تفسير سورة البقرة

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

التفسير: ابتدأت السورة الكريمة بذكر أوصاف المتقين، وابتداء السورة بالحروف العظيمة ﴿الم﴾ وتصديرها بهذه الحروف الهجائية يجذب أنظار المعرضين عن هذا القرآن، إِذ يطرق أسماعهم لأول وهلة ألفاظ غير مألوفة في تخاطبهم، فينتبهوا إِلى ما يُلقى إليهم من آياتٍ بينات، وفي هذه الحروف وأمثالها تنبيهٌ على «إعجاز القرآن» فإِن هذا الكتاب منظومٌ من عين ما ينظمون منه كلامهم، فإِذا عجزوا عن الإِتيان بمثله، فذلك أعظم برهان على إِعجاز القرآن. يقول العلامة ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور بياناً لإِعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وهو قول جمع من المحققين، وقد قرره الزمخشري في تفسيره الكشاف ونصره أتم نصر، وإِليه ذهب الإِمام «ابن تيمية» ثم قال: ولهذا كلُّ سورة افتتحت بالحروف، فلا بدَّ أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيانُ إعجازه وعظمته مثل ﴿الم ذَلِكَ الكتاب﴾ ﴿المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١ - ٢] ﴿الم تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم﴾ [لقمان: ١ - ٢] {حم والكتاب المبين إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ
25
إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان: ١ - ٣] وغير ذلك من الآيات الدالة على إعجاز القرآن. ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ هذا القرآن المنزل عليك يا محمد هو الكتابُ الذي لا يدانيه كتاب ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ أي لا شك في أنه من عند الله لمن تفكر وتدبر، أو ألقى السمع وهو شهيد ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أي هادٍ للمؤمنين المتقين، الذين يتقون سخط الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويدفعون عذابه بطاعته، قال ابن عباس: المتقون هم الذين يتقون الشرك، ويعملون بطاعة الله، وقال الحسن البصري: اتقوا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوْا ما افتُرض عليهم.. ثم بيَّن تعالى صفات هؤلاء المتقين فقال ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب﴾ أي يصدقون بما غاب عنهم ولم تدركه حواسهم من البعث، والجنة، والنار، والصراط، والحساب، وغير ذلك من كل ما أخبر عنه القرآن أو النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿وَيُقِيمُونَ الصلاوة﴾ أي يؤدونها على الوجه الأكمل بشروطها وأركانها، وخشوعها وآدابها قال ابن عباس: إقامتُها: إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ أي ومن الذي أعطيناهم من الأموال ينفقون ويتصدقون في وجوه البر والإِحسان، والآية عامة تشمل الزكاة، والصدقة، وسائر النفقات، وهذا اختيار ابن جرير، وروي عن ابن عباس أن المراد بها زكاة الأموال، قال ابن كثير: كثيراً ما يقرن تعالى بين الصلاة والإِنفاق من الأموال، لأن الصلاة حقُّ الله وهي مشتملة على توحيده وتمجيده والثناء عليه، والإِنْفاقُ هو الإِحسان إلى المخلوقين وهو حق العبد، فكلٌ من النفقات الواجبة، والزكاة المفروضة داخل في الآية الكريمة ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ أي يصدقونه بكل ما جئت به عن الله تعالى ﴿وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ أي وبما جاءت به الرسل من قبلك، لا يفرّقون بين كتب الله ولا بين رسله ﴿وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ أي ويعتقدون اعتقاداً جازماً لا يلابسه شك أو ارتياب بالدار الآخرة التي تتلو الدنيا، بما فيها من بعثٍ وجزاءٍ، وجنةٍ، ونار، وحساب، وميزان، وإِنما سميت الدار الآخرة لأنها بعد الدنيا ﴿أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ أي أولئك المتصفون بما تقدم من الصفات الجليلة، على نور وبيان وبصيرة من الله ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي وأولئك هم الفائزون بالدرجات العالية في جنات النعيم.
البَلاَغة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - المجاز العقلي ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أسند الهداية للقرآن وهو من الإِسناد للسبب، والهادي في الحقيقة هو الله ربُّ العالمين ففيه مجاز عقلي.
٢ - الإِشارة بالبعيد عن القريب ﴿ذَلِكَ الكتاب﴾ للإِيذان بعلو شأنه، وبعد مرتبته في الكمال، فنُزِّل بُعْد المرتبة منزلة البعد الحسي.
٣ - تكرير الإِشارة ﴿أولئك على هُدًى﴾ ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ للعناية بشأن المتقين، وجيء بالضمير ﴿هُمُ﴾ ليفيد الحصر كأنه قال: هم المفلحون لا غيرهم.
٤ - التيئيس من إيمان الكفار ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ فالجملة سيقت للتنبيه على غلوهم في الكفر والطغيان، وعدم استعدادهم للإِيمان، ففيها تيئيس وإِقناط من إِيمانهم.
26
٥ - الاستعارة التصريحية اللطيفة ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ﴾ شبَّه قلوبهم لتأبّيها عن الحق، واسماعهم وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية، بالوعاء المختوم عليه، المسدود منافذه، المغشَّى بغشاء يمنع أن يصله ما يصلحه، واستعار لفظ الختم والغشاوة لذلك بطريق الاستعارة التصريحية.
27
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى صفاتِ المؤمنين في الآيات السابقة، أعقبها بذكر صفات الكافرين، ليظهر الفارق الواضح بين الصنفين، على طريقة القرآن الكريم في المقارنة بين الأبرار والفجار، والتمييز بينَ أهل السعادة وأهل الشقاوة «وبضدها تتميز الأشياء».
التفسِير: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ أي إن الذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي يتساوى عندهم ﴿أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ أي سواءٌ أَحذرتهم يا محمد بن عذاب الله وخوفتهم منه أم لم تحذرهم ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي لا يصدقون بما جئتهم به، فلا تطمع في إيمانهم، ولا تذهب نفسك تذهب نفسك عليهم حسرات، وفي هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن تكذيب قوله له... ثم بيَّن تعالى العلة في سبب عدم الإيمان فقال ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ﴾ أي طبع على قلوبهم فلا يدخل فيها نور، ولا يشرق فيها إيمان قال المفسرون: الختمُ التغطيةُ والطبعُ، وذلك أن القلوب إذا كثرت عليها الذنوب طمست نور البصيرة فيها، فلا يكون للإِيمان إِليها مسلكٌ، ولا للكفر عنها مخلص كما قال تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥] ﴿وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ أي وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم غطاء، فلا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون، لأن أسماعهم وأبصارهم كأنها مغطَّاة بحجب كثيفة، لذلك يرون الحقَّ فلا يتبعونه، ويسمعونه فلا يعونه قال أبو حيان: شبَّه تعالى قلوبهم لتأبيها عن الحقِّ، وأسماعهم لإِضرابها عن سماع داعي الفلاح، وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية، بالوعاء المختوم عليه، المسدود منافذه، المغطَّى بغشاء يمنع أن يصله ما يصلحه، وذلك لأنها كانت - مع صحتها وقوة إدراكها - ممنوعة عن قبول الخير وسماعه، وتلمح نوره، وهذا بطريق الاستعارة ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ أي ولهم في الآخِرة عذاب شديدٌ لا ينقطع، بسبب كفرهم وإجرامهم وتكذيبهم بآيات الله.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى في أول السورة صفات المؤمنين، وأعقبها بذكر صفات الكافرين، ذكر هنا «المنافقين» وهم الصنف الثالث، الذين يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر، وأطنب بذكرهم في ثلاث عشرة آية لينبه إِلى عظيم خطرهم، وكبير ضررهم، ثم عقَّب ذلك بضرب مثلين زيادة في الكشف والبيان، وتوضيحاً لما تنطوي عليه نفوسهم من ظلمة الضلال والنفاق، وما يئول إليه حالهم من الهلاك والدمار.
اللغَة: ﴿يُخَادِعُونَ﴾ الخِداع: المكر والاحتيال وإِظهار خلاف الباطن، وأصله الإِخفاء ومنه سُمي الدهرُ خادعاً لما يخفي من غوائله، وسُمي المِخْدع مِخْدعاً لتستر أصحاب المنزل فيه ﴿مَّرَضٌ﴾ المرض: السُّقْم وهو ضد الصحة وقد يكون حسياً كمرض الجسم، أو معنوياً كمرض النفاق ومرض الحسد والرياء، قال ابن فارس: المرضُ كلُّ ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علةٍ، أو نفاق: أو تقصير في أمر ﴿تُفْسِدُواْ﴾ الفساد: العدول عن الاستقامة وهو ضد الصلاح ﴿السفهآء﴾ جمع سفيه وهو الجاهل، الضعيف الرأي، القليل المعرفة، بمواضع المنافع والمضار، وأصل السَّفه، الخِفَّة، والسفيه: الخيف العقل قال علماء اللغة: السَّفه خفةٌ وسخافة رأى يقتضيان نقصان العقل، والحِلْمُ يقابله ﴿طُغْيَانِهِمْ﴾ الطغيان: مجاوزة الحد في كل شيء ومنه ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء﴾ [الحاقة: ١١] أي ارتفع وعلا وجاوز حده، والطاغية: الجبار العنيد ﴿يَعْمَهُونَ﴾ العَمَة: التحير والتردُّد في الشيء يقال: عَمِه يَعْمَه فهو عَمِه قال رؤبة: «أعمى الهدى بالحائرين العُمَّه» قال الفخر الرازي: العَمَهُ مثل العمى، إِلا أَن العَمَى عام في البصر والرأي، والعَمَه في الرأي خاصة، وهو التردد والتحير لا يدري أين يتوجه ﴿اشتروا﴾ حقيقة الاشتراء: الاستبدال، وأصله بذل الثمن لتحصيل الشيء المطلوب، والعرب تقول لمن استبدل شيئاً بشيء اشتراه قال الشاعر:
28
﴿صُمٌّ﴾ جمع أصم وهو الذي لا يسمع ﴿بُكْمٌ﴾ جمع أبكم وهو الأخرس الذي لا ينطق ﴿عُمْيٌ﴾ جمع أعمى وهو الذي فقد بصره ﴿صَيِّبٍ﴾ الصَيّبُ: المطر الغزير مأخوذ من الصوَّبْ وهو النزول بشدة قال الشاعر «سقتكِ روايا المُزْن حيثُ تصوب» ﴿الصواعق﴾ جمع صاعقة وهي نارٌ محرقة لا تمر بشيء إِلا أتت عليه، مشتقة من الصَّعْق وهو شدة الصوت ﴿السمآء﴾ السماء في اللغة: كلُّ علاكَ فأظلَّك، ومنه قيل لسقف البيت سماء، ويسمى المطر سماءً لنزوله من السماء قال الشاعر:
فإِن تزعميني كنتُ أجهلُ فيكم فإِني اشتريتُ الحلمَ بعدِك بالجهل
إِذا سقط السماء بأرضِ قومٍ رعيناه وإِن كانوا غِضابا
﴿يَخْطَفُ﴾ الخَطْفُ: الأخذ بسرعة ومنه ﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة﴾ [الصافات: ١٠] وسُمِي الطير خَطّافاً لسرعته، والخاطف الذي يأخذ الشيء بسرعة شديدة.
سَبَبُ النّزول: قال ابن عباس: نزلت هذه الآيات في منافقي أهل الكتاب منهم «عبد الله بن أُبي ابن سلول، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس» كانوا إِذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق ويقولون: إنّا لنجد في كتابنا نعته وصفته.
التفسير: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله﴾ أي ومن الناس فريق يقولون بألسنتهم صدَّقنا بالله وبما أنزل على رسوله من الآيات البينات ﴿وباليوم الآخر﴾ أي وصدَّقنا بالبعث والنشور ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي وما هم على الحقيقة بمصدقين ولا مؤمنين، لأنهم يقولون ذلك قولاً دون اعتقاد، وكلاماً دون تصديق قال البيضاوي: هذا هو القسم الثالث المذبذب بين القسمين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله، لأنّهم موَّهوا الكفر وخلطوا به خداعاً واستهزاء، ولذلك أطال في بيان خبثهم وجهلهم، واستهزأ بهم وتهكَّم بأفعالهم، وسجَّل عليهم الضلال والطغيان، وضرب لهم الأمثال ﴿يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا﴾ أي يعملون عمل المخادِع بإِظهار ما أظهروه من الإِيمان مع إِصرارهم على الكفر، يعتقدون - بجهلهم - أنهم يدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، وما عملوا أن الله لا يُخدع لأنه لا تخفى عليه خافية قال ابن كثير: النفاق هو إظهار الخير، وإِسرارُ الشر وهو أنواع: اعتقادي وهو الذي يخلّد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب والأوزار، لأن المنافق يخالف قولُه فعلَه، وسرُّه علانيته، وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن بها نفاق بل كان خلافه ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم﴾ أي وما يخدعون في الحقيقة إِلا أنفسهم لأن وبال فعلهم راجع عليهم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي ولا يُحسّون بذلك ولا يفطنون إِليه، لتمادي غفلتهم، وتكامل حماقتهم ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ أي في قلوبهم شك ونفاق فزادهم الله رجساً فوق رجسهم، وضلالاً فوق ضلالهم، والجملةُ دعائية قال ابن أسلم: هذا مرضٌ في الدين، وليس مرضاً في الجسد، وهو الشك الذي دخلهم في الإِسلام فزادهم الله رجساً وشكاً ﴿وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ أي ولهم عذابٌ مؤلمٌ بسبب كذبهم في دعوى الإيمان، واستهزائهم بآيات الرحمن.. ثم شرع تعالى في بيان قبائحهم، وأحوالهم الشنيعة فقال {وَإِذَا قِيلَ
29
لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} أي وإِذا قال لهم بعض المؤمنين: لا تسعوا في الأرض بالإِفساد بإِثارة الفتن، والكفر والصَدِّ عن سبيل الله قال ابن مسعود: الفسادُ في الأرض هو الكفرُ، والعملُ بالمعصية، فمن عصى الله فقد أفسد في الأرض ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ أي ليس شأننا الإِفسادُ أبداً، وإنما نحن أناسٌ مصلحون، نسعى للخير والصلاح فلا يصح مخاطبتنا بذلك قال البيضاوي: تصوُّروا الفساد بصورة الصلاح، لما في قلوبهم من المرض فكانوا كمن قال الله فيهم ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً﴾ [فاطر: ٨] ولذلك ردَّ الله عليهم أبلغ ردٍّ بتصدير الجملة بحرفيْ التأكيد ﴿أَلا﴾ المنبهة و ﴿إنَّ﴾ المقررة، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل، والاستدراك بعدم الشعور فقال ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ أي أَلاَ فانتبهوا أيها الناس، إِنهم هم المفسدون حقاً لا غيرهم، ولكنْ لا يفطنون ولا يحُسون، لانطماسِ نور الإِيمان في قلوبهم ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس﴾ أي وإِذا قيل للمنافقين: آمنوا إِيماناً صادقاً لا يشوبه نفاقٌ ولا رياء، كما آمن أصحاب النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وأخلصوا في إيمانكم وطاعتكم لله ﴿قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء﴾ الهمزة للإِنكار مع السخرية والاستهزاء أي قالوا أنؤمن كإِيمان هؤلاء الجهلة أمثال «صهيب، وعمار، وبلال» ناقصي العقل والتفكير؟! قال البيضاوي: وإِنما سفَّهوهم لاعتقادهم فسادَ رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإِن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب وبلال ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ أي ألا إِنهم هم السفهاء حقاً، لأن من ركب متن الباطل كان سفيهاً بلا امتراء، ولكن لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أبلغ في العمى، والبعد عن الهدى.
أكَّد وَنبَّه وحصر السفاهة فيهم، ثم قال تعالى منبهاً إلى مصانعتهم ونفاقهم ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا﴾ أي وإِذا رأوا المؤمنين وصادفوهم أظهروا لهم الإِيمان والموالاة نفاقاً ومصانعة ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ﴾ أي وإِذا انفردوا ورجعوا إِلى رؤسائهم وكبرائهم، أهلِ الضلالِ والنفاق ﴿قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ أي قالوا لهم نحن على دينكم وعلى مثل ما أنتم عليه من الاعتقاد، وإِنما نستهزئ بالقوم ونسخر منهم بإِظهار الإِيمان، قال تعالى رداً عليهم ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ أي الله يجازيهم على استهزائهم بالإِمهال ثم بالنكال قال ابن عباس: يسخر بهم للنقمة منهم ويُملي لهم كقوله ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٣] قال ابن كثير: هذا إِخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف، وإِليه وجهوا كل ما في القرآن من نظائر مثل ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] ومثل ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤] فالأول ظلم والثاني عدل ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي ويزيدهم - بطريق الإِمهال والترك - في ضلالهم وكفرهم يتخبطون ويتردّدون حيارى، لا يجدون إِلى ويزيدهم - منه سبيلاً لأن الله طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ أي استبدلوا الكفر بالإيمان، وأخذوا الضلالة ودفعوا ثمنها
30
الهدى ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ﴾ أي ما ربحت صفقتُهم في هذه المعارضةِ والبيع ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ أي وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك، لأنهم خسروا سعادة الدارين، ثم ضرب تعالى مثلين وضَّح فيهما خسارتهم الفادحة فقال ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً﴾ أي مثالهم في نفاقهم وحالهم العجيبة فيه كحال شخص أوقد ناراً ليستدفئ بها ويستضيء، فما اتقدت حتى انطفأت، وتركته ظلام دامس وخوفٍ شديد ﴿فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ أي فلما أنارتْ المكان الذي حوله فأبصر وأمِن، واستأنس بتلك النار المشعة المضيئة ذهب الله بنورهم أي أطفأهم الله بالكلية، فتلاشت النار وعُدم النور ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ﴾ أي وأبقارهم في ظلماتٍ كثيفة وخوف شديد، يتخبطون فلا يهتدون قال ابن كثير: ضرب الله للمنافقين هذا المثل، فشبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إِلى العمى، بمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها، وتأنس بها وأبصر ما عن يمينه وشماله.
. فبينا هو كذلك إِذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغيَّ على الرشد، وفي هذا المثل دلالةً على أنهم آمنوا ثم كفروا، ولذلك ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات الشك والكفر والنفاق لا يهتدون إِلى سبيل خير، ولا يعرفون طريق النجاة ﴿صُمٌّ﴾ أي هم كالصم لا يسمعون خيراً ﴿بُكْمٌ﴾ أي كالخرص لا يتكلمون بما ينفعهم ﴿عُمْيٌ﴾ أي كالعمي لا يبصرون الهدى ولا يتبعون سبيله ﴿فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ أي لا يرجعون عما هم فيه من الغي والضلال، ثم ثنَّى تعالى بتمثيل آخر لهم زيادة في الكشف والإِيضاح فقال ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء﴾ أي أو مثلهم في حيرتهم وترددهم كمثل قومٍ أصابهم مطر شديد، أظلمت له الأرض، وأرعدت له السماء، مصحوبٍ بالبرق والرعد والصواعق ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ أي في ذلك السحاب ظلماتٌ داجية، ورعدٌ قاصف، وبرقٌ خاطف ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق﴾ أي يضعون رءوس أصابعهم في آذانهم لدفع خطر الصواعق، وذلك من فرط الدهشة والفزع كأنهم يظنون أن ذلك ينجيهم ﴿حَذَرَ الموت﴾ أي خشية الموت من تلك الصواعق المدمرة ﴿والله مُحِيطٌ بالكافرين﴾ جملة اعتراضية أي والله تعالى محيط بهم بقدرته، وهم تحت إرادته ومشيئته لا يفوتونه، كما لا يفوتُ من أحاط به الأعداء من كل جانب ﴿يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ أي يقارب البرقُ لشدته وقوته وكثرة لمعانه أن يذهب بأبصارهم فيأخذها بسرعة ﴿كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ﴾ أي كلما أنار لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه ﴿وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ﴾ أي وإذا اختفى البرق وفتر لمعانه وقفوا عن السير وثبتوا في مكانهم.. وفي هذا تصوير لما هم فيه من غاية التحير والجهل، فإِذا صادفوا من البرق لمعة - مع خوفهم أن يخطف أبصارهم - انتهزوها فرصة فَخَطَوْا خطواتٍ يسيرة وإِذا خفي وفتر لمعانة وقفوا عن السير، وثبتوا في أماكنهم خشية التردي في حفرة ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ أي لو أراد الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم وذهب بأسماعهم، وفي ضوء البرق فأعمارهم وذهب بأبصارهم ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي إِنه تعالى قادر على كل شيء، لا يعجزه أحدٌ في الأرض ولا في السماء قال ابن جرير: إنما
31
وصف تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع، لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إِذهاب أسماعهم وأبصارهم قادر.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
أولاً: المبالغة في التكذيب لهم ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ كان الأصل أن يقول: «وما آمنوا» ليطابق قوله من يقول «آمنا» ولكنه عدل عن الفعل إلى الاسم لإِخراج ذواتهم من عداد المؤمنين وأكده بالباء للمبالغة في نفي الإِيمان عنهم.
ثانياً: الاستعارة التمثيلية ﴿يُخَادِعُونَ الله﴾ شبَّه حالهم مع ربهم في إِظهار الإِيمان وإِخفاء الكفر بحال رعيةٍ تخادع سلطانهم واستعير اسم المشبَّه به للمشبه بطريق الاستعارة.
ثالثاً: صيغة القصر ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ وهذا من نوع «قصر الموصوف على الصفة» أي نحن مصلحون ليس إِلاَّ.
رابعاً: الكناية اللطيفة ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ المرضُ في الأجسام حقيقة وقد كنى به عن النفاق لأن المرض فسادٌ للبدن، والنفاق فساد للقلب.
خامساً: تنويع التأكيد ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون﴾ جاءت الجملة مؤكدة بأربع تأكيدات ﴿ألا﴾ التي تفيد التنبيه، و ﴿إِنَّ﴾ التي هي للتأكيد، وضمير الفصل ﴿هُمُ﴾ ثم تعريف الخبر ﴿المفسدون﴾ ومثلها في التأكيد ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء﴾ وهذا ردٌّ من الله تعالى عليهم بأبلغ ردٌّ وأحكمه.
سادساً: المشاكلة ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ سمَّى الجزاء على الاستهزاء استهزاءً بطريق المشاكلة وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى.
سابعاً: الاستعارة التصريحية ﴿اشتروا الضلالة بالهدى﴾ المراد استبدلوا الغيَّ بالرشاد، والكفر بالإِيمان فخسرت صفقتهم ولم تربح تجارتهم فاستعار لفظ الشراء للاستبدال ثم زاده توضيحاً بقوله ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ﴾ وهذا هو الترشيح الذي يبلغ بالاستعارة الذروة العليا.
ثامنا: التشبيه التمثيلي ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً﴾ وكذلك ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ شبه في المثال الأول المنافق بالمستوقد للنار، وإِظهاره الإِيمان بالإِضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، وفي المثال الثاني شبَّه الإِسلام بالمطر لأن القلوب تحيا به كحياة الأرض بالماء، وشبَّه شبهات الكفار بالظلمات، وما في القرآن من الوعد والوعيد والبرق.. الخ.
32
تاسعاً: التشبيه البليغ ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ أي هم كالصم والبكم العمي في عدم الاستفادة من هذه الحواس حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
عاشراً: المجار المرسل ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم﴾ وهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء أي رؤوس أصابعهم لأن دخول الأصبع كلها في الأذن لا يمكن.
الحادي عشر: توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات، وهذا له وقع في الأذن حسن، وأثر في النفس رائع مثل ﴿وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ الخ وهو من المحسنات البديعية.
الفوَائِد: الأولى: الغاية من ضرب المثل: تقريب البعيد، وتوضيح الغامض حتى يصبح كالأمر المشاهد المحسوس، وللأمثال تأثير عجيب في النفس
﴿وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون﴾ [العنكبوت: ٤٣].
الثانية: وصف تعالى المنافقين في هذه الآيات بعشرة أوصاف كلها شنيعة وقبيحة تدل على رسوخهم في الضلال وهي (الكذب، الخداع، المكر، السَّفه، الاستهزاء الإِفساد في الأرض، الجهل، الضلال، التذبذب، السخرية بالمؤمنين) أعاذنا الله من صفات المنافقين.
الثالثة: حكمة كفه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن قتل المنافقين مع أنهم كفار وعلمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأعيان بعضهم ما أخرجه البخاري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لعمر: «أكره أن يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه) ».
لطيفَة: قال العلامة ابن القيم: تأمل قوله تعالى ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ ولم يقل: «ذهب الله بنارهم» مع أنه مقتضى السياق ليطابق أول الآية ﴿استوقد نَاراً﴾ فإِِن النار فيها إشراق وإحراق، فذهب الله بما فيها من الإِشراق وهو «النور» وأبقى ما فيها من الإِحراق وهو «النارية» ! ﴿وتأمل كيف قال {بِنُورِهِمْ﴾ ولم يقل بضوئهم، لأن الضوء زيادةٌ في النور، فلو قيل: ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل} ! وتأمل كيف قال ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ فوحَّد النور ثم قال ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ فجمعها، فإِن الحقَّ واحد هو صراط الله المستقيم، الذي لا صراط يوصل سواه، بخلاف طُرُق الباطل فإِنها متعددة ومتشعبة، ولهذا أفرد سبحانه «الحقَ» وجمع «الباطل» في آيات عديدة مثل قوله تعالى ﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور﴾ [المائدة: ١٦] وقوله ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ [الأنعام: ١] وقوله ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣] فجمع سبل الباطل ووحَّد سبيل الحق.
33
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الأصناف الثلاثة «المؤمنين، والكافرين، والمنافقين» وذكر ما تميزوا به من سعادة أو شقاوة، أو إيمان أو نفاق، وضرب الأمثال ووضَّح طرق الضلال أعقبه هنا بذكر الأدلة والبراهين على وحدانية ربِّ العالمين، وعَرَّف الناس بنعمة ليشكروه عليها، وأقبل عليهم بالخطاب ﴿يَاأَيُّهَا الناس﴾ وهو خطاب لجميع الفئات ممتناً عليهم بما خلق ورزق، وأبرز لهم «معجزة القرآن» بأنصع بيان وأوضح برهان ليقتلع من القلوب جذور الشك والارتياب.
اللغَة: ﴿خَلَقَكُمْ﴾ الخلق: الإِيجاد والاختراع بلا مثال، وأصله في اللغة التقدير يقال: خَلَق النعل إذا قدَّرها وسوَّاها بالمقياس، وخلق الأديمَ للسقاء إذا قدَّره قال الحجاج ما خلقتُ إِلا فريتُ، ولا وعدتُ إِلا وفيتُ «أي ما قدرت شيئاً إِلا أمضيته، ولا وعدت بشيء إِلا وفيت به. ﴿فِرَاشاً﴾ الفراش: الوطاءُ والمهاد الذي يقعد عليه الإِنسان وينام ﴿بِنَآءً﴾ البناء: ما يُبنى من قبةٍ أو خباءٍ أو بيت ﴿أَندَاداً﴾ جمع نِدّ وهو الكفء والمثيل والنظير ومنه قول علماء التوحيد» ليس للهِ نِدٌّ ولا ضِدّ «قال حسان:
أتهجوه ولستَ له بندٍّ فشرُّكهما لخيركما الفِداء
وقال الزمخشري:»
النِدُّ: المثل ولا يقال إلا للمخالف المناوئ قال جرير: أتماً تجعلون إلىَّ نداً؟ ﴿وَقُودُهَا﴾ الوَقْود: الحطب الذي توقد به النار قال القرطبي: الوَقود بالفتح الحطب، وبالضم مصدر بمعنى التوقد ﴿أُعِدَّتْ﴾ هيئت، وأعددنا هيأنا قال البيضاوي: ﴿أُعِدَّتْ﴾ هُيَئت لهم وجُعلت عُدَّة لعذابهم ﴿وَبَشِّرِ﴾ البشارة: الخبر السارُّ الذي يتغير به بشرة الوجه من السرور، وإِذا استعمل في الشر فهو تهكم مثل ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الانشقاق: ٢٤] ﴿أَزْوَاجٌ﴾ جمع زوج ويطلق على الذكر والأنثى ﴿اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾ [البقرة: ٣٥] فالمرأة زوج الرجل، والرجل زوج المرأة قال الأصمعي: لا تكاد العرب تقول زوجة ﴿خَالِدُونَ﴾ باقون دائمون.
التفِسير: يقول تعالى منبهاً العبادَ إِلى دلائل القدرة والوحدانية ﴿يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ﴾ أي يا معشر بني آدم اذكروا نِعَم الله الجليلة عليكم، واعبدوا الله ربكم الذي ربَّاكم وأنشأكم بعد أن لم
34
تكونوا شيئاً، اعبدوه بتوحيده، وشكره، وطاعته ﴿الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ أي الذي أوجدكم بقدرته من العدم، وخلق من قبلكم من الأمم ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي لتكونوا في زمرة المتقين، الفائزين بالهدى والفلاح قال البيضاوي: لما عدَّد تعالى فِرَق المكلفين، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات، هزاً للسامع، وتنشيطاً له، واهتماماً بأمر العبادة وتفخيماً لشأنها، وإِنما كثر النداء في القرآن ب ﴿يَاأَيُّهَا﴾ لاستقلاله بأوجهٍ من التأكيد، وكل ما نادى الله له عباده من حيث إِنها أمور عظام من حقها أن يتفطنوا لها، ويقبلوا بقلوبهم عليها وأكثرهم عنها غافلون حقيقٌ بأن يُنادى له بالآكد الأبلغ، ثمَّ عدَّد تعالى نِعَمه عليهم فقال: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً﴾ أي جعلها مهاداً وقراراً، تستقرون عليها وتفترشونها كالبساط المفروش مع كرويتها، وإلا ما أمكنكم العيش والاستقرار عليها قال البيضاوي: جعله مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط، وذلك لا يستدعي كونها مسطَّحة لأن كروية شكلها مع عظم حجمها لا يأبى الافتراش عليها ﴿والسماء بِنَآءً﴾ أي وسقفاً للأرض مرفوعاً فوقها كهيئة القبة ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ أي مطراً عذباً فراتاً أنزله بقدرته من السحاب ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ﴾ أي فأخرج بذلك المطر أنواع الثمار والفواكه والخضار غذاءً لكم ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي فلا تتخذوا معه شركاء من الأصنام والبشر تشركونهم مع الله في العبادة، وأنتم تعلمون أنها لا تَخْلُق شيئاً ولا تَرْزق، وأنَّ الله هو الخالق الرازق وحده، ذو القوة المتين قال ابن كثير: شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هو المنعم على عبيدة بإِخراجهم من العدم، وإِسباغة عليهم النِّعَم، والمرادُ بالسَّماء هنا السحاب، فهو تعالى الذي أنزل المطر من السحاب في وقته عند احتياجهم إِليه، فأخرج لهم به أنواع الزروع والثمار ورزقاً لهم ولأنعامهم، ومضمونه أنه الخالق الرازق مالكُ الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يُعبد وحده ولا يُشرك به غيره.
ثم ذكر تعالى بعد أدلة التوحيد الحجة على النبوة، وأقام البرهان على إِعجاز القرآن فقال ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا﴾ أي وإِذا كنتم أيها الناس في شك وارتياب من صدق هذا القرآن، المعجز في بيانه، وتشريعه، ونظمه، الذي أنزلناه على عبدنا ورسولنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ أي فأتوا بسورةٍ واحدةٍ من مثل هذا القرآن، في البلاغة والفصاحة والبيان ﴿وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله﴾ أي وادعوا أعوانكم وأنصاركم الذين يساعدونكم على معارضة القرآن غير الله سبحانه، والمراد استعينوا بمن شئتم غيره تعالى قال البيضاوي: المعنى أدعوا للمعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إِنسكم وجِنكم وآلهتكم غيرَ اللهِ سُبحانه وتعالى، فإِنه لا يقدر أن يأتي بمثله إِلا الله ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي أنه مختلق وأنه من كلام البشر، وجوابُه محذوف دلَّ عليه ما قبله ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ﴾ أي فإِن لم تقدروا على الإِتيان بمثل سورةٍ من سوره، وعجزتم في الماضي عن الإِتيان بما يساويه أو يدانيه، مع استعانتكم بالفصحاء والعباقرة والبلغاء {
35
وَلَن تَفْعَلُواْ} أي ولن تقدروا في المستقبل أيضاً على الإِتيان بمثله، والجملة اعتراضية للإِشارة إلى عجز البشر في الحاضر والمستقبل كقوله: ﴿لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ [الإسراء: ٨٨] أي معيناً قال ابن كثير: تحداهم القرآن وهم أفصح الأمم ومع هذا عجزوا، و ﴿لَن﴾ لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبداً، وهذه أيضاً معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً، غير خائفٍ ولا مشفق أنَّ هذا القرآن لا يُعارضُ بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر لم يُعارض من لدنه إلى زماننا هذا، ومن تدبّر القرآن وجد فيه من وجه الإِعجاز فنوناً طاهرة وخفية، من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، والقرآنُ جميعه فصيح في غاية نهايات الفصاحة والبيان عند من يعرف كلام العرب، ويفهم تصاريف الكلام ﴿فاتقوا النار﴾ أي فخافوا عذاب الله، واحذروا نار الجحيم التي جعلها الله جزاء المكذبين ﴿وَقُودُهَا الناس والحجارة﴾ أي اتقوا النار التي مادتُها التي تُشعل بها وتُضرم لإِيقادها هي الكفار والأصنام التي عبدوها من دون الله كقوله تعالى:
﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] قال مجاهد: حجارةٌ من كبريت أنتن من الجيفة يعذبون بها مع النار ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ أي هُيّئت تلك النارُ وأُرصدت للكافرين الجاحدين، ينالون فيها ألوان العذاب المهين.
ثم لما ذكر ما أعدَّه لأعدائه، عطف عليه بذكر ما أعدَّه لأوليائه، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب، للمقارنة بين حال الأبرار والفجار فقال ﴿وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي وبَشِّرْ يا محمد المؤمنين المتقين، الذين كانوا في الدنيا محسنين، والذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي بأن لهم حدائق وبساتين ذاتِ أشجار ومساكن، تجري من تحت قصورها ومساكنها أنهار الجنة ﴿كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً﴾ أي كلما أعطوا عطاءً ورُزقوا رزقاً من ثمار الجنة ﴿قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾ أي هذا مثلُ الطعام الي قُدِّم إلينا قبل هذه المرة قال المفسرون: إِن أهل الجنة يُرزقون من ثمارها، تأتيهم به الملائكة، فإِِذا قُدّم لهم مرة ثانية قالوا: هذا الذي أتيتمونا به من قبل فتقول الملائكة: كلْ يا عبد الله فاللونٌ واحدٌ والطعم مختلف قال تعالى: ﴿وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً﴾ أي متشابهاً في الشكل والمنظر، لا في الطعم والمَخْبر قال ابن جرير: يعني في اللون والمرأة وليس يشبهه في الطعم قال ابن عباس: لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إِلا في الأسماء ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ أي ولهم في الجنة زوجاتٌ من الحور العين مطهَّرات من الأقذار والأدناس الحسية والمعنوية قال ابن عباس: مطهَّرة من القذر والأذى وقال مجاهد: مطهَّرة من الحيض والنفاس، والغائط والبول والنخام، وورد أن نساء الدنيا المؤمنات يكنَّ يوم القيامة أجمل من الحور العين كما قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً﴾ [الواقعة: ٣٥ - ٣٧] ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي دائمون، وهذا هو تمام السعادة، فإِنهم مع هذا النعيم في مقام أمين، يعيشون مع زوجاتهم في هناءٍ خالد لا يعتريه انقطاع.
36
البَلاَغَة: ١ - ذكر الربوبية ﴿اعبدوا رَبَّكُمُ﴾ مع إضافته إِلى المخاطبين للتفخيم والتعظيم.
٢ - الإِضافة ﴿على عَبْدِنَا﴾ للتشريف والتخصيص، وهذا أشرف وصفٍ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
٣ - التعجيز ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ﴾ خرج الأمر عن صيغته إِلى معنى التعجيز، وتنكيرُ السور لإِرادة العموم والشمول.
٤ - المقابلة اللطيفة ﴿جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَآءً﴾ فقد قابل بين الأرض والسماء، والفراش والبناء، وهذا من المحسنات البديعية.
٥ - الجملة الاعتراضية ﴿وَلَن تَفْعَلُواْ﴾ لبيان التحدي في الماضي والمستقبل وبيان العجز التام في جميع العصور والأزمان.
٦ - الإيجاز البديع بذكر الكناية ﴿فاتقوا النار﴾ أي فإن عجزتم فخافوا نار جهنم بتصديقكم بالقرآن.
37
المنَاسَبَة: لّما بينّ تعالى بالدليل الساطع، والبرهان القاطع، أن القرآن كلام الله لا يتطرأ إِليه شك، وإِنه كتاب معجز أنزله على خاتم المرسلين، وتحداهم أن يأتوا بمثل سورةٍ من أقصر سوره، وذكر هنا شبهة أوردها الكفار للقدح فيه وهي أنه جاء في القرآن ذكر (النحل، والذباب، والعنكبوت، والنمل) الخ وهذه الأمور لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فضلاً عن كلام ربّ الأرباب، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة، وردَّ عليهم بأنَّ صغر هذه الأشياء لا يقدح في فصاحة القرآن وإِعجازه، إِذا كان ذكر المثل مشتملاً على حِكَمٍ بالغة.
اللغَةَ: ﴿لاَ يَسْتَحْى﴾ الحياء: تغير وانكسار يعتري الإِنسان من خوف ما يعاب به ويذم، والمراد به هنا لازمه وهو الترك، قال الزمخشري: أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي
37
من ذكرها لحقارتها ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ فما دونها في الصغر ﴿الفاسقين﴾ أصل الفسق في كلام العرب: الخروج عن الشيء، والمنافق فاسق لخروجه عن طاعة ربه، قال الفراء: الفاسق مأخوذ من قولهم فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت، ويسمى الفاسق فاسقاً لخروجه عن طاعة الله، وتسمى الفأرة فويسقه لخروجها لأجل المضرة. ﴿يَنقُضُونَ﴾ النقض: فسخ التركيب وإِفساد ما أبرمته من بناءٍ، أو حبلٍ، أو عهد قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾ [النحل: ٩٢] وقال ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٥] أي فبنقضهم الميثاق ﴿عَهْدَ﴾ العهد: المَوْثق الذي يعطيه الإِنسان لغيره ويقال عهد إِليه أي أوصاه ﴿الميثاق﴾ [الرعد: ٢٠] العهد المؤكد باليمين وهو أبلغ من العهد. ﴿استوى﴾ الاستواء في الأصل: الاعتدال والاستقامة يقال: استوى العود إِذا قام واعتدل، واستوى إِليه كالسهم إِذا قصده قصداً مستوياً، وقال ثعلب: الاستواء: الإِقبال على الشيء. ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ خلقهن وأتقنهن وقيل معناه: صيّرهن.
سَبَبُ النزّول: لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، وما أراد بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ فأنزل الله الآية.
التفسِير: يقول تعالى في الرد على مزاعم اليهود والمنافقين ﴿إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا﴾ أي إن الله لا يستنكف ولا يمتنع عن أن يضرب أيُّ مثلٍ كان، بأي شيءٍ كان، صغيراً كان أو كبيراً ﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ أي سواء كان هذا المثل بالبعوضة أو بما هو دونها في الحقارة والصغر، فكما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ﴾ أما المؤمنون فيعلمون أن الله حق، لا يقول غير الحق، وأن هذا المثل من عند الله ﴿وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً﴾ ؟ وأما الذين كفروا فيتعجبون ويقولون: ماذا أراد الله من ضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء الحقيرة؟ قال تعالى في الرد عليهم ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ أي يضل بهذا المثل كثيراً من الكافرين لكفرهم به، ويهدي به كثيراً من المؤمنين لتصديقهم به، فيزيد أولئك ضلالة، وهؤلاء هدىً ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾ أي ما يضل بهذا المثل أو بهذا القرآن إِلا الخارجين عن طاعة الله، الجاحدين بآياته، ثم عدّد تعالى أوصاف هؤلاء الفاسقين فقال ﴿الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ أي ينقضون ما عهده إِليهم في الكتب السماوية، من الإِيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من بعد توكيده عليهم، أو ينقضون كل عهد وميثاق من الإِيمان بالله، والتصديق بالرسل، والعمل بالشرائع ﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ من صلة الأرحام والقرابات، واللفظ عام في كل قطيعة لا يرضاها الله كقطع الصلة بين الأنبياء، وقطع الأرحام، وترك موالاة المؤمنين ﴿ويفسدون في الأرض﴾ بالمعاصي، والفتن، والمنع عن الإيمان، وإثارة الشبهات
38
حول القرآن ﴿أولئك هُمُ الخاسرون﴾ أي أولئك المذكورون، الموصوفون بتك الأوصاف القبيحة هم الخاسرون لأنهم استبدلوا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، فصاروا إِلى النار المؤبدة ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ استفهام للتوبيخ والإِنكار والمعنى كيف تجحدون الخالق، وتنكرون الصانع ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً﴾ أي وقد كنتم في العدم نُطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ أي أخرجكم إِلى الدنيا ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عند انقضاء الآجال ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ بالبعث من القبور ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ للحساب والجزاء يوم النشور.
ثم ذكر تعالى برهاناً على البعث فقال ﴿هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً﴾ أي خلق لكم الأرض وما فيها لتنتفعوا بكل ما فيها، وتعتبروا بأن الله هو الخالق الرازق ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء﴾ أي ثم وجّه إرادته إلى السماء ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات﴾ أي صيّرهن وقضاهن سبع سماوات محكمة البناء وذلك دليل القدرة الباهرة ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي وهو عالم بكل ما خلق وذرأ، أفلا تعتبرون بأن القادر على خلق ذلك - وهي أعظم منكم - قادر على إعادتكم؟! بلى إنه على كل شيء قدير.
البَلاَغَة: ١ - قوله ﴿لاَ يَسْتَحْى﴾ مجاز من باب إِطلاق الملزوم وإِرادة اللازم، والمعنى: لا يترك فعبّر بالحياء عن الترك، لأن الترك من ثمرات الحياء، ومن استحيا من فعل شيء تركه.
٢ - قوله ﴿يَنقُضُونَ عَهْدَ الله﴾ فيه (استعارة مكنية) حيث شبه العهد بالحبل، وحذف المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو النقض على سبيل الاستعارة المكنية.
٣ - قوله ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ هو من باب (الالتفات) للتوبيخ والتقريع، فقد كان الكلام بصيغة الغيبة ثم التفت فخاطبهم بصيغة الحضور، وهو ضرب من ضروب البديع.
٤ - قوله ﴿عَلِيمٌ﴾ من صيغ المبالغة، ومعناه الواسع العلم الذي أحاط علمه بجميع الأشياء، قال أبو حيان: وصف تعالى نفسه ب (عالم وعليم وعلام) وهذان للمبالغة، وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في (علامة) ولا يجوز وصفه به تعالى.
الفوَائِد: الأولى: قال الزمخشري: التمثيل إِنما يصار إِليه لما فيه من كشف المعنى، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إِلا أمراً تستدعيه حال المتمثل له، ألا ترى إِلى الحق لما كان أبلج واضحاً جلياً، كيف تمثَّل له بالضياء والنور؟ وإِلى الباطل لما كان بضد صفته كيف تمثّل له بالظلمة؟ ولما كان حال الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله تعالى ليس أحقر منها وأقل، لذلك ضرب لها المثل ببيت العنكبوت في الضعف والوهن ﴿كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً﴾ [العنكبوت: ٤١] وجعلت أقل من الذباب وأخسَّ قدراً ﴿لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ [الحج: ٧٣] والعجبُ منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور، والحشرات والهوام، وهذه أمثال العرب بين أيديهم سائرة في حواضرهم وبواديهم.
39
الثانية: قدّم الإِضلال على الهداية ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمراً فظيعاً يسوءهم ويفتُّ في أعضادهم، وأوثرت صيغة الاستقبال إِيذاناً بالتجدد والاستمرار، أفاده العلامة أبو السعود.
الثالثة: قال ابن جزي في التسهيل: وهذه الآية ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السمآء﴾ تقتضي أنه خلق السماء بعد الأرض، وقوله تعالى ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٣٠] ظاهره خلاف ذلك، والجواب من وجهين: أحدهما أن الأرض خلقت قبل السماء، ودحيت بعد ذلك فلا تعارض، والآخر تكون ﴿ثُمَّ﴾ لترتيب الأخبار.
40
المنَاسَبَة: لما امتنَّ تعالى على العباد بنعمة الخلق والإِيجاد وأنه سخر لهم ما في الأرض جميعاً، وأخرجهم من العدم إِلى الوجود، أتبع ذلك ببدء خلقهم، وامتنَّ عليهم بتشريف أبيهم وتكريمه، بجعله خليفة، وإِسكانه دار الكرامة، وإِسجاد الملائكة تعظيماً لشأنه، ولا شك أن الإِحسان إِلى الأصل إِحسان إِلى الفرع، والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء، ولهذا ناسب أن يذكّرهم بذلك، لأنه من وجوه النعم التي أنعم بها عليهم.
اللغَة: ﴿وَإِذْ﴾ ظرف زمان منصوب بفعل محذوف تقديره: اذكر حين أو اذكر وقت، وقد يصرح بالمحذوف كقوله تعالى: ﴿واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ﴾ [الأنفال: ٢٦] قال المبرد: إذا جاء «إِذْ» مع مستقبل كان معناه ماضياً نحو قوله ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ﴾ [الأنفال: ٣٠] معناه إِذْ مكروا، وإِذا جاء «إِذا» مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله ﴿فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى﴾ [النازعات: ٣٤] و ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله﴾ [النصر: ١] أي يجيء. ﴿خَلِيفَةً﴾ الخليفة: من يخلف غيره وينوب منابه، فعيل بمعنى فاعل والتاء للمبالغة، سمي خليفة لأنه مستخلف عن الله عَزَّ وَجَلَّ في إجراء الأحكام وتنفيذ الأوامر الربانية قال تعالى ﴿ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض﴾ [ص: ٢٦] الآية ﴿وَيَسْفِكُ﴾ السفك: الصب والإِراقة لا يستعمل إِلا في الدم قال في المصباح: وسفك الدم: أراقة وبابه ضرب ﴿نُسَبِّحُ﴾ التسبيح: تنزيه الله وتبرئته
40
عن السوء، وأصله من السَّبْح وهو الجري والذهاب قال تعالى ﴿إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً﴾ [المزمل: ٧] فالمسَبِّح جارٍ في تنزيه الله تعالى ﴿وَنُقَدِّسُ﴾ التقديس: التطهير ومنه الأرض المقدسة، وروح القدس، وضده التنجيس، وتقديس الله معناه: تمجيده وتعظيمه وتطهير ذكره عما لا يليق به وفي صحيح مسلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقول في ركوعه وسجوده «سبُّوح قدُّوس ربُّ الملائكةِ والرُّوح» ﴿أَنْبِئُونِي﴾ أخبروني والنبأ: الخبر الهام ذو الفائدة العظيمة قال تعالى ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ [ص: ٦٧] ﴿تُبْدُونَ﴾ تظهرون ﴿تَكْتُمُونَ﴾ تخفون ومنه كتم العلم أي اخفاؤه.
التفِسير: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ﴾ أي اذكر يا محمد حين قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً﴾ أي خالق في الأرض ومتخذ فيها خليفة يخلفني في تنفيذ أحكامي فيها وهو آدم أو قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل ﴿قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ أي قالوا على سبيل التعجب والاستعلام: كيف تستخلف هؤلاء، وفيهم من يفسد في الأرض بالمعاصي ﴿وَيَسْفِكُ الدمآء﴾ أي يريق الدماء بالبغي والاعتداء!! ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ أي ننزهك عما لا يليق بك متلبسين بحمدك ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ أي نعظم أمرك ونطهرّ ذكرك مما نسبه إِليك الملحدون ﴿قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي أعلم من المصالح ما هو خفيٌ عليكم، ولي حكمة في خلق الخليقة لا تعلمونها ﴿وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا﴾ أي أسماء المسمّيات كلها قال ابن عباس: علّمه اسم كل شيء حتى القصعة والمغرفة ﴿عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة﴾ أي عرض المسميات على الملائكة وسألهم على سبيل التبكيت ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي﴾ أي أخبروني ﴿بِأَسْمَآءِ هؤلاء﴾ أي بأسماء هذه المخلوقات التي ترونها ﴿إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي في زعمكم أنكم الملائكة، وخصّه بالمعرفة التامة دونهم، من معرفة الأسماء والأشياء، والأجناس، واللغات، ولهذا اعترفوا بالعجز والقصور ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ﴾ أي ننزهك يا ألله عن النقص ونحن لا علم لنا إلا ما علمتنا إِياه ﴿الحكيم﴾ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة ﴿قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ﴾ أي أعلمهم بالأسماء التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بتقاصر هممهم عن بلوغ مرتبتها ﴿فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ﴾ أي أخبرهم بكل الأشياء، وسمَّى كل شيء باسمه، وذكر حكمته التي خلق لها ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض﴾ أي قال تعالى للملائكة: ألم أنبئكم بأني أعلم ما غاب في السماوات والأرض عنكم ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ أي ما تظهرون ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ أي تسرون من دعواكم أن الله لا يخلق خلقاً أفضل منكم، روي أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام، رأت الملائكة فطرته العجيبة، وقالوا: ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إِلا كنا أكرم عليه منه.
41
البَلاَغَة: ١ - التعرض بعنوان الربوبية ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾ مع الإضافة إلى الرسول عليه السلام للتشريف والتكريم لمقامه العظيم وتقديم الجار والمجرور ﴿لِلْمَلاَئِكَةِ﴾ للاهتمام بما قُدّم، والتشويق إلى ما أُخّر.
٢ - الأمر في قوله تعالى ﴿أَنْبِئُونِي﴾ خرج عن حقيقته إِلى التعجيز والتبكيت.
٣ - ﴿فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ﴾ فيه مجاز بالحذف والتقدير: فأنبأهم بها فلما أنبأهم حذف لفهم المعنى.
٤ - ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ هو من باب التغليب لأن الميم علامة الجمع للعقلاء الذكور، ولو لم يغلّب لقال ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ أو عرضهن.
٥ - إِبراز الفعل في قوله ﴿إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات﴾ ثم قال ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ للإِهتمام بالخبر والتنبيه على إِحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء، ويسمى هذا بالإِطناب.
٦ - تضمنت آخر هذه الآية من علم البديع ما يسمى ب «الطباق» وذلك في كلمتي ﴿تُبْدُونَ﴾ و ﴿تَكْتُمُونَ﴾.
الفوَائِد: الأولى: قال بعض العلماء: في إِخبار الله تعالى للملائكة عن خلق آدم واستخلافه في الأرض، تعليمٌ لعباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها.
الثانية: الحكمة من جعل آدم عليه السلام خليفة هي الرحمة بالعباد - لا لافتقار الله - وذلك أن العباد لا طاقة لهم على تلقي الأوامر والنواهي من الله بلا واسطة، ولا بواسطة مَلَك، فمن رحمته ولطفه وإِحسانه إِرسال الرسل من البشر.
الثالثة: قال الحافظ ابن كثير: وقول الملائكة ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ الآية ليس هذا على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، وإِنما هو سؤال استعلام واستكشاف عين الحكمة في ذلك، يقولون: ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض؟ وقال في التسهيل: وإِنما علمت الملائكة أن بني آدم يفسدون بإِعلام الله إِياهم بذلك، وقيل: كان في الأرض جنٌ فأفسدوا، فبعث الله إِليهم ملائكة فقتلتهم، فقاس الملائكة بني آدم عليهم.
الرابعة: سئل الشعبي: هل لإِبليس زوجة؟ قال: ذلك عرسٌ لم أشهده؟ قال: ثم قرأتُ قوله تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي﴾ [الكهف: ٥٠] فعلمت أنه لا يكون له ذرية إِلا من زوجة، فقلت: نعم.
42
المنَاسَبَة: أشارت الآيات السابقة إلى أن الله تعالى خصّ آدم عليه السلام بالخلافة، كما خصّه بعلم غزير وقفت الملائكة عاجزة عنه، وأضافت هذه الآيات الكريمة بيان نوع آخر من التكريم أكرمه الله به ألا وهو أمر الملائكة بالسجود له، وذلك من أظهر وجوه التشريف والتكريم لهذا النوع الإنساني ممتلأ في أصل البشرية آدم عليه السلام.
اللغَة: ﴿اسجدوا﴾ أصل السجود: الانحناء لمن يُسجد له والتعظيم، وهو في اللغة: التذلل والخضوع، وفي الشرع: وضع الجبهة على الأرض ﴿إِبْلِيسَ﴾ اسم للشيطان وهو أعجمي، وقيل إنه مشتق من الإِبلاس وهو الإياس ﴿أبى﴾ امتنع، والإِباء: الامتناع مع التمكن من الفعل ﴿واستكبر﴾ الاستكبار: التكبر والتعاظم في النفس ﴿رَغَداً﴾ واسعاً كثيراً لا عناء فيه، والرغد: سعة العيش، يقال: رغد عيش القوم إِذا كانوا في رزقٍ واسع قال الشاعر:
بينما المرء تراه ناعماً يأمن الأحداث في عيشٍ رغد
﴿فَأَزَلَّهُمَا﴾ أصله من الزلل وهو عثور القدم يقال: زلت قدمه أي زلقت ثم استعمل في ارتكاب الخطيئة مجازاً يقال: زلّ الرجل إِذا أخطأ وأتى ما ليس له إتيانه، وأزله غيره: إِذا سبّب له ذلك ﴿مُسْتَقَرٌّ﴾ موضع استقرار ﴿وَمَتَاعٌ﴾ المتاع ما يتمتع به من المأكول والمشروب والملبوس ونحوه ﴿فتلقى﴾ التلقي في الأصل: الاستقبال تقول خرجنا نتلقى الحجيج أي نستقبلهم، ثم استعمل في أخذ الشيء وقبوله تقول: تلقيت رسالة من فلان أي أخذتها وقبلتها ﴿فَتَابَ﴾ التوبة في أصل اللغة الرجوع، وإذا عديت بعن كان معناها الرجوع عن المعصية، وإِذا عديت بعلى كان معناها قبول التوبة.
التفِسير: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ﴾ أي اذكر يا محمد لقومك حين قلنا للملائكة ﴿اسجدوا لأَدَمَ﴾ أي سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة ﴿فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ أي سجدوا جميعاً له غير إبليس ﴿أبى واستكبر﴾ أي امتنع مما أمر به وتكبر عنه ﴿وَكَانَ مِنَ الكافرين﴾ أي صار بإبائه واستكباره من الكافرين حيث استقبح أمر الله بالسجود لآدم ﴿وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة﴾ أي أسكن في جنة الخلد مع زوجك حواء ﴿وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً﴾ أي كلا من ثمار الجنة أكلاً رغداً واسعاً ﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ أي من أي مكان في الجنة أردتما الأكل فيه ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ أي لا تأكلا من هذه الشجرة قال ابن عباس: هي الكرمة ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظالمين﴾ أي فتصيروا من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله {
43
فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا} أي أوقعهما في الزلة بسببها وأغواهما بالأكل منها هذا إذا كان الضمير عائداً إلى الشجرة، أما إذا كان عائداً إلى الجنة فيكون المعنى أبعدهما وحوّلهما من الجنة ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ أي من نعيم الجنة ﴿وَقُلْنَا اهبطوا﴾ أي اهبطوا من الجنة إلى الأرض والخطاب لآدم وحواء وإبليس ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ أي الشيطان عدوّ لكم فكونوا أعداء له كقوله
﴿إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً﴾ [فاطر: ٦] ﴿وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ﴾ أي لكم في الدنيا موضع استقرار بالإقامة فيها ﴿وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ﴾ أي تمتع بنعيمها إلى وقت انقضاء آجالكم ﴿فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ أي استقبل آدم دعوات من ربه ألهمه إياها فدعاه بها وهذه الكلمات مفسّرة في موطن آخر في سورة الأعراف ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ [الآية: ٢٣] الآية ﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ أي قبل ربه توبته ﴿إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم﴾ أي إِن الله كثير القبول للتوبة، واسع الرحمة للعباد ﴿قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً﴾ كرر الأمر بالهبوط للتأكيد ولبيان أنَّ إقامة آدم وذريته في الأرض لا في الجنة ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾ أي رسول أبعثه لكم، وكتاب أنزله عليكم ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ﴾ أي من آمن بي وعمل بطاعتي ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي لا ينالهم خوف ولا حزن في الآخرة ﴿والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ﴾ أي جحدوا بما أنزلت وبما أرسلت ﴿أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي هم مخلدون في الجحيم أعاذنا الله منها.
البَلاَغة: أولاً: صيغة الجمع ﴿وَإِذْ قُلْنَا﴾ للتعظيم، وهي معطوفة على قوله ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾ [البقرة: ٣٠] وفيه التفات من الغائب إلى المتكلم لتربية وإظهار الجلالة.
ثانياً: أفادت الفاء في قوله ﴿فَسَجَدُواْ﴾ أنهم سارعوا في الامتثال ولم يتثبطوا فيه، وفي الآية إيجاز بالحذف أي فسجدوا له وكذلك ﴿أبى﴾ مفعوله محذوف أي أبى السجود.
ثالثاً: قوله ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ المنهي عنه هو الأكل من ثمار الشجرة، وتعليق النهي بالقرب منها ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ لقصد المبالغة في النهي عن الأكل، إذ النهي عن القرب نهي عن الفعل بطريق أبلغ كقوله تعالى ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى﴾ [الإسراء: ٣٢] فنهى عن القرب من الزنى ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه.
رابعاً: التعبير بقوله ﴿مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ أبلغ في الدلالة على فخامة الخيرات مما لو قيل: من النعيم أو الجنة، فإن من أساليب البلاغة في الدولة على عظم الشيء أن يعبّر عنه بلفظ مبهم نحو ﴿مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ لتذهب نفس السامع في تصور عظمته وكماله إلى أقصى ما يمكنها أن تذهب إِليه.
خامساً: ﴿التواب الرحيم﴾ من صيغ المبالغة أي كثير التوبة واسع الرحمة.
الفوَائِد: الأولى: كيف يصح السجود لغير الله؟ والجواب أن سجود الملائكة لآدم كان للتحية وكان سجود تعظيم وتكريم لا سجود صلاةٍ وعبادة، قال الزمخشري: السجود لله تعالى على سبيل
44
العبادة، ولغيره على وجه التكرمة كما سجدت الملائكة لآدم، ويعقوب وأبناؤه ليوسف.
الثانية: قال بعض العارفين: سابق العناية لا يؤثر فيه حدوث الجناية، ولا يحط عن رتبة الولاية، فمخالفة آدم التي أوجبت له الإِخراج من دار الكرامة لم تخرجه عن حظيرة القدس، ولم تسلبه رتبة الخلافة، بل أجزل الله له في العطية فقال
﴿ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ﴾ [طه: ١٢٢] وقال الشاعر:
وإِذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ جاءت محاسنة بألف شفيع
الثالثة: هل كان إِبليس من الملائكة؟ الجواب: اختلف المفسرون على قولين: ذهب بعضهم إِلى أنه من الملائكة بدليل الاستثناء ﴿فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ وقال آخرون: الاستثناء منقطع وإِبليس من الجن وليس من الملائكة وإِليه ذهب الحسن وقتادة واختاره الزمخشري، قال الحسن البصري: لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين، ونحن نرجح القول الثاني للأدلة الآتية: ١ - الملائكة منزهون عن المعصية ﴿لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ﴾ [التحريم: ٦] وإِبليس قد عصى أمر ربه ٢ - الملائكة خلقت من نور وإِبليس خلق من نار فطبيعتهما مختلفة ٣ - الملائكة لا ذرية لهم وإِبليس له ذرية ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي﴾ [الكهف: ٥٠] ؟ ٤ - النص الصريح الواضح في سورة الكهف على أنه من الجن وهو قوله تعالى ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ﴾ [الآية: ٥٠] وكفى به حجة وبرهاناً.
45
المنَاسَبَة: من بداية هذه الآية إلى آية /١٤٢/ ورد الكلام عن بني إسرائيل، وقد تحدث القرآن الكريم بالإِسهاب عنهم فيما يقرب من جزءٍ كامل، وذلك يدل على عناية القرآن بكشف حقائق اليهود، وإِظهار ما انطوت عليه نفوسهم الشريرة من خبثٍ وكيد وتدمير حتى يحذرهم المسلمون، أما وجه المناسبة فإِن الله تعالى لما دعا البشر إِلى عبادته وتوحيده، وأقام للناس الحجج الواضحة على وحدانيته ووجوده، ثم ذكّرهم بما أنعم به على أبيهم آدم عليه السلام، دعا بني إِسرائيل خصوصاً - وهم اليهود - إِلى الإِيمان بخاتم الرسل وتصديقه فيما جاء به عن الله، لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، وقد تفنّن في مخاطبتهم فتارة دعاهم بالملاطفة، وتارة بالتخويف، وتارة بالتذكير بالنعم عليهم وعلى آبائهم، وأخرى بإقامة الحجة والتوبيخ على سوء أعمالهم وهكذا انتقل من التذكير بالنعم العامة على البشرية في تكريم أبي الإِنسانية، إلى التذكير بالنعم الخاصة على بني إسرائيل.
اللغَة: اسم أعجمي ومعناه: عبد الله وهو اسم ﴿يعقوب﴾ عليه السلام، وقد
45
صرَّح به آل عمران ﴿إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ﴾ [الآية: ٩٣] ﴿وَأَوْفُواْ﴾ الوفاء: الإِتيان بالشيء على التمام والكمال، يقال أوفى ووفّى أي أداه وافياً تاماً. ﴿تَلْبِسُواْ﴾ اللَّبْس: الخلط تقول العرب: لبَسْتُ الشيء بالشيء خلطته، والتبس به اختلطَ، قال تعالى ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩] وفي المصباح: لَبِسَ الثواب من باب تعب لُبْساً بضم اللام، ولَبَسْتُ عليه الأمر لَبْساً من باب ضرب خلطته، والتبس الأمر: أشكل. ﴿الزكاة﴾ مشتقة من زكا الزرع يزكو أي نما لأن إخراجها يجلب البركة، أي هي من الزكاة أي الطهارة لأنها تطهر المال قال تعالى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: ١٠٦].
التفسير: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي يا أولاد النبي الصالح يعقوب ﴿اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ اذكروا ما أنعمت به عليكم وعلى آبائكم من نعم لا تعد ولا تحصى ﴿وَأَوْفُواْ بعهدي﴾ أي أدّوا ما عاهدتموني عليه من الإِيمان والطاعة ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ أي اخشوني دون غيري ﴿وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ﴾ من القرآن العظيم ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾ أي من التوراة في أمور التوحيد والنبوة ﴿وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ أي أول من كفر من أهل الكتاب فحقكم أن تكونوا أول من آمن ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي لا تستبدلوا بآياتي البينات التي أنزلتها عليكم حطام الدنيا الفانية ﴿وَإِيَّايَ فاتقون﴾ أي خافون دون غيري ﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل﴾ أي لا تخلطوا الحق المنزل من الله بالباطل الذي تخترعونه، ولا تحرفوا ما في التوراة بالهتان الذي تفترونه ﴿وَتَكْتُمُواْ الحق﴾ أي ولا تخفوا ما في كتابكم من أوصاف محمد عليه السلام ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه حق أو حال كونكم عالمين بضرر الكتمان ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاة واركعوا مَعَ الراكعين﴾ أي أدوا ما وجب عليكم من الصلاة والزكاة، وصلوا مع المصلين بالجماعة، أو مع أصحاب محمد عليه السلام.
البَلاَغة: أولاً: في إِضافة النعمة إِليه سبحانه ﴿نِعْمَتِيَ﴾ إِشارة إِلى عظم قدرها، وسعة بِرّها، وحسن موقعها لأن الإِضافة تفيد التشريف كقوله ﴿بَيتُ الله﴾ و ﴿نَاقَةُ الله﴾ [الأعراف: ٧٣].
ثانياً قوله ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي﴾ الشراء هنا ليس حقيقياً بل هو على سبيل الاستعارة كما تقدم في قوله ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ [البقرة: ١٦].
ثالثاً: تكرير الحق في قوله ﴿تَلْبِسُواْ الحق﴾ وقوله ﴿وَتَكْتُمُواْ الحق﴾ لزيادة تقبيح المنهي عنه إذ في التصريح ما ليس في الضمير من التأكيد ويسمى هذا الإِطناب أضعف من سواه.
رابعاً: قوله ﴿واركعوا مَعَ الراكعين﴾ هو من باب تسمية الكل باسم الجزء أي صلوا مع المصلين أطلق الركوع وأراد به الصلاة ففيه مجاز مرسل.
خامساً: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ و ﴿وَإِيَّايَ فاتقون﴾ يفيد الاختصاص.
فَائِدَة: قال بعض العارفين: عبيد النّعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكّر بني إِسرائيل بنعمه عليهم، حتى يعرفوا نعمة المنعم فقال ﴿اذكروا نِعْمَتِيَ﴾ وأما أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد
46
ذكّرهم بالمنعم فقال ﴿فاذكروني أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٢] ليتعرفوا من المنعم على النعمة وشتان بين الأمرين.
47
اللغَة: ﴿بالبر﴾ البِرُّ: سعة الخير والمعروف ومنه البرُّ والبِّرية للسعة، وهو اسم جامع لأعمال الخير، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما وفي الحديث «البِرُّ لا يبلى والذنب لا ينسى» ﴿وَتَنْسَوْنَ﴾ : تتركون والنسيان يأتي بمعنى الترك كقوله ﴿نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧] وهو المراد هنا ويأتي بمعنى ذهاب الشيء من الذاكرة كقوله ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ [طه: ١١٥] ﴿تَتْلُونَ﴾ : تقرءون وتدرسون ﴿الخاشعين﴾ الخاشع: المتواضع وأصله من الاستكانة والذل قال الزجاج: الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه، وخشعت الأصوات: سكنت ﴿يَظُنُّونَ﴾ الظنُّ هنا بمعنى اليقين لا الشك، وهو من الأضداد قال أبو عبيدة: العرب تقول لليقين ظنٌّ، وللشك ظن وقد كثر استعمال الظن بمعنى اليقين ومنه ﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٠] ﴿فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا﴾ [الكهف: ٥٣]، ﴿شَفَاعَةٌ﴾ الشفاعة مأخوذة من الشَّفع ضد الوتر، وهي ضم غيرك إلى جاهك وسيلتك ولهذا سميت شفاعة، فهي إِذاً إِظهارٌ لمنزلة الشفيع عند المشفّع ﴿عَدْلٌ﴾ بفتح العين فداء وبكسرها معناه: المِثْل يقال: عِدْل وعديل للذي يماثلك.
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن بني إِسرائيل، وفي هذه الآيات ذمٌ وتوبيخ لهم على سوء صنيعهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون الناس إِلى الهدى والرشاد ولا يتبعونه.
سَبَبُ النّزول: نزلت هذه الآية في بعض علماء اليهود، كانوا يقولون لأقربائهم الذين أسلموا: اثبتوا على دين محمد فإِنه حق، فكانوا يأمرون الناس بالإِيمان ولا يفعلونه.
التفِسير: يخاطب الله أحبار اليهود فيقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر﴾ أي أتدعون الناس إِلى الخير وإِلى الإيمان بمحمد ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي تتركونها فلا تؤمنون ولا تفعلون الخير ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب﴾ أي حال كونكم تقرءون التوراة وفيها صفة ونعت محمد عليه السلام ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أي أفلا تفطنون وتفقهون أن ذلك قبيح فترجعون عنه؟! ثم بيَّن لهم تعالى طريق التغلب على الأهواء والشهوات، والتخلص من حب الرياسة وسلطان المال فقال {
47
واستعينوا} أي اطلبوا المعونة على أموركم كلها ﴿بالصبر والصلاة﴾ أي بتحمل ما يشق على النفس من تكاليف شرعية، وبالصلاة التي هي عماد الدين ﴿وَإِنَّهَا﴾ أي الصلاة ﴿لَكَبِيرَةٌ﴾ أي شاقة وثقيلة ﴿إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾ أي المتواضعين المستكينين الذين صفت نفوسهم لله ﴿الذين يَظُنُّونَ﴾ أي يعتقدون اعتقاداً جازماً لا يخالجه شك ﴿أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ﴾ أي سيلقون ربهم يوم البعث فيحاسبهم على أعمالهم ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ أي معادهم إِليه يوم الدين. ثم ذكّرهم تعالى بنعمه وآلائه العديدة مرة أخرى فقال ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ بالشكر عليها بطاعتي ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ﴾ أي فضلت آباءكم ﴿عَلَى العالمين﴾ أي عالمي زمانهم بإِرسال الرسل، وإِنزال الكتب، وجعلهم سادة وملوكاً، وتفضيل الآباء شرفٌ للأبناء ﴿واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً﴾ أي خافوا ذلك اليوم الرهيب الذي لا تقضي فيه نفسٌ عن أخرى شيئاً من الحقوق ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ أي لا تقبل شفاعة في نفس كافرة بالله أبداً ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ أي لا يقبل منها فداء ﴿وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ أي ليس لهم من يمنعهم وينجيهم من عذاب الله.
ثانياً: أتى بالمضارع ﴿أَتَأْمُرُونَ﴾ وإِن كان قد وقع ذلك منهم لأن صيغة المضارع تفيد التجدد والحدوث، وعبّر عن ترك فعلهم بالنسيان ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ مبالغة في الترك فكأنه لا يجري لهم على بال، وعلقه بالأنفس توكيداً للمبالغة في الغفلة المفرطة، ولا يخفى ما في الجملة الحالية ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب﴾ من التبكيت والتقريع والتوبيخ.
ثالثاً: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين﴾ هو من باب عطف الخاص على العام لبيان الكمال، لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور، فلما قال ﴿اذكروا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: ٤٠] عمَّ جميع النعم فلما عطف ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ﴾ كان من باب عطف الخاص على العام.
رابعاً: ﴿واتقوا يَوْماً﴾ التنكير للتهويل أي يوماً شديد الهول، وتنكير النفس ﴿نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ﴾ ليفيد العموم والإقناط الكلي.
الفوَائِدَ: الفائدة الأولى: قال القرطبي: إِنما خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويهاً بذكرها وقد كان عليه السلام إِذ حزبه (أغمّه) أمرٌ فَزَع إلى الصلاة، وكان يقول: «أرحنا بها يا بلال»
الثانية: قال علي كرم الله وجهه: «قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك» ومن دعا غيره إِلى الهدى ولم يعمل به كان كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه قال الشاعر:
ابدأُ بنفسك فانهها عن غيّها فإِذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إِن وعظتَ ويقتدى بالرأي منك وينفع التعليم
وقال أبو العتاهية:
48
وقال آخر:
وصفتَ التُّقَى حتَّى كأَنَّك ذو تُقَى وريحُ الخطايا من ثيابك تَسْطَع
49
المنَاسَبَة: لما قدّم تعالى ذكر نعمه على بني إِسرائيل إِجمالاً، بيَّن بعد ذلك أقسام تلك النعم على سبيل التفصيل، ليكون أبلغ في التذكير وأدعى إِلى الشكر، فكأنه قال: اذكروا نعمتي، واذكروا إِذ نجيناكم من آل فرعون، واذكروا إِذ فرقنا بكم البحر.. إِلى آخره وكل هذه النعم تستدعي شكر المنعم جل وعلا لا كفرانه وعصيانه.
اللغة: ﴿آلِ فِرْعَوْنَ﴾ أصل «آل» أهل ولذلك يصغّر بأهيل فأبدلت هاؤه ألفاً، وخُصَّ استعماله بأولي الخطر والشأن كالملوك وأشباههم، فلا يقال آل الإِسكاف والحجام، ﴿فِرْعَوْنَ﴾ علمٌ لمن ملك العمالقة كقيصر لملك الروم وكسرى ملك الفرس، ولعتو الفراعنة اشتقوا تفرعن إذا عتا وتجبر ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ يذيقونكم من سامه إذا أذاقه وأولاه قال الطبري: يوردونكم ويذيقونكم. ﴿وَيَسْتَحْيُونَ﴾ يستبقون الإناث على قيد الحياة ﴿بلاء﴾ اختبار ومحنة، ويستعمل في الخير والشر كما قال تعالى ﴿وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥] ﴿فَرَقْنَا﴾ الفرق: الفصل والتمييز ومنه ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ﴾ [الإسراء: ١٠٦] أي فصلناه وميزناه بالبيان ﴿بَارِئِكُمْ﴾ الباري هو الخالق للشيء على غير مثال سابق، والبرية: الخلق.
التفِسير: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم﴾ أي اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم حين نجيت آباءكم ﴿مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ أي من بطش فرعون وأشياعه العتاة، والخطاب للأبناء المعاصرين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلا أن النعمة على الآباء نعمة على الأبناء ﴿يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب﴾ أي يولونكم ويذيقونكم أشد العذاب وأفظعه ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ﴾ أي يذبحون الذكور من الأولاد ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ﴾ أي يستبقون الإِناث على قيد الحياة للخدمة ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ أي فيما ذكر من العذاب المهين من الذبح والاستحياء، محنة واختبارٌ عظيم لكم من جهته تعالى بتسليطهم عليكم ليتميز البرُّ من الفاجر ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر﴾ أي اذكروا أيضاً إِذ فلقنا لكم البحر حتى ظهرت لكم الأرض اليابسة فمشيتم عليها {
49
فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أي نجيناكم من الغرق وأغرقنا فرعون وقومه ﴿وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ أي وأنتم تشاهدون ذلك فقد كان آية باهرة من آيات الله في إِنجاء أوليائه وإِهلاك أعدائه ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ أي وعدنا موسى أن نعطيه التوراة بعد أربعين ليلة وكان ذلك بعد نجاتكم وإِهلاك فرعون ﴿ثُمَّ اتخذتم العجل﴾ أي عبدتم العجل ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ أي بعد غيبته عنكم حين ذهب لميقات ربه ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ أي معتدون في تلك العبادة ظالمون لأنفسكم ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم﴾ أي تجاوزنا عن تلك الجريمة الشنيعة ﴿مِّن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي بعد ذلك الاتخاذ المتناهي في القبح ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي لكي تشكروا نعمة الله عليكم وتستمروا بعد ذلك على الطاعة ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان﴾ أي واذكروا نعمتي أيضاً حين أعطيت موسى التوراة الفارقة بين الحق والباطل وأيدته بالمعجزات ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي لكي تهتدوا بالتدبر فيها والعمل بما فيها من أحكام.
ثم بيَّنَ تعالى كيفية وقوع العفو المذكور بقوله ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي واذكروا حين قال موسى لقومه بعدما رجع من الموعد الذي وعده ربه فرآهم قد عبدوا العجل يا قوم لقد ظلمتم أنفسكم ﴿باتخاذكم العجل﴾ أي بعبادتكم للعجل ﴿فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ﴾ أي توبوا إِلى من خلقكم بريئاً من العيب والنقصان ﴿فاقتلوا أَنفُسَكُمْ﴾ أي ليقتل البريء منكم المجرم ﴿ذلكم﴾ أي القتل ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ﴾ أي رضاكم بحكم الله ونزولكم عند أمره خير لكم عند الخالق العظيم ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ أي قبل توبتكم ﴿إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم﴾ أي عظيم المغفرة واسع التوبة.
البَلاَغَة: قال ابن جزي: ﴿يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب﴾ أي يلزمونهم به وهو استعارة من السَّوْم في البيع وفسَّرَ سوء العذاب بقوله ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ﴾ ولذلك لم يعطفه هنا.
ثانياً: التنكير في كل من ﴿بلاء﴾ و ﴿عَظِيمٌ﴾ للتفخيم والتهويل.
ثالثاً: صيغة المفاعلة في قوله ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا﴾ ليست على بابها لأنها لا تفيد المشاركة من الطرفين، وإِنما هي بمعنى الثلاثي ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا﴾.
رابعاً: قال أبو السعود: ﴿فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ﴾ التعرض بذكر البارئ للإِشعار بأنهم بلغوا من الجهالة أقصاها ومن الغواية منتهاها، حيث تركوا عبادة العليم الحكيم، الذي خلقهم بلطيف حكمته، إِلى عبادة البقر الذي هو مثلٌ في الغباوة.
الفوَائِد: الأولى: العطف في قوله ﴿الكتاب والفرقان﴾ هو من باب عطف الصفات بعضها على بعض، لأن الكتاب هو التوراة والفرقان هو التوراة أيضاً وحسن العطف لكون معناه أنه آتاه جامعاً بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل.
الثانية: سبب تقتيل الذكور من بني إِسرائيل ما رواه المفسرون أن فرعون رأى في منامه كأنَّ ناراً
50
أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصر، وأحرقت كل قبطي بها ولم تتعرض لبني إِسرائيل فهاله ذلك وسأل الكهنة عن رؤياه فقالوا: يولد في بني إِسرائيل غلام يكون هلاكك وزوال ملكك على يده، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إِسرائيل.
الثالثة: قال القشيري: من صبر في الله على قضاء الله، عوّضه الله صحبة أوليائه، هؤلاء بنو إِسرائيل، صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه، فجعل منهم أنبياء، وجعل منهم ملوكاً، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين.
51
المنَاسَبَة: بعد أن ذكّرهم تعالى بالنعم، بيَّن لوناً من ألوان طغيانهم وجحودهم، وتبديلهم لأوامر الله، وهم مع الكفر والعصيان، يعاملون باللطف والإِحسان، فما أقبحهم من أمة وما أخزاهم!! قال الطبري: لما تاب بنو إِسرائيل من عبادة العجل أمر الله تعالى موسى أن يختار من قومه رجالاً يعتذرون، إِليه من عبادتهم العجل، فاختار موسى سبعين رجلاً من خيارهم كما قال تعالى ﴿واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا﴾ [الأعراف: ١٥٥] وقال لهم: صوموا وتطهروا وطهّر ثيابكم ففعلوا، وخرج بهم إلى «طور سيناء» فقالوا لموسى: اطلب لنا أن نسمع كلام ربنا فقال: افعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً، فسمعوا الله يكلم موسى يأمره وينهاه، فلما انكشف عن موسى الغمام أقبل إِليهم فقالوا لموسى ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً﴾.
اللغَة: ﴿جَهْرَةً﴾ علانية، وأصل الجهر: الظهور، ومن الجهر بالقراءة والجهر بالمعاصي يعني المظاهرة بها، تقول: رأيت الأمير جهاراً وجهرة أي غير مستتر بشيء، وقال ابن عباس: جهرةً عياناً: ﴿الصاعقة﴾ صيحة العذاب أو هي ار محرقة ﴿بَعَثْنَاكُم﴾ أحييناكم قال الطبري: وأصل البعث: إِثارة الشيء من محله ﴿الغمام﴾ جمع غمامة كسحابة وسحاب وزناً ومعنى، لأنها تغم السماء أي تسترها، وكل مغطّى فهو مغموم، وغُمَّ الهلال: إِذا غطّاه الغيم فلم ير ﴿حِطَّةٌ﴾ : مصدر من حطَّ
51
عنا ذنوبنا، وهي كلمة استغفار ومعناها: اغفر خطايانا. ﴿رِجْزاً﴾ عذاباً ومنه ﴿لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز﴾ [الأعراف: ١٣٤] أي العذاب ﴿يَفْسُقُونَ﴾ الفسق: الخروج عن الطاعة وقد تقدم.
التفسير: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى﴾ أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين خرجتم مع موسى لتعتذروا إِلى الله من عبادة العجل فقلتم ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ﴾ أي لن نصدّق لك بأنَّ ما نسمعه كلام الله ﴿حتى نَرَى الله جَهْرَةً﴾ أي حتى نرى الله علانية ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة﴾ أي أرسل الله عليهم ناراً من السماء فأحرقهم ﴿وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ أي ما حلّ بكم ثم لما ماتوا قام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إِسرائيل وقد أهلكت خيارهم، وما زال يدعو ربه حتى أحياهم قال تعالى ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ أي أحييناكم بعد أن مكثتم ميتين يوماً وليلة، فقاموا وعاشوا ينظر بعضهم إِلى بعض كيف يحيون ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي لتشكروا الله على إِنعامه عليكم بالبعث بعد الموت.
ثم ذكّرهم تعالى بنعمته عليهم وهم في التية لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم وقالوا لموسى ﴿فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا﴾ [المائدة: ٢٤] فَعُوقِبُوا على ذلك بالضياع أربعين سنة يتيهون في الأرض فقال تعالى: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام﴾ أي سترناكم بالسحاب من حر الشمس وجعلناه عليكم كالظُلَّة ﴿وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى﴾ أي أنعمنا عليكم بأنواعٍ من الطعام والشراب من غير كدٍّ ولا تعب، والمنُّ كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه، والسلوى، طير يشبه السماني لذديد الطعم ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أي وقلنا لهم كلوا من لذائذ نعم الله ﴿وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ أي أنهم كفروا هذه النعم الجليلة، وما ظلمونا ولكن ظلموا أنفسهم، لأن وبال العصيان راجع عليهم ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية﴾ أي واذكروا أيضاً نعمتي عليكم حين قلنا لكم بعد خروجكم من التيه، ادخلوا بيت المقدس ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً﴾ أي كلوا منها أكلاً واسعاً هنيئاً ﴿وادخلوا الباب سُجَّداً﴾ أي وادخلوا باب القرية ساجدين لله شكراً على خلاصكم من التيه ﴿وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾ أي قولوا يا ربنا حطَّ عنا ذنوبنا واغفر لنا خطايانا ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ أي نمح ذنوبكم ونكفّر سيئاتكم ﴿وَسَنَزِيدُ المحسنين﴾ أي نزيد من أحسن إحساناً، بالثواب العظيم، والأجر الجزيل ﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ﴾ أي غيَّر الظالمون أمر الله فقالوا ﴿قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ﴾ حيث دخلوا يزحفون على أستاههم أعني «أدبارهم» وقالوا على سبيل الاستهزاء: «حبة في شعيرة» وسخروا من أوامر الله ﴿فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء﴾ أي أنزلنا عليهم طاعونا وبلاءً ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ أي بسبب عصيانهم وخروجهم عن طاعة الله، روي أنه مات بالطاعون في ساعة واحدة منهم سبعون ألفاً.
البَلاغَة: أولاً: إِنما قيَّد البعث بعد الموت ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ لزيادة التأكيد على أنه موت حقيقي، ولدفع ما عساه يتوهم أن بعثهم كان بعد إِغماء أو بعد نوم.
ثانياً: في الآية إِيجاز بالحذف في قوله ﴿كُلُواْ﴾ أي قلنا لهم لكوا وفي قوله ﴿وَمَا ظَلَمُونَا﴾
52
تقديره فظلموا أنفسهم بأن كفروا وما ظلمونا بذلك دل على هذا الحذف قوله ﴿ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع ﴿ظَلَمُونَا﴾ و ﴿يَظْلِمُونَ﴾ للدلالة على تماديهم في الظلم واستمرارهم على الكفر.
ثالثاً: وضع الظاهرة مكان الضمير في قوله ﴿فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ﴾ ولم يقل «فأنزلنا عليهم» لزيادة التقبيح والمبالغة في الذم والتقريع، وتنكير ﴿رِجْزاً﴾ للتهويل والتفخيم.
تنبيه: قال الراغب: تخصيص قوله ﴿رِجْزاً مِّنَ السمآء﴾ هو أن العذاب ضربان: ضربً قد يمكن دفاعه وهو كل عذاب جاء على يد آدمي، أو من جهة المخلوقات كالهدم والغرق، وضربٌ لا يمكن دفاعه بقوة آدمي كالطاعون والصاعقة والموت وهو المراد بقوله ﴿رِجْزاً مِّنَ السمآء﴾.
53
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تعدّد النعم على بني إِسرائيل، وهذه إِحدى النعم العظيمة عليهم حين كانوا في التيه، وعطشوا عطشاً شديداً كادوا يهلكون معه، فدعا موسى ربه أن يغيثهم فأوحى الله إِليه أن يضرب بعصاه الحجر، فتفجرت منه عيون بقدر قبائلهم، وكانوا اثنتي عشرة قبيلة فجرى لكل منهم جدول خاص، يأخذون منه حاجتهم لا يشاركهم فيه غيرهم، وكان موضوع السقيا آية باهرة ومعجزة ظاهرة لسيدنا موسى عليه السلام ومع ذلك كفروا وجحدوا.
اللغَة: ﴿استسقى﴾ طلب السقيا لقومه لأن السين للطلب مثل: استنصر واستخبر قال أبو حيان: الاستسقاء: طلب الماء عند عدمه أو قلته، ومفعوله محذوف أي استسقى موسى ربّه ﴿فانفجرت﴾ الانفجار: الإِنشقاق ومنه سمي الفجر لانشقاق ضوئه، وانفجر وانبجس بمعنى واحد قال تعالى ﴿فانبجست مِنْهُ﴾ [الأعراف: ١٦٠]، ﴿مَّشْرَبَهُمْ﴾ جهة وموضع الشرب ﴿تَعْثَوْاْ﴾ العيث:
53
شدة الفساد، قال: عَثِيَ يعثَى: وعثَا يعثوا إِذا أفسد فهو عاثٍ، قال الطبري: معناه تطغوا وأصله شدة الإِفساد ﴿وَفُومِهَا﴾ الفوم: الثوم وقيل: الحنطة ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ﴾ الاستبدال: ترك شيء لآخر وأخذ غيره مكانه ﴿أدنى﴾ أخسَّ وأحقر يقال رجل دنيء إِذا كان يتتبع الخسائس ﴿الذلة﴾ الذل والهوان والحقارة ﴿والمسكنة﴾ الفاقة والخشوع مأخوذة من السكون لأن المسكين قليل الحركة لما به من الفقر ﴿وَبَآءُو﴾ رجعوا وانصرفوا قال الرازي: ولا يقال باء إِلا بشرّ ﴿يَعْتَدُونَ﴾ الإِعتداء: تجاوز الحد في كل شيء واشتهر في الظلم والمعاصي.
التفسير: ﴿وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ﴾ أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين طلب موسى السقيا لقومه وقد عطشوا في التيه ﴿فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر﴾ أي اضرب أيّ حجر كان تتفجر بقدرتنا العيون منه ﴿فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً﴾ أي فضرب فتدفق الماء منه بقوة وخرجت منه اثنتا عشرة عيناً بقدر قبائلهم ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ﴾ أي علمت كل قبيلة مكان شربها لئلا يتنازعوا ﴿كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله﴾ أي قلنا لهم: كلوا من المنّ والسلوى، واشربوا من هذا الماء، من غير كدّ منكم ولا تعب، بل هو من خالص إِنعام الله ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ أي ولا تطغوا في الأرض بأنواع البغي والفساد. ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى﴾ أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قلتم لنبيكم موسى وأنتم في الصحراء تأكلون من المن والسلوى ﴿لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ أي على نواع واحدٍ من الطعام وهو المنُّ والسلوى ﴿فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض﴾ أي ادع الله أن يرزقنا غير ذلك الطعام فقد سئمنا المنَّ والسلوى وكرهناه ونريد ما تخرجه الأرض من الحبوب والبقول ﴿مِن بَقْلِهَا﴾ من خضرتها كالنعناع والكرفس والكراث ﴿وَقِثَّآئِهَا﴾ يعني القتَّة التي تشبه الخيار ﴿وَفُومِهَا﴾ أي الثوم ﴿وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾ أي العدس والبصل المعروفان ﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ﴾ أي قال لهم موسى منكراً عليهم: ويحكم أتستبدلون الخسيس بالنفيس! وتفضلون البصل والبقل والثوم على المنّ والسلوى؟ ﴿اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ﴾ أي ادخلوا مصراً من الأمصار وبلداً من البلدان أيّاً كان لتجدوا فيه مثل هذه الأشياء.
. ثم قال تعالى منبهاً على ضلالهم وفسادهم وبغيهم وعدوانهم ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة﴾ أي لزمهم الذل والهوان وضرب عليهم الصغار والخزي الأبدي الذي لا يفارقهم مدى الحياة ﴿وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾ أي انصرفوا ورجعوا بالغضب والسخط الشديد من الله ﴿ذَلِكَ﴾ أي ما نالوه من الذل والهوان والسخط والغضب بسبب ما اقترفوه من الجرائم الشنيعة ﴿بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق﴾ أي بسبب كفرهم بآيات الله جحوداً واستكباراً، وقتلهم رسل الله ظلماً وعدواناً ﴿ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ أي بسبب عصيانهم وطغيانهم وتمردهم عَلى أحكام الله ثمَّ دعا تعالى أصحاب الملل والنحل «المؤمنين، واليهود، والنصارى، والصابئين» إِلى الإِيمان الصادق وإخلاص العمل لله وساقه بصيغة الخبر فقال ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ﴾ المؤمنون أتباع محمد ﴿والذين هَادُواْ﴾ أتباع موسى ﴿والنصارى﴾ أتباع عيسى ﴿والصابئين﴾ قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة ﴿مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر﴾
54
أي من آمن من هذه الطوائف إِيماناً صادقاً فصدَّق بالله، وأيقن بالآخرة ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ أي عمل بطاعة الله في دار الدنيا ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي لهم ثوابهم عند الله لا يضيع منه مثقال ذرة ﴿وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي ليس على هؤلاء المؤمنين خوف في الآخرة، حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب.
البَلاَغَة: أولاً: في إِضافة الرزق إِلى الله تعالى ﴿كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله﴾ تعظيمٌ للمنَّة والإِنعام وإِيماء إِلى أنه رزقٌ من غير تعب ولا مشقة.
ثانياً: في التصريح بذكر الأرض ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض﴾ مبالغةٌ في تقبيح الفساد وقوله ﴿مُفْسِدِينَ﴾ حالٌ مؤكدة ووجه فصاحة هذا الأسلوب أن المتكلم قد تشتد عنايته بأن يجعل الأمر أو النهي لا يحوم حوله لبسٌ أو شك، ومن مظاهر هذه العناية التوكيد فقوله ﴿مُفْسِدِينَ﴾ يكسو النهي عن الفساد قوة، ويجعله بعيداً من أن يُغفل عنه أن يُنسى.
ثالثاً: قوله تعالى ﴿مِمَّا تُنْبِتُ الأرض﴾ المنبت الحقيقي هو الله سبحانه ففيه جاز يسم (المجاز العقلي) وعلاقته السببية لأن الأرض لما كانت سبباً للنبات أُسند إِليها.
رابعاً: قوله ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة﴾ كناية عن إحاطتهما بهم كما تحيط القبَّة بمن ضربت عليه كما قال الشاعر:
وغيرُ تَقيٍّ يأْمر النَّاسَ بالتُّقَى طَبيبٌ يداوي النَّاس وهُوَ عليل
إِن السماحة والمروءة والندى في قبَّة ضربت على ابن الحشرج
خامساً: تقييد قتل الأنبياء بقوله ﴿بِغَيْرِ الحق﴾ مع أن قتلهم لا يكون بحق البتَّة إِنما هو لزيادة التشنيع بقبح عدوانه.
الفوَائِد: الأولى: حكى المفسرون أقوالاً كثيرة في الحجر الذي ضربه موسى فجرت منه العيون ما هو؟ وكيف وصفه؟ وقد ضربنا صفحاً عن هذا الأقوال والذي يكفي في فهم معنى الآية أن واقعة انفجار الماء إِنما كان على وجه «المعجزة» وأن الحجر الذي ضربه موسى كان من الصخر الأصم الذي ليس من شأنه الانفجار بالماء، وهنا تكون المعجزة أوضح، والبرهان أسطع قال الحسن البصري: لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه قال: وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة.
الثانية: فإِن قيل ما الحكمة في جعل الماء اثنتي عشرة عيناً؟ والجواب: أن قوم موسى كانوا كثيرين وكانوا في الصحراء، والناس إِذا اشتدت بهم الحاجة إِلى الماء ثم وجدوه فإنه يقع بينهم تشاجر وتنازع، فأكمل الله هذه النعمة بأن عيّن لكل سبط منهم ماءً معيناً على عددهم لأنهم كانوا اثني عشر سبطاً، وهم ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر والله أعلم.
الثالثة: ذهب بعض المفسرين إِلى أن المراد بالفوم في قوله ﴿وَفُومِهَا﴾ الحنطة والأرجح أن المراد به الثوم بدليل قراءة ابن مسعود ﴿وثومها﴾ وبدليل اقتران البصل بعده قال الفخر الرازي:
55
الثوم أوفق للعدس والبصل من الحنطة، واستدل القرطبي على ذلك بقول حسان:
وأنتم أُناسٌ لئامُ الأصول طعامكم الفوم والحوقل
يعني الثوم والبصل.
56
المنَاسَبَة: لمّا ذكرهم تعالى بالنعم الجليلة العظيمة، أردف ذلك ببيان ما حلَّ بهم من نقم، جزاء كفرهم وعصيانهم وتمردهم على أوامر الله، فقد كفروا النعمة، ونقضوا الميثاق، واعتدوا في السبت فمسخهم الله إِلى قردة، وهكذا شأن كل أمةٍ عتت عن أمر ربها وعصت رسله.
اللغَة: ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ الميثاق: العهد المؤكد بيمين ونحوه، والمراد به هنا العمل بأحكام التوراة ﴿الطور﴾ هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام ﴿بِقُوَّةٍ﴾ بحزمٍ وعزم ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾ التولي: الإِعراض عن الشيء والإِدبار عنه ﴿خَاسِئِينَ﴾ جمع خاسئ وهو الذليل المهين قال أهل اللغة: الخاسئ: الصاغر المبعد المطرود كالكلب إِذا دنا من الناس قيل له: اخسأ أي تباعد وانطرد صاغراً. ﴿نَكَالاً﴾ النكال: العقوبة الشديدة الزاجرة ولا يقال لكل عقوبة نكالٌ حتى تكون زاجرة رادعة.
التفِسير: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين أخذنا منكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور﴾ أي نتفناه حتى أصبح كالظلة فوقكم وقلنا لكم ﴿خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ﴾ أي اعملوا بما في التوراة بجد وعزيمة ﴿واذكروا مَا فِيهِ﴾ أي احفظوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي لتتقوا الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، أو رجاء منكم أن تكونوا من فريق المتقين ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذلك﴾ أأعرضتم عن الميثاق بعد أخذه ﴿فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ﴾ أي بقبول التوبة ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ بالعفو عن الزلة ﴿لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين﴾ أي لكنتم من الهالكين في الدنيا والآخرة ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت﴾ أي عرفتم ما فعلنا بمن عصى أمرنا حين خالفوا واصطادوا يوم السبت وقد نهيناهم عن ذلك ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ أي مسخناهم قردة بعد أن كانوا بشراً مع الذلة والإِهانة ﴿فَجَعَلْنَاهَا﴾ أي المسخة ﴿نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾ أي عقوبة زاجرة لمن يأتي بعدها من الأمم ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾ أي جعلنا مسخهم قردة عبرة لمن شهدها
56
وعاينها وعبرة لمن جاء بعدها ولم يشاهدها ﴿وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أي عظةً وذكرى لكل عبدٍ صالحٍ متّقٍ لله سبحانه وتعالى.
البَلاَغَة: أولاً: ﴿خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ﴾ فيه إِيجاز بالحذف أي قلنا لهم خذوا فهو كما قال الزمخشري على إرادة القول.
ثانياً: ﴿كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ خرج الأمر عن حقيقته إِلى معنى الإِهانة والتحقير، وقال بعض المفسرين: هذا أمر تسخيرٍ وتكوين، فهو عبارة عن تعلق القدرة بنقلهم من حقيقة البشرية إِلى حقيقة القردة.
ثالثاً: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ كناية عمن أتى قبلها أو أتى بعدها من الأمم والخلائق، أو عبرة لمن تقدم ومن تأخر.
الفوَائِد: الأولى: قال القفال: إِنما قال ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ ولم يقل «مواثيقكم» لأنه أراد ميثاق كل واحدٍ منكم كقوله
﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ [غافر: ٦٧] أي يخرج كل واحدٍ منكم طفلاً.
الثانية: قال بعض أهل اللطائف: كانت نفوس بني إِسرائيل من ظلمات عصيانها تخبط في عشواء حالكة الجلباب، وتخطر من غلوائها وعلوّها في حلتي كبرٍ وإِعجاب، فلما أُمروا بأخذ التوراة ورأوا ما فيها من أثقال ثارت نفوسهم فرفع الله عليهم الجبل فوجدوه أثقل مما كلِّفوه، فهان عليهم حمل التوراة قال الشاعر:
إِلى الله يُدعَى بالبراهينِ من أَبى فإِن لم يُجبْ نادته بيض الصَّوارم
الثالثة: إِنما خصَّ المتقين بإِضافة الموعظة إِليهم ﴿وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ لأنهم هم الذين ينتفعون بالعظة والتذكير قال تعالى ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين﴾ [الذاريات: ٥٥].
57
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى بعض قبائح اليهود وجرائمهم، من نقض المواثيق، واعتدائهم في السبت، وتمردهم على الله عَزَّ وَجَلَّ في تطبيق شريعته المنزلة، أعقبه بذكر نوعٍ آخر من مساوئهم ألا وهو مخالفتهم للأنبياء وتكذيبهم لهم، وعدم مسارعتهم لامتثال الأوامر التي يوحيها الله إِليهم، ثم كثرة اللجاج والعناد للرسل صلوات الله عليهم، وجفاؤهم في مخاطبة نبيهم الكريم موسى عليه السلام، إلى آخر ما هنالك من قبائح ومساوئ.
اللغَة: ﴿هُزُواً﴾ الهزؤ: السخرية بضم الزاي وقلب الهمزة واواً ﴿هُزُواً﴾ مثل ﴿كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤] والمعنى على حذف مضاف أي أأتخذنا موضع هزؤ، أو يحمل المصدر على معنى اسم المفعول أي أتجعلنا مهزوءاً بنا ﴿فَارِضٌ﴾ الفارض: الهزمة المسنة التي كبرت وطعنت في السن كذا في لسان العرب قال الشاعر:
لعمري لقد أعطيتَ ضيفك فارضاً تُساق إِليه ما تقوم على رجل
ولم تعطه بكراً فيرضى سمينةً فكيف تُجازى بالمودة والفضل؟
﴿عَوَانٌ﴾ وسط ليست بمسنَّة ولا صغيرة، وقيل هي التي ولدت بطناً أو بطنين، ﴿فَاقِعٌ﴾ الفقوع: شدة الصفرة يقال: أصفر فاقع أي شديد الصفرة كما يقال: أحمر قانٍ أي شديد الحمرة قال الطبري: وهو نظير النصوع في البياض ﴿ذَلُولٌ﴾ أي مذللة للعمل يقال: دابة ذلول أي ريّضة زالت صعوبتها فقوله ﴿لاَّ ذَلُولٌ﴾ أي لم تذلّل لإِثارة الأرض أي لحرثها ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ من السلامة أي خالصة ومبرأة من العيوب ﴿شِيَةَ﴾ الشِّية: اللمعة المخالفة لبقية اللون الأصلي قال الطبري: ﴿لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾ أي لا بياض ولا سواد يخالف لونها ﴿فادارأتم﴾ أي تدافعتم واختلفتم وتنازعتم وأصلها تدارأتم أدغمت التاء في الدال، وأُتي بهمزة الوصل ليتوصل بها إِلى النطق بالسكن فصار أدّارأتم، ومعنى الدرء: الدفع لأن كلاً من الفريقين كان يدرأ على الآخر أي يدفع وفي الحديث «ادرءوا الحدود بالشبهات» ﴿قَسَتْ﴾ القسوة: الصلابة ونقيضها الرقة ﴿يَشَّقَّقُ﴾ التشقق: التصدع بطولٍ أو عرض ﴿يَهْبِطُ﴾ الهبوط: النزول من أعلى إِلى أسفل.
«معجزة إحياء الميت وقصة البقرة»
ذكر القصة: روى ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني قال: «كان رجل من بني إِسرائيل عقيماً لا يولد له وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلاً فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنُّهى: علام يقتل بعضنا بعضاً وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له فقال: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾ قال: ولو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شدّدوا فشدَّد الله
58
عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فاشتروها بملء جلدها ذهباً فذبحوها فضربوه ببعضها فقام، فقالوا: من قتلك؟ قال: هذا وأشار على ابن أخيه ثم مال ميتاً، فلم يعط من ماله شيئاً فلم يورث قاتل بعد» وفي رواية «فأخذوا الغلام فقتلوه».
التفسير: ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾ أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قال لكم نبيكم موسى إِن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴿قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً﴾ أي فكان جوابكم الوقح لنبيكم أن قلتم: أتهزأ بنا يا موسى ﴿قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ أي ألتجئ إلى الله أن أكون في زمرة المستهزئين الجاهلين ﴿قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ﴾ أي ما هي هذه البقرة وأي شيء صفتها؟ ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ﴾ أي لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة لم يلقحها الفحل ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ أي وسط بين الكبيرة والصغيرة ﴿فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ﴾ أي افعلوا ما أمركم به ربكم ولا تتعنتوا ولا تشدّدوا فيشدّد الله عليكم ﴿قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا﴾ أي ما هو لونها أبيض أم أسود أم غير ذلك؟ ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ الناظرين﴾ أي إِنها بقرة صفراء شديدة الصفرة، حسن منظرها تسر كل من رآها. ﴿قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ﴾ أعادوا السؤال عن حال البقرة بعد أن عرفوا سنها ولونها ليزدادوا بياناً لوصفها، ثم اعتذروا بأن البقر الموصوف بكونه عواناً وبالصفرة الفاقعة كثيرٌ ﴿إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ أي التبس الأمر علينا فلم ندر ما البقرة المأمور بذبحها ﴿وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ﴾ أي سنتهدي إِلى معرفتها إِن شاء الله، ولو لم يقولوا ذلك لم يهتدوا إِليها أبداً كما ثبت في الحديث ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث﴾ أي ليست هذه البقرة مسخرة لحراثة الأرض، ولا لسقاية الزرع ﴿مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾ أي سليمة من العيوب ليس فيها لونٌ آخر يخالف لونها فهي صفراء كلها ﴿قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق﴾ أي الآن بينتها لنا بياناً شافياً لا غموض فيه ولا لبس قال تعالى
إِخباراً عنهم ﴿وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة ثم أخبر تعالى عن سبب أمرهم بذبح البقرة، وعما شهدوه من آيات الله الباهرة، فقال ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً﴾ أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قتلتم نفسا ﴿فادارأتم فِيهَا﴾ أي تخاصتم وتدافعتم بشأنها، وأصبح كل فريق يدفع التهمة عن نفسه وينسبها لغيره ﴿والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ أي مظهر ما تخفونه ﴿فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا﴾ أي اضربوا القتيل بشيء من البقرة يحيا ويخبركم عن قاتله ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى﴾ أي كما أحيا هذا القتيل أمام أبصاركم يحي الموتى من قبورهم ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي يريكم دلائل قدرته لتتفكروا وتتدبروا وتعلموا أن الله على كل شيء قدير.
ثم أخبر تعالى عن جفائهم وقسوة قلوبهم فقال ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أي صلبت قلوبهم يا معشر اليهود فلا يؤثر فيها وعظٌ ولا تذكير ﴿مِّن بَعْدِ ذلك﴾ أي من بعد رؤية المعجزات الباهرة ﴿فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ أي بعضها كالحجارة وبعضها أشد قسوة من الحجارة كالحديد ﴿وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار﴾ أي تتدفق منها الأنهار الغزيرة {وَإِنَّ مِنْهَا
59
لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء} أي من الحجارة ما يتصدع إِشفاقاً من عظمة الله فينبع منه الماء ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله﴾ أي ومنها ما يتفتت ويتردّى من رءوس الجبال من خشية الله، فالحجارة تلين وتخشع وقلوبكم يا معشر اليهود لا تتأثر ولا تلين ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي أنه تعالى رقيب على أعمالهم لا تخفى عليه خافية، وسيجازيهم عليها يوم القيامة، وفي هذا وعيد تهديد.
البَلاَغَة: أولاً: قوله تعالى ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ من إِيجاز القرآن أن حذف من صدر هذه الجملة جملتين مفهومتين من نظم الكلام والتقدير: فطلبوا البقرة الجامعة للأوصاف السابقة وحصلوها، فلما اهتدوا إِليها ذبحوها وهذا من الإِيجاز بالحذف.
ثانياً: قوله تعالى ﴿والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ هذه الجملة اعتراضية بين قوله ﴿فادارأتم﴾ وقوله ﴿فَقُلْنَا اضربوه﴾ والجملة المعترضة بين ما شأنهما الاتصال تجيء تحلية يزداد بها الكلام البليغ حسناً، وفائدة الاعتراض هنا إِشعار المخاطبين بأن الحقيقة ستنجلي لا محالة.
ثالثاً: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ وصف القلوب بالصلابة والغلظ يراد منه نبُوُّها عن الاعتبار، وعدم تأثرها بالمواعظ ففيه استعارة تصريحية قال أبو السعود: القسوة عبارة عن الغلظ والجفاء والصلابة كما في الحجر استعيرت لِنُبُوِّ قلوبهم عن التأثر بالعظات والقوارع يالتي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور.
رابعاً: ﴿فَهِيَ كالحجارة﴾ فيه تشبيه يسمى (مرسلاً مجملاً) لأن أداة الشبه المذكورة ووجه الشبه محذوف.
خامساً: ﴿لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار﴾ أي ماء الأنهار، والعرب يطلقون اسم المحل كالنهر على الحال فيه كالماء والقرينة ظاهرة لأن التفجر إِنما يكون للماء ويسمى هذا مجازاً مرسلاً.
الفوَائِد: الفائدة الأولى: نبه قوله تعالى ﴿قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ على أن الاستهزاء بأمرٍ من أمورالدين جهل كبير، وقد منع المحققون من أهل العلم استعمال الآيات كأمثال يضربونها في مقام المزح والهزل، وقالوا إِنما أنزل القرآن للتدبر والخشوع لا للتسلي والتفكه والمزاح.
الثانية: الخطاب في قوله ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً﴾ لليهود المعاصرين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد جرى على الأسلوب المعروف في مخاطبة الأقوام، إِذ ينسب إِلى الخلف ما فعل السلف إِذا كانوا سائرين على نهجهم، راضين بفعلهم، وفيه توبيخ وتقريع للغابرين والحاضرين.
الثالثة: هذه الواقعة واقعة (قتل النفس) جرت قبل أمرهم بذبح البقرة، وإن وردت في الذكر بعده، والسرُّ في ذلك التشويق إِلى معرفة السبب في ذبح البقرة، والتكرير في التقريع والتوبيخ قال العلامة ابن السعود، وإِنما غُيِّر الترتيب لتكرير التوبيخ وتثنية التقريع، فإن كل واحدٍ من قتل النفس
60
المحرمة، والاستهزاء بموسى عليه السلام والافتيات على أمره جناية عظيمة جديرة بأن تنعى عليهم.
الرابعة: ذكر تعالى إِحياء الموتى في هذه السورة الكريمة في خمسة مواضع: أ - في قوله ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ [البقرة: ٥٦] ب - وفي هذه القصة ﴿فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا﴾ ج - وفي قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ﴿فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٣] د - وفي قصة عزير ﴿فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ [البقرة: ٢٥٩] هـ وفي قصة إبراهيم ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾ [البقرة: ٢٦٠].
الخامسة: ﴿أوْ﴾ في قوله تعالى ﴿كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ بمعنى «بَلْ» أي بل أشد قسوة كقوله تعالى ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧] وقال بعضهم: هي للترديد، أو التخيير فمن عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى كالحديد، ومن لم يعرفها شبهها بالحجارة أو قال: هي أقسى من الحجارة.
السادسة: ذهب بعض المفسرين إلى أن الخشية هنا حقيقية، وأن الله تعالى جعل لهذه الأحجار خشية بقدرها كقوله تعالى ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤] وقال آخرون: بل هو من باب المجاز كقول القائل: قال الحائط للمسمار لم تشقني؟ قال: سل من يدقني والله أعلم؟
61
المناسَبَة: لما ذكر تعالى عناد اليهود، وعدم امتثالهم لأوامرالله تعالى، ومجادلتهم للأنبياء الكرام، وعدم الانقياد والإِذعا، عقَّب ذلك بذكر بعض القبائح والجرائم التي ارتكبوها كتحريف
61
كلام الله تعالى، وادعائهم بأنهم أحباب الله، وأن النارلن تمسَّهم إِلا بضعة أيام قليلة، إلى آخر ما هم عليه من أماني كاذبة ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وقد بدأ تعالى الآيات بتيئيس المسلمين من إِيمانهم لأنهم فطروا على الضلال، وجبلوا على العناد والمكابرة.
اللغَة: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ الطمع: تعلق النفس بشيء مطلوب تعلقاً قوياً، فإِذا اشتد فهو طمع، وإِذا ضعف كان رجاءً ورغبةً ﴿فَرِيقٌ﴾ الفريق: الجماعة وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه كالرهط والقوم ﴿يُحَرِّفُونَهُ﴾ التحريف: التبديل والتغيير وأصله من الانحراف عن الشيء ﴿عَقَلُوهُ﴾ عقل الشيء أدركه بعقله والمراد فهموه وعرفوه ﴿أُمِّيُّونَ﴾ جمع أمي وهو الذي لا يحسن القراءة والكتابة، سميَّ بذلك نسبة إِلى الأم، لأنه باقٍ على ما ولدته عليه أمه من عدم المعرفة ﴿أمانيّ﴾ جمع أمنية وهي ما يتمناه الإِنسان ويشتهيه، أو يقدّر في نفسه من مُنى ولذلك تطلق على الكذب قال أعرابي لإِنسان: «أهذا شيء رأيته أم تمنيته» أي اختلقته، وتأتي بمعنى قرأ قال حسان: تمنّى كتاب الله أول ليلة ﴿فَوَيْلٌ﴾ الويل: الهلاك والدماء وقيل: الفضيحة والخزي، وهي كلمة تستعمل في الشر والعذاب قال القاضي: هي نهاية الوعيد والتهديد كقوله ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾ [المطففين: ١] وقال سيبويه: ويلٌ لمن وقع في الهلكة، وويح لمن أشرف عليها.
سَبَبُ النّزول: ١ - نزلت في الأنصار كانوا حلفاء لليهود وبينهم جوارٌ ورضاعة وكانوا يودون لو أسلموا فأنزل الله تعالى ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ﴾ الآية.
٢ - وروى مجاهد عن ابن عباس أن اليهود كانوا يقولون: إِن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإِنما نُعذب بكل ألف سنة يوماً في النار، وإِنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى ﴿لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾.
التفِسير: يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين فيقول ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ﴾ أي أترجون يا معشر المؤمنين أن يسلم اليهود ويدخلوا في دينكم ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله﴾ أي والحال قد كان طائفة من أحبارهم وعلمائهم يتلون كتاب الله ويسمعونه بيناً جلياً ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ أي يغيّرون آيات التوراة بالتبديل أو التأويل، من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنهم يرتكبون جريمة أي أنهم يخالفونه على بصيرة لا عن خطأ أو نسيان ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا﴾ أي إِذا اجتمعوا بأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال المنافقون من اليهود آمنا بأنكم على الحق، وأن محمداً هو الرسول المبشَّر به ﴿وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ﴾ أي إذا انفرد واختلى بعضهم ببعض ﴿قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ﴾ أي قالوا عاتبين عليهم أتخبرون أصحاب محمد بما بيَّن الله لكم في التوراة من صفة محمد عليه السلام ﴿لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ أي لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة في ترك اتباع الرسول مع العلم بصدقه ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ ؟ أي أفليست لكم عقول تمنعكم من أن تحدثوهم بما يكون لهم في حجة عليكم؟ والقائلون ذلك هم اليهود لمن نافق منهم
62
قال تعالى رداً عليهم وتوبيخاً ﴿أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أي ألا يعلم هؤلاء اليهود أن الله يعلم ما يخفون وما يظهرون، وأنه تعالى لا تخفى عليه خافية، فكيف يقولون ذلك ثم يزعمون الإِيمان!!
ولما ذكر تعالى العلماء الذين حرّفوا وبدّلوا، ذكر العوام الذين قلدوهم ونبّه أنهم في الضلال سواء فقال: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب﴾ أي ومن اليهود طائفة من الجهلة العوامّ، الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ليطلعوا على ما في التوراة بأنفسهم ويتحققوا بما فيها ﴿إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ أي إِلاَّ ما هم عليه من الأماني التي منّاهم بها أحبارهم، من أن الله يعفو عنهم ويرحمهم، وأن النار لن تمسهم إِلا أياماً معدودة، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، إلى غير ما هنالك من الأماني الفارغة ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ أي ما هم على يقين من أمرهم، بل هم مقلّدون للآباء تقليد أهل العمى والغباء.
ثم ذكر تعالى جريمة أولئك الرؤساء المضلّين، الذين أضلّوا العامة في سبيل حطام الدنيا فقال ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ﴾ أي هلاك وعذاب لأولئك الذين حرّفوا التوراة، وكتبوا تلك الآيات المحرفة بأيديهم ﴿ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله﴾ أي يقولون لأتباعهم الأميين هذا الذي تجدونه هو من نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام، مع أنهم كتبوها بأيديهم ونسبوها إِلى الله كذباً وزوراً ﴿لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي لينالوا به عرض الدنيا وحطامها الفاني ﴿فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي فشدة عذاب لهم على ما فعلوا من تحريف الكتاب ﴿وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ أي وويل لهم مما يصيبون من الحرام والسحت ﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ أي لن ندخل النار إِلا أياماً قلائل، هي مدة عبادة العجل، أو سبعة أيام فقط ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً﴾ أي قل لهم يا محمد على سبيل الإِنكار والتوبيخ: هل أعطاكم الله الميثاق والعهد بذلك؟ فإذا كان قد وعدكم بذلك ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ﴾ لأن الله لا يخلف الميعاد ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي أم تكذبون على الله فتقولون عليه ما لم يقله، فتجمعون بين جريمة التحريف لكلام الله، والكذب والبهتان عليه جل وعلا.
ثم بيَّن تعالى كذب اليهود، وأبطل مزاعمهم بأن النار لن تمسهم وأنهم لا يخلدون فيها فقال: ﴿بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ أي بلى تمسكم النار وتخلدون فيها، كما يخلد الكافر الذي عمل الكبائر، وكذلك كل من اقترف السيئات ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته﴾ أي غمرته من جميع جوانبه، وسدّت عليه مسالك النجاة، بأن فعل مثل فعلكم أيها اليهود ﴿فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي فالنار ملازمة لهم لا يخرجون منها أبداً ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي وأما المؤمنون الذين جمعوا بين الإِيمان، والعمل الصالح فلا تمسهم النار، بل هم في روضات الجنات يحبرون ﴿أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي مخلدون في الجنان لا يخرجون منها أبداً، اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.
البَلاَغَة: أولاً: قوله ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ جملة مفيدة لكمال قبح صنيعهم، فتحريفهم للتوراة كان عن قصد وتصميم لا عن جهل أو نسيان، ومن يرتكب المعصية عن علم يستحق الذم والتوبيخ أكثر ممن يرتكبها وهو جاهل.
63
ثانياً: قوله ﴿يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ﴾ ذكر الأيدي هنا لدفع توهم المجاز، وللتأكيد بأن الكتابة باشروها بأنفسهم كما يقول القائل: كتبته بيميني، وسمعته بأذني.
ثالثاً: قوله ﴿مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ فيه من المحسّنات البديعية ما يسمى ب (الطباق) حيث جمع بين لفظتي «يسرون» و «يعلنون» وهو من نوع طباع الإِيجاب.
رابعاً: التكرير في قوله ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ﴾ وقوله ﴿فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ وقوله ﴿وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ للتوبيخ والتقريع ولبيان أن جريمتهم بلغت من القبح والشناعة الغاية القصوى.
خامساً: قوله ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته﴾ هو من باب الاستعارة حيث شبّه الخطايا بجيش من الأعداء نزل على قوم من كل جانب فأحاط به إِحاطة السوار بالمعصم، واستعار لفظة الإِحاطة لغلبة السيئات على الحسنات، فكأنها أحاطت بها من جميع الجهات.
الفَوائِد: الفائدة الأولى: تحريف كلام الله يصدق بتأويله تأويلاً فاسداً، ويصدق بمعنى التغيير وتبديل كلام بكلام، وقد وقع من أحبار اليهود التحريف بالتأويل، وبالتغيير، كما فعلوا في صفته عليه السلام قال العلامة أبو السعود: روي أن أحبار اليهود خافوا زوال رياستهم فعمدوا إِلى صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة وكانت هي فيها «حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العينين، أبيض ربعة» فغيرّوها وكتبوا مكانها «طوال، أزرق، سبط الشعر» فإِذا سألهم العامة عن ذلك قرءوا ما كتبوا فيجدونه مخالفاً لما في التوراة فيكذبونه.
الثانية: التحريف بقسمية وقع في الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل كما قال تعالى ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ [النساء: ٤٦] أما التحريف بمعنى التأويل الباطل فقد وقع في القرآن من الجهلة أو الملاحدة، وأما التحريف بمعنى إِسقاط الآية ووضع كلام بدلها فقد حفظ الله منه كتابه العزيز
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
الثالثة: روى البخاري عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال «لما فتحت خيبراً أهديت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شاةٌ فيها سمٌّ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اجمعوا لي من كان من اليهود هنا، فقال لهم رسول الله: مَنْ أبوكم؟ قالوا: فلان قال: كذبتم بل أبوكم فلان فقالوا: صدقتَ وبررت ثم قال لهم: هل أنتم صادقيَّ عن شيء إِن سألتكم عنه؟ قالوا نعم يا أبا القاسم، وإِن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفنا في أبينا، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبداً، ثم قال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هل أنتم صادقيَّ عن شيء إِن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ فقالوا نعم قال: فما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إِن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإِن كنت نبياً لم يضرك».
64
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تعدّد جرائم اليهود، وفي هذه الآيات أمثلة صارخة على عدوانهم وطغيانهم وإِفسادهم في الأرض، فقد نقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة، وقتلوا النفس التي حرّم الله، واستباحوا أكل أموال الناس بالباطل، واعتدوا على إِخوانهم في الدين فأخرجوهم من الديار، فاستحقوا اللعنة والخزي والدمار.
اللغَة: ﴿مِيثَاقَ﴾ الميثاق: العهد المؤكد باليمين غاية التأكيد، فإِن لم يكن مؤكداً سمى عهداً ﴿حُسْناً﴾ الحُسْنُ: اسم عام جامعٌ لمعاني الخير، ومنه لين القول، والأدب الجميل، والخلق الكريم، وضده القُبْح والمعنى: قولوا قولاً حُسْناً فهو صفة لمصدر محذوف ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾ التولّي عن الشيء: الإِعراضُ عنه ورفضُه وعدم قبوله كقوله ﴿عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا﴾ [النجم: ٢٩] وفرّق بعضهم بين التولي والإِعراض فقال: التولي بالجسم، والإِعراضُ بالقلب ﴿تَظَاهَرُونَ﴾ تتعاونون وهو مضارع حذف منه أحد التاءين، كأن المتظاهرين يسند كل واحد منهما ظهره إِلى الآخر، والظهير: المعنى ﴿الإثم﴾ الذنب الذي يستحق صاحبه الملامة وجمعه آثام ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ تجاوز الحد في الظلم ﴿خِزْيٌ﴾ الخزي: الهوان والمقت والعقوبة.
التفِسير: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ﴾ أي اذكروا حين أخذنا على أسلافكم يا معشر اليهود العهد المؤكد غاية التأكيد ﴿لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله﴾ بأن لا تعبدوا غير الله ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ أي وأمرناهم بأن يحسنوا إِلى الوالدين إِحساناً ﴿وَذِي القربى واليتامى والمساكين﴾ أي وأن يحسنوا أيضاً إلى الأقرباء، واليتامى الذين مات آباؤهم وهم صغار، والمساكين الذين عجزوا عن الكسب ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ أي قولاً حسناً بخفض الجناح، ولين الجانب، مع الكلام الطيّب ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ أي صلوا وزكّوا كما فرض الله عليكم من أداء الركنين العظيمين «الصلاة، والزكاة»
65
لأنهما أعظم العبادات البدنية والمالية ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ أي ثم رفضتم وأسلافكم الميثاق رفضاً باتاً، وأعرضتم عن العمل بموجبه إِلاّ قليلاً منكم ثبتوا عليه ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ﴾ أي واذكروا أيضاً يا بني إِسرائيل حين أخذنا عليكم العهد المؤكد بأن لا يقتل بعضكم بعضاً ﴿وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ﴾ ولا يعتدي بعضكم على بعض بالإِخراج من الديار، والإِجلاء عن الأوطان ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أي ثمّ اعترفتم بالميثاق وبوجوب المحافظة عليه، وأنتم تشهدون بلزومه ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي ثم نقضتم أيضاً الميثاق يا معشر اليهود بعد إقراركم به، فقتلتم إِخوانكم في الدين، وارتكبتم ما نهيتم عنه من القتل ﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ﴾ أي كما طردتموهم من ديارهم من غير التفات إِلى العهد الوثيق ﴿تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بالإثم وَالْعُدْوَانِ﴾ أي تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم ﴿وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ﴾ أي إذا وقعوا في الأسر فاديتموهم، ودفعتم المال لتخليصهم من الأسر ﴿وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ﴾ أي فكيف تستبيحون القتل والإِخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدي عدوهم؟ ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ ؟ أي أفتؤمنون ببعض أحكام التوراة وتكفرون ببعض؟ والغرض التوبيخ لأنهم جمعوا بين الكفر والإيمان، والكفر ببعض آيات الله كفرٌ بالكتاب كله ولهذا عقّب تعالى ذلك بقوله ﴿فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا﴾ أي ما عقوبة من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض إِلا ذلٌ وهوان، ومقتٌ وغضب في الدنيا ﴿وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب﴾ أي وهم صائرون في الآخرة إِلى عذاب أشدّ منه، لأنه عذاب خالد لا ينقضي ولا ينتهي ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وفيه وعيد شديد لمن عصى أوامر الله، ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك العصيان والعدوان فقال ﴿أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة هم الذين استبدلوا الحياة الدنيا بالآخرة بمعنى اختاروها وآثروها على الآخرة ﴿فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب﴾ أي لا يُفتَّر عنهم العذاب ساعة واحدة ﴿وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ أي وليس لهم ناصر ينصرهم، ولا مجير ينقذهم من عذاب الله الأليم.
تنبه: كانت (بنو قريظة) و (بنو النضير) من اليهود، فحالفت بنو قريظة الأوس، وبنو النضير الخزرج، فكانت الحرب إِذا نشبت بينهم قاتل كل فريق من اليهود مع حلفائه، فيقتل اليهودي أخاه اليهودي من الفريق الآخر، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والمتاع والمال، وذلك حرام عليهم في دينهم وفي نص التوراة، ثم إِذا وضعت الحرب أوزارها افْتكُوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة ولهذا قال تعالى ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾.
البَلاَغَة: ١ - ﴿لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله﴾ خبرٌ في معنى النهي، وهو أبلغ من صريح النهي كما قال أبو السعود لما فيه من إِبهام أن المنهيَّ حقه أن يسارع إِلى الانتهاء فكأنه انتهى عنه، فجاء بصيغة الخبر وأراد به النهي.
66
٢ - ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ وقع المصدر موقع الصفة أي قولاً حسناً أو ذا حسنٍ للمبالغة فإِن العرب تضع المصدر مكان اسم الفاعل أو الصفة بقصد المبالغة فيقولون: هو عدل.
٣ - التنكير في قوله ﴿خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا﴾ للتفخيم والتهويل.
٤ - ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ عبّر عن قتل الغير بقتل النفس لأن من أراق دم غيره فكأنما أراق دم نفسه فهو من باب المجاز لأدنى ملابسة.
٥ - ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ﴾ الهمزة للإِنكار التوبيخي.
الفَوائِد: الفائدة الأولى: جاء الترتيب في الآية بتقديم الأهم فالأهم، فقدّم حق الله تعالى لأنه المنعم في الحقيقة على العباد، ثم قدم ذكر الوالدين لحقهما الأعظم في تربية الولد، ثم القرابة لأن فيهم صلة الرحم وأجر الإِحسان، ثم اليتامى لقلة حيلتهم، ثمّ المساكين لضعفهم ومسكنتهم.
الثانية: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ ولم يقل: وقولوا لإِخوانكم أو قولوا للمؤمنين حسناً ليدل على أنّ الأمر بالإِحسان عامٌ لجميع الناس، المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وفي هذا حضٌ على مكارم الأخلاق، بلين الكلام، وبسط الوجه، والأدب الجميل، والخلق الكريم قال أحد الأدباء.
67
اللغَة: ﴿الكتاب﴾ التوراة ﴿وَقَفَّيْنَا﴾ أردفنا وأتبعنا وأصله من القفا يقال: قَفَاه إذا أتبعه، وقفَّاه بكذا إِذا أتبعه إِياه ﴿البينات﴾ المعجزات الباهرات كإِبراء الأكمة والأبرص، وإِحياء الموتى ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ قويناه مأخوذ من الأيْد وهو القوة ﴿بِرُوحِ القدس﴾ جبريل عليه السلام، والقدسُ: الطهر والبركة ﴿تهوى﴾ تحب من هَوى إِذا أحب ومصدره الهوى ﴿غُلْفٌ﴾ جمع أغلف، والغلاف: الغطاء، يقال سيف أغلف إِذا كان في غلافه، وقلب أغلف أي مستور عن الفهم والتمييز، مستعار من الأغلف
67
الذي لم يختن ﴿لَّعَنَهُمُ﴾ أصل اللعن في كلام العرب: الطردُ والإِبعاد يقال: ذئب لعين أي مطرود مبعد والمراد: أقصاهم وأبعدهم عن رحمته ﴿يَسْتَفْتِحُونَ﴾ يستنصرون من الاستفتاح وهو طلب الفتح أي النصرة ﴿بِئْسَمَا﴾ أصلها بئس ما أي بئس الذي، وبئس فعل للذم، كما أنّ «نِعْم» للمدح ﴿بَغْياً﴾ البغي: الحسد والظلم، وأصله الفساد من بغى الجرح إِذا فسد قاله الأصمعي ﴿بَآءُو﴾ رجعوا وأكثر ما يستعمل في الشر ﴿مُّهِينٌ﴾ مخزٍ مذل مأخوذ من الهوان بمعنى الذل.
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن بني إِسرائيل، وفي هذه الآيات الكريمة تذكير لهم بضربٍ من النعم التي أمدّهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإِجرام، كعادتهم في مقابلة الإِحسان بالإِساءة، والنعمة بالكفران والجحود.
التفسير: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب﴾ أي أعطينا موسى التوراة ﴿وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل﴾ أي أتبعنا وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات﴾ أي أعطينا عيسى الآيات البينات والمعجزات الواضحات الدالة على نبوته ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس﴾ أي قويناه وشددنا أزره بجبريل عليه السلام ﴿أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ﴾ أي أفكلما جاءكم يا بني إِسرائيل رسول بما لا يوافق هواكم ﴿استكبرتم فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾ أي تكبرتم عن اتباعه فطائفة منهم كذبتموهم، وطائفة قتلتموهم.. ثم أخبر تعالى عن اليهود المعاصرين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبيّن ضَلالهم في اقتدائهم بالأسلاف فقال حكاية عنهم ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أي في أكنة لا تفقه ولا تعي ما تقوله يا محمد، والغرض إِقناطه عليه السلام من إِيمانهم، قال تعالى رداً عليهم ﴿بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ﴾ أي طردهم وأبعدهم من رحمته بسبب كفرهم وضلالهم ﴿فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ أي فقليلٌ من يؤمن منهم، أو يؤمنون إِيماناً قليلاً وهو إِيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم بالبعض الآخر ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ﴾ وهو القرآن العظيم الذي أنزل على خاتم المرسلين، مصدقاً لما في التوراة ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ﴾ أي وقد كانوا قبل مجيئه يستنصرون به على أعدائهم ويقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ أي فلما بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي عرفوه حق المعرفة كفروا برسالته ﴿فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين﴾ أي لعنة الله على اليهود الذين كفروا بخاتم المرسلين ﴿بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي بئس الشيء التافه الذي باع به هؤلاء اليهود أنفسهم ﴿أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله﴾ أي كفرهم بالقرآن الذي أنزله الله ﴿بَغْياً﴾ أي حسداً وطلباً لما ليس لهم ﴿أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي حسداً منهم لأجل لأن ينزل الله وحياً من فضله على من يشاء ويصطفيه من خلقه ﴿فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ﴾ أي رجعوا بغضب من الله زيادة على سابق غضبه عليهم ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ أي ولهم عذاب شديد مع الإِهانة والإِذلال لأن كفرهم سببه التكبر والحسد فقوبلوا بالإِهانة والصغار ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ أي آمنوا بما أنزل الله من القرآن وصدّقوه واتبعوه ﴿قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ أي يكفينا الإِيمان بما أنزل علينا من التوراة {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا
68
مَعَهُمْ} أي يكفرون بالقرآن مع أنه هو الحق موافقاً لما معهم من كلام الله ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي قل لهم يا محمد إِذا كان إيمانكم بما في التوراة صحيحا فلم كنتم تقتلون أنبياء الله من قبل إذا كنتم فعلاً مؤمنين؟ ﴿وَلَقَدْ جَآءَكُمْ موسى بالبينات﴾ أي بالحجج الباهرات ﴿ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ أي عبدتم العجل من بعد ذهابه إلى الطور، وأنتم ظالمون في هذا الصنيع.
البَلاَغَة: ١ - تقديم المفعول في الموضعين ﴿فَرِيقاً كَذَّبْتُمْ﴾ و ﴿فَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾ للإهتمام وتشويق السامع إِلى ما يلقى إِليه.
٢ - التعبير بالمضارع ﴿وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾ ولم يقل قتلتم كما قال كذبتم، لأن الفعل المضارع - كما هو المألوف في أساليب البلاغة - يستعمل في الأفعال الماضية التي بلغت من الفظاعة مبلغاً عظيماً، فكأنه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السامع، وجعله ينظر إِليها بعينه، فيكون إِنكاره لها أبلغ، واستفظاعه لها أعظم.
٣ - وضع الظاهر مكان الضمير ﴿فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين﴾ ولم يقل «عليهم» ليشعر بأن سبب حلول اللعنة هو كفرهم.
٤ - الخبر في قوله ﴿وَلَقَدْ جَآءَكُمْ موسى بالبينات﴾ يراد به التبكيت والتوبيخ على عدم اتباع الرسول.
٥ - أسندت الإِهانة إِلى العذاب فقال ﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ لأن الإِهانة تحصل بعذابهم، ومن أساليب البيان إسناد الأفعال إِلى أسبابها.
فَائِدَة: قال الحسن البصري: إنما سمي جبريل «روح القدس» لأن القدس هو الله، وروحه جبريل، فالإِضافة للتشريف، قال الرازي: ومما يدل على أن روح القدس جبريل قوله تعالى في سورة النحل ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق﴾ [الآية: ١٠٢].
69
المنَاسَبَة: هذه طائفة أخرى من جرائم اليهود، فقد نقضوا الميثاق حتى رفع جبلُ الطور عليهم وأمروا أن يأخذوا بما في التوراة، فأظهروا القبول والطاعة ثم عادوا إلى الكفر والعصيان، فعبدوا العجل من دون الله، وزعموا أنهم أحباب الله، وأن الجنة خالصة لهم من دون الناس لا يدخلها أحد سواهم، وعادَوا الملائكة الأطهار وعلى رأسهم جبريل عليه السلام، وكفروا بالأنبياء والرسل، وهكذا شأنهم في سائر العصور والدهور.
اللغَة: ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ الميثاق: العهد المؤكد بيمين ﴿الطور﴾ هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام ﴿بِقُوَّةٍ﴾ بعزمٍ وجدّ ﴿وَأُشْرِبُواْ﴾ أُشرب: سُقي جعلت قلوبهم نُشر به، يقال: أُشرب قلبُه حبَّ كذا قال زهير:
بُنيَّ إِنَّ البرَّ شيءٌ هيّنُ وجهٌ طليقٌ ولسانٌ ليّنُ
فصحوتُ عنْها بعد حبَّ داخلٍ والحب تُشربُه فؤادَك داءُ
﴿خَالِصَةً﴾ مصدر كالعافية والعاقبة بمعنى الخلوص أي خاصة بكم لا يشارككم فيها أحد ﴿أَحْرَصَ﴾ الحرص: شدة الرغبة في الشيء وفي الحديث «إحرص على ما ينفعك» ﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾ الزحزحة: الإبعادُ والتنحية قال تعالى ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار﴾ [آل عمران: ١٨٥] أي أُبعد وقال الشاعر:
خليليَّ ما بال الدُّجَى لا يُزَحْزحُ وما بالُ ضوء الصبح لا يتوضّح
التفسِير: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور﴾ أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين أَخذنا عليكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة، ورفعنا فوقكم جبل الطور قائلين ﴿خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ﴾ أي بعزمٍ وحزم وإلاّ طرحنا الجبل فوقكم ﴿واسمعوا﴾ أي سماع طاعة وقبول ﴿قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ أي سمعنا قولك، وعصينا أمرك ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل﴾ أي خالط حبُّه قلوبهم، وتغلغل في سويدائها والمراد أن حب عبادة العجل امتزج بدمائهم ودخل في قلوبهم، كما يدخل الصبغُ في الثوب، والماء في البدن ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ أي بسبب كفرهم ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ أي قل لهم على سبيل التهكم بهم بئس هذا الإِيمان الذي يأمركم بعبادة العجل ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي إِن كنتم تزعمون الإِيمان فبئس هذا العمل والصنيع والمعنى: لستم بمؤمنين لأن الإِيمان لا يأمر بعبادة العجل ﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً مِّن دُونِ الناس﴾ أي قل لهم يا محمد إِن كانت الجنة لكم خاصة لا يشارككم في نعيمها أحد كما زعمتم ﴿فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي اشتاقوا الموت الذي يوصلكم إِلى الجنة، لأن نعيم هذه الحياة لا يساوي شيئاً إِذا قيس بنعيم الآخرة. ومن أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إِليها قال تعالى رادّاً عليهم تلك الدعوة الكاذبة ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي لن يتمنوا الموت ما عاشوا بسبب ما اجترحوه من الذنوب والآثام ﴿والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ أي عالم بظلمهم وإِجرامهم وسيجازيهم على ذلك {
70
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} أي ولتجدنَّ اليهود أشدّ الناس حرصاً على الحياة، وأحرص من المشركين أنفسهم، وذلك لعلمهم بأنهم صائرون إِلى النار لإِجرامهم ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ أي يتمنى الواحد منهم أن يعيش ألف سنة ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ﴾ أي وما طول العمر - مهما عمر - بمبعده ومنجيه من عذاب الله ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي مطّلع على أعمالهم فيجازيهم عليها ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ﴾ أي قل لهم يا محمد من كان عدواً لجبريل فإِنه عدو لله، لأن الله جعله واسطة بينه وبين رسله فمن عاداه فقد عادى الله ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله﴾ أي فإِن جبريل الأمين نزّل هذا القرآن على قلبك يا محمد بأمر الله تعالى ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي مصدقاً لما سبقه من الكتب السماوية ﴿وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي وفيه الهداية الكاملة، والبشارة السارة للمؤمنين بجنات النعيم ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ أي من عادى الله وملائكته ورسله، وعادى على الوجه الأخص «جبريل وميكائيل» فهو كافر عدو لله ﴿فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ لأن الله يبغض من عادى أحداً من أوليائه، ومن عاداهم عاده الله، ففيه الوعيد والتهديد الشديد.
سَبَبُ النّزول: روي أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِنه ليس نبيٌّ من الأنبياء إِلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي، فمن صاحبُك حتى نتابعك؟ قال: جبريل قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال ذاك عدونا! لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك فأنزل الله ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ﴾ الآية.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل﴾ فيه استعارة مكنية، شبّه حبَّ عبادة العجل بمشروب لذيذ سائغ الشراب، وطوى ذكر المشبه به ورمز بشيء من لوازمه وهو الإِشراب على طريق الاستعارة المكنية، قال في تلخيص البيان: «وهذه استعارة والمراد وصف قلوبهم بالمبالغة في حب العجل فكأنها تشربت حبة فما زجها ممازجة المشروب، وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ».
٢ - ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ إِسناد الأمر إِلى الإِيمان تهكمٌ بهم كقوله ﴿أصلاوتك تَأْمُرُكَ﴾ [هود: ٨٧] وكذلك إِضافة الإِيمان إِليهم، أفاده الزمخشري.
٣ - التنكير في قوله ﴿على حَيَاةٍ﴾ للتنبيه على أن المراد بها حياة مخصوصة، وهي الحياة المتطاولة التي يعمر فيها الشخص آلاف السنين.
٤ - ﴿فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ الجملة واقعة في جواب الشرط وجيء بها إسمية لزيادة التقبيح لأنها تفيد الثبات، ووضع الظاهر موضع الضمير فقال ﴿عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ بدل عدوٌ لهم لتسجيل صفة الكفر عليهم، وأنهم بسبب عداوتهم للملائكة أصبحوا من الكافرين.
٥ - ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ وجاء بعد ذكر الملائكة فهو من باب ذكر الخاص بعد العام للتشريف والتعظيم.
71
الفوَائِد: الأولى: ليس معنى السمع في قوله ﴿واسمعوا﴾ إِدراك القول فقط، بل المراد سماع ما أمروا به في النوراة سماع تدبرٍ وطاعةٍ والتزام فهو مؤكد ومقرر لقوله ﴿خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ﴾.
الثانية: خصّ القلب بالذكر ﴿نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ﴾ لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف كما قال تعالى ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ﴾ [الحج: ٤٦].
الثالثة: الحكمة في الإِتيان هنا ب «لن» ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً﴾ وفي الجمعة ب «لا» ﴿وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً﴾ [الآية: ٧] أن ادعاءهم هنا أعظم من ادعائهم هناك، فإِنهم ادعوا هنا اختصاصهم بالجنة، وهناك كونهم أولياء لله من دون الناس، فناسب هنا التوكيد بلن المفيدة للنفي في الحاضر والمستقبل، وأما هناك فاكتفى بالنفي.
الرابعة: الآية الكريمة من المعجزات لأنها إِخبار بالغيب وكان الأمر كما أخبر، ويكفي في تحقق هذه المعجزة أن لا يقع تمني الموت من اليهود الذين كانوا في عصره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي الحديث الشريف «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار».
72
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما جبل عليه اليهود، من خبث السريرة ونقض العهود، والتكذيب لرسل الله ومعاداة أوليائه، حتى انتهى بهم الحال إِلى عداوة السفير بين الله وبين خلقه وهو «جبريل» الأمين عليه السلام، أعقب ذلك ببيان أن من عادة اليهود عدم الوفاء بالعقود، وتكذيب الرسل، واتباع طرق الشعوذة والضلال، وفي ذلك تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث سلكوا معه هذه الطريقة، في عدم الأخذ بما انطوى عليه كتاب الله من التبشير ببعثة السراج المنير، وإِلزامهم الإِيمان به واتباعه، فنبذوا الكتاب وراء ظهورهم، واتبعوا ما ألقت إليهم الشياطين من كتب السحر والشعوذة، ونسبوها
72
إِلى سليمان عليه السلام وهو منها بريء، وهكذا حالهم مع جميع الرسل الكرام، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
اللغَة: ﴿نبذ﴾ النبذ: الطرق والإِلقاء ومنه سمي اللقيط منبوذاً لأنه ينبذ على الطريق قال الشاعر:
إنّ الذين أمرتهم أن يعدلوا نبذوا كتابك واستحلوا المَحْرما
﴿تَتْلُواْ﴾ تحدّث وتروي من التلاوة بمعنى القراءة، أو من التلاوة بمعنى الاتباع قال الطبري: ولقول القائل: «هو يتلو كذا» في كلام العرب معنيان: أحدهما الاتباع كما تقول: تلوت فلاناً إِذا مشيت خلفه وتبعتَ أثره، والآخر: القراءة والدراسة كقولك: فلان يتلو القرآن أن يقرؤه ﴿السحر﴾ قال الجوهري: كلُّ ما لطف مأخذه ودقَّ فهو سحر، وسحره أيضاً بمعنى خدَعه وفي الحديث «إنّ من البيان لسحراً» ﴿فِتْنَةٌ﴾ : الابتلاء والاختبار ومنه قولهم: فتنتُ الذهب إِذا امتحنته بالنار لتعرف سلامته أو غشه ﴿خَلاَقٍ﴾ الخلاق: النصيب قال الزجاج: هو النصيب الوافر من الخير، وأكثر ما يستعمل في الخير ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ المثوبة: الثواب والجزاء.
التفسِير: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ أي والله لقد أنزلنا إِليك يا محمد آيات واضحات دالاّت على نبوتك ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون﴾ أي وما يجحد بهذه الآيات ويكذب إلا الخارجون عن الطاعة الماردون على الكفر ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾ أي أيكفرون بالآيات وهي في غاية الوضوح وكلّما أعطوا عهداً نقضه جماعة منهم؟ ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي بل أكثر اليهود لا يؤمن بالتوراة الإِيمان الصادق لذلك ينقضون العهود والمواثيق ﴿وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله﴾ وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ﴾ أي مصدقاً للتوراة وموافقاً لها في أصول الدين ومقرراً لنبوة موسى عليه السلام ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ أي طرح أحبارهم وعلماؤهم التوراة وأعرضوا عنها بالكلية لأنها تدل على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجحدوا وأصروا على إِنكار نبوته ﴿كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي كأنهم لا يعلمون من دلائل نبوته شيئاً ﴿واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي اتبعوا طرق السحر والشعوذة التي كانت تحدثهم بها الشياطين في عهد ملك سليمان ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ أي وما كان سليمان ساحراً ولا كفر بتعلمه السحر ﴿ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر﴾ أي ولكنّ الشياطين هم الذين علموا الناس السحر حتى فشا أمره بين الناس ﴿وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ أي وكما اتبع رؤساء اليهود السحر كذلك اتبعوا ما أنزل على الملَكْين وهما هاروت وماروت بمملكة بابل بأرض الكوفة، وقد أنزلهما الله ابتلاءً وامتحاناً للناس ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ﴾ أي إن الملَكَيْن لا يعلمان أحداً من الناس السحر حتى يبذلا له النصيحة ويقولا إِن هذا الذي نصفه لك إِنما هو امتحان من الله وابتلاء، فلا تستعمله للإِضرار ولا تكفر بسببه، فمن تعلمه ليدفع ضرره عن الناس
73
فقد نجا، ومن تعلمه ليلحق ضرره بالناس فقد هلك وضل.
. قال تعالى ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ﴾ أي يتعلمون منهما من علم السحر ما يكون سبباً في التفريق بين الزوجين، فبعد أن كانت المودة والمحبة بينهما يصبح الشقاق والفراق ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أي وما هم بما استعملوه من السحر يضرون أحداً إِلا إِذا شاء الله ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾ أي والحال أنهم بتعلم السحر يحصلون على الضرر لا على النفع ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ﴾ أي ولقد علم اليهود الذين نبذوا كتاب الله واستبدلوا به السحر، أنهم ليس لهم حظ من رحمة الله ولا من الجنة لأنهم آثروا السحر على كتاب الله ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ أي ولبئس هذا الشيء الذي باعوا به أنفسهم لو كان لهم علم أو فهم وإِدراك ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتقوا﴾ أي ولو أن أولئك الذين يتعلمون السحر آمنوا بالله وخافوا عذابه ﴿لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ أي لأثابهم الله ثواباً أفضل مما شغلوا به أنفسهم من السحر، الذي لا يعود عليهم إِلا بالويل والخسار والدمار.
سَبَبُ النّزول: لما ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سليمان في المرسلين، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبياً!! والله ما كان إِلا ساحراً فنزلت هذه الآية ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر﴾.
البَلاَغَة: ١ - ﴿رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله﴾ التنكير للتفخيم ووصفُ الرسول بأنه آتٍ من عند الله لإِفادة مزيد التعظيم.
٢ - ﴿وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ مثلٌ يُضرب للإِعراض عن الشيء جملةً تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره أي تولى عنه معرضاً، لأن ما يجعل وراء الظهر لا ينظر إِليه، فهو كناية عن الإِعراض عن التوراة بالكلية.
٣ - ﴿لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ هذا جارٍ على الأسلوب المعروف في فنون البلاغة، من أن العالم بالشيء إذا لم يجر على موجب علمه قد ينزّل منزلة الجاهل به، وينفى عنه العلم كما ينفى عن الجاهلين.
٤ - ﴿لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله﴾ جيء بالجملة الإِسمية بدل الفعلية للدلالة على الثبوت والاستقرار.
فَائِدَة: الحكمة من تعليم الملكين الناس السحر، أن السحرة كثروا في ذلك العهد واخترعوا فنوناً غريبة من السحر، وربما زعموا أنهم أنبياء، فبعث الله تعالى المَلكْين ليعلما الناس وجوه السحر حتى يتمكنوا من التمييز بينه وبين المعجزة، ويعرفوا أن الذين يدّعون النبوة كذباً إِنما هم سحرة لا أنبياء.
74
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قبائح اليهود، وما اختصوا به من ضروب السحر والشعوذة، أعقبه ببيان نوع آخر من السوء والشر، الذي يضمرونه للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمين، من الطعن والحقد والحسد، وتمني زوال النعمة عن المؤمنين، واتخاذهم الشريعة الغراء هدفاً للطعن والتجريح بسبب النسخ لبعض الأحكام الشرعية.
اللغَة: ﴿رَاعِنَا﴾ من المراعاة وهي الإِنظار والإِمهال، وأصلها من الرعاية وهي النظر في مصالح الإِنسان، وقد حرفها اليهود فجعلوها كلمة مسبة مشتقة من الرعونة وهي الحُمْق ولذلك نهي عنها المؤمنون ﴿انظرنا﴾ من النظر والانتظار تقول: نظرتُ الرجل إِذا انتظرته وارتقبته أي انتظرنا وتأنَّ بنا ﴿يَوَدُّ﴾ يتمنى ويحب ﴿نَنسَخْ﴾ النسخ في اللغة: الإِبطال والإِزالة يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته وفي الشرع: رفع حكم شرعي وتبديله بحكم آخر ﴿نُنسِهَا﴾ من أنسى الشيءَ جعله منسياً فهو من النسيان الذي هو ضد الذكر أي نمحها من القلوب ﴿وَلِيٍّ﴾ الولي: من يتولى أمور الإِنسان ومصالحه ﴿نَصِير﴾ النصير: المعين مأخوذ من قولهم نصره إِذا أعانه ﴿أَمْ﴾ بمعنى بل وهي تفيد الانتقال من جملة إلى جملة كقوله تعالى ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ [يونس: ٣٨] أي بل يقولون ﴿يَتَبَدَّلِ﴾ يقال: بدّل وتبدل واستبدل أي جعل شيئاً موضع آخر، وتبدل الكفر بالإِيمان معناه أخذه بدل الإِيمان ﴿سَوَآءَ السبيل﴾ أي وسط الطريق، والسواء من كل شيء: الوسط، والسبيل معناه الطريق ﴿فاعفوا﴾ العفو: ترك المؤاخذة على الذنب ﴿واصفحوا﴾ والصفح: ترك التأنيب عنه.
سَبَبُ النّزول: روي أن اليهود قالوا: ألا تعجبون لأمر محمد؟ ﴿يأمر أصحابه بأمرٍ ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً، فما هذا القرآن إِلا كلام محمد بقوله من تلقاء نفسه، يناقض بعضه بعضاً فنزلت {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾.
التفسير: ﴿يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ هذا نداء من الله جل شأنه للمؤمنين يخاطبهم فيه فيقول {لاَ
75
تَقُولُواْ رَاعِنَا} أي راقبنا وأمهلنا حتى نتمكن من حفظ ما تلقيه علينا ﴿وَقُولُواْ انظرنا﴾ أي انتظرنا وارتقبنا ﴿واسمعوا﴾ أي أطيعوا أوامر الله ولا تكونوا كاليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا ﴿وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي ولليهود الذين نالوا من الرسول وسبّوه، عذاب أليم موجع ﴿مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي ما يحب الكافرون من اليهود والنصارى ولا المشركون أن ينزّل عليكم شيء من الخير، بغضاً فيكم وحسداً لكم ﴿والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي يختص بالنوبة والوحي والفضل والإِحسان من شاء من عباده ﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾ والله واسع الفضل والإِحسان ثم قال تعالى رداً على اليهود حين طعنوا في القرآن بسبب النسخ ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا﴾ أي ما نبدّل من حكم آية فنغيره بآخر أو ننسها يا محمد أي نمحها من قلبك ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ أي نأت بخير لكم منها أيها المؤمنون بما هو أنفه لكم في العاجل أو الآجل، إِما برفع المشقة عنكم، أو بزيادة الأجر والثواب لكم ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله عليم حكيم قدير، لا يصدر منه إِلا كل خير وإِحسان للعباد} ! ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي ألم تعلم أن الله هو المالك المتصرف في شئون الخلق يحكم بما شاء ويأمر بما شاء؟ ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ أي ما لكم وليٌّ يرعى شئونكم أو ناصر ينصركم غير الله تعالى فهو نعم الناصر والمعين ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ﴾ أي بل أتريدون يا معشر المؤمنين أن تسألوا نبيكم كما سأل قوم موسى نبيهم من قبل ويكون مثلكم مثل اليهود الذين قالوا لنبيهم
﴿أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣] فتضلوا كما ضلوا ﴿وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان﴾ أي يستبدل الضلالة بالهدى ويأخذ الكفر بدل الإِيمان ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل﴾ أي فقد حاد عن الجادة وخرج عن الصراط السوي ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب﴾ أي تمنى كثير من اليهود والنصارى ﴿لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً﴾ أي لو يصيّرونكم كفاراً بعد أن آمنتم ﴿حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي حسداً منهم لكم حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة ﴿مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق﴾ أي من بعد ما ظهر لهم بالبراهين الساطعة أن دينكم هو الحق ﴿فاعفوا واصفحوا﴾ أي اتركوهم وأعرضوا عنهم فلا تؤخذوهم ﴿حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾ أي حتى يأذن الله لكم بقتالهم ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي قادر على كل شيء فينتقم منهم إِذا حان الأوان ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ أي حافظوا على عمودي الإِسلام وهما «الصلاة والزكاة» وتقربوا إِليه بالعبادة البدنية والمالية ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله﴾ أي ما تتقربوا إِلى الله من صلاة أو صدقة أو عمل صالح فرضاً كان أو تطوعاً تجدوا ثوابه عند الله ﴿إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي رقيب عليكم مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها يوم الدين.
البَلاَغَة: ١ - الإِضافة في قوله ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ للتشريف. وفيها تذكير للعباد بتربيته لهم.
٢ - تصدير الجملتين بلفظ الجلالة ﴿والله يَخْتَصُّ﴾ ﴿والله ذُو الفضل﴾ للإِيذان بفخامة الأمر.
٣ - ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾ الاستفهام للتقرير والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد أمته بدليل قوله تعالى ﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله﴾.
٤ -
76
وضع الاسم الجليل موضع الضمير ﴿إِنَّ الله﴾ ﴿مِّن دُونِ الله﴾ لتربية الروعة والمهابة في النفوس.
٥ - ﴿ضَلَّ سَوَآءَ السبيل﴾ من إضافة الصفة للموصوف أي الطريق المستوي، وفي التعبير به نهاية التبكيت والتشنيع لمن ظهر له الحق فعدل عنه إِلى الباطل.
الفوَائِد: الأولى: خاطب الله المؤمنين بقوله تعالى ﴿يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن، وهذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة بالنداء الدال على الإِقبال عليهم، ونداء المخاطبين باسم المؤمنين يذكّرهم بأن الإِيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقى أوامر الله ونواهيه بحسن الطاعة والامتثال.
الثانية: نهي المسلمون أن يقولوا في خطاب النبي عليه السلام ﴿رَاعِنَا﴾ وأمروا بأن يقولوا مكانها ﴿انظرنا﴾ وفي ذلك تنبيه لأدبٍ جميل هو أن الإِنسان يتجنب في مخاطبته الألفاظ التي توهم الجفاء أو التنقيص في مقام يقتضي إظهار المودة أو التعظيم.
الثالثة: كانت اليهود تستعمل كلمة ﴿رَاعِنَا﴾ يعنون بها المسبة والشتيمة وروى أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال يا أعداء الله: عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربنَّ عنقه فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت هذه الآية ﴿لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا﴾.
77
المنَاسَبَة: في هذه الآيات الكريمة بيان آخر لأباطيل أهل الكتاب، حيث ادعى كل من الفريقين اليهود والنصارى أن الجنة خاصة به وطعن في دين الآخر، فاليهود يعتقدون بكفر النصارى وضلالهم، ويكفرون بعيسى وبالإِنجيل، والنصارى يعتقدون بكفر اليهود لعدم إِيمانهم بالمسيح وقد جاء لإتمام شريعتهم، ونشأ عن هذا النزاع عداوة اشتدت بها الأهواء حتى صار كل فريق يطعن في
77
دين الآخر ويزعم أن الجنة وقفٌ عليه، فأكذب الله الفريقين، وبيّن أن الجنة إنما يفوز بها المؤمن التقي الذي عمل الصالحات.
اللغَة: ﴿هُوداً﴾ أي يهوداً جمع هائد، والهائد: التائب الراجع مشتق من هاد إذا تاب ﴿إنَّا هدنا إليك﴾، ﴿أَمَانِيُّهُمْ﴾ جمع أمنية وهي ما يتمناه الإِنسان ويشتهيه، ﴿بُرْهَانَكُمْ﴾ البرهان: الدليل والحجة الموصلان إلى اليقين، ﴿أَسْلَمَ﴾ استسلم وخضع، ﴿خَرَابِهَآ﴾ الخراب: الهدم والتدمير وهو حسّيٌ كتخريب بيوت الله، ومعنوي كتعطيل إقامة الشعائر فيها، ﴿خِزْيٌ﴾ هوانٌ وذلة، ﴿ثَمَّ﴾ بفتح الثاء أي هناك ظرفٌ للمكان ﴿وَجْهُ الله﴾ الوجه: الجهة والمراد بوجه الله: الجهة التي ارتضاها وأمربالتوطه إليها.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل، وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة فأنزل الله ﴿وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ أي قال اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وقال النصارى لن يدخل الجنة إِلا من كان نصرانياً ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ أي تلك خيالاتهم وأحلامهم ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي قل لهم يا محمد أئتوني بالحجة الساطعة على ما تزعمون إِن كنتم صادقين في دعواكم ﴿بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ﴾ أي بلى يدخل الجنة من استسلم وخضع وأخلص نفسه لله ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أي وهو مؤمن مصدّقٌ متبعٌ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي فله ثواب عمله ولا خوف عليهم في الآخرة ولا يعتريهم حزنٌ أو كدر بل هم في نعيم مقيم ﴿وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ﴾ أي كفر اليهود بعيسى وقالوا ليس النصارى على دين صحيح معتدٍّ به فدينهم باطل ﴿وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ﴾ أي وقال النصارى في اليهود مثل ذلك وكفروا بموسى ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب﴾ أي والحال أن اليهود يقرءون التوراة والنصارى يقرءون الإِنجيل فقد كفروا عن علمٍ ﴿كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ أي كذلك قال مشركو العرب مثل قول أهل الكتاب قالوا: ليس محمد على شيء ﴿فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أي يحكم بين اليهود والنصارى ويفصل بينهم بقضائه العادل فيما اختلفوا فيه من أمر الدين ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه﴾ استنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أي لا أحد أظلم ممن منع الناس من عبادة الله في بيوت الله، وعمل لخرابها بالهدم كما فعل الرومان ببيت المقدس، أو بتعطيلها من العبادة كما فعل كفار قريش ﴿أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ﴾ أي ما ينبغي لأولئك أن يدخلوها إِلا وهم في خشية وخضوع فضلاً عن التجرؤ على تخريبها أو تعطليها ﴿لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ أي لأولئك المذكورين هوانّ وذلة في الدنيا {وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ
78
عَظِيمٌ} وهو عذاب النار.
﴿وَللَّهِ المشرق والمغرب﴾ أي لله مكان شروق الشمس ومكان غروبها والمراد جميع الأرض ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ أي إلى أي جهة توجهتم بأمره فهناك قبلته التي رضيها لكم، وقد نزلت الآية فيمن أضاع جهة القبلة ﴿إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي يسع الخلق بالجود والإِفضال، عليم بتدبير شئونهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم.
البَلاَغَة: ١ - ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ الجملة اعتراضية وفائدتها بيان بطلان الدعوى وأنها دعوة كاذبة.
٢ - ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾ الأمر هنا للتبكيت والتقريع.
٣ - ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ﴾ خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء والوجه هاهنا (استعارة) أي من أقبل على عبادة الله وجعل توجهه إِليه بجملته.
٤ - ﴿عِندَ رَبِّهِ﴾ العندية للتشريف ووضع اسم الرب مضافاً إِلى ضمير من أسلم موضع ضمير الجلالة لإِظهار مزيد اللطف به.
٥ - ﴿لاَ يَعْلَمُونَ﴾ فيه توبيخ عظيم لأهل الكتاب لأنهم نظموا أنفسهم - مع علمهم - في سلك من لا يعلم أصلاً.
٦ - ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ الاستفهام بمعنى النفي أي لا أحد أظلم منه.
٧ - ﴿فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ التنكير للتهويل أي خزي هائل فظيع لا يكاد يوصف لهوله.
٨ - ﴿عَلِيمٌ﴾ صيغة فعيل للمبالغة. أي واسع العلم.
فَائِدَة: قال الإِمام الفخر: إِسلام الوجه لله يعني إِسلام النفس لطاعة الله وقد يكنى بالوجه عن النفس كما قال تعالى ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] وقال زيد بن نفيل.
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ له الأرضُ تحمل صخراً ثقالاً وأسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ
له المُزْنُ تحمل عذباً زلالاً...
79
المنَاسَبَة: لمّا ذكر تعالى افتراء اليهود والنصارى أن الجنة خاصة بهم لا يشاركهم فيها أحد أعقبه بذكر بعض قبائحهم وقبائح المشركين في ادعائهم أنَّ لله ولدا حيث زعم اليهود أن عزيراً ابن الله، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله، وزعم المشركون أن الملائكة بنات الله فأكذبهم الله وردّ دعواهم بالحجة الدامغة والبرهان القاطع.
اللغَة: ﴿سُبْحَانَهُ﴾ سبحان مصدر سبّح بمعنى نزّه ومعناه التبرئة والتنزيه عما لا يليق بجلاله تعالى ﴿قَانِتُونَ﴾ مطيعون خاضعون من القنوت وهو الطاعة والخضوع ﴿بَدِيعُ﴾ البديع: المبدع من الإِبداع، والإِبداع: اختراع الشيء على غير مثال سبق ﴿قضى﴾ أراد وقدّر ﴿بَشِيراً﴾ البشير: المبشّر وهو المخبر بالأمر الصادق السار ﴿نَذِيراً﴾ النذير: المنذر وهو المخبر بالأمر المخوف ليحذر منه ﴿الجحيم﴾ المتأجج من النار ﴿مِلَّتَهُمْ﴾ أي دينهم وجمعها ملل وأصل الملّة: الطريقة المسلوكة ثم جعلت اسماً للشريعة التي أنزلها الله ﴿عَدْلٌ﴾ فداء.
التفِسير: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً﴾ هو قول اليهود والنصارى والمشركين فاليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله فأكذب الله الجميع في دعواهم فقال ﴿سُبْحَانَهُ﴾ أي تقدس وتنزّه عما زعموا تنزهاً بليغاً ﴿بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض﴾ بل للإِضراب أي ليس الأمر كما زعموا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ أي الكل منقادون له لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته ﴿بَدِيعُ السماوات والأرض﴾ أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق ﴿وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي إِذا إيجاد شيء حصل من غير امتناع ولا مهلة فمتى أراد شيئاً وجد بلمح البصر، فمراده نافذ وأمره لا يتخلف ﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر﴾ [القمر: ٥٠] ﴿وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ المراد بهم جهلة المشركين وهم كفار قريش ﴿لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله﴾ أي هلأ يكلمنا الله مشافهة أو بإِنزال الوحي علينا بأنك رسوله ﴿أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ﴾ أي تكون برهاناً وحجة على صدق نبوتك، قالوا ذلك استكباراً وعناداً ﴿كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ أي مثل هذا الباطل الشنيع قال المكذبون من أسلافهم لرسلهم ﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد والتكذيب للأنبياء وفي هذا تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أي قد وضحنا الأدلة وأقمنا البراهين لقومٍ يطلبون الحق واليقين، وكلها ناطقة بصدق ما جئت به ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ أي أرسلناك يا محمد بالشريعة النيّرة والدين القويم بشيراً للمؤمنين بجنات النعيم، ونذيراً للكافرين من عذاب الجحيم ﴿وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم﴾ أي أنت لست مسئولاً عمن لم يؤمن منهم بعد أن بذلت الجهد في دعوتهم
﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب﴾ [الرعد: ٤٠] ﴿وَلَنْ ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ أي لن ترضى عنك الطائفتان «اليهود والنصارى» حتى تترك الإِسلام
80
المنير وتتبع دينهم الأعوج ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى﴾ أي قل لهم يا محمد إِن الإِسلام هو الدين الحق وما عداه فهو ضلال ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم﴾ أي ولئن سايرتهم على آرائهم الزائفة وأهوائهم الفاسدة بعدما ظهر لك الحق بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة ﴿مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ أي ليس لك من يحفظك أو يدفع عنك عقابة الأليم ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾ مبتدأ وهم طائفة من اليهود والنصارى أسلموا ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾ أي يقرءونه قراءة حقة كما أنزل ﴿أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ هذا خبر المبتدأ أي فأولئك هم المؤمنون حقاً دون المعاندين المحرفين لكلام الله ﴿وَمن يَكْفُرْ بِهِ فأولئك هُمُ الخاسرون﴾ أي ومن كفر بالقرآن فقد خسر دنياه وآخرته ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ أي اذكروا نعمي الكثيرة عليكم وعلى آبائكم ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين﴾ أي واذكروا تفضيلي لكم على سائر الأمم في زمانكم ﴿واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً﴾ أي خافوا ذلك اليوم الرهيب الذي لا تغني فيه نفس عن نفس ولا تدفع عنها من عذاب الله شيئاً، لأن كل نفس بما كسبت رهينة ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ أي لا يقبل منها فداء ﴿وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ أي لا تفيدها شفاعة أحد لأنها كفرت بالله ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين﴾ [المدثر: ٤٨] ﴿وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ أي لا يدفع عنهم أحد عذاب الله ولا يجيرهم من سطوة عقابه.
البَلاَغَة: ١ - ﴿سُبْحَانَهُ﴾ جملة اعتراضية وفائدتها بيان بطلان دعوى الظالمين الذين زعموا لله الولد قال أبو السعود: وفيه من التنزيه البليغ من حيث الاشتقاق من «السَّبح» ومن جهة النقل إلى التفعيل «التسبيح» ومن جهة العدول إلى المصدر ما لا يخفى والمراد أنزهه تنزيهاً لائقاً به.
٢ - ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ صيغة جمع العقلاء في ﴿قَانِتُونَ﴾ للتغليب أي تغليب العقلاء على غير العقلاء، والتغليب من الفنون المعدودة في محاسن البيان.
٣ - التعبير عن الكافرين والمكذبين بكلمة ﴿أَصْحَابِ الجحيم﴾ إِيذانٌ بأن أولئك المعاندين من المطبوع على قلوبهم فلا يرجى منهم الرجعو عن الكفر والضلال إِلى الإِيمان والإِذعان.
٤ - إِيراد الهدى معرفاً بأل في قوله ﴿هُوَ الهدى﴾ مع اقترانه بضمير الفصل «هو» يفيد قصر الهداية على دين الله فهو من باب قصر الصفة على الموصوف فالإِسلام هو الهدى كله وما عداه فهو هوى وعمى.
٥ - ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ﴾ هذا من باب التهييج والإِلهاب.
تنبيه: قال القرطبي: ﴿بَدِيعُ السماوات والأرض﴾ أي منشئها وموجدها ومبدعها ومخترعها على غير حدّ ولا مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إِليه قيل له مبدع، ومنه أصحاب البدع، وسميت البدعة بدعة لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إِمام وفي البخاري
«نعمت البدعة هذه» يعني قيام رمضان.. ثم قال: وكل بدعة صدرت من مخلوق فلا يخلو أَن يكون لها أصل في الشرع أولا؟ فإِن كان لها أصل فهي في حيز المدح ويعضده قول عمر «نعمت البدعة هذه» وإِلاّ فهي في حيز الذم
81
والإِنكار وقد بيّن هذا الحديث الشريف «من سنَّ في الإِسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها.. ومن سنَّ في الإِسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها..».
82
المنَاسَبَة: بعد أن ذكر الله تعالى في الآيات السابقة نعمه على بني إِسرائيل، وبيّن كيف كانوا يقابلون النعم بالكفر والعناد، ويأتون منكرات في الأقوال والأعمال، وصل حديثهم بقصة إِبراهيم أبي الأنبياء الذي يزعم اليهود والنصارى انتماءهم إِليه ويقرون بفضله، ولو كانوا صادقين لوجب عليهم اتباع هذا النبي الكريم «محمد» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودخولهم في دينه القويم لأنه أثر دعوة إبراهيم الخليل حين دعا لأهل الحرم، ثم هو من ولد إسماعيل عليه السلام فكان أولى الاتباع والتمسك بشريعته الحنيفية السمحة التي هي شريعة الخليل عليه السلام.
اللغَة: ﴿ابتلى﴾ امتحن والابتلاء: الاختبار ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أتى بهن على التمام والكمال ﴿إِمَاماً﴾ الإِمام: القدوة الذي يؤتم به في الأقوال والأفعال ﴿مَثَابَةً﴾ مرجعاً من ثاب يثوب إذا رجع أي أنهم يترددون إِليه لا يقضون منه وطرهم قال الشاعر:
جُعلَ البيتُ مثاباً لهُمُ ليس منه الدهرَ يقضون الوطر
﴿وَأَمْناً﴾ الأمن: السلامة من الخوف والطمأنينة في النفس والأهل ﴿وَعَهِدْنَآ﴾ أمرنا وأوحينا ﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ جمع طائف من الطواف وهو الدوران حول الشيء ﴿والعاكفين﴾ جمع عاكف من العكوف وهي الإِقامة على الشيء والملازمة له والمراد المقيمون في الحرم بقصد العبادة ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ من التمتيع وهو إِعطاء الإنسان ما ينتفع به ﴿قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار﴾ [إبراهيم: ٣٠] ﴿القواعد﴾ جمع قاعدة وهي الأساس ﴿مَنَاسِكَنَا﴾ جمع مَنْسك وهي العبادة والطاعة ﴿والحكمة﴾ العلم النافع المصحوب بالعمل والمراد بها السنة النبوية المطهرة ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ من التزكية وهي في الأصل التنمية
82
يقال: زكى الزرع إِذا نما ثم استعملت في معنى الطهارة النفسية قال تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ [الشمس: ٩].
التفِسير: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أي اذكر يا محمد حين اختبر الله عبده إِبراهيم الخليل، وكلّفه بجملة من التكاليف الشرعية «أوامر ونواهٍ» فقام بهن خير قيام ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ أي قال له ربه إِني جاعلك قدوة للناس ومناراً يهتدي بك الخلق ﴿قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ أي قال إِبراهيم واجعل يا ربّ أيضاً أئمة من ذريتي ﴿قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ أي لا ينال هذا الفضل العظيم أحدٌ من الكافرين ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ﴾ أي واذكر حين جعلنا الكعبة المعظمة مرجعاً للناس يقبلون عليه من كل جانب ﴿وَأَمْناً﴾ أي مكان أمن يأمن من لجأ إليه، وذلك لما أودع الله في قلوب العرب من تعظيمه وإِجلاله ﴿واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ أي وقلنا للناس اتخذوا من المقام - وهو الحجر الذي كان يقوم عليه إِبراهيم لبناء الكعبة مصلّى أي صلوا عنده ﴿وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ أي أوصينا وأمرنا إِبراهيم وولده إِسماعيل ﴿أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود﴾ أي أمرناهما بأن يصونا البيت من الأرجاس والأوثان ليكون معقلاً للطائفين حوله والمعتكفين الملازمين له والمصلين فيه، فالآية جمعت أصناف العابدين في البيت الحرام: الطائفين، والمعتكفين، والمصلين.
. ثم أخبر تعالى عن دعوة الخليل إِبراهيم فقال ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً﴾ أي اجعل هذا المكان - والمراد مكة المكرمة - بلداً ذا أمن يكون أهله في أمنٍ واستقرار ﴿وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر﴾ أي وارزق يا رب المؤمنين من أهله وسكانه من أنواع الثمرات، ليقبلوا على طاعتك ويتفرغوا لعبادتك وخصَّ بدعوته المؤمنين فقط قال تعالى جواباً له ﴿قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً﴾ أي قال الله وأرزق من كفر أيضاً كما أرزق المؤمن، أأخلق خلقاً ثم لا أرزقهم؟ أما الكافر فأمتعه في الدنيا متاعاً قليلاً وذلك مدة حياته فيها ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار﴾ أي ثم أُلجئه في الآخرة وأسوقه إِلى عذاب النار فلا يجد عنها محيصاً ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ أي وبئس المال والمرجع للكافر أن يكون مأواه نار جهنم. قاس الخليل الرزق على الإِمامة فنبهه تعالى على أن الرزق رحمة دنيوية شاملة للبرّ والفاجر بخلاف الإِمامة فإِنها خاصة بالخواص من المؤمنين، ثم قال تعالى حكاية عن قصة بناء البيت العتيق ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ﴾ أي واذكر يا محمد ذلك الأمر الغريب وهو رفع الرسولين العظيمين «إِبراهيم وإِسماعيل» قواعد البيت وقيامهما بوضع أساسه ورفع بنائه وهما يقولان بخضوع وإِجلال ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾ أي يبنيان ويدعوان بهذه الدعوات الكريمة قائلين يا ربنا تقبل منا أي أقبل منا عملنا هذا واجعله خالصاً لوجهك الكريم فإِنك أنت السميع لدعائنا العليم بنياتنا ﴿رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ أي اجعلنا خاضعين لك منقادين لحكمك ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ أي واجعل من ذريتنا من يسلم وجهه لك ويخضع لعظمتك ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ أي وعلمنا شرائع عبادتنا ومناسك حجنا ﴿وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم﴾ أي تب علينا وارحمنا فإنك عظيم المغفرة واسع الرحمة ﴿رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾ أي ابعث في الأمة المسلمة رسولاً من أنفسهم وهذا من جملة دعواتهما المباركة فاستجاب الله الدعاء ببعثة السراج المنير محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ أي يقرأ آيات القرآن ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة﴾ أي يعلمهم القرآن العظيم والسنة المطهرة ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي
83
يطهرهم من رجس الشرك ﴿إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾ العزيز الذي لا يُقهر ولا يُغلب، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
البَلاَغَة: ١ - التعرض لعنوان الربوبية ﴿ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ تشريف له عليه السلام وإِيذان بأن ذلك الابتلاء تربية له وترشيح لأمر خطير، والمعنى عامله سبحانه معاملة المختبر حيث كلفه بأوامر ونواهي يظهر بها استحقاقه للإِمامة العظمى.
٢ - إيقاع المصدر موقع اسم الفاعل في قوله ﴿آمِناً﴾ للمبالغة والإِسناد مجازيٌ أي آمناً من دخله كقوله تعالى ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ [آل عمران: ٩٨] وخيرُ ما فسرته بالوارد.
٣ - إِضافة البيت إِلى ضمير الجلالة ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ [الحج: ٢٦] للتشريف والتعظيم.
٤ - قوله تعالى ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ﴾ ورد التعبير بصيغة المضارع حكاية عن الماضي ولذلك وجه معروف في محاسن البيان وهو استحضار الصورة الماضية وكأنها مشاهدة بالعيان فكأنَّ السامع ينظر ويرى إِلى البنيان وهو يرتفع والبنّاء هو إِبراهيم وإِسماعيل عليهما السلام قال أبو السعود: وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها العجيبة المنبئة عن المعجزة الباهرة.
٥ - ﴿التواب الرحيم﴾ صيغتان من صيغ المبالغة لأن فعال وفعيل من صيغ المبالغة.
الفوَائِد: الفائدة الأولى: تقديم المفعول في قوله ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ واجب لاتصال الفاعل بضمير يعود على المفعول، فلو قُدّم الفاعل لزم عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبةً قال ابن مالك:
وشاعَ نحو خاف ربَّه عمر وشضّ نحو زان نورهُ الشجر
الثانية: الاختبار في الأصل الامتحان بالشيء ليعلم صدق ذلك الشخص أو كذبه وهو مستحيل على الله لأنه عالم بذلك قبل الاختبار، فالمراد أنه عامله معاملة المختبر ليظهر ذلك للخلق.
الثالثة: اختلف المفسرون في الكلمات التي اختبر الله بها إِبراهيم عليه السلام وأصح هذه الأقوال ما روي عن ابن عباس أنه قال: «الكلمات التي ابتلى الله بهن إِبراهيم فأتمهن: فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجة نمرود في الله، وصبره على قذفهم إِياه في النار ليحرفوه، والهجرة من وطنه حين أمر بالخروج عنهم، وما ابتلى به من ذبح ابنه حين أمر بذبحه».
الرابعة: المراد من الإِمامة في الآية الكريمة «الإِمامة في الدين» وهي النبوة التي حرمها الظالمون، ولو كانت الإِمامة الدنيوية لخالف ذلك الواقع إِذ نالها كثير من الظالمين، فظهر أن المراد الإِمامة في الدين خاصة.
الخامسة: ذكر العلامة ابن القيم أن السرَّ في تفضيل البيت العتيق ظاهر في انجذاب الأفئدة، وهوى القلوب ومحبتها له، فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد، فهم يثوبون إِليه من جميع الأقطار ولا يقضون منه وطراً، بل كلما ازدادوا له زيارة، ازدادوا له اشتياقاً.
84
85
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى مآثر الخليل إِبراهيم عليه السلام، وقصة بنائه للبيت العتيق منار التوحيد، أعقبه بالتوبيخ الشديد للمخالفين لملة الخليل من اليهود والنصارى والمشركين، وأكّد أنه لا يرغب عن ملته إِلا كل شقي سفيه الرأي، خفيف العقل، متبع لخطوات الشيطان.
اللغَة: ﴿سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ امتهنها واستخفّ بها وأصل السفه: الخفة ومنه زمام سفيه أي خفيف ﴿اصطفيناه﴾ أي جعلناه صافياً من الأدناس مشتق من الصفوة ومعناه تخير الأصفى والمراد اصطفاؤه بالرسالة والخلَّة والإِمامة العظمى ﴿وصى﴾ التوصية: إِرشاد الغير إِلى ما فيه صلاح وقربة ﴿شُهَدَآءَ﴾ جمع شاهد أي حاضر ﴿خَلَتْ﴾ مضت وانقرضت.
التفِسير: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ أي لا يرغب عن دين إِبراهيم وملته الواضحة الغراء إِلا من استخفّ نفسه وامتهنها ﴿وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا﴾ أي اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإِمامة ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾ أي من المقربين الذين لهم الدرجات العلى ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ أي استسلم لأمر ربك وأخلصْ نفسك له ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾ أي استسلمت لأمر الله وخضعتُ لحكمه ﴿ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ أي وصّى الخليل أبناءه باتباع ملته وكذلك يعقوب أوصى بملة إِبراهيم ﴿يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين﴾ أي اختار لكم دين الإِسلام ديناً وهذا حكاية لما قال إبراهيم ويعقوب لأبنائهما ﴿فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾ أي اثبتوا على الإِسلام حتى يدرككم الموت وأنتم متمسكون به ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت﴾ أي بل أكنتم شهداء حين احتضر يعقوب وأشرف على الموت وأوصى بنيه باتباع ملة إبراهيم ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ ؟ أي أيَّ شيء تعبدونه بعدي؟ ﴿قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً﴾ أي لا نعبد إِلا إِلهاً واحداً هو الله رب العالمين إِله آبائك وأجدادك السابقين ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أي نحن له وحده مطيعون خاضعون، والغرض تحقيق البراءة من الشرك، قال تعالى مشيراً إِلى تلك الذرية الطيبة ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ والإِشارة إِلى إِبراهيم
85
وبنيه أي تلك جماعة وجيل قد سلف ومضى ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ﴾ أي لها ثواب ما كسبت ولكم ثواب ما كسبتم ﴿وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي لا تسألون يوم القيامة عما كانوا يعملون في الدنيا بل كل نفسٍ تتحمل وحدها تبعة ما اكتسبت من سوء.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَمَن يَرْغَبُ﴾ استفهام يراد به الإِنكار والتقريع، وقع فيه معنى النفي أي لا يرغب عن ملة إبراهيم إِلا السفيه والجملة واردة مورد التوبيخ للكافرين.
٢ - التأكيد ب «إِنَّ» و «اللام» ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾ لأنه لما كان إِخباراً عن حالة مغيبة في الآخرة احتاجت إِلى تأكيد بخلاف حال الدنيا فإِنه معلوم ومشاهد.
٣ - ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ هو من باب الالتفات إِذ السياق ﴿إِذْ قَالَ﴾ والالتفات من محاسن البيان، والتعرض بعنوان الربوبية ﴿رَبُّهُ﴾ لإِظهار مزيد اللطف والإعتناء بتربيته كما أن جواب إِبراهيم جاء على هذا المنوال ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾ ولم يقل: أسلمت لك للإِيدان بكمال قوة إِسلامه وللإِشارة إِلى أن من كان رباً للعالمين لا يليق إِلا أن يُتلقّى أمرُه بالخضوع وحسن الطاعة.
٤ - قوله ﴿آبَائِكَ﴾ شمل العم والأب والجد، فالجد إبراهيم والعم إِسماعيل والأب إِسحاق وهو من باب «التغليب» وهو من المجازات المعهودة في فصيح الكلام.
فَائِدَة: قال أبو حيان: «كنّى بالموت عن مقدماته لأنه إِذا حضر الموت نفسُه لا يقول المحتضر شيئاً، وفي قوله ﴿حَضَرَ الموتُ﴾ كناية غريبة وهو أنه غائب ولا بدّ أن يقدم ولذلك يقال في الدعاء: واجعل الموت خير غائب ننتظره».
تنبيه: ظاهر قوله تعالى ﴿فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾ النهي عن الموت إِلا على هذه الحالة من الإِسلام، والمقصود الأمر بالثبات على الإِسلام إِلى حين الموت، أي فاثبتوا على الإِسلام ولا تفارقوه أبداً واستقيموا على محجته البيضاء حتى يدرككم الموت وأنتم على الإِسلام الكامل كقولك لا تصلّ إِلا وأنت خاشع.
86
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أن ملة إِبراهيم هي ملة الحنيفية السمحة، وأن من لم يؤمن بها ورغب عنها فقد بلغ الذروة العليا في الجهالة والسفاهة، ذكر تعالى ما عليه أهل الكتاب من الدعاوى الباطلة من زعمهم أن الهداية في اتباع اليهودية والنصرانية، وبيّن أن تلك الدعوى لم تكن عن دليل أو شبهة بل هي مجرد جحود وعناد، ثم عقب ذلك بأن الدين الحق هو في التمسك بالإِسلام، دين جميع الأنبياء والمرسلين.
اللغة: ﴿حَنِيفاً﴾ الحنيف: المائل عن الدين الباطل إلى الدين الحق، والحنفُ الميل وبه سمي الأحنف لميلٍ في إِحدى قدميه قال الشاعر:
لا يرجع الطرف عنها حين يبصرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً
ولكنّا خُلقنا إِذ خُلقنا حنيفاً دينُنا عن كل دين
﴿وَالأَسْبَاطَ﴾ جمع سِبْط وهم حفدةُ يعقوب أي ذريات أبنائه وكانوا اثني عشر سبطاً وهم في بني إِسرائيل كالقبائل في العرب ﴿شِقَاقٍ﴾ الشقاق: المخالفة والعداوة وأصله من الشق وهو الجانب أي صار هذا في شق وهذا في شق ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ﴾ من الكفاية بمعنى الوقاية ﴿صِبْغَةَ الله﴾ الصبغة مأخوذة من الصَّبْغ وهو تغيير الشيء بلونٍ من الألوان والمراد بها الدِّينُ ﴿أَتُحَآجُّونَنَا﴾ أتجادلوننا من المحاجّة وهي المجادلة ﴿مُخْلِصُونَ﴾ الإِخلاص أن يقصد بالعمل وجه الله وحده.
التفِسير: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ﴾ أي قال اليهود كانوا على ملتنا يهوداً تهتدوا وقال النصارى كونوا نصارى تهتدوا فكلٌ من الفريقين يدعو إِلى دينه المعوج ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾ أي قل لهم يا محمد بل نتّبع ملة الحنيفية السمحة وهي ملة إِبراهيم حال كونه مائلاً عن الأديان كلها إِلى الدين القيم وما كان إِبراهيم من المشركين بل كان مؤمناً موحّداً وفيه تعريض بأهل الكتاب وإِيذان بأنَّ ما هم عليه إِنما هو شرك وضلال. ﴿قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ أي قولوا أيها المؤمنون آمنا بالله وما أنزل إِلينا من القرآن العظيم ﴿وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط﴾ أي وآمنا بما أنزل إِلى إِبراهيم من الصحف والأحكام التي كان الأنبياء متعبديون بها وكذلك حفدة إِبراهيم وإِسحاق وهم الأسباط حيث كانت النبوة فيهم ﴿وَمَآ أُوتِيَ موسى وعيسى﴾ أي من التوراة والإِنجيل ﴿وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبِّهِمْ﴾ أي ونؤمن بما أنزل على غيرهم من الأنبياء جميعاً ونصدّق بما جاءوا به من عند الله من الآيات البينات والمعجزات الباهرات ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ أي لا نؤمن بالبعض ونكفر بالبعض كما فعلت اليهود والنصارى ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أي منقادون لأمر الله خاضعون لحكمه ﴿فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا﴾ أي إِن آمن أهل الكتاب بنفس ما آمنم به معشر المؤمنين فقد اهتدوا إِلى الحق كما اهتديتم {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ
87
فِي شِقَاقٍ} أي وإِن أعرضوا عن الإِيمان بما دعوتهم إِليه فاعلم أنهم إِنما يريدون عداوتك وخلافك، وليسوا من طلب الحق في شيء ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله﴾ أي سيكفيك يا محمد شرهم وأذاهم ويعصمك منهم ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾ أي هو تعالى يسمع ما ينطقون به ويعلم ما يضمرونه في قلوبهم من المكر والشر ﴿صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً﴾ أي ما نحن عليه من الإِيمان هو دين الله الذي صبغنا به وفطرنا عليه فظهر أثره علينا كما يظهر الصبغ في الثوب، ولا أحد أحسن من الله صبغةً أي ديناً ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾ أي ونحن نعبده جلّ وعلا ولا نعبد أحداً سواه ﴿قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾ أي أتجادلوننا في شأن الله زاعمين أنكم أبناء الله وأحباؤه، وأن الأنبياء منكم دون غيركم؟ ﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ أي ربُّ الجميع على السواء وكلُّنا عبيدة ﴿وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ أي لنا جزاء أعمالنا ولكم جزاء أعمالكم لا يتحمل أحد وزر غيره ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ أي قد أخلصنا الدين والعمل لله ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نصارى﴾ ؟ أي أم تدّعون يا معشر أهل الكتاب أن هؤلاء الرسل وأحفادهم كانوا يهوداً أو نصارى ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله﴾ أي هل أنتم أعلم بديانتهم أم الله؟ وقد شهد الله لهم بملة الإسلام وبرأهم من اليهودية والنصرانية
﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً﴾ [آل عمران: ٦٧] فكيف تزعمون أنهم على دينكم؟ ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله﴾ أي لا أحد أظلم ممن أخفى وكتم ما اشتملت عليه آيات التوراة والإِنجيل من البشارة برسول الله، أو لا أحد أظلم ممن كتم ما أخبر الباري عنه من أن الأنبياء الكرام كانوا على الإِسلام {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا
88
تَعْمَلُونَ} أي مطلع على أعمالهم ومجازيهم عليها وفيه وعيد شديد ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ كرّرها لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إِذا كان أولئك الأنبياء على فضلهم وجلاله قدرهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى، وقد تقدم تفسيرها فأغنى عن الإِعادة.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى﴾ فيه إِيجاز بالحذف أي قال اليهود كونوا يهوداً وقال النصارى كونوا نصارى، وليس المعنى أن الفريقين قالوا ذلك لأن كل فريق يعدُّ دين الآخر باطلاً.
٢ - ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ﴾ فيه إيجاز ظاهر أن يكفيك الله شرهم، وتصدير الفعل بالسين دون سوف مشعر بأن ظهوره عليهم واقع في زمن قريب.
٣ - ﴿السميع العليم﴾ من صيغ المبالغة ومعناه الذي أحاط سمعه وعلمه بجميع الأشياء.
٤ - ﴿صِبْغَةَ الله﴾ سمي الدين صبغةً بطريق الاستعارة حيث تظهر سمته على المؤمن كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.
٥ - ﴿اتجادلوننا في الله﴾ الاستفهام وارد على جهة التوبيخ والتقريع.
الفوَائِد: الفائدة الأولى: تكرر ورود هذه الآية في مواطن من القرآن ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ قال أبو حيان: ولا تأتي الجملة إِلا عقب ارتكاب معصية فتجيء متضمنة وعيداً ومعلمة أن الله لا يترك أمرهم سدى.
الثانية: قال ابن عباس: إِن النصارى كان إِذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام صبغوه في ماءٍ لهم يقال له: المعمودي ليطهروه بذلك، ويقولون هذا طهور مكان الختان فإِذا فعلوا ذلك صار نصرانياً حقاً فأنزل الله هذه الآية.
الثالثة: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسّرونها بالعربية لأهل الشام فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله وما أُنزل إِلينا» رواه البخاري.
89
المنَاسَبَة: زعم اليهود والنصارى أن إِبراهيم والأنبياء معه كانوا يهوداً ونصارى وقد كانت قبلة الأنبياء بيت المقدس وكان صلوات الله عليه وهو بمكة يستقبل بيت المقدس فلما أُمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالتوجه إِلى الكعبة المشرّفة طعن اليهود في رسالته واتخذوا ذلك ذريعة للنيل من الإِسلام وقالوا: لقد اشتاق محمد إِلى مولده وعن قريب يرجع إِلى دين قومه، فأخبر الله رسوله الكريم بما سيقوله السفهاء ولقّنه الحجة الدامغة ليردّ عليهم، ويوطّن نفسه على تحمل الأذى منهم عند مفاجأة المكروه، وكان هذا الإخبار قبل تحويل القبلة معجزة له عليه السلام.
اللغَة: ﴿السفهآء﴾ جمع سفيه وهو الجاهل ضعيف الرأي، قليل المعرفة بالمنافع والمضار، وأصل السفه الخفة والرقة من قولهم ثوب سفيه إذا كان خفيف النسيج ﴿وَلاَّهُمْ﴾ صرفهم يقال: ولّى عن الشيء وتولّى عنه أي انصرف ﴿وَسَطاً﴾ قال الطبري: الوسط في كلام العرب: الخيار وقيل: العدل، وأصل هذا أن خير الأشياء أوساطها وأن الغلو والتقصير مذمومان ﴿عَقِبَيْهِ﴾ تثنية عقب وهو مؤخر القدم ﴿كَبِيرَةً﴾ شاقة وثقيلة ﴿شَطْرَ﴾ الشطر في اللغة يأتي بمعنى الجهة كقول الشاعر: تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة، ويأتي بمعى النصف ومنه الحديث «الطهور شطر الإِيمان».
89
سَبَبُ النّزول: عن البراء قال: لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب أن يتوجه نحو الكعبة فأنزل الله تعالى ﴿قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء﴾ الآية فقال السفهاء من الناس - وهم اليهود - ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ قال تعالى ﴿قُل للَّهِ المشرق والمغرب﴾ إِلى آخر الآية، أخرجه البخاري.
التفسِير: ﴿سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس﴾ أي سيقول ضعفاء العقول من الناس ﴿مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا﴾ أي ما صرفهم وحوّلهم عن القبلة التي كانوا يصلون إِليها وهي بيت المقدس، قبلة المرسلين من قبلهم؟ ﴿قُل للَّهِ المشرق والمغرب﴾ أي قل لهم يا محمد الجهات كلها لله له المشرق والمغرب فأينما ولينا وجوهنا فهناك وجه الله ﴿يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي يهدي عباده المؤمنين إِلى الطريق القويم الموصل لسعادة الدارين ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ أي كما هديناكم إِلى الإِسلام كذلك جعلناكم يا معشر المؤمنين أمة عدولاً خياراً ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ أي لتشهدوا على الأمم يوم القامة أن رسلهم بلّغتهم، ويشهد عليكم الرسول أنه بلغكم ﴿وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ أي وما أمرناك بالتوجه إِلى بيت المقدس ثم صرفناك عنها إِلى الكعبة ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ﴾ أي إِِلا لنختبر إِيمان الناس فنعلم من يصدّق الرسول، ممن يشكّك في الدين ويرجع إِلى الكفر لضعف يقينه ﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله﴾ أي وإِن كان هذا التحويل لشاقاً وصعباً إِلاّ على الذين هداهم الله ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي ما صحَّ ولا استقام أن يضيع الله صلاتكم إِلى بيت المقدس بل يثيبكم عليها، وذلك حين سألوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عمن مات وهو يصلي إِلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة فنزلت، وقوله تعالى ﴿إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ تعليل للحكم أي أنه تعالى عظيم الرحمة بعباده لا يضيع أعمالهم الصالحة التي فعلوها ﴿قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء﴾ لأنه كثيراً ما رأينا تردّد بصرك يا محمد جهة السماء تشوقاً لتحويل القبلة ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ أي فلنوجهنك إِلى قبلةٍ تحبها، - وهي الكعبة - قبلة أبيك إِبراهيم ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ أي توجه في صلاتك نحو الكعبة المعظمة ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أي وحيثما كنتم أيها المؤمنون فتوجهوا في صلاتكم نحو الكعبة أيضاً ﴿وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ﴾ أي إِن اليهود والنصارى ليعلمون أن هذا التحويل للقبلة حقٌ من عند الله ولكنهم يفتنون الناس بإِلقاء الشبهات ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ أي لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وسيجازيهم عليها، وفيه وعيد وتهديد لهم.
البَلاَغة: ١ - في قوله ﴿يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ﴾ استعارة تمثيلية حيث مثَّل لمن يرتد عن دينه بمن ينقلب على عقبيه أفاده الإِمام الفخر.
٢ - ﴿لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ الرأفة: شدة الرحمة وقدّم الأبلغ مراعاة للفاصلة وهي الميم في قوله ﴿صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ وقوله ﴿رَءُوفٌ رَّحِيم﴾ وكلاهما من صيغ المبالغة.
90
٣ - ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾ أطلق الوجه وأراد به الذات كقوله ﴿ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: ٢٧] وهذا النوع يسمى «المجاز المرسل» من باب إِطلاق الجزء وإِرادة الكل.
الفوَائِد: الأولى: أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يُدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب فيقول: هل بلغت؟ فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم؟ فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلّغ» فذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾.
الثانية: سمى الله تعالى الصلاة «إيماناً» في قوله ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي صلاتكم لأن الإِيمان لا يتمُّ إِلا بها، ولأنها تشتمل على نيةٍ وقولٍ وعمل.
الثالثة: في التعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام إِشارة إِلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين، لأن في إِصابة عين الكعبة من البعيد حرجاً عظيماً على الناس.
91
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما قاله السفهاء من اليهود عند تحويل القبلة من بيت المقدس إِلى الكعبة المعظمة، وأمر رسوله بأن يتوجه في صلاته نحو البيت العتيق، ذكر في هذه الآيات أن أهل الكتاب قد انتهوا في العناد والمكابرة إِلى درجة اليأس من إِسلامهم، فإِنهم ما تركوا قبلتك لشبهة عارضة تزيلها الحجة، وإنما خالفوك عناداً واستكباراً، وفي ذلك تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جحود وتكذيب أهل الكتاب.
اللغَة: ﴿آيَةٍ﴾ الآية: الحجة والعلامة ﴿أَهْوَاءَهُم﴾ جمع هوى مقصور، وهوى النفس: ما تحبه وتميل إليه ﴿الممترين﴾ الامتراء: الشك، امترى في الشيء شك فيه ومنه المراء والمرْية ﴿وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ﴾ [الحج: ٥٥] أي شك ﴿وِجْهَةٌ﴾ قال الفراء: وجهة وجِهَة ووجه بمعنى واحد والمراد بها
91
القِبلة ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ أي هو مولّيها وجهه فاستغنى عن ذكر الوجه قال الفراء: أي مستقبلها ﴿فاستبقوا﴾ أي بادروا وسارعوا ﴿الخيرات﴾ الأعمال الصالحة جمع خيْرة ﴿تَخْشَوْهُمْ﴾ تخافوهم والخشية: الخوف.
التفسِير: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ﴾ أي والله لئن جئت اليهود والنصارى بكل معجزة على صدقك في أمر القبلة ما اتبعوك يا محمد ولا صلّوا إلى قبلتك ﴿وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ أي وليست أنت بمتبع قبلتهم بعد أن حوّلك الله عنها، وهذا لقطع أطماعهم الفارغة حيث قالت اليهود: لو ثبتَّ على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره تغريراً له عليه السلام ﴿وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ أي إِن النصارى لا يتبعون قبلة اليهود، كما أن اليهود لا يتبعون قبلة النصارى، لما بينهم من العداوة والخلاف الشديد مع أن الكل من بني إسرائيل ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم﴾ أي ولئن فرض وقدّر أنك سايرتهم على أهوائهم، واتبعت ما يهوونه ويحبونه بعد وضوح البرهان الذي جاءك بطريق الوحي ﴿إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين﴾ أي تكون ممن ارتكب أفحش الظلم، والكلام وارد على سبيل الفرض والتقدير وإِلا فحاشاه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أتباع أهواء الكفرة المجرمين، وهو من باب التهييج للثبات على الحق. ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾ أي اليهود والنصارى ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ أي يعرفونه محمداً معرفة لا امتراء فيها كما يعرف الواحد منهم ولده معرفة يقين ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي وإن جماعة منهم - وهم رؤساؤهم وأحبارهم - ليخفون الحق ولا يعلنونه ويخفون صفة النبي مع أنه منعوت لديهم بأظهر النعوت ﴿الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل﴾ [الأعراف: ١٥٧] فهم يكتمون أوصافه عن علم وعرفان ﴿الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين﴾ أي ما أوحاه الله إِليك يا محمد من أمر القبلة والدين هو الحق فلا تكوننَّ من الشاكّين، والخطاب للرسول والمراد أمته ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستبقوا الخيرات﴾ أي لكل أمة من الأمم قبلةٌ هو مولّيها وجهه أي مائل إِليها بوجهه فبادروا وسارعوا أيها المؤمنون إِلى فعل الخيرات ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً﴾ أي في أي موضع تكونوا من أعماق الأرض أو قمم الجبال يجمعكم الله للحساب فيفصل يبن المحق والمبطل ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي هو قادر على جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسامكم وأبدانكم ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام﴾ أي من أيّ مكان خرجت إِليه للسفر فتوجه بوجهك في صلاتك جهة الكعبة ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ تقدم تفسيره وكرّره لبيان تساوي حكم السفر والحضر ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ هذا أمر ثالث باستقبال الكعبة المشرفة، وفائدة هذا التكرار أن القبلة كان أول ما نسخ من الأحكام الشرعية، فدعت الحاجة إِلى التكرار لأجل والتقرير وإِزالة الشبهة قال تعالى ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ أي عرّفكم أمر القبلة لئلا يحتج عليكم اليهود فيقولوا: يجحد ديننا ويتبع قبلتنا فتكون لها حجة عليكم أو كقول المشركين: يدعى محمد ملة إِبراهيم ويخالف قبلته ﴿إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني﴾ أي إِلا الظلمة المعاندين الذين لا يقبلون أيّ تعليل فلا تخافوهم وخافوني {وَلأُتِمَّ
92
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي أتمّ فضلي عليكم بالهداية إِلى قبلة أبيكم إبراهيم والتوفيق لسعادة الدارين.
البَلاَغَة: ١ - وضع اسم الموصول موضع الضمير في قوله ﴿أُوتُواْ الكتاب﴾ للإِيذان بكمال سوء حالهم من العناد.
٢ - ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم﴾ هذا من باب التهييج والإِلهاب للثبات على الحق.
٣ - ﴿وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ هذه الجملة أبلغ في النفي من قوله ﴿مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ﴾ لأنها جملة اسمية أولاً ولتأكيد نفيها بالباء ثانياً ذكره صاحب الفتوحات الإِلهية.
٤ - ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ فيه تشبيه «مرسل مفصل» أي يعرفون محمداً معرفةً واضحة كمعرفة أبنائهم الذين من أصلابهم.
الفوَائِد: الأولى: روي أن عمر بن الخطاب قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمداً كما تعرف ولدك؟ قال وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته ولست أشك فيه أنه نبيٌّ، وأما ولدي فلا أدري ما كان من أمه فلعلها خانت، فقبّل عمر رأسه.
الثانية: توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم، ولهذا زاد الله في ذم أهل الكتاب بقوله ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ فإِنه ليس المرتكب ذنباً عن جهلٍ كمن يرتكبه عن علم.
الثالثة: تكرر الأمر باستقبال الكعبة ثلاث مرات قال القرطبي: والحكمة في هذا التكرار أن الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو ببقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار.
93
المنَاسَبَة: بدأت الآيات الكريمة بمخاطبة المؤمنين، وتذكيرهم بنعمة الله العظمى عليهم، ببعثة خاتم المرسلين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن بني إِسرائيل، وذكرت بالتفصيل
93
نعم الله عليهم التي قابلوها بالجحود والكفران فيما يزيد على ثلث السورة الكريمة، وقد عدّد القرآن الكريم جرائمهم ليعتبر ويتعظ بها المؤمنون، ولما انتهى الحديث عن اليهود بعد ذلك البيان الواضح جاء دون التذكير للمؤمنين بالنعم الجليلة والتشريعات الحكيمة التي بها سعادتهم في الدارين.
اللغَة: ﴿الكتاب﴾ القرآن العظيم ﴿الحكمة﴾ السنّة النبوية ﴿فاذكروني﴾ أصل الذكر التنبه بالقلب للمذكور، وسُمّي الذكر باللسان ذكراً لأنه علامة على الذكر القلبي ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ أصل البلاء المحنة، ثم قد يكون بالخير أو بالشر ﴿وَنَبْلُوكُم بالشر والخير﴾ [الأنبياء: ٣٥] ﴿مُّصِيبَةٌ﴾ المصيبة: كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه في نفسه أو ماله أو ولده ﴿صَلَوَاتٌ﴾ الأصل في الصلاة الدعاء وهي من الله بمعنى الرحمة ومن الملائكة بمعنى الاستغفار.
التفسير: ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ﴾ الكلام متعلق بما سبق في قوله ﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي﴾ [البقرة: ١٥٠] والمعنى كما اتممت عليكم نعمتي كذلك أرسلت فيكم رسولاً منكم ﴿يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ أي يقرأ عليكم القرآن ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ أي يطهركم من الشرك وقبيح الفعال ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة﴾ أي يعلمكم أحكام الكتاب المجيد، والسنة النبوية المطهرة ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ أي يعلمكم من أمور الدنيا والدين الشيء الكثير الذي لم تكونوا تعلمونه ﴿فاذكروني أَذْكُرْكُمْ﴾ أي اذكروني بالعبادة والطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة ﴿واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ أي اشكروا نعمتي عليكم ولا تكفروها بالجحود والعصيان، روي أن موسى عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك؟ قال له ربه: «تذكرني ولا تنساني، فإِذا ذكرتني فقد شكرتني، وإِذا نسيتني فقد كفرتني» ثم نادى تبارك وتعالى عباده المؤمنين بلفظ الإِيمان ليستنهض هممهم إِلى امتثال الأوامر الإِلهية، وهو النداء الثاني الذي جاء في هذه السورة الكريمة فقال ﴿يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة﴾ أي استعينوا على أمور دنياكم وآخرتكم بالصبر والصلاة فالبصبر تنالون كل فضيلة، وبالصلاة تنتهون عن كل رذيلة ﴿إِنَّ الله مَعَ الصابرين﴾ أي معهم بالنصر والمعونة والحفظ والتأييد ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ﴾ أي لا تقولوا للشهداء إنهم أموات ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾ أي بل هم أحياءً عند ربهم يرزقون ولكن لا تشعرون بذلك لأنهم في حياةٍ برزخية أسمي من هذه الحياة ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات﴾ أي ولنختبرنكم بشيءٍ يسير من ألوان البلاء مثل الخوف والجوع، وذهاب بعض الأموال، وموت بعض الأحباب، وضياع بعض الزروع والثمار ﴿وَبَشِّرِ الصابرين﴾ أي بشر الصابرين على المصائب والبلايا بجنات النعيم ثم بيّن تعالى تعريف الصابرين بقوله ﴿الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ﴾ أي نزل بهم كرب أو بلاء أو مكروه ﴿قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ أي استرجعوا وأقروا بأنهم عبيد الله يفعل بهم ما يشاء ﴿أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكر لهم ثناء وتمجيد ورحمة من الله، وهم المهتدون إِلى طريق السعادة.
البَلاَغَة: ١ - بين كلمتي ﴿أَرْسَلْنَا﴾ و ﴿رَسُولاً﴾ جناس الاشتقاق وهو من المحسنات البديعية.
94
٢ - ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ بعد قوله ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة﴾ هو من باب ذكر العام بعد الخاص لإِفادة الشمول ويسمى هذا في البلاغة ب (الإِطناب).
٣ - ﴿أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ فيه إيجاز بالحذف أي لا تقولوا هم أموات بل هم أحياء (وبينهما طباق).
٤ - التنكير في قوله ﴿بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف﴾ للتقليل أي بشيء قليل.
٥ - ﴿صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ التنوين فيهما للتفخيم، والتعرض بعنوان الربوبية مع الإِضافة إِلى ضميرهم ﴿رَّبِّهِمْ﴾ لإِظهار مزيد العناية بهم.
٦ - ﴿هُمُ المهتدون﴾ صيغة قصر وهو من نوع قصر الصفة على الموصوف.
وائِد: الأولى: روي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «ما أصابتني مصيبة إِلا وجدتُ فيها ثلاث نعم: الأولى: أنها لم تكن في ديني، الثانية: أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة: أن الله يجازي عليها الجزاء الكبير ثم تلا قوله تعالى: ﴿أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون﴾ ».
الثانية: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إِذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون حَمِدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمُّوه بيتَ الحمد».
95
المنَاسَبَة: لما أمر تعالى بذكره وشكره ودعا المؤمنين إِلى الاستعانة بالصبر والصلاة، أعقب ذلك ببيان أهمية الحج وأنه من شعائر دين الله، ثم نبّه تعالى على وجوب نشر العلم وعدم كتمانه، وذكر خطر كتمان ما أنزل الله من البيّنات والهدى، كما فعل اليهود والنصارى في كتبهم فاستحقوا اللعنة والغضب والدمار.
اللغَة: ﴿شَعَآئِرِ الله﴾ جمع شعيرة وهي في اللغة: العلامة ومنه الشِّعار، وأشعر الهَدْي جعل له علامة ليعرف بها، والشعائر: كلُّ ما تعبّدنا الله به من أمور الدين كالطواف والسعي والأذان ونحوه. {
95
حَجَّ} الحجُّ في اللغة: القصد، وفي الشرع: قصد البيت العتيق لأداء المناسك من الطواف والسعي ﴿اعتمر﴾ العمرة في اللغة: الزيارة ثم صار علماً لزيارة البيت للنُّسك ﴿جُنَاحَ﴾ الجُناح: الميل إِلى الإِثم وقيل: هو الإِثم نفسه سمي به لأنه ميل إِلى الباطل يقال: جنح إِلى كذا إِذا مال قال ابن الأَثير وأينما ورد فمعناه الإِثم والميل ﴿يَكْتُمُونَ﴾ الكتمان: الإِخفاء والستر ﴿يُنْظَرُونَ﴾ يُمهلون.
التفِسير: ﴿إِنَّ الصفا والمروة﴾ اسم الجبلين بمقربة من البيت الحرام ﴿مِن شَعَآئِرِ الله﴾ أي من أعلام دينه ومناسكه التي تعبَدنا الله بها ﴿فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر﴾ أي من قصد بيت الله للحج أو قصده للزيارة بأحد النسكين «الحج» أو «العمرة» ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ أي لا حرج ولا إِثم عليه أن يسعى بينهما، فإِذا كان المشركون يسعون بينهما ويتمسحون بالأصنام، فاسعوا أنتم لله رب العالمين، ولا تتركوا الطواف بينهما خشية التشبه بالمشركين ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً﴾ أي من تطوّع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته المفروضة عليه، أو فعل خيراً فرضاً كان أو نقلاً ﴿فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ أي إِنه سبحانه شاكرٌ له طاعته ومجازيه عليها خير الجزاء، لأنه عليم بكل ما يصدر من عباده من الأعمال فلا يضيع عنده أجر المحسنين ﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى﴾ أي يخفون ما أنزلناه من الآيات البينات، والدلائل الواضحات التي تدل على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب﴾ أي من بعد توضيحه لهم في التوراة أو في الكتب السماوية كقوله تعالى ﴿الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل﴾ [الأعراف: ١٥٧] ﴿أولئك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون﴾ أي أولئك الموصوفون بقبيح الأعمال، الكاتمون لأوصاف الرسول، المحرّفون لأحكام التوراة يلعنهم الله فيبعدهم من رحمته، وتلعنهم الملائكة والمؤمنون ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ أي إِلا الذين ندموا على ما صنعوا، وأصلحوا ما أفسدوه بالكتمان، وبينوا للناس حقيقة ما أنزل الله فأولئك يقبل الله توبتهم ويشملهم برحمته ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ أي كثير التوبة على عبادي، واسع الرحمة بهم، أصفح عما فرط منهم من السيئات ﴿إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ أي كفروا بالله واستمرّوا على الكفر حتى داهمهم الموت وهم على تلك الحالة ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ﴾ أي يلعنهم الله وملائكته وأهل الأرض جميعاً، حتى الكفار فإنهم يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي خالدين في النار - وفي إِضمارها تفخيم لشأنها - ﴿لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب﴾ أي إن عذابهم في جهنم دائم لا ينقطع لا يخف عنهم طرفة عين
﴿لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ [الزخرف: ٧٥] ﴿وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي ولا يمهلون أو يؤجلون بل يلاقيهم العذاب حال مفارقة الحياة الدنيا.
سَبَبُ النّزول: عن أنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه سئل عن الصفا والمروة فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإِسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله ﴿إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله﴾.
البَلاَغَة: ١ - ﴿مِن شَعَآئِرِ الله﴾ أي من شعائر دين الله ففيه إِيجاز بالحذف.
96
٢ - ﴿شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ أي يثيب على الطاعة قال أبو السعود: عبّر عن ذلك بالشكر مبالغة في الإِحسان على العباد فأطلق الشكر وأراد به الجزاء بطريق المجاز.
٣ - ﴿يَلعَنُهُمُ الله﴾ فيه التفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة إذ الأصل «نلعنهم» ولكن في إظهار الاسم الجليل ﴿يَلعَنُهُمُ الله﴾ إِلقاء الروعة والمهابة في القلب.
٤ - ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون﴾ فيه جناس الاشتقاق. وهو من المحسنات البديعية.
٥ - ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي في اللعنة أو في النار وأضمرت النار تفخيماً لشأنها وتهويلاً لأمرها.
٦ - ﴿وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ إيثار الجملة الإِسمية لإِفادة دوام النفي واستمراره.
الفوَائِد: الأولى: كان على الصفا صنم يقال له «إِساف» وعلى المروة صنم يقال له «نائلة» فكان المشركون إِذا طافوا تمسحوا بهما فخشي المسلمون أن يتشبهوا بأهل الجاهلية ولذلك تخرجوا من الطواف لهذا السبب فنزلة الآية تبّين أنهما من شعائر الله وأنه لا حرج عليهم في السعي بينهما فالمسلمون يسعون لله لا للأصنام.
الثانية: الشكر معناه مقابلة النعمة والإِحسان بالثناء والعرفان، وهذا المعنى محالٌ على الله إِذ ليس لأحد عنده يدٌ ونعمة حتى يشكره عليها ولهذا حملة العلماء على الثواب والجزاء أي أنه تعالى يثيبه ولا يضيع أجر العاملين أقول: والصحيح ما عليه السلف من إثبات الصفات كما وردت، فهو شكر يليق بجلاله وكماله.
97
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى حال الكافرين الجاحجين لآيات الله وما لهم من العذاب والنكال في الآخرة، ذكر هنا أدلة القدرة والوحدانية، وأتى بالبراهين على وجود الخالق الحكيم، فبدأ بذكر العالم العلوي ثم العالم السفلي، ثم بتعاقب الليل والنهار، ثم بالسفن التي تمخر عباب البحار، ثم بالأمطار التي فيها حياة الزروع والنفوس، ثم بما بث في الأرض من أنواع الحيوانات العجيبة، ثم بالرياح والسحب التي سخرها الله لفائدة الإِنسان وختم ذلك بالأمر بالتفكر في بدائع صنع الله،
97
وإعمال العقل في جمل خلقه، ليستدل العاقل بالأثر على وجود المؤثر، وبالصنعة على عظمة الخالق المدبّر الحكيم.
اللغَة: ﴿وإلهكم﴾ الإِله: المعبود بحقٍ أو باطل والمراد به هنا المعبود بحق وهو الله رب العالمين ﴿الفلك﴾ ما عظم من السفن وهو اسم يطلق على المفرد والجمع ﴿وَبَثَّ﴾ فرَّق ونشر ومنه ﴿كالفراش المبثوث﴾ [القارعة: ٤] ﴿دَآبَّةٍ﴾ الدابة في اللغة: كل ما يدب على الأرض من إِنسانٍ ويحوان مأخوذ من الدبيب وهو المشي رويداً وقد خصّه العرف بالحيوان، ويدل على المعنى اللغوي قوله تعالى ﴿والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ﴾ [النور: ٤٥] فجمع بين الزواحف والإِنسان والحيوان ﴿وَتَصْرِيفِ الرياح﴾ الريّاح: جمع ريح وهي نسيم الهواء، وتصريفُها تقليبها في الجهات ونقلها من حال إِلى حال، فتهب حارة وباردة، وعاصفة ولينة، وملقحة للنبات وعقيماً ﴿المسخر﴾ من التسخير وهو التذليل والتيسير ﴿أَندَاداً﴾ جمع نِدّ وهو المماثل والمراد بها الأوثان والأصنام ﴿الأسباب﴾ جمع سبب وأصله الحبل والمراد به ما يكون بين الناس من روابط كالنسب والصداقة ﴿كَرَّةً﴾ الكرَّة: الرَّجعة والعودة إِلى الحالة التي كان فيها ﴿حَسَرَاتٍ﴾ جمع حسْرة وهي أشد الندم على شيء فائت وفي التنزيل ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله﴾ [الزمر: ٥٦].
سَبَبُ النّزول: عن عطاء قال: أنزلة بالمدينة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وإلهكم﴾ فقالت كفار قريش بمكة كيف يسعُ الناس إِلهٌ واحد؟ فأنزل الله تعالى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض... إِلى قوله لآيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
التفسِير: ﴿وإلهكم إله وَاحِدٌ أي إِلهكم المستحق للعبادة إِلهٌ واحد، لا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم﴾ أي لا معبود بحق إِلا هو جلّ وعلا مُولي النعم ومصدر الإِحسان ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ أي إِن في إِبداع السماوات والأرض بما فيهما ن عجائب الصنعة ودلائل القدرة ﴿واختلاف الليل والنهار﴾ أي تعاقبهما بنظام محكم، يأتي الليل فيعقبه النهار، وينسلخ النهار فيعقبه الليل، ويطول النهار ويقصر الليل والعكس ﴿والفلك التي تَجْرِي فِي البحر﴾ أي السفن الضخمة الكبيرة التي تسير في البحر على وجه الماء وهي موقرةٌ بالأثقال ﴿بِمَا يَنفَعُ الناس﴾ أي بما فيه مصالح الناس من أنواع المتاجر والبضائع ﴿وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ﴾ أي وما أنزل الله من السحاب من المطر الذي جاء به حياة البلاد والعباد ﴿فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي أحيا بهذا الماء الزروع والأشجار، بعد أن كانت يابسة مجدبة ليس فيها حبوب ولا ثمار ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾ أي نشر وفرّق في الأرض ن كل ما يدب عليها من أنواع الدواب، المختلفة في أحجامها وأشكالها وألوانها وأصواتها ﴿وَتَصْرِيفِ الرياح﴾ أي تقليب الرياح في هبوبها جنوباً وشمالاً، حارة وباردة، وليّنة وعاصفة ﴿والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض﴾ أي السحاب المذلّل بقدرة الله، يسير حيث شاء الله وهو يحمل الماء الغزير ثم يصبُّه على الأرض قطرات
98
قطرات، قال كعب الأحبار: السحاب غربال المطر ولولا السحاب لأفسد المطر ما يقع عليه من الأرض ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي لدلائل وبراهين عظيمة دالة على القدرة القاهرة، والحكمة الباهرة، والرحمة الواسعة لقوم لهم عقول تعي وأبصار تدرك، وتتدبر بأن هذه الأمور من صنع إِله قادر حكيم، ثم أخبر تعالى عن سوء عاقبة المشركين الذين عبدوا غير الله فقال ﴿وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً﴾ أي ومن الناس من تبلغ بهم الجهالة أن يتخذ من غير الله أنداداً أي رؤساء وأَصناماً ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله﴾ أي يعظمونهم ويخضعون لهم كحب المؤمنين لله ﴿والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ﴾ أي حب المؤمنين لله أشدُّ من حب المشركين للأنداد ﴿وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب أَنَّ القوة للَّهِ جَمِيعاً﴾ أي لو رأى الظالمون حين يشاهدون العذاب المعدّ لهم يوم القيامة أَن القدرة كلها لله وحده ﴿وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب﴾ أي وأنَّ عذاب الله شديد أليم وجواب «لو» محذوف أي لرأوا ما لا يوصف من الهول والفظاعة ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا﴾ أي تبرأ الرؤساء من الأتباع ﴿وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب﴾ أي حين عاينوا العذاب وتقطعت بينهم الروابط وزالت المودّات ﴿وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ أي تمنّى الأتباع لو أنّ لهم رجعة إِلى الدنيا ليتبرءوا من هؤلاء الذين أضلوهم السبيل ﴿كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا﴾ أي كما تبرأ الرؤساء من الأتباع في ذلك اليوم العصيب.
. قال تعالى ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ أي أنه تعالى كما أراهم شدة عذابه كذلك ربهم أعمالهم القبيحة ندامات شديدة وحسرات تتردد في صدورهم كأنها شرر الجحيم ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار﴾ أي ليس لهم سبيل إِلى الخروج من النار، بل هم في عذاب سرمدي وشقاء أبدي.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وإلهكم إله وَاحِدٌ﴾ ورد الخبر حالياً من التأكيد تنزيلاً للمنكر منزلة غير المنكر، وذلك لأن بين أيديهم من البراهين الساطعة والحجج القاطعة ما لو تأملوه لوجدوا فيه غاية الإِقناع.
٢ - ﴿لآيَاتٍ﴾ التنكير في آيات للتفخيم أي آيات عظيمة دالة على قدرة قاهرة وحكمة باهرة.
٣ - ﴿كَحُبِّ الله﴾ فيه تشبيه (مرسل مجمل) حيث ذكرت الأداة وحذف وجه التشبيه.
٤ - ﴿أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ﴾ التصريح بالأشدّية أبلغ من أن يقال «أحبُّ لله» كقوله ﴿فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤] مع صحة أن يقال: أو أقسى.
٥ - ﴿وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا﴾ وضع الظاهر موضع الضمير ﴿ولو يرون﴾ لإِحضار الصورة في ذهن السامع وتسجيل السبب في العذاب الشديد وهو الظلم الفادح.
٦ - في قوله ﴿وَرَأَوُاْ العذاب﴾ و ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب﴾ من علم البديع ما يسمى ب «الترصيع» وهو أن يكون الكلام مسجوعاً.
٧ - ﴿بِخَارِجِينَ مِنَ النار﴾ الجملة إِسمية وإِيرادها بهذه الصيغة لإِفادة دوام الخلود.
99
الفوَائِد: الأولى: ذكر تعالى في الآية من عجائب مخلوقاته ثمانية أنواع تنبيهاً على ما فيها من العبر واستدلالاً على الوحدانية من الأثر، الأول: خلق السماوات وما فيها من الكواكب والشمس والقمر، الثاني: الأرض وما فيها من جبال وبحار وأشجار وأنهار ومعادن وجواهر، الثاث: اختلاف الليل والنهار بالطول والقصر والنور والظلمة والزيادة والنقصان، الرابع: السفن العظيمة كأنها الراسيات من الجبال وهي موقرة بالأثقال والرجال تجري بها الريح مقبلة ومدبرة، الخامس: المطر الذي جعله الله سبباً لحياة الموجودات من حيوان ونبات وإِنزاله بمقدار، السادس: ما بثّ في الأرض من إِنسان وحيوان مع اختلاف الصور والأشكال والألوان، السابع: تصريف الرياح والهواءُ جسم لطيفٌ وهو مع ذلك في غاية القوة بحيث يقلع الصخر والشجر ويخرب البنيان العظيمة وهو مع ذلك حياة الوجود فلو أمسك طرفة عين لمات كل ذي روح وأنتن ما على وجه الأرض، الثامن: السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأودية الكبيرة يبقى معلقاً بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه ولا دعامة تسنده فسبحان الواحد القهار.
الثانية: ورد لفظ الرياح مفردة ومجموعة، فجاءت مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب كقوله ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ﴾ [الروم: ٤٦] وقوله ﴿وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الفرقان: ٤٨] وقوله ﴿الريح العقيم﴾ [الذاريات: ٤١] وروى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقول إِذا هبت الريح «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً».
100
المنَاسَبَة: لمّا بيّن تعالى التوحيد ودلائله، وما للمؤمنين المتقين والكفرة العاصين، أتبع ذلك بذكر إِنعامه على الكافر والمؤمن، ليدل على أن الكفر لا يؤثر في قطع الإِنعام، لأنه تعالى رب
100
العالمين، فإِحسانه عام لجميع الأنام دون تمييز بين مؤمن وكافر وبرٍّ وفاجر، ثم دعا المؤمنين إِلى شكر المنعم جلٍّ وعلا والأكل من الطيبات التي أباحها الله، واجتناب ما حرّمه الله من أنواع الخبائث.
اللغَة: ﴿خُطُوَاتِ الشيطان﴾ جمع خُطوة وهي في الأصل ما بين القدمين عند المشي وتستعمل مجازاً في تتبع الآثار ﴿السواء﴾ أصل السُّوء ما يسوء الإِنسان أي يحزنه ويطلق على المعصية قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً لأنها تسوء صاحبها أي تحزنه في الحال أو المآل ﴿الفحشآء﴾ ما يستعظم ويستفحش من المعاصي فهي أقبح أنواع المعاصي ﴿أَلْفَيْنَا﴾ وجدنا ومنه ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا﴾ [يوسف: ٢٥] ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ﴾ [الصافات: ٦٩] أي وجدوا ﴿يَنْعِقُ﴾ يصيح يقال: نعق الراعي بغنمه ينعِق نعيقاً إِذا صاح بها وزجرها قال الأخطل:
فانعِقْ بضأنك يا جريرُ فإِنما مَنَّتك نفسُك في الخلاء ضلالاً
﴿أُهِلَّ﴾ الإِهلال: رفع الصوت يقال: أهلَّ المحرم إِذا رفع صوته بالتلبية ومنه إِهلال الصبي وهو صياحه عند الولادة، وكان المشركون إِذا ذبحوا ذكروا اللات والعزَّى ورفعوا بذلك أصواتهم ﴿اضطر﴾ أُلجئ أي ألجأته الضرورة إلى الأكل من المحرمات ﴿بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ الباغي من البغي والعادي من العدوان، وهما بمعنى الظلم وتجاوز الحدّ ﴿يُزَكِّيهِمْ﴾ يطهرهم من التزكية وهي التطهير ﴿شِقَاقٍ﴾ الشقاق: الخلاف والعداوة.
التفسِير: ﴿ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً﴾ الخطاب عام لجميع البشر أي كلوا ممّا أحله الله لكم من الطيبات حال كونه مستطاباً في نفسه غير ضار بالأبدان والعقول ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي لا تقتدوا بآثار الشيطان فيما يزينه لكم من المعاصي والفواحش ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ أي إِنه عظيم العداوة لكم وعداوته ظاهرة لا تخفى على عاقل ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء﴾ أي لا يأمركم الشيطان بما فيه خير إِنما يأمركم بالمعاصي والمنكرات وما تناهي في القبح من الرذائل ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي وأن تفتروا على الله بتحريم ما أحل لكم وتحليل ما حرّم عليكم فتحلوا وتحرّموا من تلقاء أنفسكم ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله﴾ أي وإِذا قيل للمشركين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحي والقرآن واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل ﴿قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ﴾ أي بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، قال تعالى في الردّ عليهم ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ أي أيتبّعون آباءهم ولو كانوا سفهاء أغبياء ليس لهم عقل يردعهم عن الشر ولا بصيرة تنير لهم الطريق؟ والاستفهام للإِنكار والتوبيخ والتعجيب من حالهم في تقليدهم الأعمى للآباء، ثم ضرب تعالى مثلاً للكافرين في غاية الوضوح والجلاء فقال تعالى ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً﴾ أي ومثل الكفار في عدم انتفاعهم بالقرآن وحججه الساطعة ومثل من يدعوهم إِلى الهدى كمثل الراعي الذي يصيح بغنمه ويزجرها فهي تسمع الصوت والنداء دون أن تفهم الكلام والمراد، أو تدرك المعنى الذي يقال لها، فهؤلاء الكفار كالدواب السارحة لا يفهمون ما تدعوهم إِليه ولا يفقهون، يسمعون القرآن ويصمّون عنه الآذان
﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ [الفرقان: ٤٤] ولهذا قال تعالى ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أي صمٌّ عن
101
سماع الحق، بكم أي خرسٌ عن النطق به عميٌ عن رؤيته فهم لا يفقهون ما يقال لهم لأنهم أصبحوا كالدواب فهم في ضلالهم يتخبطون. وخلاصة المثل - والله أعلم - مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من سماع الصوت دون أن تفهم المعنى وهو خلاصة قول ابن عباس ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ خاطب المؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بالتوجيهات الربانية والمعنى كلوا يا أيها المؤمنون من المستلذات وما طاب من الرزق الحلال الذي رزقكم الله إِياه ﴿واشكروا للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ أي واشكروا الله على نعمه التي لا تحصى إِن كنتم تخصونه بالعبادة ولا تعبدون أحداً سواه ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير﴾ أي ما حرّم عليكم إلا الخبائث كالميتة والدم ولحم الخنزير ﴿وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله﴾ أي وما ذبح للأصنام فذكر عليه اسم غير الله كقولهم باسم اللات والعزّى ﴿فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ أي فمن ألجأته ضرورة إلى أكل شيء من المحرمات بشرط ألا يكون ساعياً في فساد، ولا متجاوزاً مقدار الحاجة ﴿فلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي فلا عقوبة عليه في الأكل ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي يغفر الذنوب ويرحم العباد ومن رحمته أن أباح المحرمات وقت الضرورة ﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب﴾ أي يخفون صفة النبي عليه السلام المذكورة في التوراة وهم اليهود قال ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود حين كتموا نعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي يأخذون بدله عوضاً حقيراً من حطام الدنيا ﴿أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار﴾ أي إِنما يأكلون ناراً تأجّج في بطونهم يوم القيامة لأن أكل ذلك المال الحرام يفضي بهم إِلى النار ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة﴾ أي لا يكلمهم كلام رضىً كما يكلم المؤمنين بل يكلمهم كلام غضب كقوله ﴿اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨] ﴿وَلاَ يُزَكِّيهِمْ﴾ أي يطهرهم من دنس الذنوب ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي عذاب مؤلم وهو عذاب جهنم ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ أي أخذوا الضلالة بدل الهدى والكفر بدل الإِيمان ﴿والعذاب بالمغفرة﴾ أي واستبدلوا الجحيم بالجنة ﴿فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار﴾ أي ما أشدَّ صبرهم على نار جهنم؟ وهو تعجيب للمؤمنين من جراءة أولئك الكفار على اقتراف أنواع المعاصي ثم قال تعالى مبيناً سبب النكال والعذاب ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق﴾ أي ذلك العذاب الأليم بسبب أن الله أنزل كتابه
﴿التوراة﴾ [آل عمران: ٣] ببيان الحق فكتموا وحرّفوا ما فيه ﴿وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب﴾ أي اختلفوا في تأويله وتحريفه ﴿لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ أي في خلاف بعيد عن الحق والصواب، مستوجب لأشدّ العذاب.
سَبَبُ النّزول: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا، فلما بعث محمد عليه السلام خافوا انقطاع تلك المنافع فكتموا أمر محمد وأمر شرائعه فنزلت ﴿إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب﴾ الآية.
البَلاَغَة: ١ - ﴿خُطُوَاتِ الشيطان﴾ استعارة عن الاقتداء به واتباع آثاره قال في تلخيص البيان: وهي أبلغ عبارة عن التحذير من طاعته فيما يأمر به وقبول قوله فيما يدعو إِلى فعله.
102
٢ - ﴿بالسواء والفحشآء﴾ هو من باب «عطف الخاص على العام» لأن السوء يتناول جميع المعاصي، والفحساء وأفحش المعاصي.
٣ - ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ﴾ فيه تشبيه (مرسل ومجمل) مرسل لذكر الأداة ومجمل لحذف وجه الشبه فقد شبه الكفار بالبهائم التي تسمع صوت المنادي دون أن تفقه كلامه وتعرف مراده.
٤ - ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ حذفت أداة الشبه ووجه الشبه فهو «تشبيه بليغ» أي هم كالصم في عدم سماع الحق وكالعمي وكالبكم في عدم الانتفاع بنور القرآن.
٥ - ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار﴾ مجاز مرسل باعتبار ما يؤول إِليه أي إِنما يأكلون المال الحرام الذي يفضي بهم إِلى النار وقوله ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ زيادة تشنيع وتقبيح لحالهم وتصويرهم بمن يتناول رضف جهنم، وذلك أفظع سماعاً وأشد إيجاعاً.
٦ - ﴿اشتروا الضلالة بالهدى﴾ استعارة والمراد استبدلوا الكفر بالإِيمان وقد تقدّم في أول السورة إِجراء هذه الاستعارة.
الفوَائِد: الأولى: عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ﴾ فقام سعد بن أبي وقاص فقال يا رسول الله: أدع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة! فقال يا سعد: أطبْ مطعمَك تكنْ مستجابَ الدعوة، والذي نفس محمد بيده إِن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبَّلُ منه أربعين يوماً، وأيمّا عبدٍ نبت لحمة من السُّحتِ والربا فالنارُ أولى به.
الثانية: قال بعض السلف: «يدخل في اتباع خطواتٍ الشيطان كلُّ معصية لله، وكل نذرٍ في المعاصي قال الشعبي: نذر رجلٌ أن ينحر ابنه فأقناه مسروقٌ بذبح كبش وقال: هذا من خطوات الشيطان».
الثالثة: قال ابن القيم في أعلام الموقعين عن قوله تعالى ﴿وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً﴾ قال: لك أن تجعل هذا من التشبيه المركب، وأن تجعله من التشبيه المفرّق، فإِن جعلته من المركب كان تشبيهاً للكفار - في عدم فقههم وانتفاعهم - بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئاً غير الصوت المجرّد الذي هو الدعاء والنداء، وإِن جعلته من التشبيه المفرّق: فالذين كفروا بمنزلة البهائم، ودعاء داعيهم إِلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها، ودعاؤهم إِلى الهدى بمنزلة النعق، وإِدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإِدراك البهائم مجرد صوت الناعق والله أعلم.
103
المنَاسَبَة: من هنا بداية النصف الثاني من السورة الكريمة على وجه التقريب، ونصف السورة السابق كان متعلقاً بأصول الدين وبقبائح بني إِسرائيل، وهذا النصف غالبه متعلق بالأحكام التشريعية الفرعية، ووجه المناسبة أنه تعالى ذكر في الآية السابقة أنّ أهل الكتاب اختلفوا في دينهم اختلافاً كبيراً صاروا بسببه في شقاق بعيد، ومن أسباب شقاقهم أمر القبلة إِذ كثروا الخوض فيه وأنكروا على المسلمين التحول إِلى استقبال الكعبة، وادّعى كلٌ من الفريقين - اليهود والنصارى - أن الهدى مقصور على قبلته، فردّ الله عليهم بين أن العبادة الحقة وعمل البرّ ليس بتوجه الإِنسان جهة المشرق والمغرب، ولكن بطاعة الله وامتثال أوامره وبالإِيمان الصادق الراسخ.
اللغَة: ﴿البر﴾ اسم جامع للطاعت واعمال الخير ﴿الرقاب﴾ جمع رقبة وهي في الأصل العُنقُ، وتطلق على البدن كله كما تطل العين على الجاسوس والمراد في الآية الأسرى والأرقاء ﴿البأسآء﴾ الفقر ﴿الضراء﴾ السقُّم والوجع ﴿البأس﴾ القتال وأصل البأس في اللغة: الشدّة ﴿كُتِبَ﴾ فرض ﴿القصاص﴾ العقوبة بالمثل من قتل أو جرح مأخوذ من القصّ وهو تتبع الأثر ﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١] اتبعى أثره ﴿القتلى﴾ جمع قتيل يستوي فيه المذكر والمؤنث يقال: رجل قتيل وامرأة قتيل ﴿الألباب﴾ العقول جمع لب مأخوذ من لبّ النخلة ﴿إِثْماً﴾ الإِثم: الذنب ﴿جَنَفاً﴾ الجنف: العدول عن الحق على وجه الخطأ.
سَبَبُ النّزول: عن قتادة أن أهل الجاهلية كان فيهم بغيٌ وطاعةٌ للشيطان، وكان الحيُّ منهم إِذا كان فيهم منعة فقتل عبدُهم عبد آخرين قالوا لن نقتل به إِلا حراً، وإِذا قتلت امرأةٌ منهم امرأةً من آخرين قالوا لن نقتل بها إِلا رجلاً فأنزل الله ﴿الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى﴾.
التفِسير: ﴿لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب﴾ أي ليس فعلُ الخير وعملُ الصالح محصوراً في أن يتوجه الإِنسان في صلاته جهة المشرق والمغرب ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر﴾ أي ولكنَّ البِرَّ الصحيح هو الإِيمان بالله واليوم الآخر ﴿والملائكة والكتاب والنبيين﴾
104
أي وأن يؤمن بالملائكة والكتب والرسل ﴿وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى﴾ أي أعطى المال على محبته له ذوي قرابته فهم أولى بالمعروف ﴿واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾ أي وأعطى المال أيضاً لليتامى الذين فقدوا آباءهم والمساكين الذين لا مال لهم، وابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله ﴿والسآئلين وَفِي الرقاب﴾ أي الذين يسألون المعونة بدافع الحاجة وفي تخليص الأسرى والأرقاء بالفداء ﴿وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة﴾ أي وأتى بأهم أركان الإِسلام وهما الصلاة والزكاة ﴿والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾ أي ومن يوفون بالعهود ولا يخلفون الوعود ﴿والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس﴾ أي الصابرين على الشدائد وحين القتال في سبيل الله وهو منصوب على المدح ﴿أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون﴾ أي أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إِيمانهم وأولئك هم الكاملون في التقوى، وفي الآية ثناء على الأبرار وإِيحاء إِلى ما لا يلاقونه من اطمئنان وخيراتٍ حسان.
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى﴾ أي فرض عليكم أن تقتصوا للمقتول من قاتله بالمساواة دون بغي أو عدوان ﴿الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى﴾ أي اقتصوا من الجاني فقط فإِذا قتل الحرُّ الحرَّ فاقتلوه به، وإِذا قتل العبد العبد فاقتلوه به، وكذلك الأنثى إِذا قتلت الأنثى، مثلاً بمثلٍ ولا تعتدوا فتقتلوا غير الجاني، فإِن أخذ غير الجاني ليس بقصاص بل هو ظلم واعتداء ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ أي فمن تُرك له من دم أخيه المقتول شيء، بأن ترك وليُّه القود وأسقط القصاص راضياً بقبول الدية ﴿فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ أي فعلى العافي اتباعٌ للقاتل بالمعروف بأن يطالبه بالدية بلا عنفٍ ولا إِرهاق، وعلى القاتل أداءٌ للدية إِلى العافي - ولي المقتول - بلا مطل ولا بخس ﴿ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ أي ما شرعته لكم من العفو إِلى الدية تخفيف من ربكم عليكم ورحمة منه بكم، ففي الدية تخفيف على القاتل ونفع لأولياء القتيل، وقد جمع الإِسلام في عقوبة القتل بين العدل والرحمة، فجعل القصاص حقاً لأولياء المقتول إِذا طالبوا به وذلك عدل، وشرع لديه إِذا أسقطوا القصاص غير القاتل وذلك رحمة ﴿فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي فمن اعتدى على القاتل بعد قبول الدية فله عذاب أليم في الآخرة ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ياأولي الألباب﴾ أي ولكم - يا أولي العقول - فيما شرعت من القصاص حياةٌ وأيُّ حياة لأنه من علم أنه إِذا قتل نفساً قُتل بها يرتدع وينزجر عن القتل، فيحفظ حياته وحياة من أراد قتله وبذلك تُصان الدماء وتحفُظ حياة الناس ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي لعلكم تنزجرون وتتقون محارم الله ومآثمه ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت﴾ أي فرض عليكم إِذا أشرف أحدكم على الموت وقد ترك مالاً كثيراً ﴿الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين﴾ أي وجب عليه الإِيصاء للوالدين والأقربين ﴿بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين﴾ أي بالعدل بأن لا يزيد على الثلث وألا يوصي للأغنياء ويترك الفقراء، حقاً لازماً على المتقين لله وقد كان هذا واجباً قبل نزول آية المواريث ثم نسخ بآية المواريث ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ أي من غيَّر هذه الوصية بعد ما علمها من وصيّ أو شاهد ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ﴾ أي إِثم هذا التبديل على الذين بدّلوه لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فيه وعيد شديد للمبدِّلين ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً﴾ أي فمن علم أو ظنَّ من الموصي ميلاً عن الحق بالخطأ ﴿أَوْ إِثْماً﴾ أي ميلاً عن الحق عمداً ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي أصلح بين الموصي والموصَى
105
له فلا ذنب عليه بهذا التبديل ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي واسع المغفرة والرحمة لمن قصد بعمله الإِصلاح.
البَلاَغَة: ١ - ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ﴾ جعل البرُّ نفس من آمن على طريق المبالغة وهذا معهود في كلام البلغاء إِذ تجدهم يقولون: السخاء حاتم، والشعر زهيرٌ أي أن السخاء سخاء حاتم، والشعر شعر زهير، وعلى هذا خرّجه سيبويه حيث قال في كتابه قال جلّ وعزّ: ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ﴾ وإِنما هو ولكنَّ البر برُّ من آمن بالله انتهى ونظير ذلك أن تقول: ليس الكرم أن تبذل درهماً ولكنَّ الكرم بذل الآلاف فلا يناسب ولكنَّ الكريم من يبذل الآلاف.
٢ - ﴿وَفِي الرقاب﴾ إِيجاز بالحذف أي وفي فك الرقاب يعني فداء الأسرى، وفي لفظ الرقاب «مجاز مرسل» حيث أطلق الرقبة وأراد به النفس وهو من إِطلاق الجزء وإِرادة الكل.
٣ - ﴿والصابرين فِي البأسآء﴾ الأصل أن يأتي مرفوعاً كقوله ﴿والموفون بِعَهْدِهِمْ﴾ وإِنما نصب على الاختصاص أي وأخصُّ بالذكر الصابرين وهذا الأسلوب معروف بين البلغاء فإِذا ذُكرت صفاتٌ للمدح أو الذم وخولف الإِعراب في بعضها فذلك تفننٌ ويسمى قطعاً لأن تغيير المألوف يدل على مزيد اهتمام بشأنه وتشويق لسماعه.
٥ - ﴿أولئك الذين صَدَقُواْ﴾ الجملة جاء الخبر فيها فعلاً ماضياً «صدقوا» لإِفادة التحقيق وأن ذلك وقع منهم واستقر، وأتى بخبر الثانية في جملة اسمية ﴿وأولئك هُمُ المتقون﴾ ليدل على الثبوت وأنه ليس متجدداً بل صار كالسجية لهم ومراعاة للفاصلة أيضاً.
٦ - ﴿حَقّاً عَلَى المتقين﴾ ذكر المتقين من باب الإِلهاب والتهييج.
٧ - الطباق بين ﴿اتباع﴾ و ﴿وَأَدَآءٌ﴾ وبين ﴿الحر﴾ و ﴿العبد﴾.
الفوَائِد: الأولى: في ذكر الأخوة تعطفُ داع إِلى العفو فقد سمّى الله القاتل أخاً لولي المقتول ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ تذكيراً بالأخوَّة الدينية والبشرية حتى يهزّ عطف كل واحد منهما إِلى الآخر فيقع بينهم الفعو والاتباع بالمعروف والأداء بالإِحسان.
الثانية: كان في بني إِسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، وكان في النصارى الدية ولم يكن فيهم القصاص، فأكرم الله هذه الأمة المحمدية وخيرّها بين القصاص والدية والعفو، وهذا من يسر الشريعة الغراء التي جاء بها سيَّد الأنبياء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الثالثة: اتفق علماء البيان على أن هذه الآية ﴿وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة﴾ بالغة أعلى درجات البلاغة، ونقل عن العرب في هذا المعنى قولهم: القتل أنفى للقتل، ولكنْ لورود الحكمة في القرآن فضلٌ من ناحية حسن البيان، وإِذا شئتَ أن تزداد خبرة بفضل بلاغة القرآن وسمو مرتبته على مرتبة ما نطق به بلغاء البشر فانظر إِلى العبارتين فإِنك تجد من نفحات الإِعجاز ما ينبهك لأن تشهد الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق، أما الحكمة القرآنية فقد جعلت سبب الحياة القصاصُ وهو القتل عقوبةً
106
على وجه التماثل، والمثل العربي جعل سبب الحياة القتلُ، ومن القتل ما يكون ظلماً فيكون سبباً للفناء وتصحيحُ العبارة أن يقال: القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً، والآية جاء خالية من التكرار اللفظي والمثل كرر فيه لفظ القتل فسمَّه بهذا التكرار من الثقل ما سلمت منه الآية، ومن الفروق الدقيقة بينهما أن الآية جعلت القصاص سبباً للحياة والمثل جعل القتل سبباً لنفي القتل وهو لا يستلزم الحياة الخ وقد عدّ العلماء عشرين وجهاً من وجوه الفريق بين الآية القرآنية واللفظة العربية وقد ذكرها السيوطي في الإِتقان فارجع إليه تجد فيه شفاء الغليل.
107
المنَاسَبَة: ذكر تعالى في الآيات السابقة حكم القصاص ثم عقبه بحكم الوصية للوالدين والأقربين، ثم بأحكام الصيام على وجه التفصيل لأن هذا الجزء من السورة الكريمة يتناول جانب الأحكام التشريعية ولما كان الصوم من أهم الأركان ذكره الله تعالى هنا ليهيء عباده إِلى منازل القدس ومعارج المتقين الأبرار.
اللغَة: ﴿الصيام﴾ في اللغة: الإِمساك عن الشيء قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم قال الشاعر:
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غير صائمةٍ تحت العَجاج وأخرى تعلك اللُّجما
وفي الشرع: الإِمساك عن الطعام والشراب والجماع في النهار مع النيّة ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ أي يصمومونه بعسر ومشقه قال الراغب: الطاقة اسمٌ لمقدار ما يمكن للإِنسان أن يفعله مع المشقة وشبِّه
107
بالطوق المحيط بالشيء ﴿فِدْيَةٌ﴾ ما يفدي به الإِنسان نفسه من مالٍ وغيره ﴿شَهْرُ﴾ من الاشتهار وهو الظهور ﴿رَمَضَانَ﴾ من الرّمض وهو شدة الحر والرمضاء شدة حر الشمس وسمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها ﴿الرفث﴾ الجماع ودواعيه وأصله قولُ الفحش ثم كنّي به عن الجماع قال الشاعر:
ويُرَيْن من أُنس الحديثِ زوانياً وبهنَّ عن رفَث الرجال نِفَار
﴿تَخْتانُونَ﴾ قال في اللسان: خانه واختانه والمخانة مصدر من الخيانة وهي ضد الأمانة وسئل بعضهم عن السيف فقال: أخوك وإِن خانك ﴿عَاكِفُونَ﴾ الإِعتكاف في اللغة: اللبث والزوم وفي الشرع: المكث في المسجد للعبادة ﴿حُدُودُ الله﴾ الحدّ في اللغة: المنع وأصله الحاجز بين الشيئين المتقابلين وسميت الأحكام حدوداً لأنها تحجز بين الحق والباطل.
سَبَبُ النّزول: روي أن جماعة من الأعراب سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا محمد أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله {وَإِذَا سَأَلَكَ
108
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية.
التفسير: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾ ناداهم بلفظ الإِيمان ليحرك فيهم مشاعر الطاعة ويُذْكي فيهم جَذْوة الإِيمان ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ أي فرض عليكم صيام شهر رمضان ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ أي كما فرض على الأمم قبلكم ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي لتكونوا من المتقين لله المجتنبين لمحارمه ﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ أي والصيام أيامه معدودات وهي أيام قلائل، فلم يفرض عليكم الدهر كله تخفيفاً ورحمةً بكم ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أي من كان به مرضٌ أو كان مسافراً فأفطر فعليه قضاء عدة ما أفطر من أيام غيرها ﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ أي وعلى الذين يستطيعون صيامه مع المشقة لشيخوخةٍ أو ضعفٍ إِذا أفطروا عليهم فدية بقدر طعام مسكين لكل يوم ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً﴾ أي فمن زاد على القدر المذكور في الفدية ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ﴾ ثم قال تعالى ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي والصوم خير لكم من الفطر والفدية إِن كنتم تعلمون ما في الصوم من أجر وفضيلة، ثم بيّن تعالى وقت الصيام فقال ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان﴾ أي والأيام المعدودات التي فرضتها عليكم أيها المؤمنون هي شهر رمضان الذي أبتدأ فيه نزول القرآن حال كونه هداية للناس لما فيه من إِرشاد وإِعجاز وآيات واضحات تفرق بين الحق والباطل ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ أي من حضر منكم الشهر فليصمه ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أي ومن كان مريضاً أو مسافراً فأفطر فعليه صيام أيام أخر، وكرّر لئلا يتوهم نسخه بعموم لفظ شهود الشهر ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾ أي يريد الله بهذا الترخيص التيسير عليكم لا التعسير ﴿وَلِتُكْمِلُواْ العدة﴾ أي ولتكملوا عدة شهر رمضان بقضاء ما أفطرتم ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ﴾ أي ولتحمدوا الله على ما أرشدكم إِليه من معالم الدين ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي ولكي تشكروا الله على فضله وإِحسانه.
. ثم بيّن تعالى أنه قريب يجيب دعوة الداعين ويقضي حوائج السائلين فقال ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ أي أنا معهم أسمع دعاءهم، وأرى تضرعهم وأعلم حالهم كقوله ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ [ق: ١٦] ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ﴾ أي أجيب دعوة من دعاني إِذا كان عن إِيمان وخشوع قلب ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ أي إِذا كنت أنا ربكم الغني عنكم أجيب دعاءكم فاستجيبوا أنتم لدعوتي بالإِيمان بي وطاعتي ودوموا على الإِيمان لتكونوا من السعداء الراشدين.. ثم شرع تعالى في بيان تتمة أحكام الصيام بعد أن ذكر آية القرب والدعاء فقال ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾ أي أبيحٍ لكم أيها الصائمون غشيان النساء في ليالي الصوم ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ قال ابن عباس: هنّ سكنٌ لكم وأنتم سكنٌ لهن ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي تخونونها بمقارفة الجماع ليلة الصيام وكان هذا محرماً في صدر الإِسلام ثم نسخ، روى البخاري عن البراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ أي فقبل توبتكم وعفا عنكم لما فعلتموه قبل النسخ ﴿فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ﴾ أي جامعوهن في ليالي الصوم واطلبوا بنكاحهن الولد ولا تباشروهن لقضاء الشهوة فقط ﴿وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر﴾ أي كلوا واشربوا إِلى طلوع الفجر ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل﴾ أي أمسكوا عن الطعام والشراب والنكاح إِلى غروب الشمس ﴿وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد﴾ أي لا تقربوهن ليلاً أو نهاراً ما دمتم معتكفين في المساجد ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ أي تلك أوامر الله وزواجره وأحكامه التي شرعها لكم فلا تخالفوها ﴿كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي يتقون المحارم.
البَلاَغَة: ١ - ﴿كَمَا كُتِبَ﴾ التشبيه في الفرضية لا في الكيفية أي فرض الصيام عليكم كما فرض على الأمم قبلكم وهذا التشبيه يسمى «مرسلاً مجملاً».
٢ - ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ﴾ فيه إِيجاز بالحذف أي من كان مريضاً فأفطر، أو على سفرٍ فأفطر فعليه قضاء أيام بعدد ما أفطر.
٣ - ﴿وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ﴾ في تفسير الجلالين قدّره بحذف «لا» أي لا يطيقونه، ولا ضرورة لهذا الحذف لأن معنى الآية يطيقونه بجهدٍ شديد وذلك كالشيخ الهرم والحامل والمرضع فهم يستطيعونه لكن مع المشقة الزائدة، والطاقةُ اسم لمن كان قادراً على الشيء مع الشدة والمشقة.
٤ - ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾ فيه من المحسنات البديعية ما يسمى ب «طباق السلف».
٥ - ﴿الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾ الرفث كناية عن الجماع وعدّي ب «إِلى» لتضمنه معنى الإِفضاء وهو من الكنايات الحسنة كقوله ﴿فَلَماَّ تَغَشَّاهَا﴾ [الأعراف: ١٨٩] وقوله ﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] وقوله ﴿فالآن بَاشِرُوهُنَّ﴾ قال ابن عباس: إِن الله عَزَّ وَجَلَّ كريم حليمٌ يكني.
109
٦ - ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ استعارة بديعة شبّه كل واحد من الزوجين لاشتماله على صاحبه في العناق والضم باللباس المشتمل على لابسه قال في تلخيص البيان: «المراد قرب بعضهم من بعض واشتمال بعضهم على بعض كما تشتمل الملابس على الأجسام فاللباس استعارة.
٧ - ﴿الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود﴾ قال الشريف الرضي: وهذه استعارة عجيبة والمراد بها بياض الصبح وسواد الليل والخيطان هاهنا مجاز وإِنما شبههما بذلك لأن بياض الصبح يكون في أول طلوعه مشرقاً خافياً، ويكون سواد الليل منقضياً مولّياً، فهما جميعاً ضعيفان إِلا أن هذا يزداد انتشاراً وهذا يزداد استسراراً، وذهب الزمخشري إِلى أنه من التشبيه البليغ.
الفوَائِد: الأولى: روي عن الحسن أنه قال: إِن الله تعالى فرض صيام رمضان على اليهود والنصارى، أما اليهود فإِنها تركت هذا الشهر وصامت يوماً من السنة زعموا أنه يوم غرق فيه فرعون، وأما النصارى فإِنهم صاموا رمضان فصادفوا فيه الحر الشديد فحولوه إِلى وقت لا يتغير ثم قالوا عند ذلك نزيد فيه فزادوا عشراً، ثم بعد زمانٍ اشتكى ملكهم فنذر سبعاً فزادوه، ثم جاء بعد ذلك ملك آخر فقال: ما بال هذه الثلاثة فأتمه خمسين يوماً وهذا معنى قوله تعالى ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً﴾ [التوبة: ٣١].
الثانية: قال الحافظ ابن كثير: وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ إِرشادٌ إِلى الاجتهاد في الدعاء عند إِكمال العدة بل وعند كل فطر لحديث
«إِنّ للصائم عند فطره دعوة ما تُرد»
وكان عبد الله بن عمرو يقول إِذا أفطر: اللهم إِني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي.
الثالثة: ظاهر نظم الجملة ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ أنهم سألوا عن الله، والسؤال لا يكون عن الذات وإِنما يكون عن شأن من شئونها فقوله في الجواب ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ يدل على أنهم سألوا عن جهة القرب أو البعد، ولم يصدر الجواب ب «قل» أو فقل كما وقع في أجوبه مسائلهم الواردة في آيات أخرى نحو ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ [طه: ١٠٥] بل تولّى جوابهم بنفسه إِشعاراً بفرط قربه منهم، وحضوره مع كل سائل بحيث لا تتوقف إِجابته على وجود واسطة بينه وبين السائلين من ذوي الحاجات.
الرابعة: قال الإِمام ابن تيمية «وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطّلعٌ إليهم فدخل في ذلك الإِيمان بأنه قريب من خلقه» وفي الصحيح «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوّه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شيء.
الخامسة: عبّر المولى جل وعلا عن المباشرة الجنسية التي تكون بين الزوجين بتعبير سام
110
لطيف، لتعليمنا الأدب في الأمور التي تتعلق بالجنس والنساء ولهذا قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إن الله عزّ وجل كريم حليم يكنْي.
111
المنَاسَبَة: ما بيّن تعالى في الآيات السابقة أحكام الصيام وأباح للمؤمنين الاستمتاع بالطعام والشراب والنكاح في ليالي رمضان عقّبه بالنهي عن أكل الأموال بغير حق لأن المسلم لا يصح له أن يستمتع بالمال الحرام لا في ليالي رمضان ولا غيره، ولما كان حديث الصيام يتصل برؤية الهلال وهذا ما يحرك في النفوس خاطر السؤال عن الأهلة جاءت الآيات الكريمة تبيّن أن الأهلة مواقيت لعبادات الناس في الصيام وسائر أنواع القربات.
اللغَة: ﴿الباطل﴾ في اللغة: الزائل الذاهب يقال: بطل الشيء بطولاً فهو باطل وفي الشرع هو المال الحرام كالغصب والسرقة والقمار والربا ﴿وَتُدْلُواْ﴾ الإِدلاء في الأصل: إِرسال الدلو في البئر ثم جعل كل إِلقاء أو دفع لقول أو فعل إِدلاءً يقال: أدلى بحجته أي أرسلها والمراد بالإِدلاء هنا الدفع إِلى الحاكم بطريق الرشوة ﴿الأهلة﴾ جمع هلال وهو أول حال القمر حين يراه الناس ثم يصبح قمراً ثم بدراً حين يتكامل نوره ﴿مَوَاقِيتُ﴾ جمع ميقات وهو الوقت كالميعاد بمعنى الوعد وقيل: الميقات منتهى الوقت ﴿ثَقِفْتُمُوهُم﴾ ثقِفَ الشيءَ إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة، ورجل ثَقِفٌ سريع الأخذ لأقرانه قال الشاعر:
فإِمّا تثقفوني فاقتلوني فمنْ أَثْقفْ فليس إِلى خلود
﴿التهلكة﴾ الهلاكُ يقال هَلَك هَلاكاً وتَهْلُكةً.
سَبَبُ النّزول: روي أن بعض الصحابة قالوا يا رسول الله: ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل
111
الخيط مثل يزيد حتى يمتلئ ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة كالشمس فنزلت ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة... ﴾ الآية.
التفسير: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل﴾ أي لا يأكل بعضكم أموال بعض بالوجه الذي لم يبحه الله ﴿وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام﴾ أي تدفعوها إِلى الحكام رشوة ﴿لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم﴾ أي ليعينوكم على أخذ طائفة من أموال الناس بالباطل ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنكم مبطلون تأكلون الحرام ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة﴾ أي يسألونك يا محمد عن الهلاك لم يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يعظم ويستدير ثم ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج﴾ أي فقل لهم إِنها أوقات لعبادتكم ومعالم تعرفون بها مواعيد الصوم والحج والزكاة ﴿وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا﴾ أي ليس البر بدخولكم المنازل من ظهورها كما كنتم تفعلون في الجاهلية ﴿ولكن البر مَنِ اتقى﴾ أي ولكنَّ العمل الصالح الذي يقرّبكم من الله في اجتناب محارم الله ﴿وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ ادخلوها كعادة الناس من الأبواب ﴿واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي اتقوا الله لتسعدوا وتظفروا برضاه ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ أي قاتلوا لإِعلاء دين الله من قاتلكم من الكفار ﴿وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾ أي لا تبدءوا بقتالهم فإِنه تعالى لا يحب من ظلم أو اعتدى، وكان هذا في بدء أمر الدعوة ثم نسخ بآية براءة
﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً﴾ [الآية: ٣٦] وقيل نسخ بالآية التي بعدها وهي قوله ﴿واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم﴾ أي اقتلوهم حيث وجدتموهم في حلّ أو حرم ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ أي شرّدوهم من أوطانهم وأخرجوهم منها كما أخرجوكم من مكة ﴿والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل﴾ أي فتنة المؤمن عن دينه أشدُّ من قتله، أو كفر الكفار أشد وأبلغ من قتلكم لهم في الحرم، فإِذا استعظموا القتال فيه فكفرهم أعظم ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ أي لا نبدءوهم بالقتال في الحرم حتى يبدءوا هم بقتالكم فيه ﴿فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم﴾ أي إِن بدءوكم بالقتال فلكم حينئذٍ قتالهم لأنهم انتهكوا حرمته والبادي بالشر أظلم ﴿كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين﴾ أي هذا الحكم جزاء كل من كفر بالله ﴿فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي فإن انتهوا عن الشرك وأسلموا فكفّوا عنهم فإِن الله يغفر لمن تاب وأناب ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ﴾ أي قاتلوا المحاربين حتى تكسروا شوكتهم ولا يبقى شرك على وجه الأرض ويصبح دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان ﴿فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين﴾ أي فإِن انتهوا عن قتالكم فكفوا عن قتلهم فمن قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إِلا على الظالمين، أو فإِن انتهوا عن الشرك فلا تعتدوا عليهم ثم بيّن تعالى أن قتال المشركين في الشهر الحرام يبيح للمؤمنين دفع العدوان فيه فقال ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ﴾ أي إِذا قاتلوكم
112
في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام، فكما هتكوا حرمة الشهر واستحلوا دماءكم فافعلوا بهم مثله ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ﴾ أي ردوا عن أنفسكم العدوان فمن قاتلكم في الحرم أو في الشهر الحرام فقابلوه وجازوه بالمثل ﴿واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾ أي راقبوا الله في جميع أعمالكم وأفعالكم واعلموا أن الله مع المتقين بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة ﴿وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ أي أنفقوا في الجهاد وفي سائر وجوه القربات ولا تبخلوا في الانفاق فيصيبكم الهلاك ويتقوى عليكم الأعداء وقيل معناه: لا تتركوا الجهاد في سبيل الله وتشتغلوا بالأموال والأولاد فتهلكوا ﴿وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين﴾ أي أحسنوا في جميع أعمالكم حتى يحبكم الله وتكونوا من أوليائه المقربين.
البَلاَغَة: ١ - ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج﴾ هذا النوع من البديع يسمى «الأسلوب الحكيم» فقد سألوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الهلال لمَ يبدوا صغيراً ثم يزداد حتى يتكامل نوره؟ فصرفهم إِلى بيان الحكمة من الأهلة وكأنه يقول: كان الأولى بكم أن تسألوا عن حكمة خلق الأهلة لا عن سبب تزايدها في أول الشهر وتناقصها في آخره، وهذا ما يسميه علماء البلاغة «الأسلوب الحكيم».
٢ - ﴿الشهر الحرام بالشهر الحرام﴾ فيه إِيجاز بالحذف تقديره: هتكُ حرمة الشهر الحرام تقابل بهتك حرمة الشهر الحرام ويسمى حذف الإِيجاز.
٣ - ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ﴾ سمّي جزاء العدوان عدواناً من قبيل «المشاكلة» وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى كقوله ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] قال الزجاج: العرب تقول ظلمني فلان فظلمته أي جازيته بظلمه.
فَائِدَة: لا يذكر في القرآن الكريم لفظ القتال أو الجهاد إِلا ويقرن بكلمة «سبيل الله» وفي ذلك دلالة واضحة على أن الغاية من القتال غاية شريفة نبيلة هي إِعلاء كلمة الله لا السيطرة أو المغنم أو الاستعلاء في الأرض أو غيرها من الغايات الدنيئة.
تنبيه: كل ما ورد في القرآن بصيغة السؤال أجيب عنه ب «قل» بلا فاء إلا في طه ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ [الآية: ١٠٥] فقد وردت بالفاء، والحكمة أن الجواب في الجميع كان بعد وقوع السؤال وفي طه كان قبله إذ تقديره إن سئلت عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً.
فَائِدَة: روي أن رجلاً من المسلمين حمل على جيش الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس: سبحان الله ألقى بيديه إِلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري إِنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار حين أعز الله الإِسلام وكثر ناصروه فقلنا: لو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فنزلت ﴿وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ فكانت التهلكة الإِقامة على الأموال وإِصلاحها وترك
113
الجهاد في سبيل الله فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى استشهد ودفن بأرض الروم.
114
المنَاسَبَة: لّما ذكر الله تعالى في الآيات السابقة أحكام الصيام، أعقب ذلك بذكر أحكام الحج لأن شهوره تأتي مباشرة بعد شهر الصيام، وأمّا آيات القتال فقد ذكرت عَرضاً لبيان حكمٍ هام وهو بيان الأشهر الحرام والقتال فيها وفيما لو تعرّض المشركون للمؤمنين وهم في حالة الإِحرام هل يباح لهم ردُّ العدوان عن أنفسهم والقتال في الأشهر الحرم؟ فقد وردت الآيات السابقة تبيّن حكمة الأهلة وأنها مواقيت للصيام والحج ثم بيَّنت الآيات بعدها موقف المسلمين من القتال في الشهر الحرام وذلك حين أراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العمرة وصدّه المشركون ومنعوه من دخول مكة ووقع صلح الحديبية ثم لمّا أراد القضاء في العام القابل وخشي أصحابه غدر المشركين بهم وهم في حالة الإِحرام نزلة الآيات تبيّن أنه ليس لهم أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء بل على سبيل القصاص ودفع العدوان، ثم عاد الكلام إِلى أحكام الحج وحكم الإِحصار فيه فهذا هو الإِرتباط بين الآيات السابقة واللاحقة.
اللغَة: ﴿أُحْصِرْتُمْ﴾ الإِحصار: معناه المنع والحبس يقال حَصرَه عن السفر وأحصره إِذا حبسه ومنعه قال الأزهري: حُصر الرجلُ في الحبس، وأُحصر في السفر من مرضٍ أو انقطاعٍ به ﴿الهدي﴾ هو ما يُهدى إِلى بيت الله من أنواع النعم كالإِبل والبقر والغنم وأقله شاة ﴿مَحِلَّهُ﴾ المحِلُّ: الموضع
114
الذي يحل به نحر الهَدْي وهو الحرام أو مكان الإِحصار للمحْصَر ﴿نُسُكٍ﴾ جمع نسيكة وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى ﴿جُنَاحٌ﴾ إِثم وأصله من الجنوح وهو الميل عن القصد ﴿أَفَضْتُم﴾ أي دفعتم وأصله من فاض الماء إِذا سال منصباً ومعنى ﴿أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ﴾ أي دفعتم منها بقوة تشبيهاً بفيض الماء. ﴿خَلاَقٍ﴾ نصيب من رحمة الله تعالى ﴿تُحْشَرُونَ﴾ تجمعون للحساب.
سبب النزول: أولاً: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون فإِذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى﴾.
ثانياً: وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحُمْس وسائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإِسلام أمر الله تعالى نبيّه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، وكانت قريش تفيض من جمع من المشعر الحرام فأنزل الله تعالى ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾.
التفسِير: ﴿وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ﴾ أي أدوهما تامين بأركانهما وشروطهما لوجه الله تعالى ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي﴾ أي إذا منعتم عن إتمام الحج أو العمرة بمرضٍ أو عدوٍ وأردتم التحلل فعليكم أن تذبحوا ما تيسر من بدنة أو بقرةٍ أو شاة ﴿وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ﴾ أي لا تتحللوا من إحرامكم بالحلق أو التقصير حتى يصل الهدي المكان الذي يحل ذبحه فيه وهو الحرم أو مكان الإِحصار ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ أي فمن كان منكم معشر المحرمين مريضاً مرضاً يتضرر معه بالشعر فحلق، أو كان به أذى من رأسه كقملٍ وصداعٍ فحلق في الإِحرام، فعليه فدية وهي إما صيام ثلاثة أيام أو يتصدق بثلاثة آصع على ستة مساكين أو يذبح ذبيحة وأقلها شاة ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ أي كنتم آمنين من أول الأمر، أو صرتم بعد الإحصار آمنين ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي﴾ أي من اعتمر في أشهر الحج واستمتع بما يستمتع به غير المحرم من الطيب والنساء وغيرها، فعليه ما تيسّر من الهدي وهو شاة يذبحها شكراً لله تعالى ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ أي من لم يجد ثمن الهدي فعليه صيام عشرة أيام، ثلاثة حين يحرم بالحج وسبعة إذا رجع إلى وطنه ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ أي عشرة أيام كاملة تجزئ عن الذبح، وثوابها كثوابه من غير نقصان ﴿ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام﴾ أي ذلك التمتع أو الهَدْي خاص بغير أهل الحرام، أما سكّان الحرم فليس لهم تمتع وليس عليهم هدي ﴿واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ أي خافوا الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه واعلموا أن عقابه شديد لمن خالف أمره.
ثم بيّن تعالى وقت الحج فقال: ﴿الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ أي وقت الحج هو تلك الأشهر المعروفة بين الناس وهي: شوال وذو القعدة وعشرٌ من ذي الحجة ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج﴾ أي من ألزم نفسه الحجَّ بالإحرام والتلبية ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾ أي لا يقرب
115
النساء ولا يستمتع بهن فإنه مقبل على الله قاصد لرضاه، فعليه أن يترك الشهوات، وأن يترك المعاصي والجدال والخصام مع الرفقاء ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله﴾ أي وما تقدموا لأنفسكم من خير يجازيكم عليه الله خير الجزاء ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى﴾ أي تزودوا لآخرتكم بالتقوى فإنها خير زاد ﴿واتقون ياأولي الألباب﴾ أي خافون واتقوا عقابي يا ذوي العقول والأفهام ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي لا حرج ولا إثم عليكم في التجارة في أثناء الحج فإن التجارة الدنيوية لا تنافي العبادة الدينية، وقد كانوا يتأثمون من ذلك فنزلت الآية تبيح لهم الاتجار في أشهر الحج ﴿فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام﴾ أي إذا دفعتم من عرفات بعد الوقوف بها فاذكروا الله بالدعاء والتضرع والتكبير والتهليل عند المشعر الحرام بالمزدلفة ﴿واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين﴾ أي اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة، واشكروه على نعمة الهداية والإيمان فقد كنتم قبل هدايته لكم في عداد الضالين، الجاهلين بالإِيمان وشرائع الدين ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾ أي ثمّ انزلوا من عرفة حيث ينزل الناس لا من المزدلفة، والخطاب لقريش حيث كانوا يترفعون على الناس أن يقفوا معهم وكانوا يقولون: نحن أهل الله وسُكّان حرمه فلا نخرج منه فيقفون في المزدلفة لأنها من الحرم ثم يفيضون منها وكانوا يسمون «الحُمْس» فأمر الله تعالى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يأتي عرفة ثم يقف بها ثم يفيض منها ﴿واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي استغفروا الله عمّا سلف منكم من المعاصي فإن الله عظيم المغفرة واسع الرحمة ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً﴾ أي إذا فرغتم من أعمال الحج وانتهيتم منها فأكثروا ذكره وبالغوا في ذلك كما كنتم تذكرون آباءكم وتعدون مفاخرهم بل أشدّ، قال المفسرون: كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل بعد قضاء المناسك فيذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم فأمروا أن يذكروا الله وحده ﴿فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ﴾ أي من الناس من تكون الدنيا همّه فيقول: اللهم اجعل عطائي ومنحتي في الدنيا خاصة وما له في الآخرة من حظ ولا نصيب ﴿وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً﴾ أي ومنهم من يطلب خيري الدنيا والآخرة وهو المؤمن العاقل، وقد جمعت هذه الدعوة كل خيرٍ وصرفت كل شر، فالحسنة في الدنيا تشمل الصحة والعافية، والدار الرحبة، والزوجة الحسنة، والرزقَ الواسع إلى غير ما هنالك والحسنة في الآخرة تشمل الأمن من الفزع الأكبر، وتيسير الحساب ودخول الجنة، والنظر إلى وجه الله الكريم الخ ﴿وَقِنَا عَذَابَ النار﴾ أي نجّنا من عذاب جهنم ﴿أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ والله سَرِيعُ الحساب﴾ أي هؤلاء الذين طلبوا سعادة الدارين لهم حظ وافر مما عملوا من الخيرات والله سريع الحساب يحاسب الخلائق بقدر لمحة بصر ﴿واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ﴾ أي كبروا الله في أعقاب الصلوات وعند رمي الجمرات في أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي من استعجل بالنفر من منى بعد تمام يومين فنفر فلا حرج عليه ﴿وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي ومن تأخر حتى رمى في اليوم الثالث - وهو النفر الثاني - فلا حرج عليه أيضاً ﴿لِمَنِ اتقى﴾ أي ما ذكر من الأحكام لمن أراد أن يتقي الله فيأتي بالحج على الوجه الأكمل {واتقوا الله
116
واعلموآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي خافوا الله تعالى واعلموا أنكم مجموعون إليه للحساب فيجازيكم بأعمالكم.
البَلاَغَة: ١ - ﴿يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ﴾ كناية عن ذبحه في مكان الإحصار.
٢ - ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً﴾ فيه إيجاز بالحذف أي كان مريضاً فحلق أو به أذى من رأسه فحلق فعليه فدية.
٣ - ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ فيه التفات من الغائب إلى المخاطب وهو من المحسنات البديعية.
٤ - ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ فيه إجمال بعد التفصيل وهذا من باب «الإطناب» وفائدته زيادة التأكيد والمبالغة في المحافظة على صيامها وعدم التهاون بها أو تنقيص عددها.
٥ - ﴿واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله﴾ إظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة.
٦ - ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ﴾ صيغته نفيٌ وحقيقته نهيٌ أي لا يرفثْ ولا يفسقْ وهو أبلغ من النهي الصريح لأنه يفيد أن هذا الأمر ممّا لا ينبغي أن يقع أصلاً فإنَّ ما كان منكراً مستقبحاً في نفسه ففي أشهر الحج يكون أقبح وأشنع ففي الإتيان بصيغة وإرادة النهي مبالغة واضحة.
٧ - ﴿فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ﴾ فيه تشبيه تمثيلي يسمى (مرسلاً مجملاً).
٨ - المقابلة اللطيفة بين ﴿فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا﴾ وبين ﴿وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً... ﴾ الآية.
فائِدة: أصل النسك: العبادة، وسميت ذبيحة الأنعام نسكاً لأنها من أشرف العبادات التي يتقرب بها المؤمن إلى الله تعالى.
فائدة ثانية: زاد الدنيا يوصل إلى مراد النفس وشهواتها، وزاد الآخرة يوصل إلى النعيم المقيم في الآخرة ولهذا ذكر تعالى زاد الآخرة وهو الزاد النافع وفي هذا المعنى يقول الأعشى:
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى... ولاقيتَ بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله... وأنك لم تُرْصِدْ كما كان أرصدا
117
المناسبة: لّّما ذكر تعالى في الآيات السابقة العبادات التي تًُطهرّ القلوب، وتزكّي النفوس كالصيام، والصدقة، والحج، وذكر أن في الناس من يطلب الدنيا ولا غاية له وراءها، ومنهم من تكون غايته نيل رضوان الله تبارك وتعالى، أعقبها بذكر نموذج عن الفريقين: فريق الضلالة الذي باع نفسه للشيطان، وفريق الهدى الذي باع نفسه للرحمن، ثم حذَّر تبارك وتعالى من اتباع خطوات الشيطان، وبيَّن لنا عداوته الشديدة.
اللغة: ﴿أَلَدُّ﴾ اللَّدَدُ: شدة الخصومة قال الطبري: الألدُّ: الشديد الخصومة وفي الحديث: «إنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلى الله الألدُّ الخَصِم» ﴿الحرث﴾ : الزرع لأنه يزرع ثم يحرث ﴿النسل﴾ الذريّة والولد، وأصله الخروج بسرعة ومنه ﴿إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾ [يس: ٥١] وسمي نسلاً لأنه ينسل - يسقط - من بطن أمه بسرعة. ﴿العزة﴾ الأنفة والحميَّة. ﴿حَسْبُهُ﴾ حسب اسم فعل بمعنى كافيه. ﴿المهاد﴾ : الفراش الممهَّد للنوم. ﴿يَشْرِي﴾ : يبيع. ﴿ابتغآء﴾ طلب. ﴿السلم﴾ بكسر السين بمعنى الإسلام وبفتحها بمعنى الصلح، وأصله من الاستسلام وهو الخضوع والانقياد قال الشاعر:
دَعَوْتُ عشيرتي للسِّلْمِ حتى... رأيْتهُم تَوَلَّوْا مُدْبرينا
﴿زَلَلْتُمْ﴾ الزّلل: الانحراف عن الطريق المستقيم وأصله في القدم ثم استعمل في الأمور المعنوية، ﴿ظُلَلٍ﴾ جمع ظلّة وهي ما يستر الشمس ويحجب أشعتها عن الرؤية.
سَبَبُ النّزول: ١ - روي أن الأخنس بن شريق أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأظهر له الإسلام وحلف أنه يحبه، وكان منافقاً حسن العلانية خبيث الباطن، ثم خرج من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمرَّ يزرع لقوم من المسلمين وحُمُر فأحرق الزرع وقتل الحُمُر فأنزل الله تعالى فيه الآيات ﴿وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ... ﴾ الآية وإلى قوله: ﴿وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل... ﴾ الآية.
٢ - وروي أن صهيباً الرومي لما أراد الهجرة إلى المدينة المنورة لحقه نفر من قريش من المشركين ليردوه فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته وأهذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش لقد علمتم
118
أني من أرماكم رجلاً، وأيْمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم، قالوا: جئتنا صعلوكاً لا تملك شيئاً وأنت الآن قو مال كثير!! فقال: أرأيتم إن دللتكم على مالي تخلّون سبيلي؟ قالوا: نعم، فدلّهم على ماله بمكة فلما قدم المدينة دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رَبحَ البَيْعَ صُهَيْبٌ رَبحَ البَيْعَ صُهَيْبٌ» وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ فيه ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله... ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ أي ومن الناس فريق يروقك كلامه يا محمد ويثير إِعجابَك بخلابة لسانه وقوة بيانه، ولكنه منافق كذّاب ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ أي في هذه الحياة فقط أما الآخرة فالحاكم فيها علام الغيوب الذي يطّلع على القلوب والسرائر ﴿وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ﴾ أي يظهر لك الإِيمان ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الخصام﴾ أي شديد الصخومة يجادل بالباطل ويتظاهر بالدين والصلاح بكلامه المعسول ﴿وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا﴾ أي وإذا انصرف عنك عاث في الأرض فساداً، وقد نزلت في الأخنس ولكنها عامة في كل منافق يقول بلسانه ما لي في قلبه [كقوله] :
يعطيك من طرف اللسان حلاوة... ويروغ فيك كما يروغُ الثعلب
﴿وَيُهْلِكَ الحرث والنسل﴾ أي يهلك الزرع وما تناسل من الإِنسان، والحيوان ومعناه أن فساده عام يشمل الحاضر والباد، فالحرث محل نماء الزروع والثمار، والنسل وهو نتاج الحيوانات التي لا قوام للناس إلا بهما، فإفسادهما تدمير للإنسانية ﴿والله لاَ يُحِبُّ الفساد﴾ أي يبغض الفساد ولا يحب المفسدين ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم﴾ أي إذا وُعظ هذا الفاجر وذكِّر وقيل له انزع عن قولك وفعلك القبيح، حملته الأنفة وحميَّةُ الجاهلية على الفعل بالإثم والتكبر عن قبول الحق، فأغرق في الإفساد وأمعن في العناد ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد﴾ أي يكفيه أن تكون له جهنم فراشاً ومهاداً، وبئس هذا الفراش والمهاد ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله﴾ هذا هو النوع الثاني وهم الأخيار الأبرار، فبعد أن ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة أتبعه بذكر صفات المؤمنين الحميدة والمعنى ومن الناس فريق من أهل الخير والصلاح باع نفسه لله، طلباً لمرضاته ورغبةً في ثوابه لا يتحرى بعمله إلا وجه الله ﴿والله رَؤُوفٌ بالعباد﴾ أي عظيم الرحمة بالعباد يضاعف الحسنات ويعفو عن السيئات ولا يعجل العقوبة لمن عصاه.. ثم أمر تعالى المؤمنين بالانقياد لحكمه والاستسلام لأمره والدخول في الإِسلام الذي لا يقبل الله ديناً سواه فقال: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً﴾ أي ادخلوا في الإِسلام بكليته في جميع أحكامه وشرائعه، فلا تأخذوا حكماً وتتركوا حكماً، لا تأخذوا بالصلاة وتمنعوا الزكاة مثلاً فالإسلام كل لا يتجزأ ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ أي لا تتبعوا طرق الشيطان وإغواءه فإنه عدوٌ لكم ظاهر العداوة ﴿فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات﴾ أي إن انحرفتم عن الدخول في الإسلام من بعد مجيء الحجج الباهرة والبراهين القاطعة على أنه حق ﴿فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي اعلموا أن الله غالب لا يعجزه الانتقام ممن عصاه حكيم في خلقه وصنعه ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة﴾ أي ما
119
ينتظرون شيئاً إلا أن يأتيهم الله يوم القيامة لفصل القضاء بين الخلائق حيث تنشق السماء وينزل الجبار عَزَّ وَجَلَّ في ظلل من الغمام وحملة العرش والملائكة الذين لا يعلم كثرتهم إلا الله ولهم زجل من التسبيح يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح ﴿وَقُضِيَ الأمر وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ أي انتهى أمر الخلائق بالفصل بينهم فريق في الجنة وفريق في السعير، وإلى الله وحده مرجع الناس جميعاً.
والمقصود تصوير عظمة يوم القيامة وهولها وشدتها وبيان أن الحاكم فيها هو ملك الملوك جل وعلا الذي لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه وهو أحكم الحاكمين.. ثم قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم ﴿سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ أي سلْ يا محمد بني إسرائيل - توبيخاً لهم وتقريعاً - كم شاهدوا مع موسى من معجزات باهرات وحجج قاطعات تدل على صدقه ومع ذلك كفروا ولم يؤمنوا ﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ أي من يبدل نعم الله بالكفر والجحود بها فإِن عقاب الله له أليم وشديد ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا﴾ أي زينت لهم شهوات الدنيا ونعيمها حتى نسوا الآخرة وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهافتوا عليها وأعرضوا عن دار الخلود. ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ﴾ أي وهم مع ذلك يهزؤون ويسخرون بالمؤمنين يرمونهم بقلة العقل لتركهم الدنيا وإقبالهم على الآخرة كقوله: ﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين: ٢٩] قال تعالى رداً عليهم: ﴿والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي والمؤمنون المتقون لله فوق أولئك الكافرين منزلةً ومكانة، فهم في أعلى علّيين وأولئك في أسفل سافلين، والمؤمنون في الآخرة في أوج العز والكرامة والكافرون في حضيض الذل والمهانة ﴿والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي والله يرزق أولياءه رزقاً واسعاً رغداً، لا فناء له ولا انقطاع كقوله: ﴿يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [غافر: ٤٠] أو يرزق في الدنيا من شاء من خلقه ويوسع على من شاء مؤمناً كان أو كافراً، براً أو فاجراً على حسب الحكمة والمشيئة دون أن يكون له محاسب سبحانه وتعالى.
البَلاَغَة: ١ - ﴿أَخَذَتْهُ العزة بالإثم﴾ ذكر لفظ الإثم بعد قوله العزة يسمى عند علماء البديع ب «التميم» لأنه ربما يتوهم أن المراد عزة الممدوح فذكر بالإِثم ليشير إلى أنها عزة مذمومة.
٢ - ﴿وَلَبِئْسَ المهاد﴾ هذا من باب التهكم أي جعلت لهم جهنم غطاءً ووطاءً فأكرم بذلك كما تكرم الأم ولدها بالغطاء والوطاء اللّينين.
٣ - ﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾ استفهام إنكاري في معنى النفي بدليل مجيء إلاّ بعدها أي ما ينتظرون.
120
٤ - ﴿فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام﴾ التنكير للتهويل فهي في غاية الهول والمهابة لما لها من الكثافة التي تغم على الرائي ما فيها وقوله: ﴿وَقُضِيَ الأمر﴾ هو عطف على المضارع ﴿يَأْتِيَهُمُ الله﴾ وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه فكأنه قد كان.
٥ - ﴿فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ إظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة.
٦ - ﴿زُيِّنَ... وَيَسْخَرُونَ﴾ أورد التزيين بصيغة الماضي لكونه مفروغاً منه مركوزاً في طبيعتهم وعطف عليه بالفعل المضارع ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ للدلالة على استمرار السخرية منهم لأن صيغة المضارع تفيد الدوام والاستمرار.
تنبيه: قال ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى في رسالته التدميرية: «وصفه تعالى نفسه بالإتيان في ظلل من الغمام كوصفه بالمجيء في آيات آخر ونحوهما مما وصف به نفسه في كتابه أو صحَّ عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقول في جميع ذلك من جنس واحد وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها، إنهم يصفونه سبحانه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غير تحريفٍ ولا تعطيل ولا تكييفٍ ولا تمثيل، والقول في صفاته كالقول في ذاته والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فلو سأل سائل: كيف يجيء سبحانه؟ فليقل له: كما لا تعلم كيفية ذاته كذلك لا تعلم كيفية صفاته».
121
المَناسَبَة: ذكر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الناس فريقان: فريق يسعى في الأرض
121
فساداً ويُضل الناس بخلابة لسانه وقوة بيانه، وفريق باع نفسه للحق يبتغي به رضي الله ولا يرجو أحداً سواه، ولما كان لا بدّ من التنازع بين الخير والشر - ولا بدَّ للحق من سيفٍ مصلتٍ إلى جانبه - لذا شرع الله للمؤمنين أن يحملوا السيف مناضلين وشرع الجهاد دفعاً للعدوان وردعاً للظلم والطغيان.
اللغة: ﴿بَغْياً﴾ البغيُ: العدوان والطغيان. ﴿وَزُلْزِلُواْ﴾ مأخوذ من زلزلة الأرض وهو اضطرابها والزلزلة: التحريك الشديد. ﴿كُرْهٌ﴾ مكروهٌ تكرهه نفوسكم قال ابن قتيبة: الكرهُ بالضم المشقة وبالفتح الإكراه والقهر. ﴿صَدٌّ﴾ الصدُّ: المنع يقال: صدّه عن الشيء أي منعه عنه. ﴿يَرْتَدِد﴾ يرجع والردةُ الرجوع من الإِيمان إلى الكفر قال الراغب: الارتداد والردة: الرجوع في الطريق الذي جاء به منه لكن الردَّة تختص بالكفر، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره قال تعالى: ﴿فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾ [الكهف: ٦٤] ﴿حَبِطَتْ﴾ بطلت وذهبت قال في اللسان: حبط عمل عملاً ثم أفسده وفي التنزيل ﴿فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: ٩] أي أبطل ثوابهم ﴿يَرْجُونَ﴾ الرجاء: الأمل والطمع في حصول ما فيه نفعٌ ومصلحة.
سبب النّزول: بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عبد الله بن جحش على سرية ليترصدوا عيرا لقريش فيها «عمرو بن الحضرمي» وثلاثة معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير بما فيها من تجارة، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام، شهراً يأمن فيه الخائف ويتفرق فيه الناس إلى معايشهم وعظم ذلك على المسلمين فنزلت ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ....﴾ الآية.
التفسِير: ﴿كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي كانوا على الإِيمان والفطرة المستقيمة فاختلفوا وتنازعوا ﴿فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ أي بعث الأنبياء لهداية الناس مبشرين للمؤمنين بجنات النعيم ومنذرين للكافرين بعذاب الجحيم ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ﴾ أي وأنزل معهم الكتب السماوية لهداية البشرية حال كونها منزلة بين الناس في أمر الدين الذي اختلفوا فيه ﴿وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ﴾ أي وما اختلف في الكتاب الهادي المنير المنزل لإِزالة الاختلاف إلا ﴿مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات﴾ أي من بعد ظهور الحجج الواضحة والدلائل القاطعة على صدق الكتاب فقد كان خلافهم عن بيّنة وعلم لا عن غفلةٍ وجهل ﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ أي حسداً من الكافرين للمؤمنين ﴿فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ﴾ أي هدى الله المؤمنين للحق الذي اختلف فيه أهل الضلالة بتيسيره ولطفه ﴿والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي هيدي من يشاء هدايته إِلى طريق الحق الموصل إِلى جنات النعيم ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة﴾ أي بل ظننتم يا معشر المؤمنين أن تدخلو الجنة بدون ابتلاءٍ وامتحان واختبار ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم﴾ أي والحال لم ينكلم مثل ما نال من سبقكم من المؤمنين من المحن الشديدة، ولم تُبتلوا بمثل ما ابتلوا به من النكبات ﴿مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء﴾ أي أصابتهم الشدائد والمصائب والنوائب ﴿وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله﴾ ؟ أي أزعجوا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزة حتى وصل بهم
122
الحال أن يقول الرسول والمؤمنون معه حتى نصر الله؟ أي متى يأتي نصر الله وذلك استبطاءً منهم للنصر لتناهي الشدة عليهم، وهذا غاية الغايات في تصوير شدة المحنة، فإِذا كان الرسل - مع علو كعبهم في الصبر والثبات - قد عيل صبرهم وبلغوا هذا المبلغ من الضجر والضيق كان ذلك دليلاً على أن الشدة بلغت منتهاها قال تعالى جواباً لهم: ﴿ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ أي ألا فأبشروا فإِنه حان أوانه
﴿وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: ٤٠] ثم قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ أي يسألونك يا محمد ماذا ينفقون وعلى من ينفقون؟ وقد نزلت لمّا قال بعض الصحابة يا رسول الله: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ ﴿قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾ أي قل لهم يا محمد اصرفوها في هذه الوجوه ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾ أي وكل معروف تفعلونه يعلمه الله وسيجزيكم عليه أوفر الجزاء، ثم قال تعالى مبيناً حكمة مشروعية القتال في الإِسلام ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ أي فرض عليكم قتال الكفار أيها المؤمنون وهو شاق ومكروه على نفوسكم لما فيه من بذل المال وخطر هلاك النفس ﴿وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي ولكن قد تكره نفوسكم شيئاً وفيه كل النفع والخير ﴿وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾ أي وقد تحب نفوسكم شيئاً وفيه كل الخطر والضرر عليكم، فلعل لكم في القتال - وإن كرهتموه - خيراً لأن فيه إما الظفر والغنيمة أو الشهادة والأجر، ولعل لكم في تركه - وإِن أحببتموه - شراً لأن فيه الذل والفقر وحرمان الأجر ﴿والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي الله أعلم بعواقب الأمور منكم وأدرى بما فيه صلاحكم في دنياكم وآخرتكم فبادروا إِلى ما يأمركم به ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ﴾ أي يسألك أصحابك يا محمد عن القتال في الشهر الحرام أيحل لهم القتال فيه؟ ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ أي قل لهم القتال فيه أمره كبير ووزره عظيم ولكن هناك ما هو أعظم وأخطر وهو ﴿وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله﴾ أي ومنع المؤمنين عن دين الله وكفرهُم بالله وصدُّهم عن المسجد الحرام - يعني مكة - وإِخراجكم من البلد الحرام وأنتم أهله وحماته، كلُّ ذلك أعظم وزراً وذنباً عند الله من قتل من قتلتم من المشركين، فإِذا استعظموا قتالكم لهم في الشهر الحرام فليعلموا أنَّ ما ارتكبوه في حق النبي والمؤمنين أعظم وأشنع ﴿والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل﴾ أي فتنة المسلم عن دينه حتى يردوه إِلى الكفر بعد إِيمانه أكبر عند الله من القتل ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ﴾ أي ولا يزالون جاهدين في قتالكم حتى يعيدوكم إِلى الكفر والضلال إِن قدروا فهم غير نازعين عن كفرهم وعدوانهم ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة﴾ أي ومن يستجب لهم منكم فيرجع عن دينه ويرتد عن الإِسلام ثم يموت على الكفر فقد بطل عمله الصالح في الدارين وذهب ثوابه ﴿وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي وهم مخلدون في جهنم لا يخرجون منها أبداً ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي إِن المؤمنين الذين فارقوا الأهل والأوطان وجاهدوا الأعداء لإِعلاء دين الله ﴿أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكرهم الجديرون بأن ينالوا رحمة الله والله عظيم المغفرة، واسع الرحمة.
البَلاَغَة: ١ - ﴿كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ فيه إِيجاز بالحذف أي كانوا أمة واحدة على الإِيمان
123
متمسكين بالحق فاختلفوا فبعث الله النبيين ودلّ على المحذوف قوله: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ﴾.
٢ - ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ أم منقطعة والهمزة فيها للإِنكار والاستبعاد أي بل أحسبتم ففيه استفهام إِنكاري.
٣ - ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُم﴾ لمّا تدل على النفي مع توقع وقوع المنفي كما قال الزمخشري والمعنى: لمّا ينزل بكم مثل ما نزل بمن قبلكم وسينزل فإِن نزل فاصبروا قال المبرد: إِذا قال القائل: لم يأتني زيد فهو نفي لقولك أتاك زيد؟ وإِذا قال: لما يأتني فمعناه أنه لم يأتني بعد وأنا أتوقعه وعلى هذا يكون إِتيان الشدائد على المؤمنين متوقعاً منتظراً.
٤ - ﴿ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ في هذه الجملة عدة مؤكدات تدل على تحقق النصر أولاً: بدء الجملة بأداة الاستفتاح «ألا» التي تفيد التأكيد. ثانياً: ذكر «إِنَّ» الدالة على التوكيد أيضاً. ثالثاً: إيثار الجملة الاسمية على الفعلية فلم يقل «ستنصرون» والتعبير بالجملة الاسمية يفيد التأكيد. رابعاً: إضافة النصر إلى رب العالمين القادر على كل شيء.
٥ - ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ وضع المصدر موضع اسم المفعول «كرهٌ» مكان «مكروه» للمبالغة كقول الخنساء:
فإِنما هي إِقبال وإِدبار...
- ﴿وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً... وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً﴾ بين الجملتين من المحسنات البديعية ما يسمى ب «المقابلة» فقد قابل بين الكراهية والحب، وبين الخير والشر.
٧ - ﴿والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ طباق بالسلب.
فَائدَة: عبّر تعالى بصيغة الواحد عن كتب النبيّين ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب﴾ للإِشارة إِلى أن كتب النبيّين وإِن تعددت هي في لبّها وجوهرها كتاب واحد لاشتمالها على شرع واحد في أصله كما قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ... ﴾ [الشورى: ١٣] الآية.
تنبيه: روى البخاري عن خباب بن الأرت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «شكونا إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو متوسد بردةً في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إِلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون»
124
المنَاسَبَة: لمّا ذكر تعالى في الآيات السابقة أحكام القتال، وبيّن الهدف السامي من مشروعيته وهو نصرة الحق وإِعزاز الدين وحماية الأمة من أن يلتهمها العدو الخارجي، ذكر بعدها ما يتعلق بإِصلاح المجتمع الداخلي على أسس من الفضيلة والخُلق الكريم، ولا بدّ للدولة من الإِصلاح الداخلي والخارجي لقتوم دعائهما على أسسٍ متينة وتبقى صرحاً وشامخاً لا تؤثر فيه الأعاصير.
اللغَة: ﴿الخمر﴾ المسكر من الأشربة سميت خمراً لأنها تستر العقل وتغطيه ومنه خمّرتُ الإِناء أي غطيته. ﴿الميسر﴾ القمار وأصله من اليسر لأنه كسب من غير كدّ ولا تعب، وقيل من اليسار لأنه سبب الغنى. ﴿إِثْمٌ﴾ الإِثم: الذنب وجمعه آثام وتسمى الخمر ب «الإِثم» لأن شربها سبب في الإِثم قال الشاعر:
شربت الإِثم حتى ضلَّ عقلي كذاك الإِثم تذهب بالعقول... ﴿العفو﴾ الفضل والزيادة على الحاجة. ﴿أَعْنَتَكُمْ﴾ أوقعكم في الحرج والمشقة، وأصل العنت: المشقة. ﴿أَمَةٌ﴾ الأَمَةُ: المملوكة بملك اليمين وهي تقابل الحرة وجمعها إماء. ﴿المحيض﴾ مصدر بمعنى الحيض كالمعيش بمعنى العيش، وأصل الحيض: السيلان يقال: حاض السيل وفاض وحاضت الشجرة أي سألت ويقال للمرأة حائض وحائضة وأنشد الفراء:
كحائضةٍ يُزنى بها غيرَ طاهر... ﴿حَرْثٌ﴾ الحرث: إِلقاء البذر في الأرض قاله الراغب، وقال الجوهري: الحرث: الزرع، والحارث الزارع ومعنى حرث أي مزرعٌ ومنبتٌ للولد على سبيل التشبيه. ﴿عُرْضَةً﴾ مانعاً وكل ما يعترض فيمنع عن الشيء فهو عُرضة ولهذا يقال للسحاب: عارض لأنه يمنع رؤية الشمس. ﴿اللغو﴾ الساقط الذي لا يعتد به سواءً كان كلاماً أو غيره ولغو الطائر: تصويته.
سَبَبُ النّزول: أ - جاء جماعة من الأنصار فيهم عمر بن الخطاب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا:
125
أفتنا في الخمر والميسر فإِنهما مذهبةٌ للعقل مسلبةٌ للمال فأنزل الله ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر... ﴾ الآية.
ب - عن ابن عباس قال: لمّا أنزل الله ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] انطلق من كان عنده مال يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد واشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ... ﴾ الآية.
ج - عن أنس أن اليهود كانت إِذا حاضت منهم امرأة أخرجوها من البيت فلم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت، فسئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى..﴾ الآية.
التفسِير: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر﴾ أي يسألونك يا محمد عن حكم الخمر وحكم القمار ﴿قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ أي قل لهم إنِ في تعاطي والميسر ضرراً عظيماً وإِثماً كبيراً ومنافع مادية ضئيلة ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ أي وضررهما أعظم من نفعهما فإِن ضياع العقل وذهاب المال وتعريض البدن للمرض في الخمر، وما يجرُّه القمار من خراب البيوت ودمار الأسر وحدوث العداوة والبغضاء بين اللاعبين، كلُّ ذلك محسوس مشاهد وإِذا قيس الضرر الفادح بالنفع التافه ظهر خطر المنكر الخبيث ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو﴾ أي ويسألونك ماذا ينفقون وماذا يتركون من أموالهم؟ قل لهم: أنفوقا الفاضل عن الحاجة ولا تنفقوا ما تحتاجون إِليه وتضيعوا أنفسكم ﴿كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات﴾ أي كما يبّين لكم الأحكام يبيّن لكم المنافع والمضار والحلال والحرام ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدنيا والآخرة﴾ أي لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة فتعلموا أن الأولى فانية والآخرة باقية فتعملوا لما هو أصلح، والعاقل من آثر ما يبقى على ما يفنى.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾ أي ويسألونك يا محمد عن مخالطة اليتامى في أموالهم أيخالطونهم أم يعتزلونهم؟ فقل لهم: مداخلتهم على وجه الإِصلاح خير من اعتزالهم ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي إِذا خلطتم أموالهم بأموالكم على وجه المصلحة لهم فهم إِخوانكم في الدين، وأخوة الدين أقوى من أخوّة النسب، ومن حقوق هذه الأخوّة المخالطة بالإِصلاح والنفع ﴿والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح﴾ أي والله تعالى أعلم وأدرى بمن يقصد بمخالطتهم الخيانة والإِفساد لأموالهم، ويعلم كذلك من يقصد لهم الإِصلاح فيجازي كلاًّ بعمله ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ﴾ أي لو شاء تعالى لأوقعكم في الحرج والمشقة وشدَّد عليكم ولكنه يسّر عليكم الدين وسهّله رحمة بكم ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي هو تعالى الغالب الذي لا يمتنع عليه شيء الحكيم فيما يشرّع لعباده من الأحكام ثم قال تعالى محذراً من زواج المشركات اللواتي ليس لهن دين سماوي ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ﴾ أي لا تتزوجوا أيها المسلمون بالمشركات من غير أهل الكتاب حتى يؤمنَّ بالله واليوم الآخر ﴿وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ أي ولأمة مؤمنة خير وأفضل من حرة مشركة، ولو أعجبتكم المشركة بجمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها من حسب أو جاه أو سلطان ﴿وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ﴾ أي ولا تزوجوا بناتكم من المشركين -
126
وثنيّين كانوا أو أهل كتاب - حتى يؤمنوا بالله ورسوله ﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ أي ولأن تزوجوهنَّ من عبد مؤمنٍ خير من لكم من أن تزوجوهن من حرّ مشرك مهما أعجبكم في الحسب والنسب والجمال ﴿أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار﴾ أي أولئك المذكورون من المشركين والمشركات الذين حرمت عليكم مصاهرتهم ومناكحتهم يدعونكم إلى ما يوصلكم إلى النار وهو الكفر والفسوق فحقكم ألا تتزوجوا منهم ولا تزوجوهم ﴿والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ﴾ أي هو تعالى يريد بكم الخير ويدعوكم إلى ما فيه سعادتكم وهو العمل الذي يوجب الجنة ومغفرة الذنوب ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي يوضح حججه وأدلته للناس ليتذكروا فيميزوا بين الخير والشر والخبيث والطيب.
. ثم بيّن تعالى أحكام الحيض فقال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى﴾ ويسألونك يا محمد عن إتيان النساء في حالة الحيض أيحل أم يحرم؟ فقل لهم: إِنه شيء مستقذر ومعاشرتهن في هذه الحالة فيه أذى للزوجين ﴿فاعتزلوا النسآء فِي المحيض﴾ أي اجتنبوا معاشرة النساء في حالة الحيض ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ﴾ أي لا تجامعونن حتى ينقطع عنهم دم الحيض ويغتسلن. والمرادُ التنبيه على أن الغرض عدم المعاشرة لا عدم القرب منهن وعدم مؤاكلتهن ومجالستهن كما كان يفعل اليهود إِذا حاضت عندهم المرأة ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾ أي فإِذا تطهَّرن بالماء فأتوهنَّ في المكان الذي أحله الله لكم، وهو مكان النسل والولد القُبُل لا الدبر ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين﴾ أي يحبُّ التائبين من الذنوب، المتنزهين عن الفواحش والأقذار ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ﴾ أي نساؤكم مكان زرعكم وموضع نسلكم وفي أرحامهن يتكوّن الولد، فأتوهن في موضع النسل والذرية ولا تتعدوه إِلى غيره قال ابن عباس: اسق نباتك من حيث ينبت. ومعنى ﴿أنى شِئْتُمْ﴾ أي كيف شئتم قائمةً وقاعدةً ومضطجعة بعد أن يكون في مكان الحرث «الفرج» وهو ردٌّ لقول اليهود: إِذا أَتى الرجل امرأته في قُبُلها من دبرها جاء الولد أحول ﴿وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ﴾ أي قدموا صالح الأعمال التي تكون لكم ذخراً في الآخرة ﴿واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ﴾ أي خافوا الله باجتناب معاصيه وأيقنوا بأن مصيركم إِليه فيجازيكم بأعمالكم ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾ أي بشرهم بالفوز العظيم في جنات النعيم ﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ﴾ أي لا تجعلوا الحلف بالله سبباً مانعاً عن فعل الخير فتتعللوا باليمين بأن يقول أحدكم: قد حلفتُ بالله ألاّ أفعله وأريد أن أبرّ بيميني بل افعلوا الخير وكفّروا عن أيمانكم قال ابن عباس: لا تجعلنَّ الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفّر عن يمينك واصنع الخير ﴿أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس﴾ أي لا تجعلوه تعالى سبباً مانعاً عن البر والتقوى والإِصلاح بين الناس وقد نزلت في «عبد الله بن رواحة» حين حلف ألا يكلّم ختنه «النعمان بن بشير» ولا يصلح بينه وبين أخته ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لأقوالكم عليم بأحوالكم.. ثم قال تعالى: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ﴾ أي لا يؤاخذكم بما جرى على لسانكم من ذكر اسم الله من غير قصد الحلف كقول أحدكم: بلى والله، ولا والله لا يقصد به اليمين ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أي يؤاخذكم بما قصدتم إِليه وعقدتم
127
القلب عليه من الإِيمان إذا حنثتم فيها ﴿والله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أي واسع المغفرة لا يعاجل عبادة بالعقوبة.
البَلاَغَة: ١ - ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر﴾ فيه إِيجاز بالحذف أي عن شرب الخمر وتعاطي الميسر.
٢ - ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ هذا من باب التفصيل بعد الإِجمال وهو ما يسمى في البلاغة ب «الإِطناب».
٣ - ﴿كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات﴾ فيه تشبيه مرسلٌ مجملٌ.
٤ - ﴿المفسد مِنَ المصلح﴾ في الآية طباقٌ بين كلمة «المفسد» و «المصلح» وهو من المحسنات البديعية.
٥ - ﴿يَدْعُونَ إِلَى النار والله يدعوا إِلَى الجنة﴾ كذلك يوجد طباق بين كلمة «النار» وكلمة «الجنة.
٦ - ﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ فيه تشبيه بليغ حيث حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً وأصله الحيض شيء مستقذر كالأذى فحذف ذلك مبالغة على حد قولهم: عليٌ أسد.
٧ - ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ﴾ كناية عن الجماع.
٨ - ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ﴾ على حذف مضاف أي موضع حرث أو على سبيل التشبيه فالمرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات الخارج، فالحرث بمعناى المحترث سمي به على سبيل المبالغة.
الفوَائِد الأولاى: تسمى الخمر أم الخبائث لأنها سبب في كل فعل قبيح، روى النسائي عن عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال»
اجتنبوا الخمر فإِنها أم الخبائث، إِنه كان رجل ممن قبلكم متعبد فعلقته امرأة غوية حتى أفضى إِلى امرأة وضيئة، عندها غلامٌ وباطية خمر فقالت: إِني ما دعوتك للشهادة ولكن دعوتك لتقع عليَّ أو تشرب من هذه الخمر كأساً أو تقتل هذا الغلام، قال فاسقيني من هذه الخمر كأساً فسقته كأساً فقال: زيدوني فزادوه فلم يبرح حتى وقع عليها وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإِنها والله لا يجتمع الإِيمان وإِدمان الخمر إِلا ليوشك أن يُخرج أحدهما صاحبه «.
الثانية: كيف يكون في الخمر مناقع مع أنها تذهب بالعقل والمال؟ والجواب أنّ المراد بالمنافع في الآية»
المنافع المادية «حيث كانوا يتاجرون بها فيربحون منها الربح الفاحش ويحتمل أن يراد بالنفع تلك اللذة والنشوة المزعومة التي عبّر عنها الشاعر بقوله:
ونشربها فتتركنا ملوكاً وأُسْداً ما ينهنهنا اللقاء
قال القرطبي: وشارب الخمر يصير ضُحكةً للعقلاء فيلعب ببوله وعذرته وربما يمسح وجهه حتى رُئي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول: اللهمّ اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، ورئي
128
بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول: أمرمك الله كما أكرمتني.
الثالثة: قال الزمخشري: ﴿فاعتزلوا النسآء﴾ ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله﴾ ﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ﴾ من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة، وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة، على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدبوا بها ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم.
129
المنَاسَبَة: ذكر تعالى في الآيات السابقة بعض الأمراض الاجتماعية التي تنخر جسم الأمّة وتحلُّ عرى الجماعة وتوقع بينهم العداوة والبغضاء كالخمر والميسر، ثم انتقل إلى الحديث عن الأسرة باعتبار أنها النواة الأولى لبناء المجتمع الفاضل، فبصلاح الأسرة يصلح المجتمع وبفسادها يفسد المجتمع، واتبدأ من أحكام الأسرة بالعلاقة الزوجية ونبّه على ضرورة أن يكون الاختيار على أساس الدّين لتظل العلاقة موثقة بروابط المودة والرحمة والإِخلاص، فالمشركة لا يحل لها أن تكون في حجر المسلم، والمؤمنة لا يحل لها أن تكون تحت سلطان الرجل المشرك ولهذا حرّم الإِسلام الزواج بالمشركات وتزويج المشركين بالمؤمنات، ثم بيّن في هذه الآيات الكريمة بعض الأمراض التي تحل بالأسرة وتهدد كيانها فذكر منها الإِيلاء، والطلاق، والخلع وبيّن العلاج الناجع لمثل هذه المشاكل التي تقوّض بنيان الأسرة.
اللغَة: ﴿يُؤْلُونَ﴾ الإِيلاء لغة: الحلف يقال: آلى يؤالي إِيلاءً قال الشاعر:
فآلبيت لا أنفك أحدو قصيدةً تكون وإِياها بها مثلاً بعدي
وفي الشرع: اليمين على ترك وطء الزوجة ﴿تَرَبُّصُ﴾ التربص: الانتظار ومنه ﴿قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربصين﴾ [الطور: ٣١] أي انتظروا. ﴿فَآءُو﴾ الفيء: الرجوع ومنه قيل للظلّ فيءٌ لأنه
129
يرجع بعد أن تقلص قال الفراء: العرب تقول فلان سريع الفيء أي سريع الرجوع بعد الغضب قال الشاعر:
ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له ومن حاجة الإِنسان ما ليس قاضيا
﴿قرواء﴾ جمع قرء اسم يقع على الحيض والطهر فهو من الأضداد وأصل القرء: الاجتماع سمي به الحيض لاجتماع الدم في الرحم قال في القاموس: القَرْءُ بالفتح ويضم: الحيضُ والطهرُ والوقت، وجمع الطهر قروءٌ، وجمع الحيض أقراءٌ. ﴿بُعُولَتُهُنَّ﴾ جمع بعل ومعناه الزوج. ﴿وهذا بَعْلِي شَيْخاً﴾ [هود: ٧٢] والمرأة بعلة. ﴿دَرَجَةٌ﴾ الدرجة: المنزلة الرفيعة. ﴿الطلاق﴾ مصدر طلقتُ المرأة ومعنى الطلاق: حلُّ عقد النكاح وأصله الانطلاق والتخلية يقال: ناقة طالق أي مهملة تركت في المدعى بلا قيد ولا راعي، فسميت المرأة المخلَّى سبيلها طالقاً لهذا المعنى. ﴿تَسْرِيحٌ﴾ التسريح: إِرسال الشيء ومنه تسريح الشعر ليخلص البعض من البعض، وسرَّح الماشية أرسلها، قال الراغب: والتسريح في الطلاق مستعارٌ من تسريح الإِبل كالطلاق مستعار من إِطلاق الإِبل.
سَبَبُ النّزول: كان الرجل في الجاهلية يطلق امرأته ما شاء من الطلاق ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدتها ولو طلقها ألف مرة كان له الحق في مراجعتها، فعمد رجل لامرأته فقال لها: لا آويك ولا أدعك تحلّين قالت: وكيف؟ قال أطلّقك فإِذا دنا مضِيُّ عدتك راجعتك، فشكت المرأة أمرها للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ أي للذين يحلفون ألاّ يجامعوا نساءهم للإِضرار بهن انتظار أربعة أشهر ﴿فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي إِن رجعوا إِلى عشرة أزواجهن بالمعروف - وهو كناية عن الجماع - أي رجعوا عن اليمين إِلى الوطء فإِن الله يغفر ما صدر منهم من إِساءة ويرحمهم ﴿وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي وإِن صمّموا على عدم المعاشرة والامتناع عن الوطء فإِن الله سميعٌ لأقوالهم عليم بنيّاتهم، والمراد من الآية أنّ الزوج إِذا حلف ألا يقرب زوجته تنتظره الزوجة مدة أربعة أشهر فإِن عاشرها في المدة فبها ونعمت ويكون قد حنث في يمينه وعليه الكفارة، وإِن لم يعاشرها وقعت الفرقة والطلاق بمضي تلك المدة عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: ترفع أمره إِلى الحاكم فيأمره إِما بالفيئة أو الطلاق فإِن امتنع عنهما طلّق عليه الحاكم هذا هو خلاصة حكم الإِيلاء.
. ثم قال تعالاى مبيناً أحكام العدّة والطلاق الشرعي ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء﴾ أي الواجب على المطلقات المدخول بهن أن ينتظرن مدة ثلاثة أطهار - على قول الشافعي ومالك - أو ثلاث حِيَض على قول أبي حنيفة وأحمد ثم تتزوج إِن شاءت بعد انتهاء عدتها، وهذا في المدخول بها أما غير المدخول بها فلا عدة عليها لقوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ﴾ [الأحزاب: ٤٩] ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ﴾ أي لا يباح للمطلقات أن يخفين ما في أرحامهن من حبلٍ أو حيض استعجالاً في العدة وإِبطالاً لحق الزوج في الرجعة ﴿إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر﴾ أي إِن كنَّ حقاً مؤمنات بالله
130
ويخشين من عقابه، وهذا تهديد لهنَّ حتى يخبرن بالحق من غير زيادة ولا نقصان لأنه أمر لا يُعلم إِلاّ من جهتهنَّ ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً﴾ وأزواجهن أحقُّ بهنَّ في الرجعة من التزويج للأجانب إِذا لم تنقض عدتهن وكان الغرض من الرجعة الإِصلاح لا الإِضرار، وهذا في الطلاق الرجعي ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف﴾ أي ولهنَّ على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، بالمعروف الذي أمر تعالاى به من حسن العشرة وترك الضرار ونحوه ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ أي وللرجال على النساء ميزةٌ وهي فيما أمر تعالاى به من القوامة والإِنفاق والإِمرة ووجوب الطاعة فهي درجة تكليفٍ لا تشريف لقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣] ﴿والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي غالب ينتقم ممن عصاه حكيم في أمره وتشريعه ثم بيّن تعالى طريقة الطلاق الشرعية فقال: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أي الطلاق المشروع الذي يملك به الزوج الرجعة مرتان وليس بعدهما إِلا المعاشرة بالمعروف مع حسن المعاملة أو التسريح بإِحسان بألا يظلمها من حقها شيئاً ولا يذكرها بسوء ولا ينفّر الناس عنها ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً﴾ أي لا يحل لكم أيها الأزواج أن تأخذوا مما دفعتم إِليهن من المهور شيئاً ولو قليلاً ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ أي إِلا أن يخاف الزوجان سوء العشرة وألا يرعيا حقوق الزوجية التي أمر الله تعالى ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ﴾ أي فإِن خفتم سوء العشرة بينهما وأرادت الزوجة أن تختلع بالنزول عن مهرها أو بدفع شيء من المال لزوجها حتى يطلقها فلا إِثم على الزوج في أخذه ولا على الزوجة في بذله ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ أي هذه الأحكام العظيمة من الطلاق والرجعة والخلع وغيرها هي شرائع الله وأحكامه فلا تخالفوها ولا تتجاوزوها إِلى غيرها ممّا لم يشرعه الله ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون﴾ أي من خالف أحكام الله فقد عرَّض نفسه لسخط الله وهو من الظالمين المستحقين للعقاب الشديد ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾ أي فإِن طلّق الرجل المرأة ثالث مرة فلا تحل له بعد ذلك حتى تتزوج غيره وتطلق منه، بعد أن يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته كما صرّح به الحديث الشريف، وفي ذلك زجر عن طلاق المرأة ثلاثاً لمن له رغبة في زوجته لأن كل شيء مروءة يكره أن يفترش امرأته آخر ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ أي إِن طلقها الزوج الثاني فلا بأس أن تعود إِلى زوجها الأول بعد انقضاء العدّة إِن كان ثمة دلائل تشير إِلى الوفاق وحسن العشرة ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي تلك شرائع الله وأحكامه يوضحها ويبينها لذوي العلم والفهم الذين ينظرون في عواقب الأمور.
البَلاَغَة: ١ - ﴿فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ خرج الخبر عن ظاهره إِلى معنى الوعيد والتهديد.
٢ - ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ﴾ خبرٌ في معنى الأمر وأصل الكلام وليتربصْ الملطقاتُ، قال الزمخشري: وإِخراج الأمر في صيغة الخبر تأكيدٌ للأمر وإِشعارٌ بأنه ممّأ يجب أن يُتلقى بالمسارعة إِلى
131
امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر فهو يخبر عنه موجوداً، وبناؤه على المبتدأ مما زاده فضل تأكيد.
٣ - ﴿إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله﴾ ليس الغرض منه التقييد بالإِيمان بل هو للتهييج وتهويل الأمر في نفوسهن.
٤ - ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ﴾ فيه إٍيجاز وإِبداع لا يخفى على المتمكن من علوم البيان، فقد حذف من الأول بقرينة الثاني، ومن الثاني بقرينة الأولى والمعنى: لهنّ على الرجال من الحقوق مثل الذي للرجال عليهن من الحقوق، وفيه من المحسنات البديعية أيضاً الطباق بين «لهنَّ» و «عليهنَّ» وهو طباقٌ بين حرفين.
٥ - ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ بين لفظ «إِمساك» ولفظ «تسريح» طباقٌ أيضاً.
٦ - ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ وضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة وإِدخال الروعة في النفوس، وتعقيبُ النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد.
٧ - ﴿فأولئك هُمُ الظالمون﴾ قصر صفة على موصوف.
فَائِدَة: أول خلع كان في الإِسلام في امرأة (ثابت بن قيس) «أتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت يا رسول الله: لا يجمع الله رأسي ورأسه شيءٌ أبداً، والله ما أعيب عليه في خلقٍ ولا دين ولكن أكره الكر بعد الإِسلام فقال لها عليه السلام:» أَتَرُدِّينَ عَلَيهِ حَدِيقَتَهُ؟ «قالت: نعم ففرّق بينهما».
لطيفَة: روي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: إِني لا أحب أن أتزين لامرأتي كما تتزين لي لأن الله تعالى يقول: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف﴾.
132
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن أحكام الطلاق وتوضّح طريقته وشروطاً وآدابه وتنهى عن الإِيذاء والإِضرار فوجه المناسبة إِذاً ظاهر.
اللغَة: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي قاربن من الانتهاء من العدة. ﴿ضِرَاراً﴾ أي بقصد الإِضرار، قال القفال: الضرّار هو المضارّة كقوله: ﴿مَسْجِداً ضِرَاراً﴾ [التوبة: ١٠٧] أي ليضاروا المؤمنين. ﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾ العضل:
132
المنع والتضييق يقال: أعضل الأمر أي أشكل وضاقت فيه الحيل وداء عُضال أي عسير أعيا الأطباء، قال الأزهري: وأصله من عضلت الناقة إِذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه. ﴿يُوعَظُ بِهِ﴾ يوصى ويؤمر به. ﴿أزكى﴾ أنمى وأنفع يقال: زكا الزرع إِذا نما بكثرةٍ وبركة. ﴿وَأَطْهَرُ﴾ الطهارة: التنزه عن الدَّنْس والمعاصي.
سَبَبُ النّزول: روي أنّ «معقل بن يسار» زوَّج أخته رجلاً من المسلمين على عهد النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدّة، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطّاب فقال له: يا لُكَع، أي «يا لئيم» أكرمتك بها وزوجتك فطلقتها!! والله لا ترجع إِليك أبداً فعلم الله حاجته إِليها وحاجتها إِلى بعلها فأنزل الله ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ..﴾ الآية فلما سمعها معقل قال: سمعاً لربي وطاعة ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك.
التفسِير: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي إِذا طلقتم يا معشر الرجال النساء طلاقاً رجعياً وقاربن انقضاء العدة ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي فراجعوهنّ من غير ضرار ولا أذى أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن بإِحسان من غير تطويل العدّة عليهن ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ﴾ أي لا تراجعوهن إِرادة الإِضرار بهنّ لتظلموهن بالإِلجاء إِلى الافتداء، وفيه زجرٌ لما كان عليه الناس حيث كان الزوج يترك المعتدة حتى إِذا شارفت انقضاء العدّة يراجعها للإِضرار بها ليطوّل عليها العدّة لا للرغبة فيها ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ أي من يمسكها للإِضرار بها أو ليكرهها على الافتداء فقد ظلم بذلك العمل نفسه لأنه عرّضها لعذاب الله ﴿وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً﴾ أي لا تهزءوا بأحكام الله وأوامره ونواهيه فتجعلوا شريعته مهزوءاً بها بمخالفتكم لها ﴿واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة﴾ أي اذكروا فضل الله عليكم بهدايتكم للإِسلام وما أنعم به عليكم من القرآن العظيم والسنّة المطهّرة ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ أي يرشدكم ويذكّركم وهدي رسوله إِلى سعادتكم في الدارين ﴿واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي خافوا الله وراقبوه في أعمالكم واعلموا أنه تعالى لا تخفى عليه خافية من أحوالكم ثم أمر تعالى الأولياء بعدم عضل النساء الراغبات في العودة إِلى أزواجهن فقال: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي إِذا طلقتم النساء وانقضت عدتهن ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف﴾ أي فلا تمنعوهن يا معشر الأولياء من العودة لأزواجهن إِذا صلحت الأحوال بين الزوجين وظهرت أمارات الندم ورضي كل منهما إِلى العودة لصاحبه والسير بما يرضي الله ﴿ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر﴾ أي ما نهيتكم عنه من الإِضرار والعضل يُنصح به ويوعظ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر لأنه هو المنتفع بالمواعظ الشرعية ﴿ذلكم أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ أي الاتعاظ بما ذكر والتمسك بأوامر الله خير وأنفع لكم وأطهر من الآثام وأوضار الذنوب ﴿والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي والله يعلم ما هو أصلح لكم من الأحكام والشرائع وأنتم لا تعلمون ذلك، فامتثلوا أمره تعالى ونهيه في
133
جميع ما يأتون وما تذرون.
البَلاَغَة: ١ - ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي قاربن انقضاء عدتهن أُطلق اسم الكل على الأكثر فهو مجاز مرسل لأنه لو انقضت العدّة لما جاز له إِمساكها والله تعالى يقول: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾.
٢ - ﴿واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة﴾ هو من باب عطف الخاص على العام لأن النعمة يراد بها نعم الله والكتاب والسنّة من أفراد هذه النعم.
٣ - ﴿واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ بين كلمة «اعلموا» و «عليم» من المحسنات البديعية ما يسمى بجناس الاشتقاق.
٤ - ﴿أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ يراد بأزواجهن «المطلقين» لهن فهو من باب المجاز المرسل والعلاقة اعتبار ما كان.
فَائِدَة: قال الإِمام الفخر: الحكمة في إِثبات حق الرجعة أنّ الإِنسان ما دام مع صاحبه لا يدري هل تشقُّ عليه المفارقة أو لا؟ فإِذا فارقة فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعةً من الرجوع لعظمت المشقة على الإِنسان إِذ قد تظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لما ان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة أثبت تعالى حق المراجعة مرتين، وهذا يدل على كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده.
134
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى جملة من الأحكام المتعلقة بالنكاح والطلاق والعدة والرجعة والعَضْل، ذكر في هذه الآية الكريمة حكم الرضاع لأنّ الطلاق يحصل به الفراق فقد يطلّق الرجل زوجته ويكون لها طفل ترضعه وربما أضاعت الطفل أو حرمته الرضاع من الزوج وإيذاءً له في ولده، لذلك وردت هذه الآية لندب الوالدات المطلقات إِلى رعاية الأطفال والاهتمام بشأنهم، ثم أعقب ذلك ببيان حكم الفراق بين الزوجين بالموت وما يجب على المرأة من العدَّة فيه رعايةً لحق الزوج، كما ذكر تعالى موضع خطبة المرأة في حالة العدّة، وموضوع استحقاق المرأة لنصف المهر أو كامل المهر بعد الفراق أو الطلاق.
اللغَة: ﴿فِصَالاً﴾ الفِصال والفَصْل: الفطام سمي به لأن الولد ينفصل عن لبن أمه إِلى غيره من الأقوات، قال المبرّد: الفِصال أحسن من الفصل لأنه إِذا انفصل عن أمه فقد انفصلت عنه فبينهما فِصال كالقِتال والضراب ﴿تَشَاوُرٍ﴾ التشاور: استخراج الرأي ومثله المشاورة والمشورة مأخوذ من الشَّوْر وهو استخراج العسل. ﴿يَذَرُونَ﴾ يتركون وهذا الفعل لا يستعمل منه الماضي ولا المصدر. ﴿عَرَّضْتُمْ﴾ التعريض: الإِيماء والتلويح من غير كشفٍ وإظهار، مأخوذ من عرض الشيء أي جانبه كقول الفقير للمحسن: جئت لأنظر إِلى وجهك الكريم ﴿خِطْبَةِ﴾ بكسر الخاء طلب النكاح وبالضم الموعظة كخُطبة الجمعة والعيدين. ﴿أَكْنَنتُمْ﴾ سترتم وأضمرتم والإِكنان: السرُّ والخفاء. ﴿عُقْدَةَ النكاح﴾ من العقد وهو الشدُّ وفي المثل «يا عاقد اذكر حلاً» قال الراغب: العُقدة اسم لما يعقد من نكاح أو يمين أو غيرهما. ﴿حَلِيمٌ﴾ يمهل العقوبة فلا يعجّل بها للعاصي. ﴿المقتر﴾ الفقير يقال: أقتر الرجل إذا افتقر.
سَبَبُ النّزول: روي «أن رجلاً من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها مهراً ثم طلّقها قبل أن يمسَّها فنزلت الآية ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ فقال له النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» متِّعْها وَلوْ بِقَلَنْسُوَتِكَ «.
التفسِير: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ أي الواجب على الأمهات أن يرضعن أولادهن لمدة سنتين كاملتين ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة﴾ أي إِذا شاء الوالدان إتمام الرضاعة ولا زيادة عليه ﴿وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف﴾ أي وعلى الأب نفقة الوالدات المطلقات وكسوتهن بما هو متعارف بدون إِسراف ولا تقتير لتقوم بخدمته حق القيام ﴿لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أي تكون النفقة بقدر الطاقة لأنه تعالى لا يكلّف نفساً إِلا وسعها ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ أي لا يضرَّ الوالدان بالولد فيفرِّطا في تعهده ويقصّرا في ما ينبغي له، وأو يضارَّ أحدهما الآخر بسبب الولد فترفض الأم إرضاعه لتضرّ أباه بتربيته، وينتزع الأب الولد منها إِضراراً بها
135
مع رغبتها في إِرضاعه ليغيط أحدهما صاحبه، قاله مجاهد ﴿وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك﴾ أي وعلى الوارث مثلُ ما على والد الطفل من الإِنفاق على الأم والقيام بحقوقها وعدم الإِضرار بها والمراد به وارثُ الأب وقيل: وارثُ الصبي، والأول اختيار الطبري ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي فإِذا اتفق الوالدان على فطامه قبل الحولين ورأيا في ذلك مصلحة له بعد التشاور فلا إِثم عليهما ﴿وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بالمعروف﴾ أي وإِن أردتم أيها الآباء أن تطلبوا مرضعةً لولدكم غير الأم بسبب عجزها أو إِرادتها الزواج فلا إِثم عليكم شريطة أن تدفعوا لها ما اتفقتم عليه من الأجر، فإِن المرضع إِذا لم تكرم لا تهتم بالطفل ولا تُعنى بإِرضاعه ﴿واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي راقبوا الله في جميع أفعالكم فإِنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأحوالكم ﴿والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ أي على النساء اللواتي يموت أزواجهن أن يمكثن في العدّة أربعة أشهر وعشرة أيام حداداً على أزواجهنَّ وهذا الحكم لغير الحامل أما الحامل فعدتها، وضع الحمل لقوله تعالى:
﴿وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤] ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف﴾ أي فإِذا انقضت عدتهن فلا إِثم عليكم أَيها الأولياء في الإذن لهنّ بالزواج وفعل ما أباحه لهنّ الشرع من الزينة والتعرض للخطّاب ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي عليم بجميع أعمالكم فيجازيكم عليها ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء﴾ أي لا إِثم عليكم أيها الرجال في التعريض بخطبة النساء المتوفّى عنهن أزواجهن في العدّة، بطريق التلميح لا التصريح، قال ابن عباس: كقول الرجل: وددتُ أنّ الله يسَّر لي امرأةً صالحة، وإِن النساء لمن حاجتي ﴿أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ﴾ أي ولا إِثم عليكم أيضاً فيما أخفيتموه في أنفسكم من رغبة الزواج بهنّ ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ أي قد علم الله أنكم ستذكرونهن في أنفسكم ولا تصبرون عنهن فرفع عنكم الحرج، فاذكروهنَّ ولكنْ لا تواعدوهنَّ بالنكاح سرّاً إِلا بطريق التعريض والتلويح وبالمعروف الذي أقرّه لكم الشرع ﴿وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ﴾ أي ولا تعقدوا عقد النكاح حتى تنتهي العدّة ﴿واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ فاحذروه﴾ أي احذروا عقابه في مخالفتكم أمره ﴿واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أي يمحو ذنب من أناب ولا يعاجل العقوبة لمن عصاه. ثم ذكر تعالى حكم المطلقة قبل المساس فقال: ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ أي لا إِثم عليكم أيها الرجال إِن طلقتم النساء قبل المسيس «الجماع» وقبل أن تفرضوا لهنَّ مهراً، فالطلاق في مثل هذه الحالة غير محظور إِذا كان لمصلحة أو ضرورة ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين﴾ أي فإِذا طلقتموهن فادفعوا لهنَّ المتعة تطييباً لخاطرهن وجبراً لوحشة الفراق، على قدر حال الرجل في الغنى والفقر، الموسر بقدر يساره، والمعسر بقدر إِعساره، تمتيعاً بالمعروف حقّاً على المؤمنين المحسنين ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ أي وإِذا طلقتموهن قبل الجماع وقد كنتم ذكرتم لهنَّ مهراً معيناً فالواجب عليكم أن تدفعوا نصف المهر المسمّى لهن لأنه طلاقٌ قبل المسيس {إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ
136
عُقْدَةُ النكاح} أي إِلا إِذا أسقطت المطلّقة حقها أو أسقط وليُّ أمرها الحق إِذا كانت صغيرة، وقيل: هو الزوج لأنه هو الذي يملك عُقدة النكاح وذلك بأن يسامحها بكامل المهر الذي دفعه لها واختاره ابن جرير، وقال الزمخشري: القول بأنه الوليُّ ظاهر الصحة ﴿وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى﴾ الخطاب عام للرجال والنساء، قال ابن عباس: أقربهما للتقوى الذي يعفو ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي لا تنسوا أيها المؤمنون الجميل والإِحسان بينكم، فقد ختم تعالى الآيات بالتذكير بعدم نسيان المودّة والإِحسان والجميل بين الزوجين، فإِذا كان الطلاق قد تمَّ لأسباب ضرورية قاهرة فلا ينبغي أن يكون هذا قاطعاً لروابط المصاهرة ووشائج القربى.
البَلاَغَة: ١ - ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ﴾ أمر أُخرج مخرج الخبر مبالغة في الحمل على تحقيقه أي ليرضعن كالآية السابقة ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٨].
٢ - ﴿تسترضعوا﴾ فيه إٍِيجاز بالحذف أي يسترضعوا المراضع لأولادكم، كما أنّ فيه الالتفات من الغيبة إِلى الخطاب لأنّ ما قبله ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً﴾ وفائدة هذا الالتفات هز مشاعر الآباء نحو الأبناء.
٣ - ﴿وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح﴾ ذكر العزْم للمبالغة في النهي عن مباشرة النكاح، فإِذا نهي عنه كان النهي عن الفعل من باب أولى.
٤ - ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ كنّى تعالى بالمسّ عن الجماع تأديباً للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به.
٥ - ﴿وَأَن تعفوا﴾ و ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل﴾ الخطاب عام للرجال والنساء ولكنه ورد بطريق التغليب.
٦ - ﴿واعلموا أَنَّ الله﴾ إِظهار الاسم الجليل في موضع الإِضمار لتربية المهابة والروعة.
الفَوائِد الأولى: التعبير بلفظ «الوالدات» دون قوله «والمطلقات» أو النساء المطلقات لاستعطافهن نحو الأولاد، فحصول الطلاق لهنَّ لا ينبغي أن يحرمهنَّ عاطفة الأمومة.
الثانية: أضاف تعالى الولد في الآية الكريمة إِلى كلٍّ من الأبوين في قوله: ﴿وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ و ﴿مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ وذلك لطلب الاستعطاف والإِشفاق عليه، فالولد ليس أجنبياً عن الوالدين هذه أمه وذاك أيوه فمن حقهما أن يشفقا عليه ولا تكون العداوة بينهما سبباً للإِضرار به.
الثالثة: الحكمة في إِيجاب المتعة للمطلقة هي جبر إِيحاش الطلاق قال ابن عباس: إِن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب، وإِن كان موسراً متعّها بخادم.
الرابعة: روي أنّ الحسن بن علي متّع زوجته بعشرة آلاف درهم فقالت المرأة: «متاعٌ قليلٌ من
137
حبيب مفارق» وسبب طلاقه إيّاها ما روي أنه لما أصيب عليٌّ كرّم الله وجهه وبويع الحسن بالخلافة قالت له: لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين! فقال: يُقتل عليٌّ وتظهرين الشماتة؟ اذهبي فأنت طالق ثلاثاً، فتلفعت بجلبابها وقعدت حتى انقضت عدتها فبعث إِليها بعشرة آلاف متعة وبقية ما بقي لها من صداقها فقالت ذلك، فلما أخبره الرسول بكى وقال: لولا أنني طلقتها ثلاثاً لراجعتها.
138
المنَاسَبَة: توسطت آيات المحافظة على الصلاة خلال الآيات الكريمة المتعلقة بأحكام الأسرة وعلاقات الزوجين عند الطلاق أو الافتراق وذلك لحكمة بليغة، وهي أنّ الله تعالى لما أمر بالعفو والتسامح وعدم نسيان الفضل بعد الطلاق بيّن بعد ذلك أمر الصلاة، لأنها أعظم وسيلة إِلى نسيان هموم الدنيا وأكدارها ولهذا كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِذا حزبه همٌّ فزع إِلى الصلاة فالطلاق يولّد الشحناء والبغضاء، والصلاة تدعو إِلى الإِحسان والتسامح وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وذلك أفضل طريق لتربية النفس الإِنسانية.
اللغَة: ﴿حَافِظُواْ﴾ المحافظة: المداومة على الشيء والمواظبة عليه. ﴿الوسطى﴾ مؤنث الأوسط، ووسط الشيء خيره وأعدله قال أعرابي يمدح الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
يا أوسط الناس طرّاً في مفاخرهم وأكرم الناس أمّاً برّةً وأباً
﴿قَانِتِينَ﴾ أصل القنوت في اللغة: المداومة على الشيء وقد خصّه القرآن بالدوام على الطاعة والملازمة لها على وجه الخشوع والخضوع قال تعالى: ﴿يامريم اقنتي لِرَبِّكِ﴾ [آل عمران: ٤٣]. ﴿فَرِجَالاً﴾ جمع راجل وهو القائم على القدمين قال الراغب: اشتُقَّ من الرجل راجلٌ للماشي بالرجل ويقال: رجل راجل أي قويٌّ على المشي. ﴿رُكْبَاناً﴾ جمع راكب وهو من يركب الفرس والدابة ونحوهما.
التفسِير: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى﴾ أي واظبوا أيها المؤمنون وداوموا على أداء الصلوات في أوقاتها وخاصة صلاة العصر فإِن الملائكة تشهدها ﴿وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾ أي داوموا على العبادة والطاعة بالخشوع والخضوع أي قوموا لله في صلاتكم خاشعين {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ
138
رُكْبَاناً} أي فإِذا كنتم في خوفٍ من عدوٍ أو غيره فصلوا ماشين على الأقدام أو راكبين على الدواب ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ أي فإِذا زال الخوف وجاء الأمن فأقيموا الصلاة مستوفية لجميع الأركان كما أمركم الله وعلى الوجه الذي شرعه لكم وهذه كقوله: ﴿فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة﴾ [النساء: ١٠٣] والذكرُ في الآية يراد به الصلاة الكاملة المستوفية للأركان، قال الزمخشري: المعنى اذكروه بالعبادة كام أحسن إِليكم بما علمكم من الشرائع وكيف تصلون في حال الخوف والأمن. ثم قال تعالى مبيناً أحكام العدة ﴿والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ أي والذين يموتون من رجالكم ويتركون زوجاتهم على هؤلاء أن يوصوا قبل أن يُحتضروا بأن تمتَّع أزواجهم بعدهم حولاً كاملاً - يُنْفق عليهنَّ من تركته ولا يُخرجن من مساكنهنَّ - وكان ذلك في أول الإِسلام ثم نسخت المدة إِلى أربعة أشهر وعشرة أيام ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ﴾ أي فإِن خرجن مختارات راضيات فلا إِثم عليكم يا أولياء الميت في تركهن أن يفعلن ما لا ينكره الشرع كالتزين والتطيب والتعرض للخُطّاب ﴿والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي هو سبحانه غالبٌ في ملكه حكيم في صنعه ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين﴾ أي واجبٌ على الأزواج أن يُمتِّعوا المطلقات بقدر استطاعتهم جبراً لوشحة الفراق وهذه المتعة حقٌّ لازم على المؤمنين المتقين لله ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي مثل ذلك البيان الشافي الذي يوجه النفوس نحو المودة والرحمة يبيّن الله سبحانه لكم آياته الدالة على أحكامه الشرعية لتعقلوا ما فيها وتعملوا بموجبها.
البَلاَغَة: ١ - ﴿الصلاة الوسطى﴾ عطف خاص على عام؛ لبيان مزيد فضلها.
٢ - ﴿فَإنْ خِفْتُمْ﴾ ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ بين لفظ خفتم وأمنتم طباق وهو من المحسنات البديعية، قال أبو السعود: وفي إِيراد الشرطية بكلمة «إِن» المنبئة عن عدم تحقق وقوع الخوف، وإِيراد الثانية بكلمة «إِذا» المنبئة عن تحقق وقوع الامن وكثرته مع الإِيجاز في جواب الأولى والإِطناب في جواب الثانية من الجزالة ولطف الاعتبار ما فيه عبرة لأولي الأبصار.
تنبيه: الصلاة الوسطى على الراجح من الأقوال هي صلاة العصر لأنها وسط بين الفجر والظهر والمغرب والعشاء ويقوي هذا ما ورد في الصحيحين: «شَغَلُونَا عن الصَّلاةِ الوُسْطَى صَلاَةِ العَصْرِ مَلأَ الله قُلُوبَهُم وَبُيُوتَهُم نَاراً» وفي الحديث: «الّذِي تَفُوتُه صَلاةُ العَصْرِ فَكَأَنَمَا وَتِر أَهْلُهُ وَمَالُهُ» أخرجه الشيخان وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة.
139
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أحكام الأسرة بالتفصيل والنظم التي تربط بين أفرادها، وسعى لإِصلاحها باعتبار أنها النواة واللبنة التي يشاد منها صرح المجتمع الفاضل، ذكر بعدها أحكام الجهاد وذلك لحماية العقيدة وصيانة المقدسات، وتأمين البيئة الصالحة للأسرة المسلمة التي تنشد الحياة الكريمة، فلا صلاح للأسرة إِلا بصلاح المجتمع، ولا بقاء لها ولا خلود إِلا ببقاء الحق وأنصاره، ولهذا أمر تعالى بالقتال وضرب عليه الأمثال بالأمم السابقة، كيف جاهدت في سبيل الحق وانتصرت القلة مع إِيمانها على الكثرة مع كفرها وطغيانها، فليست العبرة بكثرة أنصار الباطل بل بصمود أهل الحق والتزامهم له وجهادهم في سبيله.
اللغَة: ﴿أُلُوفٌ﴾ جمع ألف جمع كثرة وفي القلة آلاف، ومعناه كثرة كاثرة وألوف مؤلفة. ﴿حَذَرَ﴾ خشية وخوف ﴿يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ القبض: ضم الشيء والجمع عليه والمراد به التقتير والبسط ضدَّه والمراد به التوسيع قال أبو تمام:
140
تعوَّد بسطَ الكفِّ حتى لو أنه دعاها لقبضٍ لم تُجْبه أناملُه
﴿الملإ﴾ الأشراف من الناس سمّوا بذلك لأنهم يلمؤون العين مهابةً وإِجلالاً. ﴿فَصَلَ﴾ انفصل من مكانه يقال: فصل عن الموضع انفصل عنه وجاوزه. ﴿مُبْتَلِيكُمْ﴾ مختبركم. ﴿يَظُنُّونَ﴾ يستيقنون ويعلمون. ﴿فِئَةٍ﴾ الفئة: الجماعة من الناس لا واحد له كالرهط والنفر. ﴿أَفْرِغْ﴾ أفرغ الشيء صبَّه وأنزله.
التفسِير: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ أي ألم يصل إِلى سمعك يا محمد أو أيها المخاطب حال أولئك القوم الذين خرجوا من وطنهم وهم ألف مؤلفة ﴿حَذَرَ الموت﴾ أي خوفاً من الموت وفراراً منه، والغرض من الاستفهام التعجيب والتشويق إِلى سماع قصتهم وكانوا سبعين ألفاً ﴿فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ أي أماتهم الله ثم أحياهم، وهم قوم من بني إِسرائيل دعاهم ملكهم إِلى الجهاد فهربوا خوفاً من الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم بدعوة نبيهم «حزقيل» فعاشوا بعد ذلك دهراً، وقيل: هربوا من الطاعون فأماتهم الله قال ابن كثير: وفي هذه القصة عبرةٌ على أنه لا يغني تحذرٌ من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إِلا إِليه ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾ أي ذو إِنعام وإِحسان على الناس حيث يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة ما يبصّرهم بما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ﴾ أي لا يشكرون الله على نعمه بل ينكرون ويجحدون ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي قاتلوا الكفار لإِعلاء دين الله، لا لحظوظ النفس وأهوائها واعلموا أنّ الله سميع لأقوالكم، عليم بنيّاتكم وأحوالكم فيجازيكم عليها، وكما أنّ الحذر لا يغني من القدر فكذلك الفرار من الجهاد لا يقرّب أجلاً ولا يبعده ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ أي من الذي يبذل ماله وينفقه في سبيل الخير ابتغاء وجه الله، ولإِعلاء كلمة الله في الجهاد وسائر طرق الخير، فيكون جزاؤه أن يضاعف الله تعالى له ذلك القرض أضعافاً كثيرة؟ لأنه قرضٌ لأغنى الأغنياء ربّ العالمين جلّ جلاله وفي الحديث
«مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيم وَلاَ ظَلُومٍ» ﴿والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ أي يقتّر على من يشاء ويوسّع على من يشاء ابتلاءً وامتحاناً ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى﴾ أي ألم يصل خبر القوم إليك؟ وهو تعجيب وتشويق للسامع كما تقدم وكانوا من بني إسرائيل وبعد وفاة موسى عليه السلام كما دلت عليه الآية ﴿إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي حين قالوا لنبيِّهم «شمعون» - وهو من نسل هارون أقم لنا أميراً واجعله قائداً لنا لنقاتل معه الأعداء في سبيل الله ﴿قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ﴾ أي قال لهم نبيّهم: أخشى أن يُفرض عليكم القتال ثم لا تقاتلوا عدوكم وتجبنوا عن لقائه ﴿قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا﴾ أي أيُّ سببٍ لنا في ألاّ نقاتل عدونا وقد أخذت منا البلاد وسُبيت الأولاد؟ قال تعالى بياناً لما انطوت عليه نفوسهم من الهلع والجبن ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ أي لما فرض عليهم القتال نكل أكثرهم عن
141
الجهاد إِلا فئة قليلة منهم صبروا وثبتوا، وهم الذين عبروا النهر مع طالوت، قال القرطبي: وهذا شأن الأمم المتنعِّمة المائلة إِلى الدَّعة، تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإِذا حضرت الحرب جُبنت وانقادت لطبعها ﴿والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ وعيدٌ لهم على ظلمهم بترك الجهاد عصياناً لأمره تعالى ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً﴾ أي أخبرهم نبيّهم بأنَّ الله تعالى قد ملَّك عليهم طالوت ليكونوا تحت إِمرته في تدبير أمر الحرب واختاره ليكون أميراً عليهم ﴿قالوا أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال﴾ أي قاموا معترضين على نبيّهم كيف يكون ملكاً علينا والحال أننا أحقُّ بالملك منه لأن فينا من هو من أولاد الملوك وهو مع هذا فقير لا ما له فكيف يكون ملكاً علينا؟ ﴿قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم﴾ أي أجابهم نبيّهم على ذلك الاعتراض فقال: إِنّ الله اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم، والعمدة في الاختيار أمران: العلم ليتمكن به من معرفة أمور السياسة، والأمر الثاني قوة البدن ليعظم خطره في القلوب، ويقدر على مقاومة الأعداء ومكابدة الشدائد، وقد خصّه الله تعالى منهما بحظ وافر، قال ابن كثير: ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم، وشكل حسن، وقوّةٍ شديدة في بدنه ونفسه، ﴿والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ﴾ أي يعطي الملك لمن شاء من عباده من غير إِرثٍ أو مال ﴿والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي واسع الفضل عليمٌ بمن هو أهلٌ له فيعطيه إِياه.
. ولمّا طلبوا آية تدل على اصطفاء الله لطالوت أجابهم إِلى ذلك ﴿وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾ أي علامة ملكه واصطفائه عليكم ﴿أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت﴾ أي يردَّ الله إِليكم التابوت الذي أخذ منكم، وهو كما قال الزمخشري: صندوق التوراة الذي كان موسى عليه السلام إِذا قاتل قدَّمه فكانت تسكن نفوس بني إِسرائيل ولا يفرون ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الملائكة﴾ أي في التابوت السكون والطمأنينة والوقار وفيه أيضاً بقية من آثار آل موسى وآل هارون وهي عصا موسى وثيابه وبعض الألواح التي كتبت فيها التوراة تحمله الملائكة، قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعه بين يدي طالوت والناس ينظرون ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي إِن في نزول التابوت لعلامة واضحة أنّ الله اختاره ليكون ملكاً عليكم إِن كنتم مؤمنين بالله واليوم الآخر ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود﴾ أي خرج بالجيش وانفصل عن بيت المقدس وجاوزه وكانوا ثمانين أخذ بهم في أرض قفرة فأصابهم حرٌّ وعطشٌ شديد ﴿قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ أي مختبركم بنهر وهو نهر الشريعة المشهور بين الأردن وفلسطين ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أي من شرب منه فلا يصحبني - وأراد بذلك أن يختبر إِرادتهم وطاعتهم قبل أن يخوض بهم غمار الحرب - ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني﴾ أي من لم يشرب منه ولم يذقه فإِنه من جندي الذين يقاتلون معي ﴿إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ أي لكن من اغترف قليلاً من الماء ليبلَّ عطشه وينقع غلته فلا بأس بذلك، فأذن لهم برشفةٍ من الماء تذهب بالعطش ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ أي شرب الجيش منه إِلا فئة قليلة صبرت على العطش، قال السدي: شرب منه ستة وسبعون ألفاً وتبقّى معه أربعة آلاف ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾ أي
142
لما اجتاز النهر مع الذين صبروا على العطش والتعب ورأوا كثرة عدوهم واعتراهم الخوف فقال فريق منهم ﴿قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ﴾ أي لا قدرة لنا على قتال الأعداء مع قائد جيشهم جالوت فنحن قلة وهم كثرة كاثرة ﴿قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله﴾ أي قال الذين يعتقدون بلقاء الله وهم الصفوة الأخيار والعلماء الأبرار من أتباع طالوت ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله﴾ أي كثيراً ما غلبت الجماعة القليلة الجماعة الكثيرة بإِرادة الله ومشيئته، فليس النصر عن كثرة العدد وإِنما النصر من عند الله ﴿والله مَعَ الصابرين﴾ أي معهم بالحفظ والرعاية والتأييد ومن كان الله معه فهو منصور بحول الله ﴿وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ أي ظهروا في الفضاء المتسع وجهاً لوجه أمام ذلك الجيش الجرار جيش جالوت المدرّب على الحروب ﴿قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً﴾ دعوا الله ضارعين إِليه بثلاث دعوات تفيد إِدراك أسباب النصر فقالوا أولاً: ربنا أفضْ علينا صبراً يعمنا في جمعنا وفي خاصة نفوسنا لنقوى على قتال أعدائك ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ أي ثبتنا في ميدان الحرب ولا تجعل للفرار سبيلاً إِلى قلوبنا وهي الدعوة الثانية ﴿وانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ أي انصرنا على من كفر بك وكذب رسلك وهم جالوت وجنوده وهي الدعوة الثالثة قال تعالى إِخباراً عنهم ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله﴾ أي هزموا جيش جالوت بنصر الله وتأييده إِجابة لدعائهم وانكسر عدوهم رغم كثرته ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ﴾ أي وقتل داود - وكان في جيش المؤمنين مع طالوت - رأس الطغيان جالوت واندحر جيشه ﴿وَآتَاهُ الله الملك والحكمة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ﴾ أي أعطى الله تعالى داود الملك والنبوّة وعلّمه ما يشاء من العلم النافع الذي أفاضه عليه، قال ابن كثير: كان طالوت قد وعده إِن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته، ويشركه في أمره، فوفى له ثم آل الملك إِلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوّة العظيمة ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض﴾ أي لولا أن يدفع الله شرّ الأشرار بجهاد الأخيار لفسدت الحياة، لأنّ الشر إِن غلب كان الخراب والدمار ﴿ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين﴾ أي ذو تفضلٍ وإِنعام على البشر حيث لم يمكّن للشر من الاستعلاء ﴿تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق﴾ أي ما قصصنا عليك يا محمد من الأمور الغريبة والقصص العجيبة التي وقعت في بني إِسرائيل هي من آيات الله وأخباره المغيبة التي أوحاها إِليك بالحق بواسطة جبريل الأمين ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾ أي وإِنك يا محمد لمن جملة الرسل الذين أرسلهم الله لتبليغ دعوة الله عزَّ وجلَّ.
البَلاَغَة: ١ - قال أبو حيان: تضمنت الآية الكريمة من ضروب البلاغة وصنوف البيان أموراً كثيرة منها الاستفهام الذي أُجري مجرى التعجب في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين﴾ والحذف بين ﴿مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ أي فماتوا ثم أحياهم، والطباق في قوله: ﴿مُوتُواْ﴾ و ﴿أَحْيَاهُمْ﴾ كذلك في قوله: ﴿يَقْبِضُ﴾ و ﴿وَيَبْسُطُ﴾ والتكرار في قوله: ﴿فَضْلٍ عَلَى الناس﴾ و ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس﴾ والالتفات في ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والتشبيه بدون الأداة في قوله: ﴿قَرْضاً حَسَناً﴾ شبّه قبوله تعالى إِنفاق العبد في سبيله بالقرض الحقيقي فأطلق اسم القرض عليه، والتجنيس المغاير في قوله: ﴿فَيُضَاعِفَهُ﴾ وقوله: ﴿أَضْعَافاً﴾.
143
٢ - ﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً﴾ فيه استعارة تمثيلية فقد شبّه حالهم والله تعالى يفيض عليهم بالصبر بحال الماء يصب ويفرغ على الجسم فيعمه كله، ظاهره وباطنه فيلقي في القلب برداً وسلاماً وهدوءاً واطمئناناً.
الفوَائِد: الأولى: أسند الاستقراض إِلى الله في قوله: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله﴾ وهو المنزه عن الحاجات ترغيباً في الصدقة كما أضاف الإِحسان إِلى المريض والجائع والعطشان إِلى نفسه تعالى في قوله جلّ وعلا في الحديث القدسي: «ابن آدم مرضتُ فلم تعدني» و «اسعطعمتك فلم تطعمني» و «استسقيتك فلم تسقني» الحديث الذي رواه الشيخان.
الثانية: روي أنه لمّا نزلت الآية الكريمة «جاء أبو الدحداح الأنصاري إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: وإِنّ الله ليريد منّا القرض؟ قال:» نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاح! «قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده قال: فإِين قد أقرضتُ ربي حائطي - أي بستاني وكان فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها - فجاء أبو الدحداح فنادها: يا أُمَّ الدحداح قالت: لبّيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عزَّ وجلَّ»، وفي رواية قالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح وخرجت منه مع عيالها.
الثالثة: قال البقاعي: ولعلّ ختام بني إِسرائيل بهذه القصة لما فيها للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من واضح الدلالة على صحة رسالته لأنها مما لا يعلمه إِلا القليل من حذاق علماء بني إِسرائيل.
144
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى في الآيات السابقة اصطفاء طالوت على بني إِسرائيل، وتفضيل داود عليهم بالملك والنبوّة ثم خاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه من المرسلين، وكان ظاهر اللفظ يقتضي التسوية بين الرسل، ذكر في هذه الآية أنّ المرسلين ليسوا في درجة واحدة بل بعضهم أفضل من بعض كما يكون التفاضل بين البشر.
اللغَة: ﴿دَرَجَاتٍ﴾ جمع درجة وهي المنزلة الرفيعة السامية. ﴿البينات﴾ المعجزات. ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ قويناه من التأييد بمعنى التقوية. ﴿رُوحِ القدس﴾ القدس: الطهارة وروح القدس جبريل عليه السلام
144
وقد تقدم. ﴿خُلَّةٌ﴾ الخُلَّة: الصداقة والمودة سميت بذلك لأنها تتخلل الأعضاء أي تدخل خلالها ومنه الخليل. ﴿شَفَاعَةٌ﴾ مأخوذة من الشفع بمعنى الضم، والشفاعة الانضمام إِلى آخر ناصراً له وسائلاً عونه.
التفسِير: ﴿تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ أي أولئك الرسل الكرام الذين قصصنا عليك من أنبائهم يا محمد هم رسل الله حقاً، وقد فضّلنا بعضهم على بعض في الرفعة والمنزلة والمراتب العالية ﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله﴾ أي منهم من خصّه الله بالتكليم بلا واسطة كموسى عليه السلام ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ أي ومنهم من خصّه اله بالمرتبة الرفيعة السامية كخاتم المرسلين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو سيد الأولين والآخرين في الدنيا والآخرة، وكأبي الأنبياء إِبراهيم الخليل ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات﴾ أي ومنهم من أعطاه الله العجزات الباهرات كإِحياء الموتى وإِبراء الأكمة والأبرص والإِخبار عن المغيبات ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس﴾ أي قويناه بجبريل الأمين وهو عيسى ابن مريم ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات﴾ أي لو أراد الله ما اقتتل الأمم الذين جاؤوا بعد الرسل من بعد الحجج الباهرة والبراهين الساطعة التي جاءتهم بها رسلهم، فلو شاء الله ما تنازعوا ولا اختلفوا ولا تقاتلوا، ولجعلهم متفقين على اتباع الرسل كما أنّ الرسل متفقون على كلمة الحق ﴿ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ﴾ أي ولكنَّ الله لم يشأ هدايتهم بسبب اختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم وأهوائهم، فمنهم من ثبت على الإِيمان ومنهم من حاد وكفر ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ أي لو شاء الله لجعل البشر على طبيعة الملائكة لا يتنازعون ولا يقتتلون ولكنّ الله حكيم يفعل ما فيه المصلحة، وكلُّ ذلك عن قضاء الله وقدره فهو الفعال لما يريد ﴿ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم﴾ أي أنفقوا في سبيل الله من مال الله الذي منحكم إِيّأه، ادفعوا الزكاة وأنفقوا في وجوه الخير والبر والصالحات ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ أي من قبل مجيء ذلك اليوم الرهيب الذي لا تستطيعون أن تقتدوا نفوسكم بمالٍ تقدمونه فيكون كالبيع، ولا تجدون صديقاً يدفع عنكم العذاب، ولا شفيعاً يشفع لكم ليحط عنكم من سيئاتكم إِلا أن يأذن الله ربّ العالمين ﴿والكافرون هُمُ الظالمون﴾ أي لا أحد أظلم ممن وافى الله يومئذٍ كافراً، والكافر بالله هو الظالم المعتدي الذي يستحق العقاب.
البَلاَغة: ﴿تِلْكَ الرسل﴾ الإِشارة بالعبيد لبعد مرتبتهم في الكمال.
٢ - ﴿مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله... ﴾ الآية تفصيلٌ لذلك التفضيل ويسمى هذا في البلاغة: التقسيم وكذلك فيب قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ﴾ وبين لفظ «آمن» و «كفر» طباقٌ.
٣ - الإِطناب وذلك في قوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا﴾ حيث كرر جملة ﴿وَلَوْ شَآءَ الله﴾.
٤ - ﴿والكافرون هُمُ الظالمون﴾ قصر صفة على الموصوف، وقد أكدت بالجملة الاسمية وبضمير الفصل.
فَائِدَة: روي عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال: ﴿والكافرون هُمُ الظالمون﴾ ولم
145
يقل: «والظالمون هم الكافرون» ومراده أنه لو نزل هكذا لكان قد حكم على كل ظالم بالكفر فلم يخلص منه إِلا من عمصه الله.
تنبيه: يحتمل أن يراد بالكفر المعنى الحقيقي أو المجازي فيكون المراد بالكافر تارك الزكاة كما ذهب إِليه الزمخشري حيث قال: أراد والتاركون للزكاة هم الظالمون، وإِيثاره عليه للتغليظ والتهديد كما في آية الحج ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ [البقرة: ١٢٦] مكان «ومن لم يحج» ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار في قوله: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة﴾ [فصلت: ٦ - ٧].
146
المنَاسَبة: لّما ذكر تعالى تفضيل بعض الأنبياء على بعض، وبيّن أن الخلائق قد اختلفوا من بعدهم وتنازعوا وتقاتلوا بسبب الدين، ذكر أن هذا التفضيل بين الأنبياء لا يستدعي الصراع بين الأتباع ولا الخصام والنزاع، فالرسل صلوات الله عليهم وإِن كانوا متفاوتين في الفضل إِلا أنهم جميعاً جاءوا بدعوةٍ واحدة هي «دعوة التوحيد» فرسالتهم واحدة ودينهم واحد، وأنه لا إِكراه في الدين فقد سطع نور الحق وأشرق ضياؤه.
اللغَة: ﴿الحي﴾ ذو الحياة الكاملة ومعناه الباقي الدائم الذي لا سبيل للفناء عليه ﴿القيوم﴾ القائم بتدبير الخلق ﴿سِنَةٌ﴾ بكسر السين النعاس وهو ما يسبق النوم من فتور قال الشاعر:
وسنان أقصده النعاس فرنَّقت في عينه سِنةٌ وليس بنائم
﴿يَؤُودُهُ﴾ يثقله ويتعبه ﴿العلي﴾ المراد علو المنزلة والشأن الذي تعالى في جلاله وعظم في سلطانه ﴿إِكْرَاهَ﴾ الإِكراه: حمل الشخص على ما يكره بطريق القسر والجبر ﴿الطاغوت﴾ من الطغيان وهو كل ما يطغي الإِنسان ويضله عن طريق الحق والهدى ﴿الوثقى﴾ مؤنث الأوثق وهو الشيء المحكم الموثق ﴿انفصام﴾ الانقصام: الانكسار قال الفراء: الانفصام لغتان وبالفاء أفصح وقال بعضهم: الفصم انكسار بغير بينونة والقصم انكسار ببينونة.
سَبَبُ النّزول: كان لرجلٍ من الأنصار ابنان تنصّرا قبل بعثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قدما المدينة في نفرٍ من التجار يحملون الزيت، فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تسلما فنزلت {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين
146
قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي}. الآية.
التفسير: ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾ أي هو الله جل جلاله الواحد الأحد الفرد الصمد، ذو الحياة الكاملة، الباقي الدائم الذي لا يموت، القائم على تدبير شئون الخلق بالرعاية والحفظ والتدبير ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ أي لا يأخذه نعاسٌ ولا نوم كما ورد في الحديث «إنَّ الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه»، ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي جميع ما في السماوات والأرض ملكه وعبيده وتحت قهره وسلطانه ﴿مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ أي لا أحد يستطيع أن يشفع لأحد إِلا إِذا أذن له الله تعالى قال ابن كثير: وهذا بيان لعظمته وجلاله وكبريائه بحيث لا يتجاسر أحد على الشفاعة إِلا بإذن المولى ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي يعلم ما هو حاضر مشاهد لهم وهو الدنيا وما خلفهم أي أمامهم وهو الآخرة فقد أحاط علمه بالكائنات والعوالم ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ﴾ أي لا يعلمون شيئاً من معلوماته إِلا بما أعلمهم إِيّاه على ألسنة الرسل ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض﴾ أي أحاط كرسيّه بالسماوات والأرض لبسطته وسعته، والسماواتُ السبع والأرضون بالنسبة للكرسي كحلقةٍ ملقاةٍ في فلاة، وروي عن ابن عباس ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ قال: علمه بدلالة قوله تعالى
﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً﴾ [غافر: ٧] فأخبر أن علمه وسع كل شيء وقال الحسن البصري: الكرسي هو العرش قال ابن كثير: والصحيح أن الكرسي غير العرش وأن العرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والأخبار ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العلي العظيم﴾ أي لا يثقله ولا يعجزه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما وهو العلي فوق خلقه ذو العظمة والجلال كقوله ﴿الكبير المتعال﴾ [الرعد: ٩] ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي﴾ أي لا إِجبار ولا إِكراه لأحد على الدخول في دين الإِسلام، فقد بان ووضح الحق من الباطل والهدى من الضلال ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى﴾ أي من كفر بما يعبد من غير الله كالشيطان والأوثان وآمن بالله تمسك من الدين بأقوى سبب ﴿لاَ انفصام لَهَا﴾ أي لا انقطاع لها ولا زوال ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لأقوال عباده عليم بأفعالهم ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ أي الله ناصر المؤمنين وحافظهم ومتولي أمورهم، يخرجهم من ظلمات الكفر والضلالة إِلى نور الإِيمان والهداية ﴿والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات﴾ أي وأما الكافرون فأولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور الإِيمان إِلى ظلمات الشك والضلال ﴿أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي ماكثون في نار جهنم لا يخرجون منها أبداً.
البَلاَغَة: ١ - في آية الكرسي أنواعٌ من الفصاحة وعلم البيان منها حسنُ الافتتاح لأنها افتتحت بأجل أسماء اللله تعالى، وتكرار اسمه ظاهراً ومضمراً في ثمانية عشر موضعاً، والإِطناب بتكرير
147
الصفات، وقطعُ الجمل حيث لم يصلها بحرف العطف، والطباقُ في ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أفاده صاحب البحر المحيط.
٢ - ﴿استمسك بالعروة الوثقى﴾ استعارة تمثيلية حيث شبه المستمسك بدين الإِسلام بالمستمسك بالحبل المحكم، وعدم الانفصام ترشيح.
٣ - ﴿مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ استعارة تصريحية حيث شبه الكفر بالظلمات والإِيمان بالنور قال في تلخيص البيان: وذلك من أحسن التشبيهات لأن الكفر كالظلمة التي يتسكع فيها الخابط ويضل القاصد، والإِيمان كالنور الذي يؤمه الجائر ويهتدي به الحائر، وعاقبة الإِيمان مضيئة بالنعيم والثواب، وعاقبة الكفر مظلمة بالجحيم والعذاب.
الفَائِدَة: أفرد النور وجمع الظلمات لأن الحق واحد لا يتعدد وأما طرق الضلال فكثيرة ومتشعبة.
تنبيه: آية الكرسي لها شأن عظيم وقد صحّ الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنها أفضل آية في كتاب الله وفيها اسم الله الأعظم كما جاء في الحديث الشريف: «اسم الله الأعظم الذي إِذا دُعى به أجاب في ثلاث: سورة البقرة وآل عمران وطه» وقال هشام: أما البقرة فقوله ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾ وفي آل عمران: ﴿الم الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم﴾ [الآيات: ١ - ٢] وفي طه ﴿وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم﴾ [الآية: ١١١] قال ابن كثير: وقد اشتملت على عشر جملٍ مستقلة، متعلقة بالذات الإِلهية وفيها تمجيد الواحد الأحد.
148
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الإِيمان بالله وصفاته القدسية العلية، وذكر ولايته للمؤمنين وولاية الطاغوت للكافرين، ذكر هنا نموذجاً عن تحكم الطغيان في نفوس الكفرة المعاندين ومجادلتهم في وحدانية الله، فذكر هاهنا قصصاً ثلاثة: الأولى في بيان إِثبات الخالق الحكيم والثانية والثالثة في إِثبات الحشر، والبعث بعد الفناء.
اللغَة: ﴿حَآجَّ﴾ المحاجّة: المغالبة يقال: حججته فحججته، وحاجّه أي بادله الحجة ﴿فَبُهِتَ﴾ انقطع وسكت متحيراً قال العذري:
فما هو إِلا أن أَراها فَجاءةً فأبهتُ حتى ما أكاد أجيب
﴿خَاوِيَةٌ﴾ ساقطة ﴿عُرُوشِهَا﴾ العرش: سقف البيت، وكلُّ ما يهيأ ليُظلَّ أو يُكنَّ فهو عريش ﴿يَتَسَنَّهْ﴾ يتغيّر ويتبدّل من تسنَّهت النخلة إِذا أتت عليها السنون وغيَّرتها ﴿نُنْشِزُهَا﴾ نركّب بعضها فوق بعض من النشاز وهو الرفع يقال لما ارتفع من الأرض نشز ومنه نشوز المرأة ﴿فَصُرْهُنَّ﴾ ضمهنَّ إِليك ثم اقطعهنَّ من صار الشيء يصوره إِذا قطعه.
التفِسير: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ تعجيب للسامع من أمر هذا الكافر، المجادل في قدرة الله أي ألم ينته علمك إِلى ذلك المارد وهو «النمر وذو بن كنعان» الذي دادل إِبراهيم في وجود الله؟ ﴿أَنْ آتَاهُ الله الملك﴾ أي لأن آتاه الله الملك حيث حمله بطره بنعم الله على إِنكار وجود الله، فقابل الجود والإِحسان بالكفر والطغيان ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي حين قال له إِبراهيم مستدلاً على وجود الله إِن ربي هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهو وحده ربُّ العالمين ﴿قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ أي قال ذلك الطاغية وأنا أيضاً أحيي وأميت، روي أنه دعا برجلين حكم عليهما بالإِعدام فأمر بقتل أحدهما فقال: هذا قتلتُه، وأمر بإِطلاق الآخر وقال: هذا أحييتُه، ولما رأى الخليل حماقته ومشاغبته في الدليل عدل إِلى دليل آخر أجدى وأروع وأشد إِفحاماً ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب﴾ أي إِذا كنت تدعي الألوهية وأنك تحيي وتميت كما يفعل رب العالمين جل جلاله فهذه الشمس تطلع كل يوم من المشرق بأمر الله ومشيئته فأطلعها من المغرب بقدرتك وسلطانك ولو مرة واحدة ﴿فَبُهِتَ الذي كَفَرَ﴾ أي أُخرس ذلك الفاجر بالحجة القاطعة، وأصبح مبهوتاً دهشاً لا يستطيع الجواب ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ أي لا يلهمهم الحجة والبيان في مقام المناظرة والبرهان بخلاف أوليائه المتقين ﴿أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا﴾ وهذه هي القصة الثانية وهي مثل لمن أراد الله هدايته والمعنى ألم ينته إلى علمك كذلك مثل الذي مرَّ على قرية وقد سقطت جدرانها على سقوفها وهي قرية بيت المقدس لما خرَّ بها بختنصر ﴿قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي قال ذلك الرجل الصالح واسمه «عزير» على الرأي الأشهر: كيف يحيي الله هذه البلدة بعد حرابها ودمارها؟ قال ذلك استعظاماً لقدرة الله تعالى وتعجباً من حال تلك المدينة وما هي عليه من الخراب والدمار، وكان راكباً على حماره حينما مرَّ عليها ﴿فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ أي أمات الله ذلك السائل واستمر ميتاً مائة سنة ثم أحياه الله ليريه كمال قدرته ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ أي قال له ربه بواسطة الملك كم مكثت في هذه الحال؟ قال يوماً ثم نظر حوله فرأى الشمس باقية لم تغب فقال: أو
149
بعض يوم أي أقل من يوم فخاطبه ربه بقوله ﴿قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ﴾ أي بل مكثت ميتاً مائة سنة كاملة ﴿فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ أي إن شككت فانظر إلى طعامك لم يتغير بمرور الزمان، وكان معه عنب وتينٌ وعصير فوجدها على حالها لم تفسد ﴿وانظر إلى حِمَارِكَ﴾ أي كيف تفرقت عظامه ونخرت وصار هيكلاً من البلي ﴿وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ﴾ أي فعلنا ما فعلنا لتدرك قدرة الله سبحانه ولنجعلك معجزة ظاهرة تدل على كمال قدرتنا ﴿وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً﴾ أي تأمل في عظام حمارك النخرة كيف نركّب بعضها فوق بعض وأنت تنظر ثم نكسوها لحماً بقدرتنا ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي فلما رأى الآيات الباهرات قال أيقنت وعلمت علم المشاهدة أن الله على كل شيء قدير ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾ وهذه هي القصة الثالثة وفيها الدليل الحسي على الإعادة بعد الفناء والمعنى: اذكر حين طلب إِبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيى الموتى، سأل الخليل عن الكيفية مع إِيمانه الجازم بالقدرة الربانية، فكان يريد أن يعلم بالعيان ما كان يوقن به بالوجدان، ولهذا خاطبه ربه بقوله ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ أي أولم تصدِّق بقدرتي على الإِحياء؟ قال بلى آمنت ولكن أردت أن أزداد بصيرةً وسكون قلب برؤية ذلك ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ أي أخذ أربعة طيور فضمهنَّ إِليك ثم اقطعهن ثم اخلط بعضهن ببعض حتى يصبحن كتلة واحدة ﴿ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا﴾ أي فرِّق أجزاءهن على رءوس الجبال ﴿ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً﴾ أي نادهنَّ يأتينك مسرعات قال مجاهد: كانت طاووساً وغراباً وحمامه وديكاً فذبحهن ثم فعل بهن ما فعل ثم دعاهن فأتين مسرعات ﴿واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي لا يعجز عما يريده حكيم في تدبيره وصنعه.
قال المفسرون: ذبحهن ثم قطعهن ثم خلط بعضهن ببعض حتى اختلط ريشها ودماؤها ولحومها ثم أمسك برءوسها عنده وجزأها أجزاءً على الجبال ثم دعاهن كما أمره تعالى فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم حتى عادت طيراً كما كانت وأتينه يمشين سعياً ليكون أبلغ له في الرؤية لما سأل.
ذكره ابن كثير.
البَلاَغَة: ١ - ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ الرؤية قلبية والاستفهام للتعجيب.
٢ - ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ التعبير بالمضارع يفيد التجدد والاستمرار، والصيغة تفيد القصر ﴿رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ لأن المبتدأ والخبر وردا معرفتين والمعنى أنه وحده سبحانه هو الذي يحيي ويميت، وبين كلمتي «يحيي» و «يميت» طباقٌ وهو من المحسنات البديعية وكذلك بين لفظ «المشرق» و «المغرب».
٣ - ﴿فَبُهِتَ الذي كَفَرَ﴾ التعبير بالنص السامي يشعر بالعلة وأن سبب الحيرة هو كفره ولو قال فبهت الكافرُ لما أفاد ذلك المعنى الدقيق.
٤ - ﴿أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ موت القرية هو موتُ السكان فهو من قبيل إِطلاق المحل وإِرادة الحال ويسمى المجاز المرسل.
٥ - ﴿ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً﴾ نسترها به كما يستر باللباس قال أبو حيان: الكسوةُ حقيقةً هي
150
ما وراء الجسد من الثياب واستعارها هنا لما أنشأ من اللحم الذي غطّى العظم وهي استعارة في غاية الحسن.
الفوَائِد: الأولى: قال مجاهد: ملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان، وكافران فالمؤمنان «سليمان بن داود» و «ذو القرنين» والكافران «النمرود» و «بختنصّر» الذي خرّب بيت المقدس.
الثانية: لما رأى الخليل تجاهل الطاغية معنى الحياة والموت وسلوكه مسلك التلبيس والتمويه على الرعاع، وكان بطلان جوابه من الجلاء بحيث لا يخفى على أحد، انتقل إِبراهيم إِلى حجة أخرى لا تجري فيها المغالطة ولا يتيسر للطاغية أن يخرج عنها بمكابرة أو مشاغبة فقال ﴿إِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب﴾ فلوى خليل الله عنقه حتى أراه عجزه وأخرس لسانه.
الثالثة: سؤال الخليل ربه بقوله ﴿كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾ ليس في شك في قدرة الله ولكنه سؤال عن كيفية الإِحياء ويدل عليه وروده بصيغة ﴿كَيْفَ﴾ وموضوعها السؤال عن الحال ويؤيد المعنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «نحن أحق بالشك من إبراهيم» ومعناه: ونحن لم نشك فلأن لا يشك إِبراهيم أحرى وأولى.
151
المنَاسَبَة: لّما ذكر تعالى في الآيات السابقة أن الناس فريقان: أولياء الله وهم المؤمنون، وأولياء الطاغوت وهم الكافرون ثم أعقبه بذكر نموذج للإِيمان ونموذج للطغيان، ذكر هنا ما يرغّب في الإِنفاق في سبيل الله وخاصة في أمر الجهاد لأعداء الله، لأن الجهاد في سبيل الحق ميادين ثلاثة: أولها الإِقناع بالحجة والبرهان وثانيها الجهاد بالنفس وثالثها الجهاد بالمال، فلما ذكر فيما سبق جهاد الدعوة وجهاد النفس شرع الآن في ذكر الجهاد بالمال.
اللغَة: ﴿المن﴾ أن يعتد بإِحسانه على من أحسن إِليه، وأن يذكّره النعمة على سبيل التطاول والتفضل قال الشاعر:
أفسدتَ بالمنِّ ما أسديتَ من حَسَن... ليس الكريمُ إِذا أسدى بمنّان
﴿رِئَآءَ الناس﴾ لا يريد بإِنفاقه رضى الله وإنما يريد ثناء الناس وأصله من الرؤية وهو أن يرى الناسَ ما يفعله حتى يثنوا عليه ويعظموه ﴿صَفْوَانٍ﴾ الصفوان: الحجر الأملس الكبير قال الأخفش: وهو جمع واحده صفوانه وقيل: هو اسم جنس كالحجر ﴿وَابِلٌ﴾ الوابل: المطر الشديد ﴿صَلْداً﴾ الصَّلْد: الأملس من الحجارة وهو كل ما لا ينبت شيئاً ومنه جبينٌ أصلد ﴿بِرَبْوَةٍ﴾ الربوة: المكان المرتفع من الأرض يقال: ربوة ورابية وأصله من ربا الشيء إِذا زاد وارتفع ﴿طَلٌّ﴾ الطلُّ: المطر الخفيف الذي تكون قطراته صغيرة وقال قوم منهم مجاهد: الطلُّ الندى ﴿إِعْصَارٌ﴾ الإِعصار: الريح الشديدة التي تهبُّ من الأرض وترتفع إِلى السماء كالعمود ويقال لها: الزوبعة ﴿تَيَمَّمُواْ﴾ تقصدوا ﴿تُغْمِضُواْ﴾ من أغمض الرجل في أمر كذا إِذا تساهل فيه وهذا كالإِغضاء عند المكروه.
سَبَبُ النّزول: نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف في غزوة تبوك، حيث جهزّ عثمان ألف بعير بأحلاسها وأقتابها ووضع بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألف دينار، فصار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقلّبها ويقول: ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم، وأتى عبد الرحمن بن عوف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأربعة آلاف درهم فقال يا رسول الله: كان عندي ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي ولعيالي أربعة آلاف وأربعة آلاف أقرضتُها ربي، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت»، فنزلت فيهما الآية ﴿مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله... ﴾ الآية.
التفسير: ﴿مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ قال ابن كثير: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إِلى سبعمائة ضعف أي مثل نفقتهم كمثل حبة زُرعت فأنبتت سبع سنابل ﴿فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ أي كل سنبلةٍ منها تحتوي على مائة حبة فتكون الحبة قد أغلَّتْ سبعمائة حبة، وهذا تمثيل لمضاعفة الأجر لمن أخلص في صدقته ولهذا قال تعالى ﴿والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ﴾ أي
152
يضاعف الأجر لمن أراد على حسب حال المنفق من إِخلاصه وابتغائه بنفقته وجه الله ﴿والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي واسع الفضل عليم بنيَّة المنفق ﴿الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى﴾ أي لا يقصدون بإنفقاقهم إلا وجه الله، ولا يعقبون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات بالمنِّ على من أحسنوا إِليه كقوله قد أحسنتُ إليك وجبرتُ حالك، ولا بالأذى كذكره لغيره فيؤذيه بذلك ﴿لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أي لهم ثواب ما قدموا من الطاعة عند الله ﴿وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي لا يعتريهم فزعٌ يوم القيامة ولا هم يحزنون على فائتٍ زهرة الدنيا ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى﴾ أي ردُّ السائل بالتي هي أحسن والصفحُ عن إِلحاحه، خيرٌ عند الله وأفضل من إِعطائه ثم إيذائه أو تعييره بذلّ السؤال ﴿والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ أي مستغنٍ عن الخلق حليم لا يعاجل العقوبة لمن خالف أمره.
. ثم أخبر تعالى عما يبطل الصدقة ويضيع ثوابها فقال ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى﴾ أي لا تحبطوا أجرها بالمنِّ والأذى ﴿كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس﴾ أي كالمرائي الذي يبطل إِنفاقه بالرياء ﴿وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر﴾ أي لا يصدّق بلقاء الله ليرجو ثواباً أو يخشى عقاباً ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾ أي مثل ذلك المرائي بإِنفاقه كمثل الحجر الأملس الذي عليه شيء من التراب يظنه الظانُّ أرضاً طيبةً منبتةً ﴿فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً﴾ أي فإِذا أصابه مطر شديد أذهب عنه التراب فيبقى صلداً أملس ليس عليه شيء من الغبار أصلاً كذلك هذا المنافق يظن أن له أعمالاً صالحة فإِذا كان يوم القيامة اضمحلت وذهبت ولهذا قال تعالى ﴿لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ﴾ أي لا يجدون له ثواباً في الآخرة فلا ينتفع بشيءٍ منها أصلاً ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ أي لا يهديهم إِلى طريق الخير والرشاد.. ثم ضرب تعالى مثلاً آخر للمؤمن المنفق ماله ابتغاء مرضاة الله فقال ﴿وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي ينفقونها طلباً لمرضاته وتصديقاً بلقائه تحقيقاً للثواب عليه ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ﴾ أي كمثل بستان كثير الشجر بمكانٍ مرتفع من الأرض، وخُصَّت بالربوة لحسن شجرها وزكاء ثمرها ﴿أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ﴾ أي أصابها مطر غزير فأخرجت ثمارها جنيَّة مضاعفة، ضعفي ثمر غيرها من الأرض ﴿فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ﴾ أي فإِن لم ينزل عليها المطر الغزير فيكفيها المطر الخفيف أو يكفيها الندى لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها فهي تنتج على كل حال ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ أي أيحب أحدكم أن تكون له حديقة غناء فيها من أنواع النخيل والأعناب والثمار الشيء الكثير ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي تمر الأنهار من تحت أشجارها ﴿لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات﴾ أي ينبت له فيها جميع الثمار ومن كل زوج بهيج ﴿وَأَصَابَهُ الكبر وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ﴾ أي أصابته الشيخوخة فضعف عن الكسب وله أولاد صغار لا يقدرون على الكسب ﴿فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت﴾ أي أصاب تلك الحديقة رريح عاصفة شديدة معها نار فأحرقت الثمار والأشجار أحوج ما يكون الإِنسان إِليها ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ أي مثل هذا البيان الواضح في هذا المثل الرائع المحكم يبيّن الله لكم آياته في كتابه الحكيم لكي تتفكروا وتتدبروا بما فيها من العبر والعظات ﴿ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ أي أنفقوا من الحلال الطيب من المال الذي كسبتموه {وَمِمَّآ
153
أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض} أي ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمار ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ أي ولا تقصدوا الرديء الخسيس فتتصدقوا منه ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾ أي لستم تقبلونه لو أعطيتموه إِلا إِذا تساهلتم وأغمضتم البصر فكيف تؤدون منه حق الله!! ﴿واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ أي أنه سبحانه غني عن نفقاتكم حميد يجازي المحسن أفضل الجزاء.
. ثم حذّر تعالى من وسوسة الشيطان فقال ﴿الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء﴾ أي الشيطان يخوفكم من الفقر إِن تصدقتم ويغريكم بالبخل ومنع الزكاة ﴿والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً﴾ أي وهو سبحانه يعدكم على إِنفاقكم في سبيله مغفرةً للذنوب وخلفاً لما أنفقتموه زائداً عن الأصل ﴿والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي واسع الفضل والعطاء عليم بمن يستحق الثناء ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ﴾ أي يعطي العلم النافع المؤدي إِلى العمل الصالح من شاء من عباده ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ أي من أعطي الحكمة فقد أعطي الخير الكثير لمصير صاحبها إلى السعادة الأبدية ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب﴾ أي ما يتعظ بأمثال القرآن وحكمة إِلا أصحاب العقول النيرة الخالصة من الهوى.
البَلاَغَة: ١ - ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾ شبّه سبحانه الصدقة التي تُنفق في سبيله بحبة زرعت وباركها المولى فأصبحت سبعمائة حبة، ففيه تشبيه «مرسل مجمل» لذكر أداة التشبيه وحذف وجه الشبه قال أبو حيان: وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر.
٢ - ﴿أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ إِسناد الإِنبات إِلى الحبة إِسنادٌ مجازي ويسمى «المجاز العقلي» لأن المنبت في الحقيقة هو الله تعالى.
٣ - ﴿مَنّاً وَلاَ أَذًى﴾ من باب ذكر العام بعد الخاص لإِفادة الشمول لأن الأذى يشمل المنَّ.
٤ - ﴿كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾ فيه تشبيه يسمى «تشبيهاً تمثيلياً» لأن وجه الشبه منتزع من متعدد وكذلك يوجد تشبيه تمثيلي في قوله ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ﴾.
٥ - ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ... ﴾ الآية، لم يذكر المشبه ولا أداة التشبيه وهذا النوع يسميه علماء البلاغة «استعارة تمثيلية» وهي تشبيه بحال لم يذكر فيه سوى المشبّه به فقط وقامت قرائن تدل على إِرادة التشبيه، والهمزة للاستفهام والمعنى على التبعيد والني أي ما يود أحدٌ ذلك.
٦ - ﴿تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾ المراد به هنا التجاوز والمساهلة لأن الإِنسان إِذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك ففي الكلام مجاز مرسل أو استعارة.
الفوَائِد: الأولى قال الزمخشري: المنُّ أن يعتد على من أحسن إِليه بإِحسانه، وفي نوابغ الكلم «صنوان من منح سائلة ومنَّ، ومن منع نائله وضنّ» و «طعم الآلاء أحلى من المنّ وهي أمرُّ من الألاء مع المنِّ» وقال الشاعر:
وإِن امرءً أسدى إِليَّ صنيعةً... وذكّر فيها مرةً للئيم
154
الثانية: المطر أوله رشٌ ثم طشٌ ثم طل نم نضحٌ ثم هطلٌ ثم وبلٌ والمطر الوابل الشديد الغزير.
الثالثة: قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «فيمن ترون هذه الآية نزلت ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ﴾ قالوا: الله أعلم فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، فقال ابن عباس ضربت مثلاً بعمل لرجلٍ غني يعمل بطاعة الله ثم بعث له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله» أخرجه البخاري.
الرابعة: قال الحسن البصري: هذا مثل قلَّ والله من يعقله: شيخ كبير، ضعف جسمه، وكثر صبيانه أفقر ما كان إِلى جنته فجاءها الإِعصار فأحرقها، وإِن أحدكم والله أفقر ما يكون إِلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.
155
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن الإِنفاق في وجوه البر والخير، وأعلاها الجهاد في سبيل الله والإِنفاق لإعلاء كلمته، وترغّب في إِخفاء الصدقات لأنها أبعد عن الرياء، فوجه المناسبة ظاهر.
اللغَة: ﴿فَنِعِمَّا﴾ أصلها «نعم ما» أدغمت الميان فصارت نعمّا قال الزجاج: أي نعم الشيء هو ﴿أُحصِرُواْ﴾ الحصر: الحبس أي حبسوا أنفسهم على الجهاد وقد تقدم معنى الحصر ﴿التعفف﴾ من العفة يقال: عفّ عن الشيء أمسك عنه وتنزّه عن طلبه والمراد التعفف عن السؤال ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ السِّيما: العلامة التي يعرف بها الشيء ويقال: سيمياء كالكيمياء وأصلها من السّمة بمعنى العلامة قال تعالى ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود﴾ [الفتح: ٢٩] ﴿إِلْحَافاً﴾ الإِلحاف: الإِلحاح في السؤال يقال: ألحف: إِذا ألحَّ ولجًّ في السؤال والطلب.
155
سَبَبُ النّزول: عن سعيد بن جبير أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لا تتصدقوا إِلا على أهل دينكم» فنزلت هذه الآية ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ مبيحةً للصدقة على من ليس من دين الإِسلام.
التفِسير: ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ﴾ أي ما بذلتم أيها المؤمنون من مال أو نذرتم من شيء في سبيل الله فإِن الله يعلمه ويجازيكم عليه ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ أي وليس لمن منع الزكاة أو صرف المال في معاصي الله، من معين أو نصير ينصرهم من عذاب الله ﴿إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ﴾ أي إِن تظهروا صدقاتكم فنعم هذا الشيء الذي تفعلونه ﴿وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي وإِن تخفوها وتدفعوها للفقراء فهو أفضل لكم لأن ذلك أبعد عن الرياء ﴿وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أي يزيل بجميل أعمالكم سيء آثامكم ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي هو سبحانه مطلع على أعمالكم يعلم خفاياكم، والآية ترغيب في الإِسرار ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ أي ليس عليك يا محمد أن تهدي الناس فإِنك لست بمؤاخذ بجزيرة من لم يهتد، إِنما أنت ملزم بتبليغهم فحسب، والله يهدي من شاء من عباده إِلى الإِسلام ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ﴾ أي أيّ شيء تنفقونه من المال فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم لأن ثوابه لكم ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله﴾ خيرٌ بمعنى النهي أي لا تجعلوا إِنفاقكم إِلا لوجه الله لا لغرضٍ دنيوي ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ أي فإِن أجره وثوابه أضعافاً مضاعفة تنالونه أنتم ولا تنقصون شيئاص من حسناتكم ﴿لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ اي اجعلوا ما تنفقونه للفقراء الذين حبسوا أنفسهم للجهاد والغزو في سبيل الله ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض﴾ أي لا يستطيعون بسبب الجهاد السفر في الأرض للتجارة والكسب ﴿يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف﴾ أي يظنهم الذي لا يعرف حالهم أغنياء موسرين من شدة تعففهم ﴿تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً﴾ أي تعرف حالهم أيها المخاطب بعلامتهم من التواضع وأثر الجهد، وهم مع ذلك لا يسألونك الناس شيئاً أصلاً فلا يقع منهم إِلحاح وقيل معناه: إِن سألوا سألوا بلطفٍ ولم يلحّوا ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾ أي ما أنفقتموه في وجوه الخير فإِن الله يجازيكم عليه أحسن الجزاء ﴿الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾ أي الذين ينفقون في سبيل الله ابتغاء مرضاته، في جميع الأوقات، من ليل أو نهار، وفي جميع الأحوال من سر وجهر ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي لهم ثواب ما أنفقوا ولا خوف عليهم يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ﴾ بين أنفقتم ونفقة جناس الاشتقاق وكذلك بين نذرتم ونذر.
٢ - ﴿إِن تُبْدُواْ الصدقات﴾ في الإِبداء والإِخفاء طباقٌ لفظي، وكذلك بين لفظ «الليل والنهار» و «السر والعلانية» وهو من المحسنات البديعية.
156
٣ - ﴿وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ إطناب لورودها بعد قوله ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ الذي معناه يصلكم وافياً غير منقوص.
فَائِدَة: قال بعض الحكماء: إِذا اصطنعت المعروف فاستره، وإِذا اصطُنع إِليك فانشره وأنشدوا:
157
المنَاسَبَة: لما أمر تعالى بالإِنفاق من طيبات ما كسبوا، وحضّ على الصدقة، ورغب في الإِنفاق في سبيل الله، ذكر هنا ما يقابل ذلك وهو الربا الكسب الخبيث ذو الوجه الكالح الطالح، الذي هو شحٌٍّ وقذارة ودنس، بينما الصدقة عطاء وسماحة وطهارة، وقد جاء عرضه مباشرة بعد عرض ذلك الوجه الطيب من الإِنفاق في سبيل الله ليظهر الفارق بجلاء بين الكسب الطيب والكسب الخبيث وكما قيل «وبضدها تتميّز الأشياء».
اللغَة: ﴿الربا﴾ لغة: الزيادة يقال: ربا الشيء إِذا زاد ومنه الربوة والرابية: وشرعاً: زيادة على أصل المال يأخذها الدائن من المدين مقابل الأجل ﴿يَتَخَبَّطُهُ﴾ التخبط: الضرب على غير استواء كخبط البعير الأرض بأخفافه ويقال للذي يتصرف ولا يهتدي: خبط في عشواء وتورَّط في عمياء، وتخبطه الشيطان إذا مسه بخبلٍ أو جنون ﴿المس﴾ الجنون وأصله من المسّ باليد كأن الشيطان يمسُّ الإِنسان فيحصل له الجنون ﴿سَلَفَ﴾ مضى وانقضى ومنه سالف الدهر أي ماضيه ﴿يَمْحَقُ﴾ المحق: نقصان الشيء حالاً بعد حال ومنه المحاق في الهلال يقال: محقه الله فانمحق وامتحق ﴿أَثِيمٍ﴾ كثير الإِثم المتمادي في الذنوب والآثام.
سَبَبُ النّزول: كان لبني عمرو بن ثقيف ديونُ ربا على بني المغيرة فلما حلّ الأجل أرادوا أن يتقاضوا الربا منهم فنزلت الآية {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ
157
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} الآية فقالت ثقيف: لا يد لنا «أي لا طاقة لنا» بحرب الله ورسوله وتابوا وأخذوا رءوس أموالهم فقط.
التفسير: ﴿الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس﴾ أي الذين يتعاملون بالربا ويمتصون دماء الناس لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إِلا كما يقوم المصروع من جنونه، يتعثر ويقع ولا يستطيع أن يمشي سوياً، يقومون مخبلين كالمصروعين تلك سيماهم يعرفون بها عند الموقف هتكاً لهم وفضيحة ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا﴾ أي ذلك التخبط والتعثر بسبب استحلالهم ما حرّمه الله، وقولهم: الربا كالبيع فلماذا يكون حراماً؟ قال تعالى ردّاً عليهم ﴿وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا﴾ أي أحل الله البيع لما فيه من تبادل المنافع، وحرّم الربا لما فيه من الضرر الفادح بالفرد والمجتمع، لأن فيه زيادة مقتطعة من جهد المدين ولحمه ﴿فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ أي من بلغه نهيُ الله عن الربا فانتهى عن التعامل به فله ما مضى قبل التحريم ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى الله﴾ أي أمره موكول إِلى الله إِن شاء عفا عنه وإِن شاء عاقبه ﴿وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي ومن عاد إِلى التعامل بالربا واستحله بعد تحريم الله له فهو من المخلدين في نار جهنم ﴿يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات﴾ أي يُذهب ريعه ويمحو خيره وإِن كان زيادة في الظاهر، ويُكثر الصدقات وينميّها وإِن كانت نقصاناً في الشاهد ﴿والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ أي لا يحب كل كفور القلب، أثيم القول والفعل، وفي الآية تغليظ في أمر الربا وإِيذان بأنه من فعل الكفار، ثم قال تعالى مادحاً المؤمنين المطيعين أمره في إِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة﴾ أي صدّقوا بالله وعملوا الصالحات التي من جملتها إِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي لهم ثوابهم الكامل في الجنة، ولا يخافون يوم الفزع الأكبر ولا يحزنون على ما فاتهم في الدنيا ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي اخشوا ربكم وراقبوه فيما تفعلون، واتركوا ما لكم من الربا عند الناس إِن كنتم مؤمنين بالله حقاً ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ أي وإِن لم تتركوا التعامل بالربا فأيقنوا بحرب الله ورسوله لكم قال ابن عباس: يقال الآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ أي إِن رجعتم عن الربا وتركتموه فلكم أصل المال الذي دفعتموه من غير زيادة ولا نقصان ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ أي إِذا كان المستدين معسراً فعليكم أن تمهلوه إِلى وقت اليسر لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينة: إِمّا أن تَقْضي وإِمّا أن تُرْبي ﴿وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي إِن تجاوزتم عمّا لكم عنده فهو أكرم وأفضل، إِن كنتم تعلمون ما فيه من الذكر الجميل والأجر العظيم ثم حذّر تعالى عباده من ذلك اليوم الرهيب الذي لا ينفع فيه إِلا العمل الصالح فقال ﴿واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ أي احذروا يوماً سترجعون فيه إِلى ربكم ثم توفى كل نفسٍ حسابها وأنتم لا تظلمون، وقد ختمت هذه الآيات الكريمة بهذه الآية
158
الجامعة المانعة التي كانت آخر ما نزل من القرآن وبنزولها انقطع الوحي، وفيها تذكير العباد بذلك اليوم العصيب الشديد قال ابن كثير: هذه الآية آخر ما نزل من القرآن العظيم وقد عاش النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد نزولها تسع ليال ثم انتقل إِلى الرفيق الأعلى.
البَلاَغَة: ١ - ﴿إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا﴾ فيه تشبيه يسمى (التشبيه المقلوب) وهو أعلى مراتب التشبيه حيث يجعل المشبّه مكان المشبّه به كقول الشاعر: كأن ضياء الشمس غرةُ جعفر والأصل في الآية أن يقال: الربا مثل البيع ولكنه بلغ من اعتقادهم في حل الربا أن جعلوه أصلاً يقاس عليه فشبهوا به البيع.
٢ - ﴿وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا﴾ بين لفظ «أحلَّ» و «حرَّم» طباق وكذلك بين لفظ «يمحق» و «يربي».
٣ - ﴿كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ صيغة فعّال وفعيل للمبالغة فقوله ﴿كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ أي عظيم الكفر شديد الإِثم.
٤ - ﴿فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ﴾ التنكير للتهويل أي بنوعٍ من الحرب عظيم لا يُقادر قدره كائن من عند الله أفاده أبو السعود.
٥ - ﴿لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ فيه من المحسنات البديعية ما يسمى «الجناس الناقص» لاختلاف الشكل.
٦ - ﴿واتقوا يَوْماً﴾ التنكير للتفخيم والتهويل.
الفوَائِد: الأولى: عبّر بقوله ﴿يَأْكُلُونَ الربا﴾ عن الانتفاع به لأن الأكل هو الغالب في المنافع وسواءٌ في ذلك المعطي والآخذ لقول جابر في الحديث الشريف «لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء».
الثانية: شبّه تعالى المرابين بالمصروعين الذين تتخبطهم الشياطين، وذلك لأن الله عَزَّ وَجَلَّ أربى في بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم فصاروا مخبلين ينهضون ويسقطون قال سعيد بن جبير تلك علامة آكل الربا يوم القيامة.
ليبلغ إِلى الحسّ ما تبلغه هذه الصورة الحيّة المجسّمة، صورة الممسوس المصروع، ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة هو القيام يوم البعث، ولكنها - فيما نرى - واقعة في هذه الأرض أيضاً على البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في حكم النظام الربوي، إِن العالم الذي نعيش فيه اليوم هو عالم الفلق والاضطراب ولاخوف والأمراض العصبية والنفسية، وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضار المادية وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي، ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة وحرب الأعصاب
159
والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك وهذا رأي حسن.
الرابعة: أخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «كان رجلُ يداينُ الناس فكان يقول لفتاه إذا أتيتَ معسراً فتجاوز عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه».
160
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الربا وبيَّن ما فيه من قباحة وشناعة، لأنه زيادة مقتطعة من عرق المدين ولحمه وهو كسب خبيث يمقته الإِسلام ويحرمه، أعقبه بذكر القرض والحسن بلا فائدة وذكر الأحكام الخاصة بالدين والتجارة والرهن، وكلها طرق شريفة لتنمية المال وزيادته بما فيه صلاح الفرد والمجتمع، وآية الدين أطول آيات القرآن على الإِطلاق مما يدل على عناية الإِسلام بالنظم الاقتصادية.
اللغَة: ﴿وَلْيُمْلِلِ﴾ من الإِملاء وهو أنْ يُلقي عليه ما يكتبه يقال: أملَّ وأملى ﴿يَبْخَسْ﴾ البخس: النقص ﴿تسأموا﴾ السأم والسآمة: الملل من الشيء والضجر منه ﴿أَقْسَطُ﴾ القِسط: بكسر القاف العَدْل يقال: أقسط الرجل إِذا عدل، وبفتح القاف الجورُ يقال: قسط أي جار ومنه ﴿وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ [الجن: ١٥] ﴿تَضِلَّ﴾ قال أبو عبيد: معنى تضل أي تنسى والضلال عن الشهادة نسيان جزءٍ منها ﴿أدنى﴾ أقرب ﴿ترتابوا﴾ تشكوا من الريب بمعنى الشك ﴿فَرِهَانٌ﴾ جمع رهن وهو ما يدفع إلى الدائن توثيقاً للدين.
160
التفِسير: ﴿ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه﴾ أي إِذا تعاملتم بدينٍ مؤجل فاكتبوه، وهذا إِرشاد منه تعالى لعباده بكتابة المعاملات المؤجلة ليكون ذلك أحفظ وأوثق لمقدارها وميقاتها ﴿وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل﴾ أي وليكتب لكم كاتب عادل مأمون لا يجور على أحد الطرفين ﴿وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله﴾ أي ولا يمتنع أحد من الكتابة بالعدل كما علّمه الله ﴿فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق﴾ أي وليمل على الكاتب ويلقي عليه المدينُ وهو الذي عليه الحق لأنه المقر المشهود عليه ﴿وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً﴾ أي وليخشَ الله رب العالمين ولا ينقص من الحق شيئاً ﴿فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً﴾ أي إِن كان المدين ناقص العقل مبذراً أو كان صبياً أو شيخاً هرماً ﴿أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل﴾ أي لا يستطيع الإِملاء بنفسه لعيٍّ أو خرسٍ أو عُجْمة فليملل قيِّمه أو وكيله بالعدل من غير نقصٍ أو زيادة ﴿واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ أي اطلبوا مع الكتابة أن يشهد لكم شاهدان من المسلمين زيادة في التوثيقة ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء﴾ أي فإن لم يكن الشاهدان رجلين، فليشهد رجلٌ وامرأتان ممن يُوثق بدينهم وعدالتهم ﴿أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى﴾ أي تنسى إحدى المرأتين الشهادة فتذكّرها الأخرى، وهذا علةٌ لوجوب الاثنين لنقص الضبط فيهن ﴿وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ﴾ أي ولا يمتنع الشهداء عن أداء الشهادة أو تحملها إِذا طلب منهم ذلك ﴿وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ﴾ أي لا تملّوا أن تكتبوا الدين صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً إِلى وقت حلول ميعاده ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا﴾ أي ما أمرناكم به من كتابة الدين أعدل في حكمه تعالى، وأثبت للشهادة لئلا تنسى، وأقرب أن لا تشكّوا في قدر الدَّيْن والأجل ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ أي إِلا إِذا كان البيع حاضراً يداً بيد والثمن مقبوضاً ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا﴾ أي فلا بأس بعدم كتابتها لانتفاء المحذور ﴿وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ أي أشهدوا على حقكم مطلقاً سواءً كان البيع ناجزاً أو بالدين لأنه أبعد عن النزاع والاختلاف ﴿وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ﴾ أي لا يضرب صاحبُ الحق الكُتَّاب والشهود ﴿وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ أي إِن فعلتم ما نهيتم عنه فقد فسقتم بخروجكم عن طاعة الله ﴿واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله﴾ أي خافوا الله وراقبوه يمنحكم العلم النافع الذي به سعادة الدارين ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي عالم بالمصالح والعواقب فلا يخفى عليه شيء من الأشياء ﴿وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ﴾ أي إِن كنتم مسافرين وتداينتم إِلى أجلٍ مسمى ولم تجدوا من يكتب لكم، فليكن بدل الكتابة رهانٌ مقبوضة يقبضها صاحب الحق وثيقة لدينه ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ﴾ أي فإِن أمن الدائن المدين فاستغنى عن الرهن ثقة بأمانة صاحبه فليدفع ذاك المؤتمن الدين الذي عليه وليتق الله في رعاية حقوق الأمانة ﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ أي إِذا دعيتم إِلى أداء شهادة فلا تكتموها فإِن كتمانها إثم كبير، يجعل القلب آثماً وصاحبه فاجراً، وخُصّ القلب بالذكر لأنه سلطان الأعضاء، إِذا صلح صلح الجسد كله وإِذا فسد فسد الجسد كله ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ أي لا يخفى عليه شيء من أعمال وأفعال العباد.
البَلاَغَة: ١ - في الآية من ضروب الفصاحة «الجناس المغاير» في قوله ﴿تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ﴾ وفي {
161
واستشهدوا شَهِيدَيْنِ} وفي ﴿اؤتمن أَمَانَتَهُ﴾ وفي ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ... عَلِيمٌ﴾.
٢ - الطباق في قوله ﴿صَغِيراً أَو كَبِيراً﴾ وفي ﴿تَضِلَّ... فَتُذَكِّرَ﴾ لأن الضلال هنا بمعنى النسيان.
٤ - الإِيجاز بالحذف وذلك كثير وقد ذكر أمثلته صاحب البحر المحيط.
٥ - كرر لفظ الجلالة في الجمل الثلاث ﴿واتقوا الله﴾ ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الله﴾ ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لإِدخال الروعة وتربية المهابة في النفوس.
٦ - ﴿وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ﴾ جمع ما بين الإِسم الجليل والنعت الجميل مبالغة في التحذير.
فَائِدَة: العلم نوعان: كسبيٌّ ووهبيٌّ، أما الأول فيكون تحصيله بالاجتهاد والمثابرة والمذاكرة، وأما الثاني فطريقه تقوى الله والعمل الصالح كما قال تعالى ﴿واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله﴾ وهذا العلم يسمى العلم اللُّدُني ﴿وآتيناه من لدنَّا علماً﴾ وهو العلم النافع الذي يهبه الله لمن شاء من عباده المتقين وإِليه أشار الإِمام الشافعي بقوله:
شكوتُ إِلى وكيع سوء حفظي... فأرشدني إِلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور... ونور الله لا يُهدى لعاصي
162
المنَاسَبَة: ناسب ختم هذه السورة الكريمة بهذه الآيات لأنها اشتملت على تكاليف كثيرة في الصلاة والزكاة والقصاص والصوم والحج والجهاد والطلاق والعدة وأحكام الربا والبيع والدين الخ فناسب تكليفه إِيانا بهذه الشرائع أن يذكر أنه تعالى مالك لما في السماوات وما في الأرض فهو يكلف من يشاء بما يشاء والجزاء على الأعمال إِنما يكون في الدار الآخرة، فختم هذه السورة بهذه الآيات على سبيل الوعيد والتهديد..
اللغَة: ﴿إِصْراً﴾ الإِصر في اللغة: الثقل والشدة قال النابغة:
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم والحامل الإِصر عنهم بعد ما عرفوا
162
وسميت التكاليف الشاقة إِصراً لأنها تثقل كاهل صاحبها كما يسمى العهد إصراً لأنه ثقيل. ﴿طَاقَةَ﴾ الطاقة: القدرة على الشيء من أطاق الشيء وهو مصدر جاء على غير قياس الفعل ﴿واعف عَنَّا﴾ العفو: الصفح عن الذنب ﴿واغفر لَنَا﴾ الغفران: ستر الذنب ومحوه.
سَبَبُ النزّول: لما نزل قوله تعالى ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾ الآية، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأتوا رسول الله فقالوا: كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصقدة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ [البقرة: ٩٣] قولوا ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ «فلما قرأها القوم وجرت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى ﴿آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ﴾ ونسخها الله تعالى فأنزل ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت﴾ الآية»
التفِسير: ﴿للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي هو سبحانه المالك لما في السماوات والأرض المطّلع على ما فيهن ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾ أي إِن أظهرتم ما في أنفسكم من السوء أو أسررتموه فإِن الله يعلمه ويحاسبكم عليه ﴿فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي يعفو عمن يشاء ويعاقب من يشاء وهو القادر على كل شيء الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ﴿آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون﴾ أي صدّق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما أنزل الله إِليه من القرآن والوحى وكذلك المؤمنون ﴿كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي الجميع من النبي والأتباع صدَّق بوحدانية الله، وآمن بملائكته وكتبه ورسله ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ أي لا نؤمن بالبعض ونكفر بالبعض كما فعل اليهود والنصارى بل نؤمن بجميع رسل الله دون تفريق ﴿وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير﴾ أي أجبنا دعوتك وأطعنا أمرك فنسألك يا ألله المغفرة لمن اقترفناه من الذنوب وإِليك وحدك يا ألله المرجع والمآب.
﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أي لا يكلف المولى تعالى أحداً فوق طاقته ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت﴾ أي لكل نفس جزاء ما قدمت من خير، وجزاء ما اقترفت من شرّ ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ أي قولوا ذلك في دعائكم والمعنى لا تعذبنا يا ألله بما يصدر عنا بسبب النسيان أو الخطأ ﴿رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا﴾ أي ولا تكلفنا بالتكاليف الشاقة التي نعجز عنها كما كلفت بها من قبلنا من الأمم كقتل النفس في التوبة وفرض موضع النجاسة ﴿رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ أي لا تحمّلنا ما لا قدرة لنا عليه من التكاليف والبلاء ﴿واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ﴾ أي امحُ عنا ذنوبنا واستر سيئاتنا فلا تفضحنا يوم الحشر الأكبر وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء ﴿أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ أي أنت يا ألله ناصرنا ومتولي أمورنا فلا تخذلنا، وانصرنا على أعدائنا وأعداء دينك من القوم الكافرين، الذين جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك وكذبوا برسالة نبيك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. روي أنه عليه السلام لما دعا بهذه الدعوات قيل له عند كل دعوة: قد فعلتُ.
البَلاَغَة: ١ - تضمنت الآية من أنواع الفصاحة وضروب البلاغة أشياء منها «الطباق» في قوله {
163
وَإِن تُبْدُواْ... أَوْ تُخْفُوهُ} وبين «يغفر» و «يعذب» ومنها الطباق المعنوي بين ﴿كَسَبَتْ﴾ و ﴿اكتسبت﴾ لأن كسب في الخير واكتسب في الشر.
٢ - ومنها الجناس ويسمى جناس الاشتقاق في قوله ﴿آمَنَ... والمؤمنون﴾.
٣ - ومنها الإِطناب في قوله ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾.
٤ - ومنها الإِيجاز بالحذف في قوله ﴿والمؤمنون﴾ أي آمنوا بالله ورسله ومواضع أخرى.
فَائِدَة: عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» أخرجه البخاري وفي رواية لمسلم أن ملكاً نزل من السماء فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له: «أبشرْ بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إِلا أوتيته».
164
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
يُخفي صنائعه والله يُظهرها إِن الجميل إِذا أخفيتَه ظهرا