر الله تعالى في سورة هود سبع قصص للأنبياء: وهي قصة نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى عليهم السلام، ثم عقبها ببيان جلي لما فيها من العظة والعبرة. وهي دليل على صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لإخباره عن تلك القصص الغائبة أو المجهولة، من غير مطالعة كتاب، ولا مدارسة مع معلم، وهي معجزة عظيمة تثبت النّبوة، كما قال تعالى: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ... [يوسف: ١٢/ ١١١].
ومعنى الآيات: ذلك النبأ المذكور عن العقوبات النازلة بالأمم المتقدمة،- والأنباء: الأخبار- مقصوص عليك أيها النّبي، لتخبر به الناس، ويتلوه المؤمنون إلى يوم القيامة، تبليغا عنك. ومن تلك القرى الظالمة المهلكة ماله أثر باق قائم كالزرع القائم على ساقه كقوم صالح، ومنها ما اندرس وباد، حتى لم يبق له أثر كالزرع المحصود، مثل قرى قوم لوط.
هذا وصف لأوضاع تلك القرى، وأعقبه بيان مبدأ العقاب الجوهري: أنه قائم على العدل وعدم الظلم، فذكر الله تعالى أنه ما ظلمناهم بإهلاكهم من غير ذنب، ولكن ظلموا أنفسهم بتكذيبهم الرسل وكفرهم بهم، وشركهم وإفسادهم في الأرض، وادّعائهم أن آلهتهم المزعومة تدفع عنهم المخاوف والمخاطر المستقبلية، ولكنها في الواقع ما نفعتهم شيئا، ولا دفعت عنهم بأس الله، بل ضرّتهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها ويدعونها من دون الله، إنها لم تنقذهم من الهلاك. والمراد بقوله تعالى: الَّتِي يَدْعُونَ أي التي كانوا يعبدون من دون الله، حينما جاء أمر ربك بالعذاب، وَما زادُوهُمْ أي ما زادتهم عبادة الأصنام غير الوقوع في العنت والخسران والهلاك لأن سبب هلاكهم ودمارهم إنما كان باتّباعهم تلك الآلهة الباطلة، فخسروا الدنيا والآخرة.
1073
ومثل ذلك الأخذ بالعذاب وإهلاك الأمم الظالمة المكذبة لرسل الله، كذلك نفعل أي الإله بأشباههم، فنأخذ القرى ونهلكها، وهي في حالة الظلم الشديد، إن أخذ ربّك وجيع شديد، لا يرجى منه الخلاص، وهو إنذار وتحذير من سوء عاقبة الظلم في الدين والانحراف عن مقتضى اليقين بالله تعالى. وقوله تعالى: وَهِيَ ظالِمَةٌ أي إن أهل تلك البلدان ظالمون، مثل قوله سبحانه: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ١٢/ ٨٢]. أي أهلها. ومعنى قوله سبحانه: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ أي إن عقابه لأهل الشّرك موجع شديد الألم.
ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.
فالقرآن والسّنة النّبوية مجمعان دالان على أن الظلم المقترن بالشرك والكفر، موجب للعقاب والعذاب في نار جهنم. وقد يمهل الله تعالى عقاب بعض الكفرة، وأما الظلمة في الغالب فمعاجلون، وإن أملى الله لبعضهم وأجّل عذابهم فهو لحكمة: وهي ترك الفرصة لهم أن يتوبوا ويصلحوا أحوالهم، ويقلعوا عن ظلمهم وشركهم، وذلك بمقتضى الرحمة الإلهية الشاملة، وهو منهاج التربية الأقوم.
الاعتبار في قصص القرآن بعذاب الآخرة
الاعتبار والاتّعاظ في بيان قصص الأمم الظالمة السابقة وما حلّ بها مفيد في الدنيا، ومفيد أيضا في تربية الإنسان واهتدائه للخوف من أمر الآخرة، والترهيب من عصيان الله والكفر به، لئلا يكون الإنسان من الأشقياء الذين يصلون النار. وفيه أيضا الترغيب بالإيمان بالله وطاعته، ليكون المؤمن التّقي الطائع مع السعداء الذين
1074
يتمتعون بالجنة. وهذه آيات تحدد بدقة موضع العبرة بالنسبة للآخرة وتبين مصير السعداء والأشقياء:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٩]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)
«١» «٢» »
«٤» [هود: ١١/ ١٠٣- ١٠٩].
معنى الآيات: إن في بيان قصص أمر أهل القرى الظالمة وما تعرضت له من عقاب لعبرة وعلامة اهتداء لمن خاف أمر الآخرة، وتوقع أن يناله عذابها، فنظر وتأمل. يعلم بعد نظره أن وعد الله صادق في مجيء الآخرة، وأن ما أخبر به الأنبياء من البعث والجزاء حقّ مؤكد لا شك فيه. وأن من عذّب الظالمين في الدنيا قادر على أن يعذبهم في الآخرة. وأن ما أصاب المجرمين في الدنيا ما هو إلا شيء يسير بالنسبة لعذاب الآخرة.
ذلك اليوم يوم عذاب الآخرة يجمع فيه الناس جميعا، أولهم عن آخرهم، ليحاسبوا عن أعمالهم، ثم يجازوا عليها، وذلك يوم مشهود، تحضره الخلائق جميعا، من الإنس والجنّ والدّواب، وتحضره الملائكة والرسل، ويحكم فيه الملك العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها.
(١) أي يشهده جميع الخلائق.
(٢) إخراج النفس من الصدر.
(٣) رد النفس إلى الصدر.
(٤) أي غير مقطوع عنهم.
1075
وما تأخير يوم القيامة وما فيه من أهوال وعذاب إلا لمضي مدة محددة في علم الله تعالى، لا زيادة عليها ولا نقص، وهي عمر الدنيا، لإعطاء الفرصة الكافية للناس لإصلاح أعمالهم، وتصحيح عقيدتهم، كما هو قانون الله وسنّته في صريح قرآنه:
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (٥٨) [الكهف: ١٨/ ٥٨].
ثم وصف الله المهابة يوم القيامة، وذهاب العقل، وهول القيامة، وذلك في قوله سبحانه: يوم يأتي يوم القيامة لا يتكلم أحد إلا بإذن الله تعالى، فهو صاحب الأمر والنهي المطلق، ويكون أهل المحشر صنفين: شقي معذب لكفره وعصيانه، وسعيد منعّم في الجنان لإيمانه واستقامته، كما قال تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشّورى: ٤٢/ ٧]. فمن اختار الغواية والشّر فهو من أهل الشقاوة، ومن أراد الهداية والخير، فهو من أهل السعادة، وكلّ ميسّر لما خلق له.
وأحوال الفريقين ما يلي: فأما الأشقياء فهم مستقرون في جهنم، بسبب اعتقادهم الفاسد وعملهم السيّئ، ولهم من الهمّ والكرب وضيق الصدر وشدة العذاب زفير تنفّسهم، شهيق نفسهم، على عكس المعتاد، لما يعانون من العذاب. وهم ماكثون في النار على الدوام مدة بقاء السماوات والأرض، وهذا مجرد تمثيل لإفادة التأبيد ونفي الانقطاع. والمراد بالاستثناء في قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ بيان أن الخلود في النار بمشيئة الله تعالى، لا يخرج فيها شيء عن إرادته ومشيئته. قال ابن جرير: من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدا قالت: هذا دائم دوام السماوات والأرض، وكذلك يقولون: هو باق ما اختلف الليل والنهار. أو أن الله يبدل السماء والأرض يوم القيامة، ويتأبد ذلك.
إن ربّك يفعل ما يشاء، على وفق علمه ومقتضى حكمته.
1076
وأما أهل السعادة أتباع الرّسل، فمأواهم الجنة، ماكثين فيها أبدا، مدة دوام السماء والأرض بمشيئة الله، والمراد الأبدية، ونعيمهم فيها عطاء غير منقطع ولا ممنوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق: ٨٤/ ٢٥]. ثم خاطب الله نبيّه، والمعنى له ولأمّته، موجّها إنذاره الدائم، ومضمونه: فلا تكن يا محمد وكل سامع في شك في عاقبة ما يعبد المشركون وفي نهايتهم، فكل ما يعبدون باطل وجهل وضلال، وتقليد للأسلاف من غير وعي، وعذابهم محقق لا شك فيه، والله موفّيهم نصيبهم من العذاب غير منقوص منه شيء، وهو العقوبة التي تقتضيها أعمالهم. وهذا وعيد وتهديد.
سبب الاختلاف في التوراة وطريق الاتّفاق
أراد الله تعالى التّسرية عن هموم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بسبب إعراض قومه عن دعوته، من طريق إيراد سوابق تاريخية من سيرة الأنبياء عليهم السّلام، ومنها ما تعرّض له موسى عليه السّلام من صدود وإعراض قومه عن دعوته، فلا يعظم عليك أيها النّبي أمر من كذّبك، فهذه هي سيرة الأمم، فقد جاء موسى بكتاب، فاختلف الناس عليه. ثم حدّد القرآن سبيل إنقاذ الأمة من طريق الاستقامة والعمل بأوامر الله تعالى، فقال الله تعالى:
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٠ الى ١١٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣)
«١» «٢»
(١) موقع في الرّيبة.
(٢) لا تجاوزوا الحدود.
1077
«١» [هود: ١١/ ١١٠- ١١٣].
والمعنى: والله لقد آتينا موسى الكتاب الذي هو التوراة، فاختلف فيه بنو إسرائيل من بعده، ظلما وبغيا، وتنازعا على الزعامة والمصالح المادية، فآمن به قوم، وكفر به آخرون. مع أن الكتاب الإلهي نزل لتوحيد الكلمة وجمع الناس على منهج واحد، فلا تبال أيها النّبي محمد باختلاف قومك في القرآن، فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك أسوة، فلا تحزن ولا تهتم لتكذيبهم.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لولا سبق القضاء والقدر بتأخير العذاب إلى أجل مسمى، لقضي بينهم في الدنيا، بإهلاك العصاة، وإنجاء المؤمنين، كما حدث لأم آخرين. وإن المكذّبين لفي شكّ موقع في الريبة والقلق، سواء أكانوا من قوم موسى أم من قوم محمد عليهما الصّلاة والسّلام. والكلمة من ربك هنا: عبارة عن الحكم والقضاء. وقوله تعالى: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لفصل بين المؤمن والكافر بنعيم هذا وعذاب هذا.
وإن كلّا من المؤمنين والكافرين المختلفين في كتاب الله، ليوفينّهم الله جزاء أعمالهم، وما وعدوا به من خير أو شرّ لأنه خبير بتلك الأعمال كلها، ولا يخفى عليه شيء منها. وهذا تهديد ووعيد لقوم النّبي صلّى الله عليه وسلّم وكل مكذب برسالته.
وبعد هذا التهديد والتقريع للمختلفين في توحيد الله والنّبوة، أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويقصد بالخطاب الأمر بالدوام والثبات، أمره بالاستقامة مثلما أمر بها غيره، والاستقامة شاملة كل ما يتعلق بالعقيدة والعلم والعمل والأخلاق.
(١) لا تطمئنوا وتميلوا بالمحبة.
1078
والمعنى: فالزم وثابر يا محمد ومن آمن معك على طريق الاستقامة في الاعتقاد والأعمال، وتطبيق أوامر القرآن في العبادات والمعاملات، وهي درجة تتطلب جهاد النفس، والترفع عن الأهواء والشهوات. ولا يعني أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالاستقامة أنه لم يكن مستقيما، وإنما كان على العكس في غاية الاستقامة، وإنما المقصود كما ذكرت في هذا الموضوع: هو الدوام والاستمرار على ما هو عليه، وذلك طريق النصر على الأعداء. وفي هذا دليل على وجوب اتّباع النصوص الشرعية من غير تصرّف ولا انحراف، ولا تقليد وعمل برأي فاسد غير صحيح، ومن حاد عن ذلك زاغ وأزاغ.
والتزام جادة الاستقامة ليس بالأمر الهيّن، وإنما يتطلب جهادا متواصلا.
روى الطبراني في الكبير في حديث صحيح عن عقبة بن عامر وأبي جحيفة: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «شيّبتني هود وأخواتها»
فقال له بعض العلماء: فما الذي شيّبك من هود؟ قال له: قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ.
وبعد الأمر بالاستقامة، نهى الله تعالى عن ضدّها وهو الطغيان، وهو البغي وتجاوز حدود الله في قوله سبحانه: وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي إن الطغيان مزلقة إلى الهلاك، والله تعالى بصير بأعمال العباد، لا يخفى عليه شيء، فيجازي عليه. وهذا تحذير واضح من الانحراف والمخالفة.
ثم نبّه الله تعالى إلى خطر الميل مع الظالمين، فقال: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي ولا تميلوا مع الظالمين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم، أو استعانة بهم، أو اعتماد عليهم، فتصيبكم النار بركونكم إليهم، فذلك ظلم، وليس لكم من غير الله أنصار أبدا ينفعونكم، ويمنعون العذاب عنكم، ثم لا ينصركم الله في حال الظلم، لأن الله سبحانه لا يحب الظلم لأحد، ولا ينصر الظالمين، كما قال تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [البقرة: ٢/ ٢٧٠]. وقال أيضا: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج: ٢٢/ ٧١، فاطر: ٣٥/ ٣٧].
1079
الأمر بالصلاة والصبر
الطريق لتقوية الإيمان والإرادة، وامتثال أوامر الله وتكاليفه شيئان مهمّان، يقرن القرآن بين الأمر بهما أحيانا، وهما إقامة الصلاة، والصبر في الحياة. أما الصلاة فهي معراج المؤمن، وصلة الوصل بالله عزّ وجلّ، والاستمتاع بالتوجّه نحو الذات العليّة في أوقات منتظمة. وأما الصبر فهو فولاذ الإرادة الحازمة، وإعداد القوة اللازمة للتغلب على مصاعب الحياة ومتاعب الدنيا، وبغير الصلاة لا تسعد النفس، وبغير الصبر لا يكتب النجاح. لذا أمر القرآن الكريم بهما في مناسبات متعددة، منها في سورة البقرة: [الآية ٢/ ١٥٣]. ومنها في سورة هود:
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
«١» [هود: ١١/ ١١٤- ١١٥].
سبب نزول هاتين الآيتين: ما
رواه البخاري ومسلم وابن جرير عن ابن مسعود: أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره، فأنزل الله:
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ فقال الرجل:
إلي هذه؟ قال: لجميع أمتي كلهم.
وتكررت روايات أخرى في معنى ذلك.
موضوع الآيتين الاستعانة بالصلاة والصبر. أما ما يتعلق بالصلاة فالآية الأولى في تحديد أوقاتها الخمسة، ولا خلاف في أن المراد بها الصلوات المفروضة. والمعنى: أقم الصلاة أيها النبي وكل مؤمن تامة الأركان والشروط والأوصاف، باعتبارها صلة بين العبد وربه، مطهرة للنفس، مرضاة لله، مانعة عن الفحشاء والمنكر، في جميع أجزاء اليوم. فقوله سبحانه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ يشمل ثلاث صلوات:
(١) أجزاء منه قريبة من النهار. [.....]
1080
وهي الصبح، والظهر والعصر، وقوله تعالى: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يشمل صلاتي المغرب والعشاء. فتكون الآية شاملة جميع أوقات الصلاة.
وتنوع فرضية الصلاة في الليل والنهار تعليم لضبط الوقت، وربط المؤمن بالله تعالى في جميع أجزاء الوقت العامل المتحرك، لا في حال السكون والنوم. وفائدة الصلاة بانت بعد تحديد الأوقات في قوله سبحانه: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ أي إن فعل الخيرات ومنها الصلوات الخمس تكفّر الذنوب السالفة الواقعة في جميع أجزاء النهار، وتغسل آثار السيئات الصغائر، كالنظر الحرام والقبلة والضرب باليد أو الرجل. والحسنات: جميع الأعمال الصالحة، والسيئات: الذنوب الصغائر، أما الكبائر فلا يكفّرها إلا الحد (العقوبة المقدرة) أو التوبة لقوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً (٣١) [النساء:
٤/ ٣١].
ويؤكد مدلول الآية
الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفّرات ما بينهن، إن اجتنبت الكبائر».
قال جمهور أهل السنة في شرط: «إن اجتنبت الكبائر» هو شرط في معنى الوعد كله، أي إن اجتنبت الكبائر، كانت العبادات المذكورة كفارة للذنوب، فإن لم تجتنب لم تكفّر العبادات شيئا من الصغائر.
والأولى أن يقال: الشرط موضح أن الصلاة تسقط الذنوب الصغائر بشرط اجتناب الكبائر، بدليل حديث خروج الخطايا مع قطر ماء الوضوء وغيره. ويعدّ الإصرار على الصغائر من الكبائر.
ثم قال الله تعالى: ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أي إن أداء الصلوات، والنصح بفعل الحسنات، والاستقامة على أمور الدين، وعدم الركون إلى الظلمة عظة للمتعظين الذين يعقلون الأحداث، ويخشون الله عز وجل.
1081
والأمر الثاني هو الصبر، ومعنى الآية: والزم الصبر على الطاعة ومشاقّها، وعن المعصية ومغرياتها، وابتعد عن المنكر والمحرّمات، وفي حال الشدائد والمصائب، فإن الله لا يهدر ثواب المحسنين أعمالا، الصابرين على مراد الله وقدره. وهذا دليل على أن الصبر إحسان وفضيلة.
والصبر مطلوب في الصلاة وسائر الطاعات، لقوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه: ٢٠/ ١٣٢].
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو نعيم والبيهقي من حديث ضعيف: «الصبر نصف الإيمان، واليقين: الإيمان كله».
وجاءت هذه الآيات في أواخر سورة هود في نمط واحد، أعلم الله نبيه أنه يوفي جميع الخلائق أعمالهم، المسيء والمحسن، ثم أمره بالاستقامة والمؤمنين معه، ثم أمره بإقامة الصلوات ووعد على ذلك، ثم أمره بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات الله تبارك وتعالى، ثم وعد بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
سبب هلاك الأمم السابقة
لا ظلم ولا جور في حكم الله تعالى على الإطلاق، وإنما العدل الذي تطوقه الرحمة أساس القضاء في شرع الله، وذلك لأن الله غني عن العالمين، ولا مصلحة له مع أحد، وهو ربّ العباد جميعا، ولا يخشى أحدا من الخلائق حتى يحابيه على حساب غيره، ولا حاجة له لبشر أبدا حتى يتقرب إليه في حكمه، وإنما خير القضاء وعدل الحكم يرجع إلى العباد أنفسهم. وقد ذكر الله سبحانه سبب إيقاع عذاب الاستئصال وهلاك الأمم السابقة، وهو أمران:
الأول- أنه لم يكن فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض.
والثاني- أن الظالمين اتّبعوا طلب الشهوات واللذات، واشتغلوا بتحصيل
1082
الرياسات والزعامات. والظالمون: هم متقرفو المنكر، تاركو المعروف. قال الله تعالى مبيّنا هذين السببين:
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٦ الى ١١٩]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)
«١» «٢» «٣» «٤» [هود: ١١/ ١١٦- ١١٩].
حضّ الله بكلمة فَلَوْلا التي هي للتحضيض والحثّ على الفعل على وجود جماعة من الأقوام والجماعات الماضية التي أهلكها الله بسبب ظلمها، يتصفون برجاحة العقل والرأي، والبصيرة والخير، والحزم والثبات في الدين، ينهون أقوامهم عما كان يقع منهم من فساد في الأرض، وهو الكفر وما اقترن به من المعاصي.
والآية تنبيه لأمة محمد وحضّ على تغيير المنكر، والنّهي عن الفساد.
ثم استثنى الله تعالى القوم الذين نجاهم مع أنبيائهم، وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم، أي لكن قد وجد قليل من المصلحين، نهوا عن الفساد في الأرض. وهذا كما يقول اللغويون: استثناء منقطع.
والأكثرية هم الظالمون الذين اتّبعوا أنفسهم وشهواتهم، وما أترفوا فيه من نعيم وعزة وسلطان. والمترف: الذي أبطرته النعمة وسعة العيش. والذين ظلموا: هم تاركو النهي عن المنكر. واتّباعهم التّرف: اشتغالهم بالشهوات والمال واللذات
(١) القرون هنا الجماعة المقترنون في زمان طويل أكثره مائة سنة.
(٢) أصحاب خير وعقل.
(٣) ما أنعموا فيه من الخصب.
(٤) وجبت.
1083
والرياسات، واستمرارهم على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات، وعدم التفاتهم إلى إنكار المصلحين منهم والناصحين لهم.
والحال أنهم كانوا مجرمين، أي ظالمين، فالله تعالى لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، كما قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود: ١١/ ١٠١]. وفي الآية إشارة إلى أن الترف مدعاة إلى الإسراف، والإسراف يفضي إلى الفسوق والعصيان، والظلم والانحراف.
ثم أوضح الله تعالى قانونه العام وسنته في البشرية بقوله: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) أي ليس من شأن الله تعالى أن يهلك أهل القرى ظالما لها، وأهلها قوم مصلحون، تنزيها لله تعالى عن الظلم، وإعلاما بأن إهلاك المصلحين من الظلم. والمراد أن الله تعالى لا ينزل عذاب الاستئصال على مجرد كون القوم مشركين أو كافرين، بل إنما ينزل العذاب إذا أساؤوا في المعاملات، وسعوا في الإيذاء والظلم، كما فعل قوم شعيب في مدين، وقوم هود في الأحقاف شمال حضرموت، وقوم فرعون في مصر، وقوم لوط في ديار سدوم في الأردن، وقوم صالح في الحجر بين الحجاز والشام. ويؤيد ذلك أن الأمم تبقى مع الكفر، ولا تبقى مع الظلم.
وهناك قانون إلهي عام آخر وهو أن الله تعالى قادر على جعل الناس على ملة واحدة من الإيمان أو الكفر، ولكنه سبحانه ترك لهم الاختيار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق، وبعضهم الباطل، فوقع الانقسام والاختلاف بينهم، وظلموا مختلفين متنازعين في الدين والاعتقاد والمذهب والرأي بسبب من أنفسهم، إلا من رحم ربّك، أي إلا أناسا هداهم الله ولطف بهم وهم أتباع الرسل، فاتفقوا على دين الحق، غير مختلفين فيه.
1084
ولذلك المذكور من تمكين الناس من ممارسة حرياتهم، والاختيار الذي كان عنه الاختلاف، خلقهم، ليثيب مختار الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره كما قال الزمخشري في الكشاف. وذكر أهل السّنة أن اللام في قوله تعالى:
وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ليست لام التعليل، فليس الاختلاف والرحمة علة الخلق، وإنما هي لام الصيرورة، أي خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف، وإن لم يقصد بهم الاختلاف، فهذا تعبير عن ثمرة الأمر ومقتضاه.
وسبق في قضاء الله وقدره لعلمه التّام وحكمته النافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النار، وأنه لا بد من أن يملأ جهنم من الجنّ والإنس أجمعين، وهم الذين تمردوا وعصوا أوامر الله، ولم يهتدوا بما أرسل الله به الرسل من الآيات والأحكام.
فائدة القصة القرآنية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم
بعد أن أخبر الله تعالى في سورة هود بقصص الأنبياء السابقين مع أقوامهم، ذكر فائدة تلك القصص بالنسبة للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، وحصرها في فائدتين:
الأولى- تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى.
والثانية- بيان ما هو حق وعظة وذكرى للمؤمنين.
ثم ختم الله تعالى السورة بما بدأها به وهو الأمر بالعبادة والتوكل على الله، وعدم المبالاة بعداوة المشركين.
وهذه هي الآيات المبينة لهذه الأهداف:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٣]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
1085
«١» [هود: ١١/ ١٢٠- ١٢٣].
والمعنى: وكلّا من السورة والآيات التي ذكر فيها قصص الأنبياء المتقدمين نقصّها عليك أيها النّبي بقصد تحقيق فائدتين:
الفائدة الأولى- ما به يقوى الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى، لأن الأنبياء السابقين من قبلك تحملوا في جدال أقوامهم الأذى الكثير، فصبروا على ما كذّبوا به، فنصرهم الله، وخذل أعداءهم الكافرين، فلك بالمرسلين السابقين أسوة حسنة وقدوة تقتدي بها.
الفائدة الثانية- وتبيّن لك في هذه السورة وفي قصص الأنبياء ما هو الحق والصدق واليقين: وهو وحدانية الله وعبادته وحده، وإثبات البعث، وفضل التقوى والأخلاق الكريمة. كما أن في تلك الأنباء عظة وعبرة يرتدع بها الكافرون، وذكرى يتذكر بها المؤمنون.
وخصّ الله هذه السورة- سورة هود بوصفها بالحق- والقرآن كله حق- لأن ذلك يتضمن الوعيد للكفرة والتنبيه للناظر، لما فيها من أخبار الأنبياء ووصف الجنة والنار وبيان المستحق لكل منهما.
والحقّ: ما تضمنت سورة هود من وعيد الكفرة وبيان الأدلة الدّالة على التوحيد والعدل والنّبوة. والموعظة: التنفير من هيمنة الدنيا ومتاعها على النفس وإيثارها على الآخرة وسعادتها. والذكرى: الإرشاد إلى الأعمال الصالحة الباقية.
وبعد هذه التذكرة المشتملة على الترغيب والترهيب، ذكر الله آية وعيد، وهي:
(١) غاية تمكنكم من أمركم.
1086
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ.. الآية، أي وقل أيها الرسول للكافرين الذين لا يؤمنون بما جئت به من ربّك، على سبيل التهديد: اعملوا على حالاتكم وطريقتكم التي أنتم عليها من كفركم، وافعلوا ما تريدون من إيقاع الشّرّ بي، فنحن أيضا عاملون على طريقتنا ومنهجنا وهو الإيمان الصحيح والدعوة إلى الخير، وهذه مقولة تشبه مقالة شعيب عليه السّلام لقومه في مدين. وانتظروا بنا نهاية أمرنا، إما بموت أو غيره مما تأملون، إنا منتظرون عاقبة أمركم، وما ينزل بكم من عقاب نزل بأمثالكم، إما من عند الله بالاستئصال الشامل، أو بأيدي المؤمنين بالحروب والمعارك. وانتظار مصير الفريقين له شبيه بقوله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: ٦/ ١٣٥].
وألفاظ هذه الآية تصلح للموادعة، وتصلح أن تقال على جهة الوعيد المحض والحرب قائمة.
ثم ختم الله تعالى سورة هود بآية تدلّ على انفراد الخالق بالعظمة وبما لا يمكن للبشر معرفته، وهو علم الغيب، وتبيين أن الخير والشّر وجليل الأشياء وحقيرها، متعلّق بأحكام المالك الحقيقي: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي إن الله تعالى مختص بعلم الغيب في السماوات والأرض في كل زمان من الماضي والحاضر والمستقبل، ومرجع جميع الخلائق والكائنات إلى الله تعالى لأنه مصدر الكل ومبدأ الكل، وصاحب القدرة الشاملة، والمشيئة النافذة.
وإذا كان الله هو المتّصف بما ذكر، فاعبده وحده ومن معك من المؤمنين، وفوّض أمرك كله لله، وثق به تمام الثقة في كل شيء، وليس بخفي على الله كل ما يعمل به المكذّبون والمصدقون، وما عليه أحوالهم، وما تصدر عنه أقوالهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة، وسينصرك الله أيها النّبي على أعدائك، ويكتب لرسالتك ودعوتك الخلود والفوز، فلا تبال بهم.
1087
Icon