هي مكية وآياتها مائة وإحدى عشرة آية فقط، وما قيل من أن الثلاث الأولى منها مدنيات فلا تصح روايته ولا يظهر له وجه وهو يخل بنظم الكلام، وقد راجعت الإتقان فإذا هو ينقله ويقول : وهو واه جدا فلا يلتفت إليه، ومن العجائب أن يذكر هذا الاستثناء في المصحف المصري ويزاد عليه الآية السابعة.
والمناسبة بينها وبين سورة هود أنها متممة لما فيها من قصص الرسل عليهم السلام والاستدلال في كل منهما على كونها وحيا من الله تعالى دالا على رسالة محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بآيتين متشابهتين، ففي آخر قصة نوح من الأولى ﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ﴾ [ هود : ٤٩ ] وفي آخر الثانية ﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ﴾ [ يوسف : ١٠٢ ] وإشارة التأنيث في الأولى للقصة المنزلة بهذا التفصيل والبلاغة العجيبة وقيل للسورة، وإشارة التذكير في الثانية لقوله تعالى في أول السورة ﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص ﴾.
والفرق بين قصتها وقصص الرسل في التي قبلها وفي سورة الأعراف وغيرها أن تلك قصص للرسل مع أقوامهم في تبليغ دعوة الرسالة والمحاجة فيها، وعاقبة من آمن بهم ومن كذبهم، لإنذار مشركي مكة ومتبعيهم من العرب، وقد كررت بالأساليب والنظم المختلفة لما فيها من أنواع التأثير ووجوه الإعجاز التي تقدم بيانها في مباحث الوحي المحمدي ثم في بحث التحدي بعشر سور مثله مفتريات.
وأما سورة يوسف فهي قصة نبي واحد وجد في غير قومه قبل النبوة صغير السن وبلغ أشده واكتهل فنبئ وأرسل ودعا إلى دينه، وكان مملوكا ثم تولى إدارة الملك لقطر عظيم، فأحسن الإدارة والتنظيم، وكان خير قدوة للناس في رسالته وجميع ما دخل فيه من أطوار الحياة وطوارئها وطوارقها، وأعظمها شأنه مع أبيه وإخوته آل بيت النبوة فكان من الحكمة أن تجمع قصته في سورة واحدة كما نجمله في أولها ونفصله إن شاء الله في خاتمها، وهي أطول قصة في القرآن افتتحت بثلاث آيات تمهيدية في ذكر القرآن وحسن قصصه، ثم كانت إلى تمام المائة في تاريخ يوسف وختمت بإحدى عشرة آية في الاستدلال بها على ما أنزلها الله لأجله من إثبات رسالة خاتم النبيين وإعجاز كتابه والعبرة العامة بقصص الرسل عليهم السلام
ﰡ
﴿ الر تلك آيات الكتاب المبين ﴾
فاتحة هذه السورة هي فاتحة سورة يونس إلا وصف القرآن بالمبين هنا وبالحكيم هنالك، وهما في أعلى ذروة من البيان، وأقصى مدى من الحكمة والإحكام، اختير في كل من السورتين ما يناسبها، فسورة يونس موضوعها أصل الدين وهو توحيد الألوهية والربوبية وإثبات الوحي والرسالة بإعجاز القرآن والبعث والجزاء وهي من الحكمة. وهذه موضوعها قصة نبي كريم تقلب في أطوار كثيرة كان قدوة خير وأسوة حسنة فيها كلها، فالبيان بها أخص.
﴿ الر تلك آيات الكتاب المبين ﴾ أي آيات هذه السورة هي آيات الكتاب البين الظاهر بنفسه في حقيته وإعجازه وكونه ليس من كلام البشر، والمظهر لما شاء الله من حقائق الدين ومصالح الدنيا، وقال مجاهد : بين الله حلاله وحرامه، وقال الزجاج : مبين للحق من الباطل والحلال من الحرام. تقول العرب أبان الشيء فعلا لازما بمعنى ظهر واتضح. وتقول أبان الرجل كذا إذا أظهره وفصله من غيره مما شأنه أن يشتبه به، ويجوز الجمع بينهما هنا كما قلنا آنفا.
﴿ وإن كنت من قبله لمن الغافلين ﴾ أي وإن الشأن وحقيقة ما يتحدث عنه من قصتك أنت أنك كنت من قبل إيحائنا إياه إليك من جماعة الغافلين عنه عن قومك الأميين الذين لا يخطر في بالهم التحديث بأخبار الأنبياء وأقوامهم، وبيان ما كانوا عليه من دين وتشريع كيعقوب وأولاده في بداوتهم، ولا ما كانت الأمم فيه من ترف وحضارة كالمصريين الذين وقع يوسف بينهم، وحدث لهم ما حدث في بعض بيوتاتهم العليا ثم في بيت الملك وإدارة نظام الدولة.
هذه الآيات الثلاث في بيان ما وقع بين يوسف في طفولته، وأبيه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فاستدل أبوه برؤياه، على أنه سيكون له شأن عند الله وعند الناس، فتعلق به أمله، وشغف به قلبه، فكان مبدأ لكل ما حدث له من الوقائع المحرقة، ومن العاقبة المشرقة، فهذه الرؤيا لا يظهر تأويلها إلا في آخر هذه الرواية، وأصحاب القصص المنتحلة في عصرنا يحتذون أسلوب قصة يوسف في سورته هذه بوضع خبر مشكل خفي يشغل فكر القارئ في أولها، ويظل ينتظر وقوع ما يحل إشكاله، ويفسر مآله، فلا يصيبه إلا في آخر القصة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم )١ رواه أحمد والبخاري وغيرهما، وفي رواية ( الكريم بن الكريم ) الخ.
﴿ إذ قال يوسف لأبيه يا أبت ﴾ هذا شروع في بيان أحسن القصص فهو بدل منه يشتمل عليه. والأكثرون يعدونه بدء كلام جديد يقدرون له متعلقا : اذكر أيها الرسول إذ قال يوسف لأبيه : يا أبت الخ والتاء هنا بدل من ياء المتكلم وهو مسموع من العرب في نداء الأب والأم والفصيح كسرها وسمع فتحها وضمها أيضا ﴿ إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ﴾ في المنام بدليل ما يأتي بعد، ثم بين الصفة التي رأى عليها هذه الجماعة السماوية بقوله ﴿ رأيتهم لي ساجدين ﴾ والسجود التطامن والانحناء الذي سببه الانقياد والخضوع أو المبالغة في التعظيم وأصله قولهم : سجد البعير- إذا خفض رأسه لراكبه عند ركوبه، وكان من عادات الناس في تحية التعظيم في بلاد فلسطين ومصر وغيرهما، واستعمل في القرآن بمعنى انقياد كل المخلوقات لإرادة الله تعالى وتسخيره وهذا سجود طبيعي غير إرادي، ولا يكون السجود عبادة إلا بالقصد والنية من الساجد للتقرب إلى من يعتقد أن له عليه سلطانا ذاتيا غيبيا فوق سلطان الأسباب المعهودة.
وكان الأصل في التعبير عن سجود هذه الكواكب التي ليس لها إرادة أن يقول رأيت كذا وكذا ساجدة لي، ولكنه أراد أن يخبر والده أنه رآها ساجدة سجودا كأنه عن إرادة واختيار كسجود العقلاء المكلفين فأعاد فعل رأيت وجعل مفعوله ضمير العقلاء وجمع صفة هذا السجود جمع المذكر السالم، فعلم أبوه أن هذه رؤيا إلهام، لا يمكن أن تعد من أضغاث الأحلام، التي تثيرها في النوم الخواطر والأفكار، ولا سيما خواطر غلام صغير كيوسف يخاف أبوه أن يأكله الذئب، وفي سفر التكوين أنه كان قد بلغ السادسة عشرة وهو بعيد.
هذه الآيات الثلاث في بيان ما وقع بين يوسف في طفولته، وأبيه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فاستدل أبوه برؤياه، على أنه سيكون له شأن عند الله وعند الناس، فتعلق به أمله، وشغف به قلبه، فكان مبدأ لكل ما حدث له من الوقائع المحرقة، ومن العاقبة المشرقة، فهذه الرؤيا لا يظهر تأويلها إلا في آخر هذه الرواية، وأصحاب القصص المنتحلة في عصرنا يحتذون أسلوب قصة يوسف في سورته هذه بوضع خبر مشكل خفي يشغل فكر القارئ في أولها، ويظل ينتظر وقوع ما يحل إشكاله، ويفسر مآله، فلا يصيبه إلا في آخر القصة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم )١ رواه أحمد والبخاري وغيرهما، وفي رواية ( الكريم بن الكريم ) الخ.
﴿ قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك ﴾ يا بني تصغير لكلمة ابن في نداء العطف والتحبب، وقص الرؤيا على فلان كقص القصة معناه أخبره بها على وجه الدقة والإحاطة كما تقدم آنفا، وقد يفهم منه المعبر البصير المعنى المناسب للرائي القاص أو المعنى الذي تؤول إليه في المستقبل إذا كانت رؤيا حق كما يقع للأنبياء عليهم السلام قبل وحي التكليم ومقدماته، وقد فهم هذا يعقوب واعتقد أن يوسف سيكون نبيا عظيما ذا ظهور وسلطان يسود به أهله حتى أباه وأمه وإخوته، وخاف أن يسمع إخوته ما سمعه ويفهموا ما فهمه فيحسدوه ويكيدوا لإهلاكه فنهاه أن يقص رؤياه عليهم وعلله بقوله :
﴿ فيكيدوا لك كيدا ﴾ أي إن تقصصها عليهم يحسدوك فيدبروا ويحتالوا للإيقاع بك تدبيرا شيطانيا يحكمونه بالتفكير والروية، كما يفعل الأعداء في المكايد الحربية، يقال كاده إذا وجه إليه الكيد مباشرة، وكاد له إذا دبر الكيد لأجله سواء كان لمضرته وهو المراد هنا، أو لمنفعته ومنه قوله تعالى في تدبير يوسف لإبقاء أخيه عنده ﴿ كذلك كدنا ليوسف ﴾ [ يوسف : ٧٦ ] وسيأتي بيان هذه المقابلة.
﴿ إن الشيطان للإنسان عدو مبين ﴾ ظاهر العداوة بينها لا تفوته فرصة لها فيضيعها. هذا بيان مستأنف للسبب النفسي لهذا الكيد وهو أنه من وسوسة الشيطان في النزغ بين الناس عندما تعرض له داعية من هوى النفس وشرها الحسد الغريزي في الإنسان، كما عبر عنه يوسف بعد وقوعه وسوء تأثيره وحسن عاقبته بقوله ﴿ من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] وفي قصته من سفر التكوين أن يوسف قص رؤياه على أبيه وإخوته جميعا من أول وهلة. وما قصه الله هو الحق الذي روي بالتواتر القطعي وسفر التكوين غير مروي بالأسانيد المتصلة المتواترة، ولا دليل على أنه وحي من الله تعالى، ولكنه كتاب قديم التاريخ له قيمة لا تعصمه من الخطأ.
هذه الآيات الثلاث في بيان ما وقع بين يوسف في طفولته، وأبيه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فاستدل أبوه برؤياه، على أنه سيكون له شأن عند الله وعند الناس، فتعلق به أمله، وشغف به قلبه، فكان مبدأ لكل ما حدث له من الوقائع المحرقة، ومن العاقبة المشرقة، فهذه الرؤيا لا يظهر تأويلها إلا في آخر هذه الرواية، وأصحاب القصص المنتحلة في عصرنا يحتذون أسلوب قصة يوسف في سورته هذه بوضع خبر مشكل خفي يشغل فكر القارئ في أولها، ويظل ينتظر وقوع ما يحل إشكاله، ويفسر مآله، فلا يصيبه إلا في آخر القصة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم )١ رواه أحمد والبخاري وغيرهما، وفي رواية ( الكريم بن الكريم ) الخ.
﴿ وكذلك يجتبيك ربك ﴾ أي ومثل ذلك الشأن الرفيع والمجد البديع الذي تمثل لك في رؤياك، يجتبيك ربك لنفسه ويصطفيك على آلك وغيرهم فتكون من عباده المخلصين بفتح اللام كما وصفه الله فيما يأتي قريبا فالاجتباء افتعال من جبيت الشيء إذا خلصته لنفسك، والجباية جمع الشيء النافع كالماء في الحوض والمال للسلطان ولي الأمر ﴿ ويعلمك من تأويل الأحاديث ﴾ أي يعلمك من علمه اللدني تأويل الرؤى وتعبيرها أي تفسيرها بالعبارة والأخبار بما تؤول إليه في الوجود، وهو تأويلها كما سيأتي حكاية لقول يوسف لأبيه ﴿ هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] أو ما هو أعم من ذلك من معاني الكلام، وسميت الرؤى أحاديث باعتبار حكايتها والتحديث بها، وقال بعض المفسرين وتبعه غيره إن الرؤيا حديث الملك إن كانت صادقة وحديث الشيطان إن كانت كاذبة، وهذا القول يخالف الواقع فإن رؤيا يوسف ليس فيها حديث وكذا رؤيا صاحبيه في السجن ورؤيا ملك مصر، وإنما سميت رؤيا لأنها عبارة عما يرى في النوم كما أن الرؤية اسم لم يرى في اليقظة فهما كالقربة والقربى وفرق بينهما للتميز، وقد يسمع رائيها أحاديث رجل يحدثه ولكن تأويل رؤياه يكون لجملة ما رآه وسمعه لا لما يسمعه فيها فحسب، كما يقصه بحديثه على من يعبره له. أي يعبر به من مدلول حديثه اللفظي إلى ما يؤول إليه، وقد يكون قريبا كرؤيا صاحبي السجن، ورؤيا الملك، وقد يكون بعيدا كتأويل رؤيا يوسف نفسه، ولفظ الأحاديث اسم جمع سماعي كالأباطيل.
والرؤيا الصادقة ضرب من إدراك نفس الإنسان أحيانا لبعض الأشياء قبل وقوعها باستعدادها الفطري، إما بعينها وهو قليل، وإما بمثال يدل عليها وهو المحتاج إلى التأويل، وسنبين الفرق بين الرؤيا الصادقة وبين أضغاث الأحلام، ورأي علماء الإفرنج ومقلديهم فيها في خلاصة السورة الإجمالية إن شاء الله تعالى، وتعليم الله التأويل ليوسف إيتاؤه إلهاما وكشفا للمراد منها أو فراسة خاصة فيها، أو علما أعم منها، كما يدل عليه قوله الآتي لصاحبي السجن ﴿ لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكم بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي ﴾ [ يوسف : ٣٧ ] روي عن ابن زيد إنه قال في تأويل الأحاديث : تأويل العلم والحلم وكان يوسف من أعبر الناس، وقال الزجاج تأويل أحاديث الأمم السالفة والكتب المنزلة.
زعم الزمخشري وتبعه مقلدوه أن هذه الجملة كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل وهو يعلمك ويتم نعمته عليك وبنى هذا على ما فهمه من دلالة الرؤيا على الاجتباء فقط، وما هذا الفهم إلا من تأثير قواعد النحو، والذي يجزم به أن يعقوب عليه السلام فهم من هذه الرؤيا فهما مجملا كل ما بشر به ابنه رائيها، وأما كيد إخوته له إذا قصها عليهم فقد استنبطه استنباطا من طبع الإنسان، وعداوة الشيطان. فلما حذره من الاستهداف لذلك بإثارة حسدهم، قفى عليه ببشارته بما تدل عليه الرؤيا من اجتباء ربه الخاص به، ومن تأويل الأحاديث وهو الذي سيكون وسيلة بينه وبين الناس إلى رفعة قدره وعلو مقامه، فهو معطوف على الاجتباء مشترك معه في البشارة.
ثم عطف عليه ﴿ ويتم نعمته عليك ﴾ بالنبوة والرسالة والملك والرياسة ﴿ وعلى آل يعقوب ﴾ وهم أبواه وإخوته وذريتهم [ وأصل الآل أهل بدليل تصغيره على أهيل، وهو خاص في الاستعمال بمن لهم شرف وخطر في الناس كآل النبي صلى الله عليه وسلم وآل الملك ويقال لغيرهم أهل ] بإخراجهم من البدو، وتبوئهم المقام الكريم بمصر، ثم بتسلسل النبوة في أسباطهم إلى أجل معلوم ﴿ كما أتمها على أبويك من قبل ﴾ أي من قبل هذا العهد أو من قبلك ﴿ إبراهيم وإسحاق ﴾ هذا بيان لكلمة أبويك وهما جده وجد أبيه، وقدم الأشرف منهما، وهذا الاستعمال مألوف عند العرب وغيرهم وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم يا ابن عبد المطلب بل قالها هو أيضا، وهذا التشبيه مبني على ما كان يعلمه يعقوب من وعد الله لإبراهيم باصطفاء آله، وجعل النبوة والكتاب في ذريته، وإنما علم من رؤيا يوسف أنه هو حلقة السلسلة النبوية الاصطفائية بعده من أبنائه، فلهذا علل البشارة بقوله :
﴿ إن ربك عليم حكيم ﴾ أي عليم بمن يصطفيه حكيم باصطفائه، وبإعداد الأسباب وتسخيرها له وكان هذا العلم من يعقوب بما بشر الله به أبويه لهما ولذريتهما، وبدلالة رؤيا يوسف على أنه هو حلقة السلسلة الذهبية لهم، هو السبب كما قلنا لزيادة حبه له وعطفه وحرصه عليه، الذي هاج ما كان يحذره من حسد إخوته وكيدهم له، ولكونه لم يصدق ما زعموه من أكل الذئب له، ولم ينقطع أمله منه، بل لم ينقص إيمانه بما أعده الله له ولهم به، ولكن علمه بذلك كان إجماليا لا تفصيليا، وقد جاءت قصته من أولها إلى آخرها مفصلة لهذا الإجمال، تفصيلا هو من أبدع بلاغة القرآن، وزاد بعض المفسرين في التشبيه إنجاء إبراهيم من النار وإنجاء إسحاق من الذبح، ولكن التحقيق أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق كما يدل عليه قوله تعالى بعد قصته من سورة الصافات ﴿ وبشرناه بإسحاق ﴾ [ الصافات : ١١٢ ] وكون القصة كانت في الحجاز وهي الأصل في أضاحي منى هناك، وإنما الذي نشأ في الحجاز إسماعيل لا إسحاق كما هو معلوم بالتواتر.
هذا شروع في القصة بعد مقدمتين أولاهما في صفة القرآن وكونه تنزيلا من الله دالا على رسالة من أنزل عليه، وكونه عربيا تقوم به الحجة على العرب الذين يعقلونه وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان من قبله غافلا عما جاءه فيه لا يدري منه شيئا، ونتيجة هاتين القضيتين تأتي بعد تمام القصة في قوله تعالى ﴿ ذلك من أنباء الغيب ﴾ [ آل عمران : ٤٤ ] الخ..
والمقدمة الثانية رؤيا يوسف وما فهم منها أبوه فهما إجماليا كليا كما بيناه آنفا وبنى عليه أن حذره وأنذره ما يستهدف له قبله من كيد إخوته، وبشره بحسن عاقبته، ونتيجة هاتين القضيتين ما قاله لأبيه بعد دخولهم عليه وسجودهم له ﴿ يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] الخ.
فمثل هذا الترتيب المنطقي العقلي البديع يتوقف نظمه وسرده على سبق العلم بالقصة وتتبع حوادثها والإحاطة بدقائقها، ثم على وضع ترتيب ينسق عليه الكلام كالقصص الفنية المتكلفة، ثم توضع له المقدمة والخاتمة في الغاية التي ألفت القصة لأجلها، فتجعل الأولى براعة مطلع، والآخرة براعة مقطع، فقل لمن جهل سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وتاريخه : إن محمدا لم يكن قارئا ولا كاتبا، ولا خطيبا ولا شاعرا، ولا مؤرخا، ولا راويا، ولا حافظا للشعر ولا ناثرا، بل كان كما قال الله تعالى غافلا عن هذه القصة وكل ما جاء في القرآن، وكانت تنزل عليه السورة القصيرة فيعجل بقراءتها لئلا ينسى منها شيئا، فنهي عن ذلك عندما عرض له في أثناء نزول سورة القيامة بقوله تعالى ﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ﴾ [ القيامة : ١٦-١٩ ] وبقوله ﴿ ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليه وحيه وقل رب زدني علما ﴾ [ طه : ١١٤ ] وقوله ﴿ سنقرئك فلا تنسى ﴾ [ الأعلى : ٦ ] وقوله ﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ [ الحجر : ٩ ] فلما ضمن ربه له أمن ضيع شيء منه بعدم حفظه عند تلقيه، أو نسيانه بعده، زال خوفه، وترك الاستعجال بقراءته.
وهذه السورة الطويلة نزلت عليه دفعة واحدة كأكثر السور المكية حتى الطوال منها كسورة الأنعام فلم يكن يدري من هذا الترتيب والنسق لها ولا من موضوعها شيئا قبل وحيها، ولا يحيط به إلا أن يكمل له تلقيها عن الروح الأمين عليهما السلام، ولكن العجب أن يغفل عنه أو يجهله أحد من المفسرين فرسان البلاغة الفنية، والآن وقد بينته لقارئ هذا التفسير ليفطن لدلالة السورة بنظمها وبلاغتها على إعجاز القرآن اللفظي، وبما فيها من التشريع وعلم الغيب على إعجازه المعنوي، وبالإعجازين كليهما على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، أشرع في تفسير القصة متبرئا من حولي وقوتي إلى حول الله وقوته.
وهي :
﴿ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ﴾ أي لقد كان في قصة يوسف وإخوته لأبيه أنواع من الدلائل على أنواع من قدرة الله وحكمته، وتوفيق أقداره ولطفه بمن اصطفى من عباده، وتربيته لهم، وحسن عنايته بهم، للسائلين عنها، من الراغبين في معرفة الحقائق والاعتبار بها، لأنهم هم الذين يعقلون الآيات ويستفيدون منها، ومن فاته العلم بشيء أو بحكمته أو بوجه العبرة فيه سأل عنه من هو أعلم به منه، فإن للظواهر غايات لا تعلم حقائقها إلا منها، فإخوة يوسف لو لم يحسدوه لما ألقوه في غيابة الجب، ولو لم يلقوه لما وصل إلى عزيز مصر، ولو لم يعتقد العزيز بفراسته وأمانته وصدقه لما أمنه على بيته ورزقه وأهله، ولو لم تراوده امرأة العزيز عن نفسه ويستعصم لما ظهرت نزاهته وعرف أمرها، ولو لم تخب في كيدها وكيد صواحبها من النسوة لما ألقي في السجن لإخفاء هذا الأمر، ولو لم يسجن لما عرفه ساقي ملك مصر وعرف براعته وصدقه في تعبير الرؤيا، ولو لم يعلم الساقي منه هذا لما عرفه ملك مصر وآمن به وله وجعله على خزائن الأرض، ولو لم يتبوأ هذا المنصب لما أمكنه أن ينقد أبويه وإخوته وأهله أجمعين من المخمصة ويأتي بهم إلى مصر فيشاركوه في رياسته ومجده، بل لما تم قول أبيه له ﴿ ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب ﴾ فما من حلقة من هذه السلسلة إلا وكان ظاهرها محرقا، وباطنها مشرقا، وبدايتها شرا وخسرا، وعاقبتها خيرا وفوزا، وصدق قول الله عز وجل ﴿ والعاقبة للمتقين ﴾ [ الأعراف : ١٢٨ ].
فهذه أنواع من آيات الله في القصة للسائلين عن وقائعها الحسية الظاهرة، وما هو أعلى منها من علومها وحكمها الباطنة، كعلم يعقوب بتأويل رؤيا يوسف وعلمه يكذبهم بدعوى أكل الذئب له، ومن شهادة الله له بالعلم بقوله ﴿ وإنه لذو علم لما علمناه ﴾ [ يوسف : ٦٨ ] الآية، ومن شمه لريح يوسف منذ فصلت العير من أرض مصر قاصدة أرض كنعان، ومن علم يوسف بتأويل الأحاديث، ومن رؤيته لبرهان ربه، ومن كيد الله له ليأخذ أخاه بشرع الملك، ثم من علمه بأن إلقاء قميصه على أبيه يعيده بصيرا بعد عمى سنين كثيرة، في القصة مجال لسؤال السائلين عن كل هذه المعاني من العلم الروحاني، وهي أخفى مما قبلها، وأحق بالسؤال عنها.
وقيل إن المراد بالسائلين جماعة من اليهود جاؤوا مكة وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤال امتحان عن نبي كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتى عمي ؟ فأنزل الله تعالى عليه سورة يوسف جملة واحدة كما في التوراة، وروي أن بعضهم لقنوا بعض أهل مكة أن يسألوه عن قصة يوسف، وروي أن بعضهم سألوه عن أسماء الكواكب الأحد عشر التي رآها يوسف في منامه ولم يكن يعرفها فنزل عليه جبريل فلقنه إياها فجاءت موافقة لما في التوراة، وذكروا هذه الأسماء في تفاسيرهم، فالمراد بالآيات على هذا دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يصح من هذه الروايات شيء بل هي من الإسرائيليات، وليس في التوراة ذكر لأسماء هذه الكواكب، وقصة يوسف في القرآن موافقة لجملة ما في سفر التكوين ومخالفة له في بعض دقائقها وسنذكر من ذلك غير ما ذكرنا آنفا.
هذا شروع في القصة بعد مقدمتين أولاهما في صفة القرآن وكونه تنزيلا من الله دالا على رسالة من أنزل عليه، وكونه عربيا تقوم به الحجة على العرب الذين يعقلونه وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان من قبله غافلا عما جاءه فيه لا يدري منه شيئا، ونتيجة هاتين القضيتين تأتي بعد تمام القصة في قوله تعالى ﴿ ذلك من أنباء الغيب ﴾ [ آل عمران : ٤٤ ] الخ..
والمقدمة الثانية رؤيا يوسف وما فهم منها أبوه فهما إجماليا كليا كما بيناه آنفا وبنى عليه أن حذره وأنذره ما يستهدف له قبله من كيد إخوته، وبشره بحسن عاقبته، ونتيجة هاتين القضيتين ما قاله لأبيه بعد دخولهم عليه وسجودهم له ﴿ يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] الخ.
فمثل هذا الترتيب المنطقي العقلي البديع يتوقف نظمه وسرده على سبق العلم بالقصة وتتبع حوادثها والإحاطة بدقائقها، ثم على وضع ترتيب ينسق عليه الكلام كالقصص الفنية المتكلفة، ثم توضع له المقدمة والخاتمة في الغاية التي ألفت القصة لأجلها، فتجعل الأولى براعة مطلع، والآخرة براعة مقطع، فقل لمن جهل سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وتاريخه : إن محمدا لم يكن قارئا ولا كاتبا، ولا خطيبا ولا شاعرا، ولا مؤرخا، ولا راويا، ولا حافظا للشعر ولا ناثرا، بل كان كما قال الله تعالى غافلا عن هذه القصة وكل ما جاء في القرآن، وكانت تنزل عليه السورة القصيرة فيعجل بقراءتها لئلا ينسى منها شيئا، فنهي عن ذلك عندما عرض له في أثناء نزول سورة القيامة بقوله تعالى ﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ﴾ [ القيامة : ١٦-١٩ ] وبقوله ﴿ ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليه وحيه وقل رب زدني علما ﴾ [ طه : ١١٤ ] وقوله ﴿ سنقرئك فلا تنسى ﴾ [ الأعلى : ٦ ] وقوله ﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ [ الحجر : ٩ ] فلما ضمن ربه له أمن ضيع شيء منه بعدم حفظه عند تلقيه، أو نسيانه بعده، زال خوفه، وترك الاستعجال بقراءته.
وهذه السورة الطويلة نزلت عليه دفعة واحدة كأكثر السور المكية حتى الطوال منها كسورة الأنعام فلم يكن يدري من هذا الترتيب والنسق لها ولا من موضوعها شيئا قبل وحيها، ولا يحيط به إلا أن يكمل له تلقيها عن الروح الأمين عليهما السلام، ولكن العجب أن يغفل عنه أو يجهله أحد من المفسرين فرسان البلاغة الفنية، والآن وقد بينته لقارئ هذا التفسير ليفطن لدلالة السورة بنظمها وبلاغتها على إعجاز القرآن اللفظي، وبما فيها من التشريع وعلم الغيب على إعجازه المعنوي، وبالإعجازين كليهما على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، أشرع في تفسير القصة متبرئا من حولي وقوتي إلى حول الله وقوته.
﴿ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ﴾ أي أن في قصتهم لآيات في الوقت الذي ابتدؤوا فيه بقولهم جازمين مقسمين : ليوسف وأخوه الشقيق له واسمه بنيامين، أحب إلى أبينا منا كلنا ﴿ ونحن عصبة ﴾ أي يفضلهما علينا بمزيد المحبة على صغرهما وقلة غنائهما والحال إننا نحن عصبة عشرة رجال أقوياء أشداء معتصبون نقوم له بكل ما يحتاج إليه من أسباب الرزق والحماية والكفاية ﴿ إن أبانا لفي ضلال مبين ﴾ إنه لفي تيه من المحاباة لهما ضل فيه طريق العدل والمساواة ضلالا بينا لا يخفى على أحد، إذ يفضل غلامين ضعيفين من ولده لا يقومان له بخدمة نافعة، على العصبة أولي القوة والكسب والنجدة. وهذا الحكم منهم على أبيهم جهل مبين وخطأ كبير، لعل سببه اتهامهم إياه بإفراطه في حب أمهما من قبل، فيكون مثاره الأول اختلاف الأمهات بتعدد الزوجات ولا سيما الإيماء منهن١ وهو الذي أضلهم عن غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد وضعافهم وكانا أصغر أولاده، فقد سئل والد بليغ : أي ولدك أحب إليك ؟ قال صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، ومريضهم حتى يشفى، وفقيرهم حتى يغنى [ وأشك في هذه الأخيرة ].
ومن فوائد القصة وجوب عناية الوالدين بمداراة الأولاد وتربيتهم على المحبة والعدل واتقاء وقوع التحاسد والتباغض بينهم، ومنه اجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعده المفضول إهانة له ومحاباة لأخيه بالهوى، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم مطلقا، ومنه سلوك سبيل الحكمة في تفضيل من فضل الله تعالى بالمواهب الفطرية كمكارم الأخلاق والتقوى والعلم والذكاء، وما كان يعقوب بالذي يخفى عليه هذا، وما نهى يوسف عن قصة رؤياه عليهم إلا من علمه بما يجب فيه، ولكن ما يفعل الإنسان بغريزته وقلبه وروحه ؟ أيستطيع أن يحول دون سلطانها على جوارحه ؟ كلا.
دلائل العشق لا تخفى على أحد | كحامل المسك لا يخلو من العبق |
هذا شروع في القصة بعد مقدمتين أولاهما في صفة القرآن وكونه تنزيلا من الله دالا على رسالة من أنزل عليه، وكونه عربيا تقوم به الحجة على العرب الذين يعقلونه وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان من قبله غافلا عما جاءه فيه لا يدري منه شيئا، ونتيجة هاتين القضيتين تأتي بعد تمام القصة في قوله تعالى ﴿ ذلك من أنباء الغيب ﴾ [ آل عمران : ٤٤ ] الخ..
والمقدمة الثانية رؤيا يوسف وما فهم منها أبوه فهما إجماليا كليا كما بيناه آنفا وبنى عليه أن حذره وأنذره ما يستهدف له قبله من كيد إخوته، وبشره بحسن عاقبته، ونتيجة هاتين القضيتين ما قاله لأبيه بعد دخولهم عليه وسجودهم له ﴿ يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] الخ.
فمثل هذا الترتيب المنطقي العقلي البديع يتوقف نظمه وسرده على سبق العلم بالقصة وتتبع حوادثها والإحاطة بدقائقها، ثم على وضع ترتيب ينسق عليه الكلام كالقصص الفنية المتكلفة، ثم توضع له المقدمة والخاتمة في الغاية التي ألفت القصة لأجلها، فتجعل الأولى براعة مطلع، والآخرة براعة مقطع، فقل لمن جهل سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وتاريخه : إن محمدا لم يكن قارئا ولا كاتبا، ولا خطيبا ولا شاعرا، ولا مؤرخا، ولا راويا، ولا حافظا للشعر ولا ناثرا، بل كان كما قال الله تعالى غافلا عن هذه القصة وكل ما جاء في القرآن، وكانت تنزل عليه السورة القصيرة فيعجل بقراءتها لئلا ينسى منها شيئا، فنهي عن ذلك عندما عرض له في أثناء نزول سورة القيامة بقوله تعالى ﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ﴾ [ القيامة : ١٦-١٩ ] وبقوله ﴿ ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليه وحيه وقل رب زدني علما ﴾ [ طه : ١١٤ ] وقوله ﴿ سنقرئك فلا تنسى ﴾ [ الأعلى : ٦ ] وقوله ﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ [ الحجر : ٩ ] فلما ضمن ربه له أمن ضيع شيء منه بعدم حفظه عند تلقيه، أو نسيانه بعده، زال خوفه، وترك الاستعجال بقراءته.
وهذه السورة الطويلة نزلت عليه دفعة واحدة كأكثر السور المكية حتى الطوال منها كسورة الأنعام فلم يكن يدري من هذا الترتيب والنسق لها ولا من موضوعها شيئا قبل وحيها، ولا يحيط به إلا أن يكمل له تلقيها عن الروح الأمين عليهما السلام، ولكن العجب أن يغفل عنه أو يجهله أحد من المفسرين فرسان البلاغة الفنية، والآن وقد بينته لقارئ هذا التفسير ليفطن لدلالة السورة بنظمها وبلاغتها على إعجاز القرآن اللفظي، وبما فيها من التشريع وعلم الغيب على إعجازه المعنوي، وبالإعجازين كليهما على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، أشرع في تفسير القصة متبرئا من حولي وقوتي إلى حول الله وقوته.
﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا ﴾ أي اقتلوه قتلا لا مطمع بعده ولا أمل في لقائه، أو انبذوه كالشيء اللقا الذي لا قيمة له في أرض مجهولة بعيدة عن مساكننا أو عن العمران بحيث لا يهتدي إلى العودة إلى أبيه سبيلا إن هو سلم فيها من الهلاك ﴿ يخل لكم وجه أبيكم ﴾ فيكن كل توجهه إليكم، وكل إقباله عليكم، بخلو الديار ممن يشغله عنكم أو يشارككم في عطفه وحبه، وهذه الجملة من فوائد درر الكلام البليغ بتصويرها حصر الحب وتوجه الإقبال والعطف بصورة الضروريات التي لا اختيار للرأي ولا للإرادة فيها، لا من ظاهر الحس، ولا من وجدان النفس، بعد وقوع هذه الجناية التي تقتضي إعراض الوجه، وإعراض الكراهة والمقت ﴿ وتكونوا من بعده ﴾ أي من بعد يوسف أو بعد قتله وتغريبه ﴿ قوما صالحين ﴾ تائبين إلى الله من هذه الجريمة، مصلحين لأعمالكم بما يكفر إثمها، وعدم التصدي لمثلها، فيرضى عنكم أبوكم ويرضى ربكم، هكذا يزين الشيطان للمؤمن المتدين معصية الله تعالى ولا يزال ينزغ له ويسول، ويعد ويمني ويأوّل، حتى يرجح داعي الإيمان، أو يجيب داعي الشيطان، وهذا الذي غلب على إخوة يوسف فكان، ولكن بعد رأفة مخففة لحكم الانتقام، وهو مقتضى الحكمة التي أرادها الله :﴿ قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ( ١٠ ) ﴾
﴿ قال قائل منهم ﴾ أبهمه القرآن لأن تعيينه بتسميته لا فائدة منها في عبرة ولا حكمة، وإنما الفائدة في وصفه بأنه منهم، وهي أنهم لم يجمعوا على جناية قتله، وقال السدي إنه يهوذا، وفي سفر التكوين إنه رأوبين ﴿ لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب ﴾ الجب البئر غير المطوية أي غير المبنية من داخلها بالحجارة وهو مذكر والبئر مؤنثة وتسمى المطوية منها طويا، وغيابته بالفتح ما يغيب عن رؤية البصر من قعره أو حفرة بجانبه تكون فوق سطح الماء يدخلها من يدلي فيه لإخراج شيء وقع فيه أو إصلاح خلل عرض له، وعلم من التعريف أنه جب معروف كان هنالك حيث يرعون، وجواب ألقوه.
﴿ يلتقطه بعض السيارة ﴾ وهم جماعة المسافرين الذين يسيرون في الأرض يقطعون الأرض من مكان إلى آخر لأجل التجارة فيأخذوه إلى حيث ساروا من الأقطار البعيدة فيتم لكم الشق الثاني مما اقترحتم وهو إبعاده عن أبيه ﴿ إن كنتم فاعلين ﴾ ما هو الصواب المقصود لكم بالذات فهذا هو الصواب، وجناية قتله غير مقصودة لذاتها، فعلام إسخاط الله باقترافها والغرض يتم بما دونها ؟ وفي سفر التكوين إن رأوبين مكر بهم إذ كان يريد أن يخرجه من الجب ويرجعه إلى أبيه، وإنهم وضعوه في البئر وكانت فارغة لا ماء فيها، فمرت بهم سيارة من تجار الإسماعيليين [ العرب ] مسافرة إلى مصر فاقترح عليهم يهوذا إخراجه وبيعه لهم إذ لا فائدة لهم من قتله وهو من لحمهم ودمهم ففعلوا، فهذا ما دار بينهم وأجمعوه من أمرهم.
هذا بيان مستأنف لما كادوا به أباهم بعد ائتمارهم بيوسف ليرسله من الشبهة معهم وهو الحق، وفي سفر التكوين أن أباهم هو الذي أرسله إليهم بعد ذهابهم.
﴿ قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف ﴾ يعنون أي شيء عرض لك من الشبهة في أمانتنا فجعلك لا تأمنا على يوسف ؟ وكانوا قد شعروا منه بهذا بعد ما كان من رؤيا يوسف، ويظهر أنهم قد علموا بها، كما أنه شعر منهم بالتنكر له على حد قول الشاعر :
...... *** كاد المريب بأن يقول خذوني
﴿ وإنا له لناصحون ﴾ أي والحال إنا لنخصه بالنصح الخالص من شائبة التفريط أو التقصير، أكدوا هذه الدعوى بالجملة الاسمية المصدرة بأن وتقديم " له " على خبرها واقترانه باللام. ولولا شعورهم بارتيابه فيهم لما احتاجوا إلى كل هذا التأكيد.
هذا بيان مستأنف لما كادوا به أباهم بعد ائتمارهم بيوسف ليرسله من الشبهة معهم وهو الحق، وفي سفر التكوين أن أباهم هو الذي أرسله إليهم بعد ذهابهم.
﴿ أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ﴾ أي أرسله معنا غداة غد إذ نخرج كعادتنا إلى مراعينا وهي مفهومة من قراءة الياء فإن المراد من خروجه معهم مشاركته إياهم في رياضتهم وأنسهم وسرورهم بحرية الأكل واللعب والرتوع وهو أكل ما يطيب لهم من الفاكهة والبقول وأصله رتع الماشية حيث تشاء، قال الزمخشري في الكشاف ﴿ نرتع ﴾ نتسع في أكل الفواكه وغيرها وأصل الرتعة الخصب والسعة اه وأما لعب أهل البادية فأكثره السباق والصراع والرمي بالعصي والسهام إن وجدت. وسيأتي أن لعبهم كان الاستباق بالعدو على الأرجل ﴿ وإنا له لحافظون ﴾ ما دام معنا نقيه من كل سوء وأذى، أكدوا هذا الوعد كسابقه مبالغة في الكيد.
وفي التفسير المأثورة عن ابن عباس [ رضي الله عنه ] أرسله معنا غدا نرتع ونلعب. قال نسعى وننشط ونلهو. وعن ابن زيد [ يرتعي بالياء وكسر العين قال يرعى غنمه وينظر ويعقل ويعرف ما يعرف الرجل ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن هارون قال كان أبو عمرو يقرأ [ نرتع ونلعب ] بالنون فقلت لأبي عمرو : كيف يقولون [ نرتع ونلعب ] وهم أنبياء ؟ قال : لم يكونوا يومئذ أنبياء. وقد توسع بعض المفسرين في هذه المسألة وعدوها مشكلة لظنهم أن اللعب غير جائز وقوعه من الأنبياء. وقد توسع بعض المفسرين في هذه المسألة وعدوها مشكلة لظنهم أن اللعب غير جائز وقوعه من الأنبياء. والتحقيق أن من اللعب ما هو نافع فهو مباح أو مستحب، ومنه ملاعبة الرجل لزوجه وملاعبتها له كما ورد في الحديث الصحيح، وأن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء يومئذ ولا بعده كما حققناه في محله، وإن من التنطع والغفلة استشكال اللعب المباح في نفسه ممن شهد الله عليهم بالكيد لأخيهم والائتمار بقتله وتعمد إيذائه وفجيعة أبيهم به وكذبهم عليه وغير ذلك من كبائر المعاصي !
هذا بيان مستأنف لما كادوا به أباهم بعد ائتمارهم بيوسف ليرسله من الشبهة معهم وهو الحق، وفي سفر التكوين أن أباهم هو الذي أرسله إليهم بعد ذهابهم.
﴿ قال إني ليحزنني أن تذهبوا به ﴾ أي قال أبوهم جوابا لهم : إني ليحزنني ذهابكم به بمجرد وقوعه، والحزن ألم النفس من فقد محبوب أو وقوع مكروه، وفعله من باب قتل في لغة قريش وتعديه تميم بالهمزة واللام في قوله ليحزنني للابتداء ﴿ وأخاف أن يأكله الذئب ﴾ والخوف ألم النفس مما يتوقع من مكروه قبل أن يقع ﴿ وأنتم عنه غافلون ﴾ أي في حال غفلة منكم عنه واشتغال عن مراقبته وحفظه بلعبكم، قيل لو لم يذكر خوفه هذا لهم لما خطر ببالهم أن يقع، ولعله قال من باب الاحتياط أو الاعتذار بالظواهر، وإن كان يعلم حسن عاقبته في الباطن، على أن علمه هذا كان مجملا مبهما ومقيدا بالأقدار المجهولة كما أشرنا إليه من قبل.
هذا بيان مستأنف لما كادوا به أباهم بعد ائتمارهم بيوسف ليرسله من الشبهة معهم وهو الحق، وفي سفر التكوين أن أباهم هو الذي أرسله إليهم بعد ذهابهم.
﴿ قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة ﴾ أي والله لئن اختطفه الذئب من بيننا وأكله والحال أننا جماعة شديدة القوى تعصب بنا الأمور، وتكفي ببأسنا الخطوب ﴿ إنا إذا لخاسرون ﴾ وخائبون في اعتصابنا أو لهالكون لا يصح أن نعد من الأحياء الذين يعتد بهم ويركن إليهم، وهذه الجملة جواب للقسم أغنى عن جواب الشرط.
أجابوه عما يخافه بما يرجون أن يطمئنه، وأما حزنه فلا جواب عنه لأنه في حد ذاته لا بد منه وليس في استطاعتهم منعه، إذ هو لازم لفراقه له ولو فراقا قليلا فيه منفعة ليوسف في صحته بترويض جسمه في ضحى الشمس وهبوب الرياح وحركة الأعضاء في زمن قصير يعود بعده فيزول حزنه ويكون سروره مضاعفا لو صدقوا.
هذه الآيات الأربع في بيان ما نفذوا به عزمهم بالفعل، وما اعتذروا به لأبيهم من كذب، وما قابلهم من تكذيب وصبر، واستعانة بالله عز وجل.
قال :
﴿ فلما ذهبوا به ﴾ في الغد من ليلتهم التي استنزلوا فيها أباه عن إمساكه عنده ﴿ وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ﴾ أي أزمعوه وعزموا عليه عزما إجماعيا لا تردد فيه بعد ما كان من اختلافهم قبل في قتله أو تغريبه، وجواب " لما " محذوف للعلم به مما قبله ومما بعده وتقديره نفذوه بأن ألقوه في غيابة ذلك الجب بالفعل ﴿ وأوحينا إليه ﴾ عند إلقائه فيه وحيا إلهاميا علم أن منا مضمونه : وربك ﴿ لتنبئنهم بأمرهم هذا ﴾ معك إذ يظهرك الله عليهم ويذلهم لك ويجعل رؤياك حقا ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ يومئذ بما آتاك الله، أو الآن بما يؤتيك في عاقبة هذه الفعلة التي فعلوها بك، أو بهذا الوحي في الجب وهو المرتبة الأولى من مراتب التكليم الإلهي للأنبياء بعد التمهيد له بالرؤيا الصادقة. وقد هون الله تعالى على يوسف مصيبته به فعلم أنها مصيبة في الظاهر نعمة في الباطن، وقد نقلوا عن السدي أن إخوة يوسف طغوا في القسوة عليه والتنكيل به فقالوا وفعلوا ما لا يصدر مثله إلا عن رعاع الناس وأراذل المجرمين الظالمين وما هي إلا الإسرائيليات المنفرة من الإسلام والمسلمين.
هذه الآيات الأربع في بيان ما نفذوا به عزمهم بالفعل، وما اعتذروا به لأبيهم من كذب، وما قابلهم من تكذيب وصبر، واستعانة بالله عز وجل.
﴿ وجاءوا أباهم عشاء يبكون ﴾ أي جاءوه في وقت العشاء إذ خالط سواد الليل بقية بياض النهار فمحاه حال كونهم يبكون ليقنعوه بما يبغون وقد بينه تعالى بقوله : قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ( ١٧ ) }.
هذه الآيات الأربع في بيان ما نفذوا به عزمهم بالفعل، وما اعتذروا به لأبيهم من كذب، وما قابلهم من تكذيب وصبر، واستعانة بالله عز وجل.
﴿ قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق ﴾ أي ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى السباق يتكلف كل منا أن يسبق غيره، فالاستباق تكلف السبق وهو الغرض من المسابقة والتسابق بصيغتي المشاركة التي يقصد بها الغلب، وقد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق بصيغتي المشاركة التي يقصد بها الغلب، وقد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق ومنه ﴿ فاستبقوا الخيرات ﴾ [ البقرة : ١٤٨ ] فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب، وقوله الآتي في هذه السورة ﴿ واستبقا الباب ﴾ [ يوسف : ٢٥ ] كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هربا من حيث تقصد امرأة العزيز باتباعه إرجاعه، وصيغة المشاركة لا تؤدي هذا المعنى، ولم يفطن الزمخشري علامة اللغة ومن تبعه لهذا الفرق الدقيق.
﴿ وتركنا يوسف عند متاعنا ﴾ من فضل الثياب وماعون الطعام والشراب [ مثلا ] يحفظه إذ لا يستطيع مجاراتنا في استباقنا الذي يرهق به قوانا ﴿ فأكله الذئب ﴾ إذ أوغلنا في البعد عنه فلم نسمع صراخه واستغاثته ﴿ وما أنت بمؤمن لنا ﴾ أي بمصدق لنا في قولنا هذا لاتهامك إيانا بكراهة يوسف وحسدنا له على تفضيلك إياه علينا في الحب والعطف ﴿ ولو كنا صادقين ﴾ في الأمر الواقع أو نفس الأمر، أو ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا في هذا الخبر لشدة وجدك بيوسف.
هذه الآيات الأربع في بيان ما نفذوا به عزمهم بالفعل، وما اعتذروا به لأبيهم من كذب، وما قابلهم من تكذيب وصبر، واستعانة بالله عز وجل.
﴿ وجاءوا على قميصه بدم كذب ﴾ المراد من هذه الجملة الفذة في بلاغتها أنهم جاؤوا بقميصه ملطخا ظاهره بدم غير دم يوسف يدعون أنه دمه ليشهد لهم بصدقهم فكان دليلا على كذبهم، فنكر الدم ووصفه باسم الكذب مبالغة في ظهور كذبهم في دعوى أنه دمه حتى كأنه هو الكذب بعينه، فالعرب تضع المصدر موضع الصفة للمبالغة كما يقولون شاهد عدل، ومنه فهن به جود وأنتم به بخل. وقال " على قميصه " ليصور للقارئ والسامع أنه موضوع على ظاهره وضعا متكلفا ولو كان من أثر افتراس الذئب له لكان القميص ممزقا والدم متغلغلا في كل قطعة منه، ولهذا كله لم يصدقهم.
﴿ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا ﴾ هذا إضراب عن تكذيب صريح تقديره : إن الذئب لم يأكله بل سهلت لكم الأمارة بالسوء أمرا إمرا، وكيدا نكرا، وزينته في قلوبكم فطوعته لكم حتى اقترفتموه، أي هذا أمركم وأما أمري معكم ومع ربي ﴿ فصبر جميل ﴾ أو فصبري صبر جميل لا يشوه جماله جزع اليائسين من روح الله، القانطين من رحمة الله، ولا الشكوى إلى غير الله ﴿ والله المستعان على ما تصفون ﴾ من هذه المصيبة لا أستعين على احتمالها غيره أحدا منكم ولا من غيركم.
هاتان الآيتان في استعباد قافلة من التجار ليوسف [ ع. م ] والاتجار به.
﴿ وجاءت ﴾ ذلك المكان الذي كانوا فيه ﴿ السيارة ﴾ صيغة مبالغة من السير [ كجوالة وكشافة ] أي جماعة أو قافلة في سفر التكوين أنهم كانوا من الإسماعيليين أي من العرب ﴿ فأرسلوا واردهم ﴾ المختص بورود الماء للاستقاء لهم ﴿ فأدلى دلوه ﴾ أي أرسله ودلاه في ذلك الجب فتعلق به يوسف فلما خرج ورآه ﴿ قال يا بشرى هذا غلام ﴾ يبشر به جماعته السيارة. قرأها الجمهور يا بشراي بالإضافة إلى ياء المتكلم والكوفيون بدونها وأمال ألفها حمزة والكسائي. ونداء البشرى معناه أن هذا وقتها وموجبها فقد آن لها أن تحضر، ومثله قولهم يا أسفا ويا أسفي، ويا حسرتا ويا حسرتي. إذا وقع ما هو سبب ذلك. فاستبشر به السيارة.
﴿ وأسروه بضاعة ﴾ أي أخفوه من الناس لئلا يدعيه أحد من أهل ذلك المكان لأجل أن يكون بضاعة لهم من جملة تجارتهم، والبضاعة ما يقطع من المال ويفرز للاتجار به، مشتق من البضع وهو الشق والقطع ومنه البضعة والبضع من العدد وهي من ثلاث إلى تسع والبضعة من اللحم وهي القطعة. وما قيل من أن الذين أسروه هم الوارد الذي استخرجه ومن كان معه دون سائر السيارة أو أن الضمير في أسروه لإخوة يوسف فهو خلاف الظاهر ﴿ والله عليم بما يعملون ﴾ أي بما يعمله هؤلاء السيارة وما يعمله إخوة يوسف فلكل منهم إرب في يوسف السيارة يدعون بالباطل أنه عبد لهم فيتجرون به، وإخوة يوسف أمرهم مع أبيهم في إخفائه وتغريبه ودعوى أكل الذئب إياه معلوم وإنه كيد باطل. وحكمة الله تعالى فيه فوق كل ذلك.
هاتان الآيتان في استعباد قافلة من التجار ليوسف [ ع. م ] والاتجار به.
﴿ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ﴾ شرى الشيء يشريه باعه واشتراه ابتاعه، أي باعوه بثمن قليل ناقص عن ثمن مثله على أنه ليس له مثل، هو دراهم لا دنانير معدودة لا موزونة، وإنما يعد القليل ويوزن الكثير، وكانت العرب تزن ما بلغ الأوقية وهي أربعون درهما فما فوقها وتعد ما دونها، ولهذا يعبرون عن القليلة بالمعدودة، والبخس في اللغة الناقص والمعيب ﴿ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾ [ الأعراف : ٨٥ ] وروي تفسيره هنا بالحرام وبالظلم لأنه بيع حر فيكون وصفه بدارهم معدودة مستقلا لا تفسيرا لبخس وظاهر النظم أن الذين شروه هم السيارة. وفي سفر التكوين أن إخوته قرروا بيعه للإسماعيليين، وقد أخرجه من الجب جماعة من مدين وباعوه لهم وقد بعد ذكرهم، ويحتمل أن يكون لفظ شروه قد استعمل بمعنى اشتروه وهو مسموع، ويكون المراد أنهم اشتروه من إخوته بثمن بخس ثم باعوه في مصر بثمن بخس أيضا، وهو إدماج من دقائق الإيجاز، وأما الثمن البخس الذي بيع به ففي سفر التكوين أنه كان عشرين [ شاقلا ] من الفضة وقدر علماء التاريخ القديم الشاقل بخمسة عشر غراما من الوزن العشري اللاتيني المعروف في عصرنا فيكون ثمنه ٣٠٠ غرام من الفضة، وهي تقرب من ٩٤ درهما من دراهمنا اليوم، وعن ابن مسعود [ رضي الله عنه ] أنه عشرون درهما ولعله سمعه عن اليهود فظن أن العشرين عندهم هي الدراهم عند العرب ﴿ وكانوا فيه من الزاهدين ﴾ أي وكان هؤلاء الذين باعوه من الراغبين عنه الذين يبغون الخلاص منه لئلا يظهر من يطالبهم به لأنه حر، والثمن لم يكن مقصودا لهم ولهذا قنعوا بالبخس منه.
﴿ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٢١ ) ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ( ٢٢ ) ﴾
[ هاتان الآيتان تمهيد للقصة في وجهة نظر مشتريه فيه وتمكين الله له وتعليمه وغلبه على أمره وإيتائه حكما وعلما وشهادته بإحسانه ]
﴿ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه ﴾ لم يبين القرآن اسم الذي اشتراه من السيارة في مصر ولا منصبه ولا اسم امرأته لأن القرآن ليس كتاب حوادث وتاريخ، وإنما قصصه حكم ومواعظ وعبر وتهذيب، ولكن وصفه النسوة فيما يأتي بلقب العزيز وهو اللقب الذي صار لقب يوسف بعد أن تولى إدارة الملك في مصر فالظاهر لقب أكبر وزراء الملك، وللمفسرين أقوال في اسمه واسمها واسم ملك مصر ليس للقرآن شأن فيها. وفي سفر التكوين أنه كان رئيس الشرطة وحامية الملك وناظر السجون، وأن اسمه فوطيفار، ووصف فيه بالخصي ولكن الخصيان لا يكون لهم أزواج فقيل في تصحيحه لعله لقب لا يقصد به هذا المعنى.
وقد تفرس هذا الوزير الكبير في يوسف أصدق الفراسة إذ وصى امرأته بإكرام مثواه، والمثوى مصدر واسم مكان من ثوى بالمكان يثوي [ كرمى يرمي ] ثواء أي أقام، فتضمنت هذه الوصية إكرامه وحسن معاملته في كل ما يختص بإقامته بحيث يكون كواحد منهم ولا يكون كالعبيد والخدم، وعلل ذلك بما يدل على أمله ورجائه فيه وهو ﴿ عسى أن ينفعنا ﴾ بالقيام ببعض شؤوننا أو شؤون الدولة العامة لما يلوح عليه من مخايل الذكاء والنباهة ﴿ أو نتخذه ولدا ﴾ فيكون قرة عين لنا، ووارثا لمجدنا ومالنا، إذا تم رشده وصدقت فراستي في نجابته، وفهم من هذه الرجاء أن العزيز لم يكن له ولد وما كان يرجو أن يكون له، وروي أنه كان عقيما. وكان رجاؤه هذا كرجاء امرأة فرعون موسى فيه من بعده، وكانت صالحة ملهمة، وأما العزيز فكان ذكيا صادق الفراسة فاستدل من كمال خلق يوسف وخلقه، وذكائه وحسن خلاله، على أن حسن عشرته وكرم وفادته وشرف تربيته، خير متمم لحسن استعداده الفطري، إذ لا يفسد أخلاق الأذكياء إلا البيئة الفاسدة وسوء القدوة، وما كان إلا صادق الفراسة.
﴿ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ﴾ أي وعلى هذا النحو من التدبير والتسخير جعلنا ليوسف مكانة عالية في أرض مصر كان هذا العطف عليه والرجاء فيه من هذا العزيز مبدأها ليقع له في بيته ثم في السجن ما يقع من التجارب والاتصال بساقي الملك فيكون وسيلة للوصول إليه ﴿ ولنعلمه من تأويل الأحاديث ﴾ كتعبير الرؤيا ومعرفة حقائق الأمور ما ينتهي به إلى الغاية من هذا التمكين، وقوله للملك ﴿ اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ﴾ وقول الملك له ﴿ إنك اليوم لدينا مكين أمين ﴾.
﴿ والله غالب على أمره ﴾ أي على كل أمر يريده ويقدره فلا يغلب على شيء منه بل يقع كما أراد، فكل ما وقع ليوسف من إخوته ومن مسترقيه وبائعيه ومن توصية الذي اشتراه لامرأته بإكرام مثواه ومما وقع له مع هذه المرأة وفي السجن قد كان من أسباب ما أراده تعالى له من تمكينه في الأرض، وإن كان ظاهره على خلاف ذلك، ويجوز أن يكون المعنى والله غالب على أمر يوسف، فهو يدبره ويلهمه الخير، ولا يكله إلى تدبير نفسه وإتباع هواه، ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أنه تعالى غالب على أمره، بل يأخذون بظواهر الأمور، كما استدل إخوة يوسف بإبعاده على أن يخلو لهم وجه أبيهم ويكونوا من بعد بعده عنهم قوما صالحين. ويقابل الأكثر في هذا المقام يعقوب عليه السلام، فقد كان يعلم أن الله غالب على أمره، وأقواله صريحة في الدلالة على علمه ما تقدم منها وما تأخر في هذه القصة، ولكن علمه كلي إجمالي لا يحيط بتفصيل الجزئيات المخبوءة في مطاوي الأقدار كما قلنا من قبل.
﴿ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٢١ ) ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ( ٢٢ ) ﴾
[ هاتان الآيتان تمهيد للقصة في وجهة نظر مشتريه فيه وتمكين الله له وتعليمه وغلبه على أمره وإيتائه حكما وعلما وشهادته بإحسانه ]
بدئت هذه القصة ببيان إيتاء الله الحكم والعلم ليوسف عند استكمال سن الشباب وبلوغ الأشد، وأن هذا العطاء جزاء منه سبحانه له على إحسانه في سيرته منذ سن التمييز لم يكن مسيئا في شيء قط، وختمت بشهادته تعالى بما كان من اقتناع العزيز ببراءته من الخطيئة والتياث امرأته بها وحدها قال عز وجل :
﴿ ولما بلغ أشده ﴾ أي رشده وكمال قوته وشدته باستكمال نموه البدني والعقلي ﴿ آتيناه حكما وعلما ﴾ أي وهبناه حكما إلهاميا وعقليا بما يعرض له أو عليه من النوازل والمشكلات مقرونا بالحق والصواب، وعلما لدنيا وفكريا بحقائق ما يعينه من الأمور، وهذه السن في عرف الأطباء تتم في خمس وعشرين سنة، ولأهل اللغة ورواة التفسير فيها أقوال فعن عكرمة أنها ٢٥ سنة وعن ابن عباس أنها ثلاث وثلاثون سنة ولعله أخذه من قوله تعالى في كمال البنية الإنسانية ﴿ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ﴾ [ الأحقاف : ١٥ ] فجعلها درجتين بلوغ الأشد وبلوغ الأربعين وهي سن الاستواء كما قال في موسى ﴿ ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ﴾ [ القصص : ١٤ ] فالأول مبدأ استكمال النمو العضلي والعصبي والثاني مستواه، وبه يتم الاستعداد للنبوة ووحي الرسالة.
وقد ثبت عن علماء النفس والاجتماع أن الإنسان يظهر استعداده العقلي والعلمي بالتدريج حتى إذا بلغ خمسا وثلاثين سنة لا يظهر فيه شيء جديد من العلم الكسبي غير ما ظهر من بدء سن التمييز إلى هذه السن، وإنما يكمل ما كان ظهر منه إذا هو ظل مزاولا له ومشتغلا بتكميله، وقد بينا ذلك في تفسير قوله تعالى ﴿ فقد لبث فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ﴾ [ يونس : ١٦ ] وفصلناه في كتاب الوحي المحمدي وقد ظهر حكم يوسف وعلمه بعد بلوغ أشده في مصر كما يأتي تفصيله في مواضعه.
﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ أي وكذلك شأننا وسنتنا في جزاء المتحلين بصفة الإحسان الثابتين عليه بالأعمال، الذين لم يدنسوا فطرتهم ولم يدنسوا أنفسهم بالإساءة في أعمالهم، نؤتيهم نصيبا من الحكم بالحق والعدل، والعلم الذي يزينه ويظهره القول الفصل، فيكون لكل محسن حظه من الحكم الصحيح والعلم النافع بقدر إحسانه، وبما يكون له من حسن التأثير في صفاء عقله، وجودة فهمه وفقهه، غير ما يستفيده بالكسب من غيره، لا يؤتى مثله المسيئون بإتباع أهوائهم وطاعة شهواتهم، وقال ابن جرير الطبري : وهذا وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، يقول له عز وجل : كما فعلت هذا بيوسف من بعد ما لقي من إخوته ما لقي فكذلك أفعل بك، فأنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض الخ. وأقول : لا شك أن هذه السنة في جزاء المحسنين عامة، ولكل محسن منها بقدر إحسانه، وإذن يكون حظ محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من حظ يوسف وغيره من الأنبياء عليهم السلام.
[ مسألة المراودة والهم والمطاردة ]
﴿ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ﴾ هذه الجملة معطوفة على جملة وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه وما عللها به من حسن الرجاء فيه، وما بيّنه الله تعالى من عنايته به وتمهيد سبيل الكمال له بتمكينه في الأرض، يقول : إن هذه المرأة التي هو في بيتها نظرت إليه بغير العين التي نظر إليها بها زوجها، وأرادت منه غير ما أراده هو وما أراده الله من فوقهما، هو أراد أن يكون قهرمانا أو ولدا لهما، والله أراد أن يمكن له في الأرض ويجعله سيد البلاد كلها، وهي أرادت أن يكون عشيقا لها، وراودته عن نفسه أي خادعته عنها وراوغته لأجل أن يرود أو يريد منها ما تريد هي منه مخالفا لإرادته هو إرادة ربه، والله غالب على أمره، قال في المصباح المنير : أراد الرجل كذا إرادة وهو الطلب والاختيار، وراودته على الأمر مراودة وروادا من باب قاتل طلبت منه فعله وكأن في المراد معنى المخادعة لأن المراود يتلطف في طلبه تلطف المخادع ويحرص حرصه.
وقال الراغب : المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد، أو ترود غير ما يرود، وذكر شواهد الآيات في هذه القصة ومنها قول إخوة يوسف له ﴿ سنراود عنه أباه ﴾ [ يوسف : ٦١ ] أي نحتال عليه ونخدعه عن إرادته ليرسل أخاه معنا. وقال في أساس البلاغة : وراوده عن نفسه خادعه عنها وراوغه، وقال في الكشاف : المراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب، كأن المعنى خادعته عن نفسه، أي فعلت ما يفعل المخادع عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهي عبارة عن التحليل لمواقعته إياها، ولو رأت منه أدنى ميل إليها وهي تخلو به في مخادع بيتها لما احتاجت إلى مخادعته بالمراودة، ولما خابت في التعريض له بالمغازلة والمهازلة، تنزلت إلى المكاشفة والمصارحة، إذ كان كل ما سبقه منها وحدها لم يشاركها فيه.
﴿ وغلقت الأبواب ﴾ أي أحكمت إغلاق باب المخدع الذي كانا فيه وباب البهو الذي يكون أمام الحجرات والغرف في بيوت الكبراء وباب الدار الخارجي، وقد يكون في أمثال هذه القصور أبواب أخرى متداخلة ﴿ وقالت هيت لك ﴾ أي هلم أقبل وبادر، زيادة " لك " بيان للمخاطب كما يقولون هلم لك وسقيا لك. واقتصر على هذا في التنزيل، وهو منتهى النزاهة في التعبير، والله أعلم بما زادته من الإغراء والتهييج الذي تقتضيه الحال، ونقل رواة الإسرائيليات عنها وكذا عنه من الوقاحة ما يعلم بالضرورة أنه كذب، فإن مثله لا يعلم إلا من الله تعالى أو بالرواية الصحيحة عنها أو عنه ولا يستطيع أن يدعي هذا أحد كما يأتي قريبا. وهيّت اسم فعل قرئ بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وبضمها كحيث، وروي أنها لغة عرب حوران، وكان سبب اختيارها أنها أخصر ما يؤدي المراد بأكمل النزاهة اللائقة بالذكر الحكيم، وهو ما لم يعقله أولئك الرواة لما يخالفه ويناقضه.
﴿ قال معاذ الله ﴾ أي أعوذ بالله معاذا أو أتحصن به، فهو يعيذني أن أكون من الجاهلين الفاسقين، كما قال بعد أن استعانت عليه بكيد صواحبها من النسوة :﴿ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ﴾ [ يوسف : ٣٣ ].
وجملة قال معاذ الله الخ بيان مستأنف لجواب يوسف مبني على سؤال تقديره : وماذا قال بعد تسفل المرأة وهي سيدته إلى هذه الدركة من التذلل له ؟ وهو كما قالت مريم ابنة عمران للملك الذي تمثل لها بشر ﴿ إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا ﴾ [ مريم : ١٨ ] وعلل هذه الاستعاذة ﴿ إنه ربي أحسن مثواي ﴾ أي إنه تعالى ولي أمري كله أحسن مقامي عندكم وسخركم لي بما وفقني له من الأمانة والصيانة فهو يعيذني ويعصمني من عصيانه وخيانتكم، ويحتمل أنه أراد بربه مالكه العزيز في الصورة وإن كان حرا مظلوما في الحقيقة، كما يقال رب الدار، وكان من عرفهم إطلاقه على الملوك والعظماء كما يأتي في قوله عليه السلام لساقي الملك في السجن ﴿ اذكرني عند ربك ﴾ [ يوسف : ٤٢ ] ولكن الله عاقبه أنه لم يذكر حينئذ ربه، فكان نسيانه له سببا لطول مكثه في السجن كما يأتي، ثم إنه قال لرسول الملك. إذ جاءه يطلبه لأجله ﴿ ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ﴾ [ يوسف : ٥٠ ] وعلى هذا القول وقد جرى عليه الجمهور يكون الضمير في " أنه " ما يسمونه ضمير الشأن والقصة أي إن الشأن الذي أنا فيه هو أن سيدي المالك لرقبتي قد أحسن معاملتي في إقامتي عندكم وأوصاك بإكرام مثواي فلن أجزيه على إحسانه بشر الإساءة وهو خيانته في أهله، وهذا التفسير تعليل لرد مراودتها بعد الاستعاذة بالله منها، لا تعليل للاستعاذة نفسها كالأول، والفرق بينهما دقيق لما بينهما من العموم في الأول والخصوص في الثاني، ثم علل امتناعه بما هو خاص بنزاهة نفسه فقال :
﴿ إنه لا يفلح الظالمون ﴾ لأنفسهم وللناس كالخيانة لهم والتعدي على أعراضهم وشرفهم، لا يفلحون في الدنيا ببلوغ مقام الإمامة الصالحة والرياسة العادلة، ولا في الآخرة بجوار الله ونعيمه ورضوانه. وفي جملة الجواب من الاعتصام والاعتزاز بالإيمان بالله والأمانة للسيد صاحب الدار والتعريض بخيانة امرأته له المتضمن لاحتقارهم ما أضرم في صدرها نار الغيظ والانتقام، مضاعفة لنار الغرام، وهو ما بينه تعالى بقوله مؤكدا بالقسم لأنه مما ينكره الأخيار من شرور الفجار :﴿ ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ( ٢٤ ) ﴾
نحن قوم تذيبنا الأعين النج | ل على أننا نذيب الحديدا |
فترانا لدى الكريهة أحرا | را وفي السلم للملاح عبيدا |
﴿ وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ﴾ ولكنه رأى من برهان ربه في سريرة نفسه، ما هو مصداق قوله تعالى :﴿ والله غالب على أمره ﴾ [ يوسف : ٢١ ] وهو إما النبوة التي تلي الحكم والعلم الذين آتاه الله إياهما بعد بلوغ الأشد، وشاهده قوله تعالى ﴿ قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ﴾ [ النساء : ١٧٤ ] وإما معجزتها كما قال تعالى لموسى في آيتي العصا واليد ﴿ فذانك برهانان من ربك ﴾ [ القصص : ٣٢ ] وإما مقدمتها من مقام الصديقية العليا وهي مراقبته لله تعالى ورؤية ربه متجليا له ناظرا إليه، وفاقا لما قاله أخوه محمد خاتم في تفسير الإحسان ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك )٢ فيوسف قد رأى هذا البرهان في نفسه، لا صورة أبيه متمثلة في سقف الدار، ولا صورة سيده العزيز في الجدار، ولا صورة ملك يعظه بآيات من القرآن، وأمثال هذه الصور التي رسمتها أخيلة بعض رواة التفسير المأثور بما لا يدل عليه دليل من اللغة ولا العقل ولا الطبع ولا الشرع، ولم يرو في خبر مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح ولا فيما دونها، وما قلناه هو المتبادر من اللغة ووقائع القصة، ومقتضى ما وصف الله به يوسف في هذا السياق وغيره من السورة ولا سيما قوله في أوله ﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ [ الأنعام : ٨٤ ] وما فسر النبي صلى الله عليه وسلم به الإحسان، وقوله في تعليله.
﴿ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ﴾ أي كذلك فعلنا وتصرفنا في أمره لنصرف عنه دواعي ما أرادته به أخيرا من السوء وما راودته عليه قبله من الفحشاء، بحصانة أو عصمة منا تحول دون تأثير دواعيهما الطبيعية في نفسه، فلا يصيبه شيء يخرجه من جماعة المحسنين الذين شهدنا له بأنه منهم، إلى جماعة الظالمين الذين ذمهم وشهد هو في رده عليها بأنهم لا يفلحون وشهادته حق.
﴿ إنه من عبادنا المخلصين ﴾ بفتح اللام وهم آباؤهم الذين أخلصهم ربهم وصفاهم من الشوائب وقال فيهم ٨٣ : ٤٥ ﴿ واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ﴾ [ ص : ٤٥-٤٧ ] وقد قلنا في أول القصة، إن يوسف هو الحلقة الرابعة في سلسلتهم الذهبية، وإن أباه بشره بذلك بعد أن قص عليه رؤياه إذ قال له :﴿ وكذلك يجتبيك ربك ﴾ فالاجتباء هو الاصطفاء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر [ المخلصين ] بكسر اللام، والقراءتان متفقتان متلازمتان فهم مخلصون لله في إيمانهم به وحبهم وعبادتهم له، ومخلصون عنده بالولاية والنبوة والعناية والوقاية من كل ما يبعدهم عنه ويسخطه عليهم، والجملة تعليل لصرف الله السوء والفحشاء عنه، ولم يقل لنصرفه عن السوء والفحشاء فإنه لم يعزم عليهما بل لم يتوجه إليهما فيصرف عنهما، وهمه لأول وهلة بدفع صيالها هم بأمر مشروع وجد مقتضيه مقترنا بالمانع منه وهو رؤيته برهان ربه فلم ينفذه، فكان الفرق بين همها وهمه أنها أرادت الانتقام منه شفاء لغيظها من خيبتها وإهانته لها فلما رأى أمارى وثوبها عليه استعد للدفاع عن نفسه وهم به، فكان موقفهما موقف المواثبة، والاستعداد للمضاربة، ولكنه رأى من برهان ربه وعصمته ما لم تر هي مثله، فألهمه أن الفرار من هذا الموقف هو الخير الذي تم به حكمته سبحانه وتعالى فيما أعده له فلجأ إلى الفرار ترجيحا للمانع على المقتضى، وتبعته هي مرجحة للمقتضى على المانع حتى صار جزما، واستبقا باب الدار، وكان من أمرهما ما يأتي بيانه في الآية التالية، وتقدم عليه رأي الجمهور في الهم من الجانبين.
رأي الجمهور في همت به وهم بها وبيان بطلانه
ذهب الجمهور المخدوعون بالروايات إلى أن المعنى أنها همت بفعل الفاحشة ولم يكن لها معارض ولا مانع منها، وهم هو بمثل ذلك ولولا أن رأى برهان ربه لاقترفها، ولم يستح بعضهم أن يروي من أخباره اهتياجه وتهوكه فيه ووصف انهماكه وإسرافه في تنفيذه، وتهتك المرأة في تبذلها بين يديه، ما لا يقع مثله إلا من أوقح الفساق المسرفين المستهترين، الذين طال عليهم عهد استباحة الفواحش وألفتها حتى خلعوا العذار، وتجردوا من جلابيب الحياء، وأمسوا عراة من لباس التقوى وحلل الآداب، كأهل مدنية هذا العصر من الرجال والنساء في مواخير البغاء السرية، وما يقرب منه في حمامات البحر الجهرية، حتى كادوا يعيدون للعام فجور مدينة [ بومباي ] الرومانية، التي خسف الله بها وأمطر عليها من براكين النار مثلما أمطر على قرية قوم لوط من قبلها، فإن مثل هذا الذي افتروه في قصة هذا النبي الكريم لا يقع مثله ممن ابتلي بالمعصية أول مرة من سليمي الفطرة، ولا من سذج الأعراب الذين لم تغلبهم سورة الشهوة الجامحة على حيائهم الفطري وإيمانهم وحيائهم من نظر ربهم إليهم، فضلا عن نبي عصمه الله ووصفه بما وصف وشهد له بما شهد.
وقد بلغ ببعضهم [ كالسدي ] الجهل بالدين والوقاحة وقلة الأدب أن يزعموا أن يوسف عليه السلام لم ير برهانا واحدا بل رأى عدة براهين من رؤية والده متمثلا له منكرا عليه، وتكرار وعظه له، ومن رؤية بعض الملائكة ونزولهم عليه بأشد زواجر القرآن بآيات من سوره، فلم تنهه عن غيّه، حتى كان أن خرجت شهوته من أظافره، ومعنى هذا أنه لم يكف إلا عجزا عن الإمضاء، أفبهذا صرف الله عنه السوء والفحشاء، وكان من عباد الله الملخصين، وأنبيائه المصطفين المجتبين الأخيار ؟
ولئن كان عقلاء المفسرين أنكروا هذه الروايات الإسرائيلية الحمقاء، حماية لعقيدة عصمة الأنبياء، فإنه لم يكن يسلم أحد من تأثير بعضها في أنفسهم، وتسليمهم لهم أن الهم من الجانبين كان بمعنى العزم على الفاحشة، إلا من خالف قواعد اللغة فقال إن قوله تعالى :﴿ وهمّ بها ﴾ جواب لقوله ﴿ لولا أن رأى برهان ربه ﴾ ومن قال إن جوابه محذوف دل عليه ما قبله، فهو على هذين القولين لم يهم بشيء، وهو خلاف المتبادر من العبارة أو ظاهرها، وتأوله بعضهم بأن همه بالفاحشة بمقتضى الداعية الفطرية لا ينافي العصمة وإنما ينافيها طاعتها بدليل ما صح في الحديث أن من هم بسيئة ولم يفعلها لم تكتب عليه، وأن امتناعه عنها بترجيح داعية الإيمان وطاعة الله تعالى مع طغيانها وإلحاحها الطبيعي عليه أدل على الإيمان والطاعة من كونه لم يفعلها كراهة لها وعزوفا عنها لقبحها، ولهم تأويلات من هذا ولقد كانوا لولا تأثير الرواية في غنى عنها.
والتأويل الأخير أوله مقبول وآخره مردود، فههنا مرتبتان إحداهما الكف عن المعصية جهادا للنفس وكبحا لها خوفا من الله تعالى، وهي مرتبة الصالحين الأبرار، ومرتبة الكراهة لها والاشمئزاز منها حياء من الله ومراقبة له واستغراقا في شهوده، وهي مرتبة الصديقين والنبيين الأخيار، الذين إذا عرضت لهم الشهوة المستلذة بالطبع، بالصورة المحرمة في الشرع، عارضها من وجدان الإيمان، وتجلي الرحمان، ما تغلب به روحانيتهم الملكية، على طبيعتهم الحيوانية، وهذا مما قد يحصل لمن دون الأنبياء منهم، فكيف بمن يرون برهان ربهم بأعين قلوبهم، وينعكس نوره عن بصائرهم فيلوح لأبصارهم، كما أشرنا إليه في تفسيره آنفا ؟
ولهذه المرتبة درجات منها فقد الشهوة الطبيعية في هذه الحال، أو فقد الشعور بالقدرة على وضعها في الموضع المحرم مع وجودها على أشدها، ولا عجب فقوى النفس وانفعالاتها الوجدانية تتنازع فيغلب أقواها أضعفها. حتى إن من الإباحيين والإباحيات من أهل الحرية الطبيعية من يملك في مثل تلك الخلوة منع نفسه أن يبيحها لن يراوده عنها، لا خوفا من الله ولا حياء منه لأنه غير مؤمن به أو بعقابه، بل وفاء لزوج أو عشيق عاهده على الاختصاص به فصدقه.
حدثنا مصور سوري كان زير نساء فاسق أنه كان في بعض الولايات المتحدة الأمريكانية فأعلن في بعض الجرائد أنه يطلب امرأة جميلة لأجل أن يصورها كما يشاء بجعل معين من المال وهذا معهود عند الإفرنج، فجاءه عدة من الحسان اختار إحداهن وخلا بها في حجرته الخاصة وأوصد بابها، وأمرها بالتجرد من جميع ثيابها، فتجردت فطفق يصورها على أوضاع مختلفة من انتصاب وانحناء، وميل والتواء، وإقبال وإدبار، وهو لا يفكر في غير إتقان صناعته، فعرض لها دوار في رأسها، فجلست على أريكة للاستراحة فجلس بجانبها، وأنشأ يلاعبها ويداعبها وهي ساكنة ساكتة، فتنبه في نفسه من الشعور ما كان غافلا أو نائما، فراودها عن نفسها، فتمنعت بل امتنعت، فعرض عليها المال فأعرضت، فقال لها أنت حرة في نفسك ولكني أرجو منك أن تجيبيني عن سؤال علمي هو ما بيان سبب هذا الامتناع ؟ قالت سببه أنني عاهدت رجلا يحبني وأحبه على أن يكون كل منا للآخر لا يشرك في الاستمتاع به أحدا، ولا يبتغي به بدلا، فقال لها إني أهنئك وأحترم وفاءك هذا، ثم أتم صناعته ونقدها الجعل المعين فأخذته وانصرفت.
والراجح عندي أن هذه المرأة لم تشته مواتاة هذا الرجل فتجاهد نفسها على الامتناع، وأن المانع من اشتهائه توطين نفسها على الوفاء لعشيقها الأول حتى لم تعد تتوجه إلى الاستمتاع بغيره، وتوجيه النفس إلى الشيء أو عنه هو صاحب السلطان الأعلى على الإرادة، وتربية الإرادة هي أصل التخلق بالفضائل والتخلي عن الرذائل باتفاق الحكماء والصوفية، ويسمي هؤلاء سالك طريق الحق مريدا، والواصل إلى غايته مرادا، أي مجتبى مختارا، و
٢ - أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٧، ومسلم في الإيمان حديث ١، ٥ -٧، وأبو داود في السنة باب ١٦، والترمذي في الإيمان باب ٤، والنسائي في الأيمان باب ٥، ٦ـ وابن ماجه في المقدمة باب ٩، وأحمد في المسند ٢/ ١٠٧، ١٣٢..
أحدها : إيهام زوجها أن يوسف قد اعتدى عليها بما يسوءه ويسوءها. ثانيها : أنها لم تصرح بذنبه لئلا يشتد غضبه فيعاقبه بغير ما تريده كبيعه مثلا. ثالثها : تهديد يوسف وإنذاره ما يعلم به أن أمره بيدها ليخضع لها ويطيعها، فماذا قال يوسف في دفع التهمة الباطلة عنه وإسنادها إليها بالحق ؟ ولولاه لأسبل عليها ذيل الستر ؟
آيات تحقيق زوجها في القضية
هذه الآيات الأربع في تحقيق القضية وعلم زوجها به براءة يوسف وثبوت خطيئتها، وبدئ ببيان جوابه الصريح المنتظر بعد اتهامها إياه بالتلميح.
وهو
﴿ قال هي راودتني عن نفسي ﴾ فامتنعت وفررت كما ترى، فصارت النازلة أو القضية باختلاف قوليهما موضوع بحث وتحقيق وتشاور بين زوجها وأهلها لم يبين لنا التنزيل تفصيله لأن المقصود من القصة فيه بيان نزاهة يوسف وفضائله للعبرة بها وإنما علمنا أن هذا وقع بالفعل، كما نعلم أنه كان متوقعا بحكم العادة والعقل، ومن قوله تعالى :﴿ وشهد شاهد من أهلها ﴾ أي أخبر عن مشاهدة أو علم كالمشاهدة، وقيل حكم مستدلا بما ذكر، وقد اختلفوا في هذا الشاهد كعادتهم في المبهمات التي يكثر فيها التخيل والاختراع هل كان صغيرا أو كبيرا أو حكيما أو من خاصة الملك أو حيوانا حتى رووا عن مجاهد أنه قال ليس بأنسي ولا جان هو خلق من خلق الله : مع قول الله إنه من أهلها، ولكن الرواية عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك أنه كان صبيا في المهد يؤيدها ما رواه أحمد وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم ) وابن جرير عن أبي هريرة قال :( عيسى ابن مريم، وصاحب يوسف، وصاحب جريج تكلموا في المهد ) وهذا موقوف والمرفوع ضعيف، وقد اختاره ابن جرير وحكاه ابن كثير بدون تأييد ولا رد، وأما هذه الشهادة وفسرها بعضهم بالحكم فهي قوله :
﴿ إن كان قميصه قد من قبل ﴾ أي من قدام ﴿ فصدقت ﴾ في دعواها أنه أراد بها سوءا، فإنه لما وثب عليها أخذت بتلابيبه فجاذبها فانقد قميصه وهما يتنازعان ويتصارعان ﴿ وهو من الكاذبين ﴾ في دعواه أنها راودته فامتنع وفر فتبعته وجذبته تريد إرجاعه.
آيات تحقيق زوجها في القضية
هذه الآيات الأربع في تحقيق القضية وعلم زوجها به براءة يوسف وثبوت خطيئتها، وبدئ ببيان جوابه الصريح المنتظر بعد اتهامها إياه بالتلميح.
﴿ وإن كان قميصه قد من دبر ﴾ أي من خلف ﴿ فكذبت ﴾ في دعواها أنه هجم عليها يريد ضربها ﴿ وهو من الصادقين ﴾ في قوله أنه فر منها هاربا، وهذه الشهادة ظاهرة على التفسير المختار الذي قررناه، ومشكلة على قول الجمهور كما صرح به بعض المدققين.
آيات تحقيق زوجها في القضية
هذه الآيات الأربع في تحقيق القضية وعلم زوجها به براءة يوسف وثبوت خطيئتها، وبدئ ببيان جوابه الصريح المنتظر بعد اتهامها إياه بالتلميح.
﴿ فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن ﴾ أي أن هذا العمل ومحاولة التنصل منه بالاتهام من كيدكن المعهود منكن معشر النساء، فهو لم يخص الكيد بزوجه فيقال إنه أمر شاذ منها يجب التروي في تحقيقه بأكثر مما شهد به أحد أهلها، وهو لا يتهم في التحامل عليها وظلمها، بل هو سنة عامة فيهن في التفصي من خطيئاتهن، فقد أثبت خطيئتها مستدلا عليها بالسنة العامة لهن في أمثالها ﴿ إن كيدكن عظيم ﴾ لا قبل للرجال به ولا يفطنون لحبلكن في دقائقه.
قال بعض المفسرين : ولربات القصور منهن القدح المعلى من ذلك لأنهن أكثر تفرغا له من غيرهن، مع كثرة اختلاف الكيادات البهن. وههنا يذكرون قوله تعالى :﴿ إن كيد الشيطان كان ضعيفا ﴾ [ النساء : ٧٦ ] يستدلون به على أن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان، ولا دلالة فيه وإن فرضنا أن حكاية قول هذا إقرار له، فالمقام مختلف وإنما كيد النسوان بعض كيد الشيطان، ثم التفت إليها وإلى يوسف قائلا :﴿ يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ﴾.
آيات تحقيق زوجها في القضية
هذه الآيات الأربع في تحقيق القضية وعلم زوجها به براءة يوسف وثبوت خطيئتها، وبدئ ببيان جوابه الصريح المنتظر بعد اتهامها إياه بالتلميح.
﴿ يوسف أعرض عن هذا ﴾ الكيد الذي جرى لك ولا تتحدث به ولا تخف من تهديدها لك ﴿ واستغفري لذنبك ﴾ أيتها المرأة وتوبي إلى الله تعالى ﴿ إنك كنت من الخاطئين ﴾ أي من جنس المجرمين مرتكبي الخطايا المتعمدين لها ولهذا غلب فيه جمع المذكر فلم يقل من الخاطئات. وقد استدل الكرخي بقول هذا الوزير الكبير لزوجه على أنه كان قليل الغيرة وسيأتي ما يؤيده، وزعم أبو حيان في البحر أن هذا مقتضى طبيعة تربة مصر وبيئتها، وأنها لرخاوتها لا ينشأ فيها الأسد ولو دخل فيها لا يبقى. وهذا كلام غير مبني على علم صحيح، فأما سبب عدم نشوء الأسد في هذا القطر فهو خلوه من الغابات والأدغال التي يعيش فيها، وأما كونه إذا أدخل لا يبقى، فإن صح بالتجربة في الماضي فسببه عدم وجود المأوى له، وها نحن أولاء نرى الأسود والفهود والنمور تعيش وتتناسل في حديقة الحيوان بالجيزة، وإنما أشرنا إلى هذا للرد على زاعميه، والإطالة فيه ليست من موضوع التفسير.
حادثة مكر النسوة بامرأة العزيز ومراودة يوسف
هذه الآيات الخمس في حادثة النسوة من كبار بيوتات مصر اللائي مكرن بامرأة العزيز لتجمعهن بهذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها، خشية وطاعة لله، وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه، أن يخونه في أعز شيء لديه، لعله يصبو إليهن، ويجذبه من جمالهن الطارئ المفاجئ له، ما لم يجذبه من جمالها الذي ألفه قبل أن يبلغ أشده، وكان نظره إليها نظر الرقيق إلى سيدته، أو الولد إلى والدته، وقد جاءت في السورة بأبدع صورة من الإيجاز والبلاغة، وأعلى تعبير من الأدب والنزاهة.
وهو :﴿ وقال نسوة في المدينة ﴾ النسوة جمع قلة للمرأة من غير مادة لفظها ولم يبين لنا التنزيل عددهن ولا أسماءهن ولا صفاتهن لأن الفائدة في العبرة محصورة في أن عملهن عمل جماعة قليلة يعهد في العرف ائتمارهن واتفاقهن على الاشتراك في مثل هذا المكر المنكر، في مدينة كبيرة كعاصمة مصر، التي بلغت منتهى فتن الحضارة، وما تقتضيه من التمتع بالشهوات والزينة، ولفظ النسوة مفرد مذكر فيجوز تذكير ضميره للفظه وتأنيثه لمعناه.
ومن غريب فتنة الروايات الباطلة أن يدعي بعضهم أن اللواتي أجبن دعوتها الآتية منهن كن أربعين امرأة، وهو مردود بالتعبير عن العاذلات كلهن بجمع القلة، وكذا ما علم بقرينة الحال والمقال من أنهن من بيوتات كبار الدولة، فإن نساء البيوت الدنيا وكذا الوسطى لا يتسامين بعد الإنكار على امرأة العزيز كبير وزراء الملك، إلى الوصول إليها بالمكر والحيلة، لمشاركتها في فتنتها بل نعمتها، أو سلب عشيقها منها، ويؤيد ذلك ما يأتي من عاقبة حادثتهن، وكان من الطبيعي المعهود أن يعرفن نبأها معه، ويكون حديثهن الشاغل لهن في مجالسهن الخاصة، وكان خلاصته الوجيزة المؤدية لمرادهن منه ما حكاه التنزيل عنهن وهو قولهن :
﴿ امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ﴾ هذا خبر يراد به لازمه وهو التعجب والإنكار الصوري من النواحي أو الجهات الأربع : ١-كون المتحدث عنها امرأة عزيز مصر وزير الملك الأكبر في علو مركزها. ٢- كونها تهين نفسها وتحقر مركزها بأن تكون مراودة لرجل عن نفسه وشأن مثلها إن سخت بعفتها أن تكون مراودة عن نفسها لا مراودة لغيرها كما تقدم. ٣- أن الذي تراوده عن نفسه هو فتاها ورقيقها. ٤-أنها بعد أن افتضح أمرها وعرف به سيدها وزوجها، وعاملها بالحلم، وأمرها باستغفار ربها، لا تزال مصرة على ذنبها، مستمرة على مراودتها، وهو ما أفاده قولهن [ تراود ] وهو فعل المضارع الدال على الاستمرار.
﴿ قد شغفها حبا ﴾ أي قد اخترق حبه شغاف قلبها أي غلافه المحيط به، وغاص في سويدائه، فملك عليها أمرها، حتى إنها لا تبالي ما يكون من عاقبة تهتكها، واللائق بمقامها الكتمان، ومكابرة الوجدان ﴿ إنا لنراها في ضلال مبين ﴾ أي إنا لنراها بأعين بصائرنا وحكم رأينا غائصة في غمرة من الضلال البين الظاهر البعيد عن محجة الهدى والصواب. وهن ما قلن هذا إنكارا للمنكر وكرها للرذيلة، ولا حبا في المعروف ونصرا للفضيلة، وإنما قلنه مكرا وحيلة، ليصل إليها فيحملها على دعوتهن، وأراءتهن بأعين أبصارهن، ما يبطل ما يدعين رؤيته بأعين بصائرهن، فيعذرنها فيما عذلنها عليه، فهو مكر لا رأي.
حادثة مكر النسوة بامرأة العزيز ومراودة يوسف
هذه الآيات الخمس في حادثة النسوة من كبار بيوتات مصر اللائي مكرن بامرأة العزيز لتجمعهن بهذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها، خشية وطاعة لله، وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه، أن يخونه في أعز شيء لديه، لعله يصبو إليهن، ويجذبه من جمالهن الطارئ المفاجئ له، ما لم يجذبه من جمالها الذي ألفه قبل أن يبلغ أشده، وكان نظره إليها نظر الرقيق إلى سيدته، أو الولد إلى والدته، وقد جاءت في السورة بأبدع صورة من الإيجاز والبلاغة، وأعلى تعبير من الأدب والنزاهة.
﴿ فلما سمعت بمكرهن ﴾ وكان من المتوقع أن تسمعه لما اعتيد بين هذه البيوتات، من التواصل بالزيارات، واختلاف الخدم من كل منها إلى الآخر، وهن ما قلنه إلا لتسمعه فإن لم يصل إليها عفوا، احتلن في إيصاله قصدا، فكان ما أردنه ﴿ أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا ﴾ أي دعتهن إلى الطعام في دارها، ومكرت بهن كما مكرن بها، بأن أعدت وهيأت لهن ما يتكئن عليه إذا جلسن من الكراسي والأرائك وهو المعتاد في دور الكبراء قال تعالى في صفة الجنة ﴿ متكئين فيها على الأرائك ﴾ [ الكهف : ٣١ ] وكان ذلك في حجرة مائدة الطعام، وأعطت كل واحدة منهن سكينا ليقطعن به ما يأكلن من لحم أو فاكهة، وروي عن بعض مفسري السلف تفسير المتكأ بالطعام الذي يتكأ عليه أي يعتمد عليه لأجل قطعه كالجامد والشديد القوام، دون الرخو كالموز الناضج من الفاكهة والحساء من الطعام، والاتكاء على الشيء هو التمكن بالجلوس عليه أو الاعتماد عليه باليد أو اليدين، قال في المصباح المنير : وتوكأ على عصاه اعتمد عليها واتكأ جلس متمكنا وفي التنزيل ﴿ وسررا عليها يتكئون ﴾ [ الزخرف : ٣٤ ] أي يجلسون وقال ﴿ وأعدت لهن متكأ ﴾ أي مجلسا يجلسن عليه. قال ابن الأثير : والعامة لا تعرف الاتكاء إلا الميل في القعود معتمدا على أحد الشقين، وهو يستعمل في المعنيين جميعا، يقال اتكأ إذا أسند ظهره أو جنبه إلى شيء معتمدا عليه، وكل من اعتمد على شيء فقد اتكأ عليه وروي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير تفسير المتكأ هنا بالأترج أو الأترنج لأنه لا يقطع إلا بالاتكاء عليه، وفي السنة أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يأكل وهو متكئ.
﴿ وقالت اخرج عليهن ﴾ أي أمرت يوسف بالخروج عليهن وكان في حجرة أو مخدع في داخل حجرة الطعام التي كن فيها محجوبا عنهن، ولو كان في مكان خارج عنها لقالت ادخل عليهن، فعلم من هذا أنها تعمدت أن يفجأهن وهن مشغولات بما يقطعنه ويأكلنه عالمة بما يكون لهذه الفجاءة من تأثير الدهشة، وهو ما حكاه التنزيل عنهن من قوله تعالى :﴿ فلما رأينه أكبرنه ﴾ أي أعظمنه ودهشن لذلك الحسن الرائع، والجمال البارع، وغبن عن شعورهن ﴿ وقطعن أيديهن ﴾ بدلا من تقطيع ما يأكلن، ذهولا عما يعملن، بأن استمرت حركة السكاكين الإرادية بعد فقد الإرادة على ما كانت عليه قبل فقدها، ولكنها وقعت على أكف شمائلهن وقد سقط منها ما كان فيها من استرخائها بذهول تلك الدهشة فقطعتها أي جرحتها، ولولا استرخاؤها لأباتها، والظاهر أن مضيفتهن تعمدت جعلها مشحوذة فوق المعهودة في سكاكين الطعام مبالغة في مكرها بهن، لتقوم لها الحجة عليهن بما لا يستطعن إنكاره.
واختلف المفسرون في هذا القطع هل كان قطع إبانة انفصلت به الكف من المعصم أو الأصابع من الكف ؟ أم قطع جرح أطلق فيه لفظ بدء الشيء على غايته من باب المبالغة، وهو ما يسميه علماء البيان بالمجاز المرسل ؟ الأكثرون على الثاني وهو مستعمل إلى اليوم بالإرث عن قدماء العرب فيمن يحاول قطع شيء فتصيب السكين يده فتجرحها يقول كنت أقطع اللحم أو الحبل [ مثلا ] فقطعت يدي، كأنه يقول كاد ما أردته من قطع اللحم يكون بيدي مما أخطأت، ولا يقال فيمن جرح عضو منه أو من غيره كالطيب قاصدا جرحه إنه قطعه إلا إذا بالغ فيه، يقال أراد أن يجرح رجله ليخرج منها شظية نشبت فيها فقطعها، يريد أنه بالغ فكاد يقطعها، وقد أشار الزمخشري إلى مثل هذا القيد في استعمال القطع بمعنى الجرح فقال :" كما تقول كنت أقطع اللحم فقطعت يدي " يريد فأخطأت فجرحتها حتى كدت أقطعها.
﴿ وقلن حاش لله ما هذا بشرا ﴾ أي قلن هذا تعجبا وتنزيها لله تعالى أن يكون خلق هذا الشخص العجيب في جماله وعفته من نوع البشر وهو ما لم يعهد له في الناس مثل، إنه ليس بشرا مثلنا ﴿ إن هذا إلا ملك كريم ﴾ أي ما هذا إلا ملك من الملائكة الروحانيين تمثل في هذه الصورة البديعة التي تدهش الأبصار وتخلب الألباب [ كما كان يصور لهم صناعهم الرسامون والنحاتون أرواح الملائكة والآلهة بالصور والتماثيل لتكريمها وعبادتها ] وأحسن كلمة رويت في الآية عن مفسري السلف قول ابن زيد بن أسلم المدني : أعطتهن أترنجا وعسلا فكن يحززن الأترنج قد ذهبت عقولهن مما رأين وقلن ﴿ حاشا لله ما هذا بشرا ﴾ ما هكذا يكون البشر ما هذا إلا ملك كريم. اه. ففسر قطع الأيدي بحزها والحز أقل ما يحدثه السكين كالفرض في الخشبة، وهنا يتساءل المتسائلون : ماذا قالت لهن، وقد غلب مكرها مكرهن ؟ وصار حالها حالهن كما قال الشاعر :
أبصره عاذلي عليه *** ولم يكن قبلها رآه
فقال لي لو عشقت هذا *** ما لامك الناس في هواه
فظل من حيث ليس يدري *** يأمر بالعشق من نهاه
حادثة مكر النسوة بامرأة العزيز ومراودة يوسف
هذه الآيات الخمس في حادثة النسوة من كبار بيوتات مصر اللائي مكرن بامرأة العزيز لتجمعهن بهذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها، خشية وطاعة لله، وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه، أن يخونه في أعز شيء لديه، لعله يصبو إليهن، ويجذبه من جمالهن الطارئ المفاجئ له، ما لم يجذبه من جمالها الذي ألفه قبل أن يبلغ أشده، وكان نظره إليها نظر الرقيق إلى سيدته، أو الولد إلى والدته، وقد جاءت في السورة بأبدع صورة من الإيجاز والبلاغة، وأعلى تعبير من الأدب والنزاهة.
﴿ قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ﴾ أي حينئذ قالت لهن ما يعلم شرحه من قرينة الحال، لما جاء في التنزيل من إيجاز وإجمال : إذا كان الأمر ما رأيتن بأعينكن، وما أكبرتن في أنفسكن، وما فعلتن بأيديكن، وما قلتن بألسنتكن، فذلكن هو الأمر البعيد الغاية الذي لمتنني فيه، وأسرفتن في عذلي عليه، إذ قلتن من قبل ما قلتن، فالمشار إليه بكاف البعد هو أمر لومهن لها، أو يوسف البعيد في حقيقته البديع في صورته عما تصورونه به، فما هو عبراني أو كنعاني مملوك، وخادم صعلوك، قد شغف مولاته المالكة لرقه حبا وغراما، فهي تراوده عن نفسه ضلالا منها وهياما، بل هو أكبر من ذلك وأعظم، وهو مالك روحاني، تجلى في شكل إنساني، أوتي من روعة الجمال ما خلب ألبابكن في الوهلة الأولى من ظهوره لكن، فما قولكن في أمري معه وافتناني به، وإنما ترعرع في داري، وبلغ أشده واستوى بين سمعي وبصري، فأنا أشاهده في قعوده وقيامه، ويقظته ومنامه، وطعامه وشرابه، وحركته وسكونه، وأخلو به في ليلي ونهاري، فأراه بشرا سويا، إنسيا لا جنيا، وجسدا لا ملكا روحانيا، فأتراءى له في زينتي، وأعرض على نظره ما ظهر وما خفي من محاسني، فيعرض عنها احتقارا، فأتصباه بكل ما أملك من كلام عذب يخلب اللب، ولين قول وخشوع صوت يرقق القلب، فلا يصبو إليه، وأمد عيني إلى محاسنه جامعة فيهما كل ما يكنه قلبي من صبابة وشوق وخلاعة، مع فتور جفن، وانكسار طرف، وطول ترنيق وتحديق، فلا يرفع إلي طرفا، ولا يميل نحوي عطفا، بل تتجلى فيه الروح الملكية بأظهر مجاليها، والعبادة الإلهية بأكمل معانيها، أمثل هذا الملك القاهر يسمى عبدا طائعا، ومثل هذه المرأة المقهورة تسمى سيدة مالكة، تأمر بل تشير فتطاع، وينكر عليها أن تراود فترد، ثم تريد إظهار سلطانها فتعجز ؟ لقد انكشفت القناع، فلا أمر لمن لا يطاع ﴿ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ﴾ أي استمسك بعروة عصمته التي ورثها عمن نشؤوا عليها، كأنه يطلب مزيد الكمال منها.
ههنا أقول : والله ما عجبي من يوسف أن راودته مولاته فاستعصم وأن قالت له " هيت لك " فقال " أعوذ بالله " فكم قال هذا من ليس له مقامه في معرفته بالله ومراقبته لله، وقد روي أن رجلا راود أعرابية في ليلة ليلاء، وقال : إنه لا يرانا غير كواكب هذه السماء، فقالت : وأين مكوكبها ؟
وإنما عجبي بل إعجابي بيوسف عليه السلام أن نظره إلى الله أو نظر الله إليه لم يدع في قلبه البشري مكانا خاليا لنظرات هذه العاشقة التي شغفها حبا، لتصببها له قبل أن يخونها صبرها فتنفره بمصارحتها، وإن من أقوى غرائز البشر حب الإنسان لمن يعتقد أنه يحبه، وإن كان مشغول القلب عنه بحب من لا يحبه، كما قيل :
ونظرة المحبوب للمحب | والله عن إنسان عين القلب |
* تحبب فإن الحب داعية الحب*
فالحب أقوى غرائز البشر، وأكبر ما يفتن الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وإن من الحب لصادقا وكاذبا، وإن من العشق لعذريا عفيفا، وشهويا فاسقا، وإن مفاسده في الحضارة لكبيرة، وإن فتنته لعظيمة، وسنعقد له فصلا في باب العبرة بالقصة في إجمال تفسير السورة.
﴿ ولئن لم يفعل ما آمره ﴾ به، أقسم لكن آكد الإيمان، ولتسمع ذلك منه الأذنان ﴿ ليسجنن وليكونا من الصاغرين ﴾ أي الأذلة المقهورين، تعني أن زوجها العزيز يعاقبه بما تريد من إلقائه في السجن وهو المدير له المتولي لأمره، ومن جعله كغيره من العبيد بعد تكريم مثواه وجعله كولده، وهذا أشد مما أنذرته أولا إذ قالت لزوجها عند التقائهما به لدى الباب :﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ﴾ هنالك أنذرته أحد العقابين : سجن غير مؤكد، أو عذاب أليم نكرة غير معرف، قد يكون ذلك السجن المطلق بأخف صورة وأقلها، والعذاب المنكر بأهون أنواعه وألطفها، فذاك بحبسه في حجرة من الدار، وهذا بلطمه يحتدم بها ما في خديه من الاحمرار، وهنا أنذرته الجمع بينهما، وأكدت السجن بالقسم وبنون التوكيد الثقيلة، وفسرت العذاب بالصغار الذي تأباه الأنفس الكبيرة، واكتفت فيه بالنون الخفيفة وهو أشق على مثل يوسف من العذاب الأليم بالأعمال الشاقة، لأنها أهون على كرام الناس من الهوان والصغار باحتقار النفس، وفعله صغر كتب، وأما صغر كضخم فهو خاص بصغر الجسم، ومن الأول قوله تعالى :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ [ التوبة : ٢٩ ].
وفي هذا التهديد من ثقة هذا المرأة بسلطانها على زوجها الوزير الكبير على علمه بأمرها، واستعظامه لكيدها، ما حقه أن يخيف يوسف من تنفيذ إرادتها، ويثبت عنده عدم غيرته عليها، كما هو شأن كثير من الوزراء المترفين، ولا سيما العاجزين عن حصان أزواجهن، والمحرومين من نعمة الأولاد منهن، وماذا فعل يوسف وما قال وقد علم أن هذه المرأة الماكرة قد عيل صبرها، وهتكت سترها، وكاشفت نسوة كبار بلدها بما تسر وما تعلن من أمرها ؟ ورأى أنهن تواطأن معها على كيدها، وراودنه عن نفسه كما راودته عن نفسها، وهو تواطؤ لا قبل لرجل به، إلا بمعونة ربه وحفظه.
حادثة مكر النسوة بامرأة العزيز ومراودة يوسف
هذه الآيات الخمس في حادثة النسوة من كبار بيوتات مصر اللائي مكرن بامرأة العزيز لتجمعهن بهذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها، خشية وطاعة لله، وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه، أن يخونه في أعز شيء لديه، لعله يصبو إليهن، ويجذبه من جمالهن الطارئ المفاجئ له، ما لم يجذبه من جمالها الذي ألفه قبل أن يبلغ أشده، وكان نظره إليها نظر الرقيق إلى سيدته، أو الولد إلى والدته، وقد جاءت في السورة بأبدع صورة من الإيجاز والبلاغة، وأعلى تعبير من الأدب والنزاهة.
﴿ قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ﴾ أي قال : أي ربي، الغالب على أمري، العالم بسري وجهري، إن الحبس والاعتقال في السجن مع المجرمين حيث شظف العيش أحب إلى نفسي وآثر عندي على ما يدعوني إليه هؤلاء النسوة من الاستمتاع بهن في ترف هذه القصور وزينتها، والاشتغال بحبهن عن حبك، وبقربهن عن قربك، وبمغازلتهن عن مناجاتك، وإنما يفسر ويشرح هذا بما يعلم من سياق القرآن، ومن طباع الرجال والنسوان، ومن التاريخ العام، والسنن الاجتماعية والأخلاق والعادات، وسيرة الصالحين والأنبياء دون حاجة إلى ما لا سند له ولا دليل عليه من الروايات ودسائس الإسرائيليات، ومنه أنه ليس في السجن إلا الاعتبار بأحكام الملوك وأعوانهم من الوزراء والقضاة على من يسخطون عليهم بحق أو بغير حق، مما يزيدني إيمانا بقضائك، وصبرا على بلائك، وشكرا لنعمائك، وعلما بشؤون خلقك، ويفتح لي باب الدعوة إلى معرفتك وتوحيدك، والاستعداد لإقامة الحق، ونصب ميزان العدل، فيما عسى أن تخولني من الأمر، إذا مكنت لي كما وعدتني في الأرض.
هذا ما يتبادر إلى الفهم من توجيه التفضيل في الحب تدل عليه حالة يوسف وسابق قصته ولاحقها بغير تكلف ولا تحكم، كما هو دأبنا في كل ما نفسر به هذه القصة وغيرها، وهو يصدق في جعل اسم التفضيل هنا لا مفهوم له أو على غير بابه كما يقال، فليس المراد أن ما يدعونني إليه محبوب عندي والسجن أحب إلي منه، وإنما معناه أن هذين الأمرين إذا تعارضا وكان لا بد من أحدهما فالسجن آثر وأولى بالترجيح لأن ما فيه من المشقة له فائدة عاجلة، وعاقبة صالحة، وأما مجاهدة هؤلاء النسوة مع المكث معهن، فهو أشق على المؤمن العارف بربه، وليس له من الفائدة والعاقبة ما للسجن، فهو أي اسم التفضيل من قبيل قول المحدثين في بعض الأحاديث الضعيفة هو أصم ما في هذا الباب، يعنون أقوى ما فيه وإن كانت كلها غير صحيحة، بل هو كقول الآتي ﴿ أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ﴾ [ يوسف : ٣٩ ].
وقيل يجوز أن يكون المراد من التفضيل ترجيح الأحب بمقتضى الإيمان وحكم الشرع، على المحبوب بمقتضى الغريزة وداعية الطبع، فإن الأنبياء والصلحاء كسائر البشر يحبون النساء ويشتهون الاستمتاع بهن، ولكنهم يكرهون أن يكون من غير الوجه المشروع، وشره الاعتداء على نساء الناس، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم للفقراء ( وفي بضع أحدكم صدقة ) قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال ( أرأيتم إذا وضعها في حرام كان عليه وزر ؟ كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر )١ رواه مسلم من حديث أبي ذر. وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله حيث لا ظل إلا ظله في موقف القيامة ( ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب إلى نفسها فقال إني أخاف الله )٢ وهو حديث متفق عليه. وذلك بأن للمرأة ذات المنصب سلطانا على قلب الرجل فوق سلطان الوضيعة في طبقتها وإن كانت جميلة الصورة فيثقل على طبعه وتضعف إرادته أن يرد طلبها فكيف بها إذا جمعت بين سلطان الجمال وسلطان المنصب ثم ذلت له ودعته إلى نفسها ؟
[ فإن قيل ] إن المراد إذا ابتذلت نفسها فبذلتها للرجل بذلا، وتحول دلها عليه مهانة وذلا، فإنه يحتقرها، وتتحول رغبته فيها رغبة عنها٣ وكلما تمنعت عليه ازداد حبا لها وشوقا إليها، كما قال الشاعر :
منعت شيئا فأكثرت الولوع به | أحب شيء إلى الإنسان ما منعا٤ |
خذ من صبا نجد أمانا لقلبه | فقد كاد رياها يطير بلبه |
وإياكما ذاك النسيم فإنه | إذا هب كان الوجد أيسر خطبه |
٢ - أخرجه البخاري في الأذان باب ٣٦، والزكاة باب ١٦، والحدود باب ١٩، ومسلم في الزكاة حديث ٩١، وأبو داود في الأدب باب ١٢١، والترمذي في الزهد باب ٥٣، والنسائي في القضاة باب ٦، ومالك في الشعر حديث ١٤، وأحمد في المسند ٢/ ٤٣٩، ٦/ ٢٩..
٣ - قد جرى بحث علمي خلقي في هذه المسألة في محفل أدبي مع أستاذي المدارس فقلت إنني استغرب أن يهبط فساد الفطرة البشرية ببعض الفساق فيقودهن إلى مواخير البغاء كيف لا يقرفون من رؤية من فيها وإن تصور حالهن أو رؤية تبذلهن لحقيق بأن ينفر الطبع السليم من جنس النساء، فقال أستاذ خبير بحال هذه الطبقات صار بعد ذلك من كبار رجال وزارة المعارف: إن أفسد هؤلاء الفاسقين الأرذلين فطرة لا يكاد يغشى هذه المواخير إلا وهو سكران، لا يشعر بشيء يمتاز به الإنسان على الحيوان، وإنما أذكر أمثال هذه المسائل في تفسير القرآن الشريف لأنه هداية وعبرة لجميع المكلفين فيجب أن يكون للدعاة إلى هدايته علم بكل ما ابتلوه به من فساد في الجملة، وهذه السورة من سوره هي المبينة للقدوة العليا في موضوع افتتان الرجال بالنساء والسناء بالرجال [المؤلف]..
٤ - يروى البيت:
وزادني كلفا بالحب ما منعت | وحب شيء إلى الإنسان ما منعا |
حادثة مكر النسوة بامرأة العزيز ومراودة يوسف
هذه الآيات الخمس في حادثة النسوة من كبار بيوتات مصر اللائي مكرن بامرأة العزيز لتجمعهن بهذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها، خشية وطاعة لله، وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه، أن يخونه في أعز شيء لديه، لعله يصبو إليهن، ويجذبه من جمالهن الطارئ المفاجئ له، ما لم يجذبه من جمالها الذي ألفه قبل أن يبلغ أشده، وكان نظره إليها نظر الرقيق إلى سيدته، أو الولد إلى والدته، وقد جاءت في السورة بأبدع صورة من الإيجاز والبلاغة، وأعلى تعبير من الأدب والنزاهة.
﴿ فاستجاب له ربه ﴾ ما دعاه به وطلبه منه الذي دل عليه هذا الابتهال والالتجاء إليه وطوي ذكره إيجازا ﴿ فصرف عنه كيدهن ﴾ فلم يصب إليهن، فيحتاج إلى جهاد نفسه لكفها عن الاستمتاع بهن، وعصمه أن يكون من الجاهلين باتباع هواهن ﴿ إنه هو السميع ﴾ المجيب لمن أخلص له الدعاء، جامعا بين مقامي الخوف والرجاء ﴿ العليم ﴾ بصدق إيمانهم، وما يصلح من أحوالهم، فعطف استجابة ربه له وصرف كيدهن عنه بالفاء الدالة على التعقيب وتعليلها بأنها مقتضى كمال صفتي السمع والعلم، دليل على أن ربه عز وجل لم يتخل عن عنايته بتربيته، أقصر زمن يهتم فيه بأمر نفسه ومجاهدته، ومؤيد لقوله تعالى في أول سياق هذه الفتنة ﴿ والله غالب على أمره ﴾.
حادثة مكر النسوة بامرأة العزيز ومراودة يوسف
هذه الآيات الخمس في حادثة النسوة من كبار بيوتات مصر اللائي مكرن بامرأة العزيز لتجمعهن بهذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها، خشية وطاعة لله، وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه، أن يخونه في أعز شيء لديه، لعله يصبو إليهن، ويجذبه من جمالهن الطارئ المفاجئ له، ما لم يجذبه من جمالها الذي ألفه قبل أن يبلغ أشده، وكان نظره إليها نظر الرقيق إلى سيدته، أو الولد إلى والدته، وقد جاءت في السورة بأبدع صورة من الإيجاز والبلاغة، وأعلى تعبير من الأدب والنزاهة.
﴿ ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ﴾ بدا هذه من البداء [ الفتح ] لا من البدو المطلق، أي ثم ظهر لهم من الرأي ما لم يكن ظاهرا من قبل، ومنه كلمة سيدنا علي البليغة [ فما عدا مما بدا ] أي فما عداك وصرفك عما كنت فيه مما بدا لك الآن وكان خفيا عنك قبله، ولذلك عطفت الجملة بثم التي تفيد الانتقال مما كانوا فيه إلى طور جديد بعد التشاور والتروي في الأمر، وضمير [ لهم ] يرجع إلى أهل دار العزيز وامرأته ومن يعنيه أمرهما كالشاهد الذي شهد عليها من أهلها، والمراد بالآيات ما شهدوه واختبروه من الدلائل على أن يوسف إنسان غير الأناسي التي عرفوها في عقيدته وإيمانه وأخلاقه من عفة ونزاهة واحتقار للشهوات والزينة والإتراف المتبع في قصور هذه الحضارة ؛ ومن عناية ونزاهة واحتقار للشهوات والزينة والإتراف المتبع في قصور هذه الحضارة ؛ ومن عناية ربه الواحد الأحد به كما يؤمن ويعتقد، فمن هذه الآيات أن تفنن سيدته في مراودته لم يحدث أدنى تأثير في جذب خلسات نظره، ولا في خفقات قلبه، بل ظل معرضا عنها متجاهلا لها، حتى إذا ما صارحته بكلمة [ هيت لك ] اقشعر جلده، واستعاذ بربه، رب آبائه الذين يفتخر باتباع ملتهم، وغيرها بالخيانة لزوجها [ ومنها ] إنها لما غضبت وهمت بالبطش به هم بمقاومتها والبطش بها وهي سيدته، وما منعه من ذلك إلا ما رأى من البرهان في دخيلة نفسه، مؤيدا لما يعتقده من صرف ربه السوء والفحشاء عنه.
[ ومنها ] إنها لما تهمته بالتعدي عليها وأرادوا التحقيق في المسألة شهد شاهد من أهلها هو جدير بالدفاع عنها، بما تضمن الحكم عليها بأنها كاذبة في اتهامه إياه بإرادة السوء بها، وأنه صادق فيما ادعاه من مراودتها إياه عن نفسه [ ومنها ] مسألة انتشار خبرها معه وخوض نساء المدينة في افتتانها به وإذلال نفسها ببذلها له مع إعراضه عنها [ ومنها ] مسألة أمكر هؤلاء النسوة وأعمقهن كيدا معه. إذ حاولن رؤيته وتواطأن عن مراودته، ودهشتهن مما شاهدن من جماله، حتى قطعن أيديهن وهن لا يشعرن. فجميع هذه الآيات تثبت أن بقاءه في هذه الدار بين ربتها وصديقاتها من هؤلاء النسوة مثار فتنة للنساء لا تدرك غايتها، وأن الحكمة والصواب في أمرها هو تنفيذ رأيها الأول في سجنه- وإن كانت سيئة النية ماكرة فيه- لإخفاء ذكره، وكف ألسنة الناس عنها في أمره، فأقسموا.
﴿ ليسجننه حتى حين ﴾ أي إلى أجل غير معين حتى يكونوا مطلقي الحرية في طول مكثه وقصره وإخراجه، ويروا ما يكون من تأثير السجن فيه وحديث الناس عنه. وهذا القرار يدل على أن هذه المرأة كانت مالكة لقياد زوجها الوزير الكبير تقوده بقرنين كيف شاء هواها، وأنه كان فاقدا للغيرة كأمثاله من كبراء صغار الأنفس عبيد الشهوات. وقد أعجبني فيه قول الزمخشري على قلة ما أعجبني من أقوال المفسرين في هذه القصة التي أعجبني فيه قول الزمخشري على قلة ما أعجبني من أقوال المفسرين في هذه القصة التي شوهتها عليهم الروايات الإسرائيلية المخترعة والعناية بإعرابها. قال في تفسير ما رأوا من الآيات : وهي الشواهد على براءته، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفلتها منه في الذروة والغارب١ وكان مطواعة لها، وجملا ذلولا زمامه في يدها، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات، وعمل برأيها في سجنه لإلحاق الصغار به كما أوعدته، وذلك لما أيست من طاعته، وطمعت في أن يذلله السجن ويسخره لها اه.
وجملة القول في هذه الحادثة أن يوسف عليه السلام كان أكمل مثل للعفة والصيانة والأمانة من أولها إلى آخرها، وهي في سفر التكوين ناقصة ومخالفة لما هنا في دعوى المرأة، والله أعلم من مؤلف سفر التكوين المجهول بما كان وبما ينفع الناس٢.
٢ - عبارة سفر التكوين في الحادثة من الإصحاح ٣٩.
وحدث بعد هذه الأمور أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف وقالت" اضطجع معي ٨ فأبى وقال لامرأة سيده هوذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت وكل ماله قد دفعه إلى يدي ٩ ليس هو في هذا البيت أعظم مني. ولم يسمك عني شيئا غيرك لأنك امرأته. فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله ١٠ وكان إذ كلمت يوسف يوما فيوما أنه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها١١ ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت ١٢ فأمسكته بثوبه قائلة اضطجع معي. فترك ثوبه في يدها وهرب وخرج إلى خارج ١٣ وكان لما رأت أنه ترك ثوبه في يدها وهرب إلى خارج ١٤ أنها نادت أهل بيتها وكلمتهم قائلة: انظروا قد جاء إلينا برجل عبراني ليداعبنا دخل إلي ليضطجع معي فصرخت بصوت عظيم ١٥ وكان لما سمع أني رفعت صوتي وصرخت أنه ترك ثوبي بجانبي وهرب وخرج إلى خارج ١٦ فوضعت ثوبه بجانبها حتى جاء سيده إلى بيته ١٧ فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة دخل إلي العبد العبراني الذي جئت به إلينا ليداعبني ١٨ وكان لما رفعت صوتي وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبي وهرب إلى خارج ١٩ فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذي كلمته به قائلة بحسب هذا الكلام صنع بي عبدك إن غضبه حمي ٢٠ فأخذ يوسف سيده ووضعه في بيت السجن المكان الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه. وكان هناك في بيت السجن ٢١ ولكن الرب مع يوسف وبسط به لطفا وجعل نعمة له في عيني رئيس بيت السجن ٢٢ فدفع رئيس بيت السجن إلى يد يوسف جميع الأسرى الذين في بيت السجن. وكل ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل ٢٣ ولم يكن رئيس بيت السجن ينظر شيئا البتة مما في يده لأن الرب كان معه ومهما صنع كان الرب ينجحه اهـ.
.
سيرة يوسف عليه السلام في السجن
هذه الآيات الثلاث في إظهار معجزة النبوة، والتمهيد لدعوة الرسالة.
﴿ ودخل معه السجن فتيان ﴾ هذا عطف على مفهوم ما قبله أي فسجنوه ودخل معه السجن بتقدير الله الخفي الذي يعبر عنه جاهلوه بالمصادفة والاتفاق : فتيان مملوكان تبين فيما بعد أنهما من فتيان ملك مصر. روي عن ابن عباس أن أحدهما خازن طعامه والآخر ساقيه، فماذا كان من شأنه معهما ؟ ﴿ قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا ﴾ أي رأيت في المنام رؤيا واضحة جلية كأني أراها في اليقظة الآن، وقراءة ابن مسعود وأبي في الشواذ " أعصر عنبا " تفسير لا قرآن، وما كل العنب يعصر لأجل التخمير فما نقل من أن عرب غسان وعمان يسمون العنب خمرا فمحمول على هذا النوع المخصوص منه لكثرة مائه وسرعة اختماره، دون ما يؤكل في الغالب تفكها لكثرة حجمه واكتناز شحمه وقلة مائه، ولكل منها أصناف.
﴿ وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه ﴾ الطير جمع واحده طائر، وتأنيثه أكثر من تذكيره، وجمع الجمع طيور وأطيار ﴿ نبئنا بتأويله ﴾ أي قال له كل واحد منهما نبئني بتأويل ما رأيت، أي بتفسيره الذي يؤول إليه في الخارج إذا كان حقا لا من أضغاث الأحلام، ويصح إعادة الضمير المفرد على الكثير كاسم الإشارة بمعنى المذكور أو ما ذكر، ومنه قول الراجز :
فيها خطوط من سواد وبلق | كأنه في الجسم توليع البهق١ |
افترض يوسف عليه السلام ثقة هذين السائلين بعلمه وفضله وإصغائهما لقوله واهتمامهما بما يسمعان من تأويله لرؤاهما فبدأ حديثه بما هو أهم عنده وهو دعوتهما وسائر من في السجن إلى توحيد الله عز وجل، فعلم من هذا أن وحي الرسالة جاءه بعد دخول السجن فحقق قوله ﴿ رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ﴾ [ يوسف : ٣٣ ] كما أن وحي الإلهام جاءه عند إلقائه في غيابة الجب على ما سبق، وحكمة هذا من ناحيته عليه السلام ظاهرة بما بيناه من أن الله تعالى جعل له في كل محنة ظاهرة، منحة باطنة، وفي كل بداية محرقة، نهاية مشرقة، تحقيقا لما فهمه أبوه من اجتباء ربه له الخ. وحكمته من ناحية دعوة الدين أن أقوى الناس وأقربهم استعدادا لفهمها والاهتداء بها : هم الضعفاء والمظلومون والفقراء، وأعتاهم وأبعدهم عن قبولها هم المترفون والمتكبرون، بدأ يوسف بالدعوة بعد مقدمة في بيان الآية الدالة على صدقه والثقة بقوله وهي إظهار ما من الله به عليه من تعليمه ما شاء من أمور الغيب وأقربها إلى اقتناعهم ما يختص بمعيشتهم، فكان هذا ما يقتضيه المقام وتوجيه الرسالة من جوابهم، وهو : قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ( ٣٧ ) }
سيرة يوسف عليه السلام في السجن
هذه الآيات الثلاث في إظهار معجزة النبوة، والتمهيد لدعوة الرسالة.
﴿ قال لا يأتيكما طعام ترزقانه ﴾ وهو ما لا تدرون من حيث لا تدرون، وإني وإياكم في هذا السجن لمحجوبون ﴿ إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ﴾ أي أخبرتكما به وهو عند أهله وبما يريدون من إرساله وما ينتهي إليه بعد وصوله إليكما : أنبئكما بكل هذا من شأن هذا الطعام قبل أن يأتيكما، روي أن رجال الدولة كانوا يرسلون إلى المجرمين أو المتهمين طعاما مسموما يقتلونهم به وأن يوسف أراد غذاء، وما قلته يشمل هذا إذا صح، وهو ما يفهم من تسمية إنبائهما به تأويلا، فإن التأويل الإخبار بما يؤول إليه الشيء، وهو ما يفهم من تسمية إنبائهما به تأويلا، فإن التأويل الإخبار بما يؤول إليه الشيء وهو فرع معرفته، ولذلك قال بعضهم : إنه سماه تأويلا من باب المشاكلة لما سألاه عنه من تأويل رؤاهما، وقال بعضهم : إن المراد لا تريان في النوم طعاما يأتيكما إلا نبأتكما بتأويله، وهو بعيد. وفسر الزمخشري ومن قلده تأويله [ ببيان ماهيته وكيفيته لأن ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه ] اه وهو تكلف سرى إليه من مفهوم التأويل في اصطلاح علماء الكلام وأصول الفقه لا من صميم اللغة.
﴿ ذلكما مما علمني ربي ﴾ أي ذلك الذي أنبئكما به بعض ما علمني ربي بوحي منه إلي، لا بكهانة ولا عرافة ولا تنجيم، ولا ما يشبهما من طرق صناعية أو تعليم بشري يلتبس به الحق بالباطل، ويشتبه الصواب بالخطأ، فهو آية له كقول عيسى لبني إسرائيل من بعده ﴿ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ﴾ [ آل عمران : ٤٩ ] ﴿ إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ﴾ خالق السماوات والأرض وما بينهما كما يجب له من التوحيد والتنزيه، أي تركت دخولها وإتباع أهلها من عابدي الأوثان المنتحلة على كثرة أهلها ودعوتهم إليها، وليس المعنى أنه كان متبعا لها ثم تركها، فقوله تعالى :﴿ أيحسب الإنسان أن يترك سدى ﴾ [ القيامة : ٣٦ ] أي بعد موته فلا يبعث، ليس معناه أنه كان سدى قبله، فترك الشيء يصدق بعدم ملابسته مطلقا، وبالتحول عنه بعد التلبس به، ويفرق بينهما بقرينة الحال أو المقال أو كليهما كما هنا.
والمتبادر أنه أراد بهؤلاء القوم الكنعانيين وغيرهم من سكان أرض الميعاد التي نشأ فيها، والمصريين الذين هو فيهم وبينهم فإنهم اتخذوا من دون الله آلهة معروفة في التاريخ أعظمها الشمس واسمها عندهم [ رع ] ومنها فراعنتهم والنيل وعجلهم [ أبيس ] وإنما كان التوحيد خاصا بحكمائهم وعلمائهم.
﴿ وهم بالآخرة هم كافرون ﴾ أي وهم الآن يكفرون بالمعنى الصحيح للآخرة فإن المصريين وإن كانوا يؤمنون بالآخرة والحساب والجزاء الذي دعا إليه الأنبياء إلا أنه فشا فيهم تصوير هذا الإيمان بصور مبتدعة، ومنها أن فراعنتهم يعودون إلى الحياة الأخرى بأجسادهم المحنطة، ويعود لهم السلطان والحكم، ولهذا كانوا يدفنون أو يضعون معهم جواهرهم وغيرها، ويبنون الأهرام لحفظ جثثهم وما معها، ولعله لهذا أكد الحكم بالكفر بها بإعادة الضمير " هم " ليبين أن إيمانهم بالآخرة على غير الوجه الذي جاءت به الرسل، فهو غير صحيح.
سيرة يوسف عليه السلام في السجن
هذه الآيات الثلاث في إظهار معجزة النبوة، والتمهيد لدعوة الرسالة.
﴿ واتبعت ملة آبائي ﴾ أنبياء الله الذين دعوا إلى توحيده الخالص، وبين أسمائهم من الأب الأعلى إلى الأدنى بقوله ﴿ إبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴾ فلفظ الآباء يشمل الجدود وإن علوا، وبين أساس ملتهم التي اتبعها وراثة وتلقينا، فكانت يقينا له ولهم ووجدانا، بقوله ﴿ ما كان لنا ﴾ أي ما كان من شأننا معشر الأنبياء١ ولا مما يقع منا ﴿ أن نشرك بالله من شيء ﴾ نتخذه ربا مدبرا أو إلها معبودا معه لا من الملائكة ولا من البشر [ كالفراعنة ] فضلا عما دونهما من البقر [ كالعجل أبيس ] أو من الشمس والقمر، أو ما يتخذ لهذه الآلهة من التماثيل والصور ﴿ ذلك من فضل الله علينا ﴾ بهدايتنا إلى معرفته وتوحيده في ربوبيته وألوهيته بوحيه وآياته في خلقه ﴿ وعلى الناس ﴾ بإرسالنا إليهم ننشر فيهم دعوته، ونقيم عليهم حجته، ونبين لهم هدايته ﴿ ولكن أكثر الناس لا يشكرون ﴾ نعم الله عليهم، فهم يشركون به أربابا وآلهة من خلقه، يذلون أنفسهم بعبادتهم، وهم مخلوقون لله مثلهم أو أدنى منهم، ثم صرح لهما ببطلان ما هما عليه من الشرك، ونبههم إلى برهان التوحيد فقال :﴿ يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ( ٣٩ ) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٤٠ ) ﴾
الدعوة إلى التوحيد الخالص ببرهانه
﴿ يا صاحبي السجن ﴾ أضافهما إلى السجن بمعنى يا ساكني السجن أو بمعنى ياصاحبي في السجن كما قيل :
* يا سارق الليلة أهل الدار*
أي سارقهم فيها ﴿ أأرباب متفرقون ﴾ هذا استفهام تقرير بعد تحيير، ومقدمة لأظهر برهان على التوحيد، وكان المصريون المخاطبون به يعبدون كغيرهم من الأمم أربابا متفرقين في ذواتهم، وفي صفاتهم المعنوية التي ينعتونهم بها، وفي صفاتهم الحسية التي يصورها لهم الكهنة والرؤساء بالرسوم المنقوشة والتماثيل المنصوبة في المعابد والهياكل، وفي الأعمال التي يسندونها إليهم بزعمهم، فهو يقول لصاحبيه " أأرباب متفرقون " أي عديدون هذا شأنهم في التفرق والانقسام، وما يقتضيه بطبعه من التنازع والاختلاف في الأعمال، والتدبير المفسد للنظام، هو ﴿ خير ﴾ لكما ولغيركما من الأفراد والأقوام، فيما تطلبون ويطلبون من كشف الضر وجلب النفع، وكل ما تحتاجون فيه إلى المعونة والتوفيق من عالم الغيب.
﴿ أم الله ﴾ الواجب الوجود، الخالق لكل موجود ﴿ الواحد ﴾ في ذاته وصفاته وأفعاله، المنفرد الخلق والتقدير والتسخير، الذي لا ينازع ولا يعارض في التصرف والتدبير ﴿ القهار ﴾ بقدرته التامة وإرادته العامة، وعزته الغالبة، لجميع القوى والسنن والنواميس التي يقوم بها نظام العوالم السماوية والأرضية، كالنور والهواء والماء الظاهرة، والملائكة والشياطين الباطنة، التي كان الجهل بحقيقتها، وسبب اختلاف مظاهرها، هو سبب عبادتها والقول بربوبيتها ؟ الجواب الذي لا يختلف فيه عاقلان أدركا السؤال : بل : هو الله الواحد القهار، لا رب غيره ولا إله سواه، ولذلك رتب عليه قوله :﴿ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٤٠ ) ﴾.
الدعوة إلى التوحيد الخالص ببرهانه
﴿ ما تعبدون من دونه ﴾ أي غير هذا الواحد القهار ﴿ إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ﴾ من قبلكم أي وضعتموها لمسميات نحلتموها صفات الربوبية وأعمال الرب الواحد، فاتخذتموها أربابا وما هي بأرباب تخلق ولا ترزق، ولا تضر ولا تنفع، ولا تدبر ولا تشفع، فهي في الحقيقة لا مسميات لها بالمعنى المراد من لفظ الرب الإله المستحق للعبادة، حتى يقال إنها خير أم هو خير ﴿ ما أنزل الله بها ﴾ أي بتسميتها أربابا على أحد من رسله ﴿ من سلطان ﴾ أي أيّ نوع من أنواع البرهان والحجة فيقال : إنكم تتبعونه بالمعنى الذي أراده تعالى منه، تعبدا له وحده وطاعة لرسله، فيكون اتباعها أو تعظيمها غير مناف لتوحيده، كاستلام الحجر الأسود عند الطواف بالكعبة المعظمة مع الاعتقاد بأنه حجر لا ينفع ولا يضر كما ثبت في الحديث – فهي تسمية لا دليل عليها من النقل السماوي فتكون من أصول الإيمان، ولا دليل عليها من العقل فتكون من نتائج البرهان.
وأقول إنه لما قامت هذه الحجة على النصارى ببطلان ثالوثهم الذي اتبعوا فيه ثالوث قدماء المصريين والهنود ادعوا أن له أصلا من الوحي الذي أنزله الله على المسيح عيسى ابن مريم أو تلاميذه، وأنه بهذا لا ينافي التوحيد فالثلاثة واحد والواحد ثلاثة، والذي حققه علماء الإفرنج المؤرخون تبعا للمسلمين أنه لا أصل له من الوحي، وأن كلمات الآب والابن وروح القدس لها معان عند الذين آمنوا بالمسيح في حياته هي غير المعاني الاصطلاحية عند كنائس الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت الجامعة لأكثر النصارى، والأحرار العقليون من نصارى الإفرنج يرفضونها كلهم وهم ملايين، ولكن ليس لهم كنيسة جامعة، وإنما يقولون في المسيح ما قرره الإسلام فيه وأكثرهم لا يعلمون ذلك، ولو عرفوا حقيقة الإسلام لكانوا كلهم مسلمين، ولكنهم سيعلمون ويسلمون اتباعا، كما أسلموا فطرة وعقلا.
﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ أي ما الحكم الحق في الربوبية، والعقائد والعبادات الدينية، إلا لله وحده يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لا يمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه ولا بعقله واستدلاله، ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.
ثم بين أول أصل بني عليها لأنه أول ما يجب أن يسأل عنه من عرفها فقال ﴿ أمر ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ بل إياه وحده فادعوا واعبدوا، وله وحده فاركعوا واسجدوا، وإليه وحده فتوجهوا، حنفاء لله غير مشركين به ملكا من الملائكة الروحانيين، ولا ملكا من الملوك الحاكمين، ولا كاهنا من المتعبدين، ولا شمسا ولا قمرا، ولا نجما ولا شجرا، ولا نهرا مقدسا كالكنج والنيل، ولا حيوانا كالعجل أبيس، فالمؤمن الموحد لله لا يذل نفسه بالتعبد لغير الله من خلقه بدعاء ولا غيره، لإيمانه بأنه هو الرب المدبر المسخر لكل شيء، وأن كل ما عداه خاضع لإرادته وسننه في أسبابه المنافع والمضار، لا يملك لنفسه ولا لغيره غير ما أعطاه من القوى التي هي قوام جنسه ومادة حياة شخصه ﴿ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ] فإليه وحده الملجأ في كل ما يعجز عنه الإنسان أو يجهله من الأسباب، وإليه المصير للجزاء على الأعمال يوم الحساب.
﴿ ذلك الدين القيم ﴾ أي الحق المستقيم الذي لا عوج فيه من جهالة الوثنيين، الذي دعا إليه جميع رسل الله أقوامهم ومنهم آبائي : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ ذلك حق العلم لاتباعهم أهواء آبائهم الوثنيين، الذين اتخذوا لأنفسهم أربابا متفرقة ليس لها من الربوبية أدنى نصيب.
ومن العجيب أن هذه الحقيقة التي بينها القرآن في مئات من الآيات البينات تتلى في السور الكثيرة بالأساليب البليغة، صار يجهلها كثير من الذين يدعون اتباع القرآن، فمنهم من يجهل حقيقة التوحيد نفسه فيتوجهون إلى غير الله إذا مسهم الضر أو عجزوا عن بعض ما يحبون من النفع فيدعونهم خاشعين راغبين من دون الله، ويسمونهم شفعاء ووسائل عند الله، كما كان يفعل من كان قبلهم من المشركين، ومنهم من يعرف معنى التوحيد ولكنهم يجهلون أن جميع رسل الله دعوا إليه جميع الأمم، زاعمين أن هذه الدعوة انفرد بها إبراهيم والرسل من ذريته فقط كما يفهمونه من كتب أهل الكتاب والإفرنج، فهم يكتبون هذا في الصحف وفي أسفار التاريخ وفيما يسمونه فلسفة الدين أو فلسفة التفكير، فهم يزعمون أن البشر نشؤوا على الأديان الوثنية حتى كان أول من دعاهم إلى التوحيد إبراهيم عليه السلام من زهاء أربعة آلاف سنة، والقرآن حجة عليهم بتصريحه أن الله تعالى أرسل في جميع الأمم رسلا دعوهم إلى التوحيد أولهم نوح عليه السلام، فإن قومه كانوا أول من عبد الصالحين الميتين واتخذوا لهم الصور والأصنام، وكان البشر قبلهم على الفطرة وتوحيد آدم عليه السلام١.
[ فإن قيل ] إن يوسف عليه السلام لم يدع صاحبيه في السجن وسائر من كان معهما فيه إلى غير التوحيد من شرع آبائه فما سبب ذلك ؟ [ قلت ] إن أهل مصر كانوا أصحاب شريعة تامة لم يبعث لنسخها ولا لتغييرها، وهي في الأصل سماوية وإنما طرأت الوثنية على توحيدهم لله تعالى وأحدثوا تقاليد خيالية في البعث، فهو قد دعاهم إلى أصل الدين الذي كان عليه جميع رسل الله وهو التوحيد والآخرة وما فيها من الحساب والجزاء، وقد طرأ عليها عندهم ما أشرنا إليه آنفا في تفسير قوله ﴿ وهم بالآخرة هم كافرون ﴾ [ الأعراف : ٤٥ ] يعني كفرهم بأن الجزاء يكون في عالم آخر بعد فناء هذه الأجساد وبعثهم في نشأة أخرى لا في هذه الدنيا كما يزعمون، وعقائدهم في هذه المسألة مدونة في التاريخ المأخوذ من آثار الفراعنة وأشهرها إنهم كانوا يحنطون أجسادهم لأجل أن تعود إليها الحياة التي فارقتها، وكان ملوكهم يحفظون في أهرامهم وغيرها من قبورهم حليهم وحللهم ومتاعهم لأجل أن يتمتعوا بها في النشأة الأخرى حيث يعودون ملوكا كما كانوا، فهذه أباطيل طرأت على العقائد الأصلية المنزلة، وتقاليدهم هذه منقوشة من مواضع من الأهرام وتوابيت الموتى وصفائح القبور، ومنها ما هو خاص بنعيم العوام ومنه أنهم يتشكلون بالصور التي يحبونها. وتشكل الأرواح في الصور هو الأصل العلمي المعقول لعقيدة البعث في هيكل أثيري يلبس جسدا كثيفا كالجسد الدنيوي كما روي عن الإمام مالك رحمه الله، ومنه ما صح في الحديث من تشكل أرواح الشهداء في صور طير خضر تسرح في الجنة. وإنما يكون التشكل على أكمله في الجنة جعلنا الله من خير أهلها.
وأما الركن الثالث من دين الرسل وهو العمل الصالح وترك الفواحش والمنكرات فكان يوسف عليه السلام يكتفي منه بما كان خير قدوة فيه كما علم من قصته في بيت وزير البلاد وفي السجن ثم في إدارته لأمور الملك، وكان يقرهم على سائر شريعتهم كما سيأتي في احتياله على أخذ أخيه الشقيق بمقتضى شريعتهم الإسرائيلية بقول الله تعالى ﴿ ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ﴾ [ يوسف : ٧٦ ] الخ وبعد أن أدى يوسف رسالة ربه عبر لصاحبيه رؤياهما بقوله.
تأويله لمنامي صاحبي السجن ووصيته للناجي منهما
﴿ يا صاحبي السجن أما أحدكما ﴾ وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا ﴿ فيسقي ربه خمرا ﴾ يعني بربه مالك رقبته وهو الملك لا ربوبية العبودية فملك مصر في عهد يوسف لم يدع الربوبية والألوهية كفرعون موسى وغيره، بل كان من ملوك العرب الرعاة الذين ملكوا البلاد عدة قرون ﴿ وأما الآخر ﴾ وهو الذي رأى أنه يحمل خبزا تأكل الطير منه ﴿ فيصلب فتأكل الطير من رأسه ﴾ أي الطير التي تأكل اللحوم كالحدأة، وهذا التأويل قريب من أصل رؤيا كل منهما وقد يكون من خواطرهما النومية وتأويلهما على كل حال من مكاشفات يوسف ويؤكد قوله.
﴿ قضي الأمر الذي فيه تستفيان ﴾ فهذا نبأ زائد على تعبير رؤياهما ورد مورد الجواب عن سؤال كأنه يخطر ببالهما أو أسئلة في صفة ذلك التعبير وهل هو قطعي أم ظني يجوز غيره ومتى يكون ؟ فهو يقول لهما : إن الأمر الذي يهلكهما أو يشكل عليكما وتستفتياني فيه قد قضي وبت فيه وانتهى حكمه. والاستفتاء في اللغة السؤال عن المشكل المجهول، والفتوى جوابه سواء أكان نبأ أم حكما، وقد غلب في الاستعمال الشرعي في السؤال عن الأحكام الشرعية، ومن الشواهد على عمومه ﴿ أفتوني في رؤياي ﴾ [ يوسف : ٤٣ ] وهي مشتقة من الفتوة الدالة على معنى القوة والمضاء والثقة.
قلت إن هذه الفتوى من يوسف عليه السلام زائدة على ما عبر به رؤياهما داخلة في قسم المكاشفة ونبأ الغيب مما علمه الله تعالى وجعله آية له ليثقوا بقوله وهم أولو علم وفن وسحر، ومعناها أنه علم بوحي ربه أن الملك قد حكم في أمرهما بما قاله لا من باب تأويل الرؤيا على تقدير كون ما رأيا من النوع الصادق منها لا من أضغاث الأحلام [ وسنبين الفرق بينهما في التفسير الإجمالي لكليات السورة إن شاء الله تعالى ].
تأويله لمنامي صاحبي السجن ووصيته للناجي منهما
﴿ وقال للذي ظن أنه ناج منهما ﴾ وهو الذي أول له رؤياه بأنه يسقي ربه خمرا، وتأويلها يدل على نجاته دلالة ظنية لا قطعية، فإن كانت فتواه بعده عن وحي نبوي كما رجحنا لا تتمة لتأويلها فيجوز أن يكون التعبير عن نجاته بالظن، لأن ما علم من قضاء الملك بذلك يحتمل أن يعرض ما يحول دون تنفيذه، وقد بينا في الكلام على رؤيا يوسف وما فهمه أبوه منها من أمر مستقبله أن علم الأنبياء ببعض الأمور المستقبلة إجمالي الخ. وقال جمهور المفسرين : إن الظن هنا بمعنى العلم، وفي هذه الدعوى نظر. وقد بينا تحقيق الحق في الفرق بين الظن والعلم لغة واصطلاحا في موضع آخر فلا محل لإعادته هنا.
﴿ اذكرني عند ربك ﴾ أي عند سيدك الملك بما رأيت وسمعت وعلمت من أمري عسى أن ينصفني ممن ظلموني ويخرجني من السجن، وهذا الذكر يشمل دعوته إياهم على التوحيد وتأويله للرؤيا وإنباءهم بكل ما يأتيهم من طعام وغيره قبل إتيانه، وآخره فتواه الصريحة فهي جديرة بأن تذكره به كلما قدم للملك شرابه ﴿ فأنساه الشيطان ذكر ربه ﴾ أي أنسي الساقي تذكر ربه وهو أن يذكر يوسف عنده على حد ﴿ وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ﴾ [ الكهف : ٦٣ [ ﴿ فلبث في السجن بضع سنين ﴾ منسيا مظلوما، والفاء على هذا للسببية وهو المتبادر من السياق، والجاري على نظام الأسباب، ويؤيده قوله تعالى الآتي قريبا ﴿ وقال الذي نجا منهما واذكر بعد أمة ﴾ [ يوسف : ٤٥ ] أي تذكر، إلا أن هذا الاستعمال يحتاج إلى حذف وتقدير، ووجهوه بأنه أضاف المصدر إليه لملابسته له، أو أنه على تقدير ذكر إخبار ربه، فحذف المضاف، وهو كثير، كما أن الإضافة لأدنى ملابسة كثير في كلامه.
وقيل : إن المعنى أن الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه وهو الله عز وجل فعاقبه الله تعالى بإبقائه في السجن بضع سنين، وقالوا : إن ذنبه الذي استحق عليه هذا العقاب إنه توسل إلى الملك لإخراجه ولم يتوكل على الله عز وجل، وجاؤوا عليه بروايات لا يقبل في مثلها إلا الصحيح المرفوع أو المتواتر منه، لأنها تتضمن الطعن في نبي مرسل، ولكن قبلها على علاتها الجمهور كعادتهم وهو خلاف الظاهر من وجوه :
الأول : عطف الإنساء على ما قاله للساقي بالفاء يدل على وقوعه عقبه، ومفهومه أنه كان ذاكرا لله تعالى قبله إلى أن قاله، فلو كان قوله ذنبا عوقب عليه لوجب أن يعطف عليه بجملة حالية بأن يقال : وقد أنساه الشيطان ذكر ربه – أي في تلك الحال- فلم يذكر بقلبه ولا بلسانه، فاستحق عقابه تعالى بإطالة مكثه على خلاف ما أراده من ملك مصر وحده.
الثاني : أن اللائق بمقامه أن لا يقول ذلك القول إلا من باب مراعاة سنة الله تعالى في الأسباب والمسببات، كما وقع بالفعل فإنه ما خرج من السجن إلا بأمر الملك، وما أمر الملك بإخراجه إلا بعد أن أخبره الساقي خبره، وما آتاه ربه من العلم بتأويل الرؤى وبغير ذلك مما وصاه به يوسف، فإذا كان قد وصاه بذلك ملاحظا أنه من سنن الله في عباده متذكرا ذلك وهو اللائق به، فلا يعقل أن يعاقبه ربه تعالى عليه، وعطف الإنساء بالفاء يدل على وقوعه بعد تلك الوصية فلا تكون هي ذنبا ولا مقترنة بذنب فيستحق عليها العقاب.
الثالث : إذا قيل سلمنا أنه كان ذاكرا لربه عند ما أوصى الساقي ما أوصاه به ولكنه نسيه عقب الوصية واتكل عليها وحدها [ قلنا ] إن زعمتم أنه نسي ذلك في الحال واستمر ذلك النسيان مدة ذلك العقاب وهو بضع سنين أو تتمتها كنتم قد اتهمتم هذا النبي الكريم تهمة فظيعة لا تليق بأضعف المؤمنين إيمانا، ولا يدل عليها دليل، بل يبطلها وصف الله له بأنه من المحسنين ومن عباده المخلصين المصطفين، وبأنه غالب على أمره، وأنه صرف عنه السوء والفحشاء، وكيد النساء.
وإن زعمتم أن الشيطان أنساه ذكر ربه برهة قليلة عقب تلك الوصية ثم عاد إلى ما كان عليه من مراقبته له عز وجل وذكره فهذا النسيان القليل، لا يستحق هذا العقاب الطويل، ولم يعصم من مثله نبي من الأنبياء كما يعلم من الوجهين الرابع والخامس.
الرابع : جاء في نصوص التنزيل في خطاب الشيطان ﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ﴾ [ الحجر : ٤٢ ] وقال تعالى :﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾ [ الأعراف : ٢٠١ ] فالتذكر بعد النسيان القليل من شأن أهل التقوى.
الخامس : إن النسيان ليس ذنبا يعاقب الله تعالى عليه، وقد قال تعالى لخاتم النبيين ﴿ وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾ [ الأنعام : ٦٨ ] يعني الذين أمره بالإعراض عنهم إذا رآهم يخوضون في آيات الله.
السادس : إنهم ما قالوا هذا إلا لأنهم رووا فيها حديثا مرفوعا على قلة جرأة الرواة على الأحاديث المرفوعة المسندة في التفسير وهو ما أخرجه ابن جرير الطبري في تفسير الآية عن سفيان بن وكيع عن عمرو بن محمد عن إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :( لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله ) ونقول : إن هذا الحديث باطل، قال الحافظ ابن كثير وهذا الحديث ضعيف جدا، سفيان بن وكيع ضعيف، وإبراهيم بن يزيد هو الجوزي أضعف منه أيضا، وقد روي عن الحسن وقتادة مرسلا عن كل منهما. وهذه المرسلات ههنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن والله أعلم اه.
وأقول : أولا إن ما قاله في هذين الراويين للحديث هو أهون ما قيل فيهما ومنه أنهما كانا يكذبان، وثانيا صح أنه يعني بقوله [ ههنا ] الطعن في نبي مرسل بأنه كان يبتغي الفرج من عند غير الله وهو الجدير بأن لا تحجبه الأسباب الظاهرة عن واضعها ومسخرها وخالقها عز وجل. ويعني بقوله [ لو قبل المرسل من حيث هو ] ما هو الصحيح عند علماء الأصول وهو عدم الاحتجاج بالمراسيل، وسنتكلم على المراسيل في التفسير في الكلام الإجمالي عن روايات هذه السورة وأمثالها في الخلاصة الإجمالية لتفسيره إن شاء الله تعالى، وما رواه الكلبي وغيره عن وهب بن منبه وكعب الأحبار من خطاب الله تعالى وخطاب جبريل ليوسف وتوبيخه على الاستشفاع بآدمي مثله. فهي من موضوعات الراوي والمروي عنهما جزاهم الله ما يستحقون، فتبين بهذا أن التفسير المأثورة في الآية باطل رواية ودراية وعقيدة ولغة وأدبا.
وقد اختلف المفسرون في مدة لبث يوسف في السجن بناء على اختلاف في تفسير البضع واختلاف الرواة. فالتحقيق أن البضع من ثلاث إلى تسع، وأكثرها ما يطلق على السبع، وعليه الأكثرون في مدة سجن يوسف من أولها إلى آخرها، وما قالوه من أن السبع كانت بعد وصيته للساقي وإنه لبث قبلها خمس سنين فلا دليل عليه.
رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف لها بالقول والفعل
كان ملك مصر في عهد يوسف من ملوك العرب المعروفين بالرعاة [ الهكسوس ] كما يأتي في التفسير الإجمالي، وقد رأى رؤيا عجز رجال دولته من الوزراء والكهنة والعلماء عن تأويلها، فكان عجزهم سببا للجوء إلى يوسف عليه السلام واتصاله بالملك وتوليه منصب الوزير المفوض عنده كما بين في الآيات مبدأ وغاية، قال تعالى.
﴿ وقال الملك ﴾ هذا السياق عطف على سياق صاحبي السجن وما قالاه في قص رؤاهما على يوسف [ إني أرى ] أي رأيت فيما يرى النائم رؤيا جلية ماثلة أمامي كأني أراها الآن ﴿ سبع بقرات سمان ﴾ جمع سمينة وكذا سمين كما يقال رجال ونساء كرام وحسان ﴿ يأكلهن سبع عجاف ﴾ أي سبع بقرات مهازيل في غاية الضعف والهزال، وهو جمع عجفاء سماعا لا قياسا فإن جمع أفعل وفعلاء وزان فعل بالضم كحمر وخضر، وحسنه هنا مناسبته لسمان ﴿ وسبع سنبلات خضر ﴾ عطف على سبع بقرات وهي جمع سنبلة كقنفذة ما يخرجه الزرع كالقمح والشعير فيكون فيه الحب ﴿ وأخر يابسات ﴾ عطف على ما قبله، واليابس من السنبل ما آن حصاده، واستغني عن إعادة سبع هنا بدلالة مقابلة في البقرات عليه.
﴿ يا أيها الملأ ﴾ يخاطب رجال دولته وأشراف قومه ﴿ أفتوني في رؤياي ﴾ ما معناها وما تدل عليه فيكون مآلا لها ﴿ إن كنتم للرؤيا تعبرون ﴾ أي تعبرونها ببيان المعنى الحقيقي المراد من المعنى الخيالي، كمن يعبر النهر بالانتقال من ضفة إلى أخرى فاللام فيها للبيان والتقوية، فعبرها وعبورها بمعنى تأويلها وهو الإخبار بمآلها الذي يقع بعد.
رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف لها بالقول والفعل
كان ملك مصر في عهد يوسف من ملوك العرب المعروفين بالرعاة [ الهكسوس ] كما يأتي في التفسير الإجمالي، وقد رأى رؤيا عجز رجال دولته من الوزراء والكهنة والعلماء عن تأويلها، فكان عجزهم سببا للجوء إلى يوسف عليه السلام واتصاله بالملك وتوليه منصب الوزير المفوض عنده كما بين في الآيات مبدأ وغاية، قال تعالى.
﴿ قالوا أضغاث أحلام ﴾ أي هي أو هذه الرؤيا من جنس أضغاث الأحلام أي الأحلام المختلطة من الخواطر والأخيلة التي يتصورها الدماغ في النوم فلا ترمي إلى معنى والأحلام جمع حلم بضمتين ويسكن للتخفيف وهو ما يرى في النوم. يقال حلم كنصر واحتلم، ومنه بلوغ الحلم، قد يكون واضح المعنى كالأفكار التي تكون في اليقظة وقد يكون – وهو الأكثر- مشوشا مضطربا لا يفهم له معنى وهو الذي يشبه بالتضاغيث كأنه مؤلف من حزم مختلفة من العيدان والحشائش التي لا تناسب بينها، وهو ما تبادر إلى أفهامهم من نوعي البقر والسنابل.
﴿ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ﴾ يحتمل قولهم هذا أنهم ليسوا بأولي علم بتأويل هذه الأحلام المختلطة المضطربة وإنما يعلمون تأويل غيرها من المنامات المعقولة المفهومة، ويحتمل نفي العلم بجنس الأحلام لأنها مما لا يعلم أو مما لا يكون له معنى بعيد تدل عليه الصور المتخيلة في النوم وتنتهي إليه، كما ينكر أهل العلم المادي الآن أن يكون لشيء من هذه الرؤى والأحلام تأويل صحيح، ولكن قدماء المصريين كانوا يعنون بها. وسنبين الحق في ذلك في الخلاصة الكلية لتفسير السورة كما تقدم.
رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف لها بالقول والفعل
كان ملك مصر في عهد يوسف من ملوك العرب المعروفين بالرعاة [ الهكسوس ] كما يأتي في التفسير الإجمالي، وقد رأى رؤيا عجز رجال دولته من الوزراء والكهنة والعلماء عن تأويلها، فكان عجزهم سببا للجوء إلى يوسف عليه السلام واتصاله بالملك وتوليه منصب الوزير المفوض عنده كما بين في الآيات مبدأ وغاية، قال تعالى.
﴿ وقال الذي نجا منهما ﴾ أي من صاحبي السجن وهو الساقي أحد أركان القصة ﴿ وادّكر بعد أمة ﴾ أي والحال أنه تذكر بعد طائفة طويلة من الزمن وصية يوسف إياه بأن يذكره عند سيده الملك فأنساه الشيطان ذلك وأصل ادكر اذتكر – افتعال من الذكر أبدلت تأؤه دالا مهملة لقرب مخرجهما وأدغمت فيها الذال المعجمة، وهو الفصيح، وقرئ في الشواذ بالذال المعجمة وهي لغة ﴿ أنا أنبئكم بتأويله ﴾ أي أخبركم به أو بمن عنده علم تأويله ﴿ فأرسلون ﴾ إليه أو إلى السجن فهو فيه، وروي عن ابن عباس أن السجن كان خارج البلد. وفي خطط المقريزي : قال القضاعي سجن يوسف ببوصير من عمل الجيزة، أجمع أهل المعرفة من أهل مصر على صحة هذا المكان وفيه أثر نبيين : أحدهما يوسف سجن فيه المدة التي ذكر أن مبلغها سبع سنين، والآخر موسى، وقد بني على أثره مسجد يعرف بمسجد موسى الخ، وأمثال هذه الأخبار لا يوثق بها.
رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف لها بالقول والفعل
كان ملك مصر في عهد يوسف من ملوك العرب المعروفين بالرعاة [ الهكسوس ] كما يأتي في التفسير الإجمالي، وقد رأى رؤيا عجز رجال دولته من الوزراء والكهنة والعلماء عن تأويلها، فكان عجزهم سببا للجوء إلى يوسف عليه السلام واتصاله بالملك وتوليه منصب الوزير المفوض عنده كما بين في الآيات مبدأ وغاية، قال تعالى.
﴿ يوسف أيها الصديق ﴾ أي قال : فأرسلوني إليه، فأرسلوه إليه فجاءه فاستفتاه فيما عجز عنه الملأ من تأويل رؤيا الملك، مناديا له باسمه وما ثبت عنده من لقبه [ الصديق ]، وهو الذي بلغ غاية الكمال بالصدق في الأقوال والأفعال وتأويل الأحاديث وتعبير الأحلام، شارحا له رؤيا الملك بنصها – وهو بسط في محله بعد إيجاز في محله- قائلا ﴿ أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ﴾ وعلل هذا الاستفتاء بما يرجو أن يحقق ليوسف أمله بالخروج من السجن وانتفاع الملك وملئه بعلمه فقال ﴿ لعلي أرجع إلى الناس ﴾ أولي الأمر وأهل الحل والعقد، بما تلقيه إلي من التأويل والرأي ﴿ لعلهم يعلمون ﴾ مكانتك من العلم فينتفعون به، أو يعلمون ما جهلوا من تأويل رؤيا الملك وما يجب أن يعملوا بعد العلم به، فلعل الأولى تعليل لرجوعه إليهم بإفتائه، ولعل الثانية تعليل لما يرجوه من علمهم بها، والرجاء توقع خير بوقوع أسبابه.
رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف لها بالقول والفعل
كان ملك مصر في عهد يوسف من ملوك العرب المعروفين بالرعاة [ الهكسوس ] كما يأتي في التفسير الإجمالي، وقد رأى رؤيا عجز رجال دولته من الوزراء والكهنة والعلماء عن تأويلها، فكان عجزهم سببا للجوء إلى يوسف عليه السلام واتصاله بالملك وتوليه منصب الوزير المفوض عنده كما بين في الآيات مبدأ وغاية، قال تعالى.
﴿ قال تزرعون سبع سنين دأبا ﴾ أي قال يوسف مبينا للملأ ما يجب عليهم عمله لتلافي ما تدل عليه هذه الرؤيا من الخطر على البلاد والعباد قبل وقوع تأويلها الذي بينه في سياق هذا التدبير العملي، وهذا ضرب من بلاغة الأسلوب والإيجاز، لا تجد له ضريبا في غير القرآن، خاطب أولي الأمر بما لقنه للساقي خطاب الآمر للمأمور الحاضر، فأوجب عليهم الشروع في زراعة القمح دائبين عليه دأبا مستمرا كما قال تعالى ﴿ وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ﴾ [ إبراهيم : ٣٣ ] سبع سنين بلا انقطاع. قال الزمخشري [ تزرعون ] خبر في معنى الأمر، كقوله تعالى ﴿ تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون ﴾ [ الصف : ١١ ] وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إيجاد المأمور به، فيجعل كأنه يوجد فهو يخبر عنه، والدليل على كونه في معنى الأمر قوله :
﴿ فما حصدتم فذروه في سنبلة ﴾ أي فكل ما حصدتم منه في كل زرعة فاتركوه، أي ادخروه في سنبلة بطريقة تحفظه من السوس بعدم سريان الرطوبة إليه، الحب لغذاء الناس والتبن لغذاء البهائم والدواب :﴿ إلا قليلا مما تأكلون ﴾ في كل سنة من هذه السنين مع مراعاة القصد والاكتفاء بما يسد حاجة الجوع، فإن الناس يقنعون في سني الخصب والرخاء بالقليل، فهذه السنين السبع تأويل للبقرات السبع السمان، والسنبلات السبع الخضر على ظاهرها في كون كل سنبلة تأويلا لزرع سنة.
رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف لها بالقول والفعل
كان ملك مصر في عهد يوسف من ملوك العرب المعروفين بالرعاة [ الهكسوس ] كما يأتي في التفسير الإجمالي، وقد رأى رؤيا عجز رجال دولته من الوزراء والكهنة والعلماء عن تأويلها، فكان عجزهم سببا للجوء إلى يوسف عليه السلام واتصاله بالملك وتوليه منصب الوزير المفوض عنده كما بين في الآيات مبدأ وغاية، قال تعالى.
﴿ ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد ﴾ أي سبع سنين شداد في محلهن وجدبهن ﴿ يأكلن ما قدمتم لهن ﴾ أي يأكلن أهلهن كل ما قدمتم لهم، وهو من إسنادهم إلى الزمان والدهر ما يقع فيه، ويكثر إسناد العسر والجوع إلى سني الجدب : يقال آكلت لنا هذه السنة كل شيء ولم تبق لنا خفا ولا حافرا، ولا سبدا ولا لبدا. أي لا شعرا ولا صوفا. وهذا تأويل للبقرات السبع العجاف وأكلهن للسبع السمان، وللسنبلات اليابسات ﴿ إلا قليلا مما تحصنون ﴾ أي تحرزون وتدخرون للبذر.
رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف لها بالقول والفعل
كان ملك مصر في عهد يوسف من ملوك العرب المعروفين بالرعاة [ الهكسوس ] كما يأتي في التفسير الإجمالي، وقد رأى رؤيا عجز رجال دولته من الوزراء والكهنة والعلماء عن تأويلها، فكان عجزهم سببا للجوء إلى يوسف عليه السلام واتصاله بالملك وتوليه منصب الوزير المفوض عنده كما بين في الآيات مبدأ وغاية، قال تعالى.
﴿ ثم يأتي من بعد ذلك ﴾ الذي ذكر وهو السبع الشداد ﴿ عام فيه يغاث الناس ﴾ أي فيه يغيثهم الله تعالى من الشدة اسم الإغاثة وأوسعها وهي تشمل جميع أنواع المعونة بعد الشدة : يقال غاثه يغوثة غوثا وغواثا [ بالفتح ] وأغاثه إغاثة إذا أعانه ونجاه، وغوّث الرجل : قال " واغوثاه " واستغاث ربه استنصر وسأله الغوث، ويجوز أن يكون من الغيث وهو المطر إذ يقال غاث الله البلاد غيثا وغياثا إذا أنزل فيها المطر، والأول أعم وهو المتبادر هنا، ولا يقال إن الثاني لا يصح، لأن خصب مصر يكون بفيضان النيل لا بالمطر فإن فيضانه لا يكون إلا من المطر الذي يمده في مجاريه من بلاد السودان، فاعتراض بعض المستشرقين من الإفرنج وزعمه أن الكلمة من الغيث وأنها غير جائزة جهل زينه لهم الشيطان تلذذا بالاعتراض على لغة القرآن.
﴿ وفيه يعصرون ﴾ ما شأنه أن يعصر من الأدهان التي يأتدمون بها ويستصبحون كالزيت من الزيتون والقرطم وغيره، والشيرج من السمسم وغير ذلك، والأشربة من القصب والنخيل والعنب. والمراد أن هذا العام عظيم الخصب والإقبال، يكون للناس فيه كل ما يبغون من النعمة والإتراف، والإنباء بهذا زائد على تأويل الرؤيا لجواز أن يكون العام الأول بعد سني الشدة والجدب دون ذلك، فهذا التخصيص والتفصيل لم يعرفه يوسف إلا بوحي من الله عز وجل لا مقابل له في رؤيا الملك ولا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل، وقرأ حمزة والكسائي تعصرون بالخطاب كتزرعون وتحصنون، وقراءة الجمهور وعطف على يغاث الناس، وفائدة القراءتين، بيان المنة على الفريقين من غائب محكي عنه، وحاضر مخاطب بما يكون منه.
طلب الملك ليوسف
وتمكثه في الإجابة لأجل التحقيق في مسألة النسوة
من المعلوم بالبداهة أن الرسول بلغ الملك وملأه ما قاله له يوسف عليه السلام وأنهم فهموا منه أن الخطب جلل، وأن هذا الرجل ذو علم واسع، وتدبير لا يستغني عنه فيما يصفه من حالي السعة والشدة، وقد طوي ذلك إيجازا لأنه يعلم من قوله تعالى.
﴿ وقال الملك ائتوني به ﴾ لأسمع كلامه بأذني، واختبر تفصيل رأيه ودرجة عقله بنفسي ﴿ فلما جاءه الرسول ﴾ وبلغه أمر الملك ﴿ قال ارجع إلى ربك فاسأله ﴾ قبل شخوصي إليه ووقوفي بين يديه ﴿ ما بال النسوة التي قطعن أيديهن ﴾ أي ما حقيقة أمرهن معي، فالبال الأمر الذي يهتم به ويبحث عنه، فهو يقول سله عن حالهن ليبحث عنه ويعرف حقيقته فلا أحب أن آتيه وأنا متهم بقضية عوقبت عليها أو عقبها بالسجن وطال مكثي فيه وأنا غير مذنب فأقبل منه العفو ﴿ إن ربي بكيدهن عليم ﴾ وقد صرفه عني فلم يمسني منه سوء معهن، وربك لا يعلم ما علم ربي منه.
وفي هذا التريث والسؤال فوائد جليلة في أخلاق يوسف عليه السلام وعقله وأدبه في سؤاله [ منها ] دلالته على صبره وأناته، وجدير بمن لقي ما لقي من الشدائد أن يكون صبورا حليما، فكيف إذا كان نبيا وارثا لإبراهيم الذي وصفه الله بالأواه الحليم ؟ وفي حديث أبي هريرة في المسند والصحيحين مرفوعا ( ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي )١ وفي لفظ لأحمد ( لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر )٢، وأما ما رواه عبد الرزاق عن عكرمة في تعجب النبي من صبره وكرمه وكونه لو كان مكانه لما أول لهم الرؤيا حتى يشترط عليهم أن يخرجوه من السجن، ولو أتاه الرسول لبادرهم الباب.. فهو مرسل لا يحتاج به.
[ ومنها ] عزة نفسه وحفظ كرامتها إذ لم يرض أن يكون منها بالباطل حتى يظهر براءته ونزاهته، [ ومنها ] وجوب الدفاع عن النفس وإبطال التهم التي تخل بالشرف كوجوب اجتناب مواقفها، [ ومنها ] مراعاته النزاهة بعدم التصريح بشيء من الطعن على النسوة وترك أمر التحقيق إلى الملك يسألهن ما بالهن قطعن أيديهن وينظر ما يجبن به، [ ومنها ] أنه لم يذكر سيدته معهن وهي أصل الفتنة وفاء لزوجها ورحمة بها، لأن أمر شغفها به كان وجدانا قاهرا لها، وإنما اتهمها أولا عند وقوفه موقف التهمة لدى سيدها وطعنها فيه دفاعا عن نفسه، فهو لم يكن له بد منه.
٢ - المسند ٦/ ٣٣٢..
طلب الملك ليوسف
وتمكثه في الإجابة لأجل التحقيق في مسألة النسوة
من المعلوم بالبداهة أن الرسول بلغ الملك وملأه ما قاله له يوسف عليه السلام وأنهم فهموا منه أن الخطب جلل، وأن هذا الرجل ذو علم واسع، وتدبير لا يستغني عنه فيما يصفه من حالي السعة والشدة، وقد طوي ذلك إيجازا لأنه يعلم من قوله تعالى.
﴿ قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ﴾ الخطب الشأن العظيم الذي يقع فيه التخاطب والبحث لغرابته أو إنكاره، ومنه قول إبراهيم للملائكة ﴿ فما خطبكم أيها المرسلون ﴾ [ الحجر : ٥٧ ] وقول موسى في قصة العجل ﴿ فما خطبك يا سامري ﴾ [ طه : ٩٥ ] وقوله للمرأتين اللتين كانتا تذودان ماشيتهما عن مورد السقيا ﴿ وما خطبكما ﴾ [ القصص : ٢٣ ] وهذه الجملة بيان لجواب سؤال مقدر دل عليه السياق كأمثاله والمعنى أن الرسول بلغ الملك قول يوسف، وأنه لا يخرج من السجن استجابة لدعوته حتى يحقق مسألة النسوة، فجمعهن وسألهن : ما خطبكن الذي حملكن على مراودته عن نفسه هل كان عن ميل منه إليكن، ومغازلة لكن قبلها، وهل رأيتن منه مواتاة واستجابة بعدها ؟ أم ماذا كان سبب إلقائه في السجن مع المجرمين ؟
﴿ قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ﴾ أي معاذ الله ما علمنا عليه أدنى شيء يشينه ويسوءه لا كبير ولا صغير، ولا كثير ولا قليل، هذا ما يدل عليه نفي العلم مع تنكير سوء ودخول " من " عليها، وهو أبلغ من نفي رؤية السوء عنه ﴿ قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق ﴾، أي ظهر بعد خفائه، وانحسرت رغوة الباطل عن محضه، وهو تكرار من حصه إذا قطع منه حصة بعد حصة [ بالكسر ] وهي النصيب لكل شريك في شيء، مثل كبكب وكفكف الشيء إذا كبه وكفه مرة بعد أخرى، فهي تقول : إن الحق في هذه القضية كان في رأي الذين بلغهم موزع التبعة بيننا معشر النسوة وبين يوسف لكل منا حصة، بقدر ما عرض فيها من شبهة، والآن قد ظهر الحق في جانب واحد لا خفاء فيه ولا شبهة عليه، فإن كان عواذلي شهدن بنفي السوء عنه وهي شهادة نفي، فشاهدتي له على نفسي شهادة إثبات ؟
﴿ أنا راودته عن نفسه ﴾ وهو لم يراودني، بل استعصم وأعرض عني ﴿ وإنه لمن الصادقين ﴾ فيما اتهمني به من قبل، وحمله أدبه الأعلى ووفاؤه الأسمى لمن أكرم مثواه وأحسن إليه على السكوت عنه إلى الآن، ونحن جزيناه بالسيئة على الإحسان، وقد أقر الخصم وارتفع النزاع.
طلب الملك ليوسف
وتمكثه في الإجابة لأجل التحقيق في مسألة النسوة
من المعلوم بالبداهة أن الرسول بلغ الملك وملأه ما قاله له يوسف عليه السلام وأنهم فهموا منه أن الخطب جلل، وأن هذا الرجل ذو علم واسع، وتدبير لا يستغني عنه فيما يصفه من حالي السعة والشدة، وقد طوي ذلك إيجازا لأنه يعلم من قوله تعالى.
﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ أي ذلك الإقرار بالحق له، والشهادة بالصدق التي علمته منه، ليعلم الآن – إذ يبلغه عني- أني لم أخنه بالغيب عنه منذ سجن إلى الآن بالنيل من أمانته، أو الطعن في شرفه وعفته، بل صرحت لجماعة النسوة بأنني راودته فاستعصم وهو شاهد، وها أنا ذا أقر بهذا أمام الملك وملئه وهو غائب، ﴿ وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ﴾ من النساء والرجال، بل تكون عاقبة كيدهن الفضيحة والنكال، ولقد كدنا له فصرف ربه عنه كيدنا، وسجناه فبرأه وفضح مكرنا، حتى شهدنا له في هذا المقام السامي على أنفسنا، وهذا تعليل آخر لإقرارها.
ثم إنها على تبرئة نفسها من خيانته بالغيب اعترفت في الآية التالية بأنها لا تبريء نفسها من الكيد له بالسجن، وإن ذلك كان من هوى النفس الأمارة بالسوء لأن المراد منه تذليله لها، وحمله على طاعتها.
وفيهما وجه آخر وهو أنها تقول : ذلك الذي حصل أقررت به ليعلم زوجي أني لم أخنه بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنا، وأن كل ما وقع أنني راودت هذا الشاب الفاتن الذي وضعه في بيتي، وخلى بينه وبيني، فاستعصم وامتنع، فبقي عرضه أي الزوج مصونا، وشرفه محفوظا، ولئن برأت يوسف من الإثم فما أبرئ منه نفسي، فإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وسيأتي أن من رحمته تعالى ببعض الأنفس صرفها عن الأمر السوء وهو أعلى الدرجات، ومنها حفظه إياها من طاعة الأمر بوازع منها، وهي دون ما قبلها، ومنها عدم تيسر عمل السوء، لها بامتناع من يتوقف عليه ذلك العمل على حد [ أن من العصمة ألا تجد ].
هذا هو المتبادر من نظم الآيتين المناسب للمقام بغير تكلف، ولكن ذهب الجمهور اتباعا للروايات الخادعة إلى أنهما حكاية عن يوسف عليه السلام يقول : ذلك الذي كان مني إذ امتنعت من إجابة الملك واقترحت عليه التحقيق في قضية النسوة ليعلم العزيز من التحقيق أني لم أخنه في زوجه بالغيب الخ، وأنه صرح بعد ذلك بأنه لا يبرئ نفسه من باب التواضع وهضم النفس، وهذا المعنى يتبرأ منه السياق والنظم ومرجع الضمير. ومن العجب أن بن جرير اقتصر عليه، ولكن قال العماد ابن كثير على كثرة اعتماده عليه مرجحا للقول الأول : وهذا هو القول الأشهر الأليق الأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام وقد حكاه الماوردي في تفسيره وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فأفرده بتصنيف على حدة اه. وشيخ الإسلام ابن تيمية من أعلم المحدثين بنقد الروايات فهو ما نصر هذا القول إلا وقد فند روايات القول الآخر.
وقد علم من جملة الكلام أن يوسف عليه السلام كان مثل الكمال الإنسان الأعلى للاقتداء به في العفة والصيانة، لم يمسه أدنى سوء من فتنة النسوة، وأن امرأة العزيز التي اشتهرت في نساء مصر بل نساء العالم بسوء القدوة في التاريخ القديم والحديث كان أكبر إثمها على زوجها، وكانت هي ذات مزايا في عشقها الذي كان اضطراريا لا علاج له إلا الحيلولة بينها وبين هذا الشاب الذي بلغ منتهى الكمال في الحسن والجمال، فمن مزاياها أنها لم تتطلع إلى غيره من الرجال إجابة لداعية الجنسية للتسلي عنه بعد اليأس منه، وأنها لم تتهمه بالجنوح للفاحشة قط، وكل ما قالته لزوجها إذ فاجأهما لدى الباب ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ﴾ [ يوسف : ٢٥ ] تعني به همه بضربها، وأنها في خاتمة الأمر أقرت بذنبها في مجلس الملك الرسمي إيثارا للحق وإثباتا لبراءة المحق، فأية مزايا أظهر من هذه لمن ابتليت بمثل هذا العشق ؟ وفي تاريخ الفردوسي أديب الفرس أنه صنف قصة غرامية في زليخا ويوسف صور فيها العفة بأجمل صورها، وزليخا [ بالفتح ] اسم امرأة العزيز في أشهر تواريخنا وقيل إن اسمها راعيل. وسنفصل العبر في القصة، في التفسير الإجمالي للسورة إن شاء الله تعالى.
تم تفسير الجزء الثاني عشر في العشر الأخير من المحرم سنة ١٣٥٤
وكان البدء به في صفر سنة ١٣٥٣ والله نسأل توفيقنا لإتمام
سائر هذا التفسير بما يرضاه وله الحمد والمنة.