ﰡ
خاتمة سورة الأحقاف
عليك ايها العارف الحازم العازم على سلوك طريق التوحيد ان تقصد نحوه بالعزيمة الخالصة الصافية عن كدر الرياء ورعونات الهوى مطلقا وتتصبر على مشاق التكاليف ومتاعب الطاعات والرياضات القالعة لمقتضيات القوى البشرية بجملتها ومشتهياتها الحظوظ البهيمية برمتها فلك ان تقتدى في سلوكك هذا اثر اولى العزائم من الرسل الكرام والأنبياء الأمناء العظام والكمل من الأولياء العرفاء الذين هم ورثة الأنبياء لتفوز بالدرجة القصوى والمرتبة العليا
[سورة محمد]
فاتحة سورة محمد صلّى الله عليه وسلم
لا يخفى على الفائزين من التوحيد الذاتي المحققين بانكشاف كيفية سريان الهوية الذاتية الإلهية في اعيان المظاهر الكونية والكيانية ان أكمل من تحقق بهذه الشهود وأتم من اتصف بهذا الانكشاف هو الحضرة الختمية الخاتمية المحمدية التي لا مرتبة أعلى واجمع من مرتبته صلّى الله عليه وسلّم ولذا ما بعث الى كافة الأمم وعامة البرايا احد سواه صلّى الله عليه وسلّم ولهذا ختم ببعثه صلّى الله عليه وسلّم امر الإرشاد والتكميل فمن كفر به صلّى الله عليه وسلّم وأنكر عليه فقد كفر بعموم مراتب الوجود وضل عن جميع الطرق الموصلة الى كعبة الذات وقبلة المقصود ومن آمن له صلّى الله عليه وسلّم فقد اهتدى بما هو المقصد والمرمى وليس وراء الله المنتهى لذلك اخبر سبحانه عن ضلال الكافرين به صلّى الله تعالى عليه وسلّم وانكار المنكرين عليه وعن إحباط أعمالهم وضياعها بعد ما تيمن باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى على المرتبة الختمية المحمدية بعموم أسمائه الحسنى وصفاته العليا الرَّحْمنِ لعموم عباده بإظهار مرتبته صلّى الله عليه وسلّم لتكون قبلة جميع مراتبهم ومشاربهم الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى وحدة ذاته بهدايته وإرشاده صلّى الله عليه وسلم
[الآيات]
الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبتوحيده وأنكروا على نبوة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ورسالته من عنده عنادا ومكابرة وَمع كفرهم وانصرافهم عن الهداية بأنفسهم قد صَدُّوا وصرفوا سائر الناس ايضا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وطريق توحيده الذي قد هدى اليه صلّى الله عليه وسلم وبعث لتبيينه وارشاد عموم عباده نحوه حسدا عليه صلّى الله عليه وسلّم وعلى من تبعه قد أَضَلَّ أحبط وأضاع سبحانه أَعْمالَهُمْ اى صوالحها التي قد أتوا بها طمعا للكرامة والمثوبة من لدنه سبحانه بعد ما كفروا به سبحانه وبرسوله صلّى الله عليه وسلّم إذ لا يثمر الأعمال الصالحة الا بالإيمان والتصديق بالله وبرسوله
وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله وبرسوله وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى الله وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ اى بعموم ما نزل عليه وَصدقوا ان جميع ما نزل اليه صلّى الله عليه وسلّم من عند ربه هُوَ الْحَقُّ الصدق المطابق للواقع النازل مِنْ رَبِّهِمْ بلا شك وتردد قد كَفَّرَ وأزال سبحانه عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ اى وبالها وعذابها اللاحق بها المستتبع إياها وَبالجملة أَصْلَحَ بالَهُمْ واحسن حالهم في الدين
ذلِكَ اى إضلال الكفرة وإصلاح المؤمنين بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وتركوا الحق الحقيق بالاتباع وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ النازل عليهم مِنْ رَبِّهِمْ لإصلاح حالهم في النشأتين وان يرشدهم الى ما هو خير لهم في الدارين كَذلِكَ اى مثل ذلك الذي سمعت من الإضلال والإصلاح بالنسبة الى كلا الفريقين يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ ويبين لهم أحوالهم المتواردة عليهم في أولاهم وأخراهم وبعد ما سمعتم ايها المؤمنون وخامة عاقبة الكفرة وضياع أعمالهم واحباطها
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا اى على أى وجه وحال فَضَرْبَ الرِّقابِ اى فعليكم ان تضربوا رقابهم مهما أمكن وان تقتلوهم بلا مبالاة بهم وبدمائهم سيما بعد رفع الهدنة والمصالحة فصيرورة أمرهم اما الى السيف واما الى الإسلام حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ اى اغلظتم وبالغتم في قتلهم فاسرتم بقاياهم فَشُدُّوا الْوَثاقَ والنكال على أسرائهم واحفظوهم مقيدين موثقين فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً اى تمنون عليهم منا فتطلقونهم رجاء ان تؤمنوا بدل ما تحسنون إليهم او تفدون منهم فداء على إطلاقهم وتخلون سبيلهم وبالجملة افعلوا ايها المؤمنون مع المشركين كذلك حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها اى تضع اهل الحرب من كلا الجانبين آلات الحرب والقتال وذلك لا يحصل الا بالمواخاة والايتلاف التام وتدين الجميع بدين الإسلام ذلِكَ اى الأمر من الله ذلك فافعلوا معهم كذلك لينال كل منكم ايها المؤمنون من الأجر والثواب مقدار ما قد اجتهدوا في ترويج الدين القويم وَالا لَوْ يَشاءُ اللَّهُ القادر المقتدر على انواع الانتقام لَانْتَصَرَ وانتقم مِنْهُمْ اى من المشركين بلا قتالكم وحرابكم وَلكِنْ انما يأمركم سبحانه بالقتال معهم لِيَبْلُوَا ويختبر سبحانه بَعْضَكُمْ ايها الناس المؤمنون بِبَعْضٍ اى بقتال بعض منكم وهو الكافرون لينال المؤمن بقتالهم وجهادهم الثواب الجزيل والأجر الجميل ويستوجب الكافر بمعاداة المؤمن العقاب العظيم والعذاب الأليم كل ذلك انما هو بتقدير العليم الحكيم. ثم قال سبحانه تبشيرا على المؤمنين الذين استشهدوا في سبيل الله وَاعلموا ايها المؤمنون الَّذِينَ قُتِلُوا مع اعداء الله فِي سَبِيلِ اللَّهِ لترويج دين الله او قتلوا منكم في سبيل الله باذلين مهجهم في ترويج دينه سبحانه على القراءتين فَلَنْ يُضِلَّ ولن يضيع سبحانه أَعْمالَهُمْ التي أتوا بها طلبا لمرضاة الله وتثبيتا لقلوبهم على الايمان بما نزل من عنده سبحانه بل
سَيَهْدِيهِمْ سبحانه ويرشدهم بعد ما جاهدوا واستشهدوا في سبيله الى زلال هدايته وتوحيده وَيُصْلِحُ بالَهُمْ بايصالهم الى غاية ما جبلوا لأجله في النشأة الاولى
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ التي قد عَرَّفَها لَهُمْ حين أمرهم بالجهاد ألا وهي الحياة الازلية الابدية الإلهية الموعودة للشهداء من عنده سبحانه بقوله ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يعنى دينه ورسوله يَنْصُرْكُمْ سبحانه على أعدائكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في جادة توحيده وصراط تحقيقه
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن نصر دينه ورسوله فَتَعْساً اى زلقا وعثورا وانحطاطا وسقوطا لَهُمْ عن الرتبة الانسانية وعن جادة العدالة الإلهية وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ واضاعها بحيث لا يفيدهم شيأ أصلا
ذلِكَ العثور والانحطاط لهم بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا اى أنكروا واستكرهوا مستكبرين عموم ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده في كتابه من الأوامر والنواهي المهذبة لظواهرهم وبواطنهم فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ بسبب كفرهم وكراهتهم
أَينكرون قدرة الله على الإحباط والإضلال فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر عباده مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وتحققوا في مقر توحيده لذلك يواليهم وينصرهم على أعاديهم ويحفظهم عما لا يعنيهم وَأَنَّ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والعناد لا مَوْلى لَهُمْ لينصرهم ويدفع عنهم ما يرديهم وبالجملة
إِنَّ اللَّهَ العليم الحكيم يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ متنزهات من المعارف والحقائق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الجارية من العلوم اللدنية المنتشئة من منبع الوحدة الذاتية يتلذذون تلذذا معنويا حقيقيا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بوحدة الحق وكمالاته المترتبة على شئونه وتجلياته يَتَمَتَّعُونَ بالحطام الدنيوية ويتلذذون باللذات البهيمية وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ويتلذذون بلا شعور لها باللذة الاخروية وَبالآخرة النَّارُ المعدة المسعرة مَثْوىً لَهُمْ ومحل قرارهم واستقرارهم
وَكَأَيِّنْ اى كثيرا مِنْ قَرْيَةٍ من القرى الهالكة هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً اى أهلها واكثر أموالا واولادا مِنْ اهل قَرْيَتِكَ الَّتِي قد أَخْرَجَتْكَ يا أكمل الرسل أهلها منها أَهْلَكْناهُمْ واستأصلناهم بسبب إخراجهم رسل الله من بينهم وتكذيبهم والاستكبار عليهم فَلا ناصِرَ لَهُمْ يظاهرهم او يدفع انتقامنا عنهم حين أخذنا إياهم فكذا انتقم عن هؤلاء المشركين المستكبرين عليك يا أكمل الرسل المخرجين إياك وقومك من بينهم ظلما وزورا يعنى مشركي مكة خذلهم الله ونغلب المؤمنين عليهم ونظهر دينك على كل الأديان وكيف لا ننصر ولا نظهر دينك
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ حجة واضحة آتية له مِنْ رَبِّهِ مبينة له امر دينه كَمَنْ زُيِّنَ اى حبب وحسن لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ بلا مستند عقلي او نقلي بل وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بمقتضى آرائهم الباطلة وأمانيهم الزائغة الزائلة بتغرير الشيطان واغوائه إياهم كلا وحاشا بل
مَثَلُ الْجَنَّةِ وشأنها العجيب الَّتِي قد وُعِدَ الْمُتَّقُونَ بها المجتنبون عن محارم الله المحترزون عن مساخطه على الوجه الذي بينهم الكتب وبلغهم الرسل الممتثلون بعموم ما أمروا من عنده سبحانه ونهوا عنه ايمانا واحتسابا عند ربهم هكذا لهم فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ هي العلوم اللدنية المحيية لهم بالحياة الازلية الابدية غَيْرِ آسِنٍ اى خالص عن كدر التقليدات والتخمينات الحادثة من مقتضيات القوى البشرية المنغمسة بالعلائق الجسمانية وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ من المحبة الذوقية والمودة الشوقية الإلهية المنتشئة من الفطرة الاصلية التي هم فطروا عليها في بدأ فطرتهم وظهورهم بحيث لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وذوقه بالميل الى الهوى والالتفات الى مزخرفات الدنيا وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ جذبة الهية وخطفة غيبية وشوق مفرط مسكر لهم محير لعقولهم من غاية استغراقهم بمطالعة جمال الله وجلاله بحيث لا يكتنه لهم وصفها لكونها من الأمور الذوقية الوجدانية التي لا يمكن التعبير عنها لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ حسب تفاوت اذواقهم ومواجيدهم وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ هي عبارة عن اليقين الحقي الذي لا شيء احلى منه وألذ عنه عند العارف المحقق المتحقق به مُصَفًّى عن شوب الاثنينية اللازمة لمرتبتى اليقين العلمي والعيني وَبالجملة لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ المستلزمة لانواع اللذات الروحانية وَاكبر من الكل
وَمِنْهُمْ اى من المستوجبين بخلود النار ابد الآباد مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل حين دعوتك وتذكيرك وجلسوا في مجلسك صامتين مبهوتين حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ وانصرفوا عن مجلسك قالُوا من كمال غفلتهم وذهولهم عنك وعن كلامك وكلماتك وعدم ادراكهم بما فيها واصغائهم إليها لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اى أصحابك المتذكرين عن كلامك الموفقين من عند الله على التصديق والإذعان بك وبكتابك ماذا قالَ اى أىّ شيء قال صاحبكم آنِفاً في هذا المجلس مع انهم معهم أُولئِكَ الأشقياء البعداء عن ساحة عز القبول هم الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وختم على سمعهم وأبصارهم وَلهذا قد اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وتركوا هدايتك يا أكمل الرسل ولم يقتبسوا النور من مشكاة النبوة ولم يلتفتوا الى هداية القرآن بل استهزؤا معه ومع الرسول عليه السلام المنزل اليه
وَالمؤمنون الَّذِينَ اهْتَدَوْا بهدايته صلّى الله عليه وسلّم قد زادَهُمْ استماع القرآن هُدىً على هدى وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ وبين لهم ما يعينهم على سلوك طريق التوحيد ويجنبهم عما يغويهم عن منهج الحق وصراط التحقيق وبالجملة
فَهَلْ يَنْظُرُونَ وما ينتظرون أولئك المطرودون المطبوعون في عموم أوقاتهم وحالاتهم إِلَّا السَّاعَةَ الموعودة أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فجاءة وكيف لا تأتيهم الساعة فَقَدْ جاءَ وظهر أَشْراطُها اى بعض اماراتها وعلاماتها التي من جملتها بعثة الحضرة الختمية الخاتمية المحمدية إذ ظهوره متمما لمكارم الأخلاق ومكملا لأمر التشريع والإرشاد من دلائل انقضاء نشأة الكثرة وطلوع شمس الوحدة الذاتية من آفاق ذرائر الكائنات وكيف ينتظرون الساعة ولا يهيئون اسبابها قبل حلولها وان تأتهم بغتة فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ اى كيف يفيد التذكر والاتعاظ وقت إذا جاءتهم الساعة فجاءة ومن اين يحصل لهم التدارك والتلافي حينئذ وبعد ما سمعتم حال الساعة وحلولها بغتة
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ اى فاثبت أنت يا أكمل الرسل على جادة التوحيد الذاتي والتمكن على صراط الحق في عموم أوقاتك وحالاتك واشهد ظهور شمس الذات على صفائح عموم الذرات وشاهد انقهار جميع المظاهر والمجالى في وحدة ذاته واهد جميع من تبعك من المؤمنين الى هذا المشهد العظيم الذي هم فطروا عليه وجبلوا لأجله وَاسْتَغْفِرْ
في عموم أوقاتك لِذَنْبِكَ الذي صدر عنك أحيانا من الالتفات الى ما سوى الحق من العكوس والاظلال وَاستغفر ايضا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إذ أنتم كفيلهم وهاديهم الى طريق التوحيد وأمرهم ايضا بالاستغفار والاستعفاء لعل الله يغفر لهم ويوصلهم الى فضاء قربته وجنة وحدته وَبالجملة اللَّهُ المحيط بعموم أحوالكم ونشأتكم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري مُتَقَلَّبَكُمْ اى موضع تقلبكم وانقلاباتكم في دار الاختبار ونشأة التلون والاعتبار وَمَثْواكُمْ اى موضع اقامتكم وتمكنكم في دار الاقامة
وَمن معظم زاد يوم المعاد الجهاد مع جنود اعداء الله في الأنفس والآفاق لذلك يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا من شدة حرصهم وشغفهم على القتال وترويج كلمة التوحيد وإعلاء دين الإسلام لَوْلا وهلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ مشتملة على الأمر بالجهاد حتى نجاهد في سبيل الله ونبذل غاية وسعنا في ترويج دينه فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ بمقتضى ما تمناها المخلصون وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ اى امر به فيها على البت واستبشر المؤمنون المخلصون بنزولها واستعدوا لامتثالها وقبول ما فيها رَأَيْتَ يا أكمل الرسل حينئذ المنافقين الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ راسخ وضعف مستقر مستمر يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ حين تلاوتك وتبليغك إياهم ما يوحى إليك من ربك نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ يعنى قد صاروا حين سمعوا الأمر بالقتال من كمال نفاقهم وشقاقهم كأنهم قد أشرفوا على الموت وظهرت عليهم اماراته بحيث قد شخصت أبصارهم من أهواله جبنا من القتال وبغضا وحسدا على غلبتك وظهور دينك وبالجملة فَأَوْلى لَهُمْ اى قد قرب لهم ويلهم وحاق وأحاط بهم ما يكرهون ويخافون منه أولئك الأشقياء المردودون مع ان الأليق والاولى بحالهم في هذه الحالة
طاعَةٌ اى انقياد واطاعة وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ مقبول مستحسن عند ذوى العقول والمروات وارباب الفتوات لو صدر عنهم هذا لكان خيرا لهم وأليق بحالهم لو كانوا مؤمنين موقنين وبالجملة فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ اى جد ولزم امر القتال لأصحابه وجزموا له فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ المطلع بما في ضمائرهم ونياتهم فيما أظهروا من الحرص والجرأة على القتال مثل المؤمنين المخلصين لَكانَ الصدق والثبات على العزيمة خَيْراً لَهُمْ في أولاهم وأخراهم ولما لم يصدقوا ولم يثبتوا على ما أملوا من طلب القتال فقال
فَهَلْ عَسَيْتُمْ وما يتوقع منكم وما يلوح من ظاهر حالكم وما قاربتم أنتم ايها المنافقون المسرفون الكاذبون انكم إِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عن الإسلام واستوليتم على الأنام أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ المعدة للصلاح والسداد وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ من المؤمنين المجبولين على فطرة التوحيد والإسلام مع انكم مجبولون على القطع وعدم الوصلة حقيقة وبالجملة
أُولئِكَ الأشقياء المعرضون عن الهداية والرشد الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ العليم الحكيم وطردهم عن ساحة عز حضوره فَأَصَمَّهُمْ لهذه الحكمة والمصلحة عن استماع دلائل توحيده وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ ايضا عن مشاهدة آيات ألوهيته وربوبيته الظاهرة على صفحات الأنفس والآفاق
أَيصرون أولئك المسرفون المصرون على الاعراض والانصراف عن الهدى فَلا يَتَدَبَّرُونَ ولا يتصفحون الْقُرْآنَ ولا يتأملون ما فيه من المواعظ والتذكيرات المفيدة لهم الموصلة الى الهداية والنجاة عن اهوال يوم القيامة حتى ينزجروا عن ارتكاب المعاصي وينصرفوا عن الميل إليها أَمْ عَلى قُلُوبٍ يعنى بل مختومة على قلوبهم أَقْفالُها مطبوعة عليها آثامها وآثارها لذلك لا تأثر لهم من القرآن ومواعيده مع انهم آمنوا له قبل نزوله على ما وجدوا في كتبهم نعته ونعت من انزل اليه وعرفوا أحكامه ومع ذلك أنكروا عليه وارتدوا عنه عنادا ومكابرة وبالجملة
إِنَّ المسرفين المفسدين الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ سيما مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ ولاح لَهُمُ الْهُدَى والرشد وجزموا بحقيته وحقية ما فيه من الاحكام والعبر والمواعظ الشَّيْطانُ المغوى قد سَوَّلَ لَهُمْ اى حسن وزين لهم الارتداد عن الحق تغريرا وتلبيسا سيما بعد ما وضح لهم حقيته وَأَمْلى لَهُمْ بتسويلاته خلاف ما ظهر عليهم من ألسنة كتبهم ورسلهم
ذلِكَ
فَكَيْفَ يحتالون ويمكرون إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ المأمورون لقبض أرواحهم يَضْرِبُونَ حينئذ وُجُوهَهُمْ جزاء ما توجهوا بها نحو الباطل وَأَدْبارَهُمْ جزاء مما انصرفوا بها عن الحق
ذلِكَ التوفي على وجه العبرة بِأَنَّهُمُ قد اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الاعراض عن طريق الحق ومتابعة اهله وَكَرِهُوا بمقتضى اهويتهم الفاسدة رِضْوانَهُ اى ما رضى عنه سبحانه من الأوامر والنواهي المنزلة على ألسنة رسله وكتبه وبعد ما خالفوا امر الله وامر رسله فَأَحْبَطَ سبحانه بمقتضى قهره وجلاله أَعْمالَهُمْ اى صوالح أعمالهم بحيث لا يترتب عليها الجزاء الموعود كما يترتب على صالحات اعمال المطيعين
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مستقر وحسد مؤبد وشكيمة شديدة مع الله ورسوله والمؤمنين أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ ولن يبرز ويظهر ابدا أَضْغانَهُمْ وأحقادهم التي اضمروها في نفوسهم
وَلم يعلموا انا لَوْ نَشاءُ تفضيحهم لَأَرَيْناكَهُمْ وبصرنا عليك يا أكمل الرسل عموم ما اضمروا في نفوسهم فَلَعَرَفْتَهُمْ أنت حينئذ بِسِيماهُمْ بمجرد ابصارك إياهم لظهور ما في صدورهم من الغل عن وجوههم وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ أنت نفاقهم وشقاقهم فِي لَحْنِ الْقَوْلِ الباطل الذي قد صدر عنهم مغشوشا مزخرفا وبعد ما نزل هذه الآية لا يتكلم منافق عند النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا عرفه ويستدل بكلامه على ما في ضميره من الفساد والنفاق وَبالجملة اللَّهُ المطلع بعموم احوال عباده يَعْلَمُ منكم أَعْمالَكُمْ ونياتكم فيها ومقاصدكم عنها فيجازيكم على مقتضى علمه. ثم قال سبحانه مقسما
وَالله لَنَبْلُوَنَّكُمْ ونختبرنكم ايها المجبولون على فطرة الإسلام بالتكاليف الشاقة والأوامر الشديدة حَتَّى نَعْلَمَ اى نفرق ونميز الْمُجاهِدِينَ المجتهدين مِنْكُمْ ببذل الوسع والطاقة على امتثال المأمور به وَالصَّابِرِينَ المرابطين قلوبهم بحبل الله وتوحيده الموطنين نفوسهم بالرضاء بجميع ما جرى عليهم من القضاء وَنَبْلُوَا ايضا أَخْبارَكُمْ التي صدرت عنكم وقت تكليفنا إياكم إذ الاخبار منتشئة عن الضمائر والأسرار وبالجملة
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الله واعرضوا عن مقتضيات تكاليفه الصادرة عن الحكمة البالغة الإلهية وَمع كفرهم وضلالهم في أنفسهم قد صَدُّوا وصرفوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ضعفاء عباده وَمع ذلك شَاقُّوا اى قد خالفوا وخاصموا الرَّسُولَ المرسل من عنده سبحانه المبعوث إليهم للإرشاد والتكميل لا عن شبهة صدرت عنه تدل على كذبه وافترائه بل مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى وثبت عندهم هدايته عقلا ونقلا ومع ظهور صدقه وهدايته كذبوه وانا وظلما وبواسطة هذه الجرأة على الله ورسوله لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ المنزه في ذاته عن ان يكون معروضا للنفع والضرر شَيْئاً من الضر والإضرار بل وَسَيُحْبِطُ ويضيع سبحانه بأمثال هذه الجرائم والآثام أَعْمالَهُمْ الصادرة عنهم لتثمر لهم الثواب فانقلب الأمر عليهم فتثمر لهم العقاب
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا وصرفوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَالحال انه هُمْ كُفَّارٌ مصرون معاندون على ما هم عليه طول عمرهم فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ابدا لاشراكهم بالله وخروجهم عن ربقة عبوديته بمتابعة اهويتهم الباطلة وآرائهم الفاسدة وبعد ما أطعتم الله ورسوله ايها المؤمنون واخلصتم في إطاعتكم وانقيادكم ثقوا واعتصموا بحبل توفيقه ونصره
فَلا تَهِنُوا ولا تضعفوا عن الجهاد والمقاتلة وَلا تَدْعُوا ولا تركنوا إِلَى السَّلْمِ والصلح معهم وَبالجملة لا تجبنوا ولا تفتروا أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الغالبون الأغلبون ايها الموحدون المحمديون إذ الحق يعلو ولا يعلى عليه وكيف لا تتصفون أنتم بصفة العلو والغلبة وَاللَّهُ المحيط بكم مَعَكُمْ لا على وجه المقارنة والاتحاد ولا على سبيل الحلول والامتزاج بل على وجه البروز والظهور ورش النور وامتداد اظلاله عليكم وانعكاسكم منهما وَبعد ما صار الحق معكم على الوجه المذكور لَنْ يَتِرَكُمْ ولن يضيع عليكم أَعْمالَكُمْ التي قد جئتم بها مخلصين طلبا لمرضاة الله وهربا عن مساخطه إذ الموحد المعتدل دائما بين الخوف والرجاء وكيف لا يكون كذلك إذ هو مستو على متن الصراط المستقيم الموضوع بالوضع الإلهي المبنى على العدالة الذاتية الإلهية التي هي أدق وارق من كل دقيق ورقيق. وبعد ما قد سمعت صفة صراط ربك يا أكمل الرسل فاعلم ان موانع العبور عنه والاستقامة عليه ليس الا الدنيا ومزخرفاتها
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا اى ما اللذة المستعارة فيها الا لَعِبٌ يلعب بها أبناء بقعة الإمكان وهم غافلون عن حقيقتها وَلَهْوٌ يلهى ويحير قلوبهم في تيه الغفلة والضلال وهم تائهون فيه ساهون ذاهلون عما ظهر وترتب عليها وَبعد ما سمعتم ايها المكلفون نبذا من أوصاف دنياكم إِنْ تُؤْمِنُوا بوحدة الحق وبكمالات أسمائه وصفاته الظاهرة آثارها على هياكل الهويات المستحدثة في الكائنات وتتوكلوا عليه مفوضين أموركم كلها اليه وتتخذوه وكيلا وتأخذوه كفيلا وتعتصموا بحبل توفيقه ثقة عليه واعتمادا له وَتَتَّقُوا يعنى وان تحفظوا نفوسكم من الميل الى ما سوى الحق من الأماني العاطلة الامكانية والآمال العائقة الدنية الدنياوية المثمرة لغضب الحق بمقتضى قدرته الجليلة يُؤْتِكُمْ حسب ارادته الجميلة أُجُورَكُمْ التي استوجبتم أنتم بصوالح أعمالكم ويزد عليكم من لدنه سبحانه تفضلا وإحسانا ما لا مزيد عليه من اللذات الروحانية وَمع ذلك العطية العظيمة والكرامة الكريمة الكبيرة لا يَسْئَلْكُمْ ولا يطلب منكم بمقابلة ما أفاض عليكم من الكرامات أَمْوالَكُمْ اى جميعها بل مقدار ما يزكى بها نفوسكم ويطيب قلوبكم من الشح المفرط والميل المتبالغ الى الدنيا ومزخرفاتها كي تتصفوا بالجود والكرم الذي هو من الأخلاق الإلهية المأمور لكم التخلق بها فكيف
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها ويطلب منكم سبحانه جميعها فَيُحْفِكُمْ ويبالغ عليكم في طلب جميع ما اقترفتم تَبْخَلُوا أنتم البتة ولا تعطوها على الله ورسوله بل تضمروا الحقد والإنكار بل وَيُخْرِجْ اى يبرز ويظهر بخلكم وحقدكم هذا أَضْغانَكُمْ وشكائمكم التي أنتم تضمرونها في نفوسكم بالنسبة الى الله ورسوله وبالجملة
ها أَنْتُمْ ايها الحمقى الغافلون عن مقتضى الألوهية والربوبية هؤُلاءِ البخلاء المغرورون بحطام الدنيا الدنية المغمورون في لذاتها وشهواتها الفانية العائقة عن اللذات الاخروية انما تُدْعَوْنَ