تفسير سورة الأحقاف

فتح البيان
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأحقاف
هي أربع أو خمس وثلاثون آية
وهذا الاختلاف مبني على أن حم آية أو لا وهي مكية. قال القرطبي : في قول جميعهم. قال ابن عباس وابن الزبير : نزلت بمكة. وقال المحلي : إلا ﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله ﴾ الآية وإلا ﴿ فاصبر كما صبر أولو العزم ﴾ وإلا ﴿ ووصينا الإنسان بوالديه ﴾ الثلاث آيات، يعني آخرها قوله ﴿ إلا أساطير الأولين ﴾ وعن ابن مسعود قال :" أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الأحقاف وأقرأها آخر فخالف قراءته، فقلت من أقرأكها ؟ قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت والله لقد أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم غير ذا فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ألم تقرئني كذا وكذا ؟ قال بلي. وقال الآخر ألم تقرئني كذا وكذا قال بلى فتعمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ليقرأ كل واحد منكما ما سمع فإنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف " والأحقاف واد باليمن كانت فيه منازل عاد وقيل جمع حقف وهو التل من الرمل.

(حم) الله أعلم بمراده به، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى، وبيان ما هو الحق من أن فواتح السور من المتشابه الذي يجب أن يوكل علمه إلى من أنزله
(تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا) من المخلوقات بأسرها (إلا بالحق) ليدل على قدرتنا ووحدانيتنا هو استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي إلا خلقاً متلبساً بالحق الذي تقتضيه المشيئة الإلهية.
(وأجل) أي وبتقدير أجل (مسمى) وهذا الأجل هو يوم القيامة، فإنها تنتهي فيه السموات والأرض وما بينهما، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات، وقيل المراد به هو انتهاء أجل كل فرد من أفراد المخلوقات، والأول أولى، وهذا إشارة إلى قيام الساعة وانقضاء مدة الدنيا، وأن الله لم يخلق خلقه باطلاً وعبثاً لغير الله، بل خلقه للثواب والعقاب.
9
(والذين كفروا عما أنذروا) وخوفوا به في القرآن من البعث والحساب والجزاء والعذاب (معرضون) والجملة في محل نصب على الحال، أي: والحال أنهم مولُّون غير مستعدين له ولا مؤمنين به
10
(قل أرأيتم) أخبروني (ما تدعون) وتعبدون (من دون الله) من الأصنام وغيرها.
(أروني) يحتمل أن يكون تأكيداً لقوله: قل أرأيتم أي أخبروني أروني والمفعول الثاني لأرأيتم قوله: (ماذا) أي أيُّ شيء (خلقوا من الأرض)؟ ويحتمل أن لا يكون تأكيداً بل يكون هذا من باب التنازع، لأن أرأيتم يطلب مفعولاً ثانياً وأروني كذلك.
(أم لهم شرك في السموات) أم منقطعة مقدرة ببل والهمزة والمعنى بل ألهم شركة مع الله فيها؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع وتخصيص الشرك بالسموات دون أن يعمم بالأرض أيضاً احتراز عما يتوهم أن للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفلية.
(ائْتُونِي بِكِتَابٍ) منزل، هذا من جملة المقول والأمر تبكيت لهم وإظهار لعجزهم وقصورهم عن الإتيان بذلك، وإشارة إلى نفي الدليل المنقول بعد الإشارة إلى نفي الدليل المعقول (من قبل هذا) أي القرآن فإنه صرح ببطلان الشرك، وأن الله واحد لا شريك له، وأن الساعة حق لا ريب فيها، فهل للمشركين كتاب يخالف هذا الكتاب؟ أو حجة تنافي هذه الحجة؟.
(أو أثارة من علم) قال في الصحاح أي بقية منه وكذا الأثَرَة بالتحريك قال ابن قتيبة: أي بقية من علم الأولين، وقال الفراء والمبرد، يعني: ما يؤثر عن كتب الأولين قال الواحدي: وهو معنى قول المفسرين. قال عطاء، أو
10
شيء تأثرونه عن نبي كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم، قال مقاتل أو رواية من علم عن الأنبياء، وقال الزجاج: أو أثارة أي علامة والأثارة مصدر كالسماحة والشجاعة، وأصل الكلمة من الأثر، وهي الرواية يقال: أثرت الحديث أثره أثرة وأثاره وأثراً إذا ذكرتَه عن غيرك، قرأ الجمهور " آثارة " على المصدر كالسماحة والغواية.
وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وغيرهما بفتح الهمزة والثاء أَثرَة من غير ألف وقرىء أثْرة بضم الهمزة وسكون الثاء، قال ابن عباس: " أو أثارة من علم أي خط " وأخرجه أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم قال سفيان لا أعلم إلا عن النبي ﷺ يعني أن هذا الحديث مرفوع لا موقوف على ابن عباس.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم " أخرجه عبد بن حميد، وابن مردويه، ومعنى هذا ثابت في الصحيح، ولأهل العلم فيه تفاسير مختلفة، ومن أين لنا أن هذه الخطوط الرملية موافقة لذلك الخط؟ وأين السند الصحيح إلى ذلك النبي؟ أو إلى نبينا ﷺ إن هذا الخط هو على صورة كذا فليس ما يفعله أهل الرمل إلا جهالات وضلالات.
وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أو أثارة من علم قال: حسن الخط " أخرجه ابن مردويه، وعن ابن عباس قال: " خط كان تخطه العرب في الأرض " وعنه قال بينة من العلم (إن كنتم صادقين) في دعواكم التي تدعونها وهي قولكم: إن لله شريكاً، أو إن الله أمركم بعبادة الأوثان ولم يأتوا بشيء من ذلك فتبين بطلان قولهم لقيام البرهان العقلي والنقلي على خلافه.
11
(ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له)؟ أي لا أحد
11
أضل منه ولا أجهل، فإنه دعا من لا يسمع فكيف يطمع في الإجابة فضلاً عن جلب نفع أو دفع ضر، فتبين بهذا أنه أجهل الجاهلين. وأضل الضالين والإستفهام للتوبيخ والتقريع.
(إلى يوم القيامة) غاية لعدم الإستجابة والمراد بها التأييد كقوله تعالى: (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) قاله الشهاب، وقال في الانتصاف في هذه الغاية نكتة، وهي أنه تعالى جعل عدم الاستجابة مُغياً بيوم القيامة، فأشعرت الغاية بانتفاء الاستجابة في يوم القيامة على وجه أبلغ وأتم وأوضح وضوحاً ألحقه بالبين الذي لا يتعرض لذكره، إذ هناك تتجدد العداوة والمباينة بينها وبين عابديها.
(وهم عن دعائهم غافلون) الضمير الأول للأصنام، والثاني لعابديها، والمعنى، الأصنام التي يدعونها غافلون عن ذلك لا يسمعون ولا يعقلون، لكونهم جمادات، فالغفلة مجاز عن عدم الفهم فيهم والجمع في الضميرين باعتبار معنى من، وأجرى على الأصنام ما هو للعقلاء، لاعتقاد المشركين فيها أنها تعقل.
12
(وإذا حشر الناس) العابدون للأصنام (كانوا) أي كان الأصنام (لهم) أي لعابديهم (أعداء) يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وقد قيل: إن الله يخلق الحياة في الأصنام فتكذبهم، وقيل: المراد إنها تكذبهم وتعاديهم بلسان الحال لا بلسان المقال، وأما الملائكة والمسيح وعزير والشياطين فإنهم يتبرأون ممن عبدهم يوم القيامة، كما في قوله تعالى: (تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون).
(وكانوا بعبادتهم كافرين) أي كان المعبودون بعبادة المشركين إياهم جاحدين مكذبين، وقيل: الضمير في كانوا للعابدين، كما في قوله: (والله ربنا ما كنا مشركين) والأول أولى.
12
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
13
(وإذا تتلى عليهم آياتنا) أي آيات القرآن حال كونها (بينات) واضحات المعاني ظاهرات الدلالات (وقال الذين كفروا للحق) أي لأجله وفي شأنه، وهو عبارة عن الآيات كما قاله القاضي في الكشاف، وإليه أشار في التقرير، ووضعه موضع ضميرها، ووضع الذين كفروا موضع ضمير المتلو عليهم للتسجيل عليها بالحق، وعليهم بالكفر، والانهماك في الضلالة كما يؤخذ ذلك من تقريره.
وإيضاحه: أنه هنا اقام ظاهرين مقام مضمرين إذ الأصل قالوا لها أي للآيات ولكنه أبرزهما ظاهرين لأجل الوصفين المذكورين أفاده الكرخي (لما جاءهم) أي وقت أن جاءهم قالوا من غير نظر وتأمل (هذا سحر مبين) أي ظاهر السحرية بين البطلان.
(أم يقولون افتراه)؟ أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، أي بل أيقولون؟ والإستفهام للإنكار، والتعجب من صنيعهم وبل للانتقال عن تسميتهم الآيات سحراً إلى قولهم: إن رسول الله افترى ما جاء به، والظاهر أن الافتراء على الله أشنع من السحر، لا يحتاج إلى البيان، وإن كان كلاهما
13
كفراً، وفي ذلك من التوبيخ والتقريع ما لا يخفى، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال:
(قل إن افتريته) على سبيل الفرض والتقدير كما تدعون (فلا تملكون لي من الله شيئاًً) أي فلا تقدرون على أن تردوا عني عقاب الله فكيف أفترى على الله لأجلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عقابه عني.
(هو أعلم بما تفيضون فيه) أي تخوضون فيه من التكذيب، والإفاضة في الشيء الخوض والاندفاع فيه، يقال: أفاضوا في الحديث أي اندفعوا فيه، وأفاض البعير إذا دفع جرته من كرشه، والمعنى الله أعلم بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب له والقول بأنه سحر وكهانة.
(كفى به شهيداً بيني وبينكم) فإنه يشهد لي بأن القرآن من عنده، وأني قد بلغتكم، ويشهد عليكم بالتكذيب والجحود، وفي هذا وعيد شديد بجزاء إفاضتهم (وهو الغفور الرحيم) لمن تاب وآمن وصدق بالقرآن، وعمل بما فيه، أي كثير الرحمة والمغفرة بليغهما، وفيه إشعار بحلم الله عنهم، مع عظيم جرمهم.
14
(قل ما كنت بدعاً من الرسل) البدع من كل شيء المبدأ أي ما أنا بأول رسول كذا قال ابن عباس يعني قد بعث الله قبلي كثيراً من الرسل، وقيل البدع بمعنى البديع كالخف والخفيف، والبديع ما لم ير له مثل من الابتداع وهو الاختراع، وشيء بدع بالكسر أي مبتدع. وفلان بدع في هذا الأمر أي بديع كذا قال الأخفش، وقرىء بدعاً بفتح الدال مصدراً على تقدير حذف مضاف، أي ما كنت ذا بدع قاله أبو البقاء. وقرىء بفتح الباء وكسر الدال على الوصف كحذر.
(وما أدري ما يفعل بي) فيما يستقبل من الزمان، هل أبقى في مكة؟
14
أو أخرج منها؟ وهل أموت أو أقتل كما فعل بالأنبياء قبلي؟ قرىء يفعل مبنياً للمفعول وللفاعل وما استفهامية كما جرى عليه المحلِّي، أو موصولة كما قال الزمخشري.
(ولا) أدري ما يفعل (بكم) يعني هل تعجل لكم العقوبة كالمكذبين قبلكم؟ أم تمهلون وهذا إنما هو في الدنيا وأما في الآخرة فقد علم أنه وأمته في الجنة، وأن الكافرين في النار، وقيل إن المعنى ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة وأنها لما نزلت قدح المشركون، وقالوا: كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بنا؟ وأنه لا فضل له علينا، فنزل قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)، والأول أولى.
قال ابن عباس رضي الله عنه: " فأنزل الله تعالى بعد هذا (ليغفر لك الله) الخ، وقوله: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات) الآية فأعلم الله سبحانه نبيه ﷺ ما يفعل به وبالمؤمنين جميعاً وأرغم الله أنف الكفار وأخرج أبو داود في ناسخه أن هذه الآية منسوخة بقوله: (ليغفر لك الله) وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أم العلاء قالت: " لما مات عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه قلت رحمك الله يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، وما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم. قالت أم العلاء: فوالله لا أزكي بعده أحداً ".
(إن أتبع إلا ما يوحى إلي) قرأ الجمهور مبنياً للمفعول أي ما أتبع إلا القرآن ولا أبتدع من عندي شيئاًً والمعنى قصر أفعاله ﷺ على الوحي، لاقصر اتباعه على الوحي (وما أنا إلا نذير مبين) أي أنذركم عقاب الله وأخوفكم عذابه على وجه الإيضاح.
15
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣)
16
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني ماذا حالكم (إن كان) ما يوحى إليّ من القرآن (من عند الله) وقيل المراد محمد ﷺ والمعنى إن كان مرسلاً من عند الله في الحقيقة.
(و) الحال أنكم قد (كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل) العالمين بما أنزل الله في التوراة (على مثله فآمن) أي على مثل القرآن من المعاني الموجودة في التوراة المطابقة له من إثبات التوحيد والبعث والنشور وغير ذلك، وهذه المثلية هي باعتبار تطابق المعاني، وإن اختلفت الألفاظ، قال الجرجاني: مثل صلة، والمعنى وشهد شاهد عليه أنه من عند الله، وكذا قال الواحدي: فآمن الشاهد بالقرآن لما تبين له أنه من كلام الله، ومن جنس ما ينزله على رسله.
وهذا الشاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام، كما قال الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم، وفي هذا نظر فإن السورة مكية بالإجماع وعبد الله بن سلام كان إسلامه بعد الهجرة، فيكون المراد بالشاهد رجلاً من
16
أهل الكتاب قد آمن بالقرآن في مكة، وصدقه واختار هذا ابن جرير والراجح أنه عبد الله بن سلام وأن هذه الآية مدنية لا مكية، وروي عن مسروق أن المراد بالرجل موسى عليه السلام وشهادته ما في التوراة من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: " ما سمعت رسول الله ﷺ يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزلت: وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ".
وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال: " نزل فيّ آيات من كتاب الله نزلت في (وشهد شاهد من بني إسرائيل) ونزل فيّ (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب).
وعن ابن عباس قال هو عبد الله بن سلام وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وفيه دليل على أن هذه الآية مدنية فيخصص بها عموم قولهم إن سورة الأحقاف كلها مكية، وإياه ذكر الكواشي وكونه إخباراً قبل الوقوع خلاف الظاهر، ولذا قيل لم يذهب أحد إلى أن الآية مكية إذا فسر الشاهد بابن سلام، وفيه بحث لأن قوله وشهد شاهد معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلاً فلا ضرر في شهادة الشاهد بعد نزولها وادعاء أنه لم يقل به أحد من السلف مع ذكره في شروح الكشاف لا وجه له إلا أن يراد من السلف المفسرون، قاله الشهاب.
(واستكبرتم) أي آمن الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان، وقد اختلف في جواب الشرط ما هو؟ فقال الزجاج محذوف تقديره أتؤمنون؟ وقيل تقديره فقد ظلمتم لدلالة أن الله لا يهدي الخ عليه، وقيل تقديره فمن أضل منكم؟ وقيل: قوله فآمن واستكبرتم، وقال أبو علي الفارسي تقديره أتأمنون
17
عقوبة الله؟ وقيل التقدير ألستم ظالمين.
(إن الله لا يهدي القوم الظالمين) فحرمهم الله سبحانه الهداية بظلمهم لأنفسهم بالكفر، بعد قيام الحجة الظاهرة على وجوب الإيمان ومن فقد هداية الله له ضل، عن عوف بن مالك الأشجعي قال " انطلق النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم فلم يجبه أحد ثلاثاً، فقال أبيتم فوالله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا المقفى، آمنتم أو كذبتم، ثم انصرف، وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه، فقال: كما أنت يا محمد، فأقبل فقال ذلك الرجل أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ فقالوا: والله ما نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك، ولا من أبيك، ولا من جدك، فقال: فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل، قالوا كذبت، ثم ردوا عليه، وقالوا شراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم لن يقبل منكم قولكم، فخرجنا ونحن ثلاثة رسول الله وأنا وابن سلام، فأنزل الله: (قل أرأيتم إن كان من عند الله) إلى قوله: (إن الله لا يهدي القوم الظالين) أخرجه أبو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه، وصححه السيوطي.
ثم ذكر الله سبحانه نوعاً آخر من أقاويلهم الباطلة في حق القرآن العظيم والمؤمنين به فقال:
18
(وقال الذين كفروا) أي كفار مكة (للذين آمنوا) أي لأجلهم، وفي حقهم، وقيل: هي لام التبليغ: (لو كان) ما جاء به محمد ﷺ من القرآن والنبوة (خيراً ما سبقونا إليه) فإن معالي الأمور لا تنالها أيدي الأراذل وهم سقاط، عامتهم فقراء وموال ورعاة، قالوه زعماً منهم
18
أنهم المستحقون للسبق إلى كل مكرمة، وأن الرياسة الدينية مما ينال بأسباب دنيوية، وزل عنهم أنها منوطة بكمالات نفسانية، وملكات روحانية، مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا الدنية والإقبال على الآخرة بالكلية، وأن من فاز بها فقد حازها بحذافيرها ومن حرمها فما له منها من خلاق ولم يعلموا أن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويصطفي لدينه من يشاء عن قتادة قال: قال ناس من المشركين: نحن أعز ونحن ونحن فلو كان خيراً ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزلت هذه الآية.
وعن عون بن أبي شداد: " كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله يقال لها زنيرة. وكان عمر يضربها على الإسلام وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة فأنزل الله في شأنها هذه الآية " وعن سمرة بن جندب أن رسول الله ﷺ قال: " بنو غفار وأسلم كانوا لكثير من الناس فتنة يقولون لو كان خيراً ما جعلهم الله أول الناس فيه ".
(وإذ لم يهتدوا به) أي بالقرآن وقيل: بمحمد ﷺ وقيل بالإيمان (فسيقولون) غير مكتفين بنفي خيريته: (هذا إفك قديم) فجاوزوا نفي خيرية القرآن إلى دعوى أنه كذب قديم كما قالوا أساطير الأولين.
19
(ومن قبله كتاب موسى) قرأ الجمهور بكسر الميم من (من) على أنها حرف جر وهي مع مجرورها خبر مقدم، وكتاب موسى مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب علي الحال، أو مستأنفة، والكلام مسوق لرد قولهم: (هذا إفك قديم) فإن كونه قد تقدم القرآن كتاب موسى وهو التوراة، وتوافقا في أصول الشرائع يدل على أنه حق، ويقتضي بطلان قولهم. وقرىء بفتح الميم على أنها موصولة ونصب كتاب أي وآتينا من قبله كتاب موسى.
(إماماً) أي يقتدى به في الدين (ورحمة) من الله لمن آمن به وهما منتصبان على الحال، قاله الزجاج وغيره، وقال الأخفش على القطع وقال أبو عبيدة أي جعلناه إماماً ورحمة.
19
(وهذا كتاب مصدق) يعني القرآن فإنه مصدق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة ولغيره من كتب الله، وقيل: مصدق للنبي ﷺ وانتصاب (لساناً عربياً) على الحال الموطئة، وصاحبها الضمير في مصدق العائدة إلى كتاب الله وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولاً لمصدق، والأول أولى وقيل: على حذف مضاف أي ذا لسان عربي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل بلسان على إسقاط حرف الجر وهو ضعيف (لينذر الذين ظلموا) أي لينذر الكتاب أو لينذر الله وقيل الرسول والأول أولى قرأ الجمهور بالتحتية وقرىء " لتنذر " بالفوقية على أن فاعله النبي صلى الله عليه وسلم.
(وبشرى) في محل نصب عطفاً على محل لتنذر، لأنه مفعول به، قاله الزمخشري وتبعه أبو البقاء وتقديره للإنذار والبشرى، وقيل منصوب على المصدرية لفعل محذوف أي وبشر بشرى، وقال الزجاج الأجود أن يكون في محل رفع أي وهو بشرى وقيل: إنه معطوف على مصدق فهو في محل رفع وقوله: (للمحسنين) متعلق ببشرى.
20
(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) أي جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم، والاستقامة على الشريعة التي هي منتهى العلم، وثم للدلالة على تأخر رتبة العمل وتوقف اعتباره على التوحيد وقد تقدم تفسير هذا في سورة السجدة.
(فلا خوف عليهم) أي من لحوق مكروه في الآخرة والفاء زائدة في خبر الموصول لما فيه من معنى الشرط ولم تمنع أن من ذلك لبقاء معنى الابتداء بخلاف ليت ولعل وكان (ولا هم يحزنون) على فوات محبوب في الدنيا وإن ذلك دائم مستمر.
20
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥)
21
(أولئك) الموصوفون بما ذكر (أصحاب الجنة) التي هي دار المؤمنين حال كونهم (خالدين فيها) وفي هذه الآية من الترغيب أمر عظيم، فإن نفي الخوف والحزن على الدوام والاستقرار في الجنة على الأبد مما لا تطلب الأنفس سواه، ولا تتشوق الأرواح إلى ما عداه.
(جزاء بما كانوا يعملون) أي يجزون جزاء بسبب أعمالهم التي عملوها من الطاعات لله، وترك معاصيه في الدنيا ولما كان رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما كما ورد به الحديث حث الله تعالى عليه بقوله:
(ووصينا الإنسان بوالديه حسناً) قرأ الجمهور بضم الحاء وسكون السين وقرىء بفتحهما، وقرىء إحساناً. وقد تقدم في سورة العنكبوت (ووصينا الإنسان بوالديه حسناً) من غير اختلاف بين القراء، وقد تقدم في سورة الأنعام وسورة بني إسرائيل (وبالوالدين إحساناً) فلعل هذا هو وجه اختلاف القراء هنا، وعلى جميعها فانتصابه على المصدرية، أي وصيناه أن يحسن إليهما حسناً أو إحساناً، وقيل يتضمن وصينا معنى ألزمنا، وقيل على أنه مفعول له والحسن خلاف القبح، والإحسان خلاف الإساءة والتوصية الأمر.
21
(حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً) تعليل للتوصية المذكورة، واقتصر في التعليل على الأم لأن حقها أعظم ولذلك كان لها ثلثا البر قاله الخطيب، قرأ الجمهور كرهاً بضم الكاف في الموضعين، وقرىء بفتحها، قال الكسائي وهما لغتان بمعنى واحد، قال أبو حاتم الكره بالفتح لا يحسن لأنه الغضب والغلبة، واختار أبو عبيدة الفتح، وقال لأن لفظ الكره في القرآن كله بالفتح إلا التي في سورة البقرة (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) وقيل: إن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره، وإنما ذكر سبحانه حمل الأم ووضعها تأكيداً لوجوب الإحسان إليها الذي وصى الله به، والمعنى أنها حملته ذات كره ووضعته ذات كره، ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله فقال:
(وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) أي عدتهما هذه المدة من عند ابتداء حمله إلى أن يفصل من الرضاع أي يفطم عنه؛ وقد استدل بهذه الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأن مدة الرضاع سنتان أي مدة الرضاع الكامل في قوله: (حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)، فذكر سبحانه في هذه الآية أقل مدة الحمل وأكثر مدة الرضاع، وفي هذه الآية إشارة إلى أن حق الأم آكد من حق الأب، لأنها حملته بمشقة ووضعته بمشقة وأرضعته هذه المدة بتعب ونصب. ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك.
قرأ الجمهور فصاله بالألف، وقرىء فصله بفتح الفاء وسكون الصاد والفصل والفصال بمعنى كالفطم والفطام والقطف والقطاف، عن نافع بن جبير أن ابن عباس أخبره قال: " إني لصاحب المرأة التي أتى بها عمر وضعت لستة أشهر، فأنكر الناس ذلك فقلت لعمر لم تظلم؟ قال كيف؟ قلت اقرأ (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) كم الحول؟ قال: سنة، قلت: كم السنة؟ قال اثنا عشر شهراً، قلت: فأربعة وعشرون شهراً حولان كاملان، ويؤخر الله من الحمل ما شاء، ويقدم ما شاء فاستراح عمر إلى قوله "، وعنه أنه كان يقول إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهراً وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من
22
الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً وإذا وضعت لستة أشهر فحولان كاملان لأن الله يقول وحمله وفصاله ثلاثون شهراً.
(حتى إذا بلغ أشده) أي بلغ استحكام قوته وعقله، وغاية شبابه واستوائه، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وكان سيبويه يقول: واحده شدة، وبلوغ الأشد أن يكتهل، ويستوفي السن التي تستحكم فيها قوته ولبه، وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين، وقد مضى تحقيق الأشد مستوفى، ولا بد من تقدير جملة تكون حتى غاية لها، أي عاش واستمرت حياته، وقيل: بلغ عمره ثماني عشرة سنة. وقيل: الأشد الحلم، قاله الشعبي وابن زيد، وقال الحسن: وهو بلوغ الأربعين والأول أولى لقوله: (وبلغ أربعين سنة) فإن هذا يفيد أن بلوغ الأربعين هو شيء وراء بلوغ الأشد، قال المفسرون: لم يبعث الله نبياً قط إلا بعد أربعين سنة إلا ابني الخالة.
(قال رب أوزعني) أي ألهمني ورغبني ووفقني، قال الجوهري: استوزعت الله فأوزعني أي استلهمته فألهمني (أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي) أي ألهمني شكر ما أنعمت علي من الهداية (وعلى والدي) من التحنن عليّ منهما حين ربياني صغيراً وقيل أنعمت عليَّ بالصحة والعافية وعلى والدي بالغنى والثروة (وأن أعمل) عملاً (صالحا ترضاه) مني.
(وأصلح لي في ذريتي) أي اجعل ذريتي صالحين راسخين في الصلاح، متمكنين منه، وعدي بفي لتضمنه معنى اللطف أو هو نزل منزلة اللازم، ثم عدي ليفيد سريان الصلاح فيم، وإلا فالإصلاح متعد كما في قوله تعالى: (وأصلحنا له زوجه) وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات (إني تبت إليك) من ذنوبي (وإني من المسلمين) أي المستسلمين لك المنقادين لطاعتك المخلصين لتوحيدك.
23
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (١٨)
24
(أولئك) إشارة إلى الإنسان المذكور والجمع لأنه يراد به الجنس (الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) من أعمال الخير في الدنيا. والمراد بالأحسن الحسن كقوله: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم) فالقبول ليس قصراً على أفضل عباداتهم وأحسنها، بل يعم كل طاعاتهم فاضلها ومفضولها، والقبول هو الرضا بالعمل والإتابة عليه، وقيل: إن اسم التفضيل على معناه، ويراد به ما يثاب العبد عليه من الأعمال، لا ما لا يثاب عليه، كالمباح فإنه حسن، وليس بأحسن.
(ونتجاوز عن سيئاتهم) فلا نعاقبهم عليها، قرأ الجمهور: يتقبل ويتجاوز على بناء الفعلين للمفعول، وقرىء بالنون فيهما على إسنادهما إلى الله سبحانه، والتجاوز الغفران، وأصله من جزت الشيء إذا لم تقف عليه.
(في أصحاب الجنة) أي أنهم كائنون في عدادهم، منتظمون في سلكهم، فالجار والمجرور في مجال النصب على الحال، كقولك أكرمني الأمير في أصحابه أي كائناً في جملتهم، وقيل: إن في بمعنى مع، أي: مع أصحاب
24
الجنة، وقيل: إنهما خبر مبتدأ محذوف أي هم في أصحاب الجنة.
(وعد الصدق) مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، لأن قوله (أولئك الذين نتقبل عنهم) في معنى الوعد بالتقبل، والتجاوز، ويجوز أن يكون مصدراً لفعل محذوف، أي ووعدهم الله وعد الصدق.
(الذي كانوا يوعدون) به على ألسن الرسل في الدنيا، عن ابن عباس قال: " أنزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فاستجاب الله له، فأسلم والداه جميعاً وإخوانه وولده كلهم "، ونزلت فيه أيضاًً: (فأما من أعطى واتقى) آخر السورة ".
وقال النسفي: قيل: نزلت في أبي بكر الصديق في أبيه أبي قحافة، وأمه أم الخير، وفي أولاده واستجابة دعائه فيهم، فإنه آمن بالنبي ﷺ وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، ودعا لهما وهو ابن أربعين سنة، ولم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار، أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته غير أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
ولما ذكر سبحانه من شكر نعمة الله عليه وعلى والديه، ذكر من قال لهما قولاً يدل على التضجر منهما، عند دعوتهما له إلى الإيمان فقال:
25
(والذي قال لوالديه أفٍ لكما) الموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول، ولهذا أخبر عنه بالجمع، وأف كلمة تصدر عن قائلها عند تضجره من شيء يرد عليه، قرىء أف بكسر الفاء مع التنوين، وقرىء بفتحها من غير تنوين وقرىء بكسرها من غير تنوين فالقراآت ثلاثة سبعية والهمزة في الكل مضمومة وقد مضى بيان الكلام على هذا في سورة بني إسرائيل واللام في لكما لبيان المؤفف له كما في قوله: (هيت لك).
وقد أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز
25
استعمله معاوية بن أبي سفيان فخطب فجعل يذكر يزيد ابن معاوية عليه ما عليه لكي يبايع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاًً، فقال: خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه. فقال مروان إن هذا أنزل فيه (والذي قال لوالديه أف لكما)، فقالت عائشة: ما أنزل الله فينا شيئاًً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري ".
وعن محمد بن زياد قال لما بايع معاوية لابنه قال مروان سنة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال عبد الرحمن سنة هرقل وقيصر، فقال مروان هذا الذي قال الله فيه والذي قال لوالديه أف لكما الآية فبلغ ذلك عائشة كذب مروان والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله ﷺ لعن أبا مروان ومروان في صلبه، فمروان من لعنه الله " أخرجه النسائي، وعبد بن حميد وابن المنذر، والحاكم وصححه.
وعن ابن عباس في الآية قال هذا ابن لأبي بكر، ونحوه عن السدي، ولا يصح هذا، ويرده ما سيأتي من قوله تعالى:
26
(أولئك الذين حق عليهم القول في أمم)، والصحيح أنه ليس المراد من الآية شخصاً معيناً، بل المراد كل شخص كان موصوفاً بهذه الصفة، وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الصحيح والإيمان بالبعث، فأبى وأنكر وقيل نزلت في كل كافر عاق لوالديه.
(أتعدانني)؟ بنونين مخففتين وفتح ياءه أهل المدينة ومكة، وأسكنها الباقون، وقرىء بإدغام إحدى النونين في الأخرى. وقرىء بفتح النون الأولى فراراً من توالي مثلين مكسورين (أن أخرج) قرأ الجمهور مبنياً للمفعول، وقرىء مبنياً للفاعل، والمعنى أتعدانني أن أبعث بعد الموت، وهذا هو الموعود به.
(وقد خلت القرون من قبلي) أي والحال أن قد مضت القرون فماتوا
26
ولم يبعث منهم أحد (وهما يستغيثان الله) له، ويطلبان منه التوفيق إلى الإيمان واستغاث يتعدى بنفسه تارة وبالباء أخرى، يقال استغاث الله واستغاث به.
وقال الرازي معناه يستغيثان بالله من كفره فلما حذف الجار وصل الفعل وقيل الاستغاثة الدعاء فلا حاجة إلى الباء، وزعم ابن مالك أنه يتعدى بنفسه فقط، وعاب قول النحاة مستغاث به، قلت لكنه لم يرد في القرآن إلا متعدياً بنفسه (إذ تستغيثون ربكم) (فاستغاثه الذي من شيعته) (وإن يستغيثوا يغاثوا) قال الفراء يقال أجاب الله دعاءه وغواثه.
(ويلك) أي: يقولان له ويلك. وليس المراد به الدعاء عليه بل الحث له على الإيمان ولهذا قالا له (آمن) بالبعث واعترف وصدق (إن وعد الله حق) قرأ الجمهور بكسر إن على الاستئناف أو التعليل، وقرىء بفتحهما أي آمن بأن وعد الله حق لا خلف فيه، وهو من جملة مقولهما.
(فيقول) عند ذلك مكذباً لما قالاه (ما هذا) الذي تقولانه من البعث (إلا أساطير الأولين) أي: أحاديثهم وأباطيلهم التي يسطرونها في الكتب من غير أن تكون في حقيقة.
(أولئك) القائلون هذه المقالات هم (الذين حق عليهم القول) أي وجب عليهم العذاب بقوله سبحانه لإبليس (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) كما يفيده قوله:
(في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس) وجملة (إنهم كانوا خاسرين) تعليل لما قبلها، وهذا يدفع كون سبب النزول عبد الرحمن ابن أبي بكر، وأنه الذي قال لوالديه ما قال. فإنه من أفاضل المؤمنين، وليس ممن حقت عليه كلمة العذاب.
27
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
28
(ولكل) أي لكل فريق من الفريقين المؤمنين والكافرين والأبرار والفجار من الجن والإنس (درجات مما عملوا) أي مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم قال ابن زيد درجات أهل النار تذهب سفلاً، ودرجات أهل الجنة تذهب علواً، ومراتب أهل النار يقال لها دركات بالكاف، كما في الحديث لا درجات، والجواب أن ذلك على جهة التغليب أو المراد المراتب مطلقاً.
(وليوفيهم أعمالهم) أي جزاء أعمالهم، ولا يظلمهم حقوقهم، قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم، فجعل الثواب درجات، والعقاب دركات، قرأ الجمهور بالنون، وقرىء بالتحتية، واختار أبو عبيدة الأولى، وأبو حاتم الثانية (وهم لا يظلمون) أي لا يزاد مسيء ولا ينقص محسن، بل يوفي كل فريق ما يستحقه من خير وشر والجملة حالية مؤكدة، أو مستأنفة مقررة لما قبلها.
(ويوم يعرض الذين كفروا على النار) أي اذكر لهم يا محمد يوم ينكشف الغطاء فينظرون إلى النار ويقربون منها، وقيل معنى يعرضون يعذبون من قولهم عرضه على السيف وعرض الشخص على النار أشد في إهانته من عرض النار عليه إذ عرضه عليها يفيد أنه كالحطب المخلوق للاحتراق، وقيل: في الكلام قلب والمعنى تعرض النار عليهم.
28
(أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) أي يقال لهم ذلك، قرأ الجمهور: أذهبتم بهمزة واحدة، وقرىء بهمزتين محققتين، ومعنى الاستفهام التقريع والتوبيخ، قال الفراء والزجاج: العرب توبخ بالإستفهام وبغيره، فالتوبيخ كائن على القراءتين، قال الكلبي: المراد بالطيبات اللذات وما كانوا فيه من المعايش والمعنى أن كل ما قدر لكم من اللذات والطيبات فقد ذهبتم به وأخذتموه وتمتعتم به فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم منها شيء، وقيل: المعنى أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي، قال ابن بحر: الطيبات الشباب والقوة، مأخوذة من قولهم: ذهب أطيباه أي شبابه وقوته، قال الماوردي: ووجدت الضحاك قاله أيضاًً، قلت: القول الأول أظهر، والثاني فيه بعد.
(واستمتعتم بها) أي بالطيبات، والمعنى: أنهم اتبعوا الشهوات واللذات التي في معاصي الله سبحانه، ولم يبالوا بالذنب تكذيباً منهم لما جاءت به الرسل من الوعد بالحساب والعقاب والثواب.
(فاليوم تجزون عذاب الهون) أي العذاب الذي فيه ذلكم، وخزي عليكم، قال مجاهد وقتادة الهون الهوان بلغة قريش (بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق) أي بسبب تكبركم عن عبادة الله، والإيمان به وتوحيده.
(وبما كنتم تفسقون) أي تخرجون عن طاعة الله وتعملون بمعاصيه، فجعل السبب في عذابهم أمرين: التكبر عن اتباع الحق، والعمل بمعاصي الله سبحانه، وهذا شأن الكفرة فإنهم جمعوا بينهما، قيل لما وبخ الله تعالى الكافرين بالتمتع بالطيبات آثر النبي ﷺ وأصحابه والصالحون من بعدهم اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة وفي الباب أخبار وآثار تدل على ذم التمتع.
29
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١)
(واذكر) يا محمد لقومك (أخا عاد) هو هود بن عبد الله بن رباح كان أخاهم في النسب لا في الدين (إذ أنذر قومه) أي وقت إنذاره إياهم (بالأحقاف) هي ديار عاد جمع حقف وهو الرمل العظيم المستطيل المعوج قاله الخليل وغيره، وكانوا قهروا أهل الأرض بقوتهم والمعنى أن الله سبحانه أمره أن يذكر لقومه قصتهم ليتعظوا ويخافوا ويعتبروا بها، وقيل أمره أن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود ليقتدى به ويهون عليه تكذيب قومه له.
قال عطاء الأحقاف رمال بلاد الشحر والشحر قريب من عدن وفي القاموس الشحر كمنع فتح الفم وساحل البحر بين عمان وعدن، وقال مقاتل: هي باليمن في حضرموت. وقال ابن زيد: هي رمال مبسوطة مستطيلة مشرفة على البحر كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالاً؛ وقيل: الأحقاف ما استدار من الرمل. وقال ابن عباس: الأحقاف جبل بالشام، وقيل: واد بين عمان ومهرة وإليه تنسب الإبل المهرية وقيل: كانوا من قبيلة إرم.
(وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) أي وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده، كذا قال الفراء وغيره والمعنى أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذورون نحو إنذاره، فالذين قبله أربعة آدم وشيث وإدريس ونوح، والذين بعده كصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحق وكذا سائر أنبياء بني إسرائيل (أن) أي بأن قال: (لا تعبدوا إلا الله) وحده (إني أخاف عليكم) تعليل لما قبله (عذاب يوم عظيم) أي هائل بسبب شرككم، قاله القاضي، وفيه إشارة إلى أن عظيم مجاز عن هائل لأنه يلزم العظم.
30
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧)
31
(قَالُوا) أي جواباً لإنذاره (أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا) أي لتصرفنا عن عبادتها، وقيل: لتزيلنا، وقيل لتمنعنا، والمعنى متقارب (فأتنا بما تعدنا) من عذاب يوم عظيم (إن كنت من الصادقين) في وعدك لنا به
(قال إنما العلم) بوقت مجيئه (عند الله) لا عندي ولا مدخل لي فيه فاستعجل به.
(وأبلغكم) أي وأما أنا فإنما وظيفتي التبليغ (ما أرسلت به) إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار لا الإتيان بالعذاب إذ ليس من مقدوري بل هو من مقدورات الله تعالى: (ولكني أراكم قوماً تجهلون) حيث بقيتم مصرين على كفركم، ولم تهتدوا بما جئتكم به بل اقترحتم عليّ ما ليس من وظائف الرسل.
(فلما رأوه) الضمير يرجع إلى ما في قوله: (بما تعدنا) وقال المبرد
31
والزجاج يعود إلى غير مذكور وبينه قوله (عارضاً) فيعود إلى السحاب أي فلما رأوا السحاب عارضاً، فعارضاً نصب على التكرير بمعنى التفسير وسمي السحاب عارضاً لأنه يبدو في عرض السماء، قال ابن عباس: العارض السحاب وبه قال الجوهري، وزاد يعترض في الأفق ومنه قوله: (هذا عارض ممطرنا)، وانتصاب عارضاً على الحال أو التمييز.
(مستقبل أوديتهم) أي متوجهاً نحوها سائراً إليها، قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المعتب فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا.
و (قالوا هذا عارض ممطرنا) أي غيم فيه مطر وقوله مستقبل أوديتهم صفة لعارض لأن إضافته لفظية لا معنوية فصح وصف النكرة به وهكذا ممطرنا، فلما قالوا ذلك أجاب عليهم هوداً القائل هو الله: (بل هو ما استعجلتم به) من العذاب حيث قلتم: فائتنا بما تعدنا.
(ريح فيها عذاب أليم) الريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه
32
(تدمر كل شيء بأمر ربها) صفة ثانية لريح أي تهلك كل شيء مرت به من نفوس عاد وأموالها، والتدمير الإهلاك وكذا الدماء، وقرىء يدمر بالتحتية مفتوحة وسكون الدال وضم الميم ورفع كل على الفاعلية من دمر دماراً ومعنى بأمر ربها أن ذلك بقضائه وقدره.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: " ما رأيت رسول الله ﷺ مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه قلت يا رسول الله: الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، قال: يا عائشة وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا ".
وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عائشة قالت: " كان
32
رسول الله ﷺ إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، فإذا تخيلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرى عنه فسألته فقال لا أدري لعله كما قال قوم عاد هذا عارض ممطرنا ".
(فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) بعد خراب أموالهم وذهاب أنفسهم قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب لمحمد ﷺ أو لكل من يصلح للرؤية، ونصف مساكنهم وقرىء بالتحتية مبنياً للمفعول ورفع مساكنهم، قال سيبويه معناه لا يرى أشخاصهم إلا مساكنهم وقال الكسائي والزجاج معناها لا يرى شيء إلا مساكنهم فهي محمولة على المعنى، كما تقول ما قام إلا هند أي ما قام أحد إلا هند، وفي الكلام حذف، والتقدير فجاءتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا الخ.
قال ابن عباس في الآية: " أول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من رحالهم ومواشيهم يطير بين السماء والأرض مثل الريش، دخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح ففتحت أبوابهم ومالت عليهم بالرمل فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوماً لهم أنين ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل وطرحتهم في البحر فهو قوله فأصبحوا الآية " وعنه قال ما أرسل الله على عاد من الريح إلا قدر خاتمي هذا (كذلك) الجزاء (نجزي القوم المجرمين) قد تقدم تفسير هذه القصة في سورة الأعراف.
33
(ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) قال المبرد (ما) في قوله: فيما بمنزلة الذي، وإن بمنزلة ما النافية وتقديره ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من كثرة المال وطول العمر وقوة الأبدان، وقيل إن زائدة أي ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه، وبه قال القتيبي، والأول أولى، لأنه أبلغ في التوبيخ لكفار قريش وأمثالهم، مال ابن عباس يقول لم نمكنكم، وعنه قال: عاد
33
مكنوا في الأرض أفضل مما مكنت فيه هذه الأمة وكانوا أشد قوة وأكثر أموالاً، وأطول أعماراً.
(وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة) أي أنهم أعرضوا عن قبول الحجة والتذكر مع ما أعطاهم الله من الحواس وآلات الفهم التي بها تدرك الأدلة ولهذا قال:
(فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء) أي فما نفعهم ما أعطاهم الله من ذلك، حيث لم يتوصلوا به إلى التوحيد واعتقاد صحة الوعد والوعيد، ووحد السمع لأنه لا يدرك به إلا الصوت وما يتبعه بخلاف البصر حيث يدرك به أشياء كثيرة بعضها بالذات وبعضها بالواسطة، والفؤاد يعم إدراكه كل شيء قاله الكرخي، وقد قدمنا من الكلام على إفراد السمع وجمع البصر ما يغني عن الإعادة و (من) في من شيء زائدة والتقدير فما أغنى عنهم شيئاًً من الإغناء ولا نفعهم بوجه من وجوه النفع.
(إذ كانوا يجحدون بآيات الله) أي لأنهم كانوا جاحدين (وحاق بهم ما كانو به يستهزئون) أي أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء، حيث قالوا فائتنا بما تعدنا
34
(ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى) الخطاب لأهل مكة، والمراد بالقرى قرى قوم ثمود، وهي الحجر وسدوم قرى قوم لوط بالشام ونحوهما مما كان مجاوراً لبلاد الحجاز وكانت أخبارهم متواترة عندهم (وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون) أي بينا الحجج ونوعناها لكي يرجعوا عن كفرهم فلم يرجعوا ثم ذكر سبحانه أنه لم ينصرهم من عذاب الله ناصر فقال:
34
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩)
35
(فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً) أي فهلا نصرهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم.
قال الكسائي: القربان كل ما يتقرب به إلى الله من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين كالرهبان والرهابين، وأحد مفعولي اتخذوا ضمير محذوف راجع إلى الموصول، والثاني آلهة وقرباناً حال، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولآ ثانياً وآلهة بدلاً منه الفاسد المعنى، وقيل يصح ذلك ولا يفسد المعنى ورجحه ابن عطية وأبو البقاء وأبو حيان، وأنكر أن يكون في المعنى فساد على هذا الوجه.
(بل ضلوا عنهم) أي غابوا عن نصرهم ولم يحضروا عند الحاجة إليهم بالكلية، وقيل: بل هلكوا وقيل الضمير في ضلوا راجع إلى الكفار أي تركوا الأصنام وتبرؤا منها والأول أولى.
(وذلك إفكهم) أي ذلك الضلال والضياع أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة، وزعمهم أنها تقربهم إلى الله قرأ الجمهور إفكهم بكسر الهمزة وسكون الفاء مصدر أفك يأفك إفكاً أي كذبهم، وقرىء أفك بفتح الهمزة والفاء والكاف على أنه فعل أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد وقرىء بفتح الهمزة وتشديد الفاء أي صيرهم آفكين، قال أبو حاتم يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم، وقرىء بالمد وكسر الفاء بمعنى صارفهم.
(وما كانوا يفترون) معطوف على إفكهم أي وأثر إفترائهم أو أثر
35
الذي كانوا يفترونه والمعنى وذلك إفكهم أي كذبهم الذي يقولون: أنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم وما كانوا يكذبون أنها آلهة ولما بين سبحانه أن في الإنس من آمن، وفيهم من كفر بين أيضاًً أن في الجن كذلك فقال:
36
(وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن) أي اذكر إذ وجهنا إليك نفراً منهم وبعثناهم إليك، وأقبلنا بهم نحوك والنفر دون العشرة (يستمعون القرآن) صفة ثانية لنفر أو حال، لأن النكرة قد تخصصت بالصفة الأولى.
عن ابن مسعود قال: هبطوا يعني الجن على النبي ﷺ وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه قالوا: أنصتوا قالوا صه، وكانوا تسعة أحدهم زوبعة فأنزل الله: وإذ صرفنا إلى قوله ضلال مبين ".
وعن الزبير قال: إذ صرفنا إليك نفراً من الجن بنخلة ورسول الله ﷺ يصلي العشاء الآخرة كادوا يكونون عليه لبداً وكانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله ﷺ رسلاً إلى قومهم " وعنه قال " أتوه ببطن نخلة "، وعنه قال: " صرفت الجن إلى رسول الله ﷺ مرتين وكانوا أشراف الجن بنصيبين، وهي قرية من اليمن وجنها أشرف الجن وسادتهم "، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: سألت ابن مسعود من آذن النبي ﷺ بالجن ليلة استمعوا القرآن قال آذنته بهم الشجرة (١).
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال قلت لابن مسعود هل صحب رسول الله ﷺ منكم أحد ليلة الجن؟ قال: ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا اغتيل استطير ما فعل؟ قال فبتنا
_________
(١) روي بألفاظ كثيرة - البخاري ٢/ ٢١٠ - ٨/ ٥١٣ ومسلم ١/ ٣٣١ السيوطي في الدر ٦/ ٢٧٠ أحمد/٤١٤٩.
36
بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فأخبرناه فقال إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ".
وأخرج أحمد عنه قال: كنت مع رسول الله ﷺ ليلة الجن وقد روي نحو هذا من طرق والجمع بين الروايات بالحمل على قصتين وقعتا منه ﷺ مع الجن حضر إحداهما ابن مسعود ولم يحضر في الأخرى وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجن بعد هذا وفدت على رسول الله ﷺ مرة بعد مرة وأخذوا عنه الشرائع وذكر سليمان الجمل في سبب هذه الواقعة قولين من الخطيب والخازن لا حاجة بنا إلى ذكرهما فإنهما ليسا من التفسير في شيء.
(فلما حضروه) أي حضروا القرآن عند تلاوته وقيل حضروا النبي ﷺ ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة والأول أولى (قالوا أنصتوا) أي اسكتوا أمر بعضهم بعضاً لأجل أن يسمعوا.
(فَلَمَّا قُضِيَ) قرأ الجمهور مبنياً للمفعول أي فرغ من تلاوته وقرىء مبنياً لفاعل أي فرغ النبي ﷺ من تلاوته والأولى تؤيد أن الضمير في حضروه القرآن والثانية تؤيد أنه للنبي صلى الله عليه وسلم.
(وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي انصرفوا قاصدين إلى من وراءهم من قومهم منذرين لهم عن مخالفة القرآن، ومحذرين لهم وانتصاب منذرين على الحال المقدرة أي مقدرين الإنذار وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي ﷺ وكانوا يهوداً وقد أسلموا والجن لهم ملل مثل الإنس ففيهم اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام، وفي مسلميهم مبتدعة، ومن يقول بالقدر وخلق القرآن ونحو ذلك من المذاهب والبدع قاله الخازن.
37
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٢)
38
(قالوا يا قومنا) في الكلام حذف والتقدير فوصلوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا (إنا سمعنا كتاباً) أي قرآناً (أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه) أي لما قبله من الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وغيرها.
(يهدي إلى الحق) أي: إلى الدين الحق أي العقائد الصحيحة (وإلى طريق مستقيم) أي إلى طريق الله القويم أي الشرائع الفرعية والأحكام الدينية، قال مقاتل لم يبعث الله نبياً إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
(يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به) يعنون محمداً ﷺ أو القرآن (يغفر لكم) جواب الأمر (من ذنوبكم) أي بعضها، وهو ما عدا حق العباد لأنه لا يغفر إلا برضاء أصحابه، وقيل: إن من هنا لابتداء الغاية والمعنى أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى وقيل هي زائدة والأول أولى.
(ويجركم من عذاب أليم) وهو عذاب النار، وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجن حكم الإنس فيه الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي، وقال الحسن: ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، وبه قال أبو حنيفة والأول أولى، وبه قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى، وعلى القول الثاني فقال القائلون به إنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم كونوا تراباً كما يقال للبهائم، والأول أرجح، وقد قال الله تعالى في مخاطبة الجن والإنس:
38
(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فامتن الله سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ولا ينافي هذا الاقتصار ههنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم، ومما يؤيد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار، وهو مقام عدل فكيف لا يجازي محسنهم بالجنة، وهو مقام فضل، ومما يؤيد هذا أيضاًً ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة وجزاء من عمل الصالحات الجنة وجزاء من قال لا إله إلا الله الجنة وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة.
وقد اختلف أهل العلم هل أرسل الله إلى الجن رسولاً منهم؟ أم لا؟ وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس كما في قوله: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى) وقال (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) وقال سبحانه في إبراهيم الخليل (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فهو من ذريته وأما قوله سبحانه في سورة الأنعام (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) فقيل المراد من مجموع الجنسين ما صدق عليه أحدهما وهم الإنس كقوله (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) أي من أحدهما.
39
(ومن) شرطية (لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض) أي: لا يفوت الله ولا يسبقه ولا يقدر على الهرب منه لأنه وإن هرب كل مهرب فهو في الأرض لا سبيل له إلى الخروج منها وفي هذا ترهيب شديد.
(وليس له من دونه أولياء) أي أنصار يمنعونه من عذاب الله بين سبحانه بعد استحالة نجاته بنفسه استحالة نجاته بواسطة غيره (أولئك) أي: من لا يجب داعي الله.
(في ضلال مبين) أي ظاهر واضح، وهذا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن. وقد اجتمع ههنا همزتان مضمومتان من كلمتين وليس لهما نظير في القرآن غير هذا، ثم ذكر سبحانه دليلاً على البعث فقال:
39
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (٣٥)
40
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)؟ الرؤية هنا هي القلبية التي بمعنى العلم والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر، أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الذي خلق هذه الأجرام العظام من السموات والأرض ابتداء (ولم يعي) مجزوم بحذف الألف، قرأ الجمهور بسكون العين وفتح الياء مضارع عي، وقرىء بكسر العين وسكون الباء.
(يخلقهن) أي: لم يتعب ولم ينصب ولم يعجز عن ذلك ولا ضعف عنه، يقال عي بالأمر وعيي إذا لم يهتد لوجهه، قال الشهاب: عدم العي مجاز عن عدم الانقطاع والنقص، يعني: أن قدرته واجبة لا تنقص ولا تنقطع بالإيجاد أبد الآباد.
(بقادر على أن يحيي الموتى) قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة للتوكيد كما في قوله (وكفى الله شهيداً) قال الكسائي والفراء والزجاج: العرب تدخل الباء مع الجحد والاستفهام فتقول: ما أظنك بقائم، والجار والمجرور في محل رفع على أنهما خبر لأن، وقرأ جماعة يقدر على صيغة المضارع، واختار أبو عبيدة الأولى وأبو حاتم الثانية.
(بلى إنه على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء تعليل لما أفادته بلى من تعاليل الخاص بالعام، ولما أثبت البعث ذكر بعض ما يحصل في يومه من الأهوال فقال
(ويوم يعرض الذين كفروا على النار) أي يقال ذلك اليوم للذين كفروا.
40
(أليس هذا بالحق) وهذه الجملة هي المحكية بالقول والإشارة بهذا إلى ما هو مشاهد لهم يوم عرضهم على النار، وفي الاكتفاء بمجرد الإشارة من التهويل للمشار إليه والتفخيم لشأنه ما لا يخفى، كأنه أمر لا يمكن التعبير عنه بلفظ يدل عليه.
(قالوا بلى وربنا) اعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف، وأكدوا هذا الاعتراف بالقسم لأن المشاهدة هي حق اليقين الذي لا يمكن جحده ولا إنكاره ولأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقية ما هم فيه (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) أي بسبب كفركم بهذا في الدنيا وإنكاركم له، وفي هذا الأمر لهم بذوق العذاب توبيخ بالغ وتهكم عظيم، ولما قرر سبحانه الأدلة على النبوة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر فقال:
41
(فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) إصبر أو ثق بحكم الله، والثبات من غير بث ولا استكراه قاله القشيري، والفاء جواب شرط محذوف أي إذا عرفت ذلك وقامت عليه البراهين ولم ينجح في الكافرين فاصبر كما صبر أرباب الثبات والحزم وأولو الجد والصبر فإنك منهم.
قال مجاهد: أولو العزم من الرسل خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وهم أصحاب الشرائع، وبه قال ابن عباس. وقال أبو العالية: هم نوح وهود وإبراهيم، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم. وقال السدي هم ستة: إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد ﷺ وقيل نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى. وقال ابن جريج: إن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب وليس منهم يونس.
وقال الشعبي والكلبي: هم الذين أمروا بالقتال فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة؛ وقيل هم نجباء الرسل المذكورين في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإسماعيل وإلياس واليسع ويونس
41
ولوط، واختار هذا الحسين بن الفضل لقوله بعد ذكرهم.
(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) وقيل إن الرسل كلهم أولو عزم ولم يبعث الله عز وجل نبياً إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل. وقيل هم أثنا عشر نبياً أرسلوا إلى بني إسرائيل، وقال الحسن هم أربعة إبراهيم وموسى وداود وعيسى وعن ابن عباس قال هم الذين أمروا بالقتال حتى مضوا على ذلك نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان.
وعن جابر بن عبد الله قال: " بلغني أن أولي العزم من الرسل كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر "، وعن عائشة قالت: " ظل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صائماً ثم طوى ثم ظل صائماً ثم طوى ثم ظل صائماً، قال: يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال: اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي، ولا قوة إلا بالله "، أخرجه ابن أبي حاتم والديلمي. قيل: هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل: محكمة، قال القرطبي: والأظهر أنها منسوخة لأن السورة مكية، وذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت على رسول الله ﷺ يوم أحد فأمره الله أن يصبر على ما أصابه أولو العزم تسهيلاً عليه وتثبيتاً له.
(ولا تستعجل لهم) أي لا تستعجل العذاب يا محمد للكفار، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، واللام للتعليل، ولا أمره سبحانه بالصبر ونهاه عن استعجال العذاب لقومه رجاء أن يؤمنوا قال (كأنهم يوم يرون ما يوعدون) من العذاب في الآخرة لطوله (لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) أي إلا قدر ساعة من ساعات الأيام لا يشاهدونه من الهول العظيم والبلاء القيم.
(بلاغ) قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا الذي وعظتهم به بلاغ؛ أو تلك الساعة بلاغ، أو هذا القرآن بلاغ، أو هو
42
مبتد والخبر لهم الواقع بعد قوله (ولا تستعجل لهم) أي: لهم بلاع، وقرىء بالنصب على المصدر، أي بلغ بلاغاً، وقرىء بلغ بصيغة الأمر، وبلغ بصيغة الماضي.
(فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) قرأ الجمهور يهلك على البناء للمفعول وقرىء على البناء للفاعل، وقرىء بالنون ونصب القوم، والمعنى أنه لا يهلك بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن الطاعة الواقعون في معاصي الله.
قال قتادة " لا يهلك على الله إلا هالك مشرك " قيل وهذه الآية أقوى آية في الرجاء " وقال الزجاج تأويله لا يهلك مع رحمة الله تعالى وفضله إلا القوم الفاسقون وهذا تطميع في سعة فضل الله سبحانه وتعالى.
43

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة محمد - ﷺ -
(وتسمى سورة القتال، وسورة الذين كفروا)
وهي ثمان أو تسع وثلاثون آية، وقيل: هي أربعون آية، والخلاف في قوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)، وقوله: (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ)، وهي مدنية قال الماوردي: في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزناً عليه، فنزل قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ)، وهذا مبني على أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمشهور أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها، ولو في مكة، فعليه تكون هذه الآية مدنية وهذا كله مبني على هذا النقل الذي نقله الماوردي هنا، ونقله القرطبي أيضاً هنا.
والذي نقله الخازن والخطيب وغيرهما بل والقرطبي أنها نزلت لما خرج من مكة إلى الغار مهاجراً، والنقل الثاني هو الصحيح لأنه هو الذي يناسبه التوعد بقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) وأما على النقل الأول فلا يظهر هذا الوعيد لأنه في حجة الوداع فارقها مختاراً بعدما
45
صارت دار إسلام وأسلم جميع أهلها، وبدئ فتحها في السنة الثامنة، وقال الثعلبي: أنها مكيّة، وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير، وهو غلط من القول فالسورة مدنية كما لا يخفى.
قال ابن عباس: نزلت سورة القتال بالمدينة وعن ابن الزبير نزلت بالمدينة سورة الذين كفروا.
وعن ابن عمر أن النبي - ﷺ - كان يقرأ بهم في المغرب الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أخرجه الطبراني في الأوسط.
46

بسم الله الرحمن الرحيم

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (٢) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (٣) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٧)
47
Icon