ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْكَهْفِقَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا.
عَلَّمَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عِبَادَهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَحْمَدُوهُ عَلَى أَعْظَمِ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ ; وَهِيَ إِنْزَالُهُ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، بَلْ هُوَ فِي كَمَالِ الِاسْتِقَامَةِ، أَخْرَجَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. وَبَيَّنَ لَهُمْ فِيهِ الْعَقَائِدَ، وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَأَسْبَابَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَحَذَّرَهُمْ فِيهِ مِنْ كُلِّ مَا يَضُرُّهُمْ، وَحَضَّهُمْ فِيهِ عَلَى كُلِّ مَا يَنْفَعُهُمْ، فَهُوَ النِّعْمَةُ الْعُظْمَى عَلَى الْخَلْقِ، وَلِذَا عَلَّمَهُمْ رَبُّهُمْ كَيْفَ يَحْمَدُونَهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْكُبْرَى بِقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ الْآيَةَ [١٨ ١].
وَمَا أَشَارَ لَهُ هُنَا مِنْ عَظِيمِ الْإِنْعَامِ وَالِامْتِنَانِ عَلَى خَلْقِهِ بِإِنْزَالِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، مُنْذِرًا مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَمُبَشِّرًا مَنْ عَمِلَ بِهِ، ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [٤ ١٧٤]، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [٢٩ ٥١]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [٢٧ ٧٦ - ٧٧]، وَقَوْلِهِ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [١٧ ٨٢]، وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ الْآيَةَ [٤١ ٤٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [٢١ ١٠٦ - ١٠٧]، وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ [٢٨ ٨٦]،
وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّ إِيرَاثَ هَذَا الْكِتَابِ فَضْلٌ كَبِيرٌ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [١٨ ١]، أَيْ لَمْ يَجْعَلْ فِي الْقُرْآنِ عِوَجًا ; أَيْ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، لَا مِنْ جِهَةِ الْأَلْفَاظِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعَانِي، أَخْبَارُهُ كُلُّهَا صِدْقٌ، وَأَحْكَامُهُ عَدْلٌ، سَالِمٌ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ، وَأَخْبَارِهِ وَأَحْكَامِهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: «عِوَجًا» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَهِيَ تَعُمُّ نَفْيَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِوَجِ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا مِنْ أَنَّهُ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [٣٩ ٢٧ - ٢٨]، وَقَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [٦ ١١٥]. فَقَوْلُهُ «صِدْقًا» أَيْ فِي الْأَخْبَارِ، وَقَوْلُهُ: «عَدْلًا» أَيْ فِي الْأَحْكَامِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [٤ ٨٢]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَيِّمًا أَيْ مُسْتَقِيمًا لَا مَيْلَ فِيهِ وَلَا زَيْغَ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ كَوْنِهِ قَيِّمًا لَا مَيْلَ فِيهِ وَلَا زَيْغَ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [٩٨ ١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْآيَةَ [١٧ ٩]، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [١٠ ٣٧]، وَقَوْلِهِ: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [٢ ١ - ٢]، وَقَوْلِهِ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [١١ ١]، وَقَوْلِهِ: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [٤٢ ٥٢]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ «قَيِّمًا» أَنَّهُ قَيِّمٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، أَيْ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ الْآيَةَ [٥ ١٥].
وَلِأَجْلِ هَيْمَنَتِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ الْآيَةَ [٢٧ ٧٦]، وَقَالَ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٣ ٩٣]، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ الْآيَةَ [٥ ١٥].
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ «قَيِّمًا» : أَنَّهُ قَيِّمٌ بِمَصَالِحِ الْخَلْقِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. وَهَذَا الْوَجْهُ فِي الْحَقِيقَةِ يَسْتَلْزِمُهُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْعَرَبِيَّةِ اخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: «قَيِّمًا» فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْكِتَابِ، وَأَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَتَقْرِيرُهُ عَلَى هَذَا: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ فِي حَالِ كَوْنِهِ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وَمَنَعَ هَذَا الْوَجْهَ مِنَ الْإِعْرَابِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ قَائِلًا: إِنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [١٨ ١]، مَعْطُوفٌ عَلَى صِلَةِ الْمَوْصُولِ الَّتِي هِيَ جُمْلَةُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الصِّلَةِ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ، فَجَعْلُ «قَيِّمًا» حَالًا مِنَ «الْكِتَابِ» يُؤَدِّي إِلَى الْفَصْلِ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا بِبَعْضِ الصِّلَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ «قَيِّمًا» حَالٌ مِنَ «الْكِتَابِ»، وَأَنَّ الْمَحْذُورَ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مُنْتَفٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ جُمْلَةَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا لَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى الصِّلَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ «قَيِّمًا» حَالٌ بَعْدَ حَالٍ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَعْنَى: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ فِي حَالِ كَوْنِهِ غَيْرَ جَاعِلٍ فِيهِ عِوَجًا، وَفِي حَالِ كَوْنِهِ قَيِّمًا. وَتَعَدُّدُ الْحَالِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ تَعَدُّدِ الْحَالِ مَعَ اتِّحَادِ عَامِلِ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَالْحَالُ قَدْ يَجِيءُ ذَا تَعَدُّدِ لِمُفْرَدٍ فَاعْلَمْ وَغَيْرَ مُفْرَدِ
عَلَيَّ إِذَا مَا جِئْتِ لَيْلَى بِخُفْيَةٍ | زِيَارَةُ بَيْتِ اللَّهِ رَجْلَانَ حَافِيَا |
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: قَيِّمًا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ; لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعِوَجِ عَنْهُ هُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ قَيِّمًا.
وَعَزَا هَذَا الْقَوْلَ الرَّازِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ لِصَاحِبِ حَلِّ الْعُقَدِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ بَدَلٌ مُفْرَدٌ مِنْ جُمْلَةٍ.
كَمَا قَالُوا فِي: عَرَفْتُ زَيْدًا أَبُو مَنْ، أَنَّهُ بَدَلُ جُمْلَةٍ مِنْ مُفْرَدٍ، وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ خِلَافٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ قَيِّمًا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ قَيِّمًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَتَقْدِيرُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا وَجَعَلَهُ قَيِّمًا، وَحَذْفُ نَاصِبِ الْفَضْلَةِ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ جَائِزٌ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَيُحْذَفُ النَّاصِبُهَا إِنْ عُلِمَا وَقَدْ يَكُونُ حَذْفُهُ مُلْتَزَمَا
وَأَقْرَبُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: «قَيِّمًا» أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِمَحْذُوفٍ، أَوْ حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنَ «الْكِتَابِ» وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا [١٨ ٢] اللَّامُ فِيهِ مُتَعَلِّقَةٌ
وَالْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِتَخْوِيفٍ وَتَهْدِيدٍ، فَكُلُّ إِنْذَارٍ إِعْلَامٌ، وَلَيْسَ كُلُّ إِعْلَامٍ إِنْذَارًا، وَالْإِنْذَارُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [٩٢ ١٤]، وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا الْآيَةَ [٣٨ ٤٠].
وَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ كَرَّرَ تَعَالَى الْإِنْذَارَ، فَحَذَفَ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ مَفْعُولَ الْإِنْذَارِ الْأَوَّلَ، وَحَذَفَ فِي الثَّانِي الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ، فَصَارَ الْمَذْكُورُ دَلِيلًا عَلَى الْمَحْذُوفِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَتَقْدِيرُ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ الْمَحْذُوفِ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ، وَتَقْدِيرُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي الْمَحْذُوفِ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ تَخْوِيفٌ وَتَهْدِيدٌ لِلْكَافِرِينَ، وَبِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ ; إِذْ قَالَ فِي تَخْوِيفِ الْكَفَرَةِ بِهِ: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [١٨ ٢]، وَقَالَ: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا الْآيَةَ [١٨ ٤]، وَقَالَ فِي بِشَارَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا الْآيَةَ [١٨ ٢].
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ كَوْنِهِ إِنْذَارًا لِهَؤُلَاءِ وَبِشَارَةً لِهَؤُلَاءِ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [١٩ ٩٧]، وَقَوْلِهِ: المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [٧ ١ - ٢].
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ»، وَأَوْضَحْنَا هُنَالِكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْإِنْذَارُ فِي الْقُرْآنِ. وَالْبَأْسُ الشَّدِيدُ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ إِيَّاهُ: هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْبِشَارَةُ: الْخَيْرُ بِمَا يَسُرُّ.
وَقَدْ تُطْلِقُ الْعَرَبُ الْبِشَارَةَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُوءُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [٤٥ ٨] وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي جَفَوْنِي | وَقَالُوا الْوُدُّ مَوْعِدُهُ الْحَشْرُ |
يُبَشِّرُنِي الْغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي | فَقُلْتُ لَهُ ثُكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ |
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [١٨ ٢] بَيَّنَتِ الْمُرَادَ بِهِ آيَاتٌ أُخَرُ، فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَكُونُ صَالِحًا إِلَّا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلُّ عَمَلٍ مُخَالِفٍ لِمَا جَاءَ بِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِصَالِحٍ، بَلْ هُوَ بَاطِلٌ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ [٥٩ ٧]، وَقَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [٤ ١٠]، وَقَالَ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ [٣ ٣١]، وَقَالَ: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ الْآيَةَ [٤٢ ٢١]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مُخْلِصًا فِي عَمَلِهِ لِلَّهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْآيَةَ [٩٨ ٥]، وَقَالَ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [٣٩ ١١ - ١٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسِ الْإِيمَانِ وَالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ كَالسَّقْفِ، وَالْعَقِيدَةَ كَالْأَسَاسِ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [١٦ ٩٧]، فَجَعَلَ الْإِيمَانَ قَيْدًا فِي ذَلِكَ.
وَبَيَّنَ مَفْهُومَ هَذَا الْقَيْدِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي أَعْمَالِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [٢٥ ٢٣]، وَقَوْلِهِ: أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ الْآيَةَ [٢٤ ٣٩]، وَقَوْلِهِ: أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ الْآيَةَ [١٤ ١٨]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مُفْرَدَ الصَّالِحَاتِ فِي قَوْلِهِ: يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، وَقَوْلِهِ:
وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ لَفْظَ الصَّالِحَةِ عَلَى ذَلِكَ، قَوْلُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ فِي زَوْجِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
بِنْتَ الْأَمِينِ جَزَاكِ اللَّهُ صَالِحَةً | وَكُلُّ بَعْلٍ سَيُثْنِي بِالَّذِي عَلِمَا |
كَيْفَ الْهِجَاءُ وَلَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ | مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي |
الْحُبُّ مَشْغَلَةٌ عَنْ كُلِّ صَالِحَةٍ | وَسَكْرَةُ الْحُبِّ تَنْفِي سَكْرَةَ الْوَسَنِ |
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا، أَيْ خَالِدِينَ فِيهِ بِلَا انْقِطَاعٍ.
وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [١١ ١٠٨] أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [٣٨ ٥٤]، أَيْ مَا لَهُ مِنِ انْقِطَاعٍ وَانْتِهَاءٍ، وَقَوْلِهِ: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [١٦ ٩٦]، وَقَوْلِهِ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [٨٧ ١٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [١٨ ٤]،
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي: أَنَّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ إِذَا كَانَ الْخَاصُّ يَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِصِفَاتٍ حَسَنَةٍ أَوْ قَبِيحَةٍ مِنَ الْإِطْنَابِ الْمَقْبُولِ، تَنْزِيلًا لِلتَّغَايُرِ فِي الصِّفَاتِ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ فِي الذَّوَاتِ.
وَمِثَالُهُ فِي الْمُمْتَازِ عَنْ سَائِرِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِصِفَاتٍ حَسَنَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ الْآيَةَ [٢ ٩٨]، وَقَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [٣٣ ٧].
وَمِثَالُهُ فِي الْمُمْتَازِ بِصِفَاتٍ قَبِيحَةٍ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا امْتَازُوا عَنْ غَيْرِهِمْ بِفِرْيَةٍ شَنْعَاءَ، وَلِذَا سَاغَ عَطْفُهُمْ عَلَى اللَّفْظِ الشَّامِلِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى شِدَّةِ عِظَمِ فِرْيَتِهِمْ كَثِيرَةٌ جِدًّا. كَقَوْلِهِ هُنَا: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [١٨ ٥] الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [١٩ ٨٨ - ٩٢]، وَقَوْلِهِ: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [١٧ ٤٠]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ نَسَبُوا الْوَلَدَ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا - ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ: الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، قَالَ تَعَالَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ الْآيَةَ [٩ ٣٠]، وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [١٦ ٥٧]، وَالْآيَاتُ بِنَحْوِهَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ [١٨ ٥]، يَعْنِي أَنَّ مَا نَسَبُوهُ لَهُ جَلَّ وَعَلَا مِنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ ; لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِهِ ; وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [٢ ٥٧] ; لِأَنَّ ظُلْمَهُمْ
فَنَفْيُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الْمَنْطِقِيِّينَ: السَّالِبَةُ لَا تَقْتَضِي وُجُودَ الْمَوْضُوعِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَمَا نَفَاهُ عَنْهُمْ وَعَنْ آبَائِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ بِاتِّخَاذِهِ الْوَلَدَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ [٦ ١٠٠]، وَقَوْلِهِ فِي آبَائِهِمْ: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [٥ ١٠٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [١٨ ٥] يَعْنِي أَنَّ مَا قَالُوهُ بِأَفْوَاهِهِمْ مِنْ أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ وَلَدًا أَمْرٌ كَبِيرٌ عَظِيمٌ ; كَمَا بَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِظَمِهِ آنِفًا، كَقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [١٧ ٤٠]، وَقَوْلِهِ: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا الْآيَةَ [١٩ ٩٠]، وَكَفَى بِهَذَا كِبَرًا وَعِظَمًا.
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّ قَوْلَهُ: كَبُرَتْ كَلِمَةً مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ، فَهُوَ بِمَعْنَى مَا أَكْبَرَهَا كَلِمَةً، أَوْ أَكْبِرْ بِهَا كَلِمَةً.
وَالْمُقَرَّرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ: أَنَّ «فَعُلَ» بِالضَّمِّ تُصَاغُ لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ وَالْمَدْحِ، فَتَكُونُ مِنْ بَابِ نِعْمَ وَبِئْسَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَبُرَتْ كَلِمَةً الْآيَةَ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَاجْعَلْ كَبِئْسَ سَاءَ وَاجْعَلْ | فَعُلَا مِنْ ذِي ثَلَاثَةٍ كَنِعْمَ مُسَجَّلَا |
وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَبُرَتْ هِيَ كَلِمَةً خَارِجَةً مِنْ أَفْوَاهِهِمْ تِلْكَ الْمَقَالَةُ الَّتِي فَاهُوا بِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَعْرَبَ بَعْضُهُمْ كَلِمَةً بِأَنَّهَا حَالٌ، أَيْ كَبُرَتْ فِرْيَتُهُمْ فِي حَالِ كَوْنِهَا كَلِمَةً خَارِجَةً مِنْ أَفْوَاهِهِمْ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ لَهُ شَوَاهِدُ فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [٣ ١٦٧] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْكَذِبُ: مُخَالَفَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ.
لَفْظَةُ «كَبُرَ» إِذَا أُرِيدَ بِهَا غَيْرُ الْكِبَرِ فِي السِّنِّ فَهِيَ مَضْمُومَةُ الْبَاءِ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: كَبُرَتْ كَلِمَةً الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [٦١ ٣]، وَقَوْلِهِ: أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ [١٧ ٥١] وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْكِبَرُ فِي السِّنِّ فَهِيَ مَكْسُورَةُ الْبَاءِ فِي الْمَاضِي، مَفْتُوحَتُهَا فِي الْمُضَارِعِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [٤ ٦].
وَقَوْلُ الْمَجْنُونِ:
تَعَشَّقْتُ لَيْلَى وَهْيَ ذَاتُ ذَوَائِبَ | وَلَمْ يَبْدُ لِلْعَيْنَيْنِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ |
صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبُهْمَ يَا لَيْتَ أَنَّنَا | إِلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ الْبُهْمُ |
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَبُرَتْ كَلِمَةً يَعْنِي بِالْكَلِمَةِ: الْكَلَامَ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [١٨ ٤].
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يُطْلِقُ اسْمَ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكَلَامِ، أَوْضَحَتْهُ آيَاتٌ أُخَرُ ; كَقَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا الْآيَةَ [٢٣ ١٠٠]، وَالْمُرَادُ بِهَا قَوْلُهُ: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [٢٣ ٩٩ - ١٠٠]، وَقَوْلُهُ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [١١ ١١٩]، وَمَا جَاءَ لَفْظُ الْكَلِمَةِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مُرَادًا بِهِ الْكَلَامُ الْمُفِيدُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عِوَجَا هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَعَانِي كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَبِفَتْحِهَا فِيمَا كَانَ مُنْتَصِبًا كَالْحَائِطِ.
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فِي الْوَصْلِ عِوَجًا بِالسَّكْتِ عَلَى الْأَلِفِ الْمُبْدَلَةِ مِنَ التَّنْوِينِ سَكْتَةً يَسِيرَةً مِنْ غَيْرِ تَنَفُّسٍ، إِشْعَارًا بِأَنَّ قَيِّمًا لَيْسَ مُتَّصِلًا بِـ عِوَجًا فِي الْمَعْنَى، بَلْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ جَعَلَهُ قَيِّمًا كَمَا قَدَّمْنَا.
وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مِنْ لَدُنْهُ بِإِسْكَانِ الدَّالِ مَعَ إِشْمَامِهَا الضَّمَّ، وَكَسْرِ النُّونِ وَالْهَاءِ وَوَصْلِهَا بِيَاءٍ فِي اللَّفْظِ، وَقَوْلُهُ: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ [١٨ ٢]، قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ مُشَدَّدَةً، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «يَبْشُرَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الشِّينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ لَفْظَةَ «لَعَلَّ» تَكُونُ لِلتَّرَجِّي فِي الْمَحْبُوبِ، وَلِلْإِشْفَاقِ فِي الْمَحْذُورِ، وَاسْتَظْهَرَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ أَنَّ «لَعَلَّ» فِي قَوْلِهِ هُنَا: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ لِلْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْخَعَ نَفْسَهُ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ «لَعَلَّ» فِي الْآيَةِ لِلنَّهْيِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْعَسْكَرِيُّ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمَا صَاحِبُ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى: لَا تَبْخَعْ نَفْسَكَ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ. وَقِيلَ: هِيَ فِي الْآيَةِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ. وَإِتْيَانُ «لَعَلَّ» لِلِاسْتِفْهَامِ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ مَعْرُوفٌ.
وَأَظْهَرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي مَعْنَى «لَعَلَّ» أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا فِي الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ.
وَإِطْلَاقُ «لَعَلَّ» مُضَمَّنَةً مَعْنَى النَّهْيِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِ النَّهْيِ صَرِيحًا عَنْ ذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [٣٥ ٨]، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ
وَالْبَاخِعُ: الْمُهْلِكُ ; أَيْ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ مِنْ شِدَّةِ الْأَسَفِ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
أَلَا أَيُهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ | لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ |
وَقَوْلُهُ: عَلَى آثَارِهِمْ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «آثَارِهُمْ» جَمْعُ أَثَرٍ، وَيُقَالُ إِثْرٌ. وَالْمَعْنَى: عَلَى أَثَرِ تَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ.
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: وَمَعْنَى «عَلَى آثَارِهِمْ» : مِنْ بَعْدِهِمْ، أَيْ بَعْدَ يَأْسِكَ مِنْ إِيمَانِهِمْ، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، يُقَالُ: مَاتَ فُلَانٌ عَلَى أَثَرِ فُلَانٍ ; أَيْ بَعْدَهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَهُ وَإِيَّاهُمْ حِينَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَمَا دَاخَلَهُ مِنَ الْوَجْدِ وَالْأَسَفِ عَلَى تَوَلِّيهِمْ - بِرَجُلٍ فَارَقَتْهُ أَحِبَّتُهُ وَأَعِزَّتُهُ فَهُوَ يَتَسَاقَطُ حَسَرَاتٍ عَلَى آثَارِهِمْ وَيَبْخَعُ نَفْسَهُ وَجْدًا عَلَيْهِمْ، وَتَلَهُّفًا عَلَى فِرَاقِهِمْ. وَالْأَسَفُ هُنَا: شِدَّةُ الْحُزْنِ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْأَسَفُ عَلَى الْغَضَبِ ; كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [٤٣ ٥٥].
فَإِذَا حَقَّقْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِيهَا جَلَّ وَعَلَا مِنْ شِدَّةِ حُزْنِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ نَهْيِهِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [٣٥ ٨]، وَكَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [٢٦ ٣]، وَكَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [١٥ ٨٨]، وَكَقَوْلِهِ: فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [٥ ٦٨]، وَكَقَوْلِهِ: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [٦ ٣٣]، وَكَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [١٥ ٩٧] كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُوَضَّحًا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَسَفًا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ مِنْ أَجْلِ الْأَسَفِ. وَيَجُوزُ إِعْرَابُهُ حَالًا ; أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكَ آسِفًا عَلَيْهِمْ. عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَمَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ حَالًا يَقَعْ بِكَثْرَةٍ كَبَغْتَةً زِيدٌ طَلَعْ
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: «مَا عَلَيْهَا» يَعْنِي مَا عَلَى الْأَرْضِ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ زِينَةً لَهَا وَلِأَهْلِهَا مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَمَا يُسْتَحْسَنُ مِنْهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَوَجْهُ كُلِّ الْحَيَّاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُؤْذِي زِينَةٌ لِلْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ، وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَوُجُودُ مَا يَحْصُلُ بِهِ هَذَا الْعِلْمُ فِي شَيْءٍ زِينَةٌ لَهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ أَنْ يُذْكَرَ لَفْظٌ عَامٌّ ثُمَّ يُصَرَّحَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِدُخُولِ بَعْضِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ [٢٢ ٣٢] الْآيَةَ، مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّ الْبُدْنَ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ [١٨ ٣٦].
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا [١٨ ٧] قَدْ صَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [١٨ ٤٦]، وَقَوْلِهِ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً الْآيَةَ [١٦ ٨]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: صَعِيدًا جُرُزًا [١٨ ٨]، أَيْ أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا نَبَاتَ بِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى «الصَّعِيدِ» بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ».
وَالْجُرُزُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ بِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [٣٢ ٢٧] وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
طَوَى النَّحْزُ وَالْأَجْرَازُ مَا فِي غُرُوضِهَا | وَمَا بَقِيَتْ إِلَّا الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ |
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا [١٨ ٨] مِنْ هَذِهِ الزِّينَةِ صَعِيدًا جُرُزًا، أَيْ مِثْلَ أَرْضٍ بَيْضَاءَ لَا نَبَاتَ فِيهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَضْرَاءَ مُعْشِبَةً، فِي إِزَالَةِ بَهْجَتِهِ وَإِمَاطَةِ حُسْنِهِ، وَإِبْطَالِ مَا بِهِ كَانَ زِينَةً مِنْ إِمَاتَةِ الْحَيَوَانِ، وَتَجْفِيفِ
وَهَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [١٠ ٢٤]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [١٨ ٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [١٨ ٤٥] أَيْ لِنَخْتَبِرَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِنَا.
وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا هُنَا لِجَعْلِ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا (وَهِيَ الِابْتِلَاءُ فِي إِحْسَانِ الْعَمَلِ) بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهَا هِيَ الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [٦٧ ١ - ٢]، وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [١١ ٧].
وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِحْسَانَ بِقَوْلِهِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» كَمَا تَقَدَّمَ.
وَهَذَا الَّذِي أَوْضَحْنَا مِنْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِيَبْتَلِيَ خَلْقَهُ، ثُمَّ يُهْلِكَ مَا عَلَيْهَا وَيَجْعَلَهُ صَعِيدًا جُرُزًا - فِيهِ أَكْبَرُ وَاعِظٍ لِلنَّاسِ، وَأَعْظَمُ زَاجِرٍ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَإِيثَارِ الْفَانِي عَلَى الْبَاقِي، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ مَاذَا تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا.
أَمْ [١٨ ٩]، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ عَنِ التَّحْقِيقِ، وَمَعْنَاهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ «بَلْ وَالْهَمْزَةِ» وَعِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِمَعْنَى «بَلْ» فَقَطْ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى: بَلْ
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَإِنِ اسْتَعْظَمَهَا النَّاسُ وَعَجِبُوا مِنْهَا، فَلَيْسَتْ شَيْئًا عَجَبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِنَا وَعَظِيمِ صُنْعِنَا، فَإِنَّ خَلْقَنَا لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَجَعْلَنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا، وَجَعْلَنَا إِيَّاهَا بَعْدَ ذَلِكَ صَعِيدًا جُرُزًا، أَعْظَمُ وَأَعْجَبُ مِمَّا فَعَلْنَا بِأَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَمِنْ كَوْنِنَا أَنَمْنَاهُمْ هَذَا الزَّمَنَ الطَّوِيلَ، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ:
مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا - إِلَى قَوْلِهِ - صَعِيدًا جُرُزًا [١٨ ٧ - ٨]، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ الْآيَةَ [١٨ ٩]، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ قِصَّتَهُمْ لَا عَجَبَ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا خَلَقْنَا مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَنْبِيهُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَمَنْ خَلَقَ الْأَعْظَمَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْأَصْغَرِ بِلَا شَكٍّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ الْآيَةَ [٤٠ ٥٧]، وَكَقَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا - إِلَى قَوْلِهِ - مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [٧٩ ٢٧ - ٣٣] كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ وَالنَّحْلِ».
وَمَنْ خَلَقَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعِظَامَ: كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا فَلَا عَجَبَ فِي إِقَامَتِهِ أَهْلَ الْكَهْفِ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ، ثُمَّ بَعْثِهِ إِيَّاهُمْ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.
وَالْكَهْفُ: النَّقْبُ الْمُتَّسِعُ فِي الْجَبَلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُ وَاسِعًا فَهُوَ غَارٌ. وَقِيلَ: كُلُّ غَارٍ فِي جَبَلٍ: كَهْفٌ. وَمَا يُرْوَى عَنْ أَنَسٍ مِنْ أَنَّ الْكَهْفَ نَفْسُ الْجَبَلِ، غَرِيبٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِـ الرَّقِيمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، قِيلَ: الرَّقِيمُ اسْمُ كَلْبِهِمْ، وَهُوَ اعْتِقَادُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ حَيْثُ يَقُولُ:
وَلَيْسَ بِهَا إِلَّا الرَّقِيمُ مُجَاوِرًا | وَصَيْدُهُمْ وَالْقَوْمُ فِي الْكَهْفِ هُمَّدُ |
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَبَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَنَّ الرَّقِيمَ مَعْنَاهُ: الْمَرْقُومُ، فَهُوَ «فَعِيلٌ» بِمَعْنَى «مَفْعُولٍ» مِنْ: رَقَمْتُ الْكِتَابَ: إِذَا كَتَبْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتَابٌ مَرْقُومٌ الْآيَةَ [٨٣ ٩، و٨٣ ٢٠]. سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ الرَّقِيمَ كِتَابٌ كَانَ عِنْدَهُمْ فِيهِ شَرْعُهُمُ الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ، أَوْ لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ كُتِبَتْ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَنْسَابُهُمْ وَقِصَّتُهُمْ وَسَبَبُ خُرُوجِهِمْ، أَوْ صَخْرَةٌ نُقِشَتْ فِيهَا أَسْمَاؤُهُمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ: طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ أُضِيفَتْ إِلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآخَرِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ طَائِفَةٌ، وَأَصْحَابَ الرَّقِيمِ طَائِفَةٌ أُخْرَى، وَأَنَّ اللَّهَ قَصَّ عَلَى نَبِيِّهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ شَيْئًا عَنْ أَصْحَابِ الرَّقِيمِ، وَخِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ هُمُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ سَقَطَتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ الَّذِي هُمْ فِيهِ، فَدَعَوُا اللَّهَ بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَهُمُ الْبَارُّ بِوَالِدَيْهِ، وَالْعَفِيفُ، وَالْمُسْتَأْجِرُ، وَقِصَّتُهُمْ مَشْهُورَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ، إِلَّا أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُرَادُ، بَعِيدٌ كَمَا تَرَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَأَسْمَاءَهُمْ، وَفِي أَيِّ مَحِلٍّ مِنَ الْأَرْضِ كَانُوا، كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِهَا لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عَجَبًا صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ شَيْئًا عَجَبًا. أَوْ آيَةً عَجَبًا.
وَقَوْلُهُ: مِنْ آيَاتِنَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ النَّحْوِ أَنَّ نَعْتَ النَّكِرَةِ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهَا صَارَ حَالًا، وَأَصْلُ الْمَعْنَى: كَانُوا عَجَبًا كَائِنًا مِنْ آيَاتِنَا، فَلَمَّا قُدِّمَ النَّعْتُ صَارَ حَالًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ صِفَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ، وَأَنَّهُمْ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ، وَأَنَّهُمْ دَعَوْا رَبَّهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ الْعَظِيمَ الشَّامِلَ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَنْهُمْ: رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [١٨ ١٠].
وَبَيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَشْيَاءَ أُخْرَى مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ ; كَقَوْلِهِ:
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، أَيْ أَعْطِنَا رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَالرَّحْمَةُ هُنَا تَشْمَلُ الرِّزْقَ وَالْهُدَى وَالْحِفْظَ مِمَّا هَرَبُوا خَائِفِينَ مِنْهُ مِنْ أَذَى قَوْمِهِمْ، وَالْمَغْفِرَةَ.
وَالْفِتْيَةُ: جَمْعُ فَتًى جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وَهُوَ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ، وَيَدُلُّ لَفْظُ الْفِتْيَةِ عَلَى قِلَّتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ شَبَابٌ لَا شِيبَ، خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ ابْنُ السَّرَّاجِ مِنْ: أَنَّ الْفِتْيَةَ اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعَ تَكْسِيرٍ، وَإِلَى كَوْنِ مِثْلِ الْفِتْيَةِ جَمْعَ تَكْسِيرٍ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ، أَشَارَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
أَفْعِلَةٌ أَفْعُلٌ ثُمَّ فِعْلَهْ | كَذَاكَ أَفْعَالٌ جُمُوعِ قِلَّةْ |
وَالثَّانِي أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: وَاجْعَلْ لَنَا بَعْضَ أَمْرِنَا ; أَيْ وَهُوَ الْبَعْضُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ مُفَارَقَةِ الْكَفَّارِ، رَشَدًا، حَتَّى نَكُونَ بِسَبَبِهِ رَاشِدِينَ مُهْتَدِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ ضَرَبَ عَلَى آذَانِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَ هَذَا الْعَدَدِ هُنَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [١٨ ٢٥].
وَضَرْبُهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ أَنَامَهُمْ، وَمَفْعُولُ «ضَرَبْنَا» مَحْذُوفٌ، أَيْ ضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ حِجَابًا مَانِعًا مِنَ السَّمَاعِ فَلَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا يُوقِظُهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَمْنَاهُمْ إِنَامَةً ثَقِيلَةً لَا تُنَبِّهُهُمْ فِيهَا الْأَصْوَاتُ.
وَقَوْلُهُ: سِنِينَ عَدَدًا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ; أَيْ ذَاتَ عَدَدٍ، أَوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ سِنِينَ مَعْدُودَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَةَ الْمُبَيِّنَةَ لِقَدْرِ عَدَدِهَا بِالسَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ فِي قَوْلِهِ: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ [١٨ ١١] عَبَّرَ بِالضَّرْبِ لِيَدُلَّ عَلَى قُوَّةِ الْمُبَاشَرَةِ وَاللُّصُوقِ وَاللُّزُومِ، وَمِنْهُ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [٢ ٦١]، وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ وَضَرَبَ الْبَعْثَ، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
ضَرَبَ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ
وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ:
وَمِنَ الْحَوَادِثِ لَا أَبَا لَكَ أَنَّنِي
ضُرِبَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِالْأَسْدَادِ
وَقَالَ آخَرُ:
إِنَّ الْمُرُوءَةَ وَالسَّمَاحَةَ وَالنَّدَى | فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ حِكَمِ بَعْثِهِ لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ بَعْدَ هَذِهِ النَّوْمَةِ الطَّوِيلَةِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ أَحْصَى لِذَلِكَ وَأَضْبَطُ لَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا عَنِ الْحِزْبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْحِزْبَيْنِ هُمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ، وَالْحِزْبَ الثَّانِي هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ بُعِثَ الْفِتْيَةُ عَلَى عَهْدِهِمْ حِينَ كَانَ عِنْدَهُمُ التَّارِيخُ بِأَمْرِ الْفِتْيَةِ، وَقِيلَ: هُمَا حِزْبَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ وَكَافِرُونَ، وَقِيلَ: هُمَا حِزْبَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُلُوكُ الَّذِينَ تَدَاوَلُوا مُلْكَ الْمَدِينَةِ حِزْبٌ، وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ حِزْبٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ.
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: أَنَّ الْحِزْبَيْنِ كِلَيْهِمَا مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [١٨ ١٩]، وَكَأَنَّ الَّذِينَ
وَقَدْ يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ رَدَّ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ لَا يُنَافِي الْعِلْمَ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ الْآيَةَ [٨ ٢٥]، ثُمَّ أَمَرَهُ بِرَدِّ الْعِلْمِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا الْآيَةَ [١٨ ٢٦].
وَقَوْلُهُ: بَعَثْنَاهُمْ أَيْ مِنْ نَوْمَتِهِمُ الطَّوِيلَةِ، وَالْبَعْثُ: التَّحْرِيكُ مِنْ سُكُونٍ، فَيَشْمَلُ بَعْثَ النَّائِمِ وَالْمَيِّتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَذْكُرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا حِكْمَةً لِشَيْءٍ فِي مَوْضِعٍ، وَيَكُونَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ حِكَمٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، فَإِنَّا نُبَيِّنُهَا، وَمَثَّلْنَا لِذَلِكَ، وَذَكَرْنَا مِنْهُ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيَّنَ مِنْ حِكَمِ بَعْثِهِمْ إِظْهَارَهُ لِلنَّاسِ: أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا، وَقَدْ بَيَّنَ لِذَلِكَ حِكَمًا أُخَرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
مِنْهَا أَنْ يَتَسَاءَلُوا عَنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ ; كَقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ الْآيَةَ [١٨ ١٩].
وَمِنْهَا إِعْلَامُ النَّاسِ أَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ حَقٌّ لِدَلَالَةِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا الْآيَةَ [١٨ ٢١].
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ الْآيَةَ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ قَبْلَ بَعْثِهِمْ، وَإِنَّمَا عَلِمَ بَعْدَ بَعْثِهِمْ، كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ الْكَفَرَةِ الْمَلَاحِدَةِ، بَلْ هُوَ جَلَّ وَعَلَا عَالِمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَا يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ وَالِابْتِلَاءِ عِلْمًا جَدِيدًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [٣ ١٥٤]، فَقَوْلُهُ:
وَإِذَا حَقَّقْتَ ذَلِكَ فَمَعْنَى لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَيْ نَعْلَمَ ذَلِكَ عِلْمًا يُظْهِرُ الْحَقِيقَةَ لِلنَّاسِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ دُونَ خَلْقِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَحْصَى فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ وَ «أَمَدًا» مَفْعُولُهُ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ: «لِمَا لَبِثُوا» مَصْدَرِيَّةٌ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ضَبَطَ أَمَدًا لِلُبْثِهِمْ فِي الْكَهْفِ.
وَمِمَّنِ اخْتَارَ أَنَّ أَحْصَى فِعْلٌ مَاضٍ: الْفَارِسِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَغَيْرُهُمْ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ أَحْصَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَ «أَمَدًا» تَمْيِيزٌ، وَمِمَّنِ اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَالتِّبْرِيزِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. وَجَوَّزَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ الْوَجْهَيْنِ.
وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ أَحْصَى فِعْلٌ مَاضٍ، قَالُوا: لَا يَصِحُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ، لِأَنَّهَا لَا يَصِحُّ بِنَاؤُهَا هِيَ وَلَا صِيغَةُ فِعْلِ التَّعَجُّبِ قِيَاسًا إِلَّا مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَ «أَحْصَى» رُبَاعِيٌّ فَلَا تُصَاغُ مِنْهُ صِيغَةُ التَّفْضِيلِ وَلَا التَّعَجُّبِ قِيَاسًا، قَالُوا: وَقَوْلُهُمْ: مَا أَعْطَاهُ وَمَا أَوْلَاهُ لِلْمَعْرُوفِ، وَأَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ، وَأَفْلَسَ مِنَ ابْنِ الْمُذَلَّقِ - شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ.
وَاحْتَجَّ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ أَيْضًا لِأَنَّ أَحْصَى لَيْسَتْ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ بِأَنَّ أَمَدًا لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَنْتَصِبَ بِـ «أَفْعَلَ» فَـ «أَفْعَلُ» لَا يَعْمَلُ، وَإِمَّا أَنْ يَنْتَصِبَ بِـ لَبِثُوا فَلَا يَسُدُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى أَنْ لَا يَكُونَ سَدِيدًا عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَقَالَ: فَإِنْ زَعَمْتَ نَصْبَهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحْصَى كَمَا أُضْمِرُ فِي قَوْلِهِ:
وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا
أَيْ نَضْرِبُ الْقَوَانِسَ - فَقَدْ أَبْعَدْتَ الْمُتَنَاوَلَ وَهُوَ قَرِيبٌ؛ حَيْثُ أَبَيْتَ أَنْ يَكُونَ أَحْصَى فِعْلًا، ثُمَّ رَجَعْتَ مُضْطَرًّا إِلَى تَقْدِيرِهِ وَإِضْمَارِهِ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَأُجِيبُ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالِفِينَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، قَالُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ لَا تُصَاغُ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ، وَلَا نُسَلِّمُ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَا تَعْمَلُ.
وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي ذَلِكَ أَنَّ فِي كَوْنِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ تُصَاغُ مِنْ «أَفْعَلَ» كَمَا
الْأَوَّلُ: جَوَازُ بِنَائِهَا مِنْ «أَفْعَلَ» مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ.
وَالثَّانِي: لَا يُبْنَى مِنْهُ مُطْلَقًا، وَمَا سُمِعَ مِنْهُ فَهُوَ شَاذٌّ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَبِالنُّدُورِ احْكُمْ لِغَيْرِ مَا ذُكِرْ | وَلَا تَقِسْ عَلَى الَّذِي مِنْهُ أُثِرْ |
الثَّالِثُ: تُصَاغُ مِنْ «أَفْعَلَ» إِذَا كَانَتْ هَمْزَتُهَا لِغَيْرِ النَّقْلِ خَاصَّةً ; كَـ «أَظْلَمَ اللَّيْلُ» وَ: «أَشْكَلَ الْأَمْرُ» لَا إِنْ كَانَتِ الْهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ فَلَا تُصَاغُ مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عُصْفُورٍ، وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ مَذْكُورَةٌ بِأَدِلَّتِهَا فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَأَفْعَلُ لَا يَعْمَلُ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ تَعْمَلُ فِي التَّمْيِيزِ بِلَا خِلَافٍ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَالْفَاعِلَ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِأَفْعَلَا | مُفَضِّلًا كَأَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلَا |
وَذَهَبَ الطَّبَرَيُّ إِلَى أَنَّ: أَمَدًا مَنْصُوبٌ بِـ لَبِثُوا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ.
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: قَدْ يَتَّجِهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأَمَدَ هُوَ الْغَايَةُ، وَيَكُونُ عِبَارَةً عَنِ الْمُدَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُدَّةَ غَايَةٌ. وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَأَمَدًا مُنْتَصِبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ ; أَيْ لِمَا لَبِثُوا مِنْ أَمَدٍ، أَيْ مُدَّةٍ، وَيَصِيرُ «مِنْ أَمَدٍ» تَفْسِيرًا لِمَا انْبَهَمَ فِي لَفْظِ مَا لَبِثُوا كَقَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [٢ ١٠٦]، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [٣٥ ٢]، وَلَمَّا سَقَطَ الْحَرْفُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: إِطْلَاقُ الْأَمَدِ عَلَى الْغَايَةِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ، وَأَعْرَبُوا قَوْلَ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ:
إِلَّا لِمِثْلِكَ أَوْ مَنْ أَنْتَ سَابِقُهُ | سَبْقَ الْجَوَادِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَدِ |
فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْحَيِّ حَيًّا مُصَبِّحًا | وَلَا مِثْلَنَا يَوْمَ الْتَقَيْنَا فَوَارِسَا |
أَكَرَّ وَأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ | وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا |
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ هَذَا أَجْرَى عِنْدِي عَلَى الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ فِيهَا مَعْنَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِيهَا، فَلَا مَانِعَ مِنْ عَمَلِهَا عَمَلَهُ ; أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا، مَعْنَاهُ: يَزِيدُ ضَرْبُنَا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسِ عَلَى ضَرْبِ غَيْرِنَا، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَا فَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ أَمَدًا مَنْصُوبٌ بِـ أَحْصَى نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَحْصَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ أَعْرَبُوا أَمَدًا بِأَنَّهُ تَمْيِيزٌ.
تَنْبِيهٌ
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ رَفْعِ أَيُّ مِنْ قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى الْآيَةَ، مَعَ أَنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ لِلْعُلَمَاءَ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ، مِنْهَا، أَنَّ أَيُّ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَالِاسْتِفْهَامُ يُعَلِّقُ الْفِعْلَ عَنْ مَفْعُولَيْهِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُعَلِّقُ الْفِعْلَ الْقَلْبِيَّ عَنْ مَفْعُولَيْهِ:
وَإِنْ وَلَا لَامُ ابْتِدَاءٍ أَوْ قَسَمْ | كَذَا وَالِاسْتِفْهَامُ ذَا لَهُ انْحَتَمْ |
أَيُّ كَمَا وَأُعْرِبَتْ مَا لَمْ تُضَفْ | وَصَدْرُ وَصْلِهَا ضَمِيرٌ انْحَذَفْ |
فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَائِدَةٍ مُهِمَّةٍ فِي مَعْرِفَةِ النَّاسِ لِلْحِزْبِ الْمُحْصِي أَمَدَ اللُّبْثِ مِنْ غَيْرِهِ، حَتَّى يَكُونَ عِلَّةً غَائِيَّةً لِقَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ الْآيَةَ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ مُهِمَّةٍ فِي مُسَاءَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، حَتَّى يَكُونَ عِلَّةً غَائِيَّةً لِقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ؟.
فَالْجَوَابُ أَنَّا لَمْ نَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ إِعْلَامِ النَّاسِ بِالْحِزْبِ الَّذِي هُوَ أَحْصَى أَمَدًا لِمَا لَبِثُوا، وَمُسَاءَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنْ ذَلِكَ، يَلْزَمُهُ أَنْ يَظْهَرَ لِلنَّاسِ حَقِيقَةُ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ ضَرَبَ عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ ثَلَاثَمِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا، ثُمَّ بَعَثَهُمْ أَحْيَاءَ طَرِيَّةً أَبْدَانُهُمْ، لَمْ يَتَغَيَّرْ لَهُمْ حَالٌ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ صُنْعِهِ جَلَّ وَعَلَا الدَّالِّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَعَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِاعْتِبَارِ هَذَا اللَّازِمِ جَعَلَ مَا ذَكَرْنَا عِلَّةً غَائِيَّةً، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
[١٨ ١٣]. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقُصُّ عَلَيْهِ نَبَأَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِالْحَقِّ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ مُؤَكِّدًا لَهُ أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا زَادَهُمْ هُدًى.
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِرَبِّهِ وَأَطَاعَهُ زَادَهُ رَبُّهُ هُدًى ; لِأَنَّ الطَّاعَةَ سَبَبٌ لِلْمَزِيدِ مِنَ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ.
وَهَذَا الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [٤٧ ١٧]، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ، مَفْهُومٌ مِنْهَا أَنَّهُ يَنْقُصُ أَيْضًا، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهَا الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً صَرِيحَةً لَا شَكَّ فِيهَا، فَلَا وَجْهَ مَعَهَا لِلِاخْتِلَافِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا.
أَيْ ثَبَّتْنَا قُلُوبَهُمْ وَقَوَّيْنَاهَا عَلَى الصَّبْرِ، حَتَّى لَا يَجْزَعُوا وَلَا يَخَافُوا مِنْ أَنْ يَصْدَعُوا بِالْحَقِّ، وَيَصْبِرُوا عَلَى فِرَاقِ الْأَهْلِ وَالنَّعِيمِ، وَالْفِرَارِ بِالدِّينِ فِي غَارٍ فِي جَبَلٍ لَا أَنِيسَ بِهِ، وَلَا مَاءَ وَلَا طَعَامَ.
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ كَانَ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ تَعَالَى يُقَوِّي قَلْبَهُ، وَيُثَبِّتُهُ عَلَى تَحَمُّلِ الشَّدَائِدِ، وَالصَّبْرِ الْجَمِيلِ.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى وَقَائِعَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ بَدْرٍ مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [٨ ١١ - ١٢]، وَكَقَوْلِهِ فِي أُمِّ مُوسَى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٢٨ ١٠].
وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِذْ قَامُوا أَيْ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ بِلَادِهِمْ، وَهُوَ مَلِكٌ جَبَّارٌ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، يَزْعُمُونَ أَنَّ اسْمَهُ: دِقْيَانُوسُ.
وَقِصَّتُهُمْ مَذْكُورَةٌ فِي جَمِيعِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، أَعْرَضْنَا عَنْهَا لِأَنَّهَا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ. وَفِي قِيَامِهِمُ الْمَذْكُورِ هُنَا أَقْوَالٌ أُخَرُ كَثِيرَةٌ، وَالْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ: «إِذْ» هُوَ «رَبَطْنَا» عَلَى قُلُوبِهِمْ حِينَ قَامُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا
وَأَصْلُ مَادَّةِ الشَّطَطِ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَمِنْهُ أَشَطَّ فِي السَّوْمِ: إِذَا جَاوَزَ الْحَدَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُشْطِطْ الْآيَةَ [٣٨ ٢٢]، أَوِ الْبُعْدُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
تَشِطُّ غَدًا دَارُ جِيرَانِنَا | وَلَلدَّارُ بَعْدَ غَدٍ أَبْعَدُ |
أَتَنْتَهُونَ وَإِنْ يَنْهَى ذَوِي الشَّطَطِ | كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفُتُلُ |
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٢ ٢١ - ٢٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [١٦ ١٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [١٣ ١٦]، أَيِ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [٧ ١٩١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ الْآيَةَ [٢٥ ٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، أَيْ إِذَا دَعَوْنَا مِنْ
قَوْلُهُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ.
" لَوْلَا " فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلتَّحْضِيضِ، وَهُوَ الطَّلَبُ بِحَثٍّ وَشِدَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الطَّلَبِ التَّعْجِيزُ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ عَلَى جَوَازِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ الْبَيِّنِ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ تَعْجِيزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِحُجَّةٍ عَلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَإِبْطَالِ حُجَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شِرْكِهِمْ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [٦ ١٤٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٤٦ ٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [٤٣ ٢١]، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [٣٠ ٣٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا [٣٥ ٤٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [٢٣ ١١٧]، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ فِي شِرْكِهِمْ إِلَّا تَقْلِيدَ آبَائِهِمِ الضَّالِّينَ، كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: " هَؤُلَاءِ " مُبْتَدَأٌ، وَ " قَوْمًا " قِيلَ عَطْفُ بَيَانٍ، وَالْخَبَرُ جُمْلَةُ " اتَّخَذُوا "، وَقِيلَ " قَوْمُنَا " خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَجُمْلَةُ " اتَّخَذُوا فِي مَحَلِّ حَالٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا.
أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بِادِّعَاءِ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا، كَمَا افْتَرَاهُ عَلَيْهِ قَوْمُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، كَمَا قَالَ عَنْهُمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً الْآيَةَ [١٨ ١٥].
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ افْتِرَاءَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ بِجَعْلِ الشُّرَكَاءِ لَهُ هُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ - جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ الْآيَةَ [٣٩ ٣٢]، وَقَوْلِهِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا.
«إِذْ» فِي قَوْلِهِ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ لِلتَّعْلِيلِ، عَلَى التَّحْقِيقِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: وَلِأَجْلِ اعْتِزَالِكُمْ قَوْمَكُمُ الْكُفَّارَ وَمَا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَاتَّخِذُوا الْكَهْفَ مَأْوًى وَمَكَانَ اعْتِصَامٍ، يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اعْتِزَالَ الْمُؤْمِنِ قَوْمَهُ الْكُفَّارَ وَمَعْبُودِيهِمْ مِنْ أَسْبَابِ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ وَرَحْمَتِهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [١٩ ٤٨ - ٥٠] وَاعْتِزَالُهُمْ إِيَّاهُمْ هُوَ مُجَانَبَتُهُمْ لَهُمْ، وَفِرَارُهُمْ مِنْهُمْ بِدِينِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، اسْمُ مَوْصُولٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: اعْتَزَلْتُمُوهُمْ، أَيْ وَاعْتَزَلْتُمْ مَعْبُودِيهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقِيلَ: «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ، أَيِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَاعْتَزَلْتُمْ عِبَادَتَهُمْ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهَ، قِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَالْأَصْنَامَ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ; بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْبُدُونَ إِلَّا الْأَصْنَامَ، وَلَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْبُدُونَهُ.
وَقَوْلُهُ: مِرفَقًا أَيْ مَا تَرْتَفِقُونَ بِهِ، أَيْ تَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ مَعَ تَفْخِيمِ الرَّاءِ، وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَتَرْقِيقِ الرَّاءِ، وَهُمَا قِرَاءَتَانِ وَلُغَتَانِ فِي مَا يُرْتَفَقُ بِهِ، وَفِي عُضْوِ الْإِنْسَانِ الْمَعْرُوفِ، وَأَنْكَرَ الْكِسَائِيُّ فِي «الْمِرْفَقِ» بِمَعْنَى عُضْوِ الْإِنْسَانِ فَتْحَ الْمِيمِ وَكَسْرَ الْفَاءِ، وَقَالَ: هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَلَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَزَعَمَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ بِمَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ، أَيْ يُهَيِّئْ لَكُمْ بَدَلًا مِنْ «أَمْرِكُمْ» الصَّعْبِ مِرْفَقًا: وَعَلَى هَذَا الَّذِي زَعَمَ غَايَةٌ ; كَقَوْلِهِ
فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً | مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طَهَيَانِ |
وَمَعْنَى: يَنْشُرْ لَكُمْ: يَبْسُطُ لَكُمْ: كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ الْآيَةَ [٤٢ ٢٨].
وَقَوْلُهُ: وَيُهَيِّئْ ; أَيْ يُيَسِّرْ وَيُقَرِّبْ وَيُسَهِّلْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونَ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَفِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ أَحَدِهِمَا وَعَدَمِ صِحَّةِ الْآخَرِ.
أَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي تَدُلُّ الْقَرِينَةُ فِي الْآيَةِ عَلَى خِلَافِهِ، فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ كَانُوا فِي زَاوِيَةٍ مِنَ الْكَهْفِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّمْسِ حَوَاجِزُ طَبِيعِيَّةٌ مِنْ نَفْسِ الْكَهْفِ، تَقِيهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُ تَفْصِيلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي تَدُلُّ الْقَرِينَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّتِهِ، فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ كَانُوا فِي فَجْوَةٍ مِنَ الْكَهْفِ عَلَى سَمْتٍ تُصِيبُهُ الشَّمْسُ وَتُقَابِلُهُ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ مَنَعَ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ خَرْقِ الْعَادَةِ، كَرَامَةً لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ، الَّذِينَ فَرُّوا بِدِينِهِمْ طَاعَةً لِرَبِّهِمْ جَلَّ وَعَلَا.
وَالْقَرِينَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ [١٨ ١٧]، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مُعْتَادًا مَأْلُوفًا، وَلَيْسَ فِيهِ غَرَابَةٌ حَتَّى يُقَالَ فِيهِ: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَشْهَدُ لَهُ الْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ ; فَمَعْنَى تَزَاوُرِ الشَّمْسِ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ عِنْدَ طُلُوعِهَا، وَقَرْضِهَا إِيَّاهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ عِنْدَ غُرُوبِهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ يُقَلِّصُ ضَوْءَهَا عَنْهُمْ، وَيُبْعِدُهُ إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ عِنْدَ الطُّلُوعِ، وَإِلَى جِهَةِ الشِّمَالِ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ وَضْعِ الْكَهْفِ، وَجَزَمَ
وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَابُ الْغَارِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرْقِ لَمَا دَخَلَ إِلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ لَمَا دَخَلَ إِلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَلَا عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَا تَزَاوَرَ الْفَيْءُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَوْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ لَمَا دَخَلَتْهُ وَقْتَ الطُّلُوعِ، بَلْ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ تَزَلْ فِيهِ إِلَى الْغُرُوبِ، فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ قَالُوا إِنَّ بَابَ الْكَهْفِ كَانَ مَفْتُوحًا إِلَى جَانِبِ الشِّمَالِ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ كَانَتْ عَلَى يَمِينِ الْكَهْفِ، وَإِذَا غَرَبَتْ كَانَتْ عَلَى شِمَالِهِ، فَضَوْءُ الشَّمْسِ مَا كَانَ يَصِلُ إِلَى دَاخِلِ الْكَهْفِ، وَكَانَ الْهَوَاءُ الطَّيِّبُ وَالنَّسِيمُ الْمُوَافِقُ يَصِلُ إِلَيْهِ، انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَهَذِهِ الصِّفَةُ مَعَ الشَّمْسِ تَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ حَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ، وَحَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ الدَّبُورِ وَهُمْ فِي زَاوِيَةٍ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ: كَانَ بَابُ الْكَهْفِ يَنْظُرُ إِلَى بَنَاتِ نَعْشٍ، وَعَلَى هَذَا كَانَ أَعْلَى الْكَهْفِ مَسْتُورًا مِنَ الْمَطَرِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ كَهْفُهُمْ مُسْتَقْبِلَ بَنَاتِ نَعْشٍ لَا تَدْخُلُهُ الشَّمْسُ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَلَا عِنْدَ الْغُرُوبِ، اخْتَارَ اللَّهُ لَهُمْ مَضْجَعًا مُتَّسِعًا فِي مَقْنَأَةٍ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ فَتُؤْذِيهِمْ، انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ. وَالْمَقْنَأَةُ: الْمَكَانُ الَّذِي لَا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنْسَبُ لِلْقَرِينَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا.
وَمِمَّنِ اعْتَمَدَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِأَجْلِ الْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَةِ الزَّجَّاجُ، وَمَالَ إِلَيْهِ بَعْضَ الْمَيْلِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَالشَّوْكَانِيُّ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا، لِتَوْجِيهِهِمَا قَوْلَ الزَّجَّاجِ الْمَذْكُورَ بِقَرِينَةِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ.
أَلْبَسْتَ قَوْمَكَ مَخْزَاةً وَمَنْقَصَةً | حَتَّى أُبِيحُوا وَحَلُّوا فَجْوَةَ الدَّارِ |
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَجْوَةَ: هِيَ الْمُتَّسَعُ. وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْهُ الْبَيْتُ الْمَذْكُورُ، وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَنَحْنُ مَلَأْنَا كُلَّ وَادٍ وَفَجْوَةٍ | رِجَالًا وَخَيْلًا غَيْرَ مِيلٍ وَلَا عُزْلِ |
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ، أَيْ تَرَى أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَمِيلُ عَلَى كَهْفِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ لَوْ رَأَيْتَهُمْ لَرَأَيْتَهُمْ كَذَلِكَ، لَا أَنَّ الْمُخَاطَبَ رَآهُمْ بِالْفِعْلِ، كَمَا يَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا الْآيَةَ [١٨ ١٨]، وَالْخِطَابُ بِمِثْلِ هَذَا مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَأَصْلُ مَادَّةِ التَّزَاوُرِ: الْمَيْلُ، فَمَعْنَى «تَزَاوَرُ» : تَمِيلُ. وَالزُّورُ: الْمَيْلُ، وَمِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ، لِأَنَّهَا مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ. وَمِنْهُ الزِّيَارَةُ ; لِأَنَّ الزَّائِرَ يَمِيلُ إِلَى الْمَزُورِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
فَازْوَرَّ مِنْ وَقْعَ الْقَنَا بِلَبَانِهِ | وَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ |
وَخُفِّضَ عَنِّي الصَّوْتُ أَقْبَلْتُ مِشْيَةَ الْ | حُبَابِ وَشَخْصِي خَشْيَةَ الْحَيِّ أَزْوَرُ |
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ، مِنَ الْقَرْضِ بِمَعْنَى الْقَطِيعَةِ وَالصَّرْمِ ; أَيْ
نَظَرْتُ بِجَرْعَاءِ السَّبِيَّةِ نَظْرَةً... ضُحًى وَسَوَادُ الْعَيْنِ فِي الْمَاءِ شَامِسُ
إِلَى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أَقْوَازَ مُشْرِفٍ... شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنَّ الْفَوَارِسُ
فَقَوْلُهُ: «يَقْرِضْنَ أَقْوَازَ مُشْرِفٍ»، أَيْ يَقْطَعْنَهَا وَيُبْعِدْنَهَا نَاحِيَةَ الشِّمَالِ، وَعَنْ أَيْمَانِهِنَّ الْفَوَارِسُ، وَهُوَ مَوْضِعٌ أَوْ رِمَالُ الدَّهْنَاءِ، وَالْأَقْوَازُ: جَمْعُ قَوْزٍ - بِالْفَتْحِ - وَهُوَ الْعَالِي مِنَ الرَّمْلِ كَأَنَّهُ جَبَلٌ، وَيُرْوَى «أَجْوَازَ مُشْرِفٍ» جَمْعُ جَوْزٍ، مِنَ الْمَجَازِ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: تَقْرِضُهُمْ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى تَقْرِضُهُمْ: تُقْطِعُهُمْ مِنْ ضَوْئِهَا شَيْئًا ثُمَّ يَزُولُ سَرِيعًا كَالْقَرْضِ يُسْتَرَدُّ، وَمُرَادُ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الشَّمْسَ تَمِيلُ عَنْهُمْ بِالْغَدَاةِ، وَتُصِيبُهُمْ بِالْعَشِيِّ إِصَابَةً خَفِيفَةً، بِقَدْرِ مَا يَطِيبُ لَهُمْ هَوَاءُ الْمَكَانِ وَلَا يَتَعَفَّنُ.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: وَلَوْ كَانَ مِنَ الْقَرْضِ الَّذِي يُعْطَى ثُمَّ يُسْتَرَدُّ لَكَانَ الْفِعْلُ رُبَاعِيًّا، فَتَكُونُ التَّاءُ فِي قَوْلِهِ: «تَقْرِضُهُمْ» مَضْمُومَةً، لَكِنْ دَلَّ فَتْحُ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ «تَقْرِضُهُمْ» عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقَرْضِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ، أَيْ تَقْطَعُ لَهُمْ مِنْ ضَوْئِهَا شَيْئًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصَّوَابَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْفَجْوَةَ: الْمُتَّسَعُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ، فِيهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ سَبْعِيَّاتٍ:
قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ الشَّامِيُّ «تَزْوَرُّ» بِإِسْكَانِ الزَّايِ وَإِسْقَاطِ الْأَلِفِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، عَلَى وَزْنِ تَحْمَرُّ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الِازْوِرَارِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ ; كَقَوْلِ عَنْتَرَةَ الْمُتَقَدِّمِ:
فَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ الْقَنَا..............
الْبَيْتَ
وَقَرَأَهُ الْكُوفِيُّونَ وَهُمْ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالزَّايِ الْمُخَفَّفَةِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَأَصْلُهُ «تَتَزَاوَرُ» فَحُذِفَتْ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتَدَى قَدْ يُقْتَصَرُ... فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنَ الْعِبَرُ
وَقَرَأَهُ نَافِعٌ الْمَدَنِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ وَأَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِيُّ: «تَزَّاوَرُ» بِتَشْدِيدِ الزَّايِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَأَصْلُهُ «تَتَزَاوَرُ» أُدْغِمَتْ فِيهِ التَّاءُ فِي الزَّايِ، وَعَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ (أَعْنِي قِرَاءَةَ حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقِرَاءَةَ إِدْغَامِهَا فِي الزَّايِ) فَهُوَ مِنَ التَّزَاوُرِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ أَيْضًا
وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي الْكَهْفِ حَوَاجِزَ طَبِيعِيَّةً تَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الشَّمْسِ بِحَسَبِ وَضْعِ الْكَهْفِ، فَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِهِمْ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ هِدَايَتِهِمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ بَيْنِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِيوَائِهِمْ إِلَى ذَلِكَ الْكَهْفِ، وَحِمَايَتِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ إِلَى آخَرِ حَدِيثِهِمْ - مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. وَأَصْلُ الْآيَةِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ «أَيَيَةٍ» بِثَلَاثِ فَتَحَاتٍ، أُبْدِلَتْ فِيهِ الْيَاءُ الْأُولَى أَلِفًا، وَالْغَالِبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مُوجِبَا إِعْلَالٍ كَانَ الْإِعْلَالُ فِي الْأَخِيرِ ; لِأَنَّ التَّغَيُّرَ عَادَةً أَكْثَرُ فِي الْأَوَاخِرِ، كَمَا فِي طَوَى وَنَوَى، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهُنَا أُعِلَّ الْأَوَّلُ عَلَى خِلَافِ الْأَغْلَبِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ لِحَرْفَيْنِ ذَا الِاعْلَالُ اسْتُحِقْ | صُحِّحَ أَوَّلٌ وَعَكْسٌ قَدْ يَحِقْ |
بِآيَةِ مَا قَالَتْ غَدَاةَ لَقِيتُهَا | بِمِدْفَعِ أَكْنَانٍ أَهَذَا الْمُشَهَّرُ |
أَلِكْنِي إِلَيْهَا بِالسَّلَامِ فَإِنَّهُ | يُشَهَّرُ إِلْمَامِي بِهَا وَيُنَكَّرُ |
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا | لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ |
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبِينُهُ | وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ |
خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مِثْلَنَا | بِآيَاتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلَا |
وَأَمَّا إِطْلَاقُهَا الثَّانِي فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ إِطْلَاقُهَا عَلَى الْآيَةِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ الْآيَةَ [٦٥ ١١] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْآيَةُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ قِيلَ: هِيَ مِنَ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ لُغَةً، لِأَنَّهَا عَلَامَاتٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا، أَوْ أَنَّ فِيهَا عَلَامَاتٍ عَلَى ابْتِدَائِهَا وَانْتِهَائِهَا.
وَقِيلَ: مِنَ الْآيَةِ، بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، لِاشْتِمَالِ الْآيَةِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى طَائِفَةٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا.
بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْهُدَى وَالْإِضْلَالَ بِيَدِهِ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، فَمَنْ هَدَاهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا الْآيَةَ [١٧ ٩٧]، وَقَوْلِهِ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [٧ ١٧٨]، وَقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [٢٨ ٥٦]، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا الْآيَةَ [٥ ٤١]، وَقَوْلِهِ: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [١٦ ٣٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [٦ ١٢٥] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ: بُطْلَانُ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ، أَنَّ الْعَبْدَ مُسْتَقِلٌّ بِعَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ بَلْ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ، سُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْ أَنْ يَقَعَ فِي مُلْكِهِ شَيْءٌ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ! وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا! وَسَيَأْتِي بَسْطُ
وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَيْضًا فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «الشَّمْسِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [٩١ ٨]، وَقَوْلِهِ: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [١٨ ١٧]، أَيْ لَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ سَبَبٌ لِلْمُوَالَاةِ يُرْشِدُهُ إِلَى الصَّوَابِ وَالْهُدَى، أَيْ لَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَقَوْلُهُ: فَهُوَ الْمُهْتَدِ قَرَأَهُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ دُونَ الْوَقْفِ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو، وَبَقِيَّةُ السَّبْعَةِ قَرَءُوهُ بِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْحَالَيْنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ.
الْحُسْبَانُ بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَالْأَيْقَاظُ: جَمْعُ يَقِظٍ - بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّهَا - وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
فَلَمَّا رَأَتْ مَنْ قَدْ تَنَبَّهَ مِنْهُمُ | وَأَيْقَاظَهُمْ قَالَتْ أَشِرْ كَيْفَ تَأْمُرُ |
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَتَحْسَبُهُمْ، قَرَأَهُ بِفَتْحِ السِّينِ عَلَى الْقِيَاسِ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، وَقَرَأَهُ بِكَسْرِ السِّينِ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ، وَهُمَا قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ، وَلُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَالْفَتْحُ أَقْيَسُ وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ
، اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِـ «الْوَصِيدِ»، فَقِيلَ: هُوَ فِنَاءٌ لِلْبَيْتِ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقِيلَ الْوَصِيدُ: الْبَابُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقِيلَ: الْوَصِيدُ الْعَتَبَةُ، وَقِيلَ الصَّعِيدُ، وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ أَنَّ الْوَصِيدَ هُوَ الْبَابُ، وَيُقَالُ لَهُ «أَصِيدٌ» أَيْضًا ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ [١٠٤ ٨]، أَيْ مُغْلَقَةٌ مُطَبَّقَةٌ، وَذَلِكَ بِإِغْلَاقِ كُلِّ وَصِيدٍ أَوْ أَصِيدٍ، وَهُوَ الْبَابُ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَنَظِيرُ الْآيَةِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَحِنُّ إِلَى أَجْبَالِ مَكَّةَ نَاقَتِي | وَمِنْ دُونِهَا أَبْوَابُ صَنْعَاءَ مُؤْصَدَةْ |
إِنَّ فِي الْقَصْرِ لَوْ دَخَلْنَا غَزَالًا | مُصَفَّقًا مُؤْصَدًا عَلَيْهِ الْحِجَابُ |
وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ الْوَصِيدَ عَلَى الْبَابِ قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْعَبْسِيِّ، وَقِيلَ زُهَيْرٌ:
بِأَرْضٍ فَضَاءٍ لَا يُسَدَّ وَصَيْدُهَا | عَلَيَّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرِ |
وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْوَصِيدُ هُوَ الْبَابَ فِي الْآيَةِ، وَالْكَهْفُ غَارٌ فِي جَبَلٍ لَا بَابَ لَهُ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْبَابَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَدْخَلِ الَّذِي يُدْخَلُ لِلشَّيْءِ مِنْهُ ; فَلَا مَانِعَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَدْخَلِ إِلَى الْكَهْفِ بَابًا، وَمَنْ قَالَ: الْوَصِيدُ: الْفِنَاءُ، لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ فِنَاءَ الْكَهْفِ هُوَ بَابُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا هَذَا الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ: أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا وَتَكُونَ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلْبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَجُلٌ مِنْهُمْ لَا كَلْبٌ حَقِيقِيٌّ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِبَعْضِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ، كَقِرَاءَةِ «وَكَالِبُهُمِ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ»، وَقِرَاءَةِ «وَكَالِئُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ».
وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ قَرِينَةٌ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ ; لِأَنَّ بَسْطَ الذِّرَاعَيْنِ مَعْرُوفٌ مِنْ صِفَاتِ الْكَلْبِ الْحَقِيقِيِّ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ»، وَهَذَا الْمَعْنَى مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَهُوَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَلْبٌ حَقِيقِيٌّ، وَقِرَاءَةُ «وَكَالِئُهُمْ» بِالْهَمْزَةِ لَا تُنَافِي كَوْنَهُ كَلْبًا ; لِأَنَّ الْكَلْبَ يَحْفَظُ أَهْلَهُ وَيَحْرُسُهُمْ، وَالْكَلَاءَةُ: الْحِفْظُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ عَمَلِ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ «بَاسِطٌ» فِي مَفْعُولِهِ الَّذِي هُوَ «ذِرَاعَيْهِ» وَالْمُقَرَّرُ فِي النَّحْوِ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ صِلَةَ «الْ» لَا يَعْمَلُ إِلَّا إِذَا كَانَ وَاقِعًا فِي الْحَالِ أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ؟
وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي كِتَابِهِ هَذَا الْكَلْبَ، وَكَوْنَهُ بَاسِطًا ذِرَاعَيْهِ بِوَصِيدِ كَهْفِهِمْ فِي مَعْرِضِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِمْ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صُحْبَةَ الْأَخْيَارِ عَظِيمَةُ الْفَائِدَةِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَشَمَلَتْ كَلْبَهُمْ بَرَكَتُهُمْ، فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النَّوْمِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَهَذَا فَائِدَةُ صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ، فَإِنَّهُ صَارَ لِهَذَا الْكَلْبِ ذِكْرٌ وَخَبَرٌ وَشَأْنٌ. اهـ.
وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.
وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ صُحْبَةَ الْأَشْرَارِ فِيهَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ، كَمَا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ» فِي قَوْلِهِ: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [٣٧ ٥١]- إِلَى قَوْلِهِ - قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ الْآيَةَ [٣٧ ٥٦ ٥٧].
وَمَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي اسْمِ كَلْبِهِمْ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: اسْمُهُ قِطْمِيرٌ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: اسْمُهُ حُمْرَانُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ نُطِلْ بِهِ الْكَلَامَ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ.
فَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لَمْ يُبَيِّنْهَا اللَّهُ لَنَا وَلَا رَسُولُهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي بَيَانِهَا شَيْءٌ، وَالْبَحْثُ عَنْهَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ.
وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يُطْنِبُونَ فِي ذِكْرِ الْأَقْوَالِ فِيهَا بِدُونِ عِلْمٍ وَلَا جَدْوَى، وَنَحْنُ نُعْرِضُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ دَائِمًا، كَلَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَاسْمِهِ، وَكَالْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنْ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَاسْمِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ مُوسَى قَتْلَهُ، وَكَخَشَبِ سَفِينَةِ نُوحٍ مِنْ أَيِّ شَجَرٍ هُوَ، وَكَمْ طُولُ السَّفِينَةِ وَعَرْضُهَا، وَكَمْ فِيهَا مِنَ الطَّبَقَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّحْقِيقِ فِيهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا الْآيَةَ [٦ ١٤٥] حُكْمَ أَكْلِ لَحْمِ الْكَلْبِ وَبَيْعِهِ، وَأَخْذِ قِيمَتِهِ إِنْ قُتِلَ، وَمَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ مِنْهَا وَمَا لَا يَجُوزُ، وَأَوْضَحْنَا الْأَدِلَّةَ فِي ذَلِكَ وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ
، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ بَعَثَ
وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا قَدْرَ الْمُدَّةِ الَّتِي تَسَاءَلُوا عَنْهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ بِحِسَابِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، وَثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعُ سِنِينَ بِحِسَابِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [١٨ ٢٥] كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ.
فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ " أَزْكَى " قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ.
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ " أَزْكَى " أَطْيَبُ لِكَوْنِهِ حَلَالًا لَيْسَ مِمَّا فِيهِ حَرَامٌ وَلَا شُبْهَةٌ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ أَزْكَى أَنَّهُ أَكْثَرُ، كَقَوْلِهِمْ: زَكَا الزَّرْعُ: إِذَا كَثُرَ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَبَائِلُنَا سَبْعٌ وَأَنْتُمْ ثَلَاثَةٌ | وَلَلسَّبْعُ أَزْكَى مِنْ ثَلَاثٍ وَأَطْيَبُ |
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ لَهُ الْقُرْآنُ ; لِأَنَّ أَكْلَ الْحَلَالِ وَالْعَمَلَ الصَّالِحِ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَمَرَ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا الْآيَةَ [٢٣ ٥١]، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [٢ ١٧٢]، وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ مَادَّةِ الزَّكَاةِ عَلَى الطَّهَارَةِ ; كَقَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى الْآيَةَ [١٧ ١٤]، وَقَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا الْآيَةَ [٩١ ٩]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [٢٤ ٢١]، وَقَوْلِهِ: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [١٨ ٨١]، وَقَوْلِهِ: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ الْآيَةَ [١٨ ٧٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
فَالزَّكَاةُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا: يُرَادُ بِهَا الطَّهَارَةُ مِنْ أَدْنَاسِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، فَاللَّائِقُ بِحَالِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ الْأَخْيَارِ الْمُتَّقِينَ أَنْ يَكُونَ مَطْلَبُهُمْ فِي مَأْكَلِهِمُ الْحَلْبَةَ وَالطَّهَارَةَ، لَا الْكَثْرَةَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ عَهْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ فِيهَا مُؤْمِنُونَ يُخْفُونَ إِيمَانَهُمْ،
وَالْوَرِقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ [١٨ ١٩] الْفِضَّةُ، وَأَخَذَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَسَائِلَ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَوَازُ الْوَكَالَةِ وَصِحَّتُهَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى تَوْكِيلِهِمْ لِهَذَا الْمَبْعُوثِ لِشِرَاءِ الطَّعَامِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ مُطْلَقًا بَلْ مَعَ التَّقِيَّةِ وَالْخَوْفِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ خَرَجُوا كُلُّهُمْ لِشِرَاءِ حَاجَتِهِمْ لَعَلِمَ بِهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ فِي ظَنِّهِمْ فَهُمْ مَعْذُورُونَ، فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَوْكِيلِ الْمَعْذُورِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي التَّوْكِيلِ عَلَى الْخِصَامِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَأَنَّ سَحْنُونًا تَلَقَّاهُ مِنْ أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ، فَحَكَمَ بِهِ أَيَّامَ قَضَائِهِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَهْلِ الظُّلْمِ وَالْجَبَرُوتِ إِنْصَافًا مِنْهُمْ وَإِذْلَالًا لَهُمْ، وَهُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ مَعُونَةٌ وَلَا تَكُونُ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ. اهـ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ هَذَا حَسَنٌ، فَأَمَّا أَهْلُ الدِّينِ وَالْفَضْلِ فَلَهُمْ أَنْ يُوَكِّلُوا وَإِنْ كَانُوا حَاضِرِينَ أَصِحَّاءَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ جَوَازِ الْوَكَالَةِ لِلشَّاهِدِ الصَّحِيحِ، مَا أَخْرَجَهُ الصَّحِيحَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِنٌّ مِنَ الْإِبِلِ، فَجَاءَ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: " أَعْطُوهُ " فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا إِلَّا سِنًّا فَوْقَهَا، فَقَالَ " أَعْطُوهُ " فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى اللَّهُ لَكَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً " لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ صِحَّتِهِ عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِ الْحَاضِرِ الصَّحِيحِ الْبَدَنِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُعْطُوا عَنْهُ السِّنَّ الَّتِي عَلَيْهِ وَذَلِكَ تَوْكِيلٌ مِنْهُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرِيضًا وَلَا مُسَافِرًا، وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَحْنُونٍ فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْحَاضِرِ الصَّحِيحِ إِلَّا بِرِضَا خَصْمِهِ "، وَهَذَا الْحَدِيثُ خِلَافُ قَوْلِهِمَا. اهـ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.
وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ ; لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَسَحْنُونًا إِنَّمَا خَالَفَا فِي الْوَكَالَةِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْخَصْمِ فَقَطْ، وَلَمْ يُخَالِفَا فِي الْوَكَالَةِ فِي دَفْعِ الْحَقِّ.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ كُلَّهَا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ وَصِحَّتِهَا فِي الْجُمْلَةِ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا الْآيَةَ [٩ ٦٠]، فَإِنَّ عَمَلَهُمْ عَلَيْهَا تَوْكِيلٌ لَهُمْ عَلَى أَخْذِهَا.
وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي الْآيَةَ [١٢ ٩٣]، فَإِنَّهُ تَوْكِيلٌ لَهُمْ مِنْ يُوسُفَ عَلَى إِلْقَائِهِمْ قَمِيصَهُ عَلَى وَجْهِ أَبِيهِ لِيَرْتَدَّ بَصِيرًا.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ الْآيَةَ [١٢ ٥٥]، فَإِنَّهُ تَوْكِيلٌ عَلَى مَا فِي خَزَائِنِ الْأَرْضِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ دَلَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ وَصِحَّتِهَا، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ، الدَّالِّ عَلَى التَّوْكِيلِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ لَهُ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ: فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، فَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِيهِ التَّوْكِيلُ عَلَى الشِّرَاءِ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ. فَقَالَ: " إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ لَهُ وَكِيلًا.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
" وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا "، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي التَّوْكِيلِ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلُحُومِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا، وَأَلَّا أُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ
وَمِنْهَا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ غَنَمًا يُقَسِّمُهَا عَلَى أَصْحَابِهِ فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ " ضَحِّ أَنْتَ بِهِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَفِيهِ الْوَكَالَةُ فِي تَقْسِيمِ الضَّحَايَا، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا طَرَفًا كَافِيًا مِنْهَا، ذَكَرْنَا بَعْضَهُ هُنَا.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ مَا نَصُّهُ: اشْتَمَلَ كِتَابُ الْوَكَالَةِ - يَعْنِي مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ - عَلَى سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سِتَّةٌ، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى اثْنَا عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْبَقِيَّةُ خَالِصَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قَتْلِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ، وَحَدِيثِ وَفْدِ هَوَازِنَ مِنْ طَرِيقَيْهِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، وَحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي قِصَّةِ النُّعَيْمَانِ، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ سِتَّةُ آثَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْ فَتْحِ الْبَارِي. وَكُلُّ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ وَصِحَّتِهَا.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ وَصِحَّتِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ كُلَّ أَحَدٍ فِعْلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا، انْتَهَى مِنْهُ. وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ.
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الْوَكَالَةِ
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ إِلَّا فِي شَيْءٍ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، فَلَا تَصِحُّ فِي فِعْلِ مُحَرَّمٍ ; لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مِنَ التَّعَاوُنِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ الْآيَةَ [٥ ٢].
وَلَا تَصِحُّ فِي عِبَادَةٍ مَحْضَةٍ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَنُوبُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ الْآيَةَ [٥١ ٥٦].
أَمَّا الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ وَالْمَعْضُوبِ، وَالصَّوْمُ عَنِ الْمَيِّتِ فَقَدْ دَلَّتْ أَدِلَّةٌ أُخَرُ عَلَى
الْفَرْعُ الثَّانِي: وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْحُقُوقِ وَإِثْبَاتِهَا وَالْمُحَاكَمَةِ فِيهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْخَصْمِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ مُحَاكَمَةِ الْوَكِيلِ إِذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا غَيْرَ مَعْذُورٍ ; لِأَنَّ حُضُورَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَمُخَاصَمَتَهُ حَقٌّ لِخَصْمِهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْلُهُ إِلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَا خَصْمِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ سَحْنُونٍ أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ ; لِأَنَّ الْخُصُومَةَ أَمْرٌ لَا مَانِعَ مِنَ الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ عَلَى الْخِصَامِ وَالْمُحَاكَمَةِ: أَنَّ الصَّوَابَ فِيهَا التَّفْصِيلُ.
فَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ عُرِفَ بِالظُّلْمِ وَالْجَبَرُوتِ وَالِادِّعَاءِ بِالْبَاطِلِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ التَّوْكِيلُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [٤ ١٠٥]. وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنْ تَوْكِيلِهِ عَلَى الْخُصُومَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ: وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِجُعْلٍ وَبِدُونِ جُعْلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّوْكِيلِ بِغَيْرِ جُعْلٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ أُنَيْسًا فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَعُرْوَةَ الْبَارِقِيَّ فِي شِرَاءِ الشَّاةِ مِنْ غَيْرِ جُعْلٍ. وَمِثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَغَيْرِهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّوْكِيلِ بِجُعْلٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [٩ ٦٠] فَإِنَّهُ تَوْكِيلٌ عَلَى جِبَايَةِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا بِجُعْلٍ مِنْهَا كَمَا تَرَى.
الْفَرْعُ الرَّابِعُ: إِذَا عَزَلَ الْمُوَكِّلُ وَكِيَلَهُ فِي غَيْبَتِهِ وَتَصَرَّفَ الْوَكِيلُ بَعْدَ الْعَزْلِ وَقَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ، أَوْ مَاتَ مُوَكِّلُهُ وَتَصَرَّفَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ، فَهَلْ يَمْضِي تَصَرُّفُهُ نَظَرًا لِاعْتِقَادِهِ، أَوْ لَا يَمْضِي نَظَرًا لِلْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ، وَهِيَ:
هَلْ يَسْتَقِلُّ الْحُكْمُ بِمُطْلَقِ وُرُودِهِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغِ الْمُكَلَّفَ، أَوْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهِ لِلْمُكَلَّفِ. وَيُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الِاخْتِلَافُ فِي خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ صَلَاةً الَّتِي نُسِخَتْ مِنَ الْخَمْسِينَ بَعْدَ فَرْضِهَا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، هَلْ يُسَمَّى ذَلِكَ نَسْخًا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ
هَلْ يَسْتَقِلُّ الْحُكْمُ بِالْوُرُودِ | أَوْ بِبُلُوغِهِ إِلَى الْمَوْجُودِ |
فَالْعَزْلُ بِالْمَوْتِ أَوِ الْعَزْلُ عَرَضْ | كَذَا قَضَاءُ جَاهِلٍ لِلْمُفْتَرَضْ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَخَذَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَوَازَ الشَّرِكَةِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُشْتَرِكِينَ فِي الْوَرِقِ الَّتِي أَرْسَلُوهَا لِيَشْتَرِيَ لَهُمْ طَعَامًا بِهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ: لَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْسَلَ مَعَهُ نَصِيبَهُ مُنْفَرِدًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ طَعَامَهُ مُنْفَرِدًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مُتَّجَهٌ كَمَا تَرَى، وَقَدْ دَلَّتْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى عَلَى جَوَازِ الشَّرِكَةِ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَدِلَّةَ ذَلِكَ، وَبَعْضَ مَسَائِلِهِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا، وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ.
اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الشَّرِكَةَ جَائِزَةٌ فِي الْجُمْلَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ آيَاتٌ فِي الْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [٤ ١٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [٣٨ ٢٤]، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْخُلَطَاءَ: الشُّرَكَاءُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ الْآيَةَ [٨ ٤١]، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ مِنْ جِهَتَيْنِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ الشَّرِكَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ سَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ طَرَفًا مِنْهَا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ عَلَيْهِ مَا عَتَقَ ". وَقَدْ ثَبَتَ نَحْوُهُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الرَّقِيقِ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورَيْنِ بِقَوْلِهِ: (بَابُ الشَّرِكَةِ فِي الرَّقِيقِ)، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، قَالَ:
اشْتَرَيْتُ أَنَا
فَالطَّبَقَةُ الْأُولَى مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ هِيَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعَلَّافُ الْكُوفِيُّ، ثُمَّ الْمِصِّيصِيُّ لَقَبُهُ " لُوَيْنٌ " بِالتَّصْغِيرِ، وَهُوَ ثِقَةٌ.
وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مِنْهُ: مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ أَبُو هَمَّامٍ الْأَهْوَازِيُّ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ
وَالطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ مِنْهُ هِيَ أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، وَهُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ الْكُوفِيُّ، وَهُوَ ثِقَةٌ.
وَالطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ مِنْهُ هِيَ أَبُوهُ سَعِيدُ بْنُ حَيَّانَ الْمَذْكُورُ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي كَلَامِ الشَّوْكَانِيِّ: أَنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ أَعَلَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَرَدَّ ذَلِكَ بِأَنَّ ابْنَ حِبَّانَ قَدْ ذَكَرَهُ فِي الثِّقَاتِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ (فِي التَّقْرِيبِ) : إِنَّهُ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ أَيْضًا.
وَالطَّبَقَةُ الْخَامِسَةُ مِنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، رَفَعَهُ.
فَهَذَا إِسْنَادٌ صَالِحٌ كَمَا تَرَى، وَإِعْلَالُ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الرَّفْعَ زِيَادَةٌ، وَزِيَادَةُ الْعُدُولِ مَقْبُولَةٌ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ وَعُلُومِ الْحَدِيثِ، وَيُؤَيِّدُهُ كَوْنُهُ جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كَلَامِ الشَّوْكَانِيِّ آنِفًا.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتَ شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكُنْتَ خَيْرَ شَرِيكٍ، لَا تُدَارِينِي وَلَا تُمَارِينِي، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَلَفْظُهُ: كُنْتَ شَرِيكِي وَنِعْمَ الشَّرِيكُ، كُنْتَ لَا تُدَارِي وَلَا تُمَارِي، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَفِيهِ إِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ عَلَى كَوْنِهِ كَانَ شَرِيكًا لَهُ، وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى الشَّرِكَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي آخِرِ كِتَابِ الشَّرِكَةِ مَا نَصُّهُ: اشْتَمَلَ كِتَابُ الشَّرِكَةِ (يَعْنِي مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا وَاحِدٌ، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَالْخَالِصُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ النُّعْمَانِ: " مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ "، وَحَدِيثَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، وَحَدِيثَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قِصَّتِهِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَخِيرِ، وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ أَثَرٌ وَاحِدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ كَثْرَةَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ أَنْوَاعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِكَاتِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهَا.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الشَّرِكَةَ قِسْمَانِ: شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ، وَشَرِكَةُ عُقُودٍ.
فَشَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ أَنْ يَمْلِكَ عَيْنًا اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ بِإِرْثٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالشَّرِكَةِ الْأَعَمِّيَّةِ.
أَمَّا شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ فَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [٤ ١٢]، وَلَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا أَنْوَاعُ شَرِكَةِ الْعُقُودِ فَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُنَا مَعَانِيَهَا وَكَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَأَمْثِلَةً لِلْجَائِزِ مِنْهَا تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ.
اعْلَمْ أَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّفْوِيضِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفَوِّضُ أَمْرَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ إِلَى الْآخَرِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ الْآيَةَ [٤٠ ٤٤].
وَقِيلَ: أَصْلُهَا مِنَ الْمُسَاوَاةِ، لِاسْتِوَاءِ الشَّرِيكَيْنِ فِيهَا فِي التَّصَرُّفِ وَالضَّمَانِ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ مِنَ الْفَوْضَى بِمَعْنَى التَّسَاوِي، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ:
لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ | وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا |
إِذَا تَوَلَّى سَرَاةُ النَّاسِ أَمْرَهُمُ | نَمَا عَلَى ذَاكَ أَمْرُ الْقَوْمِ وَازْدَادُوا |
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَصْلِ اشْتِقَاقِهَا اللُّغَوِيِّ، فَقِيلَ: أَصْلُهَا مِنْ عَنَّ الْأَمْرُ يَعِنُّ - بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ - عَنًّا وَعُنُونًا: إِذَا عَرَضَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَهُ | عَذَارَى دَوَارٍ فِي مُلَاءٍ مُذَيَّلِ |
فَشَارَكْنَا قُرَيْشًا فِي تُقَاهَا | وَفِي أَحْسَابِهَا شِرْكَ الْعِنَانِ |
بِمَا وَلَدَتْ نِسَاءُ بَنِي هِلَالٍ | وَمَا وَلَدَتْ نِسَاءُ بَنِي أَبَانِ |
هِيَ كَلِمَةٌ تَطَرَّقَ بِهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ لِيُمْكِنَهُمُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ - كُلُّ ذَلِكَ فِيهِ نَظَرٌ لِمَا عَرَفْتَ أَنْ كَانَ ثَابِتًا عَنْهُمْ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ:
اعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ النَّابِغَةِ فِي بَيْتَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ: بِمَا وَلَدَتْ نِسَاءُ بَنِي هِلَالٍ ابْنُ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأَنَّ مِنْهُمْ لُبَابَةَ الْكُبْرَى، وَلُبَابَةَ الصُّغْرَى، وَهُمَا أُخْتَانِ، ابْنَتَا الْحَارِثِ بْنِ حَزْنِ بْنِ بُجَيْرِ بْنِ الْهَزْمِ بْنِ رُوَيْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالٍ، وَهُمَا أُخْتَا مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا لُبَابَةُ الْكُبْرَى فَهِيَ زَوْجُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمَطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهِيَ أُمُّ أَبْنَائِهِ: عَبْدِ اللَّهِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ، وَالْفَضْلِ وَبِهِ كَانَتْ تُكَنَّى، وَفِيهَا يَقُولُ الرَّاجِزُ:
مَا وَلَدَتْ نَجِيبَةٌ مِنْ فَحْلِ | كَسِتَّةٍ مِنْ بَطْنِ أُمِّ الْفَضْلِ |
بِمَا وَلَدَتْ نِسَاءُ بَنِي هِلَالِ
وَأَمَّا نِسَاءُ بَنِي أَبَانٍ فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ أَبَا الْعَاصِ، وَالْعَاصَ، وَأَبَا الْعِيصِ، وَالْعِيصَ أَبْنَاءَ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أُمُّهُمْ آمِنَةُ بِنْتُ أَبَانِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَهَذِهِ الْأَرْحَامُ الْمُخْتَلِطَةُ بَيْنَ الْعَامِرِيِّينَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ هِيَ مُرَادُ النَّابِغَةِ بِمُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْحَسَبِ وَالتُّقَى شِرْكَ الْعِنَانِ.
وَقِيلَ: إِنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ أَصْلُهَا مِنْ عِنَانِ الْفَرَسِ، كَمَا يَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.
وَقِيلَ هِيَ مِنَ الْمُعَانَاةِ بِمَعْنَى الْمُعَارَضَةِ، يُقَالُ: عَانَنْتُهُ: إِذَا عَارَضْتُهُ بِمِثْلِ مَالِهِ أَوْ فِعَالِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ يُعَارِضُ الْآخَرَ بِمَالِهِ وَفِعَالِهِ.
وَهِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ فَتْحَهَا، وَيُرْوَى عَنْ عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ، وَادِّعَاءُ أَنَّ أَصْلَهَا مِنْ عَنَانِ السَّمَاءِ بَعِيدٌ جِدًّا كَمَا تَرَى.
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ فَأَصْلُهَا اللُّغَوِيُّ وَاضِحٌ ; لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ بِعَمَلِ أَبْدَانِهِمَا، وَلِذَا تُسَمَّى شَرِكَةَ الْعَمَلِ، إِذْ لَيْسَ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا بِالْمَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِعَمَلِ الْبَدَنِ.
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْمُضَارَبَةِ وَهِيَ الْقِرَاضُ فَأَصْلُهَا مِنَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّ التَّاجِرَ يُسَافِرُ فِي طَلَبِ الرِّبْحِ، وَالسَّفَرُ يُكَنَّى عَنْهُ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الْآيَةَ [٧٣ ٢٠]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ الْآيَةَ [٤ ١٠١].
فَإِذَا عَرَفْتَ مَعَانِيَ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ فِي اللُّغَةِ، فَسَنَذْكُرُ لَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا مَعَانِيَهَا الْمُرَادَةَ بِهَا فِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ، وَأَحْكَامَهَا ; لِأَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْمُرَادِ بِهَا اصْطِلَاحًا، وَفِي بَعْضِ أَحْكَامِهَا.
أَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ وَأَحْكَامِهَا فَهَذَا تَفْصِيلُهُ:
اعْلَمْ أَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ جَائِزَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَالْمُرَادُ بِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ أَنْ يُطْلِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ لِصَاحِبِهِ فِي الْمَالِ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ غَيْبَةً وَحُضُورًا، وَبَيْعًا وَشِرَاءً، وَضَمَانًا وَتَوْكِيلًا، وَكَفَالَةً وَقِرَاضًا، فَمَا فَعَلَ أَحَدُهُمَا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَ صَاحِبَهُ إِذَا كَانَ عَائِدًا عَلَى شَرِكَتِهِمَا.
وَلَا يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ إِلَّا فِيمَا يَعْقِدَانِ عَلَيْهِ الشَّرِكَةَ مِنْ أَمْوَالِهِمَا، دُونَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مَالِهِ، وَسَوَاءٌ اشْتَرَكَا فِي كُلِّ مَا يَمْلِكَانِهِ أَوْ فِي بَعْضِ أَمْوَالِهِمَا، وَتَكُونُ يَدُ كُلٍّ مِنْهُمَا كَيَدِ صَاحِبِهِ، وَتَصَرُّفُهُ كَتَصَرُّفِهِ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِشَيْءٍ لَيْسَ فِي مَصْلَحَةِ الشَّرِكَةِ.
وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَتَاجِرِ أَوْ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْهَا، كَرَقِيقٍ يَتَفَاوَضَانِ فِي التِّجَارَةِ فِيهِ فَقَطْ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ بِالدَّيْنِ وَيَشْتَرِيَ فِيهِ وَيَلْزَمُ ذَلِكَ صَاحِبَهُ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، خِلَافًا لِخَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ.
وَقَدْ أَشَارَ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ إِلَى جَوَازِ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ مَعَ تَعْرِيفِهَا، وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ عَقْدُهَا مِنَ الْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرِيكَيْنِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنْ أَطْلَقَا التَّصَرُّفَ وَإِنْ بِنَوْعٍ فَمُفَاوَضَةٌ، وَلَا يُفْسِدُهَا انْفِرَادُ أَحَدِهِمَا بِشَيْءٍ وَلَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ إِنِ اسْتَأْلَفَ بِهِ أَوْخَفَّ كَإِعَارَةِ آلَةٍ وَدَفْعِ كِسْرَةٍ وَيَبْضِعُ وَيُقَارِدُ وَيُودِعُ لِعُذْرٍ وَإِلَّا ضَمِنَ، وَيُشَارِكُ فِي مُعَيَّنٍ وَيَقْبَلُ وَيُوَلِّي وَيَقْبَلُ
وَاعْلَمْ أَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ هَذِهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ لَا تَتَضَمَّنُ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ الَّتِي حُرِّمَتْ مِنْ أَجْلِهَا شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ ; لِأَنَّ مَا اسْتَفَادَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى كَالْهِبَةِ وَالْإِرْثِ، وَاكْتِسَابِ مُبَاحٍ كَاصْطِيَادٍ وَاحْتِطَابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهُ لِشَرِيكِهِ، كَمَا أَنَّ مَا لَزِمَهُ غُرْمُهُ خَارِجًا عَنِ الشَّرِكَةِ كَأَرْشِ جِنَايَةٍ، وَثَمَنِ مَغْصُوبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا شَيْءَ مِنْهُ عَلَى شَرِيكِهِ، بَلْ يَقْتَصِرُ كُلُّ مَا بَيْنَهُمَا عَلَى مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَالِ الشَّرِكَةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ، وَكَفِيلٌ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الشَّرِكَةِ، وَهَكَذَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ الَّذِي تَعَاقَدَا عَلَيْهِ، فَلَا مُوجِبَ لِلْمَنْعِ وَلَا غَرَرَ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَجْعَلُونَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ شَرِيكَيْنِ فِي كُلِّ مَا اكْتَسَبَا جَمِيعًا حَتَّى يَحْصُلَ الْغَرَرُ بِذَلِكَ، وَلَا مُتَضَامِنَيْنِ فِي كُلِّ مَا جَنَيَا حَتَّى يَحْصُلَ الْغَرَرُ بِذَلِكَ، بَلْ هُوَ عَقْدٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَائِبٌ عَنِ الْآخَرِ فِي كُلِّ التَّصَرُّفَاتِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ، وَضَامِنٌ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرِكَةِ، وَهَذَا لَا مَانِعَ مِنْهُ كَمَا تَرَى، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ خِلَافٌ فِي حَالٍ، لَا فِي حَقِيقَةٍ.
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَفْسِيرِهَا، وَفِي مَعْنَاهَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلَانِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهَا هِيَ الشَّرِكَةُ الَّتِي يَشْتَرِطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فِيهَا عَلَى صَاحِبِهِ أَلَّا يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ إِلَّا بِحَضْرَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنِ اشْتَرَطَا نَفْيَ الِاسْتِبْدَادِ فَعِنَانٌ، وَهِيَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ عِنَانِ الْفَرَسِ ; لِأَنَّ عِنَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ بِيَدِ الْآخَرِ فَلَا يَسْتَطِيعُ الِاسْتِقْلَالَ دُونَهُ بِعَمَلٍ، كَالْفَرَسِ الَّتِي يَأْخُذُ رَاكِبُهَا بِعِنَانِهَا فَإِنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ الذَّهَابَ إِلَى جِهَةٍ بِغَيْرِ رِضَاهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ هِيَ الِاشْتِرَاكُ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ رُشْدٍ وَنَقْلُهُ عَنْدَ الْمَوَّاقُ فِي شَرْحِ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنِ اشْتَرَطَا نَفْيَ الِاسْتِبْدَادِ إِلَخْ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرُ أَقْرَبُ لِلْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ مَنْظُورٍ فِي اللِّسَانِ.
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فَلَهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَعَانٍ:
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِشَرِكَةِ الذِّمَمِ، وَهُوَ فَاسِدٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ فَسَادِهِ ظَاهِرٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَخْسَرَ هَذَا وَيَرْبَحَ هَذَا كَالْعَكْسِ، وَإِلَى فَسَادِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الشَّرِكَةِ أَشَارَ ابْنُ عَاصِمٍ الْمَالِكِيُّ فِي تُحْفَتِهِ بِقَوْلِهِ:
وَفَسْخُهَا إِنْ وَقَعَتْ عَلَى الذِّمَمْ | وَيُقَسِّمَانِ الرِّبْحَ حُكْمٌ مُلْتَزَمْ |
وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ أَنْ يَتَّفِقَ وَجِيهٌ وَخَامِلٌ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَجِيهُ فِي الذِّمَّةِ وَيَبِيعَ الْخَامِلُ وَيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا النَّوْعُ أَيْضًا فَاسِدٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْغَرَرِ سَابِقًا.
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَهِيَ جَائِزَةٌ بِشُرُوطٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُ الشَّرِيكَيْنِ مُتَّحِدًا كَخَيَّاطَيْنِ، أَوْ مُتَلَازِمًا كَأَنْ يَغْزِلَ أَحَدُهُمَا وَيَنْسِجَ الْآخَرُ ; لِأَنَّ النَّسْجَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْغَزْلِ، وَأَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْعَمَلِ جَوْدَةً وَرَدَاءَةً وَبُطْأً وَسُرْعَةً، أَوْ يَتَقَارَبَا فِي ذَلِكَ، وَأَنْ يَحْصُلَ التَّعَاوُنُ بَيْنَهُمَا، وَإِلَى جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الشَّرِكَةِ بِشُرُوطِهِ أَشَارَ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ:
وَجَازَتْ بِالْعَمَلِ إِنِ اتَّحَدَ أَوْ تَلَازَمَ وَتَسَاوَيَا فِيهِ، أَوْ تَقَارَبَا وَحَصَلَ التَّعَاوُنُ، وَإِنْ بِمَكَانَيْنِ، وَفِي جَوَازِ إِخْرَاجِ كُلِّ آلَةٍ وَاسْتِئْجَارِهِ مِنَ الْآخَرِ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ مِلْكٍ أَوْ كِرَاءٍ - تَأْوِيلَانِ، كَطَبِيبَيْنِ اشْتَرَكَا فِي الدَّوَاءِ، وَصَائِدَيْنِ فِي الْبَازَيْنِ، [وَهَلْ وَإِنِ افْتَرَقَا رُوِيَتْ عَلَيْهِمَا وَحَافِرَيْنِ بِكَرِكَازٍ وَمَعْدِنٍ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ وَارِثُهُ بَقِيَّتَهُ وَأَقْطَعَهُ الْإِمَامُ، وَقَيَّدَ بِمَا لَمْ يَبْدُ، وَلَزِمَهُ مَا يَقْبَلُهُ صَاحِبُهُ وَإِنْ تَفَاصَلَا وَأُلْغِيَ مَرَضٌ كَيَوْمَيْنِ إِلَخْ] وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعَمَلِ: مِنْ صِنَاعَاتٍ بِأَنْوَاعِهَا، وَطِبٍّ وَاكْتِسَابٍ مُبَاحٍ، كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ وَالِاحْتِطَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَاصِمٍ فِي تُحْفَتِهِ:
وَشَرِكَةُ الْجَبْرِ: هِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ شَخْصٌ سِلْعَةً بِسُوقِهَا الْمَعْهُودِ لَهَا، لِيَتَّجِرَ بِهَا بِحَضْرَةِ بَعْضِ تُجَّارِ جِنْسِ تِلْكَ السِّلْعَةِ الَّذِينَ يَتَّجِرُونَ فِيهَا، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أُولَئِكَ التُّجَّارُ الْحَاضِرُونَ، فَإِنَّ لَهُمْ إِنْ أَرَادُوا الِاشْتِرَاكَ فِي تِلْكَ السِّلْعَةِ مَعَ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُجْبِرُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُونَ شُرَكَاءَهُ فِي تِلْكَ السِّلْعَةِ شَاءَ أَوْ أَبَى.
وَشَرِكَتُهُمْ هَذِهِ مَعَهُ جَبْرًا عَلَيْهِ هِيَ " شَرِكَةُ الْجَبْرِ " الْمَذْكُورَةُ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا لِيَقْتَنِيَهَا لَا لِيَتَّجِرَ بِهَا، أَوِ اشْتَرَاهَا لِيُسَافِرَ بِهَا إِلَى مَحِلٍّ آخَرَ وَلَوْ لِلتِّجَارَةِ بِهَا فِيهِ - فَلَا جَبْرَ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ إِلَى " شَرِكَةِ الْجَبْرِ " بِقَوْلِهِ: وَأُجْبِرَ عَلَيْهَا إِنِ اشْتَرَى شَيْئًا بِسُوقِهِ لَا لِكُفْرٍ أَوْ قِنْيَةٍ، وَغَيْرُهُ حَاضِرٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ مِنْ تُجَّارِهِ، وَهَلْ فِي الزُّقَاقِ لَا كَبَيْتِهِ قَوْلَانِ، وَأَمَّا شَرِكَةُ الْمُضَارَبَةِ فَهِيَ الْقِرَاضُ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ شَخْصٌ إِلَى آخَرَ مَالًا لِيَتَّجِرَ بِهِ عَلَى جُزْءٍ مِنْ رِبْحِهِ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ، وَهَذَا النَّوْعُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ إِذَا اسْتَوْفَى الشُّرُوطَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ دَلِيلُهُ.
وَأَمَّا أَنْوَاعُ الشَّرِكَةِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: ثَلَاثَةٌ مِنْهَا بَاطِلَةٌ فِي مَذْهَبِهِ، وَالرَّابِعُ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْبَاطِلَةُ فَالْأَوَّلُ مِنْهَا " شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ " كَشَرِكَةِ الْحَمَّالِينَ، وَسَائِرِ الْمُحْتَرِفِينَ: كَالْخَيَّاطِينَ، وَالنَّجَّارِينَ، وَالدَّلَّالِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِيَكُونَ بَيْنَهُمَا كَسْبُهُمَا مُتَسَاوِيًا أَوْ مُتَفَاوِتًا مَعَ اتِّفَاقِ الصَّنْعَةِ أَوِ اخْتِلَافِهَا.
فَاتِّفَاقُ الصَّنْعَةِ كَشَرِكَةِ خَيَّاطَيْنِ، وَاخْتِلَافُهَا كَشَرِكَةِ خَيَّاطٍ وَنَجَّارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُ الشَّرِكَةُ إِلَّا بِالْمَالِ فَقَطْ لَا بِالْعَمَلِ.
وَوَجْهُ بُطْلَانِ شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ أَنَّهَا شَرِكَةٌ لَا مَالَ فِيهَا، وَأَنَّ فِيهَا غَرَرًا ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَدْرِي أَيَكْتَسِبُ صَاحِبُهُ شَيْئًا أَمْ لَا، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزٌ بِبَدَنِهِ وَمَنَافِعِهِ فَيَخْتَصُّ بِفَوَائِدِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِي مَاشِيَتِهِمَا وَهِيَ مُتَمَيِّزَةٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ النَّسْلُ وَالدَّرُّ بَيْنَهُمَا، وَقِيَامًا عَلَى الِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ، هَكَذَا تَوْجِيهُ الشَّافِعِيَّةِ لِلْمَنْعِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الشَّرِكَةِ.
وَقَدْ عَلِمْتَ فِيمَا مَرَّ شُرُوطَ جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِذْ بِتَوَفُّرِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ
وَالثَّانِي مِنَ الْأَنْوَاعِ الْبَاطِلَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَشْتَرِكَا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا جَمِيعُ كَسْبِهِمَا بِأَمْوَالِهِمَا وَأَبْدَانِهِمَا، وَعَلَيْهِمَا جَمِيعُ مَا يَعْرِضُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ غُرْمٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِغَصْبٍ أَوْ إِتْلَافٍ أَوْ بَيْعٍ فَاسِدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْغَرَرِ فَبُطْلَانُهُ وَاضِحٌ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا يُجِيزُونَ هَذَا وَلَا يَعْنُونَهُ بِـ " شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ " كَمَا قَدَّمْنَا.
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا النَّوْعِ: إِنْ لَمْ تَكُنْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ بَاطِلَةً، فَلَا بَاطِلَ أَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا. يُشِيرُ إِلَى كَثْرَةِ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَاتِ فِيهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكْسِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَسْبًا دُونَ الْآخَرِ، وَأَنْ تَلْزَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَرَامَاتٌ دُونَ الْآخَرِ، فَالْغَرَرُ ظَاهِرٌ فِي هَذَا النَّوْعِ جِدًّا.
وَالثَّالِثُ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْبَاطِلَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ " شَرِكَةُ الْوُجُوهِ " وَهِيَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَجِيهَانِ لِيَبْتَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُؤَجَّلٍ فِي ذِمَّتِهِ لَهُمَا مَعًا، فَإِذَا بَاعَا كَانَ الْفَاضِلُ مِنَ الْأَثْمَانِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِـ " شَرِكَةِ الذِّمَمِ "، وَوَجْهُ فَسَادِهِ ظَاهِرٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَشْتَرِي فِي ذِمَّتِهِ وَيَجْعَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ نَصِيبًا مِنْ رِبْحِ مَا اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ، مُقَابِلَ نَصِيبٍ مِنْ رِبْحِ مَا اشْتَرَى الْآخَرُ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْغَرَرُ فِي مِثْلِ هَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا، وَبَقِيَّةُ أَنْوَاعِ " شَرِكَةِ الْوُجُوهِ " ذَكَرْنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَكُلُّهَا مَمْنُوعَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلِذَا اكْتَفَيْنَا بِمَا قَدَّمْنَا عَنِ الْكَلَامِ عَلَى بَقِيَّةِ أَنْوَاعِهَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
أَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ الَّذِي هُوَ صَحِيحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَهُوَ " شَرِكَةُ الْعِنَانِ " وَهِيَ: أَنْ يَشْتَرِكَا فِي مَالٍ لَهُمَا لِيَتَّجِرَا فِيهِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا عِنْدَهُمْ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ، فَلَوِ اقْتَصَرَا عَلَى لَفْظِ " اشْتَرَكْنَا " لَمْ يَكْفِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّرِيكَيْنِ أَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ وَالتَّوَكُّلِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَتَصِحُّ " شَرِكَةُ الْعِنَانِ " عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ مُطْلَقًا دُونَ الْمُقَوَّمَاتِ وَقِيلَ: تَخْتَصُّ بِالنَّقْدِ الْمَضْرُوبِ.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ فِيهَا خَلْطُ الْمَالَيْنِ، بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَالْحِيلَةُ عِنْدَهُمْ فِي الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ هِيَ أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ بَعْضَ عَرَضِهِ بِبَعْضِ عَرَضِ الْآخَرِ
عَقْدُ الشَّرِكَةِ الْمَذْكُورَةِ يُسَلِّطُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ بِلَا ضَرَرٍ، فَلَا يَبِيعُ بِنَسِيئَةٍ، وَلَا بِغَبَنٍ فَاحِشٍ، وَلَا يَبْضَعُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخُهَا مَتَى شَاءَ.
وَأَمَّا تَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ أَنَّ الشَّرِكَةَ تَنْقَسِمُ إِلَى ضَرْبَيْنِ:
شَرِكَةِ مِلْكٍ، وَشَرِكَةِ عَقْدٍ.
فَشَرِكَةُ الْمِلْكِ وَاضِحَةٌ، كَأَنْ يَمْلِكَا شَيْئًا بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَشَرِكَةُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
شَرِكَةٍ بِالْمَالِ، وَشَرِكَةٍ بِالْأَعْمَالِ، وَشَرِكَةٍ بِالْوُجُوهِ، وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَهُمْ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: مُفَاوَضَةٌ، وَعِنَانٌ، فَالْمَجْمُوعُ سِتَّةُ أَقْسَامٍ.
أَمَّا شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَهُمْ فَهِيَ جَائِزَةٌ إِنْ تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا، وَهِيَ عِنْدَهُمُ الشَّرِكَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ وَكَالَةَ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ، وَكَفَالَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا الْآخَرَ، وَلَابُدَّ فِيهَا مِنْ مُسَاوَاةِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ وَالدِّينِ وَالتَّصَرُّفِ.
فَبِتَضَمُّنِهَا الْوَكَالَةَ يَصِحُّ تَصَرُّفُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ.
وَبِتَضَمُّنِهَا الْكَفَالَةَ يَطْلُبُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا لَزِمَ الْآخَرَ.
وَبِمُسَاوَاتِهِمَا فِي الْمَالِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْتَبِدَّ أَحَدُهُمَا بِشَيْءٍ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهِ دُونَ الْآخَرِ، وَلِذَا لَوْ وَرِثَ بَعْدَ الْعَقْدِ شَيْئًا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهِ كَالنَّقْدِ بَطَلَتِ الْمُفَاوَضَةُ، وَرَجَعَتِ الشَّرِكَةُ شَرِكَةَ عِنَانٍ.
وَبِتَضَمُّنِهَا الْمُسَاوَاةَ فِي الدِّينِ تَمْتَنِعُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ.
وَبِتَضَمُّنِهَا الْمُسَاوَاةَ فِي التَّصَرُّفِ تَمْتَنِعُ بَيْنَ بَالِغٍ وَصَبِيٍّ، وَبَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَكُلُّ مَا اشْتَرَاهُ وَاحِدٌ مِنْ شَرِيكَيِ الْمُفَاوَضَةِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، إِلَّا طَعَامَ أَهْلِهِ وَكُسْوَتَهُمْ، وَكُلُّ دَيْنٍ لَزِمَ أَحَدُهُمَا بِتِجَارَةٍ وَغَصْبٍ وَكَفَالَةٍ لَزِمَ الْآخَرَ.
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِهَا عَلَى كُلِّ الْمَعَانِي الَّتِي تُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.
وَشَرِكَةُ الْعِنَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ الشَّرِكَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ وَحْدَهَا، وَلَمْ تَتَضَمَّنِ الْكَفَالَةَ، وَهِيَ: أَنْ يَشْتَرِكَا فِي نَوْعِ بَزٍّ أَوْ طَعَامٍ أَوْ فِي عُمُومِ التِّجَارَةِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَفَالَةَ.
وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا كَانَ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَلْزَمُ أَحَدَهُمَا مَا لَزِمَ الْآخَرَ مِنَ الْغَرَامَاتِ، وَتَصِحُّ عِنْدَهُمْ شَرِكَةُ الْعِنَانِ الْمَذْكُورَةُ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِ دُونَ الرِّبْحِ وَعَكْسِهِ، إِذَا كَانَتْ زِيَادَةُ الرِّبْحِ لِأَكْثَرِهِمَا عَمَلًا ; لِأَنَّ زِيَادَةَ الرِّبْحِ فِي مُقَابَلَةِ زِيَادَةِ الْعَمَلِ وِفَاقًا لِلْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بِحَسَبِ الْمَالِ، وَلَوِ اشْتَرَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ " شَرِكَةَ الْعِنَانِ " بِثَمَنٍ فَلَيْسَ لِمَنْ بَاعَهُ مُطَالَبَةُ شَرِيكِهِ الْآخَرِ ; لِأَنَّهَا لَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ بَلْ يُطَالِبُ الشَّرِيكَ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ فَقَطْ، وَلَكِنَّ الشَّرِيكَ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ عِنْدَهُمْ خَلْطُ الْمَالَيْنِ، فَلَوِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِمَالِهِ وَهَلَكَ مَالُ الْآخَرِ كَانَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا، وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْهُ.
وَتَبْطُلُ هَذِهِ الشَّرِكَةُ عِنْدَهُمْ بِهَلَاكِ الْمَالَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الشِّرَاءِ، وَتَفْسُدُ عِنْدَهُمْ بِاشْتِرَاطِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ مِنَ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ لِكُلٍّ مِنْ شَرِيكَيِ الْمُفَاوَضَةِ وَالْعِنَانِ أَنْ يَبْضَعَ وَيَسْتَأْجِرَ، وَيُودِعَ وَيُضَارِبَ وَيُوَكِّلَ، وَيَدُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي مَالِ الشَّرِكَةِ يَدُ أَمَانَةٍ، كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَةِ.
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَعْمَالِ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مِنَ الصِّنَاعَاتِ وَنَحْوِهَا جَازَتْ عِنْدَهُمْ شَرِكَةُ الْأَعْمَالِ، وَلَا يَشْتَرِطُونَ اتِّحَادَ الْعَمَلِ أَوْ تَلَازُمَهُ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يَشْتَرِكَ خَيَّاطَانِ مَثَلًا، أَوْ خَيَّاطٌ وَصَبَّاغٌ عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَا الْأَعْمَالَ، وَيَكُونَ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا، وَكُلُّ عَمَلٍ يَتَقَبَّلُهُ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُمَا. وَإِذَا عَمِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَمَا حَصَّلَ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ فِيهِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ بِتَقَبُّلِ صَاحِبِهِ لَهُ، فَاسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ مِنْهُ بِالضَّمَانِ.
وَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي أَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ غَرَرٍ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ اخْتِلَافِ صَنْعَةِ الشَّرِيكَيْنِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُحَصِّلَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا حَصَّلَهُ الْآخَرُ، فَالشُّرُوطُ الَّتِي أَجَازَ بِهَا الْمَالِكِيَّةُ " شَرِكَةَ الْأَعْمَالِ " أَحْوَطُ وَأَبْعَدُ مِنَ الْغَرَرِ كَمَا تَرَى.
وَوَجْهُ مَنْعِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنِ اكْتَسَبَ مُبَاحًا كَحَطَبٍ أَوْ حَشِيشٍ أَوْ صَيْدٍ مَلَكَهُ مِلْكًا مُسْتَقِلًّا، فَلَا وَجْهَ لِكَوْنِ جُزْءٍ مِنْهُ لِشَرِيكٍ آخَرَ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِيهِ، وَمَنْ أَجَازَهُ قَالَ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَعَلَ لِلْآخَرِ نَصِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْمُبَاحِ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ فِي مُقَابِلِ النَّصِيبِ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ الْآخَرُ، وَالْمَالِكِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ هَذَا يَشْتَرِطُونَ اتِّحَادَ الْعَمَلِ أَوْ تَقَارُبَهُ، فَلَا غَرَرَ فِي ذَلِكَ، وَلَا مُوجِبَ لِلْمَنْعِ، وَفِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خِلَافٌ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَمَّا " شَرِكَةُ الْوُجُوهِ " الَّتِي قَدَّمْنَا أَنَّهَا هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ " بِشَرِكَةِ الذِّمَمِ " وَقَدَّمْنَا مَنْعَهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُفَاوَضَةً أَوْ عِنَانًا، وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ عِنْدَهُمْ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ وَالْكَفَالَةَ.
وَأَنَّ الْعِنَانَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ فَقَطْ، وَإِنِ اشْتَرَطَ الشَّرِيكَانِ فِي " شَرِكَةِ الْوُجُوهِ " مُنَاصَفَةَ الْمُشْتَرِي أَوْ مُثَالَثَتَهُ فَالرِّبْحُ كَذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَبَطَلَ عِنْدَهُمْ شَرْطُ الْفَضْلِ ; لِأَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَهُمْ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِالْعَمَلِ، كَالْمُضَارِبِ، أَوْ بِالْمَالِ كَرَبِّ الْمَالِ، أَوْ بِالضَّمَانِ كَالْأُسْتَاذِ الَّذِي يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ مِنَ النَّاسِ وَيُلْقِيهِ عَلَى التِّلْمِيذِ بِأَقَلَّ مِمَّا أَخَذَ، فَيَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ بِالضَّمَانِ، هَكَذَا يَقُولُونَهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي " شَرِكَةِ الْوُجُوهِ " مِنَ الْغَرَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّبْحَ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى حَسَبِ الْمَالِ إِنْ كَانَتْ شَرِكَةَ مَالٍ، وَعَلَى حَسَبِ الْعَمَلِ إِنْ كَانَتْ شَرِكَةَ عَمَلٍ، وَهَذَا وَاضِحٌ، وَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا.
وَأَمَّا تَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهِيَ أَيْضًا قِسْمَانِ: شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ، وَشَرِكَةُ عُقُودٍ.
وَشَرِكَةُ الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: شَرِكَةُ الْعِنَانِ، وَالْأَبْدَانِ، وَالْوُجُوهِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْمُفَاوَضَةِ.
أَمَّا شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَمَلُ مِنَ الصِّنَاعَاتِ أَوِ اكْتِسَابِ الْمُبَاحَاتِ، أَمَّا مَعَ اتِّحَادِ الْعَمَلِ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمْ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ الْعَمَلِ فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا تَجُوزُ وِفَاقًا لِلْمَالِكِيَّةِ، وَقَالَ الْقَاضِي: تَجُوزُ وِفَاقًا لِلْحَنَفِيَّةِ
وَإِنِ اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَ أَحَدُهُمَا لِلْعَمَلِ وَيَعْمَلَهُ الثَّانِي وَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا صَحَّتِ الشَّرِكَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَالرِّبْحُ فِي شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَا أَنَّهَا هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِشَرِكَةِ الذِّمَمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَهِيَ جَائِزَةٌ أَيْضًا فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَخِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَهِيَ جَائِزَةٌ أَيْضًا عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِهَا، وَهِيَ عِنْدَهُمْ: أَنْ يَشْتَرِكَ رَجُلَانِ بِمَالَيْهِمَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فِيهِمَا بِأَبْدَانِهِمَا وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا، وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ إِنَّمَا تَجُوزُ عِنْدَهُمْ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَلَا تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ.
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَهِيَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا جَائِزٌ، وَالْآخَرُ مَمْنُوعٌ.
وَأَمَّا الْجَائِزُ مِنْهُمَا فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ، كَأَنْ يَجْمَعَا بَيْنَ شَرِكَةِ الْعِنَانِ وَالْوُجُوهِ وَالْأَبْدَانِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ ; لِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا يَصِحُّ عَلَى انْفِرَادِهِ فَصَحَّ مَعَ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الْمَمْنُوعُ عِنْدَهُمْ مِنْهَا فَهُوَ أَنْ يُدْخِلَا بَيْنَهُمَا فِي الشَّرِكَةِ الِاشْتِرَاكَ فِيمَا يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ يَجِدُهُ مِنْ رِكَازٍ أَوْ لُقَطَةٍ، وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَزِمَ الْآخَرَ مِنْ أَرْشِ جِنَايَةٍ وَضَمَانِ غَصْبٍ، وَقِيمَةِ مُتْلَفٍ، وَغَرَامَةِ ضَمَانٍ، وَكَفَالَةٍ، وَفَسَادُ هَذَا النَّوْعِ ظَاهِرٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ كَمَا تَرَى.
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْمُضَارَبَةِ وَهِيَ الْقِرَاضُ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا هِيَ: أَنْ يَدْفَعَ شَخْصٌ لِآخَرَ مَالًا يَتَّجِرُ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهَا، وَكَوْنُ الرِّبْحِ فِي الْمُضَارَبَةِ بِحَسَبِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ النِّصْفَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِلْعَامِلِ.
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَشَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَاخْتُلِفَ فِي نِسْبَةِ الرِّبْحِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ بِحَسَبِ الْمَالَيْنِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، فَلَهُمَا أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الرِّبْحِ مَعَ تُفَاضِلِ الْمَالَيْنِ.
وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الرِّبْحَ تَبَعٌ لِلْمَالِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِهِ، وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَخِيرِ أَنَّ الْعَمَلَ مِمَّا يُسْتَحَقُّ بِهِ الرِّبْحَ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَبْصَرَ بِالتِّجَارَةِ وَأَقْوَى عَلَى
هَذَا خُلَاصَةُ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ شَرِكَةِ الْعِنَانِ، وَشَرِكَةِ الْمُضَارَبَةِ، وَشَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، فَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ، وَمَنَعَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ إِلَّا فِي اكْتِسَابِ الْمُبَاحَاتِ فَقَطْ فَلَمْ يُجِزْهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَمَنَعَ الشَّافِعِيَّةُ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ مُطْلَقًا.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ، وَصَوَّرُوهَا بصورة العنان عند الشافعية والحنابلة.
وأجاز الحنفية شركة المفاوضة، وصوروها بِغَيْرِ مَا صَوَّرَهَا بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْمُفَاوَضَةِ وَصَوَّرُوهُ بِصُورَةٍ مُخَالِفَةٍ لِتَصْوِيرِ غَيْرِهِمْ لَهَا، وَمَنَعَ الشَّافِعِيَّةُ الْمُفَاوَضَةَ كَمَا مَنَعُوا شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ وَالْوُجُوهِ، وَصَوَّرُوا الْمُفَاوَضَةَ بِصُورَةٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالشَّافِعِيَّةُ إِنَّمَا يُجِيزُونَ الشَّرِكَةَ بِالْمِثْلِيِّ مُطْلَقًا نَقْدًا أَوْ غَيْرَهُ، لَا بِالْمُقَوَّمَاتِ.
وَالْحَنَفِيَّةُ لَا يُجِيزُونَهَا إِلَّا بِالنَّقْدَيْنِ وَالتِّبْرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ، وَالْحَنَابِلَةُ لَا يُجِيزُونَهَا إِلَّا بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ كَمَا تَقَدَّمَ جَمِيعُ ذَلِكَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ الْحِيلَةِ فِي الِاشْتِرَاكِ بِالْعُرُوضِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ بِدَنَانِيرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبِدَرَاهِمَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبِدَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبِنَقْدٍ مِنْ أَحَدِهِمَا وَعَرَضٍ مِنَ الْآخَرِ، وَبِعَرَضٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوَاءٌ اتَّفَقَا أَوِ اخْتَلَفَا، وَقِيلَ: إِنِ اتَّفَقَا، لَا إِنِ اخْتَلَفَا، إِلَّا أَنَّ الْعُرُوضَ تُقَوَّمُ، وَأَمَّا خَلْطُ الْمَالَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَتَّى لَا يَتَمَيَّزَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَكْفِي فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنْ يَكُونَ الْمَالَانِ فِي حَوْزِ وَاحِدٍ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ فِي صُرَّتِهِ لَمْ يَخْتَلِطْ بِالْآخَرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ خَلْطُ الْمَالَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ خَلْطُ الْمَالَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
فَتَحَصَّلَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ خَلْطَ الْمَالَيْنِ إِلَّا الشَّافِعِيَّةُ، وَأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ إِنَّمَا يَشْتَرِطُونَ كَوْنَ الْمَالَيْنِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ، كَحَانُوتٍ أَوْ صُنْدُوقٍ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزًا عَنِ الْآخَرِ.
فَإِذَا عَرَفْتَ مُلَخَّصَ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ، فَسَنَذْكُرُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ أَدِلَّتِهَا، أَمَّا النَّوْعُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ " مُفَاوَضَةً " وَيُعَبِّرُ عَنْهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِشَرِكَةِ الْعِنَانِ، فَقَدْ
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ الْمُتَقَدِّمُ فِي أَنَّهُ كَانَ شَرِيكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ اشْتِرَاكٌ فِي التِّجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ فَيُحْتَجُّ لَهَا بِمَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اشْتَرَكْتُ أَنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ فِيمَا نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ: فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ وَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ الْمَجْدُ فِي " مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ " بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ: وَهُوَ حُجَّةٌ فِي شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ وَتَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ، وَأُعِلَّ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ الْأَئِمَّةَ الثَّلَاثَةَ يَحْتَجُّونَ بِالْمُرْسَلِ خِلَافًا لِلْمُحَدِّثِينَ.
وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَرْفُوعٌ، وَلَكِنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَيْهَا لِشُيُوعِهَا وَانْتِشَارِهَا فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَقَدْ مَضَى عَلَى ذَلِكَ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ إِلَى الْآنَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ: كُلُّ أَبْوَابِ الْفِقْهِ لَهَا أَصْلٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، حَاشَا الْقِرَاضَ فَمَا وَجَدْنَا لَهُ أَصْلًا فِيهِمَا الْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ إِجْمَاعٌ صَحِيحٌ مُجَرَّدٌ، وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلِمَ بِهِ وَأَقَرَّهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا جَازَ. اهـ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الشَّوْكَانِيِّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَئِمَّةِ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ الْمَذْكُورَةِ رَاجِعٌ إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هَذِهِ الصُّورَةُ يُوجَدُ فِيهَا الْغَرَرُ وَهُوَ مَنَاطُ الْمَنْعِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ، فَيَقُولُ الْآخَرُ: لَا غَرَرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُوجِبُ الْمَنْعَ فَمَنَاطُ الْمَنْعِ لَيْسَ مَوْجُودًا فِيهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَخَذَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا أَيْضًا: جَوَازُ خَلْطِ الرُّفَقَاءِ طَعَامَهُمْ وَأَكْلِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ أَكْلًا مِنَ الْآخَرِ ; لِأَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ بَعَثُوا وَرِقَهُمْ لِيُشْتَرَى لَهُمْ بِهَا طَعَامٌ يَأْكُلُونَهُ جَمِيعًا،
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَا مُعَوَّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا عَلَى حَدِيثَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِقَوْمٍ يَأْكُلُونَ تَمْرًا فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِاقْتِرَانِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ، وَالثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَيْشِ الْخَبَطِ، وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الظُّهُورِ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِيهِمْ كَفَافًا مِنْ ذَلِكَ الْقُوتِ وَلَا يَجْمَعُهُمْ. اهـ كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاشْتِرَاكِ وَهُوَ خَلْطُ الرُّفْقَةِ طَعَامَهُمْ وَاشْتِرَاكُهُمْ فِي الْأَكْلِ فِيهِ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِـ " النِّهْدِ " بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا، وَلِجَوَازِهِ أَدِلَّةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا دَلِيلُ ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [٢ ٢٢٠]، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى خَلْطِ طَعَامِ الْيَتِيمِ مَعَ طَعَامِ وَصِيِّهِ وَأَكْلِهِمَا جَمِيعًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا [٢٤ ٦١]، وَمِنْ صُوَرِ أَكْلِهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ بَيْنَهُمْ فَيَأْكُلُونَ جَمِيعًا، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا إِلَى السَّاحِلِ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ نَفَرٍ، وَأَنَا فِيهِمْ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَجَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ فَكَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا حَتَّى فَنِيَ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلَّا تَمْرَةً تَمْرَةً، فَقُلْتُ: وَمَا تُغْنِي تَمْرَةٌ؟ فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ، ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا حُوتٌ.. " الْحَدِيثَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَاللَّفْظُ الَّذِي سُقْنَاهُ بِهِ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ " الشَّرِكَةِ " وَفِيهِ جَمْعُ أَبِي عُبَيْدَةَ بَقِيَّةَ أَزْوَادِ الْقَوْمِ وَخَلْطُهَا فِي مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قُدُومِهِمْ إِلَيْهِ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَفَّتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَحْرِ إِبِلِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَادِ فِي النَّاسِ فَيَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ " فَبُسِطَ لِذَلِكَ نِطْعٌ وَجَعَلُوهُ عَلَى النِّطْعِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْرِنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ، فِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْإِقْرَانِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ.
كُلُّ هَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ " الشَّرِكَةِ "، وَإِذْنُ صَاحِبِهِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّمْرِ كَمَا تَرَى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا جَوَازَهُ مِنْ خَلْطِ الرُّفَقَاءِ طَعَامَهُمْ وَأَكْلِهِمْ مِنْهُ جَمِيعًا هُوَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِلَفْظِ النِّهْدِ فِي قَوْلِهِ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ: الشَّرِكَةُ فِي الطَّعَامِ وَالنِّهْدِ. إِلَى قَوْلِهِ: لَمْ يَرَ الْمُسْلِمُونَ فِي النِّهْدِ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ هَذَا بَعْضًا وَهَذَا بَعْضًا وَهَذَا بَعْضًا إِلَخْ.
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الشَّرِكَةِ
الْأَوَّلُ: إِنْ دَفَعَ شَخْصٌ دَابَّتَهُ لِآخَرَ لِيَعْمَلَ عَلَيْهَا وَمَا يَرْزُقُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ أَثْلَاثًا أَوْ كَيْفَمَا شَرَطَا - فَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَنُقِلَ نَحْوُهُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ، وَمَا حَصَلَ فَهُوَ لِلْعَامِلِ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِ الدَّابَّةِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَصِحُّ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الدَّابَّةِ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَأَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا عِنْدِي فِيهَا مَذْهَبُ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ، كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: إِنْ كَانَ أَحَدُنَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَأْخُذُ نِضْوَ أَخِيهِ عَلَى أَنَّ لَهُ النِّصْفَ مِمَّا يَغْنَمُ وَلَنَا النِّصْفُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَطِيرُ لَهُ النَّصْلُ وَالرِّيشُ وَلِلْآخَرِ الْقِدْحُ، هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ ": إِسْنَادُ أَبِي دَاوُدَ فِيهِ شَيْبَانُ بْنُ أُمَيَّةَ الْقِتْبَانِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ هَذَا الْمَجْهُولِ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الرَّجُلِ إِلَى الْآخَرِ رَاحِلَتَهُ فِي الْجِهَادِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْغَنِيمَةُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ عَمَلٌ عَلَى الدَّابَّةِ عَلَى أَنَّ مَا يَرْزُقُهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا كَمَا تَرَى، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعَمَلِ فِي الْجِهَادِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا يَظْهَرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ أَنْ يَشْتَرِكَ أَرْبَعَةٌ: مِنْ أَحَدِهِمْ دُكَّانٌ، وَمِنْ آخَرَ رَحًى، وَمِنْ آخَرَ بَغْلٌ، وَمِنَ الرَّابِعِ الْعَمَلُ، عَلَى أَنْ يَطْحَنُوا بِذَلِكَ، فَمَا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ بَيْنَهُمْ، فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: يَصِحُّ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَخَالَفَ فِيهِ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ وِفَاقًا لِلْقَائِلِينَ بِمَنْعِ ذَلِكَ كَالْمَالِكِيَّةِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَمَنْعُهُ هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشَارَكَةً وَلَا مُضَارَبَةَ، فَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الرَّحَى وَصَاحِبُ الدَّابَّةِ وَصَاحِبُ الْحَانُوتِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا جَمِيعًا وَكَانَ كِرَاءُ الْحَانُوتِ وَالرَّحَى وَالدَّابَّةِ مُتَسَاوِيًا، وَعَمَلُ أَرْبَابِهَا مُتَسَاوِيًا - فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ: وَذِي رَحًا، وَذِي بَيْتٍ، وَذِي دَابَّةٍ لِيَعْلَمُوا إِنْ لَمْ يَتَسَاوَ الْكِرَاءُ وَتَسَاوَوْا فِي الْغَلَّةِ وَتَرَادُّوا الْأَكْرِيَةَ، وَإِنِ اشْتُرِطَ عَمَلُ رَبِّ الدَّابَّةِ فَالْغَلَّةُ لَهُ وَعَلَيْهِ كِرَاؤُهُمَا.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ " الشَّرِكَةَ " بَابٌ كَبِيرٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَأَنَّ مَسَائِلَهَا مُبَيَّنَةٌ بِاسْتِقْصَاءٍ فِي كُتُبِ فُرُوعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَصْدُنَا هُنَا أَنْ نُبَيِّنَ جَوَازَهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَنَذْكُرَ أَقْسَامَهَا وَمَعَانِيَهَا اللُّغَوِيَّةَ وَالِاصْطِلَاحِيَّةَ، وَاخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَبَيَانَ أَقْوَالِهِمْ، وَذِكْرَ بَعْضِ فُرُوعِهَا تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ قَوْمَهُمُ الْكُفَّارَ الَّذِينَ فَرُّوا مِنْهُمْ بِدِينِهِمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ، أَيْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهِمْ وَيَعْرِفُوا مَكَانَهُمْ، يَرْجُمُوهُمْ بِالْحِجَارَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَشْنَعِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، وَقِيلَ: يَرْجُمُوهُمْ بِالشَّتْمِ وَالْقَذْفِ، أَوْ يُعِيدُوهُمْ فِي مِلَّتِهِمْ، أَيْ: يَرُدُّوهُمْ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ فِعْلِ الْكُفَّارِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَذَى أَوِ الرَّدِّ إِلَى الْكُفْرِ ذَكَرَهُ
مَسْأَلَةٌ
أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْعُذْرَ بِالْإِكْرَاهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ [١٨ ٢٠]، ظَاهِرٌ فِي إِكْرَاهِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ طَوَاعِيَتِهِمْ، وَمَعَ هَذَا قَالَ عَنْهُمْ: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِكْرَاهَ لَيْسَ بِعُذْرٍ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ فِي الَّذِي دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ قَرَّبَهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ ; لِأَنَّ صَاحِبَهُ الَّذِي امْتَنَعَ أَنْ يُقَرِّبَ وَلَوْ ذُبَابًا قَتَلُوهُ.
وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا دَلِيلُ الْخِطَابِ، أَيْ: مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ; فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: «تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي» أَنَّ غَيْرَ أُمَّتِهِ مِنَ الْأُمَمِ لَمْ يَتَجَاوَزْ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ أَعَلَّهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَقَدْ تَلَقَّاهُ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا بِالْقَبُولِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ ثَابِتَةٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا) دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ (فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ الْآيَةَ [١٨ ٢٠] ; وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَاهَا هُنَا، أَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُذْرِهِمْ بِالْإِكْرَاهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [١٦ ١٠٦]، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا.
لَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ هُنَا مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ، هَلْ هُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنَ الْكُفَّارِ؟ وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ فِيهِمْ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ كُفَّارٌ، وَالثَّانِي أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ;
قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ.
أَخْبَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي عِدَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ عَلَى أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِرَابِعٍ، وَجَاءَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ هُوَ الصَّحِيحُ وَالْأَوَّلَانِ بَاطِلَانِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِقَوْلِهِ: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ الْآيَةَ [١٨ ٢٢]، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رَجْمًا بِالْغَيْبِ، أَيْ: قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ، كَمَنْ يَرْمِي إِلَى مَكَانٍ لَا يَعْرِفُهُ فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُصِيبُ، وَإِنْ أَصَابَ بِلَا قَصْدٍ ; كَقَوْلِهِ: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [٣٤ ٥٣].
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرَّجْمُ الْقَوْلُ بِالظَّنِّ، يُقَالُ لِكُلِّ مَا يُخْرَصُ رُجِمَ فِيهِ وَمَرْجُومٌ وَمُرَجَّمٌ كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:
شَرِكَةٌ بِمَالٍ أَوْ بِعَمَلٍ | أَوْ بِهِمَا تَجُوزُ لَا لِأَجَلٍ |
وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ | وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.
نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ سَيَفْعَلُ شَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا مُعَلِّقًا ذَلِكَ عَلَى مَشِيئَةِ
وَالْمُرَادُ بِالْغَدِ: مَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ لَا خُصُوصُ الْغَدِ. وَمِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقُ الْغَدِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ ; وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ | وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمُ |
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِقُرَيْشٍ: سَلُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ، وَعَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ،) يَعْنُونَ ذَا الْقَرْنَيْنِ (، وَعَنْ فِتْيَةٍ لَهُمْ قِصَّةٌ عَجِيبَةٌ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، يَعْنُونَ أَصْحَابَ الْكَهْفِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا عَمَّا سَأَلْتُمْ عَنْهُ»، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَبِثَ عَنْهُ الْوَحْيُ مُدَّةً، قِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَأَحْزَنَهُ تَأَخُّرُ الْوَحْيِ عَنْهُ، ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْجَوَابَ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ فِي الرُّوحِ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي الْآيَةَ [١٧ ٨٥]، وَقَالَ فِي الْفِتْيَةِ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ الْآيَاتِ [١٨ ١٣] إِلَى آخِرِ قِصَّتِهِمْ، وَقَالَ فِي الرَّجُلِ الطَّوَّافِ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [١٨ ٨٣] الْآيَاتِ إِلَى آخِرِ قِصَّتِهِ.
فَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَسَبَبَ نُزُولِهَا، وَأَنَّ اللَّهَ عَاتَبَ نَبِيَّهُ فِيهَا عَلَى عَدَمِ قَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمَّا قَالَ لَهُمْ «سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا»، فَاعْلَمْ أَنَّهُ دَلَّتْ آيَةٌ أُخْرَى بِضَمِيمَةِ بَيَانِ السُّنَّةِ لَهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَاتَبَ نَبِيَّهُ سُلَيْمَانَ عَلَى عَدَمِ قَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، كَمَا عَاتَبَ نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ فِتْنَةُ سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ كَانَتْ أَشَدَّ ; فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً - وَفِي رِوَايَةٍ تِسْعِينَ امْرَأَةً، وَفِي رِوَايَةٍ مِائَةِ امْرَأَةٍ - تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، فَقِيلَ لَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ
فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بَيَّنَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا الْآيَةَ [٣٨ ٣٤]، وَأَنَّ فِتْنَةَ سُلَيْمَانَ كَانَتْ بِسَبَبِ تَرْكِهِ قَوْلَهُ «إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، وَأَنَّهُ لَمْ يَلِدْ مِنْ تِلْكَ النِّسَاءِ إِلَّا وَاحِدَةً نِصْفَ إِنْسَانٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْجَسَدَ الَّذِي هُوَ نِصْفُ إِنْسَانٍ هُوَ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا الْآيَةَ، فَمَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ الْآيَةَ، مِنْ قِصَّةِ الشَّيْطَانِ الَّذِي أَخَذَ الْخَاتَمَ وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ، وَطَرَدَ سُلَيْمَانَ عَنْ مُلْكِهِ ; حَتَّى وَجَدَ الْخَاتَمَ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ الَّتِي أَعْطَاهَا لَهُ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ عِنْدَهُ بِأَجْرٍ مَطْرُودًا عَنْ مُلْكِهِ، إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، لَا يَخْفَى أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ النُّبُوَّةِ. فَهِيَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا يَخْفَى أَنَّهَا بَاطِلَةٌ.
وَالظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَيْهِ فِي الْجُلَّةِ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ.
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ إِنْ قُلْتَ سَأَفْعَلُ غَدًا كَذَا وَنَسِيتَ أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ تَذَكَّرْتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ; أَيِ: اذْكُرْ رَبَّكَ مُعَلِّقًا عَلَى مَشِيئَتِهِ مَا تَقُولُ أَنَّكَ سَتَفْعَلُهُ غَدًا إِذَا تَذَكَّرْتَ بَعْدَ النِّسْيَانِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهُ: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [١٨ ٢٣، ٢٤]، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمْ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا، أَنَّ الْمَعْنَى: إِذَا وَقَعَ مِنْكَ النِّسْيَانُ لِشَيْءٍ فَاذْكُرِ اللَّهَ ; لِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ فَتَى مُوسَى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [١٨ ٦٣]، وَكَقَوْلِهِ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [٥٨ ١٩]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [٦ ٦٨]، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، كَمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
مَسْأَلَةٌ
اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ تَأْخِيرُهُ عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ زَمَنًا طَوِيلًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِلَى شَهْرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِلَى سَنَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ: لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ أَبَدًا. وَوَجَّهَ أَخْذَهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ سَيَفْعَلُ شَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ; أَيْ: إِنْ نَسِيتَ تَسْتَثْنِي بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ فَاسْتَثْنِ إِذَا تَذَكَّرْتَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِاتِّصَالٍ وَلَا قُرْبٍ.
وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مُقْتَرِنًا بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَأَخِّرَ لَا أَثَرَ لَهُ وَلَا تُحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَأَخِّرُ يَصِحُّ لَمَا عُلِمَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ تَقَرَّرَ عَقْدٌ وَلَا يَمِينٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، لِاحْتِمَالِ طُرُوِّ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ كَمَا تَرَى. وَيُحْكَى عَنِ الْمَنْصُورِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُ مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ ; فَاسْتَحْضَرَهُ لِيُنْكِرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْمَنْصُورِ: هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْكَ! إِنَّك تَأْخُذُ الْبَيْعَةَ بِالْأَيْمَانِ، أَفَتَرْضَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ عِنْدِكَ فَيَسْتَثْنَوْا فَيَخْرُجُوا عَلَيْكَ! ؟ فَاسْتَحْسَنَ كَلَامَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ.
فَائِدَةٌ
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ: سَمِعْتُ فَتَاةً بِبَغْدَادَ تَقُولُ لِجَارَتِهَا: لَوْ كَانَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحًا فِي الِاسْتِثْنَاءِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَيُّوبَ: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [٣٨ ٤٤]، بَلْ يَقُولُ اسْتَثْنِ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ صَاحِبِ نَشْرِ الْبُنُودِ فِي شَرْحٍ، وَقَوْلِهِ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ:
بِشَرِكَةٍ وَبِالتَّوَطِّي قَالَا | بَعْضٌ وَأَوْجَبَ فِيهِ الِاتِّصَالَا |
وَفِي الْبَوَاقِي دُونَ مَا اضْطِرَارِ | وَأَبْطَلَنْ بِالصَّمْتِ لِلتِّذْكَارِ |
فَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ اللَّهَ عَاتَبَ نَبِيَّهُ عَلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ سَيَفْعَلُ كَذَا غَدًا، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقَعُ شَيْءٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، فَإِذَا نَسِيَ التَّعْلِيقَ بِالْمَشِيئَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ وَلَوْ بَعْدَ طُولٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِنْ عُهْدَةِ عَدَمِ التَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ، وَيَكُونَ قَدْ فَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى مَنْ لَا يَقَعُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، فَنَتِيجَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ: هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ عُهْدَةِ تَرِكَةِ الْمُوجِبِ لِلْعِتَابِ السَّابِقِ، لَا أَنَّهُ يُحِلُّ الْيَمِينَ لِأَنَّ تَدَارُكَهَا قَدْ فَاتَ بِالِانْفِصَالِ، هَذَا هُوَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ وَلَا إِشْكَالَ.
وَأَجَابَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِجَوَابٍ آخَرَ وَهُوَ: أَنَّهُ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ بِقَلْبِهِ وَنَسِيَ النُّطْقَ بِهِ بِلِسَانِهِ، فَأَظْهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي نَوَاهُ وَقْتَ الْيَمِينِ، هَكَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِعِلْمِ الْغَيْبِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [٢٧ ٦٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [١٣ ٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ الْآيَةَ [٣ ١٧٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ الْآيَةَ [١١ ١٢٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [٦ ٥٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [١٠ ٦١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [٣٤ ٣]، وَقَوْلِهِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ.
أَيْ: مَا أَبْصَرَهُ وَمَا أَسْمَعَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنِ اتِّصَافِهِ جَلَّ وَعَلَا بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [٤٢ ١١]، وَقَوْلِهِ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [٥٨ ١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [٢٢ ٧٥]، وَالْآيَاتُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ لَيْسَ لَهُمْ وَلِيٌّ مِنْ دُونِهِ جَلَّ وَعَلَا، بَلْ هُوَ وَلِيُّهُمْ جَلَّ وَعَلَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [٢ ٢٥٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [١٠ ٦٢]، فَبَيَّنَ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاؤُهُ، وَالْوَلِيُّ: هُوَ مَنِ انْعَقَدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ سَبَبٌ يُوَالِيكَ وَتُوَالِيهِ بِهِ، فَالْإِيمَانُ سَبَبٌ يُوَالِي بِهِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ بِالطَّاعَةِ، وَيُوَالِيهِمْ بِهِ الثَّوَابَ وَالنَّصْرَ وَالْإِعَانَةَ.
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [٥ ٥٥]، وَقَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الْآيَةَ [٩ ٦٧١]، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [٢٣ ٦].
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ تَعَالَى مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [٤٧ ١١]، وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْمُؤْمِنِينَ هِيَ وِلَايَةُ الثَّوَابِ وَالنَّصْرِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ، فَلَا تُنَافِي أَنَّهُ مَوْلَى
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا ابْنَ عَامِرٍ «وَلَا يُشْرِكُ» بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَضَمِّ الْكَافِ عَلَى الْخَبَرِ، وَلَا نَافِيَةٌ وَالْمَعْنَى: وَلَا يُشْرِكُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَحَدًا فِي حُكْمِهِ، بَلِ الْحُكْمُ لَهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا لَا حُكْمَ لِغَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ، فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ تَعَالَى، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ، وَالْقَضَاءُ مَا قَضَاهُ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ ; «وَلَا تُشْرِكْ» بِضَمِّ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْكَافِ بِصِيغَةِ النَّهْيِ، أَيْ: لَا تُشْرِكْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَوْ لَا تُشْرِكْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ أَحَدًا فِي حُكْمِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، بَلْ أَخْلِصِ الْحُكْمَ لِلَّهِ مِنْ شَوَائِبِ شِرْكِ غَيْرِهِ فِي الْحُكْمِ، وَحُكْمُهُ جَلَّ وَعَلَا الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا شَامِلٌ لِكُلِّ مَا يَقْضِيهِ جَلَّ وَعَلَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّشْرِيعُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْحُكْمِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [١٢ ٤٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ الْآيَةَ [١٢ ٦٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [٤٢ ١٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [٤٠ ١٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٢٨ ٨٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٢٨ ٧٠]، وَقَوْلِهِ: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [٥ ٥٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [٦ ١١٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا فِي «سُورَةِ النِّسَاءِ» بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى غَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ يَتَعَجَّبُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ مَعَ إِرَادَةِ التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ بَالِغَةٌ مِنَ الْكَذِبِ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْعَجَبُ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [٤ ٦٠].
وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَظْهَرُ غَايَةَ الظُّهُورِ: أَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْقَوَانِينَ الْوَضْعِيَّةَ الَّتِي شَرَعَهَا الشَّيْطَانُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَوْلِيَائِهِ مُخَالَفَةً لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ إِلَّا مَنْ طَمَسَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ، وَأَعْمَاهُ عَنْ نُورِ الْوَحْيِ مِثْلَهُمْ.
اعْلَمْ، أَنَّهُ يَجِبُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ النِّظَامِ الْوَضْعِيِّ الَّذِي يَقْتَضِي تَحْكِيمُهُ الْكُفْرَ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَبَيْنَ النِّظَامِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ النِّظَامَ قِسْمَانِ: إِدَارِيٌّ، وَشَرْعِيٌّ، أَمَّا الْإِدَارِيُّ: الَّذِي يُرَادُ بِهِ ضَبْطُ الْأُمُورِ وَإِتْقَانُهَا عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِلشَّرْعِ، فَهَذَا لَا مَانِعَ مِنْهُ، وَلَا مُخَالِفَ فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ عَمِلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مَا كَانَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَكَتْبِهِ أَسْمَاءَ الْجُنْدِ فِي دِيوَانٍ لِأَجْلِ الضَّبْطِ، وَمَعْرِفَةِ مَنْ غَابَ وَمَنْ حَضَرَ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَ الْمَقْصُودِ مِنْهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعَاقِلَةِ الَّتِي تَحْمِلُ دِيَةَ الْخَطَأِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِتَخَلُّفِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَصَلَ تَبُوكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَاشْتِرَائِهِ - أَعْنِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَارَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَجَعْلِهِ إِيَّاهَا سِجْنًا فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَّخِذْ سِجْنًا هُوَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ، فَمِثْلُ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْإِدَارِيَّةِ الَّتِي تُفْعَلُ لِإِتْقَانِ الْأُمُورِ مِمَّا لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ لَا بَأْسَ بِهِ، كَتَنْظِيمِ شُئُونِ الْمُوَظَّفِينَ، وَتَنْظِيمِ إِدَارَةِ الْأَعْمَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْأَنْظِمَةِ الْوَضْعِيَّةِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
وَأَمَّا النِّظَامُ الشَّرْعِيُّ الْمُخَالِفُ لِتَشْرِيعِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَتَحْكِيمُهُ كُفْرٌ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَدَعْوَى أَنَّ تَفْضِيلَ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ لَيْسَ بِإِنْصَافٍ، وَأَنَّهُمَا يَلْزَمُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْمِيرَاثِ. وَكَدَعْوَى أَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ ظُلْمٌ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ ظُلْمٌ لِلْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الرَّجْمَ وَالْقَطْعَ وَنَحْوَهُمَا أَعْمَالٌ وَحْشِيَّةٌ لَا يَسُوغُ فِعْلُهَا بِالْإِنْسَانِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
فَتَحْكِيمُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ النِّظَامِ فِي أَنْفُسِ الْمُجْتَمَعِ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ كُفْرٌ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَتَمَرُّدٌ عَلَى نِظَامِ السَّمَاءِ الَّذِي وَضَعَهُ مَنْ خَلَقَ الْخَلَائِقَ كُلَّهَا وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مُشَرِّعٌ آخَرُ عُلُوًّا كَبِيرًا أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [٤٢ ٢١]، قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [١٠ ٥٩]، وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [١٦ ١١٦]، وَقَدْ قَدَّمْنَا جُمْلَةً وَافِيَةً مِنْ هَذَا النَّوْعِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْآيَةَ [١٧ ٩].
أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَتْلُوَ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ رَبُّهُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ «وَاتْلُ» [١٨ ٢٧]، شَامِلٌ لِلتِّلَاوَةِ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ، وَالتِّلْوِ: بِمَعْنَى الِاتِّبَاعِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَمْرِهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَاتِّبَاعِهِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» : اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ الْآيَةَ [٢٩ ٤٥]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ «النَّمْلِ» : إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ الْآيَةَ [٢٧ ٩١، ٩٢]، وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [٧٣ ٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ بِتِلَاوَتِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَلَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [٦ ١٠٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [٤٣ ٤٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [٤٦ ٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [١٠ ١٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بَعْضَ النَّتَائِجِ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَاتِّبَاعِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [٣٥ ٢٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [٢ ١٢١]، وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ.
بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ; أَيْ: لِأَنَّ أَخْبَارَهَا صِدْقٌ وَأَحْكَامَهَا عَدْلٌ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُبَدِّلَ صِدْقَهَا كَذِبًا، وَلَا أَنْ يُبَدِّلَ عَدْلَهَا جَوْرًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [٦ ١١٥]، فَقَوْلُهُ: «صِدْقًا» يَعْنِي فِي الْإِخْبَارِ، وَقَوْلُهُ «عَدْلًا» أَيْ: فِي الْأَحْكَامِ. وَكَقَوْلِهِ:
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَنَّهُ هُوَ يُبَدِّلُ مَا شَاءَ مِنَ الْآيَاتِ مَكَانَ مَا شَاءَ مِنْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ الْآيَةَ [١٦ ١٠١]، وَقَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [٢ ١٠٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي [١٨ ٢٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا.
أَصْلُ الْمُلْتَحَدِ: مَكَانُ الِالْتِحَادِ وَهُوَ الِافْتِعَالُ: مِنَ اللَّحْدِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ ; لِأَنَّهُ مَيْلٌ فِي الْحَفْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [٤١ ٤٠]، وَقَوْلُهُ: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ الْآيَةَ [٧ ١٨٠]، فَمَعْنَى اللَّحْدِ وَالْإِلْحَادِ فِي ذَلِكَ: الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ، وَالْمُلْحِدُ الْمَائِلُ عَنْ دِينِ الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الصَّرْفِ أَنَّ الْفِعْلَ إِنْ زَادَ مَاضِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَمَصْدَرُهُ الْمِيمِيُّ وَاسْمُ مَكَانِهِ وَاسْمُ زَمَانِهِ كُلُّهَا بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ كَمَا هُنَا، فَالْمُلْتَحَدُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَكَانُ الِالْتِحَادِ، أَيِ: الْمَكَانُ الَّذِي يَمِيلُ فِيهِ إِلَى مَلْجَأٍ أَوْ مَنْجًى يُنْجِيهِ مِمَّا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجِدُ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ; أَيْ: مَكَانًا يَمِيلُ إِلَيْهِ وَيَلْجَأُ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يُبَلِّغْ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَيُطِعْهُ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ [٧٢ ٢١ - ٢٢]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ الْآيَةَ [٦٩ ٤٤ - ٤٧].
وَكَوْنُهُ لَيْسَ لَهُ مُلْتَحَدٌ، أَيْ: مَكَانٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ تَكَرَّرَ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَالْمَنَاصِ، وَالْمَحِيصِ، وَالْمَلْجَأِ، وَالْمَوْئِلِ، وَالْمَفَرِّ، وَالْوَزَرِ، كَقَوْلِهِ: فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ [٣٨ ٣]، وَقَوْلِهِ: وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [٤ ١٢١]، وَقَوْلِهِ: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ [٥٠ ٣٦]، وَقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [٤٢ ٤٧]، وَقَوْلِهِ: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [١٨ ٥٨]،
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.
أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ، أَيْ: يَحْبِسَهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ، لَا يُرِيدُونَ بِدُعَائِهِمْ إِلَّا رِضَاهُ جَلَّ وَعَلَا.
وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ كَعَمَّارٍ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَحْوِهِمْ، لَمَّا أَرَادَ صَنَادِيدُ الْكُفَّارِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُدَهُمْ عَنْهُ، وَيُجَالِسَهُمْ بِدُونِ حُضُورِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» أَنَّ اللَّهَ كَمَا أَمَرَهُ هُنَا بِأَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ أَمْرَهُ بِأَلَّا يَطْرُدَهُمْ، وَأَنَّهُ إِذَا رَآهُمْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ - إِلَى قَوْلِهِ - وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ [٦ ٥٢ - ٥٤]، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا [٨٠ ١ - ١١]، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَا طَلَبَهُ الْكُفَّارُ مِنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرْدِهِ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَضُعَفَاءَهُمْ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ وَازْدِرَاءً بِهِمْ، طَلَبَهُ أَيْضًا قَوْمُ نُوحٍ مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ طَرْدِهِمْ أَيْضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [٢٦ ١١١]، وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ أَيْضًا: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [١١ ٢٧]، وَقَالَ عَنْ نُوحٍ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ طَرْدِهِمْ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [٢٦ ١١٤]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [١١ ٢٩ - ٣٠].
وَقَوْلُهُ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [١٨ ٢٨]، فِيهِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَادَّةَ الصَّبْرِ تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا لِلْمَفْعُولِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ أَوْ عَنْتَرَةَ:
فَصَبَرَتْ عَارِفَةً بِذَلِكَ حُرَّةً | تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ تَعْدُوَ عَيْنَاهُ عَنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَفُقَرَائِهِمْ، طُمُوحًا إِلَى الْأَغْنِيَاءِ وَمَا لَدَيْهِمْ مِنْ زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَعْنَى وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ [١٨ ٢٨]، أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُهُمْ عَيْنَاكَ وَتَنْبُو عَنْ رَثَاثَةِ زِيِّهِمْ، مُحْتَقِرًا لَهُمْ طَامِحًا إِلَى أَهْلِ الْغِنَى وَالْجَاهِ وَالشَّرَفِ بَدَلًا مِنْهُمْ، وَعَدَا يَعْدُو: تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا إِلَى الْمَفْعُولِ وَتَلْزَمُ، وَالْجُمْلَةُ فِي قَوْلِهِ: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي مَحَلِّ حَالٍ وَالرَّابِطُ الضَّمِيرُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارِعِ ثَبَتْ | حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الْوَاوِ خَلَتْ |
وَلَا تُجِزْ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ لَهْ إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَهُ أَوْ كَانَ جُزْءَ مَا لَهُ أُضِيفَا أَوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلَا تَحِيفَا وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ طُمُوحِ الْعَيْنِ إِلَى زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مَعَ الِاتِّصَافِ بِمَا يُرْضِيهِ جَلَّ وَعَلَا مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ، كَمُجَالَسَةِ فَقُرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، أَشَارَ لَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [٢٠ ١٣٠ - ١٣١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ الْآيَةَ [١٥ ٨٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.
نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ طَاعَةِ مَنْ أَغْفَلَ اللَّهُ قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِهِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطَا، وَقَدْ كَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ نَهْيَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اتِّبَاعِ مِثْلِ هَذَا الْغَافِلِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الْمُتَّبَعِ هَوَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [٧٦ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ الْآيَةَ [٣٣ ٤٨]،
وَقَدْ أَمَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُتَوَلِّينَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ غَيْرَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ [١٨ ٢٨]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَعْرِضُ لِلْعَبْدِ مِنْ غَفْلَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَا يَقَعُ شَيْءٌ الْبَتَّةَ كَائِنًا مَا كَانَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، جَلَّ وَعَلَا، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ الْآيَةَ [٧٦ ٣٠]، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [٦ ١٠٧]، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [٣٢ ١٣]، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [٦ ٣٥]، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ الْآيَةَ [٢ ٧]، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [١٧ ٤٦]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، لَا يَقَعُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. فَمَا يَزْعُمُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَيُحَاوِلُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ دَائِمًا تَأْوِيلَ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى نَحْوِ مَا يُطَابِقُهُ مِنِ اسْتِقْلَالِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَإِرَادَتِهِ فَأَفْعَالُهُ دُونَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا، وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.
وَمَعْنَى اتِّبَاعِهِ هَوَاهُ: أَنَّهُ يَتْبَعُ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَتَهْوَاهُ مِنَ الشَّرِّ، كَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي.
وَقَوْلُهُ: وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، قِيلَ: هُوَ مِنَ التَّفْرِيطِ الَّذِي هُوَ التَّقْصِيرُ، وَتَقْدِيمُ الْعَجْزِ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، أَيْ: كَانَتْ أَعْمَالُهُ سَفَهًا وَضَيَاعًا وَتَفْرِيطًا، وَقِيلَ: مِنَ الْإِفْرَاطِ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، كَقَوْلِ الْكُفَّارِ الْمُحْتَقِرِينَ لِفُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: نَحْنُ أَشْرَافُ مُضَرَ وَسَادَاتُهَا! إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَكَ جَمِيعُ النَّاسِ، وَهَذَا مِنَ التَّكَبُّرِ وَالْإِفْرَاطِ فِي الْقَوْلِ، وَقِيلَ «فُرُطًا» أَيْ: قِدَمًا فِي الشَّرِّ. مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَطَ مِنْهُ أَمْرٌ، أَيْ: سَبَقَ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عِنْدِي بِحَسَبَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ «فُرُطًا» : أَيْ: مُتَقَدِّمًا لِلْحَقِّ وَالصَّوَابِ، نَابِذًا لَهُ وَرَاءَ
وَلَقَدْ حَمَيْتُ الْخَيْلَ تَحْمِلُ شَكَّتِي | فُرُطٌ وِشَاحِي إِذْ غَدَوْتُ لِجَامَهَا |
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.
أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، وَفِي إِعْرَابِهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ «الْحَقَّ» مُبْتَدَأٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرُهُ، أَيِ: الْحَقُّ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، الْمُتَضَمِّنُ لِدِينِ الْإِسْلَامِ كَائِنٌ مَبْدَؤُهُ مِنْ رَبِّكُمْ جَلَّ وَعَلَا، فَلَيْسَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ، وَلَا مِنِ افْتِرَاءِ الْكَهَنَةِ، وَلَا مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ. بَلْ هُوَ مِنْ خَالِقِكُمْ جَلَّ وَعَلَا، الَّذِي تَلْزَمُكُمْ طَاعَتُهُ وَتَوْحِيدُهُ، وَلَا يَأْتِي مِنْ لَدُنْهُ إِلَّا الْحَقُّ الشَّامِلُ لِلصِّدْقِ فِي الْأَخْبَارِ، وَالْعَدْلُ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَا حَقَّ إِلَّا مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ الْحَقُّ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرُهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [٢ ١٤٧]، وَقَوْلِهِ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [٣ ٦٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِحَسَبَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَيْسَ هُوَ التَّخْيِيرُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ. وَالتَّهْدِيدُ بِمِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّخْيِيرُ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ أَنَّهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا، وَهَذَا أَصْرَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ، إِذْ لَوْ كَانَ التَّخْيِيرُ عَلَى بَابِهِ لَمَا تَوَعَّدَ فَاعِلَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ الْمُخَيَّرَ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَعْتَدْنَا [١٨ ٢٩]، أَصْلُهُ مِنَ الِاعْتَادِ، وَالتَّاءُ فِيهِ
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الظُّلْمَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ وَضْعُ الْعِبَادَةِ فِي مَخْلُوقٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الظُّلْمِ عَلَى النَّقْصِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [١٨ ٣٣]، وَأَصْلُ مَعْنَى مَادَّةِ الظُّلْمِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلِأَجَلِ ذَلِكَ قِيلَ الَّذِي يَضْرِبُ اللَّبَنَ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ: ظَالِمٌ لِوَضْعِهِ ضَرْبَ لَبَنِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ; لِأَنَّ ضَرْبَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ يُضِيعُ زُبْدَهُ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي | وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكِدِ الظَّلِيمُ |
وَصَاحِبُ صِدْقٍ لَمْ تَرِبْنِي شِكَاتُهُ | ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ |
إِلَّا الْأَوَارِي لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا | وَالنُّؤَيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ |
فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ | عَلَى الْعَيْشِ مِرْوَدٌ عَلَيْهَا ظَلِيمُهَا |
يَا حَكَمُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ | سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودِ |
هُوَ الْمُدْخِلُ النُّعْمَانَ بَيْتًا سَمَاؤُهُ | صُدُورُ الْفُيُولِ بَعْدَ بَيْتٍ مُسَرْدَقِ |
وَأَمَّا الْمُرَادُ بِالسُّرَادِقِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ مَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ إِحْدَاقُ النَّارِ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ «سُرَادِقُهَا» : أَيْ: سُورُهَا، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ «سُرَادِقُهَا» : سُورٌ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ «سُرَادِقُهَا» : عُنُقٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ فَيُحِيطُ بِالْكُفَّارِ كَالْحَظِيرَةِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ دُخَانٌ يُحِيطُ بِهِمْ. وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي «الْمُرْسَلَاتِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [٧٧ ٣٠ - ٣١]، وَ «الْوَاقِعَةِ» فِي قَوْلِهِ: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ [٥٦ ٤٣ - ٤٤].
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ بِالدُّنْيَا. وَرَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْبَحْرُ هُوَ جَهَنَّمُ ثُمَّ تَلَا» نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا «ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا أَبَدًا مَا دُمْتُ حَيًّا وَلَا تُصِيبُنِي مِنْهَا قَطْرَةٌ» ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِسُرَادِقِ النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ كِثَفُ كُلِّ جِدَارٍ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً» وَأَخْرَجَهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. انْتَهَى مِنَ الْقُرْطُبِيِّ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. قَالَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَتَبِعَهُ الشَّوْكَانِيُّ. وَحَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورُ عَنِ الْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ النَّارَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ كُلِّ
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا، يَعْنِي إِنْ يَطْلُبُوا الْغَوْثَ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكَرْبِ يُغَاثُوا، يُؤْتَوْا بِغَوْثٍ هُوَ مَاءٌ كَالْمُهْلِ. وَالْمُهْلُ فِي اللُّغَةِ: يُطْلَقُ عَلَى مَا أُذِيبَ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ، كَذَائِبِ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى دُرْدِيِّ الزَّيْتِ وَهُوَ عَكَرُهُ. وَالْمُرَادُ بِالْمُهْلِ فِي الْآيَةِ: مَا أُذِيبُ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: دُرْدِيِّ الزَّيْتِ. وَقِيلَ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقَطِرَانِ. وَقِيلَ السُّمُّ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ إِغَاثَةٍ فِي مَاءٍ كَالْمُهْلِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَكَيْفَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ [١٨ ٢٩].
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ. وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ:
غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ تَقَتَّلَ عَامِرٌ | يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ |
وَخَيْلٌ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ | تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ |
لِسَاكِنٍ صَحَّ انْقُلِ التَّحْرِيكَ مِنْ ذِي لِينٍ آتِ عَيْنَ فِعْلٍ كَأَبِنْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَشْوِي الْوُجُوهَ، أَيْ: يَحْرِقُهَا حَتَّى تَسْقُطَ فَرْوَةُ الْوَجْهِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ قَالَ: «كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ»، هُوَ كَعَكَرِ الزَّيْتِ فَإِذَا قَرُبَ إِلَيْهِ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ، قَالَ
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِئْسَ الشَّرَابُ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ فِيهِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: بِئْسَ الشَّرَابُ ذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي يُغَاثُونَ بِهِ. وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي قَوْلِهِ «سَاءَتْ» عَائِدٌ إِلَى النَّارِ.
وَالْمُرْتَفَقُ: مَكَانُ الِارْتِفَاقِ. وَأَصْلُهُ أَنْ يَتَّكِئَ الْإِنْسَانُ مُعْتَمِدًا عَلَى مِرْفَقِهِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِالْمُرْتَفَقِ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى. قِيلَ مُرْتَفَقًا. أَيْ: مَنْزِلًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ. وَقِيلَ مَقَرًّا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ. وَقِيلَ مَجْلِسًا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْعُتْبِيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُرْتَفَقًا أَيْ: مُجْتَمَعًا. فَهُوَ عِنْدَهُ مَكَانُ الِارْتِفَاقِ بِمَعْنَى مُرَافَقَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي النَّارِ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْأَقْوَالِ أَنَّ النَّارَ بِئْسَ الْمُسْتَقَرُّ هِيَ، وَبِئْسَ الْمَقَامُ هِيَ. وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [٢٥ ٦٦]، وَكَوْنُ أَصْلِ الِارْتِفَاقِ هُوَ الِاتِّكَاءُ عَلَى الْمِرْفَقِ، مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
نَامَ الْخَلِيُّ وَبِتُّ اللَّيْلَ مُرْتَفِقًا | كَأَنَّ عَيْنِيَ فِيهَا الصَّابُ مَذْبُوحُ |
قَدْ بِتُّ مُرْتَفِقًا لِلنَّجْمِ أَرْقُبُهُ | حَيْرَانَ ذَا حَذَرٍ لَوْ يَنْفَعُ الْحَذَرُ |
قَالَتْ لَهُ وَارْتَفَقَتْ أَلَا فَتًى | يَسُوقُ بِالْقَوْمِ غَزَالَاتِ الضُّحَا |
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا الْآيَةَ [٧٨ ٢٤ - ٢٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [٣٨ ٥٧ - ٥٨]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طُرُقًا مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ «يُونُسَ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا وَأَحْسَنَ فِي عَمَلِهِ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ، أَيْ: جَزَاءَ عَمَلِهِ: بَلْ يُجَازَى بِعَمَلِهِ الْحَسَنِ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى.
وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [٣ ١٩٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [٣ ١٧١]، وَقَوْلِهِ: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [٥٥ ٦٠]، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى سُؤَالَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ أَيْنَ خَبَرُ «إِنَّ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [٨ ٣٠] ؟ فَإِذَا قِيلَ: خَبَرُهَا جُمْلَةُ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [١٨ ٣٠] تُوَجِّهُ السُّؤَالُ.
الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَ رَابِطُ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ بِالْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ اسْمُ «إِنَّ» ؟.
اعْلَمْ أَنَّ خَبَرَ «إِنَّ» فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، قِيلَ: هُوَ جُمْلَةُ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَعَلَى هَذَا فَالرَّابِطُ مَوْجُودٌ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَقِيلَ: «إِنَّ» الثَّانِيَةَ وَاسْمَهَا وَخَبَرَهَا، كُلُّ ذَلِكَ خَبَرُ «إِنَّ» الْأُولَى. وَنَظِيرُ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ «إِنَّ» بِـ «إِنَّ» وَخَبَرِهَا وَاسْمِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْآيَةَ [٢٢ ١٧]، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ أَلْبَسَهُ | سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الْخَوَاتِيمُ |
الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ الرَّابِطَ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ مِنْهُمْ عَمَلًا ; كَقَوْلِهِمْ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ، أَيْ: مَنَوَانِ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ الْآيَةَ [٢ ٢٣٤]، أَيْ: يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهُمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَإِذَا كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا يُنَظِّمُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ قَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الرَّبْطِ بِالضَّمِيرِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ، وَهُوَ الصَّوَابُ ; لِأَنَّ الرَّبْطَ حَاصِلٌ بِالِاتِّحَادِ فِي الْمَعْنَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ
إِلَى قَوْلِهِ: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، فَذَكَرَ أَنَّهُ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فِيهَا الْأَنْهَارُ، وَيُحَلَّوْنَ فِيهَا أَسَاوِرَ الذَّهَبِ، وَيَلْبَسُونَ فِيهَا الثِّيَابَ الْخُضْرَ مِنَ السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ، فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ وَهِيَ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، وَالْحِجَالُ: جَمْعُ حَجْلَةٍ وَهُوَ بَيْتٌ يُزَيَّنُ لِلْعَرُوسِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَى ثَوَابِهِمْ بِقَوْلِهِ: نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [١٨ ٣١]، وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَهُ هُنَا مِنْ صِفَاتِ جَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْإِنْسَانِ» : إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا إِلَى قَوْلِهِ: وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [٧٦ ٥ - ٢٢]، وَكَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْوَاقِعَةِ»، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [٥٦ ١٠ - ١٢] إِلَى قَوْلِهِ: لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الْآيَةَ ٣٨]، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ:
وَقَدْ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «السَّجْدَةِ» أَنَّ مَا أَخَفَاهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ جَلَّ وَعَلَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الْآيَةَ [٣٢ ١٧].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. جَنَّاتُ عَدْنٍ أَيْ: إِقَامَةٌ لَا رَحِيلَ بَعْدَهَا وَلَا تَحَوُّلَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [١٨ ١٠٨] أَصْلُهُ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ: إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» مَعْنَى السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَالْأَسَاوِرُ: جَمْعُ سِوَارٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَمْعُ أَسْوِرَةٍ، وَالثَّوَابُ: الْجَزَاءُ مُطْلَقًا عَلَى
لِكُلِّ أَخِي مَدْحٌ ثَوَابٌ عَلِمْتُهُ | وَلَيْسَ لِمَدْحِ الْبَاهِلِيِّ ثَوَابُ |
وَقَوْلُهُ: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا، الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ «حَسُنَتْ» رَاجِعٌ إِلَى «جَنَّاتِ عَدْنٍ». وَالْمُرْتَفَقُ قَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ هُنَا فِي الْجَنَّةِ «وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا» يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [٢٥ ٧٥ - ٧٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الْكَافِرِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ، الَّذِي ضَرَبَهُ مَثَلًا مَعَ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِرُؤَسَاءِ الْكُفَّارِ، الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِالْمَالِ وَالْجَاهِ عَلَى ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ الْفُقَرَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ دَخَلَ جَنَّتَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ مَا يَظُنُّ أَنْ تَهْلِكَ جَنَّتُهُ وَلَا تَفْنَى: لِمَا رَأَى مِنْ حُسْنِهَا وَنَضَارَتِهَا؟ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، وَإِنَّهُ إِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ يُبْعَثُ وَيُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ لَيَجِدَنَّ عِنْدَهُ خَيْرًا مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: مِنْ جَهْلِ الْكُفَّارِ وَاغْتِرَارِهِمْ بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَظَنِّهِمْ أَنَّ الْآخِرَةَ كَالدُّنْيَا يُنْعِمُ عَلَيْهِمْ فِيهَا أَيْضًا بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي «فُصِّلَتْ» : وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [٤١ ٥٠]، وَقَوْلِهِ فِي «مَرْيَمَ» : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [١٩ ٧٧]، وَقَوْلِهِ فِي «سَبَأٍ» : وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [٣٤ ٣٥]، وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [١٨ ٣٤].
وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا كَذِبَهُمْ وَاغْتِرَارَهُمْ فِيمَا ادَّعَوْهُ: مِنْ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ
وَقَوْلُهُ: مُنْقَلَبًا، أَيْ: مَرْجِعًا وَعَاقِبَةً، وَانْتِصَابُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَقَوْلُهُ: لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ «مِنْهُمَا» بِصِيغَةِ تَثْنِيَةِ الضَّمِيرِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ «مِنْهَا» بِصِيغَةِ إِفْرَادِ هَاءِ الْغَائِبَةِ، فَالضَّمِيرُ عَلَى قِرَاءَةِ تَثْنِيَتِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْجَنَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ [١٨ ٣٢]، وَقَوْلِهِ: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْإِفْرَادِ رَاجِعٌ إِلَى الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ.. الْآيَةَ [١٨ ٣٥].
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ إِفْرَادِ الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّهُمَا جَنَّتَانِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ قَالَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ دَخَلَ إِحْدَاهُمَا، إِذْ لَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِيهِمَا مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَمَا أَجَابَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ ظَاهِرُ السُّقُوطِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانِ فِي الْبَحْرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا.
بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ الْمَضْرُوبَ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ تَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ أُولُو الْمَالِ وَالْجَاهِ مِنَ الْكُفَّارِ، قَالَ لِصَاحِبِهِ الْآخَرِ الْكَافِرِ الْمَضْرُوبِ مَثَلًا لِذَوِي الْمَالِ وَالْجَاهِ مِنَ الْكُفَّارِ، مُنْكِرًا عَلَيْهِ كُفْرَهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلُقَكَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا؟ لِأَنَّ خَلْقَهُ إِيَّاهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ تَسْوِيَتَهُ إِيَّاهُ رَجُلًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إِيمَانَهُ بِخَالِقِهِ الَّذِي أَبْرَزَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَجَعَلَهُ بَشَرًا سَوِيًّا، وَيَجْعَلُهُ يَسْتَبْعِدُ مِنْهُ كُلَّ الْبُعْدِ الْكُفْرَ بِخَالِقِهِ الَّذِي أَبْرَزَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمُبَيَّنُ هُنَا بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٢ ٢٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٣٦ ٢٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ [١٨ ٣٨]، مَعْنَى خَلْقُهُ إِيَّاهُ مِنْ تُرَابٍ: أَيْ: خَلْقُ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ مِنَ التُّرَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [٣ ٥٩]، وَنَظِيرُ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [٢٢ ٥].
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، أَيْ: بَعْدَ أَنْ خَلَقَ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِهِ، وَجَعَلَهَا زَوْجًا لَهُ كَانَتْ طَرِيقُ إِيجَادِ الْإِنْسَانِ بِالتَّنَاسُلِ، فَبَعْدَ طَوْرِ التُّرَابِ طَوْرُ النُّطْفَةِ، ثُمَّ طَوْرُ الْعَلَقَةِ إِلَى آخِرِ أَطْوَارِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ [٣٩ ٦]، وَقَدْ أَوْضَحَهَا تَعَالَى إِيضَاحًا تَامًّا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [٢٣ ١٢ - ١٣].
وَمِمَّا يُبَيِّنُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «السَّجْدَةِ» : ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [٣٢ ٦ - ٩]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [١٨ ٣٨]، كَقَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [١٦ ٤]، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [٣٦ ٧٧]، أَيْ: بَعْدَ أَنْ كَانَ نُطْفَةً سَارَ إِنْسَانًا خَصِيمًا شَدِيدَ الْخُصُومَةِ فِي تَوْحِيدِ رَبِّهِ،
كُلُّ جَارٍ ظَلَّ مُغْتَبِطًا | غَيْرَ جِيرَانِ بَنِي جَبَلَهْ |
مَزَّقُوا ثَوْبَ فَتَاتِهِمْ | لَمْ يُرَاعُوا حُرْمَةَ الرَّجُلَهْ |
وَلَا يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ | يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا |
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [١٨ ٣٨]، بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ قَالَ لِصَاحِبِهِ الْكَافِرِ: أَنْتَ كَافِرٌ؟ ! لَكِنْ أَنَا لَسْتُ بِكَافِرٍ! بَلْ مُخْلِصٌ عِبَادَتِيَ لِرَبِّيَ الَّذِي خَلَقَنِي ; أَيْ: لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ مِنِّي أَنْ أَعْبُدَهُ ; لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ مُحْتَاجٌ مِثْلِي إِلَى خَالِقٍ يَخْلُقُهُ، تَلْزَمُهُ عِبَادَةُ خَالِقِهِ كَمَا تَلْزَمُنِي.
وَنَظِيرُ قَوْلِ هَذَا الْمُؤْمِنِ مَا قَدَّمْنَا عَنِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ الْمَذْكُورِ فِي «يس» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [٣٦ ٢٢]، أَيْ: أَبْدَعِنِي وَخَلَقَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَمَا قَدَّمْنَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ.. الْآيَةَ [٢٦ ٧٧ - ٧٨]، وَقَوْلِهِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي الْآيَةَ [٤٣ ٢٦ - ٢٧].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَكِنَّا أَصْلُهُ «لَكِنْ أَنَا» فَحُذِفَتْ هَمْزَةُ «أَنَا» وَأُدْغِمَتْ نُونُ «لَكِنْ» فِي نُونِ «أَنَا» بَعْدَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى نُونِ «لَكِنْ» فَسَقَطَتِ الْهَمْزَةُ بِنَقْلِ حَرَكَتِهَا، ثُمَّ أُدْغِمَتِ النُّونُ فِي النُّونِ! وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَتَرْمِينَنِي بِالطَّرْفِ أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ | وَتَقْلِينَنِي لَكِنَّا إِيَّاكِ لَمْ أَقِلِ |
فَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفْتَ قَرَابَتِي | وَلَكِنَّ زَنْجِيٌّ عَظِيمُ الْمَشَافِرِ |
لَهِنَّكِ مِنْ عَبْسِيَّةٍ لَوَسِيمَةٌ | عَلَى هَنَوَاتٍ كَاذِبٍ مَنْ يَقُولُهَا |
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، قَرَأَهُ جَمَاهِيرُ الْقُرَّاءِ فِي الْوَصْلِ «لَكِنْ»، بِغَيْرِ أَلْفٍ بَعْدَ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ «لَكِنَّا» بِالْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوَاهُ الْمُسَيَّبِيُّ عَنْ نَافِعٍ، وَرُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَقْفِ. وَمَدِّ نُونِ «أَنَا» لُغَةُ تَمِيمٍ إِنْ كَانَ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: إِنَّ إِثْبَاتَ أَلِفِ «أَنَا» مُطْلَقًا فِي الْوَصْلِ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَغَيْرُهَا يُثْبِتُونَهَا عَلَى الِاضْطِرَارِ، قَالَ: فَجَاءَتْ قِرَاءَةُ «لَكِنَّا» بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَمِنْ شَوَاهِدِ مَدِّ «أَنَا» قَبْلَ غَيْرِ الْهَمْزَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَنَا سَيْفُ الْعَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي | حَمِيدًا قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَا |
فَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالُ الْقَوَافِي | بَعْدَ الْمَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارًا |
لَوْ كَانَ يَدْرِي مَا الْمُحَاوَرَةُ اشْتَكَى | وَلَكَانَ لَوْ عَلِمَ الْجَوَابَ مُكَلِّمِي |
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا.
مَعْنَى قَوْلِهِ: «غَوْرًا» أَيْ: غَائِرًا ; فَهُوَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ ; كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرًا فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا وَالْغَائِرُ: ضِدُّ النَّابِعِ، وَقَوْلُهُ: فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [١٨ ٤١] ; لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَعْدَمَ مَاءَهَا بَعْدَ وُجُودِهِ، لَا تَجِدُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَكَ بِهِ غَيْرَهُ جَلَّ وَعَلَا. وَأَشَارَ إِلَى نَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [٦٧ ٣٠]، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الصَّحِيحَ: لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَنَا بِهِ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ; كَمَا قَالَ هُنَا: فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [١٨ ٤١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبَا.
اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قِرَاءَاتٌ سَبْعِيَّةٌ، وَأَقْوَالًا لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، بَعْضُهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهَا مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ، يَشْهَدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا قُرْآنٌ، فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ وَأَدِلَّتَهُ فِي الْقُرْآنِ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ [١٨ ٤٣]، قَرَأَهُ السَّبْعَةُ مَا عَدَا حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِئَةٌ» بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَوْلَهُ: الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [١٨ ٤٤]، قَرَأَهُ السَّبْعَةُ
الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَتِلْكَ الْحَالِ تَكُونُ الْوَلَايَةُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ لِلَّهِ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا رَأَى الْعَذَابَ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [٤٠ ٨٤]، وَقَوْلِهِ فِي فِرْعَوْنَ: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [١٠ ٩٠ - ٩١]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَلَايَةَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَقَامِ وَتِلْكَ الْحَالِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَيُوَالِي فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَلَايَةَ رَحْمَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [٢ ٢٥٧]، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [٤٧ ١١]، وَلَهُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَلَايَةُ الْمُلْكِ وَالْقَهْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [١٠ ٣٠]، وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَالْوِلَايَةُ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَالْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ; كَقَوْلِهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [٤٠ ١٦]، وَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [٢٥ ٢٦]، وَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [٢٢ ٥٦]، وَعَلَى قِرَاءَةِ «الْحَقِّ» بِالْجَرِّ نَعْتًا لِلَّهِ، فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ الْآيَةَ [١٨ ٤٤]، وَقَوْلِهِ: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الْآيَةَ [١٠ ٣٢]، وَقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [٢٤ ٢٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ «الْحَقُّ» بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِلْوَلَايَةِ، عَلَى أَنَّ الْوَلَايَةَ بِمَعْنَى الْمُلْكِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْ هَذَا الْكَافِرِ: مِنْ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مَنْ دُونِ اللَّهِ ذَكَرَ نَحْوَهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، كَقَوْلِهِ فِي قَارُونَ: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ [٢٨ ٨١]،
وَالْفَاعِلَ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِأَفْعَلَا | مُفَضِّلًا كَأَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلًا |
وَغَالِبًا أَغْنَاهُمْ خَيْرٌ وَشَرٌّ | عَنْ قَوْلِهِمْ أُخَرُ مِنْهُ وَأَشَّرُ |
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فِئَةٌ مَحْذُوفٌ مِنْهُ حَرْفٌ بِلَا خِلَافٍ، إِلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ. هَلْ هُوَ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ، وَهَلْ هُوَ الْعَيْنُ أَوِ اللَّامُ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَحْذُوفُ الْعَيْنُ، وَأَصْلُهُ يَاءٌ. وَأَصْلُ الْمَادَّةِ ف ي أ، مِنْ فَاءَ يَفِيءُ: إِذَا رَجَعَ ; لِأَنَّ فِئَةَ الرَّجُلِ طَائِفَتُهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا فِي أُمُورِهِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّاءُ عِوَضٌ عَنِ الْعَيْنِ الْمَحْذُوفَةِ، وَوَزْنُهُ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ «فِلَةٌ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَحْذُوفُ اللَّامِ، وَأَصْلُهُ وَاوٌ، مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ: إِذَا شَقَقْتَهُ نِصْفَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَالْفِئَةُ الْفِرْقَةُ مِنَ النَّاسِ. وَعَلَى هَذَا فَوَزْنُهُ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ «فِعَةٌ» وَالتَّاءُ عِوَضٌ عَنِ اللَّامِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ نَصَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا.
وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَنْبِيهُ النَّاسِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ ; لِئَلَّا يَشْتَغِلُوا بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ «الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» لَفْظٌ عَامٌّ، يَشْمَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَالْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى: لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ لِصَاحِبِهَا غَيْرُ زَائِلَةٍ. وَلَا فَانِيَةٍ كَزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلِأَنَّهَا أَيْضًا صَالِحَةٌ لِوُقُوعِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: خَيْرٌ ثَوَابًا تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: وَخَيْرٌ أَمَلًا أَيِ: الَّذِي يُؤَمِّلُ مِنْ عَوَاقِبِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، خَيْرٌ مِمَّا يُؤَمِّلُهُ أَهْلُ الدُّنْيَا مِنْ زِينَةِ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا وَأَصْلُ الْأَمَلِ: طَمَعُ الْإِنْسَانِ بِحُصُولِ مَا يَرْجُوهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «مَرْيَمَ» : وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا [١٩ ٧٦]، وَالْمَرَدُّ: الْمَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: «مَرَدًّا» مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا.
قَوْلُهُ: وَيَوْمَ [١٨ ٤٧]، مَنْصُوبٌ بِاذْكُرْ مُقَدَّرًا. أَوْ بِفِعْلِ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى [٦ ٩٤]، أَيْ: قُلْنَا لَهُمْ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ: لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى، وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ «خَيْرٌ» يَعْنِي وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ بَعِيدٌ جِدًّا كَمَا تَرَى.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَخْتَلُّ فِيهِ نِظَامُ هَذَا الْعَامِ الدُّنْيَوِيِّ، فَتُسَيَّرُ جِبَالُهُ، وَتَبْقَى أَرْضُهُ بَارِزَةً لَا حَجَرَ فِيهَا وَلَا شَجَرَ، وَلَا بِنَاءَ وَلَا وَادِيَ وَلَا عَلَمَ، ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، فَذَكَرَ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ الْأَرْضَ وَالْجِبَالَ مِنْ أَمَاكِنِهِمَا، وَيَدُكُّهُمَا دَكَّةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ.. الْآيَةَ [٦٩ ١٣ - ١٥].
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَسْيِيرِ الْجِبَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [٥٢ ٩ - ١٠]، وَقَوْلِهِ: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [٧٨ ٢٠]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [٨١ ٣]، وَقَوْلِهِ: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ الْآيَةَ [٢٧ ٨٨].
ثُمَّ ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يُفَتِّتُهَا حَتَّى تَذْهَبَ صَلَابَتُهَا الْحَجَرِيَّةُ وَتَلِينَ، فَتَكُونَ فِي عَدَمِ صَلَابَتِهَا وَلِينِهَا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، وَكَالرَّمْلِ الْمُتَهَايِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [٧٠ ٨ - ٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [١٠١ ٤ - ٥]، وَالْعِهْنُ: الصُّوفُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [٧٣ ١٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [٥٦ ٥]، أَيْ: فُتِّتَتْ حَتَّى صَارَتْ كَالْبَسِيسَةِ، وَهِيَ دَقِيقٌ مَلْتُوتٌ بِسَمْنٍ، عَلَى أَشْهَرِ التَّفْسِيرَاتِ.
ثُمَّ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ يَجْعَلُهَا هَبَاءً وَسَرَابًا. قَالَ: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [٥٦ ٥، ٦]، وَقَالَ: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [٧٨ ٢٠].
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ السَّرَابَ عِبَارَةٌ عَنْ لَا شَيْءَ ; وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ، قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: «تُسَيَّرُ الْجِبَالُ» بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةُ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ مِنْ قَوْلِهِ: «تُسَيَّرُ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْجِبَالُ بِالرَّفْعِ نَائِبُ فَاعِلِ تُسَيَّرُ وَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ «نُسَيِّرُ» بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَ «الْجِبَالَ» مَنْصُوبٌ مَفْعُولٌ بِهِ، وَالنُّونُ فِي قَوْلِهِ «نُسَيِّرُ» لِلتَّعْظِيمِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً، الْبُرُوزُ: الظُّهُورُ، أَيْ: تَرَى الْأَرْضَ ظَاهِرَةً مُنْكَشِفَةً لِذَهَابِ الْجِبَالِ وَالظِّرَابِ وَالْآكَامِ، وَالشَّجَرِ وَالْعِمَارَاتِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [٢٠ ١٠٥ - ١٠٦]، وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهَا أَرْضٌ مُسْتَوِيَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَلَا بِنَاءَ وَلَا ارْتِفَاعَ وَلَا انْحِدَارَ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً، أَيْ: بَارِزًا مَا كَانَ فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالْكُنُوزِ بَعِيدٌ جِدًّا كَمَا تَرَى، وَبُرُوزُ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالْكُنُوزِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ [٨٤ ٣ - ٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [١٠٠ ٩]، وَقَوْلِهِ: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا [٩٩ ٢]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [٨٢ ٤].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَحَشَرْنَاهُمْ، أَيْ: جَمَعْنَاهُمْ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا الْجَمْعُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْحَشْرِ هُنَا جَاءَ مَذْكُورًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [٥٦ ٤٩ - ٥٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [٤ ٨٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [٦٤ ٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [١١ ١٠٣]، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا الْآيَةَ [٦ ٢٢]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا الْحَشْرَ الْمَذْكُورَ شَامِلٌ لِلْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [١٨ ٤٧]، أَيْ: لَمْ نَتْرُكْ، وَالْمُغَادَرَةُ: التَّرْكُ، وَمِنْهُ الْغَدْرُ ; لِأَنَّهُ تَرْكُ الْوَفَاءِ وَالْأَمَانَةِ، وَسُمِّيَ الْغَدِيرُ مِنَ الْمَاءِ غَدِيرًا ; لِأَنَّ السَّيْلَ ذَهَبَ وَتَرَكَهُ، وَمِنَ الْمُغَادَرَةِ بِمَعْنَى التَّرْكِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مَطْلَعِ مُعَلَّقَتِهِ:
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ | أَمْ هَلْ عَرَفْتِ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ |
غَادَرْتُهُ مُتَعَفِّرًا أَوْصَالُهُ | وَالْقَوْمُ بَيْنَ مُجَرَّحٍ وَمُجَدَّلِ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ صَفًّا، أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُصْطَفِّينَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَفًّا وَاحِدًا وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ «صَفًّا» أَيْ: جَمِيعًا، كَقَوْلِهِ: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا [٢٠ ٦٤]، عَلَى الْقَوْلِ فِيهِ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَخَرَّجَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مِنْدَهْ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتٍ رَفِيعٍ غَيْرِ فَظِيعٍ: يَا عِبَادِي، أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ، يَا عِبَادِي، لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، أَحْضِرُوا حُجَّتَكُمْ وَيَسِّرُوا جَوَابًا فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ مُحَاسَبُونَ. يَا مَلَائِكَتِي، أَقِيمُوا عِبَادِي صُفُوفًا عَلَى أَطْرَافِ أَنَامِلِ أَقْدَامِهِمْ لِلْحِسَابِ»، قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ غَايَةٌ فِي الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ كَتَبْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ وَمِنْهُ نَقَلْنَاهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ «صَفًّا» فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ صُفُوفًا، كَقَوْلِهِ فِي الْمَلَائِكَةِ: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [٨٩ ٢٢]، وَنَظِيرُ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي الْمَلَائِكَةِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [٧٨ ٣٨ - ٣٩].
فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَالًا مِنْ أَحْوَالِ عَرْضِ
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: صَفًّا أَصْلُهُ مَصْدَرٌ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْكَرُ قَدْ يَكُونُ حَالًا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَمَصْدَرٌ مُنْكَرٌ حَالًا يَقَعْ | بِكَثْرَةٍ كَبَغْتَةً زِيدٌ طَلَعْ |
هَذَا الْكَلَامُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ مُطَّرِدٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَالْمَعْنَى: يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَقَدْ جِئْتُمُونَا، أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَيْ: حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، أَيْ: غَيْرَ مَخْتُونِينَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فَرْدٌ لَا مَالَ مَعَهُ وَلَا وَلَدَ، وَلَا خَدَمَ وَلَا حَشَمَ.
وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [٦ ٩٤]، وَقَوْلِهِ: لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [١٩ ٩٤ - ٩٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا الْآيَةَ [٢١ ١٠٤]، وَقَوْلِهِ: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [٧ ٢٩] تَقَدَّمُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَمَا خَلَقْنَاكُمْ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْهَا وَمِنْ صِلَتِهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَإِيضَاحُ تَقْرِيرِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ، أَيْ: مَجِيئًا مِثْلَ مَجِيءِ خَلْقِكُمْ، أَيْ: حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَخَالِينَ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ يَجُوزُ إِعْرَابُهُ أَيْضًا حَالًا، أَيْ: جِئْتُمُونَا فِي حَالِ كَوْنِكُمْ مُشَابِهِينَ لَكُمْ فِي حَالَتِكُمُ الْأُولَى ; لِأَنَّ التَّشْبِيهَ يُؤَوَّلُ بِمَعْنَى الْوَصْفِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَيَكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ وَفِي | مُبْدِي تَأَوُّلٍ بِلَا تَكَلُّف |
كَبِعْهُ مُدًّا بِكَذَا يَدًا بِيَدْ | وَكَرَّ زَيْدٌ أَسَدًا أَيْ كَأَسَدْ |
لَنَحْنُ الْأُلَى قُلْتُمْ فَأَنَّى مُلِئْتُمْ | بِرُؤْيَتِنَا قَبْلَ اهْتِمَامٍ بِكُمْ رُعْبًا |
قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ مَوْعِدًا، وَالْمَوْعِدُ يَشْمَلُ زَمَانَ الْوَعْدِ وَمَكَانَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ وَقْتًا وَلَا مَكَانًا لِإِنْجَازِ مَا وَعَدَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا الْآيَةَ [٦٤ ٧]، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [٦ ٢٩]، وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [٤٤ ٣٥]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَذِبَهُمْ فِي إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [١٨ ٥٨]، وَقَوْلِهِ: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ الْآيَةَ [٦٤ ٧]، وَقَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا [١٦ ٣٨]، وَقَوْلِهِ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [٢١ ١٠٤]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي
وَإِنْ تُخَفِّفْ أَنْ...
الْبَيْتَ.
وَالْفِعْلُ الْمَذْكُورُ مُتَصَرِّفٌ وَلَيْسَ بِدُعَاءٍ، فَفَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِالنَّفْيِ. عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَإِنْ يَكُنْ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ دُعَا
الْبَيْتَيْنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكِتَابَ يُوضَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: جِنْسُ الْكِتَابِ، فَيَشْمَلُ جَمِيعَ الصُّحُفِ الَّتِي كُتِبَتْ فِيهَا أَعْمَالُ الْمُكَلَّفِينَ فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَأَنَّ الْمُجْرِمِينَ يُشْفِقُونَ مِمَّا فِيهِ. أَيْ: يَخَافُونَ مِنْهُ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ [١٨ ٤٩]، أَيْ: لَا يَتْرُكُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي عَمِلْنَا إِلَّا أَحْصَاهَا أَيْ: ضَبَطَهَا وَحَصَرَهَا.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [١٧ ١٣ - ١٤]، وَبَيَّنَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. وَبَعْضُهُمْ يُؤْتَاهُ بِشِمَالِهِ. وَبَعْضُهُمْ يُؤْتَاهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ. قَالَ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [٦٩ ٢٥]، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا [٨٤ ٣ - ١٢] وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ». وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ وَضْعِ الْكِتَابِ هُنَا ذَكَرَهُ فِي «الزُّمَرِ» فِي قَوْلِهِ: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [٣٩ ٦٩].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ، تَقَدَّمَ مَعْنًى مِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى
يَا شَاةَ مَا قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ | حَرُمَتْ عَلَىَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ |
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيٍّ عَلَى الْبِلَا | وَلَا زَالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ |
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ [١٨ ٤٩] أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ ثَبَتَ لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ أَيْ: لَا يَتْرُكُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً أَيْ: مِنَ الْمَعَاصِي، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: الصَّغِيرَةُ الْقُبْلَةُ، وَالْكَبِيرَةُ الزِّنَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ، وَلِلْعُلَمَاءِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ. وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ مِنْهَا كَبَائِرُ، وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مِنْهَا صَغَائِرُ، وَبَيَّنَ أَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ يَكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ الصَّغَائِرَ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ الْآيَةَ [٤ ٣١]، وَيُرْوَى عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ
تَنْبِيهٌ
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ; لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي كِتَابِ أَعْمَالِهِمْ صَغَائِرَ ذُنُوبِهِمْ مُحْصَاةً عَلَيْهِمْ، فَلَوْ كَانُوا غَيْرَ مُخَاطَبِينَ بِهَا لَمَا سُجِّلَتْ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِ أَعْمَالِهِمْ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَجِدُونَ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا حَاضِرَةً مُحْصَاةً عَلَيْهِمْ. وَأَوْضَحَ هَذَا أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [٣ ٣٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ الْآيَةَ [١٠ ٣٠]، وَقَوْلِهِ: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [٧٥ ١٣]، وَقَوْلِهِ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [٨٦ ٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا، فَلَا يَنْقُصُ مِنْ حَسَنَاتِ مُحْسِنٍ، وَلَا يَزِيدُ مِنْ سَيِّئَاتِ مُسِيءٍ، وَلَا يُعَاقِبُ عَلَى غَيْرِ ذَنْبٍ.
وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [١٠ ٤٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [٤ ٤٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [٢١ ٤٧]، وَقَوْلِهِ: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [٤١ ٤٦] وَقَوْلِهِ: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [١٦ ٣٣]، وَقَوْلِهِ: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [١٦ ١١٨] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.
قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اسْجُدُوا لِآدَمَ [٢ ٣٤] مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ آدَمَ أَمْرًا مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِهِ. وَمُحْتَمِلٌ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ تَنْجِيزًا بَعْدَ وُجُودِ آدَمَ. وَأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» وَسُورَةِ «ص» أَنَّ أَصْلَ
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَسَجَدُوا مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونُوا سَجَدُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ سَجَدُوا كُلُّهُمْ، كَقَوْلِهِ: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [١٥، ٧٣ و٣٨] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [١٨ ٥٠]، ظَاهِرٌ فِي أَنَّ سَبَبَ فِسْقِهِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ كَوْنُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي «مَسْلَكِ النَّصِّ» وَفِي «مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ» : أَنَّ الْفَاءَ مِنَ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ، كَقَوْلِهِمْ: سَرَقَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، أَيْ: لِأَجْلِ سَرِقَتِهِ. وَسَهَا فَسَجَدَ، أَيْ: لِأَجْلِ سَهْوِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [٥ ٣٨] أَيْ: لِعِلَّةِ سَرِقَتِهِمَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ [١٨ ٥٠] أَيْ: لِعِلَّةِ كَيْنُونَتِهِ مِنَ الْجِنِّ ; لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ ; لِأَنَّهُمُ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ وَعَصَا هُوَ ; وَلِأَجْلِ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ إِبْلِيسَ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْأَصْلِ بَلْ مِنَ الْجِنِّ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَعَبَّدُ مَعَهُمْ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِمُ اسْمُهُمْ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمْ، كَالْحَلِيفِ فِي الْقَبِيلَةِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُهَا. وَالْخِلَافُ فِي إِبْلِيسَ هَلْ هُوَ مَلَكٌ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ مَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا، أَوْ لَيْسَ فِي الْأَصْلِ بِمَلَكٍ، وَإِنَّمَا شَمَلَهُ لَفْظُ الْمَلَائِكَةِ لِدُخُولِهِ فِيهِمْ وَتَعَبُّدُهُ مَعَهُمْ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْلَهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا عَصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ مِنِ ارْتِكَابِ الْكُفْرِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ إِبْلِيسُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [٦٦ ٦]، وَقَالَ تَعَالَى: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [٢١ ٢٧]، وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ، وَالْجِنُّ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ. قَالُوا: وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَلَكٌ فِي الْأَصْلِ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ [١٥ ٣٠ - ٣١]، قَالُوا: فَإِخْرَاجُهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ
وَسُخِّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةٌ | قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ |
وَأَظْهَرُ الْحُجَجِ فِي الْمَسْأَلَةِ حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَلَكٍ. لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ الْآيَةَ [١٨ ٥٠]، وَهُوَ أَظْهَرُ شَيْءٍ فِي الْمَوْضُوعِ مِنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَيْ: خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ أَمْرِ رَبِّهِ، وَالْفِسْقُ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ ; وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ:
يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرًا | فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا |
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا،
وَيَرْفَعَانِ مُضْمَرًا يُفَسِّرُهْ | مُمَيَّزٌ كَنِعْمَ قَوْمًا مَعْشَرُهْ |
كَقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [٣٥ ٦]، وَكَذَلِكَ الْأَبَوَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [٢٠ ١١٧].
وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ بَدَلًا مِنْ وَلَايَةِ اللَّهِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى حَقٍّ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [٧ ٣٠]، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ [٤ ٧٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [٧ ٢٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [٢ ٢٥٧]، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [٣ ١٧٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَذُرِّيَّتَهُ [١٨ ٥٠]، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلشَّيْطَانِ ذُرِّيَّةً. فَادِّعَاءُ أَنَّهُ لَا ذُرِّيَّةَ لَهُ مُنَاقِضٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ مُنَاقَضَةً صَرِيحَةً كَمَا تَرَى. وَكُلُّ مَا نَاقَضَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ! وَلَكِنْ طَرِيقَةُ وُجُودِ نَسْلِهِ هَلْ هِيَ عَنْ تَزْوِيجٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ نَصٍّ صَرِيحٍ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: سَأَلَنِي الرَّجُلُ: هَلْ لِإِبْلِيسَ زَوْجَةٌ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ عُرْسٌ لَمْ أَشْهَدْهُ ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي [١٨ ٥٠]،
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الْحَدِيثُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبِيضُ وَيُفَرِّخُ، وَلَكِنْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ. هَلْ هِيَ مِنْ أُنْثَى هِيَ زَوْجَةٌ لَهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ. مَعَ أَنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا تَخْلُو مِنِ احْتِمَالٍ ; لِأَنَّهُ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ بَاضَ وَفَرَّخَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ، فَيَحْتَمِلُ مَعْنَى بَاضَ وَفَرَّخَ أَنَّهُ فَعَلَ بِهَا مَا شَاءَ مِنْ إِضْلَالٍ وَإِغْوَاءٍ وَوَسْوَسَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ ; لِأَنَّ الْأَمْثَالَ لَا تُغَيَّرُ أَلْفَاظُهَا، وَمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ تَعْيِينِ أَسْمَاءِ أَوْلَادِهِ وَوَظَائِفِهِمُ الَّتِي قَلَّدَهُمْ إِيَّاهَا ; كَقَوْلِهِ: زَلَنْبُورُ صَاحِبُ الْأَسْوَاقِ، وَتِبْرٌ صَاحِبُ الْمَصَائِبِ يَأْمُرُ بِضَرْبِ الْوُجُوهِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْأَعْوَرُ صَاحِبُ أَبْوَابِ الزِّنَا. وَمِسْوَطٌ صَاحِبُ الْأَخْبَارِ يُلْقِيهَا فِي أَفْوَاهِ النَّاسِ فَلَا يَجِدُونَ لَهَا أَصْلًا. وَدَاسِمٌ هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلَمْ يُسَلِّمْ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ بَصَرَهُ مَا لَمْ يَرْفَعْ مِنَ الْمَتَاعِ وَمَا لَمْ يُحْسِنْ مَوْضِعَهُ يُثِيرُ شَرَّهُ عَلَى أَهْلِهِ، وَإِذَا أَكَلَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ أَكَلَ مَعَهُ. وَالْوَلْهَانُ صَاحِبُ الْمَزَامِيرِ وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى إِبْلِيسُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَعْيِينِ أَسْمَائِهِمْ وَوَظَائِفِهِمْ كُلُّهُ لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ ; إِلَّا مَا ثَبَتَ مِنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِمَّا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَعْيِينِ وَظِيفَةِ الشَّيْطَانِ وَاسْمِهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ
وَتَحْرِيشُ الشَّيْطَانِ بَيْنَ النَّاسِ وَكَوْنُ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ، وَيَبْعَثُ سَرَايَا فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا، التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: مَا أَشْهَدْتُ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ ; أَيْ: مَا أَحْضَرْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَأَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى خَلْقِهَا وَلَا خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: وَلَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: مَا أَشْهَدْتُ بَعْضَهُمْ خَلْقَ بَعْضِهِمْ فَأَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى خَلْقِهِ، بَلْ تَفَرَّدْتُ بِخَلْقِ جَمِيعِ ذَلِكَ بِغَيْرِ مُعِينٍ وَلَا ظَهِيرٍ! فَكَيْفَ تَصْرِفُونَ لَهُمْ حَقِّي وَتَتَّخِذُونَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَأَنَا خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَتْ لَهُ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْهَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [١٦ ١٧]، وَقَوْلِهِ: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [١٣ ١٦]، وَقَوْلِهِ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [٣١ ١١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ [٣٥ ٤٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ [٤٦ ٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أَيْ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ; بَلْ خَلَقْتُهُمْ عَلَى مَا أَرَدْتُ وَكَيْفَ شِئْتُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [١٨ ٥١]، فِيهِ الْإِظْهَارُ فِي مَحَلِّ الْإِضْمَارِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ الظَّاهِرَ. وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَهُمْ عَضُدًا، كَقَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ وَالنُّكْتَةُ الْبَلَاغِيَّةُ فِي الْإِظْهَارِ فِي مَحَلِّ الْإِضْمَارِ هِيَ ذَمُّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِلَفْظِ
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ لَا تَنْبَغِي الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ.
وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ أُشِيرَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [٢٨ ١٧]، وَالظَّهِيرُ: الْمُعِينُ، وَالْمُضِلُّونَ: الَّذِينَ يُضِلُّونَ أَتْبَاعَهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الضَّلَالِ وَإِطْلَاقَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا.
أَيْ: وَاذْكُرْ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُشْرِكُونَ مَعَهُ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا: نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ مَعِي، فَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ: أَيْ: زَعَمْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ لِي كَذِبًا وَافْتِرَاءً. أَيِ: ادْعُوهُمْ وَاسْتَغِيثُوا بِهِمْ لِيَنْصُرُوكُمْ وَيَمْنَعُوكُمْ مِنْ عَذَابِي، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، أَيْ: فَاسْتَغَاثُوا بِهِمْ فَلَمْ يُغِيثُوهُمْ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ عَدَمِ اسْتِجَابَتِهِمْ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ» : وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [٢٨ ٦٢ - ٦٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [٣٥ ١٣ - ١٤]، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [٤٦ ٥]، وَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [١٩ ٨١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [٦ ٩٤]، وَالْآيَاتُ فِي تَبَرُّئِهِمْ مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَدَمِ اسْتِجَابَتِهِمْ لَهُمْ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَخُطْبَةُ الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» فِي
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ:
الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ بِالظَّرْفِ الَّذِي هُوَ «بَيْنَ»، وَالثَّانِيَةُ: فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ. وَالثَّالِثَةُ: فِي الْمُرَادِ بِالْمَوْبِقِ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا أَقْوَالَهُمْ، وَمَا يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا الْمَوْبِقُ: فَقِيلَ: الْمُهْلِكُ. وَقِيلَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَقِيلَ الْمَوْعِدُ. قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا يَقُولُ: مُهْلِكًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ «مَوْبِقًا» يَقُولُ: مُهْلِكًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ «مَوْبِقًا» قَالَ. وَادٍ فِي جَهَنَّمَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا قَالَ: هُوَ وَادٍ عَمِيقٌ فِي النَّارِ، فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالَةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَمْرٍو الْبِكَالِيِّ قَالَ: الْمَوْبِقُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: وَادٍ فِي النَّارِ، بَعِيدُ الْقَعْرِ، يُفَرِّقُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَوْبِقًا، قَالَ: هُوَ نَهْرٌ يَسِيلُ نَارًا عَلَى حَافَتَيْهِ حَيَّاتٌ أَمْثَالَ الْبِغَالِ الدَّهْمِ، فَإِذَا ثَارَتْ إِلَيْهِمْ لِتَأْخُذَهُمُ اسْتَغَاثُوا بِالِاقْتِحَامِ فِي النَّارِ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّ فِي النَّارِ أَرْبَعَةَ أَوْدِيَةٍ يُعَذِّبُ اللَّهُ بِهَا أَهْلَهَا: غَلِيظٌ، وَمَوْبِقٌ، وَأَثَّامٌ، وَغَيٌّ. انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: أَنَّ الْمَوْبِقَ: الْمَوْعِدُ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَجَادَ شَرَوْرَى وَالسِّتَّارُ فَلَمْ يَدَعْ | تِعَارًا لَهُ وَالْوَادِيَيْنِ بِمَوْبِقٍ |
وَمَنْ يَشْتَرِي حُسْنَ الثَّنَاءِ بِمَالِهِ | يَصُنْ عِرْضَهُ عَنْ كُلِّ شَنْعَاءَ مُوبِقِ |
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَوْمَ يَقُولُ قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا حَمْزَةَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ «نَقُولُ» بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ: يَقُولُ هُوَ أَيِ: اللَّهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُجْرِمِينَ يَرَوْنَ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا، أَيْ: مُخَالِطُوهَا وَوَاقِعُونَ فِيهَا. وَالظَّنُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ ; لِأَنَّهُمْ أَبْصَرُوا الْحَقَائِقَ وَشَاهَدُوا الْوَاقِعَ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِالْوَاقِعِ ; كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [٣٢ ١٢]، وَكَقَوْلِهِ: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [٥٠ ٢٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا الْآيَةَ [١٩ ٣٨]، وَمِنْ إِطْلَاقِ الظَّنِّ عَلَى الْيَقِينِ [قَوْلُهُ] تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [٢ ٤٥ - ٤٦]، أَيْ: يُوقِنُونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [٢ ٢٤٩]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ [٦٩ ١٩ - ٢٠]،
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ | سَرَاتُهُمْ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ |
بِأَنْ تَغْتَزُوا قَوْمِي وَأَقْعُدُ فِيكُمُ | وَأَجْعَلُ مِنِّي الظَّنَّ غَيْبًا مُرَجَّمَا |
أَزُهَيْرُ هَلْ عَنْ شَيْبَةَ مِنْ مَصْرِفِ | أَمْ لَا خُلُودَ لِبَاذِلٍ مُتَكَلِّفِ |
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، مِنْ رَأَى الْبَصَرِيَّةِ، فَهِيَ تَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ نَظَرًا لِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، فَكَانَ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَالْوَاقِعِ بِالْفِعْلِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، قَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا [١٨ ٥٤]، أَيْ: رَدَّدْنَا وَكَثَّرْنَا تَصْرِيفَ الْأَمْثَالِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَسَالِيبَ مُتَنَوِّعَةٍ فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ. لِيَهْتَدُوا إِلَى الْحَقِّ، وَيَتَّعِظُوا. فَعَارَضُوا بِالْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ، وَالْمَثَلُ: هُوَ الْقَوْلُ الْغَرِيبُ السَّائِرُ فِي الْآفَاقِ، وَضَرْبُ الْأَمْثَالِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ جِدًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [٢ ٢٦]، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ضَرْبِ الْمَثَلِ فِيهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الْآيَةَ [٢٢ ٧٣]، وَقَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [٢٩ ٤١]
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ الْأَمْثَالَ مَعَ إِيضَاحِهَا لِلْحَقِّ يَهْدِي بِهَا اللَّهُ قَوْمًا، وَيُضِلُّ بِهَا قَوْمًا آخَرِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [٢ ٢٦]، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ; لِأَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ [١٣ ١٧]، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [١٣ ١٨]، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَفْعُولُ «صَرَّفْنَا» مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: الْبَيِّنَاتُ وَالْعِبَرُ، وَعَلَى هَذَا فَـ «مِنْ» لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا الْآيَاتِ وَالْعِبَرَ مِنْ أَنْوَاعِ ضَرْبِ الْمَثَلِ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا، فَقَابَلُوا ذَلِكَ بِالْجِدَالِ وَالْخِصَامِ، وَلِذَا قَالَ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [١٨ ٤٥]، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَظْهَرَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مِنْ» زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا كُلَّ مَثَلٍ، فَيَكُونُ مَفْعُولُ «صَرَّفْنَا» :«كُلُّ مَثَلٍ» وَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ، لَا عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» مِنْ كُلِّ مَعْنًى هُوَ كَالْمَثَلِ فِي غَرَابَتِهِ وَحُسْنِهِ اهـ، وَضَابِطُ ضَرْبِ الْمَثَلِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلُّ مَعَانِيهِ الَّتِي يُفَسَّرُ بِهَا: هُوَ إِيضَاحُ مَعْنَى النَّظِيرِ بِذِكْرِ نَظِيرِهِ ; لِأَنَّ النَّظِيرَ يُعْرَفُ بِنَظِيرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَ مَذْكُورًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي «الْإِسْرَاءِ» : وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [١٧ ٨٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا [١٧ ٤١]، وَقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [٢٠ ١١٣]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [٣٩ ٢٧ - ٢٨]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ [٣٠ ٥٨]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [١٨ ٥٤] أَيْ: أَكْثَرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا الْخُصُومَةُ إِنْ فَصَلْتَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ «جَدَلًا» أَيْ: خُصُومَةً وَمُمَارَاةً بِالْبَاطِلِ لِقَصْدِ إِدْحَاضِ الْحَقِّ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى خُصُومَةِ الْإِنْسَانِ بِالْبَاطِلِ لِإِدْحَاضِ الْحَقِّ قَوْلُهُ هُنَا وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [١٨ ٥٦]،
وَمَا فَسَّرْنَا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ كَثْرَةُ خُصُومَةِ الْكُفَّارِ وَمُمَارَاتِهِمْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ هُوَ السِّيَاقُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [١٧ ٨٩]، أَيْ: لِيَذَّكَّرُوا وَيَتَّعِظُوا وَيُنِيبُوا إِلَى رَبِّهِمْ: بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا [١٧ ٤١] وَقَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [٥٩ ٢١]، فَلَمَّا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [١٨ ٥٤]، عَلِمْنَا مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ أَكْثَرُوا الْجَدَلَ وَالْخُصُومَةَ وَالْمِرَاءَ لِإِدْحَاضِ الْحَقِّ الَّذِي أَوْضَحَهُ اللَّهُ بِمَا ضَرَبَهُ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، وَلَكِنْ كَوْنُ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَسَبَبُ النُّزُولِ لَا يُنَافِي تَفْسِيرَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِظَاهِرِ عُمُومِهَا ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا بَيَّنَاهُ بِأَدِلَّتِهِ فِيمَا مَضَى، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمَّا طَرَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْلَةً فَقَالَ: «أَلَّا تُصَلِّيَانِ» ؟ وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا وَهُوَ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِيرَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا» دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَشُمُولِهَا لِكُلِّ خِصَامٍ وَجَدَلٍ، لَكِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْجَدَلِ مَا هُوَ مَحْمُودٌ مَأْمُورٌ بِهِ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [١٦ ١٢٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [٢٩ ٤٦]، وَقَوْلُهُ «جَدَلًا» مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَالْفَاعِلَ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِأَفْعَلَا | مُفَضِّلًا كَأَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلًا |
وَإِنْ لِمَنْكُورٍ يُضَفْ أَوْ جُرِّدَا | أَلْزِمْ تَذْكِيرًا وَأَنْ يُوَحَّدَا |
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا.
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكِلَاهُمَا تَدُلُّ عَلَى مُقْتَضَاهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَظْهَرُ عِنْدِي مِنَ الْآخَرِ.
الْأَوَّلُ مِنْهُمَا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بِالْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَاتِ، إِلَّا مَا سَبَقَ فِي عِلْمِنَا: مِنْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، بَلْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قُبُلًا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [١٠ ٩٦ - ٩٧] وَقَوْلِهِ: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [١٠ ١٠١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [١٦ ٣٧]
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُضَافًا مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِلَّا طَلَبُهُمْ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى طَلَبِهِمُ الْهَلَاكَ وَالْعَذَابَ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [٢٦ ١٨٧]، وَكَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ هُودٍ: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [٤٦ ٢٢]، وَكَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ: وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [٧ ٧٧]، وَكَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [٢٩ ٢٩]، وَكَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [١١ ٣٢].
فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا شَيْئًا مِنْ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ: أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَهْلَكَ جَمِيعَهُمْ بِعَذَابٍ مُسْتَأْصِلٍ، كَإِهْلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، وَقَوْمِ صَالِحٍ بِالصَّيْحَةِ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَقَوْمِ هُودٍ بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ، وَقَوْمِ لُوطٍ بِجَعْلِ عَالِي قُرَاهُمْ سَافِلَهَا، وَإِرْسَالِ حِجَارَةِ السِّجِّيلِ عَلَيْهِمْ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ.
وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّ كُفَّارَ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمُشْرِكِي قُرَيْشٍ سَأَلُوا الْعَذَابَ كَمَا سَأَلَهُ مَنْ قَبْلَهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [٨ ٣٢]، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [٣٨ ١٦]، وَأَصْلُ الْقِطِّ: كِتَابُ الْمَلِكِ الَّذِي فِيهِ الْجَائِزَةُ، وَصَارَ يُطْلَقُ عَلَى النَّصِيبِ: فَمَعْنَى عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا أَيْ: نَصِيبَنَا الْمُقَدَّرَ لَنَا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي تَزْعُمُ وُقُوعَهُ بِنَا إِنْ لَمْ نُصَدِّقْكَ وَنُؤْمِنْ بِكَ، كَالنَّصِيبِ الَّذِي يُقَدِّرُهُ الْمَلِكُ فِي الْقِطِّ الَّذِي هُوَ كِتَابُ الْجَائِزَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتُهُ | بِغِبْطَتِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفَقُ |
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا، قَرَأَهُ الْكُوفِيُّونَ: وَهُمْ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «قُبُلًا» بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ، وَقَرَأَهُ الْأَرْبَعَةُ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ: وَهُمْ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ «قِبَلًا» بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ فَقَوْلُهُ «قُبُلًا» بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ قَبِيلٍ، وَالْفَعِيلُ إِذَا كَانَ اسْمًا يُجْمَعُ عَلَى فُعُلٍ كَسَرِيرٍ وَسُرُرٍ، وَطَرِيقٍ وَطُرُقٍ، وَحَصِيرٍ وَحُصُرٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَفِعْلٌ لِاسْمٍ رُبَاعِيٍّ بِمَدْ | قَدْ زِيدَ قَبْلَ لَامِ إِعْلَالًا فَقَدْ |
وَعَلَى هَذَا، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا أَيْ: أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا، وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَءُوا «قِبَلًا» كَعِنَبٍ، فَمَعْنَاهُ عِيَانًا، أَيْ: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ عِيَانًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ «قُبُلًا» أَيْ: فَجْأَةً، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مَعْنَاهَا عِيَانًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ ; لِأَنَّ الْمُتَقَابِلَيْنِ يُعَايِنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَنَّ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَأَنَّ مَعْنَاهُمَا عِيَانًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، وَانْتِصَابُ «قُبُلًا» عَلَى الْحَالِ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ، وَهُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي مَعْنَى «قُبُلًا» إِنْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ بِمَعْنَى عِيَانًا، فَهُوَ مَصْدَرُ مُنَكَّرٌ حَالٌ كَمَا قَدَّمْنَا مِرَارًا، وَعَلَى أَنَّهُ جَمْعُ قَبِيلٍ: فَهُوَ اسْمٌ جَامِدٌ
وَإِنْ يُفَرَّغْ سَابِقُ إِلَّا لِمَا | بَعْدُ يَكُنْ كَمَا لَوْ إِلَّا عُدِمَا |
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ مَا يُرْسِلُ الرُّسُلَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمْ بِالنَّارِ، وَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [٦ ٤٨]، وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى الْبِشَارَةِ وَالْإِنْذَارِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ الْآيَةَ [١٨ ٢]، وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ «مُبَشِّرِينَ» عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَا نُرْسِلُهُمْ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُجَادِلُونَ بِالْبَاطِلِ، أَيْ: يُخَاصِمُونَ الرُّسُلَ بِالْبَاطِلِ، كَقَوْلِهِمْ فِي الرَّسُولِ: سَاحِرٌ، شَاعِرٌ، كَاهِنٌ، وَكَقَوْلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، سِحْرٌ، شِعْرٌ، كِهَانَةٌ، وَكَسُؤَالِهِمْ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، وَسُؤَالِهِمْ عَنِ الرُّوحِ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، لِيُبْطِلُوا الْحَقَّ بِجِدَالِهِمْ وَخِصَامِهِمْ بِالْبَاطِلِ، فَالْجِدَالُ: الْمُخَاصَمَةُ، وَمَفْعُولُ «يُجَادِلُ» مَحْذُوفٌ دَلَّ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُهُمُ الْكُفَّارُ بِالْبَاطِلِ هُمُ الْمُرْسَلُونَ الْمَذْكُورُونَ آنِفًا، وَحَذْفُ الْفَضْلَةِ إِذَا دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهَا جَائِزٌ، وَوَاقِعٌ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ: كَمَا عَقَدَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَحَذْفُ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضُرْ | كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرْ |
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ | وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ |
وَحَائِدٌ عَنِ الْقِيَاسِ كُلُّ مَا خَالَفَ | فِي الْبَابَيْنِ حُكْمًا رَسْمَا |
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا | وَمَا مَوَاعِيدُهُ إِلَّا الْأَبَاطِيلُ |
أَبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الْوَفَاءَ فَهِبْتَهُ | وَحِدْتَ كَمَا حَادَ الْبَعِيرُ عَنِ الدَّحْضِ |
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَنَّ مَا أَرَادَهُ الْكُفَّارُ مِنْ إِدْحَاضِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ لَا يَكُونُ، وَأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى مَا أَرَادُوا، بَلِ الَّذِي سَيَكُونُ هُوَ عَكْسُ مَا أَرَادُوهُ فَيُحِقُّ [الْحَقَّ] وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [٦١ ٩]، وَكَقَوْلِهِ: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [٩ ٣٣]، وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [٩ ٣٢]،
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ اتَّخَذُوا آيَاتِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ، وَإِنْذَارِهِ لَهُمْ هُزُؤًا، أَيْ: سُخْرِيَةً وَاسْتِخْفَافًا، وَالْمَصْدَرُ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: اتَّخَذُوهَا مَهْزُوءًا بِهَا مُسْتَخَفًّا بِهَا: كَقَوْلِهِ: إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [٢٥ ٣٠].
وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا [٤٥ ٩]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [٣٦ ٣٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [٦ ١٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ الْآيَةَ [٩ ٦٥ - ٦٦] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ «مَا أُنْذِرُوا» مَصْدَرِيَّةٌ، كَمَا قَرَّرْنَا، وَعَلَيْهِ فَلَا ضَمِيرَ مَحْذُوفٌ، وَقِيلَ هِيَ مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدٌ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: «وَمَا أُنْذِرُوا بِهِ هُزُوًا»، وَحَذْفُ الْعَائِدِ الْمَجْرُورِ بِحَرْفٍ إِنَّمَا يَطَّرِدُ بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
كَذَلِكَ الَّذِي جُرَّ بِمَا الْمَوْصُولِ جَرْ | كَمَرَّ بِالَّذِي مَرَرْتُ فَهْوَ بَرْ |
قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، ذَكَرَ جَلَّ
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ لِقَرِينَةِ تَذْكِيرِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ إِلَى الْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَيِ: الْقُرْآنَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْآيَاتِ، وَيُحْتَمَلُ شُمُولُ الْآيَاتِ لِلْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَفْقَهُوهُ أَيْ: مَا ذُكِّرَ مِنَ الْآيَاتِ، كَقَوْلِ رُؤْبَةَ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [٢ ٦٨]، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ ابْنِ الزِّبَعْرَى:
إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى | وَكِلَا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقُبُلْ أَيْ |
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ أَيْ: مَا قَدَّمَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ، وَنِسْبَةُ التَّقْدِيمِ إِلَى خُصُوصِ الْيَدِ ; لِأَنَّ الْيَدَ أَكْثَرُ مُزَاوَلَةً لِلْأَعْمَالِ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ، فَنُسِبَتِ الْأَعْمَالُ إِلَيْهَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهِمْ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَعْمَالُ الَّتِي قَدَّمَهَا مِنْهَا مَا لَيْسَ بِالْيَدِ كَالْكُفْرِ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا تُزَاوَلُ بِالْيَدِ كَالزِّنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا) دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ (وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ الْآيَةَ [١٨ ٥٧]، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [١١ ١٨]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَشْهُرُ أَوْجُهِ الْجَمْعِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ فَعَلَ كَذَا، لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِذًا فَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الظُّلْمِ لَا يَفُوقُ بَعْضُهُمْ فِيهِ بَعْضًا، فَلَا إِشْكَالَ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ، وَالثَّانِي أَنَّ صِلَةَ الْمَوْصُولِ تُعَيِّنُ كُلَّ وَاحِدٍ فِي مَحَلِّهِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [١٨ ٥٧]، لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ فَأَعْرَضَ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِ الظَّالِمِينَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا أَكِنَّةً، أَيْ: أَغْطِيَةً تُغَطِّي قُلُوبَهُمْ فَتَمْنَعُهَا مِنْ إِدْرَاكِ مَا يَنْفَعُهُمْ مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَوَاحِدُ الْأَكِنَّةِ كِنَانٌ، وَهُوَ الْغِطَاءُ، وَأَنَّهُ جَعَلَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، أَيْ: ثِقَلًا يَمْنَعُهَا مِنْ سَمَاعِ مَا يَنْفَعُهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِّرُوا بِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْضَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [٢ ٧]، وَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً الْآيَةَ [٤٥ ٢٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [١٧ ٤٥]، وَقَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [٤٧ ٢٣]، وَقَوْلِهِ: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [١١ ٢٠]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ ; لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَكِنَّةَ الْمَانِعَةَ مِنَ الْفَهْمِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَالْوَقْرَ الَّذِي هُوَ الثِّقَلُ الْمَانِعُ مِنَ السَّمْعِ فِي آذَانِهِمْ فَهُمْ مَجْبُورُونَ، فَمَا وَجْهُ تَعْذِيبِهِمْ عَلَى شَيْءٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْعُدُولَ عَنْهُ وَالِانْصِرَافَ إِلَى غَيْرِهِ؟ !
فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: أَنَّ تِلْكَ الْمَوَانِعَ الَّتِي يَجْعَلُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، كَالْخَتْمِ وَالطَّبْعِ وَالْغِشَاوَةِ وَالْأَكِنَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ إِنَّمَا جَعَلَهَا عَلَيْهِمْ جَزَاءً وِفَاقًا لِمَا بَادَرُوا إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ بِاخْتِيَارِهِمْ، فَأَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِالطَّبْعِ وَالْأَكِنَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [٤ ١٥٥]، أَيْ: بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ كُفْرَهُمُ السَّابِقَ هُوَ سَبَبُ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [٦١ ٥].
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ وَجْهُ رَدِّ شُبْهَةِ الْجَبْرِيَّةِ الَّتِي يَتَمَسَّكُونَ بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ أَيْضًا عَنْ سُؤَالٍ يَظْهَرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ فِيمَا قَرَّرْنَا: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ بَيَّنْتُمْ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ أَنَّ جَعْلَ الْأَكِنَّةِ عَلَى الْقُلُوبِ مِنْ نَتَائِجِ الْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ عِنْدَ التَّذْكِيرِ بِهَا، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَكْسَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّ الْإِعْرَاضَ الْمَذْكُورَ سَبَبُهُ هُوَ جَعْلُ الْأَكِنَّةِ عَلَى الْقُلُوبِ ; لِأَنَّ «إِنَّ» مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ، كَقَوْلِكَ: اقْطَعْهُ إِنَّهُ سَارِقٌ، وَعَاقِبْهُ إِنَّهُ ظَالِمٌ، فَالْمَعْنَى: اقْطَعْهُ لِعِلَّةِ سَرِقَتِهِ، وَعَاقِبْهُ لِعِلَّةِ ظُلْمِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [١٨ ٥٧]، أَيْ: أَعْرَضَ عَنْهَا لِعِلَّةِ جَعْلِ الْأَكِنَّةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ ; لِأَنَّ الْآيَاتِ الْمَاضِيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الطَّبْعَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ تَارَةً بِالطَّبْعِ، وَتَارَةً بِالْخَتْمِ، وَتَارَةً بِالْأَكِنَّةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ سَبَبُهُ الْأَوَّلُ الْإِعْرَاضُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْكُفْرُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالَانِ مَعْرُوفَانِ، الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ: مَا مُفَسِّرُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ الْآيَاتُ فِي قَوْلِهِ: ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ [١٨ ٥٧]، بِتَضْمِينِ الْآيَاتِ مَعْنَى الْقُرْآنِ، فَقَوْلُهُ: أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَيِ: الْقُرْآنُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ قَرِيبًا.
السُّؤَالُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ إِفْرَادِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: ذُكِّرَ، وَقَوْلِهِ: أَعْرَضَ عَنْهَا، وَقَوْلِهِ: وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، مَعَ الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، مَعَ أَنَّ مُفَسِّرَ جَمِيعِ الضَّمَائِرِ الْمَذْكُورَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الِاسْمُ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَيْ: يَفْهَمُوهُ، فَالْفِقْهُ: الْفَهْمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [٤ ٧٨]، أَيْ: يَفْهَمُونَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ [١١ ٩١]، أَيْ: مَا نَفْهَمُهُ، وَالْوَقْرُ: الثِّقَلُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: الْوَقْرُ بِالْفَتْحِ، الثِّقَلُ فِي الْأُذُنِ، وَالْوِقْرُ بِالْكَسْرِ: الْحِمْلُ، يُقَالُ جَاءَ يَحْمِلُ وِقْرَهُ، وَأَوْقَرَ بِعِيرَهُ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ الْوِقْرُ فِي حِمْلِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ اهـ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، قَالَ فِي ثِقَلِ الْأُذُنِ: وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [٦ ٢٥]، وَقَالَ فِي الْحِمْلِ: فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا [٥١ ٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا.
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً تَمْنَعُهُمْ أَنْ يَفْقَهُوا مَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي ذُكِّرُوا بِهَا لَا يَهْتَدُونَ أَبَدًا، فَلَا يَنْفَعُ فِيهِمْ دُعَاؤُكَ إِيَّاهُمْ إِلَى الْهُدَى، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي الَّذِينَ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ أَشْقِيَاءُ، عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ مَا دَامُوا مُتَلَبِّسِينَ بِالْكُفْرِ، فَإِنْ هَدَاهُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَأَنَابُوا زَالَ ذَلِكَ الْمَانِعُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنْ يَهْتَدُوا [١٨ ٥٧] ; لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي بَعْدَ «لَنْ» لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِـ «إِنْ» وَنَحْوِهَا، وَالْجَزَاءُ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِـ «إِنْ» وَنَحْوِهَا لَزِمَ اقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ، كَمَا عَقَدَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَاقْرِنْ بِفَا حَتْمًا جَوَابًا لَوْ جُعِلْ | شَرْطًا لِإِنْ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَنْجَعِلْ |
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ هُنَا وَأَبَا حَيَّانَ ظَنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ مُرَتَّبٌ عَلَى الشَّرْطِ كَتَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى مَا هُوَ شَرْطٌ فِيهِ ; وَلِذَا ظَنَّا أَنَّ الْجَزَاءَ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: فَلَنْ يَهْتَدُوا مُرَتَّبٌ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ دُعَاؤُهُ إِيَّاهُمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى، الْمُشَارُ إِلَيْهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ «إِذًا» فَصَارَ دُعَاؤُهُ إِيَّاهُمْ سَبَبَ انْتِفَاءِ اهْتِدَائِهِمْ وَهَذَا غَلَطٌ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الشَّرْطِيَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَيْسَتْ شَرْطِيَّةً لُزُومِيَّةً، حَتَّى يَكُونَ بَيْنَ شَرْطِهَا وَجَزَائِهَا ارْتِبَاطٌ، بَلْ هِيَ شَرْطِيَّةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَالشَّرْطِيَّةُ الِاتِّفَاقِيَّةُ
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي عَدَمِ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الشَّرْطِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [٣ ١٥٤] ; لِأَنَّ سَبَبَ بُرُوزِهِمْ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ أَنَّ بُرُوزَهُمْ إِلَيْهَا لَا مَحَالَةَ وَاقِعٌ، وَلَيْسَ سَبَبُهُ كَيْنُونَتُهُمْ فِي بُيُوتِهِمُ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ [١٨ ١٠٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ الْفَرْقَ بَيْنَ الشَّرْطِيَّةِ اللُّزُومِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ الِاتِّفَاقِيَّةِ فِي أُرْجُوزَتِي فِي الْمَنْطِقِ وَشَرْحِي لَهَا فِي قَوْلِي:
مُقَدِّمُ الشَّرْطِيَّةِ الْمُتَّصِلَهْ مَهْمَا تَكُنْ | صُحْبَةُ ذَاكَ التَّالِ لَهْ |
لِمُوجَبٍ قَدِ اقْتَضَاهَا كَسَبَبْ | فَهْيَ اللُّزُومِيَّةُ ثُمَّ إِنْ ذَهَبْ |
مُوجَبُ الِاصْطِحَابِ ذَا | بَيْنَهُمَا فَالِاتِّفَاقِيَّةُ عِنْدَ الْعُلَمَا |
، لِظُهُورِ التَّلَازُمِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ حُصُولُ مُطْلَقِ اللَّازِمِيَّةِ دُونَ التَّلَازُمِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، كَقَوْلِكَ: كُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ إِنْسَانًا كَانَ حَيَوَانًا، إِذْ لَا يَصْدُقُ عَكْسُهُ.
فَلَوْ قُلْتَ: كُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ حَيَوَانًا كَانَ إِنْسَانًا لَمْ يَصْدُقْ ; لِأَنَّ اللُّزُومَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لَا يَقْتَضِي الْمُلَازَمَةَ فِي كِلَيْهِمَا، وَمُطْلَقُ اللُّزُومِ تَكُونُ بِهِ الشَّرْطِيَّةُ لُزُومِيَّةً، أَمَّا إِذَا عُدِمَ اللُّزُومُ مِنْ أَصْلِهِ بَيْنَ طَرَفَيْهَا فَهِيَ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَمِثَالُهَا: كَلِمَةُ كَانَ الْإِنْسَانُ نَاطِقًا كَانَ الْحِمَارُ نَاهِقًا، وَبِسَبَبِ عَدَمِ التَّنَبُّهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرْطِيَّةِ اللُّزُومِيَّةِ، وَالشَّرْطِيَّةِ الِاتِّفَاقِيَّةِ ارْتَبَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ وَالْبَلَاغِيِّينَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى «لَوْ» لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا فِي
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ
، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ غَفُورٌ، أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ، وَأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ يَرْحَمُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَرْحَمُ الْخَلَائِقَ فِي الدُّنْيَا.
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا إِلَّا الشِّرْكَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [٤ ٤٨]، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [٥ ٧٢].
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ رَحْمَتَهُ وَاسِعَةٌ، وَأَنَّهُ سَيَكْتُبُهَا لِلْمُتَّقِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [٧ ١٥٦].
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ سِعَةَ مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ: كَقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [٥٣ ٣٢]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [٣٩ ٥٣]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مَعَ سِعَةِ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ شَدِيدُ الْعِقَابِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [١٣ ٦]، وَقَوْلِهِ: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [٤٠ ٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [١٥ ٤٩ - ٥٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ
، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَوْ يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مِنَ الذُّنُوبِ كَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ لِشَنَاعَةِ مَا يَرْتَكِبُونَهُ، وَلَكِنَّهُ حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ، فَهُوَ يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ.
وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [١٦ ٦١]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [٣٥ ٤٥]، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» مُسْتَوْفًى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا.
بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الْحَالِ فَلَيْسَ غَافِلًا عَنْهُمْ وَلَا تَارِكًا
وَبَيَّنَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي «النَّحْلِ» : وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [١٦ ٦١]، وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ «فَاطِرٍ» : وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [٣٥ ٤٥]، وَكَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [١٤ ٤٢]، وَكَقَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ [٢٩ ٥٣].
وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَخِّرُ شَيْئًا عَنْ وَقْتِهِ الَّذِي عُيِّنَ لَهُ وَلَا يُقَدِّمُهُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [٦٣ ١١]، وَقَوْلِهِ: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [٧ ٣٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ الْآيَةَ [٧١ ٤]، وَقَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [١٣ ٣٨]، وَقَوْلِهِ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [٦ ٦٧]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [١٨ ٥٧]، أَيْ: مَلْجَأً يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ فَيَعْتَصِمُونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْمَجْعُولِ لَهُ الْمَوْعِدُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ، مِنْ وَأَلَ يَئِلُ وَأْلًا وَوُءُولًا بِمَعْنَى لَجَأَ، وَمَعْلُومٌ فِي فَنِّ الصَّرْفِ أَنَّ وَاوِيَّ الْفَاءِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ يَنْقَاسُ مَصْدَرُهُ الْمِيمِيُّ وَاسْمُ مَكَانِهِ وَزَمَانِهِ عَلَى الْمَفْعِلِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ كَمَا هُنَا، مَا لَمْ يَكُنْ مُعْتَلَّ اللَّامِ فَالْقِيَاسُ فِيهِ الْفَتْحُ كَالْمَوْلَى، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَا وَأَلَتْ نَفْسُهُ، أَيْ: لَا وَجَدَتْ مَنْجًى تَنْجُو بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَا وَأَلَتْ نَفْسُكَ خَلَّيْتَهَا | لِلْعَامِرِيَّيْنِ وَلَمْ تُكْلَمِ |
وَقَدْ أُخَالِسُ رَبَّ الْبَيْتِ غَفْلَتَهُ | وَقَدْ يُحَاذِرُ مِنِّي ثُمَّ مَا يَئِلُ |
وَأَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي «الْمَوْئِلِ» رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: مَوْئِلًا مَحِيصًا، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ مَنْجًى، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ مُحْرِزًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَكُلُّهُ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا.
وَهَذَا الْإِجْمَالُ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْقُرَى وَأَسْبَابِ هَلَاكِهَا، وَأَنْوَاعِ الْهَلَاكِ الَّتِي وَقَعَتْ بِهَا جَاءَ مُفَصَّلًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقَوْمِ مُوسَى، كَمَا تَقَدَّمَ بَعْضُ تَفَاصِيلِهِ، وَالْقُرَى: جَمْعُ قَرْيَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ ; لِأَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ عَلَى «فُعَلٍ» بِضَمٍّ فَفَتْحٍ لَا يَنْقَاسُ إِلَّا فِي جَمْعِ «فُعْلَةٍ» بِالضَّمِّ اسْمًا كَغُرْفَةٍ وَقِرْبَةٍ، أَوْ «فُعْلَى» إِذَا كَانَتْ أُنْثَى الْأَفْعَلِ خَاصَّةً، كَالْكُبْرَى وَالْكُبَرِ، كَمَا أَشَارَ لِذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَفُعَلٌ جَمْعًا لِفِعْلَةٍ عُرِفْ وَنَحْوُ كُبْرَى... إِلَخْ أَيْ: وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَسَمَاعٌ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَزَادَ فِي التَّسْهِيلِ نَوْعًا ثَالِثًا يَنْقَاسُ فِيهِ «فُعَلٌ» بِضَمٍّ فَفَتَحَ، وَهُوَ الْفُعُلَةُ بِضَمَّتَيْنِ إِنْ كَانَ اسْمًا كَجُمُعَةٍ وَجُمَعٍ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْقُرَى [١٨ ٥٩]، إِنَّمَا أُشِيرُ بِهِ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا فِي أَسْفَارِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [٣٧ ١٣٧ - ١٣٨]، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [١٥ ٧٦]، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [١٥ ٧٩]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ «وَتِلْكَ» مُبْتَدَأٌ وَ «الْقُرَى» صِفَةٌ لَهُ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَقَوْلُهُ: «أَهْلَكْنَاهُمْ» هُوَ الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ هُوَ «الْقُرَى» وَجُمْلَةُ «أَهْلَكْنَاهُمْ» فِي مَحَلِّ حَالٍ، كَقَوْلِهِ: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [٢٧ ٥٢]، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: «وَتِلْكَ» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الْعَامِلُ الْمُشْتَغِلُ بِالضَّمِيرِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
إِنْ مُضْمَرُ اسْمٍ سَابِقٍ فِعْلًا شَغَلْ | عَنْهُ بِنَصْبِ لَفْظِهِ أَوِ الْمَحَلْ |
فَالسَّابِقَ انْصِبْهُ بِفِعْلٍ أُضْمِرَا | حَتْمًا مُوَافِقٌ لِمَا قَدْ أُظْهِرَا |
أَإِنْ ذَكَّرَتْكَ الدَّارُ مَنْزَلَهَا جُمْلُ | بَكَيْتَ فَدَمْعُ الْعَيْنِ مُنْحَدِرٌ سَجْلُ |
تَنْبِيهٌ
لَفْظَةُ «لَمَّا» تَرِدُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:
الْأَوَّلُ: لَمَّا النَّافِيَةُ الْجَازِمَةُ لِلْمُضَارِعِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [٢ ٢١٤]، وَقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ الْآيَةَ [٣ ١٤٢]، وَهَذِهِ حَرْفٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُضَارِعِ، وَالْفَوَارِقُ الْمَعْنَوِيَّةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَمِ النَّافِيَةِ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمِمَّنْ أَوْضَحَهَا ابْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُ.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حَرْفَ اسْتِثْنَاءٍ بِمَعْنَى إِلَّا، فَتَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [٨٦ ٤]، فِي قِرَاءَةِ مَنْ شَدَّدَ «لَمَّا» أَيْ: مَا كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ لَمَّا فَعَلْتَ ; أَيْ: مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا فِعْلَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ «لَمَّا» هُوَ النَّوْعُ الْمُخْتَصُّ بِالْمَاضِي الْمُقْتَضِي جُمْلَتَيْنِ، تُوجَدُ ثَانِيَتُهُمَا عِنْدَ وُجُودِ أُولَاهُمَا، كَقَوْلِهِ: لَمَّا ظَلَمُوا، أَيْ: لَمَّا ظَلَمُوا أَهْلَكْنَاهُمْ، فَمَا قَبْلَهَا دَلِيلٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، «وَلَمَّا» هَذِهِ الَّتِي تَقْتَضِي رَبْطَ جُمْلَةٍ بِجُمْلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا النَّحْوِيُّونَ: هَلْ هِيَ حِرَفٌ، أَوِ اسْمٌ، وَخِلَافُهُمْ فِيهَا مَشْهُورٌ، وَمِمَّنِ انْتَصَرَ لِأَنَّهَا حَرْفٌ ابْنُ خَرُوفٍ وَغَيْرُهُ، وَمِمَّنِ انْتَصَرَ لِأَنَّهَا اسْمٌ ابْنُ السَّرَّاجِ وَالْفَارِسِيُّ وَابْنُ جِنِّيٍّ وَغَيْرُهُمْ، وَجَوَابُ «لَمَّا» هَذِهِ يَكُونُ فِعْلًا مَاضِيًا بِلَا خِلَافٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ الْآيَةَ [١٧ ٦٧]، وَيَكُونُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً مَقْرُونَةً بِـ «إِذَا» الْفُجَائِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [٢٩ ٦٥]، أَوْ مَقْرُونَةً بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ الْآيَةَ [٣١ ٣٢]، وَيَكُونُ جَوَابُهَا فِعْلًا مُضَارِعًا كَمَا قَالَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ الْآيَةَ [١١ ٧٤]، وَبَعْضُ مَا ذَكَرْنَا لَا يَخْلُو مِنْ مُنَاقَشَةٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ.
هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ، هِيَ الَّتِي تَأْتِي لَهَا «لَمَّا» فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
أَمَّا «لَمَّا» الْمُتَرَكِّبَةُ مِنْ كَلِمَاتٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ فَلَيْسَتْ مِنْ «لَمَّا» الَّتِي كَلَامُنَا فِيهَا ; لِأَنَّهَا غَيْرُهَا، فَالْمُرَكَّبَةُ مِنْ كَلِمَاتٍ كَقَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ [١١ ١١١]، فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ بِتَشْدِيدِ نُونِ «إِنَّ» وَمِيمِ «لَمَّا» عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: لَمِنْ مَا بِمِنِ التَّبْعِيضِيَّةِ، وَمَا بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ: وَإِنَّ كُلًّا لَمِنْ جُمْلَةِ مَا يُوَفِّيهِمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ، فَأُبْدِلَتْ نُونُ «مِنْ» مِيمًا وَأُدْغِمَتْ فِي مَا، فَلَمَّا كَثُرَتِ الْمِيمَاتُ حُذِفَتِ الْأُولَى فَصَارَ لَمًّا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَـ «لَمَّا» مُرَكَّبَةٌ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ: الْأَوْلَى الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ اللَّامُ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ، وَالثَّالِثَةُ مَا، وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَخْفَى ضَعْفُهُ وَبُعْدُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَقَصْدُنَا مُطْلَقُ التَّمْثِيلِ لِـ «لَمَّا» الْمُرَكَّبَةِ مِنْ كَلِمَاتٍ عَلَى
قَالَتْ لَهُ بِاللَّهِ يَا ذَا الْبُرْدَيْنِ | لَمَّا غَنِثْتَ نَفَسًا أَوْ نَفَسَيْنِ |
لَمَّا رَأَيْتُ أَبَا يَزِيدَ مُقَاتِلًا | أَدَعُ الْقِتَالَ وَأَشْهَدُ الْهَيْجَاءَ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مُوسَى وَفَتَاهُ نَصَبَا حُوتَهُمَا لَمَّا بَلَغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَوْضَحَ أَنَّ النِّسْيَانَ وَاقِعٌ مِنْ فَتَى مُوسَى ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ تَحْتَ يَدِهِ الْحُوتُ، وَهُوَ الَّذِي نَسِيَهُ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ النِّسْيَانَ إِلَيْهِمَا ; لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْمَجْمُوعِ مُرَادًا بَعْضُهُ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَنَّ مَنْ أَظْهَرِ أَدِلَّتِهِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [٢ ١٩١]، مِنَ الْقَتْلِ فِي الْفِعْلَيْنِ لَا مِنَ الْقِتَالِ، أَيْ: فَإِنْ قَتَلُوا بَعْضَكُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ بَعْضُكُمُ الْآخَرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ فَتَى مُوسَى دُونَ مُوسَى قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ الْآيَةَ [١٨ ٦٢] ; لِأَنَّ قَوْلَ مُوسَى: «آتِنَا غَدَاءَنَا» يَعْنِي بِهِ الْحُوتَ فَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ فَتَاهُ لَمْ يَنْسَهُ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَدْ صَرَّحَ فَتَاهُ: بِأَنَّهُ نَسِيَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [٦ ٦٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ الْآيَةَ [٥٨ ١٩].
وَفَتَى مُوسَى هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا [١٨ ٦١]، عَائِدٌ إِلَى «الْبَحْرَيْنِ» الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ. الْآيَةَ [١٨ ٦٠]، وَالْمَجْمَعُ: اسْمُ مَكَانٍ عَلَى الْقِيَاسِ، أَيْ: مَكَانَ اجْتِمَاعِهِمَا.
وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي تَعْيِينِ «الْبَحْرَيْنِ» الْمَذْكُورَيْنِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُمَا بَحْرُ
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ، قَرَأَهُ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ مَا عَدَا حَفْصًا «أَنْسَانِيهِ» بِكَسْرِ الْهَاءِ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «أَنْسَانِيهُ» بِضَمِّ الْهَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا، هَذَا الْعَبْدُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَدَلَالَةُ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ وَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ اللَّذَانِ ذَكَرَ اللَّهُ امْتِنَانَهُ عَلَيْهِ بِهِمَا لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ هُمَا رَحْمَةُ النُّبُوَّةِ وَعِلْمُهَا، أَوْ رَحْمَةُ الْوَلَايَةِ وَعِلْمُهَا، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي الْخَضِرِ: هَلْ هُوَ نَبِيٌّ، أَوْ رَسُولٌ، أَوْ وَلِيٌّ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
وَاخْتَلَفَتْ فِي خَضِرٍ أَهْلُ الْعُقُولِ | قِيلَ نَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ أَوْ رَسُولُ |
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الرَّحْمَةَ تَكَرَّرَ إِطْلَاقُهَا عَلَى النُّبُوَّةِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ الْمُؤْتَى
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّحْمَةَ وَإِيتَاءَ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ وَغَيْرِهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ فِيهِ أَنَّ وُجُودَ الْأَعَمِّ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْأَخَصِّ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ فِي أَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْعِلْمَ اللَّدُنِّيَّ اللَّذَيْنِ امْتَنَّ اللَّهُ بِهِمَا عَلَى عَبْدِهِ الْخَضِرِ عَنْ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُ: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [١٨ ٨٢]، أَيْ: وَإِنَّمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَأَمْرُ اللَّهِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، إِذْ لَا طَرِيقَ تُعْرَفُ بِهَا أَوَامِرُ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ إِلَّا الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَلَا سِيَّمَا قَتْلُ الْأَنْفُسِ الْبَرِيئَةِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَتَعْيِيبُ سُفُنِ النَّاسِ بِخَرْقِهَا ; لِأَنَّ الْعُدْوَانَ عَلَى أَنْفُسِ النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ حَصَرَ تَعَالَى طُرُقَ الْإِنْذَارِ فِي الْوَحْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [٢١ ٤٥]، وَ «إِنَّمَا» صِيغَةُ حَصْرٍ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الْإِلْهَامِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْإِلْهَامَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى شَيْءٍ، لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ، وَعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، بَلْ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْإِلْهَامِ فِي حَقِّ الْمُلْهَمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْجَبْرِيَّةِ أَيْضًا مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْإِلْهَامِ فِي حَقِّ الْمُلْهَمِ وَغَيْرِهِ جَاعِلِينَ الْإِلْهَامَ كَالْوَحْيِ الْمَسْمُوعِ مُسْتَدِلِّينَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [٦ ١٢٥]، وَبِخَبَرِ «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ اعْتِضَادِهِ بِدَلِيلٍ، وَغَيْرُ الْمَعْصُومِ لَا ثِقَةَ بِخَوَاطِرِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ دَسِيسَةَ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ ضُمِنَتِ الْهِدَايَةُ فِي اتِّبَاعِ الشَّرْعِ، وَلَمْ تُضْمَنْ فِي اتِّبَاعِ الْخَوَاطِرِ وَالْإِلْهَامَاتِ، وَالْإِلْهَامُ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِيقَاعُ شَيْءٍ
وَيُنْبَذُ الْإِلْهَامُ بِالْعَرَاءِ أَعْنِي بِهِ إِلْهَامَ الْأَوْلِيَاءِ وَقَدْ رَآهُ بَعْضُ مَنْ تَصَوَّفَا وَعِصْمَةُ النَّبِيِّ تُوجِبُ اقْتَفَا وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ تُعْرَفُ بِهَا أَوَامِرُ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَمَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ غَنِيٌّ فِي الْوُصُولِ إِلَى مَا يُرْضِي رَبَّهُ عَنِ الرُّسُلِ، وَمَا جَاءُوا بِهِ وَلَوْ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا شَكَّ فِي زَنْدَقَتِهِ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا لَا تُحْصَى، قَالَ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [١٧ ١٥]، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى نُلْقِيَ فِي الْقُلُوبِ إِلْهَامًا، وَقَالَ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [٤ ١٦٥]، وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ الْآيَةَ [٢٠ ١٣٤]، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [١٧ ١٥]، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ الْمُدَّعِينَ التَّصَوُّفَ مِنْ أَنَّ لَهُمْ وَلِأَشْيَاخِهِمْ طَرِيقًا بَاطِنَةً تُوَافِقُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَلَوْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِظَاهِرِ الشَّرْعِ، كَمُخَالَفَةِ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرِ لِظَاهِرِ الْعِلْمِ الَّذِي عِنْدَ مُوسَى، زَنْدَقَةٌ، وَذَرِيعَةٌ إِلَى الِانْحِلَالِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، بِدَعْوَى أَنَّ الْحَقَّ فِي أُمُورٍ بَاطِنَةٍ تُخَالِفُ ظَاهِرَهُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ مَا نَصُّهُ: قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ زَنَادِقَةِ الْبَاطِنِيَّةِ إِلَى سُلُوكِ طَرِيقٍ لَا تَلْزَمُ مِنْهُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ فَقَالُوا: هَذِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ إِنَّمَا يُحْكَمُ بِهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْعَامَّةِ، وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ وَأَهْلُ الْخُصُوصِ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تِلْكَ النُّصُوصِ، بَلْ إِنَّمَا يُرَادُ مِنْهُمْ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ خَوَاطِرِهِمْ، وَقَالُوا: وَذَلِكَ لِصَفَاءِ قُلُوبِهِمْ عَنِ الْأَكْدَارِ، وَخُلُوِّهَا عَنِ الْأَغْيَارِ، فَتَتَجَلَّى لَهُمُ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ، وَالْحَقَائِقُ الرَّبَّانِيَّةُ، فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَارِ الْكَائِنَاتِ، وَيَعْلَمُونَ أَحْكَامَ الْجُزْئِيَّاتِ، فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّاتِ، كَمَا اتَّفَقَ لِلْخَضِرِ فَإِنَّهُ اسْتَغْنَى بِمَا تَجَلَّى لَهُ مِنَ الْعُلُومِ عَمَّا كَانَ عِنْدَ مُوسَى مِنْ تِلْكَ الْفُهُومِ، وَقَدْ جَاءَ فِيمَا
وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَقَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ وَالْيَقِينُ الضَّرُورِيُّ، وَاجْتِمَاعُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنْ لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَلَا يُعْرَفُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ، فَمَنْ قَالَ إِنَّ هُنَاكَ طَرِيقًا أُخْرَى يُعْرَفُ بِهَا أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ غَيْرَ الرُّسُلِ حَيْثُ يَسْتَغْنِي عَنِ الرُّسُلِ فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ، وَلَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، ثُمَّ هُوَ قَوْلٌ بِإِثْبَاتِ أَنْبِيَاءَ بَعْدَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ خَاتَمَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ: يَأْخُذُ عَنْ قَلْبِهِ، وَأَنَّ مَا يَقَعُ فِيهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، وَأَنَّهُ وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَقَدْ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ خَاصَّةَ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ هَذَا نَحْوُ مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي.» الْحَدِيثَ، انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ.
وَمَا ذَكَرَهُ فِي كَلَامِ شَيْخِهِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَنَّ الزِّنْدِيقَ لَا يُسْتَتَابُ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَأَدِلَّتَهُمْ، وَمَا يُرَجِّحُهُ الدَّلِيلُ فِي كِتَابِنَا) دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ (فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ»، وَمَا يَسْتَدِلُّ بِهِ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِمَّنْ يَدَّعِي التَّصَوُّفَ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِلْهَامِ مِنْ ظَوَاهِرِ بَعْضِ النُّصُوصِ كَحَدِيثِ «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» لَا دَلِيلَ فِيهِ الْبَتَّةَ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِلْهَامِ: لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ أَنَّ الْمُفْتِيَ الَّذِي تُتَلَقَّى الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ قِبَلِهِ الْقَلْبُ، بَلْ مِنَ الْحَدِيثِ: التَّحْذِيرُ مِنَ الشُّبَهِ ; لِأَنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَالْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ لَا يَعْلَمُهَا كُلُّ النَّاسِ.
فَقَدْ يُفْتِيكَ الْمُفْتِي بِحِلِّيَّةِ شَيْءٍ وَأَنْتَ تَعْلَمُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، وَذَلِكَ بِاسْتِنَادٍ إِلَى الشَّرْعِ، فَإِنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ لَا يَطْمَئِنُّ لِمَا فِيهِ الشُّبْهَةُ، وَالْحَدِيثُ، كَقَوْلِهِ «دَعْ مَا
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الصُّوفِيَّةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ وَالدِّينِ وَالصَّلَاحِ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْجُنَيْدِ الْخَزَّازِ الْقَوَارِيرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (مَذْهَبُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ)، نَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ تَرْجَمَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، كَابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ خِلِّكَانَ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلَامَهُ الْمَذْكُورَ هُوَ الْحَقُّ، فَلَا أَمْرَ وَلَا نَهْيَ إِلَّا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبِهَذَا كُلُّهُ تَعْلَمُ أَنَّ قَتْلَ الْخَضِرِ لِلْغُلَامِ، وَخَرْقَهُ لِلسَّفِينَةِ، وَقَوْلَهُ: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ. وَعَزَا الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْقَوْلَ بِنُبُوَّتِهِ لِلْأَكْثَرِينَ، وَمِمَّا يَسْتَأْنِسُ بِهِ لِلْقَوْلِ بِنُبُوَّتِهِ تَوَاضُعُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ فِي قَوْلِهِ: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [١٨ ٦٦]، وَقَوْلِهِ: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [١٨ ٦٩]، مَعَ قَوْلِ الْخَضِرِ لَهُ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا، [١٨ ٦٨].
مَسْأَلَةٌ
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْخَضِرِ: هَلْ هُوَ حَيٌّ إِلَى الْآنِ، أَوْ هُوَ غَيْرُ حَيٍّ، بَلْ مِمَّنْ مَاتَ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ؟ فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ حَيٌّ، وَأَنَّهُ شَرِبَ مِنْ
وَحِكَايَاتُ الصَّالِحِينَ عَنِ الْخَضِرِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ يَحُجُّ هُوَ وَإِلْيَاسُ كُلَّ سَنَةٍ، وَيَرْوُونَ عَنْهُمَا بَعْضَ الْأَدْعِيَةِ، كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، وَمُسْتَنَدُ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ ضَعِيفٌ جِدًّا ; لِأَنَّ غَالِبَهُ حِكَايَاتٌ عَنْ بَعْضِ مَنْ يُظَنُّ بِهِ الصَّلَاحُ، وَمَنَامَاتٌ وَأَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ، وَكُلُّهَا ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ.
وَمِنْ أَقْوَاهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ آثَارُ التَّعْزِيَةِ حِينَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَمْهِيدِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا تُوَفِّي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُجِّيَ بِثَوْبٍ هَتَفَ هَاتِفٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ الْآيَةَ [٣ ١٨٥]، إِنَّ فِي اللَّهِ خَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَعِوَضًا مِنْ كُلِّ تَالِفٍ، وَعَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ فَبِاللَّهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى حَيَاةِ الْخَضِرِ بِآثَارِ التَّعْزِيَةِ كَهَذَا الْأَثَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَحَكَى النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ فِي بَقَاءِ الْخَضِرِ إِلَى الْآنِ، ثُمَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَوْلَيْنِ، وَمَالَ هُوَ وَابْنُ الصَّلَاحِ إِلَى بَقَائِهِ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٍ عَنِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَاءَ ذِكْرُهُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَشْهَرُهَا حَدِيثُ التَّعْزِيَةِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ اهـ، مِنْهُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى فَرْضِ أَنَّ حَدِيثَ التَّعْزِيَةِ صَحِيحٌ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا عِرْفَانًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُعَزِّي هُوَ الْخَضِرُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْخَضِرِ مِنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ ; لِأَنَّ الْجِنَّ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [٧ ٢٧]، وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُعَزِّيَ هُوَ الْخَضِرُ تَحَكُّمٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَقَوْلُهُمْ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ الْخَضِرُ لَيْسَ حُجَّةً يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يُخْطِئُوا فِي ظَنِّهِمْ، وَلَا يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ بِحَيٍّ بَلْ تُوُفِّيَ، وَذَلِكَ لِعِدَّةِ أَدِلَّةٍ:
الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [٢١ ٣٤]، فَقَوْلُهُ «لِبَشَرٍ» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهِيَ تَعُمُّ كُلَّ بَشَرٍ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْخُلْدِ عَنْ كُلِّ بَشَرٍ مِنْ قَبْلِهِ، وَالْخَضِرُ بَشَرٌ مِنْ قَبْلِهِ، فَلَوْ كَانَ شَرِبَ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ وَصَارَ حَيًّا خَالِدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَكَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ لِذَلِكَ الْبَشَرِ الَّذِي هُوَ الْخَضِرُ مِنْ قَبْلِهِ الْخُلْدَ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ» فَقَدْ قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ) ح (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ هُوَ زَمِيلٌ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزَ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ» فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ [٨ ٩]، فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ.. ، الْحَدِيثَ، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ» فِعْلٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهُوَ بِمَعْنَى: لَا تَقَعُ عِبَادَةٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وَعَنْ مَصْدَرٍ وَنِسْبَةٍ وَزَمَنٍ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْبَلَاغِيِّينَ، فَالْمَصْدَرُ كَامِنٌ فِي مَفْهُومِهِ إِجْمَاعًا، فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ النَّفْيُ فَيُؤَوَّلُ إِلَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» وَإِلَى كَوْنِ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَالشَّرْطِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُفِيدُ الْعُمُومَ:
وَنَحْوُ لَا شَرِبْتُ أَوْ إِنْ شَرِبَا | وَاتَّفَقُوا إِنْ مَصْدَرٌ قَدْ جَلَبَا |
فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ يَشْمَلُ بِعُمُومِهِ وُجُودَ الْخَضِرِ حَيًّا فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ وَجُودِهِ حَيًّا فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ عَلَى فَرْضِ هَلَاكِ تِلْكَ الْعِصَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْخَضِرَ مَا دَامَ حَيًّا فَهُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ! فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [٥٤ ٤٥]، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» أَيْ: إِنْ شِئْتَ إِهْلَاكَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ، فَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ عَنْ وَفَاةِ الْخَضِرِ.
الثَّالِثُ: إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا بِالْحَدِيثِ لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا فِي الْأَرْضِ لَمَا تَأَخَّرَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْمَذْكُورَةِ، قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: «أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدٌ». قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَهَلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ فِيمَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ»، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَنْخَرِمَ ذَلِكَ الْقَرْنُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، وَرَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِ مَعْمَرٍ كَمِثْلِ حَدِيثِهِ، حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: «تَسْأَلُونِي
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُعْتَمِرِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ الْيَوْمَ تَأْتِي مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ»، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبِ السِّقَايَةِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَفَسَّرَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: نَقَصُ الْعُمُرِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بِالْإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا مِثْلَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنْ دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ) ح (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ دَاوُدَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَأْتِي مِائَةٌ وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ» حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَبْلُغُ مِائَةَ سَنَةٍ» فَقَالَ سَالِمٌ: تَذَاكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَهُ: إِنَّمَا هِيَ كُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ يَوْمَئِذٍ اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ فِيهِ تَصْرِيحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَا تَبْقَى نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ حَيَّةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ، فَقَوْلُهُ «نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ» وَنَحْوُهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ فِي رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهِيَ تَعُمُّ كُلَّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْعُمُومَ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ يَشْمَلُ الْخَضِرَ ; لِأَنَّهُ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ» فَوَهَلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةٍ سَنَةٍ: وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ» يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمُرَادِ قَرِيبًا.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ فِيهَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْعَبَّاسِ وَغَيْرُهُ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَعَلَى أَنَّهَا عَامَّةٌ فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا فِي زَمَنِهِ لَجَاءَهُ وَنَصَرَهُ وَقَاتَلَ تَحْتَ رَايَتِهِ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ نَبِيٌّ إِلَّا اتَّبَعَهُ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ فَغَضِبَ وَقَالَ: «لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي» اهـ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، إِلَّا أَنَّ فِي مُجَالِدٍ ضَعْفًا، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَارِيخِهِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ آيَةَ «آلِ عِمْرَانَ» الْمَذْكُورَةِ آنِفًا مُسْتَدِلًّا بِهَا عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ لَوْ كَانَ حَيًّا لَجَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَرَهُ مَا نَصُّهُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّنَا إِلَّا أُخِذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلِيَنْصُرُنَّهُ، وَأَمَرُهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أُمَّتِهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَيَنْصُرُونَهُ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ.
فَالْخَضِرُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْمِيثَاقِ، فَلَوْ كَانَ حَيًّا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ أَشْرَفَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، يُؤْمِنُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَنْصُرُهُ أَنْ يَصِلَ أَحَدٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ وَلِيًّا فَالصَّدِيقُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَمُوسَى أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ مُكَلَّفُونَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانُوا كُلُّهُمْ أَتْبَاعًا لَهُ وَتَحْتَ أَوَامِرِهِ، وَفِي عُمُومِ شَرْعِهِ، كَمَا أَنَّ صَلَوَاتِ اللَّهِ وَسَلَامَهُ عَلَيْهِ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِمُ الْإِسْرَاءُ رُفِعَ فَوْقَهُمْ كُلِّهِمْ، وَلَمَّا هَبَطُوا مَعَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَحَانَتِ الصَّلَاةُ أَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ أَنْ يَؤُمَّهُمْ، فَصَلَّى بِهِمْ فِي مَحَلِّ وَلَايَتِهِمْ وَدَارِ إِقَامَتِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالرَّسُولُ الْخَاتَمُ الْمُبَجَّلُ الْمُقَدَّمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
فَإِذَا عُلِمَ هَذَا، وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، عُلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا لَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِمَّنْ يَقْتَدِي بِشَرْعِهِ لَا يَسَعُهُ إِلَّا ذَلِكَ، هَذَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا نَزَلَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، لَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَلَا يَحِيدُ عَنْهَا، وَهُوَ أَحَدُ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَنْقُلْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَيْهِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ قِتَالًا فِي مَشْهَدٍ مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَهَذَا يَوْمُ بَدْرٍ يَقُولُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فِيمَا دَعَا بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَنْصَرَهُ وَاسْتَفْتَحَهُ عَلَى مَنْ كَفَرَهُ: «اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ بَعْدَهَا فِي الْأَرْضِ» وَتِلْكَ الْعِصَابَةُ كَانَ تَحْتَهَا سَادَةُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ، وَسَادَةُ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فِي بَيْتٍ يُقَالُ بِأَنَّهُ أَفْخَرُ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ:
وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إِذْ يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ | جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا |
فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا لَكَانَ وُقُوفُهُ تَحْتَ هَذِهِ الرَّايَةِ أَشْرَفَ مَقَامَاتِهِ، وَأَعْظَمَ غَزَوَاتِهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيُّ: سُئِلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْخَضِرِ هَلْ مَاتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَبَلَغَنِي مِثْلُ هَذَا عَنْ أَبِي طَاهِرِ بْنِ الْعَبَّادِيِّ قَالَ: وَكَانَ يَحْتَجُّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْعُجَالَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ حَاضِرًا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرَاهُ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذَا الِاحْتِمَالِ الْبَعِيدِ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْصِيصُ الْعُمُومَاتِ بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّمَاتِ، ثُمَّ
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ لَا يَتَوَقَّفُ أَحَدٌ فِيهِ بَعْدَ التَّفَهُّمِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، انْتَهَى مِنَ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ لِابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَرْفُوعَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْخَضِرِ حَيًّا بَاقِيًا لَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَنَّهُ قَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى وَفَاتِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ.
وَمِمَّنْ بَيَّنَ ضَعْفَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى حَيَاةِ الْخَضِرِ وَبَقَائِهِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ وَتَفْسِيرِهِ، وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنْ أَوْجُهِ ضَعْفِهَا ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَحَادِيثَ وَالْحِكَايَاتِ الْوَارِدَةَ فِي حَيَاةِ الْخَضِرِ: وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَالْحِكَايَاتُ هِيَ عُمْدَةُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى حَيَاتِهِ إِلَى الْيَوْمِ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، لَا تَقُومُ بِمِثْلِهَا حُجَّةٌ فِي الدِّينِ.
وَالْحِكَايَاتُ لَا يَخْلُو أَكْثَرُهَا مَنْ ضَعْفٍ فِي الْإِسْنَادِ، وَقُصَارَاهَا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ إِلَى مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ (، إِلَى أَنْ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ تَصَدَّى الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ) عَجَلَةِ الْمُنْتَظِرِ فِي شَرْحِ حَالَةِ الْخَضِرِ (لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ فَبَيَّنَ أَنَّهَا مَوْضُوعَاتٌ، وَمِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَبَيَّنَ ضَعْفَ أَسَانِيدِهَا بِبَيَانِ أَحْوَالِهَا، وَجَهَالَةِ رِجَالِهَا، وَقَدْ أَجَادَ فِي ذَلِكَ وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ اهـ مِنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ نَاقَشُوا الْأَدِلَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وَفَاتِهِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَشْمَلُهُ عُمُومُ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [٢١ ٣٤]، وَلَا عُمُومُ حَدِيثِ: «أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ» كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا حُجَّةَ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ يَعْنِي الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْخَضِرَ
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ هَذَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِعُلُومِ الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامٌّ فِي كُلِّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ عُمُومًا مُؤَكَّدًا ; لِأَنَّ زِيَادَةَ «مِنْ» قَبْلَ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَجْعَلُهَا نَصًّا صَرِيحًا فِي الْعُمُومِ لَا ظَاهِرًا فِيهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ».
وَلَوْ فَرَضْنَا صِحَّةَ مَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ لَا نَصَّ فِيهِ، وَقَرَّرْنَا أَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ كَمَا هُوَ الْحَقُّ فِي كُلِّ عَامٍّ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى وُجُوبِ اسْتِصْحَابِ عُمُومِ الْعَامِّ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ صَالِحٌ لِلتَّخْصِيصِ سَنَدًا وَمَتْنًا، فَالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةُ عَنْ دَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّصَ بِهَا نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ إِجْمَاعًا.
وَقَوْلُهُ: «إِنَّ عِيسَى لَمْ يَتَنَاوَلْهُ عُمُومُ الْحَدِيثِ» فِيهِ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْلِهِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ عِيسَى ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ: «لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ بِهَا الْيَوْمَ أَحَدٌ»، فَخَصَّصَ ذَلِكَ بِظَهْرِ الْأَرْضِ فَلَمْ يَتَنَاوَلِ اللَّفْظُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَعِيسَى قَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَرْضِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [٤ ١٥٨]، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا كَمَا تَرَى.
وَدَعْوَى حَيَاةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَفَتَى مُوسَى ظَاهِرَةُ السُّقُوطِ وَلَوْ فَرَضْنَا حَيَاتَهُمْ فَإِنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى مَوْتِهِمْ عِنْدَ الْمِائَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ يُعَارِضُهُ.
وَقَوْلُهُ «إِنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ مُشَاهَدًا لِلنَّاسِ، وَلَا مِمَّنْ يُخَالِطُهُمْ حَتَّى يَخْطُرَ بِبَالِهِمْ حَالَةَ مُخَاطَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا» يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الِاعْتِرَاضَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتَيْنِ:
الْأُولَى: أَنَّ دَعْوَى كَوْنِ الْخَضِرِ مَحْجُوبًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ كَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ
الثَّانِيَةُ: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَا يَرَاهُ بَنُو آدَمَ، فَاللَّهُ الَّذِي أَعْلَمَ النَّبِيَّ بِالْغَيْبِ الَّذِي هُوَ «هَلَاكُ كُلِّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ فِي تِلْكَ الْمِائَةِ» عَالِمٌ بِالْخَضِرِ، وَبِأَنَّهُ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ، وَلَوْ سَلَّمْنَا جَدَلِيًّا أَنَّ الْخَضِرَ فَرْدٌ نَادِرٌ لَا تَرَاهُ الْعُيُونُ، وَأَنَّ مِثْلَهُ لَمْ يُقْصَدْ بِالشُّمُولِيِّ فِي الْعُمُومِ فَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ شُمُولُ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ لِلْفَرْدِ النَّادِرِ وَالْفَرْدِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْفَرْدَ النَّادِرَ وَغَيْرَ الْمَقْصُودِ لَا يَشْمَلُهُمَا الْعَامُّ وَلَا الْمُطْلَقُ.
قَالَ صَاحِبُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي «مَبْحَثِ الْعَامِّ» مَا نَصُّهُ: وَالصَّحِيحُ دُخُولُ النَّادِرَةِ وَغَيْرِ الْمَقْصُودَةِ تَحْتَهُ، فَقَوْلُهُ: «النَّادِرَةُ وَغَيْرُ الْمَقْصُودَةِ»، يَعْنِي الصُّورَةَ النَّادِرَةَ وَغَيْرَ الْمَقْصُودَةِ، وَقَوْلُهُ: «تَحْتَهُ» يَعْنِي الْعَامَّ، وَالْحَقُّ أَنَّ الصُّورَةَ النَّادِرَةَ، وَغَيْرَ الْمَقْصُودَةِ صُورَتَانِ وَاحِدَةٌ، وَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ عَلَى التَّحْقِيقِ ; لِأَنَّ الصُّورَةَ النَّادِرَةَ قَدْ تَكُونُ مَقْصُودَةً وَغَيْرَ مَقْصُودَةٍ، وَالصُّورَةُ غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ قَدْ تَكُونُ نَادِرَةً وَغَيْرَ نَادِرَةٍ، وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي تُبْنَى عَلَى دُخُولِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَعَدَمِ دُخُولِهَا فِيهِمَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ دَفْعِ السَّبَقِ - بِفَتْحَتَيْنِ - فِي الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْفِيلِ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ» وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنُ مَاجَهْ «أَوْ نَصْلٍ» وَالْفِيلُ ذُو خُفٍّ، وَهُوَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِدُخُولِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي الْعَامِّ يَجُوزُ دَفْعُ السَّبَقِ - بِفَتْحَتَيْنِ - فِي الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْفِيَلَةِ، وَالسَّبَقُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْمَالُ الْمَجْعُولُ لِلسَّابِقِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ جَعَلَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِثَالًا لِدُخُولِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي الْمُطْلَقِ لَا الْعَامِّ، قَالَ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: «إِلَّا فِي خُفٍّ» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَ «إِلَّا» مُثْبَتٌ، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ إِطْلَاقٌ لَا عُمُومٌ، وَجَعَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ مِثَالًا لِدُخُولِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ فِي الْعَامِّ.
قَالَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا: وَجْهُ عُمُومِهِ مَعَ أَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ أَنَّهُ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ مَعْنًى، إِذِ التَّقْدِيرُ: إِلَّا إِذَا كَانَ فِي خُفٍّ، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ تَعُمُّ، وَضَابِطُ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ هِيَ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَرْدُ لَا يَخْطُرُ غَالِبًا بِبَالِ الْمُتَكَلِّمِ لِنُدْرَةِ وُقُوعِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الصُّورَةِ النَّادِرَةِ: هَلْ تَدْخُلُ فِي الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ أَوْ لَا؟ ! اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ الْخَارِجِ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، كَمَنْ تَلْدَغُهُ عَقْرَبٌ فِي ذَكَرِهِ فَيَنْزِلُ مِنْهُ
هَلْ نَادِرٌ فِي ذِي الْعُمُومِ يَدْخُلْ | وَمُطْلَقٌ أَوْ لَا خِلَافَ يُنْقَلْ |
فَمَا لِغَيْرِ لَذَّةٍ وَالْفِيلْ | وَمُشَبَّهٌ فِيهِ تَنَافِي الْقِيلْ |
وَمَا مِنَ الْقَصْدِ خَلَا فِيهِ اخْتُلِفْ | وَقَدْ يَجِيءُ بِالْمَجَازِ مُتَّصِفْ |
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِحَسَبِ الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ شُمُولُ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ لِلصُّوَرِ النَّادِرَةِ ; لِأَنَّ الْعَامَّ ظَاهِرٌ فِي عُمُومِهِ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْعَامَّ ظَاهِرٌ فِي عُمُومِهِ وَشُمُولِهِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ فَحُكْمُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا يَعْدِلُ عَنْهُ، بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَصْلُحُ لِلتَّخْصِيصِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَعْمَلُونَ بِشُمُولِ الْعُمُومَاتِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ فِي ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ دُخُولَ الْخَضِرِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ الْآيَةَ [٢١ ٣٤]، وَعُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ أَحَدٌ» هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَا يُمْكِنُ خُرُوجُهُ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ إِلَّا بِمُخَصِّصٍ صَالِحٍ لِلتَّخْصِيصِ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْخُنْثَى صُورَةٌ نَادِرَةٌ جِدًّا، مَعَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ وَالْقِصَاصِ وَالْعِتْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُمُومَاتِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ
فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الدَّجَّالَ حَيٌّ مَوْجُودٌ فِي تِلْكَ الْجَزِيرَةِ الْبَحْرِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّهُ بَاقٍ وَهُوَ حَيٌّ حَتَّى يَخْرُجَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَهَذَا نَصٌّ صَالِحٌ لِلتَّخْصِيصِ يُخْرِجُ الدَّجَّالَ مِنْ عُمُومِ حَدِيثِ مَوْتِ كُلِّ نَفْسٍ فِي تِلْكَ الْمِائَةِ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الْعُمُومَ يَجِبُ إِبْقَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ، فَمَا أَخْرَجَهُ نَصٌّ مُخَصِّصٌ خَرَجَ مِنَ الْعُمُومِ وَبَقِيَ الْعَامُّ حُجَّةً فِي بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَى إِخْرَاجِهَا دَلِيلٌ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا وَهُوَ الْحَقُّ وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ غَالِبُ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْعُمُومَاتِ يَخْرُجُ مِنْهَا بَعْضُ الْأَفْرَادِ بِنَصٍّ مُخَصِّصٍ، وَيَبْقَى الْعَامُّ حُجَّةً فِي الْبَاقِي، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي مَبْحَثِ التَّخْصِيصِ بِقَوْلِهِ:
وَهُوَ حُجَّةٌ لَدَى الْأَكْثَرِ إِنْ | مُخَصِّصٌ لَهُ مُعَيَّنًا يَبِنْ |
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا كَثِيرًا فِي نَسَبِ الْخَضِرِ، فَقِيلَ: هُوَ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ: وَهَذَا قَوْلٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ طَرِيقِ رَوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَّادٌ ضَعِيفٌ، وَمُقَاتِلٌ مَتْرُوكٌ، وَالضَّحَّاكُ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ فِي كِتَابِ الْمُعَمَّرِينَ، ثُمَّ سَاقَ سَنَدَهُ وَقَالَ: هُوَ مُعْضَلٌ وَحَكَى صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ اسْمُهُ خَضِرُونَ وَهُوَ الْخَضِرُ، وَقِيلَ: اسْمُهُ عَامِرٌ، ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ الْبَغْدَادِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ بِلْيَامُ بْنُ مَلْكَانِ بْنُ فَالِغِ بْنِ شَالَخِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ عَنْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ الْمُعَمِّرَ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَزْدِ، وَهَذَا قَوْلُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمَا.
وَقِيلَ: خَضْرُونُ بْنُ عَمَائِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ: وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَيْضًا ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ بَعِيدٌ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ: إِنَّهُ أَرْمَيَا بُنُ حَلْقِيَا، وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ.
وَقِيلَ: ابْنُ فِرْعَوْنَ لِصُلْبِهِ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْيَسَعُ، حُكِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّهُ بَعِيدٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ وَلَدِ فَارِسٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: جَاءَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ رِوَايَةِ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْ وَلَدِ بَعْضِ مَنْ كَانَ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ مَعَهُ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَقِيلَ: كَانَ أَبُوهُ فَارِسِيًّا، وَأُمُّهُ رُومِيَّةً، وَقِيلَ عَكْسُ ذَلِكَ اهـ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْوَاقِعِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ، وَالْفَرْوَةُ الْبَيْضَاءُ: مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْحَشِيشِ الْأَبْيَضِ وَشِبْهِهِ مِنَ الْهَشِيمِ، وَقِيلَ، الْفَرْوَةُ: الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَقِيلَ: هِيَ الْهَشِيمُ الْيَابِسُ.
وَمِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ تَسْمِيَةُ جِلْدَةِ الرَّأْسِ فَرْوَةً، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
دَنِسُ الثِّيَابِ كَأَنَّ فَرْوَةَ رَأْسِهِ | غُرِسَتْ فَأَنْبَتْ جَانِبَاهَا فُلْفُلًا |
، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ زَاعِمِينَ أَنَّ إِرَادَةَ الْجِدَارِ الِانْقِضَاضَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هِيَ مَجَازٌ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ إِرَادَةِ الْجِدَارِ حَقِيقَةً ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ لِلْجَمَادَاتِ إِرَادَاتٍ وَأَفْعَالًا وَأَقْوَالًا لَا يُدْرِكُهَا الْخَلْقُ كَمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَعْلَمُهُ خَلْقُهُ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [١٧ ٤٤]، فَصَرَّحَ بِأَنَّنَا لَا نَفْقَهُ تَسْبِيحَهُمْ، وَتَسْبِيحُهُمْ وَاقِعٌ عَنْ إِرَادَةٍ لَهُمْ يَعْلَمُهَا هُوَ جَلَّ وَعَلَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهَا، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ الْآيَةَ [٢ ٧٤]، فَتَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِأَنَّ بَعْضَ الْحِجَارَةِ يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْخَشْيَةَ بِإِدْرَاكٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ الْآيَةَ [٣٣ ٧٢]، فَتَصْرِيحُهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ أَبَتْ وَأَشْفَقَتْ، أَيْ: خَافَتْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِإِرَادَةٍ وَإِدْرَاكٍ يَعْلَمُهُ هُوَ جَلَّ وَعَلَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ بِمَكَّةَ " وَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَنِينِ الْجِذْعِ الَّذِي كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَزَعًا لِفِرَاقِهِ، فَتَسْلِيمُ ذَلِكَ الْحَجَرِ، وَحَنِينُ ذَلِكَ الْجِذْعِ كِلَاهُمَا بِإِرَادَةٍ وَإِدْرَاكٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [١٧ ٤٤]، وَزَعْمُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَإِنَّمَا هِيَ ضَرْبُ أَمْثَالٍ، زَعْمٌ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا عَنْ مَعْنَاهَا الْوَاضِحِ الْمُتَبَادَرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إِبْقَاءِ إِرَادَةِ الْجِدَارِ عَلَى حَقِيقَتِهَا لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلِمَ مِنْهُ إِرَادَةَ الِانْقِضَاضِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ خَلْقُهُ تِلْكَ الْإِرَادَةَ، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا كَمَا تَرَى، مَعَ أَنَّهُ مِنَ الْأَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقُ الْإِرَادَةِ عَلَى الْمُقَارَبَةِ وَالْمَيْلِ إِلَى الشَّيْءِ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فِي مَهْمَهٍ قَلِقَتْ بِهِ هَامَتُهَا | قَلَقَ الْفُئُوسِ إِذَا أَرَدْنَ نُضُولَا |
يُرِيدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِي بَرَاءٍ | وَيَعْدِلُ عَنْ دِمَاءِ بَنِي عَقِيلِ |
إِنَّ دَهْرًا يَلُفُّ شَمْلِي بِجُمْلٍ | لَزَمَانٌ يَهُمُّ بِالْإِحْسَانِ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا
، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ، صَحِيحَةً كَانَتْ أَوْ مَعِيبَةً، وَلَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الْمَعِيبَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [١٨ ٧٩]، أَيْ: لِئَلَّا يَأْخُذَهَا، وَذَلِكَ هُوَ الْحِكْمَةُ فِي خَرْقِهِ لَهَا الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا [١٨ ٧١]، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ قَصْدَهُ بِخَرْقِهَا سَلَامَتُهَا لِأَهْلِهَا مِنْ أَخْذَ ذَلِكَ الْمَلِكِ الْغَاصِبِ ; لِأَنَّ عَيْبَهَا يُزَهِّدُهُ فِيهَا ; وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِثَالًا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ لِحَذْفِ النَّعْتِ، أَيْ: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ غَيْرِ مَعِيبَةٍ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الشَّوَاهِدَ الْعَرَبِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا الْآيَةَ [١٧ ٥٨]، وَاسْمُ ذَلِكَ الْمَلِكِ: هُدَدُ بْنُ بَدْرٍ: وَقَوْلُهُ «وَرَاءَهُمْ» أَيْ: أَمَامَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ
، قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «حَمِئَةٍ» بِلَا أَلِفٍ بَعْدِ الْحَاءِ، وَبِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةٍ وَالْكِسَائِيٍّ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ «حَامِيَةٍ» بِأَلِفٍ بَعْدِ الْحَاءِ، وَيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَمَعْنَى «حَمِئَةٍ» : ذَاتُ حَمْأَةٍ وَهِيَ الطِّينُ الْأَسْوَدُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [١٥ ٢٦]،
بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي | أَسْبَابَ أَمْرٍ مِنْ حَكِيمٍ مُرْشِدٍ |
فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا | فِي عَيْنِ ذِي خَلَبٍ وَثَأْطٍ حَرْمَدِ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِبَعْضِ الْآيَاتِ بَيَانٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَفِي بِإِيضَاحِ الْمَقْصُودِ وَقَدْ بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّا نُتَمِّمُ بَيَانَهُ بِذِكْرِ السُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ، وَقَدْ قَدَّمَنَا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَهُمَا بَيَانٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْضَحَتْهُ السُّنَّةُ، فَصَارَ بِضَمِيمَةِ السُّنَّةِ إِلَى الْقُرْآنِ بَيَانًا وَافِيًا بِالْمَقْصُودِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَالَ فِي كِتَابِهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [١٦ ٤٤]، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، وَآيَةَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ دَلَّتَا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ السَّدَّ الَّذِي بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ دُونَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ إِنَّمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ دَكًّا عِنْدَ مَجِيءِ الْوَقْتِ الْمَوْعُودِ بِذَلِكَ فِيهِ، وَقَدْ دَلَّتَا عَلَى أَنَّهُ بِقُرْبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ; لِأَنَّهُ قَالَ هُنَا: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الْآيَةَ [١٨ ٩٨ - ٩٩]، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ
وَآيَةُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُشَارُ إِلَيْهَا هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ [٢١ ٩٦ - ٩٧] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَإِتْبَاعَهُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا، يَدُلُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكَهْفِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ رُوسِيَّةٌ، وَأَنَّ السَّدَّ فُتِحَ مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ، فَإِذَا قِيلَ: إِنَّمَا تَدُلُّ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي «الْكَهْفِ» وَ «الْأَنْبِيَاءِ» عَلَى مُطْلَقِ اقْتِرَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ دَكِّ السَّدِّ وَاقْتِرَابِهِ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ قَدْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ الْآيَةَ [٢١ ١]، وَقَالَ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [٥٤ ١]، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ، مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلَ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِأُصْبَعَيْهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا.» الْحَدِيثَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ»، فَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّ اقْتِرَابَ مَا ذَكَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ اقْتِرَانُهُ بِهِ، بَلْ يَصِحُّ اقْتِرَابُهُ مَعَ مُهْلَةٍ، وَإِذًا فَلَا يُنَافِي دَكُّ السَّدِّ الْمَاضِي الْمَزْعُومِ الِاقْتِرَابَ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا يَكُونُ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُدَكُّ السَّدُّ إِلَى الْآنِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ قَدْ رَأَيْتَ فِيهِ تَصْرِيحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِأَنَّ اللَّهَ يُوحِي إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خُرُوجَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ بَعْدَ قَتْلِهِ الدَّجَّالَ، فَمَنْ يَدَّعِي أَنَّهُمْ رُوسِيَّةٌ، وَأَنَّ السَّدَّ قَدِ انْدَكَّ مُنْذُ زَمَانٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَالَفَةً صَرِيحَةً لَا وَجْهَ لَهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ نَاقِضٍ خَبَرَ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ نَقِيضَ الْخَبَرِ الصَّادِقِ كَاذِبٌ ضَرُورَةً كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ يُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي رَأَيْتَ صِحَّةَ سَنَدِهِ، وَوُضُوحَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَقْصُودِ.
وَالْعُمْدَةُ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَنِ ادَّعَى أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هُمْ رُوسِيَّةٌ، وَمَنِ ادَّعَى مِنَ الْمُلْحِدِينَ أَنَّهُمْ لَا وُجُودَ لَهُمْ أَصْلًا هِيَ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ فِي زَعْمِ صَاحِبِهَا، وَهِيَ بِحَسَبِ الْمُقَرَّرِ فِي الْجَدَلِ قِيَاسٌ اسْتِثْنَائِيٌّ مُرَكَّبٌ مِنْ شَرْطِيَّةٍ مُتَّصِلَةٍ لُزُومِيَّةٍ فِي زَعْمِ الْمُسْتَدِلِّ بِهِ يُسْتَثْنَى فِيهِ نَقِيضُ التَّالِي، فَيَنْتُجُ نَقِيضُ الْمُقَدَّمِ، وَصُورَةُ نَظْمِهِ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَرَاءَ السَّدِّ إِلَى الْآنِ، لَاطَّلَعَ عَلَيْهِمُ النَّاسُ لِتَطَوُّرِ طُرُقُ الْمُوَاصَلَاتِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ
الْأُولَى: أَنْ يَقْدَحَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ شَرْطِيَّتِهِ، لِكَوْنِ الرَّبْطِ بَيْنَ الْمُقَدَّمِ وَالتَّالِي لَيْسَ صَحِيحًا.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْدَحَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ اسْتِثْنَائِيَّتِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْدَحَ فِيهِ مِنْ جِهَتِهِمَا مَعًا، وَهَذَا الْقِيَاسُ الْمَزْعُومُ يَقْدَحُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ شَرْطِيَّتِهِ فَيَقُولُ لِلْمُعْتَرِضِ: الرَّبْطُ فِيهِ بَيْنَ الْمُقَدَّمِ وَالتَّالِي غَيْرُ صَحِيحٍ، فَقَوْلُكُمْ: لَوْ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَرَاءَ السَّدِّ إِلَى الْآنِ لَاطَّلَعَ عَلَيْهِمُ النَّاسُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ وَاللَّهُ يُخْفِي مَكَانَهُمْ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِإِخْرَاجِهِمْ عَلَى النَّاسِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ إِمْكَانَ هَذَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [٥ ٢٦]، وَهُمْ فِي فَرَاسِخَ قَلِيلَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، يَمْشُونَ لَيْلَهُمْ وَنَهَارَهُمْ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِمُ النَّاسُ حَتَّى انْتَهَى أَمَدُ التِّيهِ، لِأَنَّهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا بِالنَّاسِ لَبَيَّنُوا لَهُمُ الطَّرِيقَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَرَبُّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَأَخْبَارُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةُ عَنْهُ صَادِقَةٌ، وَمَا يُوجَدُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا وَنَحْوَهُ مِنَ الْقِصَصِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ الصَّحِيحَةِ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ فِي التَّوْرَاةِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ بَاطِلٌ يَقِينًا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْنَا ; لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا صَرَّحَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ بِأَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا وَغَيَّرُوا فِي كُتُبِهِمْ، كَقَوْلِهِ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [٥ ١٣]، وَقَوْلِهِ: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [٦ ٩١]، وَقَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [٢ ٧٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٣ ٧٨]،
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَا يُرْوَى عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ لَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا يَجِبُ تَصْدِيقُهُ، وَهِيَ مَا إِذَا دَلَّ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ عَلَى صِدْقِهِ، وَفِي وَاحِدَةٍ يَجِبُ تَكْذِيبُهُ، وَهِيَ مَا إِذَا دَلَّ الْقُرْآنُ أَوِ السُّنَّةُ أَيْضًا عَلَى كَذِبِهِ، وَفِي الثَّالِثَةِ لَا يَجُوزُ التَّكْذِيبُ وَلَا التَّصْدِيقُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا: وَهِيَ مَا إِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ، وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ أَنَّ الْقِصَصَ الْمُخَالِفَةَ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تُوَجَّهُ بِأَيْدِي بَعْضِهِمْ، زَاعِمِينَ أَنَّهَا فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ يَجِبُ تَكْذِيبُهُمْ فِيهَا لِمُخَالَفَتِهَا نُصُوصَ الْوَحْيِ الصَّحِيحِ، الَّتِي لَمْ تُحَرَّفْ وَلَمْ تُبَدَّلْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: جَعَلَهُ دَكَّاءَ، قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو «دَكًّا» بِالتَّنْوِينِ مَصْدَرُ دَكَّهُ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ جَعَلَهُ دَكَّاءَ، بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ الْمَمْدُودَةِ تَأْنِيثُ الْأَدَكِّ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا.
قَوْلُهُ: وَعَرَضْنَا أَيْ: أَبْرَزْنَا وَأَظْهَرْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ، أَيْ: يَوْمَ إِذْ جَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [١٨ ٩٩]، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ «لِلْكَافِرِينَ» بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: عَرَضْنَا جَهَنَّمَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَهَذَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; لِأَنَّ الْعَرْضَ فِي الْقُرْآنِ يَتَعَدَّى بِعَلَى لَا بِاللَّامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ [٤٦ ٢٠]، وَقَوْلِهِ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [٤٠ ٤٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا [١٨ ٤٨]،
هَتَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ | فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ |
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّ النَّارَ تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ وَيُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا تُقَرَّبُ إِلَيْهِمْ وَيُقَرَّبُونَ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي عَرْضِهَا عَلَيْهِمْ هُنَا: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا [١٨ ١٠٠]، وَقَالَ فِي عَرْضِهِمْ عَلَيْهَا: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ الْآيَةَ [٤٦ ٣٤]، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ عَرْضِهِمْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا [١٨ ٤٨]، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ هُنَا: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ الْآيَةَ [١٨ ١٠٠] فِيهِ قَلْبٌ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَعَرَضْنَا الْكَافِرِينَ لِجَهَنَّمَ أَيْ: عَلَيْهَا بِعِيدٌ كَمَا أَوْضَحَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا.
التَّحْقِيقُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ، أَنَّهُ فِي مَحَلِّ خَفْصٍ نَعْتًا لِلْكَافِرِينَ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تُعْرَضُ لَهُمْ جَهَنَّمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِهِ تَعَالَى، وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا مِنْ صِفَاتِهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي تَغْطِيَةِ أَعْيُنِهِمْ: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ الْآيَةَ [٢ ٧]، وَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً الْآيَةَ [٤٥ ٢٣]، وَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [١٣ ١٩]، وَقَوْلِهِ: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ الْآيَةَ [٣٥ ١٩]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَالَ فِي عَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِمُ السَّمْعَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [٤٧ ٢٣]، وَقَالَ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [١٨ ٥٧]، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى كَوْنِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [١١ ٢٠]، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَيْضًا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [١٨ ٥٧]،
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا.
الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ هُوَ: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ، وَلَا أُعَاقِبُهُمُ الْعِقَابَ الشَّدِيدَ! كَلَّا! بَلْ سَأُعَاقِبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْعِقَابَ الشَّدِيدَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا [١٨ ١٠٢]، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَقْدِيرُهُ: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُمْ، كَلَّا لَا يَنْفَعُهُمْ بَلْ يَضُرُّهُمْ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [٣٩ ٣]، وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [١٠ ١٨]، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بُطْلَانَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [١٠ ١٨]، وَمَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ هُنَا مِنْ ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَلَا يُعَاقِبُهُمْ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُمْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ، كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» : اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [٧ ٣]، فَقَدْ نَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ دُونِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُ يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَلِيَّ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِأَحَدٍ، وَإِنَّمَا الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ الْآيَةَ [١٨ ٢٦]، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ [١١ ١١٣]، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ الْآيَةَ [٤٢ ٤٤]، وَقَوْلِهِ: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ الْآيَةَ [٦ ٥١]، وَقَوْلِهِ: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَسَيَأْتِي لَهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى زِيَادَةُ إِيضَاحٍ وَأَمْثِلَةٍ.
وَالْأَظْهَرُ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ: «عِبَادِي» أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ نَحْوُ الْمَلَائِكَةِ
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «نُزُلًا» بِمَعْنَى الْمَنْزِلِ، أَيْ: أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ مَنْزِلًا، أَيْ: مَكَانَ نُزُولٍ، لَا مَنْزِلَ لَهُمْ غَيْرُهَا، وَأَضْعَفُ الْأَوْجُهِ مَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ «النُّزُلَ» جَمْعُ نَازِلٍ، كَجَمْعِ الشَّارِفِ عَلَى شُرُفٍ بِضَمَّتَيْنِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي إِعْرَابِ «نُزُلًا» أَنَّهُ حَالٌ مُؤَوَّلَةٌ بِمَعْنَى الْمُشْتَقِّ، أَوْ مَفْعُولٌ لِـ «أَعْتَدْنَا» بِتَضْمِينِهِ مَعْنَى صَيَّرْنَا أَوْ جَعَلْنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا.
الْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ، أَيْ: نُخْبِرُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، أَيْ: بِالَّذِينَ هُمْ أَخْسَرُ النَّاسِ أَعْمَالًا وَأَضْيَعُهَا، فَالْأَخْسَرُ صِيَغَةُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْخُسْرَانِ وَأَصْلُهُ نَقْصُ مَالِ التَّاجِرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ غَبْنُهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ فِي حُظُوظِهِمْ مِمَّا عِنْدَ اللَّهِ لَوْ أَطَاعُوهُ، وَقَوْلُهُ: أَعْمَالًا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ:
فَإِنْ قِيلَ: نَبِّئْنَا بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا مَنْ هُمْ؟
كَانَ الْجَوَابُ: هُمُ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ «الَّذِينَ» مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ [١٨ ١٠٤]، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الذَّمِّ، وَجَرُّهُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْأَخْسَرِينَ، أَوْ نَعْتٌ لَهُ، وَقَوْلُهُ: ضَلَّ سَعْيُهُمْ، أَيْ: بَطَلَ عَمَلُهُمْ وَحَبِطَ، فَصَارَ كَالْهَبَاءِ وَكَالسَّرَابِ وَكَالرَّمَادِ! كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [٢٥ ٢٣]،
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُفْرَهُمْ صَوَابٌ وَحَقٌّ، وَأَنَّ فِيهِ رِضَا رَبِّهِمْ، كَمَا قَالَ عَنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [٣٩ ٣]، وَقَالَ عَنْهُمْ: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [١٠ ١٨]، وَقَالَ عَنِ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ عَلَى غَيْرِ شَرْعٍ صَحِيحٍ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً الْآيَةَ [٨٨ ٢ - ٤]، عَلَى الْقَوْلِ فِيهَا بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْكُفَّارِ: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [٧ ٣٠]، وَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [٤٣ ٣٧]، وَالدَّلِيلُ عَلَى نُزُولِهَا فِي الْكُفَّارِ تَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ يَلِيهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ الْآيَةَ [١٨ ١٠٥]، فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الْكُفَّارُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الرُّهْبَانُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْكَافِرُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ ذَلِكَ تَشْمَلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَهُ ابْنُهُ مُصْعَبٌ عَنِ «الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا» فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ فَقَالَ لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَفَرُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا لَا طَعَامَ فِيهَا، وَلَا شَرَابَ، وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ، وَكَانَ سَعِيدٌ يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ، اهـ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ الْمَعْرُوفُونَ بِالْحَرُورِيِّينَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَكُونُ فِيهِمْ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ بِقَدْرِ مَا فَعَلُوا ; لِأَنَّهُمْ يَرْتَكِبُونَ أُمُورًا شَنِيعَةً مِنَ الضَّلَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا هِيَ مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَقَدْ ضَلَّ سَعْيُهُمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَإِنْ كَانُوا فِي ذَلِكَ أَقَلَّ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُجَاهِرِينَ ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ كَمَا قَدْ قَدَّمَنَا إِيضَاحَهُ وَأَدِلَّتَهُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ [١٨ ١٠٤]، أَيْ: بَطَلَ وَاضْمَحَلَّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الضَّلَالَ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ثَلَاثَةَ إِطْلَاقَاتٍ:
الْأَوَّلُ: الضَّلَالُ بِمَعْنَى الذَّهَابِ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَى طَرِيقِ الْبَاطِلِ، كَالذَّهَابِ عَنْ
الثَّانِي: الضَّلَالُ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ وَالْغَيْبَةِ وَالِاضْمِحْلَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: ضَلَّ السَّمْنُ فِي الطَّعَامِ إِذَا اسْتَهْلَكَ فِيهِ وَغَابَ فِيهِ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [٦ ٢٤]، أَيْ: غَابَ وَاضْمَحَلَّ، وَقَوْلُهُ هُنَا: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ [١٨ ١٠٤]، أَيْ: بَطَلَ وَاضْمَحَلَّ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرْكَ الدِّيَارُ | عَنِ الْحَيِّ الْمُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا |
فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ | وَغُودِرَ بِالْجَوَلَانِ حَزْمٍ وَنَائِلِ |
الثَّالِثُ: الضَّلَالُ بِمَعْنَى الذَّهَابِ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ الْمُطَابِقَةِ لِلْوَاقِعِ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [٩٣ ٧]، أَيْ: ذَاهِبًا عَمَّا تَعْلَمُهُ الْآنَ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْوَحْيِ فَهَدَاكَ إِلَى تِلْكَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ بِالْوَحْيِ، وَحَدَّدَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ: قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ [١٢ ٩٥]، أَيْ: ذَهَابُكَ عَنِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ أَمْرِ يُوسُفَ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَطْمَعُ فِي رُجُوعِهِ إِلَيْكَ ; وَذَلِكَ لَا طَمَعَ فِيهِ عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا [٢ ٢٨٢]، أَيْ: تَذْهَبُ عَنْ حَقِيقَةِ عِلْمِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنِسْيَانٍ أَوْ نَحْوِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [٢ ٢٨٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [٢٠ ٥٢]، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا | بَدَلًا أُرَاهَا فِي الضَّلَالِ تَهِيمُ |
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَهُمْ يَحْسَبُونَ، أَيْ: يَظُنُّونَ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ السَّبْعَةِ بِكَسْرِ السِّينِ، وَبَعْضُهُمْ بِفَتْحِهَا كَمَا قَدَّمْنَا مِرَارًا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَمَفْعُولَا «حَسِبَ» هُمَا الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ اللَّذَانِ عَمِلَتْ فِيهِمَا «أَنَّ» وَالْأَصْلُ وَيَحْسَبُونَ أَنْفُسَهُمْ مُحْسِنِينَ صُنْعَهُمْ، وَقَوْلُهُ «صُنْعًا» أَيْ: عَمَلًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ «يَحْسَبُونَ، وَيُحْسِنُونَ» الْجِنَاسُ الْمُسَمَّى عِنْدَ أَهْلِ الْبَدِيعِ «تَجْنِيسَ التَّصْحِيفِ» وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّقْطُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ، كَقَوْلِ الْبُحْتُرِيِّ:
وَلَمْ يَكُنِ الْمُغْتَرُّ بِاللَّهِ إِذْ سَرَى | لِيُعْجِزَ وَالْمُعْتَزُّ بِاللَّهِ طَالِبُهُ |
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ الْآيَةَ [١٨ ١٠٥]، نَصٌّ فِي أَنَّ الْكُفْرَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ يُحْبِطُ الْعَمَلَ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْعَنْكَبُوتِ» وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [٢٩ ٢٣]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَسَيَأْتِي بَعْضُ أَمْثِلَةٍ لِذَلِكَ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [١٨ ١٠٥]، فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ حَسَنَاتٌ تُوزَنُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى فِي مُقَابَلَةِ سَيِّئَاتِهِمْ، بَلْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا السَّيِّئَاتُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ، [٢٣ ١٠٣ - ١٠٤]، وَقَالَ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ [٧ ٨ - ٩]، وَقَالَ: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا نَارٌ حَامِيَةٌ [١٠١ ٨ - ١٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى
وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ يَدْخُلُ فِيهِ الْكَافِرُ السَّمِينُ الْعَظِيمُ الْبَدَنِ، لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ اقْرَءُوا فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا» وَعَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ مِثْلُهُ اهـ، مِنَ الْبُخَارِيِّ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْكَافِرِ الْعَظِيمِ السَّمِينِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وَزْنِ الْأَشْخَاصِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ بَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ ذَمُّ السِّمَنِ لِمَنْ تَكَلَّفَهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكَلُّفِ الْمَطَاعِمِ وَالِاشْتِغَالِ بِهَا عَنِ الْمَكَارِمِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ، الْمُبْتَغَى بِهِ التَّرَفُّهُ وَالسِّمَنُ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْحَبْرُ السَّمِينُ» وَمِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ، فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ إِنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» وَهَذَا ذَمٌّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ السِّمَنَ الْمُكْتَسَبَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالشَّرَهِ وَالدَّعَةِ وَالرَّاحَةِ وَالْأَمْنِ، وَالِاسْتِرْسَالِ مَعَ النَّفْسِ عَلَى شَهَوَاتِهَا، فَهُوَ عَبْدُ نَفْسِهِ لَا عَبْدُ رَبِّهِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ فِي الْحَرَامِ، وَكُلُّ لَحْمٍ تَوَلَّدَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [٤٧ ١٢]، فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ، وَيَتَنَعَّمُ تَنَعُّمَهُمْ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ وَأَزْمَانِهِ، فَأَيْنَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَالْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ كَثُرَ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ كَثُرَ نَهَمُهُ وَحِرْصُهُ، وَزَادَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا
، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَالْإِيمَانَ سَبَبٌ فِي نَيْلِ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ، وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِكَوْنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ سَبَبًا فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [١٨ ٢ - ٣]، وَقَوْلِهِ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٧ ٤٣]، أَيْ: بِسَبَبِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٤٣ ٧٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ الْآيَةَ [١٩ ٦٠ - ٦١]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
تَنْبِيهٌ
فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الِآيَاتُ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ سَبَبٌ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ»، يَرِدُ بِسَبَبِهِ إِشْكَالٌ عَلَى ذَلِكَ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا إِذَا تَقَبَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَقَبُّلُهُ لَهُ فَضْلٌ مِنْهُ، فَالْفِعْلُ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ هُوَ الَّذِي تَقَبَّلَهُ اللَّهُ بِفَضْلِهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَوْجُهٌ أُخَرُ، هَذَا أَظْهَرُهَا عِنْدِي، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنْ «النُّزُلَ»، هُوَ مَا يُهَيَّأُ مِنَ الْإِكْرَامِ لِلضَّيْفِ أَوِ الْقَادِمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا.
أَيْ: خَالِدِينَ فِي جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، أَيْ: تَحَوُّلًا إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ ; لِأَنَّهَا لَا يُوجَدُ مَنْزِلٌ أَحْسَنُ مِنْهَا يُرْغَبُ فِي التَّحَوُّلِ إِلَيْهِ عَنْهَا، بَلْ هُمْ خَالِدُونَ فِيهَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا.
أَمَرَ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَقُولَ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي [١٨ ١٠٩]، أَيْ: لَوْ كَانَ مَاءُ الْبَحْرِ مِدَادًا لِلْأَقْلَامِ الَّتِي تَكْتُبُ بِهَا كَلِمَاتُ اللَّهِ «لَنَفِدَ الْبَحْرُ» أَيْ: فَرَغَ وَانْتَهَى قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، أَيْ: بِبَحْرٍ آخَرَ مِثْلِهِ مَدَدًا، أَيْ: زِيَادَةً عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ «مَدَدًا» مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَيَصِحُّ إِعْرَابُهُ حَالًا، وَقَدْ زَادَ هَذَا الْمَعْنَى إِيضَاحًا فِي سُورَةِ «لُقْمَانَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [٣١ ٢٧]، وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِهِ تَعَالَى لَا نَفَادَ لَهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
، أَمَرَ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [١٨ ١١٠]، أَيْ: لَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا غَيْرُ بِشَرٍ، بَلْ أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَيْ: بَشَرٌ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَنِي وَخَصَّنِي بِمَا أَوْحَى إِلَيَّ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَشَرْعِهِ، وَقَوْلُهُ هُنَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [١٨ ١١٠]، أَيْ: فَوَحِّدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ «فُصِّلَتْ» : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [٤١ ٧ - ٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [١٧ ٩٣]، وَقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ الْآيَةَ [٦ ٥٠]،
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، فَمَنْ زَعَمَ مِنْكُمْ أَنِّي كَاذِبٌ فَلْيَأْتِ بِمِثْلِ مَا جِئْتُ بِهِ، فَإِنَّنِي لَا أَعْلَمَ الْغَيْبَ فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ عَمَّا سَأَلْتُمْ عَنْهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ كَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَخَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَهَذَا لَهُ اتِّجَاهٌ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا.
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ [١٨ ١١٠]، يَشْمَلُ كَوْنَهُ يَأْمُلُ ثَوَابَهُ، وَرُؤْيَةَ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَوْنَهُ يَخْشَى عِقَابَهُ، أَيْ: فَمَنْ كَانَ رَاجِيًا مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ وَالسَّلَامَةَ مِنَ الشَّرِّ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَغَيْرِ الصَّالِحِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَغَيْرِهَا، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَيْ: لَا يُرَائِي النَّاسَ فِي عَمَلِهِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ لِأَجْلِ رِيَاءِ النَّاسِ مِنْ نَوْعِ الشِّرْكِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الرِّيَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ، وَقَدْ سَاقَ طَرَفَهَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [١٨ ١١٠]، أَعَمُّ مِنَ الرِّيَاءِ وَغَيْرِهِ، أَيْ: لَا يَعْبُدُ رَبَّهُ رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَلَا يَصْرِفُ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ خَالِقِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الْآيَةَ [٤ ٤٨]، فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَيَقُولُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [٢٢ ٣١]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِي يُشْرِكُ أَحَدًا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَلَا يَعْمَلُ صَالِحًا أَنَّهُ لَا يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ، وَالَّذِي لَا يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ لَا خَيْرَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَهَذَا الْمَفْهُومُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا مَضَى قَرِيبًا:
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ الرَّجَاءَ كَقَوْلِهِ هُنَا يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ [١٨ ١١٠]، يُسْتَعْمَلُ فِي رَجَاءِ الْخَيْرِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَوْفِ أَيْضًا، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي رَجَاءِ الْخَيْرِ مَشْهُورٌ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الرَّجَاءِ فِي الْخَوْفِ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يُرْجَ لَسْعُهَا | وَحَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَاسِلُ |
فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجَاءَ يُطْلَقُ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، فَمَنْ كَانَ يَرْجُو مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْخَيْرِ فَهُوَ يَخَافُ مَا لَدَيْهِ مِنَ الشَّرِّ كَالْعَكْسِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا الْآيَةَ [١٨ ١١٠]، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جُنْدُبِ بْنِ زُهَيْرٍ الْأَزْدِيِّ الْغَامِدِيِّ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّنِي أَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى وَأُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَلَا يَقْبَلُ مَا شُورِكَ فِيهِ» فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ: أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَضَعْفُ هَذَا السَّنَدِ مَشْهُورٌ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَعَلَهُ لِلَّهِ وَلَوْ سَرَّهُ اطِّلَاعُ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ سُرُورُهُ بِذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَقْتَدُوا بِهِ فِيهِ، وَمَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْإِخْلَاصِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَقِفُ مَوَاقِفَ أَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنَّ يُرَى مَوْطِنِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْصُولًا عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقَاتِلُ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُرَى مَكَانُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مِنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ جُنْدُبُ بْنُ زُهَيْرٍ إِذَا صَلَّى أَوْ صَامَ أَوْ تَصَدَّقَ فَذُكِرَ بِخَيْرٍ ارْتَاحَ لَهُ، فَزَادَ فِي ذَلِكَ لِمَقَالَةِ النَّاسِ فَلَامَهُ اللَّهُ، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ فِي الزُّهْدِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ وَأَلْتَمِسُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لِي خَيْرٌ، فَنَزَلَتْ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ اهـ، مِنَ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ» وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.