ﰡ
(١) - الحَمْدُ وَالشُّكْرُ للهِ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَنْ فِيِهِنَّ، وَجَعَلَ الأَرْضَ قَراراً للنَّاسِ، فَهُوَ المُسْتَوْجِبُ لِلْحَمْدِ عَلَى أَنْعُمِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَهُوَ الذِي خَلَقَ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ وَنُورَ النَّهَارِ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: المُرادُ بِالظُّلْمَةِ وَالنُّورِ هُنَا الكُفْرُ والإِيْمَانُ)، وَمَعَ وُضُوحِ ذلِكَ لِكُلِّ ذِي بَصِيرَةٍ فَإنَّ الذِينَ كَفَرُوا يَعْدِلُونَ باللهِ سِوَاهُ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ وَالكَوَاكِبِ وَالمَخْلُوقَاتِ الأُخْرَى، وَيُسَوُّونَهُمْ بِهِ في العِبَادَةِ، مَعَ أنَّ هؤُلاءِ الأَرْبَابَ والشُّرَكَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً.
جَعَلَ - أَنْشَأَ وَأَبْدَعَ وَخَلَقَ.
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ - يُسَوُّونَ غَيْرَهُ بِهِ فِي العِبَادَةِ.
قَضَى أَجَلاً - قَدَّرَ زَمَاناً مُعَيَّناً لِلمَوتِ.
أَجَلٌ مُسَمَّى عِنْدَهُ - زَمَنٌ مُعَيَّنٌ لِلْبَعْثِ اسْتَأْثَرَ تَعَالَى بِعِلْمِهِ.
تَمْتَرُونَ - تَشُكُّونَ فِي البَعْثِ أَوْ تُنْكِرُونَهُ.
(٣) - وَهُوَ اللهُ الذِي يَعْبُدُهُ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَيَدِينُونَ لَهُ الالُوهِيَّةِ، رَغَباً وَرَهَباً، وَلا يَشُذُّ عَنْ ذلِكَ إِلاَّ مَنْ كَفَرَ مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ، وَهُوَ تَعَالى يَعْلَمُ مَا يُسِرُّ الخَلْقُ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَيَعْلَمُ جَمِيعَ مَا يَعْمَلُهُ الخَلْقُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍ، وَهُوَ يُحْصِيهِ عَلَيْهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيهِ يَوْمَ الحِسَابِ.
(٤) - وَمَا تَنْزِلُ عَلَى المُشْرِكِينَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ القُرْآنِ تَلْفِتُ أَنْظَارَهُمْ إلى مَا أَبْدَعَهُ الخَالِقُ مِنْ صُنْعٍ فِي خَلْقِهِ هذا الكَوْنَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى وَحدَانِيَّتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالأُلُوهِيَّةِ، وَعَلى صِدْقِ مَا أَرْسَلَ بِهِ الأَنْبِياءَ، إلاَّ أَعْرَضَ عَنْهَا هؤُلاءِ الكَفَرَةُ المُكَذِّبُونَ، اسْتِهزاءً غَيْرَ مُتَدَبِّرِينَ مَعْنَأها، وَلا مُتَفَكِّرِينَ فِي دَلاَلَتِها.
(٥) - وَبِسَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِي الآيَاتِ، وَالتَّفْكُرِ فِيهَا، فَقَدْ كَذَّبُوا بِدِينِ اللهِ الحَقِّ، لَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَلَمْ يَتَرَيَّثُوا، وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا مَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَهُدًى، وَسَيَرَوْنَ عَاقِبَةَ التَّكْذِيبِ وَالاسْتِهْزاءِ، حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ العُقُوبَاتُ العَاجِلَةُ، التِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الآيَاتُ: مَنْ نَصْرِ الرَّسُولِ، وَإِظْهَارِ دِينِ اللهِ، وَإِعْزَازِ الإِسْلاَمِ وَأَهْلِهِ...
أَنْبَاءُ - أَخْبَارُ - وَهِيَ هُنَا مَا يَنَالُهُمْ مِنَ العُقُوبَةِ.
(٦) - يَلْفِتُ اللهُ تَعَالَى أَنْظَارَ الكُفَّارِ مِنْ قُرَيْشَ، المُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَرُسُلِهِ، إِلَى الأُمَمِ العَدِيدَةِ التِي كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ رُسُلَهَا، فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ، وَكَانَ تَعَالَى قَدْ مَكَّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ أَكْثَرَ مِمَّا مَكَّنَ لِهَؤُلاءِ المُكَذِّبِينَ، وَأَمَدَّهُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، وَجَعَلَهُمْ أَ: ْثَرَ قُوَّةً وَعِمَارَةً فِي الأَرْضِ مِنْ هؤُلاءِ، وَجَعَلَ السَّمَاءَ تُمْطِرُهُمْ بِصُورَةٍ مُتَتَالِيةٍ، مَطَراً غَزِيراً (مِدْرَاراً)، وَفَجَّرَ لَهُمْ مِنَ الأَرْضِ يَنَابِيعَ وَأَنْهَاراً، اسْتِدْرَاجاً لَهُمْ وَإِمْلاءً، ثُمَّ أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ، وَجَعَلَهُمْ كَأَمْسِ الدَّابِرِ. وَجَعَلَ، مِنْ بَعْدِ هؤُلاءِ الهَالِكِينَ، أَجْيَالاً أُخْرَى (قَرْناً آخَرِينَ) لِيَخْتَبِرَهُمْ، فَعَمِلُوا مِثْلَ أَعْمَالِ مَنْ كَانُوا قَبْلَهُمْ، فَاحذَرُوا أَيُّهَا المُخَاطِبُونَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُمَا أَصَابَهُمْ، فَمَا أَنْتُمْ بِأَعَزَّ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ، وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالعَذّابِ وَمُعَاجَلَةِ العُقُوبَةِ مِنْهُمْ، لَوْلا لُطْفُ اللهِ وَإِحْسَانُهُ.
كَمْ أَهْلَكْنَا - كَثِيراً مَا أَهْلَكْنَا.
قَرْنٍ - أُمَّةٍ أَوْ جِيلٍ مِنَ النَّاسِ.
مَكَّنَّاهُمْ - أَعْطَيْنَاهُمْ مِنَ المُكْنَةِ وَالقُوَّةِ.
مِدْراراً - غَزِيراً كَثِيرَ الصَّبِّ أَوْ مَتَتَابِعاً.
(٧) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عِنَادِ المُشْرِكِينَ وَتَعَنُّتِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ لِلْحَقِّ، فَيَقُولُ تَعَالَى: إنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ كِتَاباً مَسْطُوراً فِي وَرَقٍ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يُكْتَبُ عَلَيْهِ (قِرْطَاسٍ)، وَعَايَنُوهُ وَرَأَوْا نُزُولَهُ بِأَعْيُنِهِمْ، وَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقَالَ الكَافِرُونَ إنَّ هَذا لَسِحْرٌ وَاضِحٌ.
كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ - كِتَاباً مَكْتُوباً فِي وَرَقٍ أَوْ رَقٍّ مِمَّا يُكْتَبُ عَلَيْهِ.
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاءِ القَائِلِينَ قَائِلاً: إنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ مَلَكاً، كَمَا اقْتَرَحُوا، وَلَمْ يُؤْمِنُوا لَقُضِيَ الأَمْرُ بِإِهْلاَكِهِمْ، ثُمَّ لاَ يُؤَخَّرُونَ وَلاَ يُمْهَلُونَ لِيُؤْمِنُوا، بَلْ يَأْخُذُهُمُ العَذَابُ عَاجِلاً، كَمَا مَضَتْ بِذَلِكَ سُنَّةُ اللهِ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ المُكَذِّبِينَ.
هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ رَدّاً عَلَى عَدَدٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ أنْ وَعَظَ النَّاسَ وَأَبْلَغَهُمْ مَا أَمَرَهُ رَبُّهُ بِإِبْلاَغِهِ إلَيْهِمْ: (لَوْ جَعَلَ مَعَكَ يَا مُحَمَّدُ مَلَكٌ يُحَدِّثُ عَنْكَ النَّاسَ، وَيُرى مَعَكَ).
لاَ يُنظَرُونَ - لا يُمْهَلُونَ لَحْظَةً بَعْدَ إِنْزَالِهِ.
(٩) - وَلَوْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الرَّسُولَ مَلَكاً، لَجَعَلَهُ مُتَمَثِّلاً بِصُورَةِ رَجُلٍ مِنَ البَشَرِ، لِيَتَمَكَّنُوا هُمْ مِنْ رُؤْيَتِهِ، وَلِيَتَمَكَّنَ هُوَ مِنْ مُخَاطَبَتِهِمْ وَالحَدِيثِ مَعَهُمْ، لِيُبَلِّغُهُمْ رِسَالاَتِ رَبِّهِ. وَلَوْ جَعَلَ اللهُ المَلَكَ الرَّسُولَ فِي صُورَةِ البَشَرِ لالْتَبَسَ الأَمْرُ عَلَيْهِم لاعْتِقَادِهِمْ أنَّهُ بَشَرٌ، لأنَّهُمْ لاَ يُدْرِكُونَ مِنْهُ إلاَّ صُورَتَهُ وَصِفَاتِهِ البَشَرِيَّةَ التِي يَتَمَثَّلُ لَهُمْ بِهَا، كَمَا يَلْتَبِسُ الأَمْرُ عَلَيهِم الآنَ فِي قَبُولِ رَسُولٍ مِنَ البَشَرِ.
لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ - لَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ وَأَشْكَلْنَا عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ مَا يَخْلِطُونَ عَلَى أَنْفُسِهِم اليَوْمَ.
(١٠) - ويُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ عَمَّا يُلاقِيهِ مِنْ عِنَادِ الكُفَّارِ وَتَكْذِيبِهِمْ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى البَاطِلِ، فَيَقُولُ لَهُ: لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ جَاؤُوا قَبْلَكَ، وَسَخِرَ مِنْهُمُ الكَافِرُونَ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَمِنَ العِقَابِ الذِي أَنْذَرُوهُمْ بِهِ، فَعَاقَبَ اللهُ الذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ فَدَمَّرَهُم، وَنَصَرَ رُسُلَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، وَكَانَتِ العَاقِبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدَّنْيا وَالآخِرَةِ.
حَاقَ - أَحَاطَ أَوْ نَزَلَ.
(١١) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لأُولَئِكَ المُكَذِّبِينَ المُسْتَهْزِئِينَ الجَاحِدِينَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ: سِيرُوا فِي الأَرْضِ، وَتَتَبَّعُوا أَخْبَارَ الأُمَمِ التِي عَاشَتْ فِيهَا، ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَتْ نِهَايَةُ المُكَذِبِينَ، وَعَاقِبَةُ بَغْيِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، فَاعْتَبَرُوا بِذَلِكَ المَصِيرِ.
(١٢) - قُلَ يَا أَيُّها الرَّسُولُ لِقَوْمِكَ المُكَذِبِينَ الجَاحِدِينَ لِرِسَالَتِكَ، المُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَتِكَ: لِمَنْ هَذِهِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضُ، وَمَنْ خَلَقَها؟ وَبِمَا أنَّ مُشْرِكِي العَرَبِ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَأنَّه مَالِكُهَا المُتَفَرِّدُ، وَأَنَّ الخَلْقَ كُلَّهُمْ عَبيدُهُ، فَسَيَقُولُونَ: إنَّهُ اللهُ، وَهَذَا لاَ خِلاَفُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فِيهِ، فَقُلْ لَهُمْ: إنَّ اللهَ الذِي تُقِرُّونَ بِمُلْكِهِ لِلْكَوْنِ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ بِخَلْقِهِ، إذ أَفَاضَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا، وَمِنْ مُقْتَضَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ أنْ لا يُعَجِّلَ العُقُوبَةَ لِلْنَّاسِ، وَأَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهُمْ، إذَا تَابُوا وَعَمِلُوا أَعْمَالاً صَالِحَةً، وَأَنَّهُ سَيَجْمَعُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ- وَهُوَ يَوْمٌ آتٍ قَرِيبٌ لاَ شَكَّ فِيهِ وَلاَ رَيْبَ - لِلْحِسَابِ وَالجَزَاءِ، لِيَنَالَ كُلَّ وَاحِدٍ الجَزَاءَ العَادِلَ عَنْ عَمَلِهِ، إنْ خَيْراً فَخَيْراً، وَإنْ شَرّاًُ فَشَرّاً.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى أنْ بَيَّنَ لِعِبَادِهِ هَذَا، لِيَحْذَرُوا، وَليُحْسِنُوا العَمَلَ، فَلَوْلاَ خَوْفُ النَّاسِ مِنَ العِقَابِ وَالحِسَابِ لَسَادَ الفَسَادُ فِي الأَرْضِ، وَلانْتَشَرَ الظُّلْمُ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أنَّ الذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيا بِالكُفْرِ، وَالتَّقْلِيدِ وَالتَّرَدُّدِ.. لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ، لأنَّهُمْ لاَ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِيمَا خَلَقَهَا اللهُ لَهُ مْنَ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالاتِّعَاظِ.
كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ - قَضَى وَأَوْجَبَ، تَفَضُّلاً مِنْهُ وَإِحْسَاناً، الرَّحْمَةَ عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ.
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ - أَهْلَكُوهَا وَغَبَنُوهَا بِالكُفْرِ.
(١٣) - واللهُ تَعَالَى هُوَ المُتَصَرِّفُ فِي الخَلْقِ كُلِّهٍ دَقِيقِهِ وجَلِيلِهِ، كَمَا يَشَاءُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الرُّبُوبِيَّةُ الكَامِلَةِ، وَجَمِيعِ مَا فِي الوُجُودِ عِبَادٌ للهِ، وَخَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُمْ تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْكَانِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَقَدْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيءٍ مِنْ حَرَكَاتِ العِبَادِ، وَمِمَّا يُسِرُّونَ فِي ضَمَائِرِهِمْ.
مَا سَكَنَ - مَا اسْتَقَرَّ وَحَلَّ.
(١٤) - قُلْ لَهُمْ: إنَّنِي لاَ أَطْلُبُ مِنْ غَيْرِ اللهِ نَفْعاً وَلاَ ضَراً، وَلاَ فِعْلاً وَلاَ مَنْعاً، وَلاَ أتَّخَذَ غَيْرَهُ تَعَالَى وَلَيّاً لِي، فَهُوَ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَخَالِقُهُما وَمُبْدِعُهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ.
وَهُوَ الذِي يَرْزُقُ العِبَادَ الطَّعَامَ، وَلَيْسَ هُوَ بِحَاجَةٍ إلَى مَنْ يَرْزُقُهُ وَيُطْعِمُهُ، لأنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الحَاجَةِ إلى كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَقُلْ لَهُمْ بَعْدَ أَنِ اسْتَبَانَتْ لَهُمُ الأَدِلَّةُ عَلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ: لَقَدْ أَمَرَنِي رَبِّي، جَلَّ شَأْنُهُ وَعَلاَ، أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ، وَانْقَادَ لأَمْرِهِ، مِنْ تِلْكَ الأُمَّةِ التِي بُعِثْتُ فِيهَا، فَلاَ أَدْعُو إلَى شَيءٍ إلاَّ كُنْتُ أَنَا أَوْلَ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَقَدْ أَمَرَنِي رَبِّي بِألاَّ أَكُونَ مِنَ المُشْرِكِينَ الذِينَ اتَّخَذُوا أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى.
وَلِيّاً - مَعْبُوداً وَنَاصِراً وَمُعِيناً.
فَاطِرِ - خَالِقِ وَمُبْدِعِ.
هُوَ يُطْعِمُ - هُوَ يَزْرُقُ عِبَادَهُ.
مَنْ أَسْلَمَ - مَنْ خَضَعَ للهِ بِالعُبُودِيَّةِ وَانْقَادَ لَهُ.
(١٦) - وَمَنْ يُحَوَّلُ عَنْهُ العَذَابُ فِي ذلِكَ اليَوْمِ العَصِيبِ (يُصْرَفْ عَنْهُ)، فَيَكُونُ اللهُ تَعَالَى قَدْ رَحِمَهُ، وَأَدْخَلَهُ الجَنَّةً، وَإِنَّ النَجَاةَ فِي ذلِكَ اليَوْمِ العَظِيمِ مِنَ العَذَابِ، ثُمَّ دُخُولَ الجَنَّةِ، هُمَا الفَوْزُ الذِي لاَ فَوزَ أَعْظَمُ مِنْهُ.
صُرِفَ عَنْهُ - جُنِّبَهُ وأُبْعِدَ عَنْهُ.
القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ - المُسَيْطِرُ عَلَيْهِمْ.
(١٩) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ بِأنْ يَسْأَلَ كُفَّارَ قٌرَيشٍ عَنْ أَيِّ شَهَادَةٍ هِيَ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ، وَأَجْدَرُ بِأنْ تَكُونَ أَصَحَّ الشَّهَادَاتِ وَأَصْدَقَها؟ ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِأنْ يُجِيبَ عَلَى هَذا السُّؤَالِ: بِأنَّ أَكْبَرَ الأَشْيَاءِ شَهَادَةً هُوَ مِنْ لاَ يَجُوزُ أنْ يَقَعَ فِي شَهَادَتِهِ كَذِبٌ وَلاَ خَطَأٌ وَلاَ زُورٌ، وَهُوَ اللهُ تَعَالَى، وَهُوَ الشَّهِيدُ بَيْنِي وَبَيْنَكُم، وَهُوَ الذِي أَوْحَى إليَّ هَذا القُرْآنَ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ عِقَابَهُ عَلَى تَكْذِيبِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، مُؤَيَّداً بِشَهَادَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَأُنْذِرَ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ هَذَا القُرْآنُ، لأنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ فَهُوَ مَدْعُوٌ إلى اتِّبَاعِهِ حَتَّى تَقُومَ القِيَامَةُ. وَشَهَادَتُهُ تَعَالَى هِيَ شَهَادَةُ آيَاتِهِ فِي القُرْآنِ، وَآيَاتِهِ فِي الأنْفُسِ وَالأَكْوَانِ، وَآيَاتِهِ فِي العَقْلِ وَالوِجْدَانِ.
(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " بَلِّغُوا عَنِ اللهِ فَمَنْ بَلَغَتْهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ فَقَدْ بَلَغَهُ أَمْرُ اللهِ ").
ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَنْ يَقُولَ لِهَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ: إنْ كُنْتُمْ تَشْهَدُونَ أنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى، فَأَنَا لاَ أَشْهَدُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ إلهٌ وَاحِدٌ، خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ، وَخَضَعَ لَهُ كُلَّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْدَادِ وَالأَوْثَانِ.
مَنْ بَلَغَ - مَنْ بَلَغَهُ القُرْآنُ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ.
(٢٠) - إنَّ أَهْلَ الكِتَابِ يَعرِفُونَ أنَّ مُحَمَّداً خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالرُّسُلِ، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبنَاءَهُمْ، بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الأَخْبَارِ وَالأَنْبَاءِ، عَنِ الأَنْبِيَاءِ المُتَقَدِّمِينَ، فَقَدْ بَشَّرَ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ وَنَعْتِهِ، وَصِفَتِهِ وَمَكَانِ هِجْرَتِهِ، وَصِفَةِ أُمَّتِهِ... وَالذِينَ أَنْكَرُوا نُبوَّةَ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتَهُ مِنْ عُلَمَاءِ اليَهُودِ، عِلَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ كَعِلَّةِ مَنْ أَنْكَرُوهَا مِنْ زُعَمَاءِ المُشْرِكِينَ، وَهِيَ الخَوْفَ مِنْ فُقْدَانِ الزَّعَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ، لِذَلِكَ فَإنَّ هَؤُلاءِ يُعَدُّونَ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لإيثَارِهِمِ الجَاهَ وَالرِّيَاسَةَ عَلَى الإيمَانِ بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ، الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً فِي كُتُبِهِمْ.
(٢١) - لاَ أَحَدَ أَكْثَرُ ظُلْماً مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً، كَمَنْ زَعَمَ أنَّ لَهُ وَلَداً أَوْ شَرِيكاً... أَوْ زَادَ فِي دِينِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، أَوْ كَذَّبِ بِآيَاتِهِ المُنَزَّلَةِ كَالقُرْآنِ، أَوْ آيَاتِهِ الكَوْنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، أَوْ التِي يُؤَيِّدُ بِهَا رُسُلَهُ الكِرَامَ...
وَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً، أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ يَكُونُ أَظْلَمَ الظَّالِمِينَ، وَلاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يَوْمَ الحِسَابِ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ فِي النَّارِ، وَلا يَفُوزُونَ بِنَعِيمِ اللهِ فِي الجَنَّةِ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ المُشْرِكِينَ حِينَ يَرَوْنَ، يَوْمَ القِيَامَةِ، أنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلاَّ أَهْلُ الإيمَانِ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍِ: (تَعَالُوْا نَجْحَدْ)، فَيَقُولُونَ: (وَاللهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، فَيَخْتِمُ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَتَشْهَدُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً).
(وَقِيلَ إنَّ المَعْنَى هُوَ: إنَّ المُشْرِكِينَ كَانُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا مَفْتُونِينَ بِشِرْكِهِمْ، مُتَهَالِكِينَ فِي حُبِّهِ، وَالقِتَالِ دُونَهُ، وَحِينَ يَرَوْنَ العَذَابَ تَكُونُ عَاقِبَةُ هَذَا الشِّرْكِ الجُحُودَ بِهِ، وَالتَّبَرُّؤ مِنْهُ).
فِتْنَتُهُمْ - مَعْذِرَتُهُمْ أَوْ عَاقِبَةُ شِرْكِهِمْ.
ضَلَّ عَنْهُمْ - غَابَ عَنْهُمْ وَزَالَ.
(٢٥) - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
(جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَبُو سُفْيَانَ، وَالوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، وَالنَّضْرُ بْنُ الحَارِثِ، وَالحَارِثُ بْنُ عَامِرٍ، وَأبُو جَهْلٍ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَاسْتَمَعُوا إلى الرَّسُولِ ﷺ وَهُوَ يَقْرَأُ القُرْآنَ. فَقَالُوا لِلْنَّضْرِ بْنِ الحَارِثِ: يَا أَبَا قُتَيْلَةَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ وَالذِي جَعَلَ الكَعْبَةَ بَيْتَهُ مَا أَدْرِي مَا يَقُولُ، إلاَّ أَنِّي أَرَاهُ يُحَرِكُ شَفَتَيهِ يَتَكَلَّمُ بِأَسَاطِيرِ الأَوَّلِينَ، مِثْلَ مَا كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ بِهِ عَنْ القُرُونِ المَاضِيَةِ.
وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إنَّي لأرَى بَعْضَ مَا يَقُولُ حَقّاً. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: كَلاَّ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ.
وَيَقُولُ تَعَالَى: إنَّ أُولَئِكَ الكَافِرِينَ مِنْهُمْ فَرِيقٌ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ وَأَنْتَ تَتْلُو القُرْآنَ دَاعِياً إلَى تَوْحِيدِ اللهِ، وَمُبَشِّراً وَمُنْذِراً، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَغْطِيَةُ، تَحُولُ دُونَ فَهْمِهِ، وَجَعَلَ فِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَصَمَماً وَثِقَلاً يَحُولُ دُونَ سَمَاعِهِ إذَا أَرَادُوا تَدَبُّرَهُ، وَالوُصُولَ إلى مَا فِيهِ مِنَ الهِدَايَةِ وَالرُّشْدِ.
وَهَؤُلاَءِ لا يُؤْمِنُونَ وَإِنْ رَأَوْا كُلَّ آيَةً مِنَ الآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِكَ، وَصِدْقِ دَعْوَتِكَ، لأَنَّهُمْ لاَ يَفْقَهُونَهَا وَلا يُدْرِكُونَ المُرَادَ مِنْهَا، وَإذَا جَاؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ فِي دَعْوَتِكَ قَالُوا: مَا هَذا الذِي تَتْلُوهُ إلاَّ قَصَصُ الأَوَّلِينَ وَخُرَافَاتُهُمْ، تُسَطَّرُ وَتُكْتَبُ كَغَيْرِهَا مِنَ الأَنْبَاءِ فَلا عِلْمَ فِيهَا وَلاَ فَائِدَةَ.
أَكِنَّةً - أَغْطِيةً.
وَقْراً - صَمَماً، وَثِقْلاً فِي السَّمَعِ.
أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ - قَصَصُ الأَوَّلِينَ وَخُرَافَاتُهُمْ المُسَطَّرَةُ فِي كُتُبِهِمْ.
(٢٦) - وَهؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ، المُعَانِدُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، الجَاحِدُونَ لِنُبُوَّتِهِ، يَتَبَاعَدُونَ عَنِ النَّبِيِّ، وَلاَ يَأْتُونَ إلَيِهِ (يَنْأَوْنَ عَنْهُ) كُرْهاً لَهُ، وَنُفُوراً مِنْهُ، وَاسْتِكْبَاراً عَلَى الحَقِّ. وَيَنْهَونَ النَّاسَ عَنْ أَنْ يَأْتُوا إلَيْهِ مَخَافَةَ أنْ يُسْلِمُوا وَيَهْتَدُوا إلَى الإِيمَانِ (وَيَنْهَونُ عَنْهُ)، وَهُمْ فِي الحَقِيقَةِ لاَ يُهْلِكُونَ إلاَّ أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الضَّلاَلِ وَالإِضْلاَلِ، وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَمَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ.
يَنْأَوْنَ عَنْهُ - يُبْعَدُونَ عَنِ الرَّسُولِ بِأَنْفُسِهِمْ.
وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ - يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْ أَنْ يَأْتُوا إلى الرَّسُولِ.
(٢٧) - يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى حَالَ هَؤُلاَءِ الضَّالِّينَ المُضِلِّينَ، يَوْمَ القِيَامَةِ، حِينَ تَقِفُهُمُ المَلائِكَةُ، وَيَحْتَبِسُونَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ﷺ (أَوْ لِكُلِّ مُؤْمِن يَسْمَعُ هَذا القُرْآنَ) : لَوْ تَرَى مَا يَحِلُّ بِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ مِنَ الفَزَعِ وَالهَوْلِ، وَالحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ، عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ، لَرَأَيْتَ مَا لاَ يُحِيطُ بِهِ وَصْفٌ.
وَيَتَمَنَّى هؤُلاَءِ أنْ يُرَدُّوا إلَى الدُّنْيا لِيُؤْمِنُوا، وَلِيَعمَلُوا عَمَلاً صَالِحاً يُرْضِى اللهُ، وَلَكِنْ لاَ سَبِيلَ إلى الرَّدِ إلَى الدُّنيا، لأنَّهُ مْنَ قَبِيلِ تَمَنِّي المُسْتَحِيلِ.
وُقِفُوا عَلى النَّارِ - حُبِسُوا عِنْدَهَا أَوْ عَرَفُوهَا.
(٢٨) - وَحِينَ تَقِفُهُمُ المَلائِكَةُ: وَتَحْتَبِسُهُمْ عِنْدَ النَّارِ، يَظْهَرُ لَهُمْ سُوءُ عَاقِبَةِ مَا كَانُوا يُخْفُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، مِنَ الكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ وَالمُعَانَدَةِ، وَإِنْ أَنْكَرُوهَا.
(وَقَدْ يَكُونُ المَعْنَى: وَظَهَرَ لَهُمْ مَا كَانُوا يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ صِدْقِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ فِي الدُّنْيَا، وَإنْ كَانُوا يَكْتُمُونَهُ لأَتْبَاعِهِمْ غَيْرَ ذَلِكَ).
وَلَوُ أَنَّهُمْ أُعِيدُوا إلى الحَيَاةِ الدُّنْيا، لَعَادُوا إلى مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الكُفْرِ، وَالتَّكْذِيبِ وَالمُعَانَدَةِ. وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي تَمَنِّيهِمُ العَوْدَةَ إلى الدُّنْيَا لِيُؤْمِنُوا، وَلِيَعْمَلُوا صَالِحاً، وَلا يُكَذِّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ.
وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ - حُبِسُوا عَلَى حُكْمِ اللهِ تَعَالَى لِلسُّؤَالِ.
(٣١) - لَقَدْ خَسِرَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ، الذِينَ كَذَّبُوا بِالحَشْرِ، وَلِقَاءِ اللهِ فِي الآخِرَةِ لِلْحِسَابِ، كُلَّ مَا رَبِحَهُ المُؤْمِنُونَ، وَفَازُوا بِهِ مِنْ ثَمَرَاتِ الإِيمَانِ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَيَسْتَمِرُّ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبُونَ فِي ضَلاَلِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ، وَبَاطِلِهِمْ حَتَّى تَأْتِيهِمُ السَّاعَةُ فَجْأَةً دُونَ سَابِقِ إِنْذَارٍ، فَحِينَئِذٍ يُدْرِكُونَ أنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ. وَيَقُولُونَ: يَا حَسْرَتِنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيا فَكَذَبْنَا وَاسْتَكْبَرْنَا، وَاسْتَسْلَمْنَا لِلْشَهَوَاتِ، وَنَحْنُ نَظُنُّ أنَّهُ لاَ حَيَاةَ أُخْرَى، وَلاَ بَعْثَ وَلاَ حِسَابَ وَيَأْتُونَ اللهَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ العَصِيبِ وَهُمْ يَحْمِلُونَ ذُنُوبَهُمْ وَخَطَايَاهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ وَكَأنَّهَا الأَحْمَالُ الثَّقِيلَةُ (أَوْزَارَهُمْ)، وَمَا أَسْوَأَ مَا يَحْمِلُونَ.
بَغْتَةً - فَجْأَةً.
فَرَّطْنَا بِهَا - قَصَّرْنَا وَضَيَّعْنا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا.
أَوْزَارَهُمْ - أَحْمَالَهُمْ - وَهِيَ هُنَا ذُنُوبُهُمْ وَخَطَايَاهُمْ.
(٣٢) - لَيْسَتِ الحَيَاةُ الدُّنْيا، التِي قَالَ الكُفَّارُ إنَّهَا لاَ حَيَاةَ غَيْرَهَا، إلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ، فَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ عَمَلٍ لاَ عَاقِبَةَ لَهُ، وَلاَ فَائِدَةَ، وَبَيْنَ عَمَلٍ فَائِدَتُهُ عَاجِلَةٌ غَايَتُها دَفْعُ الهُمُومِ وَالآلامِ. وَمَتَاعُ هَذِهِ الدُّنْيا مَتَاعٌ قَصِيرُ الأَجَلِ، لاَ يَنْبَغِي لِعَاقِلٍ أنْ يَغْتَرَّ بِهِ. وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ مِنَ الدَّارِ الدُّنْيا، لِمَنْ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وَيَتَّقُونَ عَوَاقِبَ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي، فَكَيْفَ يَفُوتُكُمْ ذلِكَ، وَلا تَعْقِلُونَهُ، وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ بِأَعْيُنِكُمْ مَا يحِلُّ بِالنَّاسِ مِنْ مَوْتٍ وَفَوَاجِعَ؟
(٣٣) - يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ وَيَقُولُ لَهُ: إنَّنَا نَعْلَمُ تَكْذِيبَ قَوْمِكَ لَكَ، وَنَعْلَمُ حُزْنَكَ وَأَسَفَكَ لِمَا يَقُولُونَ.
وَلَكِنَّ الظَالِمِينَ الكَافِرِينَ يُعَانِدُونَ الحَقَّ، وَيَدْفَعُونَهُ بِصُدُورِهِمْ، وَلَيْسَتْ غَايَتُهُمْ تَكْذِيبَكَ أَنْتَ، وَلَكِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِ اللهِ. (كَمَا يَقُولُ أَبُو جَهْلٍ لِلْنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إنَّنَا لا نُكَذِّبُكَ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ).
وَيَوْمَ بَدْرٍ جَاءَ الأَخْنَسُ بْنُ شُرَيقٍ إلى أَبْيِ جَهْلٍ وَاخْتَلَى بِهِ، وَقَالَ لَهُ: لَيْسَ بَيْنَنَا أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ، أَخْبِرْنِي يَا أبَا الحَكَم ِعَنْ مُحَمَّدٍ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكَ وَاللهُ إِنَّ مٌحَمَّداً لَصَادِقٌ، وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، وَلكِنْ إذَا ذَهَبَتْ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالحِجَابَةِ وَالنُّبُوَّةِ فَمَاذَا يَبْقَى لِسَائِرِ قُرَيْشٍ؟
(٣٤) - يَلْفِتُ اللهُ تَعَالَى نَظَرَ رَسُولِهِ إلى مَا لاَقَاهُ الرُّسُلُ قَبْلَهُ مِنْ تَكْذِيبِ أَقْوَامِهِمْ لَهُمْ، فَصَبَرُوا عَلَى الإِيذَاءِ وَالتَّكْذِيبِ، حَتَّى جَاءَ نَصْرُ اللهِ. ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: فَعَلَيْكَ أيُّهَا الرَّسُولُ أنْ تَتَأَسَى بِهِمْ، وَتَصْبِرَ، فَكَمَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ مَنْ سَبَقَكَ مِنَ الرُّسُلِ، كَذَلِكَ سَيَنْصُرُكَ اللهُ عَلَى أَعْدَائِكَ الكَافِرِينَ، وَلاَ مُبَدِّلَ لَكَلِمَاتِ اللهِ التِي قَضَى فِيهَا أنَّ النَّصْرَ وَالعَاقِبَةَ سَتَكُونَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ. وَلَقَدْ جَاءَكَ أيُّهَا الرَّسُولُ نَبَأُ نَصْرِ اللهِ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ كَذَّبَهُمْ وَعَادَاهُمْ مِنْ أَقْوَامِهِمْ، فِيمَا قَصَّهُ عَلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ نَبَأِ المُرْسَلِينَ قَبْلَكَ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَكَ، وَتَثْبِيتٌ.
(وَيُرْوَى أنَّ سُورَةَ الأَنْعَامِ نَزَلَتْ بَيْنَ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَالنَّمْلِ وُهُودٍ وَالقَصَصِ وَالحِجْرِ، المُشْتَمِلَةِ عَلَى أَنْبَاءِ المُرْسَلِينَ بِالتَّفْصِيلِ).
لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ - لا مُغَيِّرَ لِمَا وَعَدَ اللهُ بِهِ رُسُلَهَ مِنَ النَّصْرِ.
(٣٥) - كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَقْتَرِحُونَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَآيَاتٍ لِيُؤْمِنُوا لَهُ، وَكَانَ النَّبِيِّ يَتَمَنَّى لَوْ آتَاهُ اللهُ بَعْضَ مَا طَلَبُوا، حِرْصاً مِنْهُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، وَأَسَفاً وَحُزْناً مِنْهُ عَلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى الكُفْرِ وَالاسْتِكْبَارِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أنَّ هَؤُلاءِ الجَاحِدِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِنْ أتَاهُمُ الرَّسُولُ بِمَا يَطْلُبُونَ مِنَ الآيَاتِ. لِذَلِكَ قَالَ اللهُ تَعَالَى مُخَاطِباً رَسُولَهُ ﷺ: إِنْ كَانَ قَدْ شَقَّ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْكَ، فَإنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْحَثَ عَنْ نَفَقٍ فِي الأَرْضِ فَتَذْهَبَ فِيهِ فَتَأْتِيهِمْ بَآيَةٍ، أَوْ أَنْ تَجْعَلَ لَكَ سُلَّماً تَرْتَقِي فِيهِ إلَى السَّمَاءِ لِتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أفْضَلَ مِمَّا أَتَيْتَهُمْ بِهِ فَافْعَلْ، فَالآيَاتِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَأْتِي بِمُعْجِزَةٍ مِنْ عِنْدِكَ. وَلَوْ شَاءَ اللهُ هِدَايَتَهُمْ جَمِيعاً لَهَدَاهُمْ، وَلَجَمَعَهُمْ عَلَى الحَقِّ، فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ سُنَنَ اللهِ فِي خَلْقِهِ، فَتَتَمَنَّى مَا تَرَاهُ حَسَناً نَافِعاً، وَإِنْ كَانَ حُصُولُهُ مُمْتَنِعاً.
(٣٧) - كَانَ المُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ آيةٌ مِنْ رَبِّهِ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ وَالمَأْلُوفِ. وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: إنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْزِّلَ آيةً، وَلَكِنَّ حِكْمَتَهُ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَ ذَلِكَ، لأنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ آيَةً، وَفْقَ طَلَبِهِمْ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، لَعَاجَلَهُمْ بِالعُقُوبَةِ، كَمَا فَعَلَ بِالأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ هَؤُلاَءِ لا يَعْلَمُونَ حُكْمَ اللهِ، وَسُنَنَهُ فِي خَلْقِهِ.
(٣٨) - بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ أنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُنْزِلَ الآيَاتِ إذَا رَأَى مِنَ الحِكْمَةِ وَالمَصْلَحَةِ إْنْزَالَها، ذَكَرَ مَا يُعَدُّ مِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى تِلْكَ القُدْرَةِ فَقَالَ: إنَّهُ لاَ يُوْجَدُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الأَحْيَاءِ، التِي تَدُبُ عَلَى الأَرْضِ، وَلاَ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطُّيُورِ التِي تَطِيرُ فِي الهَوَاءِ، إلاَّ وَهِيَ أُمَمٌ مُمَاثِلَةٌ لَكُمْ، أيُّهَا النَّاسِ، لَهَا نِظَامُهَا، وَخَصَائِصُها، وَطَرِيقَةُ حَيَاتِها، وَمَعاشُها.
وَجَميعُ المَخْلُوقَاتِ عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ، وَقَدْ أَثْبَتَهَا عِنْدَهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ، لاَ يَنْسَى وَاحِداً مِنْهَا مِنْ رِزْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ. وَجَمِيعِ الخَلاَئِقِ تُحْشَرُ إلَى رَبِّها يَوْمَ القِيَامَةِ.
أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ - فِي خَلْقِنَا لَهَا وَتَدْبِيرِنَا أُمُورَها.
مَا فَرَّطْنا - مَا أَغْفَلْنَا وَمَا تَرَكْنَا.
(٣٩) - وَالذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِهِ الدَّالَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ مَثَلُهُمْ، فِي جَهْلِهِمْ، كَمَثَلِ الصُّمِّ الذِينَ لاَ يَسْمَعُونَ، البُكْمِ الذِينَ لاَ يَنْطِقُونَ، وَهُمْ فَوقَ ذَلِكَ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ، فَكَيْفَ يَهْتَدِي أَمْثَالُ هَؤُلاَءِ إلَى طَرِيقِ الهُدَى، وَيَخْرُجُونَ مِمَّا هُمْ فِيهِ؟ وَاللهُ هُوَ المُتَصَرِّفُ فِي خَلقِهِ فَإِنْ أَرَادَ إِضْلاَلَ إِنْسَانٍ، لفَسَادٍ قَصْدِهِ، تَرَكَهُ وَشَأنَهُ، وَإذَا أَرَادَ هِدَايَتَهُ، لِسَلامَةِ قَصْدِهِ، يَسَّرَ لَهُ السَّيْرَ فِي طَريقِ الإِيمَانِ الوَاضِحِ المُسْتَقِيمِ.
فِي الظُّلُمَاتِ - ظُلُمَاتِ الجَهْلِ وَالعِنَادِ وَالكُفْرِ.
(٤٠) - قُلْ أيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ المُكَذِّبِينَ: أَخْبِرُونِي إنْ أَتَاكُمْ عَذَابٌ مِنَ اللهِ، كَالذِي نَزَلَ بِمَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ الذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، أوْ جَاءَتْكُمُ السَّاعَةُ بِأَهْوَالِهَا وَخِزْيِها وَنَكَالِها، وَبُعِثْتُمْ لِمَوْقِفِ الحِسَابِ، مَنْ تَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ، فِي هَذِهِ الأَحْوَالِ، لِيَكْشِفَ عَنْكُمْ مَا نَزَلَ بِكُمْ مِنَ البَلاَءِ؟ وَهَلْ تَفْزَعُونَ إلَى الآلِهَةِ التِي تَزْعُمُونَ شِرْكَتَهَا مَعَ اللهِ لِكَشْفِ البَلاءِ النَّازِلِ بِكُمْ، هذا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ ألُوهِيَّةَ هَؤُلاَءِ الشُّرَكَاءِ؟
أَرَأَيْتَكُمْ - أَخْبِرُونِي عَنْ عَجِيب أَمْرِكُمْ.
(٤٢) - يَقُولُ تَعَالَى: إنَّهُ أَرْسَلَ إلى الأُمَمِ السَّالِفَةِ رُسُلاً يَدْعُونَهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، فَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَابْتَلاَهُمُ اللهُ بِالفَقْرِ، وَالضِّيقٍ، فِي العَيْشِ (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ)، وَسَلَّطَ عَلَيْهِم الأَمْرَاضَ وَالأَسْقَامَ وَالآلاَمَ (وَالضَّرَّاءِ)، لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ إلى اللهِ، وَيَخْشَعُونَ إلَيْهِ، وَيَدْعُونَهُ لِيَكْشِفَ عَنْهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ، فَقَدْ أَوْدَعَ اللهُ تَعَالَى فِي فِطْرَةِ البَشَرِ أَنْ يَضْرَعُوا إلى اللهِ وَحْدَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ.
البَأْسَاءِ - البُؤْسِ وَالفَقْرِ.
الضَّرَّاءِ - المَرَضِ وَالسَّقَمِ وَالزَّمَانَةِ.
يَتَضَرَّعُونَ - يَتَذَلَّلُونَ وَيَتَخَشَّعُونَ وَيَتُوبُونَ.
(٤٣) - فَهَلاّ، إِذ ابْتَلاَهُمُ اللهُ بِذَلِكَ البَلاءِ، تَضَرَّعُوا إلَيْهِ وَتَوَسَّلُوا، حِينَ جَاءَتْهُم مُقَدِّمَاتُ العَذَابِ، لِيَكْشِفَهُ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّ قُلُوبَهُمْ قَسَتْ فَلَمْ تَرِقَّ وَلَمْ تَخْشَعْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالمَعَاصِي وَالمُعاَنَدَةِ، وَحَسَّنَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَثْبُتُوا عَلَى مَا وَجَدُوا آبَاءَهُمْ عَلَيْهِ.
جَاءَهُمْ بَأْسُنا - أَتَاهُمْ عَذَابُنَا.
(٤٤) - فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَمَّا أَنْذَرَهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ، وَتَرَكُوا الاهْتِدَاءَ بِهِ، وَتَنَاسُوْهُ وَجَعَلُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، اسْتَدْرَجَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ فَتَحَ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ، وَأَعْطَاهُمْ مِنْ كُلِّ مَا يُحِبُّونَ وَيَخْتَارُونَ، وَزَادَهُمْ سِعَةً فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ، فَلَمْ تُرَبِّهِم النِّعْمَةُ، وَلا شَكَرُوا اللهَ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، بَلْ دَفَعَتْهُمْ تِلْكَ النِّعْمَةُ إلى البَطَرِ وَالأَشَرِ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَسُرُّوا، إذْ ظَنُّوا أنَّ الذِي أُوتُوا إِنَّمَا هُوَ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ، وَحِينَئِذٍ أَخَذَهُمُ اللهُ بِالعَذَابِ بَغْتَةً، وَعَلَى حِينِ غِرَّةٍ مِنْهُمْ، فَإذَا هُمْ يَائِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.
(وَقَالَ قُتَادَةُ: مَا أَخَذَ اللهُ قَوْماً قَطُّ إلاَّ عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ، وَغِرَّتِهِمْ، وَنِعْمَتِهِمْ فَلا تَغْتَرُّوا).
مُبْلِسُونَ - يَائِسُونَ مِنَ الرَّحْمَةِ - أَوْ مُكَتَئِبُونَ.
أَبْوابَ كُلِّ شَيءٍ - أَغْدَقْنَا عَلَيْهِمْ النِّعَمَ الكَثِيرَةَ اسْتِدرَاجاً لَهُمْ.
(٤٥) - فَدَمَّرَ اللهُ تَعَالَى القَوْمَ الكَافِرِينَ جَمِيعاً، أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ، وَلَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أَحَداً. وَإِذَا قَطَعَ اللهُ دَابِرَ القَوْمِ (آخِرَهُمْ) فَقَدْ قَطَعَ أَوَّلَهُمْ، وَالحَمْدُ للهِ فِي الأُولى وَالآخِرَةِ عَلَى مَا أَنْعَمَهُ عَلى رُسُلِهِ، وَأَهْلِ طَاعَتِهِ، بِإِظْهَارِ حُجَجِهِمْ عَلى مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَهْلِ الكُفْرِ.
دَابِرُ القَوْمِ - آخِرُهُمْ.
(٤٦) - قُلْ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ سَلَبَكُمُ اللهُ قُدْرَتَكُمْ عَلَى السَّمْعِ وَالإِبْصَارِ، كَمَا مَنَحَكمُوهَا، وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ، فَلَمْ يَعُدْ يَصِلُ إلَيْهَا شَيءٌ، وَلَمْ تَعُدْ تَعِي شَيْئاً، فَهَلْ هُنَاكَ أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ إِلَيْكُم، إذَا سَلَبَكُمُ اللهُ إيَّاهُ؟ بِلاَ شَكٍّ لاَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرُهُ. فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ نُبَيِّنُ الآيَاتِ وَالحُجَجَ لِهؤلاءِ عَلَى أنَّ اللهَ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ لاَ مَعْبُودَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ ضَلالٌ وَبَاطِلٌ، ثُمَّ إنَّهُمْ، مَعْ هَذا البَيَانِ، يُعْرِضُونَ عَنِ الحَقِّ، وَيَصْرِفُونَ وُجُوهَهُمْ عَنِ الآيَاتِ، وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ اتِّبَاعِهَا.
أَرَأَيْتُمْ - أَخْبِرُونِي مَا يَكُونُ حَالُكُمْ.
نُصَرِّفُ الآيَاتِ - نُكَرِّرُ الآيَاتِ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ.
يَصْدِفُونَ - يُعْرِضُونَ عَنِ الآيَاتِ وَيَعْدِلُونَ.
(٤٧) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ: أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِكُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ - الذِي قَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ فِي الأَوَّلِينَ أَنْ يُنْزِلَهُ بِالكُفَّارِ وَالمُكَذِّبِينَ - مُبَاغِتاً، وَمُفَاجِئاً لَكُمْ، فَأَخَذَكُمْ عَلَى غِرَّةٍ مِنْكُمْ، وَلَمْ تَسْبِقْهُ مُقَدِّمَاتٌ، وَلاَ أَمَارَاتٌ تُشْعِرُكُمْ بِقُرْبِ نُزُولِهِ بِكُمْ، أَوْ أَتَاكُمْ وَأَنْتُمْ تُعَايِنُونَهُ وَتَنْظُرونَ إلَيْهِ، فَهَلْ يُهْلِكُ اللهُ إلاَّ القَوْمَ الظَّالِمِينَ الذِينَ أَصَرُّوا عَلَى الشِّرْكِ وَالجُحُودِ؟ وَلَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى، فِي مِثْلِ هَذَا العَذَابِ، أَنْ يُنْجِيَ مِنْهُ رُسُلَهُ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ.
بَغْتَةً - فَجْأَةً أَوْ لَيْلاً.
جَهْرَةً - مُعَايَنَةً - أَوْ نَهَاراً.
(٤٨) - إنَّ اللهَ تَعَالَى يُرْسِلُ الرُّسُلَ لِيُبَشِّرُوا، مَنْ آمَنَ، بِالجَنَّةِ، وَحُسْنِ الثَّوَابِ، وَلِيُنْذِرُوا، مَنْ كَفَرَ وَعَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، بِالعُقُوبَةِ وَالعَذَابِ، فَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فَهَؤُلاَءِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيا.
(٤٩) - أمَّا الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمِ، فَإنَّهُمْ سَيُصِيبَهُمُ العَذَابُ، بِمَا كَفَرُوا بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَخَرَجُوا عَنْ أَوَامِرِ رَبِّهِمْ، وَلَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ.
(٥٠) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ، الذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْكَ الآيَاتِ تَعْجِيزاً لِجَهْلِهْم بِحَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ، وَلِظَنِّهِمْ أنَّ النَّبِيَّ لاَ يَكُونُ نَبِيّاً إلاّ إذَا أَصْبَحَ قَادِراً عَلَى مَا لاَ يَقْدِرُ البَشَرُ عَلَيْهِ: إنِّي لاَ أَقُولُ لَكُمْ إنِّي أَمْلِكُ خَزَائِنَ اللهِ، وَلاَ أَتَصَرَّفُ بِهَا، وَلا أَقُولُ لَكُمْ إنَّي أَعْلَمُ غَيْبَ اللهِ، فَعِلْمُ الغَيْبِ عِنْدَ اللهِ وَحْدَهُ وَلا أَطَّلِعُ مِنْهُ إلاَّ عَلَى مَا أَطْلَعَنِي عَلَيْهِ رَبِّي، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلاَ أَدَّعِي أنِّي مَلَكٌ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ يُوحِي إِليهِ اللهُ، وَقَدْ شَرَّفَنِي سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيَّ، وَإِنَّنِي أَتَّبِعُ مَا يُوحِيهِ اللهُ إلَيَّ، وَلاَ أَخْرُجُ عَنْهُ مُطْلَقاً. قُلْ لَهُمْ: هَلْ يَسْتَوِي مَنِ اتَّبَعَ الحَقَّ وَهُدِيَ إلَيهِ، مَعَ مَنْ ضَلَّ عَنْهُ، فَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ، وَلَمْ يَنْقَدْ إِلَيهِ؟ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ فِي أنَّهُمَا لاَ يَسْتَوِيَانِ؟
خَزَائِنُ اللهِ - مَرْزُوقَاتُ اللهِ وَمَقْدُورَاتُهُ.
(٥٢) - وَلا تُبعِدُ يَا أيُّهَا الرَّسُولُ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبًّهُمْ، وَيُصَلُّونَ إلَيْهِ صَبَاحَ مَسَاءَ، وَيَدْعُونَهُ لاَ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ غَيْرَ رِضَا رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَتِهِ، فَلَيْسَ عَلَيكَ أَنْتَ مِنَ حَسَابِهِمْ مِنْ شَيءٍ، إنَّمَا حِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ، فَإذَا أَبْعَدْتَهُمْ وَطَرَدْتَهُم مِنْ مَجْلِسِكَ كُنْتَ مِنَ الظَّالِمِينَ.
(وَرُوِيَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ: أنَّ نَفَراً مِنْ كِبَارِ قُرَيْشٍ مَرُّوا بِِالنَّبِيِّ ﷺ، فَوَجَدُوهُ قَاعِداً مَعَ أُنَاسٍ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ وَضُعَفَائِهِمْ: صُهَيْبٍ وَعَمَّارٍ وَبِلاَلٍ وَخَبَّابٍ فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ: أَرَضِيتَ بِهَؤُلاَءِ مِنْ قَوْمِكَ؟ أَهَؤُلاَءِ الذِينَ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا؟ أَنَحْنُ نَصِيرُ تَبَعاً لِهَؤُلاَءِ؟ اطْرُدْهُمْ فَلَعَلَّكَ إنْ طَرَدْتَهُمْ نَتْبَعْكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةِ.
الغَدَاةُ - أوَّلُ النَّهَارِ.
العَشِيِّ - آخِرِهِ (أَيْ ادْعُ رَبَّكَ بِصُورَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ).
(٥٣) - وَكَذَلِكَ اخْتَبَرْنَا المُتَكَبِّرِينَ بِسَبْقِ الضُّعَفَاءِ إلَى الإِسْلاَمِ، لِيَقُولَ الكُبَرَاءُ عَنِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ سَاخِرِينَ: أَهَؤُلاَءِ الذِينَ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بِالهِدَايَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَاتِّبَاعِ الحَقِّ؟ (وَهُمْ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ أنَّ اللهَ مَا كَانَ لِيَهْدِيَ هَؤُلاَءِ المُسْتَضْعَفِينَ إلى الخَيْرِ وَيَدَعَ كُبَرَاءَ قُرَيْشٍ). وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مُسْتَنْكِراً هَذا القَوْلَ وَهَذا الاعْتِقَادَ: أَلَيْسَ اللهُ هُوَ الأَعْلَمُ بِالشَّاكِرِينَ لَهُ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ فَيُوَفِّقُهُمْ، وَيَهْدِيهِمْ سَبِيلَ السَّلاَمِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؟
فَتَنّا - ابْتَلَيْنَا وَامْتَحَنَّا، وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهِمْ.
(٥٤) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ بِأَنْ يُكْرِمَ الذِينَ يَأْتُونَ إلَيْهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وَبِأَنْ يَرُدَّ السَّلاَمَ عَلَيْهِمْ، وَبِأَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِرَحْمَةِ اللهِ الوَاسِعَةِ، الشَّامِلَةِ لَهُمْ، التِي أَوْجَبَهَا اللهُ عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ تَفَضّلاً وَإِحْسَاناًُ وَامْتِنَاناً وَأنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ سُوْءاً وَهُوَ جَاهِلٌ (وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ كُلُّ مَنْ عَصَى اللهَ فَهُوَ جَاهِلٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ الدُّنيا كُلُّهَا جَهاِلَةٌ)، ثُمَّ تَابَ وَرَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَأَقْلَعَ عَنِ المَعَاصِي، وَعَزَمَ عَلَى أنْ لاَ يَعُودَ إِليها، وَأَصْلَحَ العَمَلَ فِي المُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ اللهَ يَعِدُهُ بِالمَغْفِرَةِ.
(وَلَعَلَّ أَقْرَبَ تَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ - هُوَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الذِي يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ هُوَ الذِي يَرْتَكِبُ الذَّنْبَ فِي لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ الطَّيْشِ أَوِ الانْفِعَالِ، أَوِ الضَّعْفِ الإِنْسَانِيِّ، أَوِ الهَوَى الجَامِحِ أَو ثَوْرَةِ الغَضَبَ... وَمَا مَاثَلَ تِلْكَ الأَحْوَالِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ إنَّمَا يَرْتَكِبُ إِثْماً وَذَنْباً، وَيُقْدِمُ عَلَى الذَّنْبِ وَهُوَ يَسْتَشْعِرُ فِي نَفْسِهِ النَّدَامَةَ، ثُمَّ حِينَمَا يَثُوبُ إلى نَفْسِهِ يَنْدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَيَتُوبُ إلَى رَبِّهِ، وَيَسْتَغْفِرَهُ، وَهُوَ يَشْعُرُ بِثِقَلِ الذَّنْبِ عَلَى نَفْسِهِ. وَهَذا غَيْرُ حَالِ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى اقْتِرَافِ الذَّنْبِ وَهُوَ مُسْتَخِفٌّ بِالدِّينِ وَبِحُرُمَاتِ اللهِ، غَيْرُ عَابِىءٍ بِهَا وَغَيْرُ مُسْتَشْعِرٍ نَدَماً عَلَى فِعْلِهِ).
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةُ - قَضَى رَبُّكُمْ وَأَوْجَبَ الرَّحْمَةَ تَفَضُّلاً مِنْهُ وَإِحْسَاناً.
بِجَهَالَةٍ - بِسَفَاهَةٍ - وَكُلّ عَاصٍ مُسِيءٍ جَاهِلٌ.
(٥٥) - وَبِمِثْلِ ذَلِكَ البَيَانِ الوَاضِحِ نُوَضِّحُ الدَلائِلَ المُتَنَوِّعَةَ لِيَظْهَرَ طَريقُ الحَقِّ الذِي يَسْلُكُهُ المُؤْمِنُونَ، وَيُبَيِنَ طَرِيقَ الضَّلالِ الذِي يَسْلُكُهُ الكَافِرُونَ.
(٥٧) - قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إِنِّي، فِيمَا أُخَالِفُكُمْ فِيهِ، عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ شَرِيعَةِ رَبِّي، التِي أَوْحَاهَا إِلَيَّ، وَقَدْ كَذَّبْتُمْ أَنْتُمْ بِالقُرْآنِ، وَهُوَ بَيِّنَتِي عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِي، وَعَلى صِدْقِ مَا دَعَوْتُكُمْ إلَيهِ، ثُمَّ إِنَّكُمْ تَطمَعُونَ فِي أنْ أَتَّبِعَكُمْ عَلى ضَلالٍ أَنْتُمْ مُقِيمُونَ عَليهِ، وَلا بَيِّنَةَ لَكُمْ عَلَيْهِ غَيرُ التَّقْلِيدِ لِلآبَاءِ، وَالأَجْدَادِ، وَالخُضُوعِ لِهَوى النَّفْسِ، وَإِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ بِالعَذّابِ الِي أَنْذَرَكُمْ بِهِ اللهُ، إنْ أَصْرَرْتُمْ أَنْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ، وَأَنَأ لاَ أَمْلِكُ أنْ آتِيْكُمْ بِالعَذَابِ الذِي تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، فَالحُكْمُ فِي هَذا، وَفِي غَيْرِهِ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ، وَهُوَ وَحْدَهُ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيكُمْ بِهِ إنْ شَاءَ. وَهُوَ تَعَالَى يَقُصُّ الحَقَّ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَجَمِيعِ أَخْبَارِهِ، وَهُوَ خَيرُ الحَاكِمِينَ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَلاَ يَقَعُ فِي قَضَائِهِ حَيْفٌ وَلاَ جَوْرٌ.
يَقُصُّ الحّقَّ - يَتْبَعُهُ فِيمَا حَكَمَ، أَوْ يُبَيِّنُهُ بَياناً شَامِلاً.
خَيْرُ الفَاصِلِينَ - خَيْرُ الحَاكِمِينَ حُكْماً فَصْلاً بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ.
(٥٨) - قُلْ لَهُمْ: لَوْ كَانَ مَرْجِعُ الأَمْرِ إِلَيَّ لاسْتَجَبْتُ لِطَلَبِكُمْ، وَلأَوْقَعْتُ عَلَيْكُمْ مَا تَسْتَعْجِلُونَهُ مِنَ العَذَابِ، وَلانْتَهَى الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمينَ الذِينِ يَسْتَحِقُّونَ العَذَابَ وَالعُقُوبَةَ، وَقَدْ جَعَلَ لِعَذَابِهِمْ مَوْعِداً حَدَّدَهُ لا يَعْلَمُهُ إلاّ هُوَ.
(٥٩) - قَالَ البُخَارِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: إِنَّ مَفَاتِحَ الغَيْبِ (أَيْ خَزَاِئِنهُ) خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاّ اللهُ وَهُوَ المُتَصَرِّفُ فِيهِنَّ وَحْدَهُ:
١ - إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ.
٢ - وَيُنْزِلُ الغَيْثَ.
٣ - وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غداً.
٤ - وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ.
٥ - وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.
وَاللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِّ مِنْ جَمِيعِ المَوْجُودَاتِ، لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ، وَيَعْلَمُ كُلَّ حَرَكَةٍ فًلاَ تَسْقُطُ وَرَقَةٌ، وَلاَ تُوْجَدُ حَبَّةٌ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ إلاَّ يَعْلَمُهَا اللهُ، وَمَا مِنْ شَجَرَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا، وَيَعْلَمُ رُطُوبَتَها وَيُبُوسَتَهَا.
وَقَدْ أَحْصَى كُلَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ لاَ يُهْمِلُ شَيْئاً مِنْ عَمَلِ جَمِيعِ خَلْقِهِ وَحَالاَتِهِمْ.
كِتَابٍ مُبِينٍ - اللَّوحِ المَحْفُوظِ أَوْ أُمِّ الكِتَابِ.
مَفْتَحُ - بِفَتْحِ المِيمِ - هُوَ المَخْزَنُ.
وَمِفْتَحُ - بِكَسْرِ المِيمِ - هُوَ المُفْتَاحُ الذِي يَفْتَحُ القِفْل.
(٦٠) - يَقُولُ تَعَالَى إنَّهُ يَتَوَفَّى أَنْفُسَ العِبَادِ فِي حَالِ نَوْمِهِمْ فِي اللَّيلِ، فَيُزِيلُ إِحْسَاسَهَا، وَيَمْنَعُها مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الأَبْدَانِ (وَهُوَ التَّوَفِّي الأَصْغَرُ)، وَيَعْلَمُ مَا يَكْسِبُهُ العِبَادٌ مِنَ الأَعْمَالِ فِي النَّهَارِ، وَهَذا دَلِيْلٌ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى بِكُلِّ شَيءٍ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ فِي النَّهَارِ لِكَسْبِ أقْوَاتِهِمْ، وَتَأْمِينِ مَعَاشِهِمْ، وَلِيَسْتَوفِيَ كُلُّ إِنْسَانٍ أَجَلَهُ كَامِلاً، (لِيَقْضِيَ أَجَلٌ مُسَمَّى)، ثُمَّ يَرْجِعُ الخَلْقُ إلى اللهِ حِينَمَا تَنْتَهِي آجَالُهُمْ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَجْزِيهِمْ عَنْ أَعْمَالِهِم الجَزَاءَ الذِي يَسْتَحِقُونَهُ.
الجَرْح - هُوَ الكَسْبُ وَالعَمَلُ بِالجَوارِحِ - أَيِ الحَوَاسِّ.
لاَ يُفَرِّطُونَ - لاَ يَتَوَانَوْنَ وَلاَ يُقَصِّرُونَ.
(٦٢) - ثُمَّ يُرَدُّ العِبَادُ، الذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ، إلى اللهِ جَمِيعاً، يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ تَعَالَى مَوْلاَهُمُ الحَقُّ، فَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِعَدْلِهِ، وَهُوَ يَومْئَذٍ صَاحِبُ الحُكْمِ وَالقَوْلِ الفَصْلِ، وَهُوَ تَعَالَى أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ.
(٦٣) - قُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ الغَافِلِينَ عَنْ آيَاتِ اللهِ، التِي نَصَبَهَا فِي الأَنْفُسِ وَالآفَاقِ: مِنْ غَيْرِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْجِيكُمْ مِنَ ظُلُمَاتِ البَرِّ إذَا ضَلَلْتُمْ فَتَحَيَّرْتُمْ، وَأَظْلَمَتْ عَلَيْكُمُ الطُّرُقُ؟ وَمَنْ يُنْجِيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ البَحْرِ، إذَا رَكِبْتُمُوهُ فَأَظْلَمَتْ عَلَيْكُمْ فِيهِ السُّبُلُ فَلَمْ تَهْتَدُوا؟ وَهَلْ هُنَاكَ غَيْرَ اللهِ مَنْ تَضْرَعُونَ إلَيْهِ، وَتَفْزَعُونَ فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ، وَتَقْولًونَ لَئْن أَنْجَانَا مِنْ هذِهِ المَخَاطِرِ الشَّدِيدَةِ التِي نَحْنُ فِيهَا، لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ المُخْلِصِينَ فِي العِبَادَةِ.
تَضَرُّعاً - مُعْلِنينَ الضَّرَاعَةَ وَالتَّذَلُّلَ.
خُفْيَةً - مُسِرِّينَ بِالدُّعَاءِ.
(٦٥) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ، الذِينَ يُشْرِكُونَ مَعَ اللهِ سِوَاهُ، وَلاَ يَشْكُرُونَهُ عَلَى النِّعَمِ الوَفِيرَةِ التِي أَسْدَاهَا إِلَيْهِمْ: إنَّ اللهَ هُوَ القِادِرُ عَلَى أنْ يَصُبَّ عَلَيْكُمُ العَذَابَ مِنْ فَوْقِكُمْ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمُ العَذَابَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، فَيَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ، أَوْ يُزَلْزِلَهَا تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، أَوْ يَخْلِطَ الأَمْرَ عَلَيْكُمْ مِنَ الالْتِبَاسِ، وَيَجْعَلَكُمْ مُلْتَبِسِينَ شِيَعاً وَفِرَقاً، مُتَخَالِفِينَ فِي الأَهْوَاءِ وَالمَشَارِبِ، وَيُسَلِّطَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالعَذَابِ وَالقَتْلِ. انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ نُبَيِّنُ الآيَاتِ وَنُوَضِّحُها لَعَلَّ هَؤُلاَءِ يَفْهَمُونَهَا وَيَتَدَبَّرُونَهَا.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ المُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مِنْ فَوْقِكُمْ) أَيْ مِنْ حُكَّامِكُمْ وَأُمَرَائِكُمْ، وَإنَّ المُرَادَ بِقَوْلِهِ: (مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) أَيْ مِنْ عَبِيدِكُمْ وَسِفْلَتِكُمْ).
نُصَرِّفُ الآيَاتِ - نُكَرِّرُهَا بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ.
يَلْبِسَكُمْ - يَخْلِطَكُمْ فِي مَلاَحِمِ القِتَالِ.
شِيَعاً - فِرَقاً مُخْتَلِفَةَ الأَهْوَاءِ.
بَأْسَ بَعْضٍ - شِدَّةَ بَعْضٍ فِي القِتَالِ.
بِوَكِيلٍ - بِحَفِيظٍ، وَكِّلَ إلَيَّ أَمْرُكُمْ فَأُجَازِيكُمْ.
(٦٧) - وَلِكُلِّ خَبَرٍ جَاءَ فِي القُرْآنِ وَقْتٌ يَتَحَقَّقُ فِيهِ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ صِدْقَ هَذِهِ الأَخْبَارِ عِنْدَ وُقُوعِهَا.
(٦٨) - كَانَ المُشْرِكُونَ يَجْلِسُونَ إلى النَّبِيِّ ﷺ يُحِبُّونَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَإِذَا سَمِعُوا اسْتَهْزَؤُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ إذَا اسْتَهْزَؤُوا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِمْ فَحَذِرُوا، وَقَالُوا لاَ تَسْتَهْزِئُوا فَيَقُومُ. وَالمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الآيَةِ الرَّسُولُ ﷺ وَالمُؤْمِنُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَإِذَا رَأَى المُؤْمِنُ الذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ المُنْزَلَةِ، مِنَ الكُفَّارِ المُكَذِّبِينَ، وَأَهْلَ الأَهْوَاءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُدَّ عَنْهُمْ بِوَجْهِهِ، وَأَنْ لاَ يَجْلِسَ مَعَهُمْ حَتَّى يَأْخُذُوا فِي حَدِيثٍ آخَرَ غَيْرَ حَدِيثِ الكُفْرِ وَالاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللهِ أَوْ تَأْوِيلِهَا بِالبَاطِلِ مِنْ جَانِبِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ، وَإِذَا أَنْسَاكَ الشَّيْطَانُ، أَيُّهَا المُؤْمِنُ، هَذَا النَّهْيَ، وَقَعَدْتَ مَعَهُمْ، وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الحَالِ، ثُمَّ ذَكَرْتَ فَقُمْ عَنْهُمْ، وَلاَ تَقْعُدْ مَعَ هؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللهِ، وَالاسْتِهْزَاءِ بِهَا.
يَخُوضُونَ - يَأْخُذُونَ بِالحَدِيثِ بِالاسْتِهْزَاءِ وَالطَّعْنِ.
(٧٠) - وَدَعْ أَيُّهَا الرَّسُولُ، أَنْتَ وَمَنْ تَبِعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ، الذِينَ اتَّخَذُوا دِيْنَهُمْ لَعِباً وَسُخْرِيَةً وُهُزُواً، وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيا، وَلاَ تُبَالُوا بِتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، وَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، وَأَمْهِلُوهُمْ قَليلاً، فَإِنَّهُمْ صَائِرُونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ. وَذَكِّرُوا النَّاسَ دَائِماً بِهَذَا القُرْآنِ، وَحَذِّرُوهُمْ نِقَمَ اللهُ وَعَذَابَهُ الأَلِيمُ، لِكَيْلاَ تَفْتَضِحَ نَفْسٌ يَوْمَ القِيَامَةِ فَتَصِيرَ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَتَكُونَ رَهْنَ العَذَابِ (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ)، بِسَبَبِ مَا اقْتَرَفَتْهُ مِنَ الأَعْمَالِ السَيِئَةِ، وَمَا اجْتَرَحَتْهُ مِنَ الذَّنُوبِ وَالخَطَايَا.
وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ لاَ يَكُونُ لِهَذِهِ النَّفْسُ المُذْنِبَةِ شَفِيعٌ وَلاَ وَلِيٌّ يَشْفَعُ لَهَا أَوْ يَنْصُرُهَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَإِنَّها إذَا بَذَلَتْ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الفِدَاءِ (العَدْلِ)، لِتَنْجُوَ مِنَ العَذَابِ، فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهَا ذَلِكَ.
وَهَؤُلاَءِ الذِينَ افْتَضَحُوا، وَصَارُوا رَهْنَ العَذَابِ (أُبْسِلُوا) بِسَبَبِ مَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ سَيَكُونُ شَرَابُهُمْ، يَوْمَ القِيَامَةِ، مِنْ مَاءٍ شَدِيدِ الحَرَارَةٍ (حَمِيمٍ)، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
غَرَّتْهُمْ - خَدَعَتْهُمْ وَأَطْمَعَتْهُمْ بِالبَاطِلِ.
أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ - لِكَيلاَ تُحْتَبَسَ فِي النَّارِ، أَوْ تُسَامَ الهَلَكَةَ أَوْ تَفْتَضِحَ.
تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ - تَفْتَدِ بِكُلِّ فِداءٍ.
حَمِيمٍ - مَاءٍ بَالِغِ النِّهَايَةِ فِي شِدَّةِ الحَرَارَةِ.
(٧١) - قَالَ المُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ اتْرُكُوا دِينَ مُحَمَّدٍ وَاتَّبِعُوا سَبِيلَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ. وَفِيهَا يَقُولُ لِرَسُولِهِ ﷺ وَلِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَى هَؤُلاءِ الدَّاعِينَ مُوَبِّخِينَ: هَلْ يَصِحُّ أنْ نَعْبُدَ غَيْرِ اللهِ، مِمَّا لاَ يَمْلِكُ جَلْبَ نَفْعٍ، وَلاَ دَفْعَ ضُرٍّ، وَنَنْتِكسَ فِي الشِّرْكِ، بَعْدَ أَنْ هَدَانَا اللهُ إلَى الإِيمَانِ، فَيَكُونَ مِثْلَنَا مِثْلَ رَجُلٍ خَرَجَ مَعْ قَوْمٍ عَلَى طَرِيقٍ، فَضَلَّ الطَّرِيقَ، فَحَيَّرَتْهُ الشَّيَاطِينَ وَاسْتَهْوَتْهُ فِي الأَرْضِ، وَأَصْحَابِهِ عَلَى الطَّرِيقِ فَجَعَلُوا يَدْعُونَهُ إلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ لَهُ: ائْتِنا، فَإِنَّا عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَبَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ يَتَّبِعُ هَؤُلاَءِ الكُفَّارِ، بَعْدَ أَنْ عَرَفَ دِينَ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَمُحَمَّدُ هُوَ الذِي يَدْعُو إلَى الطَّرِيقِ، وَالطَّرِيقُ هُوَ الإِسْلاَمُ. وَقُلْ لَهُمْ: إنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى، وَمَنْ يَهْدِ اللهَ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَإنَّنَا أُمِرْنَا بِإِخْلاصِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ.
اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ - أَضَلَّتْهُ.
(٧٢) - وَقُولُوا لَهُمْ: لَقَدْ أَمَرَنَا رَبُّنَا بِالإِسْلاَمِ، وَبِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، وَبِتَقْوَاهُ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ، فَهُوَ الذِي تُحْشَرُ إِلَيْهِ الخَلاَئِقُ، يَوْمَ القِيَامَةِ، لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
(٧٣) - وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحِكْمَةِ وَالحَقِّ وَالعَدْلِ، وَلَمْ يَخْلُقْها عَبَثاً وَبَاطِلاً، فَهُوَ لاَ يَتْرُكُ النَّاسَ سُدًى، بَلْ يَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، فَهُوَ خَالِقُهَا وَمَالِكُهَا، وَالمُدَبِّرُ لَهَا وَلِمَنْ فِيهَا. وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: كُنْ فَيَكُونُ كُلَّ شَيءٍ عَنْ أَمْرِهِ كَلَمْحِ البَصَرِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى الحَقُّ؛ وَلَهُ المُلْكَ يَوْمَ الحَشْرِ، يَوْمَ يَنْفُخُ فِي الصُّورِ (وَالصُّورُ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ فَيُحْدِثُ صَوْتاً) فَيَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ، وَيَحْشُرُ الخَلْقَ جَمِيعاً إلَى اللهِ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَهُوَ الحَكِيمُ الذِي يَضَعَ الأَشْيَاءَ فِي مَوَاضِعِهَا، وَهُوَ الخَبِيرُ بِدَقَائِقِهَا وَخَفَايَاهَا.
الغَيْبِ - مَا غَابَ عَنِ النَّاسِ مِمَّا لاَ يَرَوْنَهُ.
الشَّهَادَةِ - مَا شَاهَدَ النَّاسَ خَلْقَهُ. (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: المَقْصُودُ بِالغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُنَا السِّرُّ وَالعَلَنُ).
الصُّورِ - قَرْنٍ إذَا نُفِخَ فِيهِ أَحْدَثَ صَوْتاً وَحِينَ يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ يَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ.
(٧٤) - وَاذْكُرْ أيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ، الذِينَ عَبَدُوا مَا لاَ يَنْفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ، قِصَّةَ جَدِّهِمْ إِبْرَاهِيمَ الذِي يُبَجِّلُونَهُ، وَيَدَّعُونَ اتِّبَاعَ مِلَّتِهِ، إذْ جَادَلَ قَوْمَهُ وَرَاجَعَهُمْ فِي بَاطِلِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ: فَقَالَ لأَبِيهِ آزَرَ: كَيْفَ تَتِّخِذُ أَنْتَ وَقَوْمُكَ آلِهَةً مِنَ الأصَنْامِ، التِي تَصْنَعُونَهَا بَأَيْدِيْكُمْ مِنَ الحِجَارَةِ وَغَيْرِها، إنِّي أَرَاكُمْ تَائِهِينَ فِي حَيْرَةٍ وَجَهَالَةٍ، وَأَمْرُكُمْ فِي الجَهَالَةِ وَالضَّلاَلَةِ عَنِ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ.
(٧٥) - وَكَمَا أَرَيْنَا إِبْرَاهِيمَ الحَقَّ فِي أَمْرِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ، وَأَنَّهُمْ فِي ضَلاَلٍ وَجَهَالَةٍ فِي عِبَادَتِهِمُ الأَصْنَامَ، كَذَلِكَ أَرَيْنَاهُ المَرَّةَ بَعْدَ المَرَّةِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ آيَاتٍ وَعِبَرٍ تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ فِي مُلْكِهِ وَخَلْقِهِ، وَأنَّهُ لا إلِهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ، لِيُقِيمَ الحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ، وَلِيَزْدَادَ إِيمَاناً وَيَقِيناً بِعَظَمَةِ اللهِ، وَقًدْرَتِهِ، وَوَحْدَانِيَّتِهِ.
(وَقَدْ يَكُونُ اللهُ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ عَنْ بَصَرِ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى رَأَى ذَلِكَ عِيَاناً، أَوْ كَشَفَ عَنْ بَصِيرَتِهِ حَتَّى أَدْرَكَهُ بِقَلْبِهِ وَفُؤَادِهِ وَتَحَقَّقَهُ).
مَلَكُوتَ - مُلْكَ - أَوْ آيَاتٍ وَعَجائِبِ مُلْكِ اللهِ.
(٧٦) - فَلَمَّا تَغَشَّاهُ اللَّيلُ وَسَتَرَهُ، رَأَى نَجْماً عَظِيماً، مُمْتَازاً عَنْ سَائِرِ الكَوَاكِبِ، بِإشْرَاقِهِ وَبَرِيقِهِ (وَقِيلَ إنَّهُ كُوْكَبُ المُشْتَرِي الذِي عَبَدَهُ كَثِيرٌ مِنَ الأَقْوَامِ التِي عَبَدَتِ الكَوَاكِبَ)، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ: هَذَا رَبِّي؛ فَلَمَا غَابَ وَغَرَبَ (أَفَلَ) قَالَ لَهُمْ: إنِّي لاَ أُحِبُّ الآَفِلِينَ، إذْ أَدْرَكَ أنَّ رَبَّهُ حَاضِرٌ دَائِمٌ لاَ يَزُولُ.
وَقَالَ الأُسْتَاذُ المَراغِي - إنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ لِقَوْمِهِ عَنِ الكَوْكَبِ (هَذَا رَبِّي) فِي مَقَامِ المُنَاظَرَةِ وَالحِجَاجِ، تَمْهِيداً لِلإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فَأَوْهَمَهُمْ أَوْلاً أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُمْ عَلَى زَعْمِهِمْ أنَّ كَوْكَباً يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلهاً. ثُمَّ كَرَّ عَلَيْهِمْ بِالنَّقْضِ بَانِياً حُجَّتَهُ عَلَى الحِسِّ وَالعَقْلِ).
جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ - تَغَشَّاهُ وَسَتَرَهُ بِظَلامِهِ.
أَفَلَ - غَرَبَ وَغَابَ وَرَاءَ الأُفُقِ.
(٧٧) - فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ طَالِعاً قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: هَذَا رَبِّي. فَلَمَّا غَرَبَ وَغَابَ، سَأَلَ رَبَّهُ الهِدَايَةَ، وَقَالَ لِقَوْمِهِ إنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إلَى الحَقِّ وَالصَّوَابِ فِي تَوْحِيدِهِ لأَكُونَنَّ ضَالاً.
بَازِغاً - طَالِعاً مِنَ الأُفْقِ مُنْتَشِرَ الضَّوْءِ.
(٧٨) - فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً، وَرَأَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ النُّورِ السَّاطِعِ، وَالحَجْمِ الكَبِيرِ، تَظَاهَرَ أَمَامَ قَوْمِهِ بِأنَّهُ اهْتَدَى إلَى الصَّوَابِ فِي مَعْرِفَةِ المَعْبُودِ الذِي عَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَقَالَ لَهُمْ مُشِيراً إلى الشَّمْسِ: هَذَا رَبِّي، هَذَا أَكْبَرُ مَا رَأَيْتُ مِنَ الكَوَاكِبِ، وَأَكْثَرُها نُوراً. فَلَمَّا غَابَتْ تَبَرَّأَ، مِنْ كُلِّ المَعْبُودَاتِ التِي جَعَلَهَا قَوْمُهُ أَرْبَاباً لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ.
(٧٩) - وَبَعْدَ أَنْ تَبَرَّأَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ وَالكَوَاكِبِ التِي عَكَفَ قَوْمُهُ عَلَى عِبَادَتِهَا، وَهُوَ الذِي بِيَدِهِ مُلْكُ كُلِّ شَيءٍ، وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ. وَقَالَ إنَّهُ أَفْرَدَ اللهُ وَحْدَهُ بِالعِبَادَةِ مُخْلِصاً فِيهَا، مُنْحَرِفاً عَنِ الشِّرْكِ، وَمُتَبَرِّئاً مِنَ المُشْرِكِينَ.
فَطَرَ - أَوْجَدَ وَأَنْشَأَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ.
حَنِيفاً - مُنْحَرِفاً عَنِ الشِّرْكِ.
(٨٠) - وَجَادَلَ إِبْرَاهِيمَ قَوْمُهُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَنَاظِرُوهُ بِشُبَهٍ مِنَ القَوْلِ، وَبَيَّنُوا لَهُ أَوْهَامَهُمْ فِي شِرْكِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَمْرِ اللهِ، وَفِي أنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ؟ لَقَدْ بَصَّرَنِي رَبِّي بِالحَقِّ، وَهَدَانِي إِلَيْهِ، وَأَنَا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ، فَكَيْفَ أَلْتَفِتُ إلَى أَقْوَالِكُمْ وَحُجَجِكُمُ البَاطِلَةِ؟ وَمِنَ الدَّلاَئِلِ عَلَى بُطْلاَنِ اعْتِقَادِكُمْ أَنَّ هَذِهِ الأَصْنَامُ آلِهَةٌ تَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ، أَنَّهَا لاَ تَسْتَطِيعُ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً لأَحَدٍ، وَأَنَا لاَ أَخَافُهَا، وَلاَ أُبَالِي بِهَا، فَإِنْ كَانَ لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى الكَيْدِ وَالإِيذَاءِ، فَكِيدُونِي بِهَا، وَلاَ تُنْظِرُونَ. أَمَّا الذِي يَضُرُّ وَيَنْفَعُ، حَقِيقَةً، فَهُوَ اللهُ، فَهُوَ وَحْدَهُ القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَنَا لاَ أَخَافُ الضَّرَرَ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبِّي ذَلِكَ، وَلَقْدَ أَحَاطَ رَبِّي بِكُلِّ شَيءٍ عِلْماً، فَلاَ تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَكَيْفَ لا تَتَذَكَّرُونَ ذَلِكَ، وَلاَ تُدْرِكُونَ أَنَّ الحَجَرَ العَاجِزَ لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ؟
حَاجَّةُ قَوْمُهُ - جَادَلُوهُ وَخَاصَمُوهُ فِي التَّوْحِيدِ.
(٨١) - وَكَيْفَ أَخَافُ أَنَا مِنْ هَذِهِ الأَصْنَامُ التِي تَعْبُدُونَهَا، وَهِيَ لاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا، وَلاَ لِغَيْرِهَا نَفْعاً وَلاَ ضَراً، وَلاَ تَخَافُونَ أَنْتُمْ مِنْ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ فِي عِبَادِةِ اللهِ هَذِهِ الأَصْنَامِ، وَهُوَ القَادِرُ القَاهِرُ، وَهُوَ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ حُجَّةً وَلاَ بُرْهَاناً وَلاَ دَلِيلاً عَلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ هَذِهِ الأَصْنَامِ؟ وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الحَالِ التِي نَحْنُ فِيهَا: أَيْ الجَانِبَيْنِ - أَنَا وَأَنْتُمْ - أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ مُطْمَئِناً مَنْ عَبَدَ أَصْنَاماً حِجَارَةً لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ؟ هَذا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَتُقَدِّرُونَ الأُمُورَ.
(٨٢) - ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ مَنْ هُوَ الحَقِيقُ بِالأَمْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ فَقَالَ: الذِينَ أَخْلَصُوا العِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ (يَلْبِسُوا) بِظُلْمٍ، وَلاَ كُفْرٍ، وَلاَ شِرْكٍ بِاللهِ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الآمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الخُلُودِ فِي العَذَابِ، وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
لَمْ يَلْبِسُوا - لَمْ يَخْلِطُوا.
بِظُلْمٍ - بِشِرْكٍ أَوْ كُفْرٍ.
(٨٣) - وَتِلْكَ هِيَ حُجَّةُ اللهِ الدَّامِغَةُ عَلَى وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، أَرْشَدَ إِلَيْهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، لِيُوجِّهُهَا إلَى قَوْمِهِ، وَهُمْ يُجَادِلُونَهُ فِي رَبِّهِ، وَاللهُ يَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، دَرَجَاتٍ فِي الدِّينِ وَالفَهْمِ وَالحُجَّةِ، وَإنَّ رَبَّكَ اللهَ الذِي رَبَّاكَ وَعَلَّمَكَ وَهَدَاكَ يَا مُحَمَّدُ، وَجَعَلَكَ خَاتَمَ الرُّسُلِ، حَكِيمٌ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَهْتَدِي بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَبِمَنْ يَضِلُّ، وَبِمَنْ قَامَتِ الحُجَّةُ عَلَيْهِ.
(٨٤) - يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ وَهَبَ لإِبْرَاهِيمَ ابْنَهُ إِسْحَاقَ بَعْدَ أَنْ شَاخَ وَطَعَنَ فِي السِّنِّ، وَبَشَّرَتْهُ المَلاَئِكَةُ بِأنَّ ابْنَهُ إِسْحَاقَ سَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ اسْمُهُ يَعْقُوبُ، فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ هَدَى كُلاًّ مِنْ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِمَا آتَاهُمَا مِنَ النُّبُوَّةِ وَالحِكْمَةِ، وَإِنَّهُ تَعَالَى هَدَى مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ: (أَوْ مِنْ ذُرِّيَةِ إَبْرَاهِيمَ - وَإِبْرَاهِيمُ مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ) : دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَيُوسُفَ وَأَيُّوبَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَآتَاهُمُ الحُكْمَ وَالنَّبُوَّةَ، وَكَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ المُحْسِنِينَ فَيَهْدِيهِمْ إلَى الحَقِّ وَالصَّوَابِ وَالإِيمَانِ.
(٨٥) - وَهَدَى اللهُ مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ أَيْضاً: زَكَرِيّا وَابْنَهُ يَحْيِى وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَإِلْيَاسَ، وَقَدْ جَعَلَهُمُ اللهُ جَمِيعاً مِنَ الصَّالِحِينَ. وَكَانَتْ لِهَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ مِيزَةُ الزُّهْدِ وَالإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيا وَلَذَّاتِها، وَزِينَتِهَا، لِذَلِكَ خَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِوَصْفِ الصَّالِحِينَ.
(٨٦) - وَمِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ، مِمَّنْ هَدَاهُمُ اللهُ، يَذْكُرُ تَعَالَى: إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، وَاليَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوْطاً فَهَدَاهُمْ، وَآتَاهُمُ النُّبُوَّة، وَجَعَلَهُمْ مِنَ المُهْتَدِينَ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى العَالَمِينَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ.
(٨٧) - وَهَدَى اللهُ بَعْضَ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ - لاَ كُلّهُمْ إذْ إِنَّ بَعْضَ هَؤُلاءِ الأَقْرَبِينَ لَمْ يَهْتَدِ بِهَدِي أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ، كَآزَرَ أَبِي إِبْرَاهِيم، وَابْنِ نُوحٍ وَزَوْجَةِ لُوطٍ -. وَيَقُولُ تَعَالَى إنَّهُ اخْتَارَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ وَهَدَاهُمُ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ.
اجْتَبَاهُمُ - اصْطَفَاهُمْ.
حَبِطَ - بَطَلَ وَسَقَطَ وَهَلَكَ.
(٨٩) - أُولَئِكَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمْ، بِأنْ آتَاهُمُ الكِتَابَ (صُحُفَ إِبْرَاهِيم، وَتَوْرَاةِ مُوسَى وَزَبُورِ دَاوُدَ، وَإِنْجِيلَ عِيسَى) كَمَا آتَاهُمُ العِلْمَ وَالفِقْهَ فِي الدِّينِ (الحُكْمَ)، وَآتَاهُمُ النُّبُوَّةَ لِيَهْدُوا النَّاسَ إلى اللهِ، وَذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ بِعِبَادِهِ، وَلَطْفٌ مِنْهٌ بِخَلْقِهِ، فَإنْ يَكْفُرْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ فِي الأَرْضِ مِنَ البَشَرِ (هَؤلاءِ) بِالكِتَابِ وَالحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ بِرِعَايَتِهَا قَوماً مُؤْمِنِينَ، لاَ يَجْحَدُونَ مِنْهَا شَيْئاً، وَلاَ يَرُدُّونَ مِنْهَا حَرْفاً. (وَهُمُ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَاُر وَالمُؤْمِنُونَ - عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا المَقْطَعِ مِنَ الآيَةِ).
(٩٠) - وَهَؤُلاءِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ، الذِينَ وَرَدَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَالذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأنَّهُ آتَاهُمُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، هُمُ الذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ هِدَايَةً كَامِلَةً، فَاهْتَدِ، يَا مُحَمَّدُ، بِهُدَاهُمْ، وَاقْتَدِ بِهِمْ، فِي الأَخْلاَقِ الحَمِيدَةِ، وَالصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى السُّفَهَاءِ، وَالعَفْوِ عَنْهُم، وَقُلْ لِقَوْمِكَ إنَّنِي لاَ أَسْأَلُكُمْ أَجْراً عَلَى إِبْلاغِ رِسَالَةِ رَبِّي إلَيْكُمْ، وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيَّ مِنَ القُرْآنِ، فَهَذَا القُرْآنُ هُوَ تَذْكِيرٌ (ذِكْرَى) لِلْعَالَمِينَ الذِينَ يَتَذَكَّرُونَ فَيَرْشُدُونَ مِنَ الجَهَالَةِ وَالضَّلاَلَةِ.
اقْتَدِهْ - اقْتَدِ وَالهَاءُ لِلسَّكْتِ.
(٩١) - مَا عَرَفَ مُنْكِرُو الوَحْيِ، مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، اللهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَلاَ عَظَّمُوهُ حَقَّ التَّعْظِيمِ الذِي يَسْتَحِقُهُ، إذْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ ﷺ؛ وَقَالُوا: (مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ)، فَقُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلاَءِ المُنْكِرِينَ إِنْزَالَ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى البَشَرِ: مَنِ الذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، لِيَكُونَ نُوراً يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي كَشْفِ الغَوَامِضِ، وَحَلِّ المُشْكِلاَتِ، وَهُدىً يَهْتَدِي بِهِ مِنْ ظُلَمِ الشُّبُهَاتِ؟
وَمُشْرِكُو العَرَبِ يُقِرُّونَ بِأنَّ التَّوْرَاةَ مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَلَى رَسُولِهِ مُوسَى، لِذَلِكَ يَكُونُ تَعَالَى قَدْ أَقَامَ الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بَأنَّ اللهَ يُنَزِّلُ الوَحْيَ وَالكُتُبَ عَلَى مَنْ يَخْتَارُهُمْ مِنْ خَلْقِهِ لِحَمْلِ رِسَالاَتِهِ.
وَقَدْ أَرْسَلَ مُشْرِكُو قُرَيشٍ وَفْداً إلَى المَدِينَةِ يَسْأَلُونَ أَحْبَارَ اليَهُودِ عَمَّا يَجِدُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ مُحَمَّدٍ ﷺ وَصِفَتِهِ، فَرَدَّ الأَحْبَارُ عَلَيْهِم: إِنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ عَنْهُ شَيْئاً. وَقَدْ اهْتَدَى اليَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ، وَصَارُوا خَلْقاً آخَرَ مُتَمَسِّكاً بِالحَقِّ وَالعَدْلِ، حَتَّى اخْتَلَفُوا، وَنُسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَاتَّبَعُو أَهْوَاءَهُمْ، وَجَعَلُوا كِتَابَهُمْ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا عِنْدَ الحَاجَةِ، فَكَانَ الحِبْرُ مِنْ أَحْبَارِهِمْ إذَا اسْتُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ لَهُ هَوًى فِي إِظْهَارِ حُكْمِ اللهِ فِيهَا كَتَبَ ذَلِكَ الحُكْمَ فِي قِرْطَاسٍ، وَأَظْهَرَهُ لِلْمُسْتَفْتِي وَخُصُومِهِ. وَكَانُوا يُخْفُونَ كَثِيراً مِنْ أَحْكَامِ الكِتَابِ وَأَخْبَارِهِ، إذَا كَانَ لَهُمْ هَوًى فِي ذَلِكَ وَمَصْلَحَةً. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أنَّ الكِتَابَ كَانَ فِي أَيْدِي الأَحْبَارِ، وَلَمْ تَكُنْ فِي أَيْدِي العَامَّةِ نَسَخَ مِنْهُ، وَقَدْ أَخْفَى اليَهَودُ حُكْمَ رَجْمِ الزَّانِي فِي المَدِينَةِ، وَأَخْفَوا البِشَارَةَ الوَارِدَةَ فِي التَّوْرَاةِ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَكَتَمُوا صِفَتَهُ عَنِ العَامَّةِ، وَصَرَفُوهَا إلى مَعَانٍ أُخْرَى بِالنِّسْبَةِ لِلْخَاصَّةِ، لِكَيْلاَ يَتْبَعَهُ اليَهُودُ.
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ بِأَنْ يَتَوَلَّى هُوَ الجَوَابَ عَنْ هَذا السُّؤَالِ إذَا سَكَتَ الكُفَّارُ: وَلْيَقُلْ إنَّ الذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة هُوَ اللهُ، ثُمَّ عَلَيهِ أَنْ يَتْرُكَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الضِّلالِ يَخُوضُونَ وَيَلْعَبُونَ كَالصِّبْيَانِ.
مَا قَدَرُوا اللهَ - مَاعَرَفُوا اللهَ وَمَا عَظَّمُوهُ.
قَرَاطِيسَ - أَوْرَاقاً مَكتُوبَةً مُتَفَرِّقَةً.
قُلِ اللهُ - قُلْ أَنْزَلَهُ اللهُ (أَيْ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ).
خَوْضِهِمْ - فِيمَا يَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ الحَدِيثِ وَالبَاطِلِ.
(٩٢) - وَهَذَا القُرْآنُ كِتَابٌ عَظِيمُ القَدْرِ، أَنْزَلْنَاهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ، كَمَا أَنْزَلْنَا مِنْ قَبْلُ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَقَدْ بَارَكْنَا فِيهِ فَجَعَلْنَاهُ كَثِيرَ الخَيْرِ، دَائِمَ البَرَكَةِ وَالمَنْفَعَةِ، يُبَشِّرُ بِالثَّوَابِ وَالمَغْفِرَةِ، وَيَنْهَى عَنْهُ المَعْصِيَةِ، مُصَدِّقاً لِمَا تَقَدَّمَهُ مَنْ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ، فِي المَبَادِئِ التِي جَاءَتْ بِهَا، وَقَدْ أَنْزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ لِيُنْذِرَ أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ بِلاَدِ اللهِ جَمَيعاً (كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ)، وَلِيُحَذِّرَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَبَأْسِهِ، إذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ وَبِالمَعَادِ إلَى اللهِ فِي الآخِرَةِ لِلْحِسَابِ، يُؤْمِنُ بِهَذا القُرْآنِ، لأَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِيهِ الهِدَايَةَ وَالسَّعَادَةَ فِي تِلْكَ الدَّارِ. وَالذِي يُؤْمِنُونَ بِالقُرْآنِ يُحَافِظُونَ عَلَى صَلاتِهِمْ فَيُؤَدُّونَها فِي أَوْقَاتِهَا، لأنَّ الصَّلاةَ عِمَادَ الدِّينِ، وَالمُحَافَظَةُ عَلَيها تَدْعُو إلى القِيَامِ بِسَائِرِ العِبَادَاتِ.
أُمَّ القَرى - مَكَّةَ.
مَنْ حَوْلَهَا - أَهْلُ الآفَاقِ - أَيْ أَهْلُ بِلاَدِ العَالَمِ جَمِيعاً.
مُبَارَكٌ - كَثيرُ المَنَافِعِ وَالفَوَائِدِ (وَهُوَ القُرْآنُ).
(٩٣) - لاَ أَحَدَ أَكْثَرُ ظُلْماً مِمَّنْ كَذَبَ عَلى اللهِ، فَجَعَلَ لَهُ شَرِيكاً أَوْ وَلَداً، أَوْ ادَّعَى أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ رَسُولاً إلى النَّاسِ، وَلَمْ يَكُنِ اللهُ قَدْ أَرْسَلَهُ (كَالذِينَ يَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ)، أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْزِل مِثْلَمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الوَحْيِ وَالقُرْآنِ (كَالذِينَ قَالُوا: لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا).
وَهَؤُلاءِ الظَّالِمُونَ وَأَمثَالُهُمْ جُرْمُهُمْ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ. وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ حَالَهُمْ وَهُمْ يُعَانُونَ سَكَرَاتِ المَوْتِ، وَآلاَمَ اللَّحَظَاتِ الأَخِيرَةِ مِنْ حَيَاتِهِم التَّعِيسَةِ، لَرَأَيْتَ مَالاَ سَبِيلَ إلَى وَصْفِهِ وَتَصْوِيرِهِ مِنْ سُوءٍ، وَقَدْ جَاءَتْهُمْ مَلاَئِكَةُ المَوْتِ بَاسِطِينَ إِلَيْهِمْ أَيْدِيَهُمْ بِالضَّرْبِ وَالعَذَابِ لِيَسْتَخْرِجُوا أَرْوَاحَهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، بِقَسْوَةٍ وَعُنْفٍ، لِمَا كُنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ، وَتَسْتَكْبِرُونَ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِهِ، وَالانْقِيَادِ إلَى رُسُلِهِ.
غَمَرَاتِ المَوْتِ - سَكَرَاتِهِ وَشَدَائِدِهِ.
أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ - خَلِّصُوهَا مِمَّا هِيَ فِيهِ مِنَ العَذَابِ - أَوْ تَخَلَّوْا عَنْهَا.
عَذَابَ الهُونِ - الهَوَانَ الشَّدِيدَ وَالذُّلَّ وَالخِزْيَ.
(٩٤) - ثُمَّ يَصِفُ اللهُ تَعَالَى حَالَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ: لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوْلَ مَرَّةٍ، وَكَمَا بَدَأْنَاكُمْ أَعَدْنَاكُمْ، وَكُنْتُمْ تُنْكِرُونَ ذَلِكَ، وَتَسْتَبْعِدُونَهُ، فَهَذَا هُوَ يَوْمُ البَعْثِ الذِي كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ، وَقَدْ تَرَكْتُمْ فِي الدُّنْيا مَا آتَيْنَاكُمْ فِيهَا مِنَ النِّعَمِ، وَالأَمْوَالِ التِي جَمَعْتُمُوهَا. وَيُقَرَّعُونَ عَلَى مَا كَانُوا اتَّخَذُوهُ فِي الدُّنْيا مِنَ الأَنْدَادِ وَالأَصْنَامِ ظَانِّينَ أَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إنَّنَا لاَ نَرَى مَعَكُمُ الشُّفَعَاءَ الذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ قِسْطاً مِنْ اسْتِحْقَاقِ العِبَادَةِ، لَقَدْ تَقَطَّعَتْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمُ الأَسْبَابَ وَالصِّلاَتُ، وَتَلاَشَتْ آمَالُكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَهُ مِنْ رَجَاءِ شَفَاعَتِهِمْ.
(وَيُرْوَى فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ: أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الحَارِثِ، وَهُوَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشِ، قَالَ: سَتَشْفَعُ لِي اللاَّتُ وَالغُزَّى).
مَا خَوَّلْنَاكُمْ - مَا أَعْطَيْنَاكُمْ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيا.
تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ - تَفَرَّقَ الاتِّصَالُ بَيْنَكُمْ.
فَالِقُ الحَبِّ - شَاقُّ الحَبِّ عَنِ النَّبَاتِ، أَوْ خَالِقُهُ.
فَكَيْفَ تُؤْفَكُونَ - فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنُ عِبَادَتِهِ.
فَالِقُ الإِصْبَاحِ - شَاقُّ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ عَنْ بَيَاضِ النَّهَارِ.
حُسْبَاناً - يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ مُقَدَّرٍ فِي فَلَكِهِمَا.
(٩٧) - وَجَعَلَ اللهُ النُّجُومَ لِيَهْتَدِي بِهَا النَّاسَ فِي الأَوْقََاتِ التِي يَغْشَى فِيها الأَرْضَ الظَّلامُ، وَلِيَعْرِفُوا الاتِّجَاهَاتِ، حِينَمَا تَكُونُ الشَّمْسَ غَائِبَةً. وَيَقُولُ تَعَالَى: إنَّهُ بَيَّنَ الآيَاتِ وَوَضَّحَهَا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَيَعْرِفُونَ الحَقَّ، وَيَتَجَنَّبُونَ البَاطِلَ.
(٩٨) - وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي أَنْشَأَ البَشَرَ، وَخَلَقَهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ نَفْسُ آدَمَ، إذْ خَلَقَهُ مِنْ طِين (وَهُوَ تُرَابٌ خَالَطَهُ مَاءٌ)، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ هَذِهِ النَّفْسِ زَوْجَها (حَوَّاءَ)، وَبَثَّ البَشَرَ جَمِيعاً مِنْهُمَا بِالتَّزَاوُجِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالإِنَاثِ، وَذَلِكَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ، فَمَقَرُّ النُّطْفَةِ صُلْبُ الرَّجُلِ، وَمُسْتَوْدَعُها رَحْمُ الأَنْثَى (فَتَخْرُجُ النُّطْفَةُ مِنْ مُسْتَقَرِّهَا فِي الأَصْلاَبِ وَتُسْتَوْدَعُ فِي الأَرْحَامِ فَيَتَخَلَّقُ البَشَرُ).
وَيَقُولُ تَعَالَى: إنَّهُ فَصَّلَ الآيَاتِ وَبَيَّنَها لِمَنْ يَفْقَهُونَ، لأنَّهُمْ هُمُ الذِينَ يَعُونَ كَلاَمَ اللهِ، وَيَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ.
مُسْتَقَرُ النُّطْفَةِ - فِي أَصْلاَبِ الذُّكُورِ (وَقِيلَ لاَ بَلْ فِي الأَرْحَامِ).
وَمُسْتَوْدَعُها - فِي أَرْحَامِ الإِنَاثِ (وَقِيلَ لاَ بَلْ تُسْتَودَعُ فِي أَصْلاَبِ الذُّكُورِ).
(٩٩) - وَهُوَ الذِي أَنْزَلَ بِقَدَرٍ مِنْهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً، وَرِزْقاً لِلْعِبَادِ، وَإِحْيَاءً وَغِيَاثاً لِلْخَلاَئِقِ، فَأَخْرَجَ النَّبَاتَ وَالزُّروعَ وَالشَّجَرَ الأَخْضَرَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْلُقُ فِيهِ الحَبَّ وَالثَّمَرَ، وَيَرْكَبُ بَعْضُ الحَبِّ بَعْضاً كَسَنَابِلِ القَمْحِ وَالذُّرَةِ وَنَحْوِهَا، وَيُخْرِجُ مِنْ طُلُوعِ النَّخْلِ عُذُوقَ الرَّطَبِ (قِنْوَانٌ - وَهِيَ عَنَاقِيدُ التَّمْرِ)، وَتَكُونُ دَانِيةً قَرِيبَةً مِنَ المُتَنَاوَلِ، وَيُخْرِجُ بِالمَاءِ بَسَاتِينَ (جَنَّاتٍ) العِنَبِ وَيُخْرِجُ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ. وَثِمَارُ هذِهِ الأّشْجَارِ تَتَشَابَهُ فِي مَنْظَرِهَا، وَتَخْتَلِفُ فِي طَعْمِها، فَانْظُرُوا، فِي تَدَبُّرِ وَتَمَعُّنِ، إلَى ثَمَرِهِ حِينَ يُثْمِرُ، وَإلى نُضْجِهِ، وَفَكِّرُوا فِي قُدْرَةِ الخَالِقِ، الذِي أَخْرَجَهُ إلَى الوُجُودِ، فَبَعْدَ أنْ كَانَ حَطَباً صَار ثَمَراً صَغِيراً، ثُمَّ أَخَذَ فِي النَّمَاءِ حَتَّى صَارَ فَاكِهَةً نَاضِجَةً، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ، يَا أَيُّها النَّاسُ، دَلاَلاَتٍ عَلَى وُجُودِ خَالِقِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ، وَعَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، لِقَوْمٍ يُصَدِّقُونَ بِهِ، وَيَتَّبِعُونَ رُسُلَهُ.
خَضِراً - شَيْئاً أَخْضَرَ غَضّاً.
حَبّاً مُتَرَاكِباً - يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضاً، كَسَنَابِلِ القَمْحِ وَعَنَاقِيدِ الذُّرَةِ.
طَلْعُ النَّخْلِ - أَوَّلُ مَا يَخْرُجُ ثَمَرُ النَّخْلِ فِي الكِيزَانِ.
قِنْوانٌ - عُذُوقُ النَّخْلِ. وَهِيَ كَالعَنَاقِيِدِ لِلْعِنَبِ تَنْشَقُّ عَنْهَا الكِيزَانُ.
دَانِيةً - مُتَدَلِّيَةً أَوْ قَريبَةً مِنْ مُتَنَاوَلِ اليَدِ.
يَنْعِهِ - نُضْجِهِ.
(١٠٠) - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَةِ مِنَ المَجُوسِ، الذِينَ قَالُوا إنَّ اللهَ خَالِقُ النَّاسِ وَالدَّوَابِ وَالأَنْعَامِ، فَهُوَ إلهُ الخَيْرِ. وَإِبْلِيسُ خَالِقُ السِّبَاعِ وَالضَّوَارِي وَالحَيَّاتِ وَالشَّرِّ، فَهُوَ إلهُ الشَّرِّ. وَيَقُولُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ: لَقَدْ جَعَلَ المُشْرِكُونَ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، شُرَكَاءَ مِنَ الجِنِّ، وَالحَاُل أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ هَؤُلاَءِ الشُّرَكَاءَ الذِينَ عَبَدَهُمُ المُشْرِكُونَ، كَمَا خَلَقَ غَيْرَهُمْ، فَجَمِيعُ الخَلْقِ عَبِيدُهُ، وَالمَخْلُوقُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَبّاً وَلاَ إِلهاً، وَاخْتَلَقَ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ بِحُمْقِهِمْ، وَجَهْلِهِمْ، للهِ بَنَاتٍ وَبَنِينَ، وَجَعَلُوهُمْ أَبْنَاءَهُ (فَجَعَلَ العَرَبُ المَلاَئِكَةَ بَنَاتِ اللهِ، وَجَعَلَ اليَهُودُ عُزَيْراً ابْنُ اللهِ، وَجَعَلَ النَّصَارَى المَسِيحَ ابْنَ اللهِ). وَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ مَا قَالُوا إنْ كَانَ خَطَأً أَوْ صَوَاباً (بِغَيِْر عِلْمٍ). تَنَزَّهَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُهُ هَؤُلاَءِ الضَّالُّونَ، وَعَنْ كُلِّ نَقْصٍ يُنَافِي انْفِرَادَهُ بِالخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، إِذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ.
الجِنَّ - الشَّيَاطِينَ.
خَرَقُوا لَهُ - اخْتَلَقُوا وَافْتَرَوْا وَنَسَبُوا إِلَيْهِ افْتِراءً وَحَمَاقَةً.
(١٠١) - لَقَدْ أَبْدَعَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَخَلَقَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَالوَلَدُ يَتَوَلَّدُ مِنْ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ، وَاللهُ لاَ يُشْبِهُهُ شَيءٌ مِنْ خَلْقِهِ، لأنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ، فَلا صَاحِبَةَ لَهُ وَلاَ وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ، وَهُوَ عَليمٌ بِكُلِّ شَيءٍ.
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ - مُبْدِعُهَا وَخَالِقُها عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ.
أنَّى يَكُونُ - كَيْفَ يَكُونُ، أَوْ مِنْ أَيْنَ يَكُونُ؟
(١٠٢) - وَيَقُولُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ، الذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ: إنَّ الإِلهَ المُنَزَّهَ عَنْ كُلِّ مَا يَقُولُونَ، المُتَّصِفَ بِصِفَاتِ الكَمَالِ وَالخَلْقِ وَالإِبْدَاعِ، الذِي خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ، وَلاَ صَاحِبَةً لَهُ وَلاَ وَلَدْ، هُوَ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلهَ غَيْرُهُ، فَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَقِرُّوا بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَبِعُبُودِيَّتِكُمْ لَهُ، وَهُوَ وَكِيلٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، مُتَوَلٍّ شُؤُونَ خَلْقِهِ، وَمُدَبِّرُ مُلْكِهِ بِعِمْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ حَفِيظٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ الخَالِقُ الرَّازِقُ المُدَبِّرُ.
وَكِيلٌ - رَقِيبٌ وَمُتَوَلٍّ.
(١٠٣) - لاَ تَرَى الأَبْصَارُ اللهَ رُؤْيَةَ إِحَاطَةٍ تَعْرِفُ كُنْهَهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ تَعَالَى يَرَى العُيُونَ المُبْصِرَةَ رُؤْيَةَ إِدْرَاكٍ وَإِحَاطَةٍ، فَلاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ حَقِيقَتِهَا، وَلاَ شَيءٌ مِنْ عِلْمِهَا، وَهُوَ اللَّطِيفُ بِذَاتِهِ، يُعْجِزُ الأَبْصَارَ عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ الخَبِيرُ بِدَقَائِقِ الأَشْيَاءِ، فَلا يَعْزُبُ عَنْ إِدْرَاكِهِ شَيءٌ.
لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ - لاَ تُحِيطُ بِهِ تَعَالَى.
(١٠٤) - وَقُلْ لَهُمْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ: قَدْ جَاءَتْكُمْ مِنْ خَالِقِكُمْ بَصَائِرُ فِي هَذا القُرْآنِ، مِنَ الحُجَجِ الكَوْنِيَّةِ، وَالبَرَاهِينِ العَظِيمَةِ، تُثْبِتُ لَكُمْ عَقَائِدَ الحَقِّ اليَقِينِيَّةِ، فَمَنْ أَبْصَرَ الحَقَّ وَآمَنَ، وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى، فَيَكُونُ قَدْ قَدَّمَ لِنَفْسِهِ الخَيْرَ وَالسَّعَادَةَ، وَمَنْ عَمِيَ عَنِ الحَقِّ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَأَصَرَّ عَلى الضَّلاَلَةِ، فَيَكُونُ قَدْ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِرَقِيبٍ أُحْصِي عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَأَفْعَالَكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، وَاللهُ هُوَ الحَفِيظُ عَلَيْكُمْ.
بَصَائِرُ - آيَاتٌ وَبَرَاهِينُ تَهْدِي إلَى الحَقِّ وَتُبَصِّرُ بِهِ.
حَفِيظٌ - رَقِيبٌ يُحْصِي الأَعْمَالَ لِيُحَاسِبَ عَلَيْهَا.
(١٠٥) - وَمِثْلَ ذَلِكَ التَّصرِيفِ البَدِيعِ، فِي عَرْضِ الدَّلاَئِلِ الكَوْنِيَّةِ، نَعْرِضُ آيَاتِنَا فِي القُرْآنِ، مُنَوَّعَةً مُفَصَّلَةً، لإِثْبَاتِ أُصُولِ الإِيمَانِ، وَتَهْذِيبِ النُّفُوسِ وَالأَخْلاَقِ، فَنُحَوِّلُها مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ. فَالْمُسْتَعِدُّونَ لِلإِيمَانِ يَهْتَدُونَ بِهُدَى اللهِ وَحُجَجِهِ، وَالجَاحِدُونَ المُعَانِدُونَ، مِنَ المُشْرِكِينَ يَقُولُونَ قَدْ دَرَسْتَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قَبْلُ، وَتَعَلَّمْتَ مِنْ غَيْرِكَ هَذا الذِي تَقُولُهُ، وَلَيْسَ هُوَ بِوَحيٍ مُنْزَلٍ عَلَيْكَ مِنْ عِنْدِ اللهِ كَمَا زَعَمْتَ. وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا فِي آيَةٍ أُخْرَى:
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ.﴾ ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: وَنُبَيِّنُ هَذَا القُرْآنَ المُشْتَمِلَ عَلَى تَصْرِيفِ الآيَاتِ، لِقَوْمٍ لَدَيْهِم الاسْتِعْدَادُ إذَا عَلِمُوا الحَقَّ أَنْ يَتَّبِعُوهُ، وَإِذَا أَدْرَكُوا البَاطِلَ أَنْ يَجْتَنِبُوهُ.
نُصَرِّفُ الآيَاتِ - نُكَرِّرُهَا بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ.
دَرَسْتَ - قَرَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ (مِنَ الدِّرَاسَةِ).
(١٠٧) - وَلَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى ألاَّ يُشْرِكُوا لَمَا أَشْرَكُوا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْلُقَ البَشَرَ مُؤْمِنِينَ، مُطِيعِينَ بِالفِطْرَةِ كَالمَلائِكَةِ، لَكِنْ لِحِكْمَةٍ مِنْهُ خَلَقَهُمْ مُخْتَارِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفِي كَسْبِهِمْ لِعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. وَقَدْ جَعَلَ فِيهِمُ الخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَمَا جَعَلَكَ اللهُ عَلَيْهِم حَفِيظاً تَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ لِتُحَاسِبَهُمْ عَلَيْهَا، وَلاَ وَكِيلاً تَتَوَّلَى أُمُورَهُمْ وَتَتَصَرَّفُ بِهَا. وَإِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، عَلَيكَ البَلاَغُ، وَعَلَى اللهِ الحِسَابُ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ المُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ لِتَنْتَهِي عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا أَوْ لَنَهْجُوَنَّ رَبَّكَ. فَنَهَى اللهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَسُبّوا أَوْثَانَ المُشْرِكِينَ لِكَيْلاً يَسُبّوا اللهَ عَدْواً بِغَيرِ عِلْمٍ).
وَكَمَا زُيِّنَ لِهَؤُلاَءِ الكُفَّارِ حُبَّ أَصْنَامِهِمْ، وَالمُحَامَاةِ عَنْهَا، وَالانْتِصَارِ لَهَا، كَذَلِكَ، زُيِّنَ لِكُلِّ أُمْةٍ مِنَ الأُمَمِ الضَّالَّةِ الخَالِيَةِ عَمَلُهُمُ الذِي كَانُوا فِيهِ، وَللهِ الحِكْمَةُ التَّامَّةُ، وَالحُجَّةُ البَالِغَةُ فِيمَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَيهِ تَعَالَى فَيُنَبِئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيا، وَيَجْزِيهِمْ عَلَيْهِ الجَزَاءَ الأَوْفَى إِنْ خَيْراً فَخَيراً، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً.
عَدْواً - اعْتِدَاءً وَظُلْماً وَتَجَاوُزاً.
(١٠٩) - وَأَقْسَمَ المُشْرِكُونَ أَيْمَاناً مُؤَكَّدَةً، لَئِنْ أَتَتْهُمْ مُعْجِزَةٌ مِنَ اللهِ لِيُصَدِّقُنَّهَا، وَلَيُؤْمِنُنَّ بِهَا، فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهؤُلاَءِ الذِينَ يَسْأَلُونَ الآيَاتِ، تَعَنُّتاً وَكُفْراً، لاَ عَلَى سَبِيلِ الاسْتِهْدَاءِ وَالاسْتِرْشَادِ: إنَّ الآيَاتِ عِنْدَ اللهِ وَحْدَهُ، إنْ شَاءَ جَاءَكُمْ بِهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَكُمْ. وَمَا يُدْرِيكُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ أنَّ هَذِهِ الآيَاتِ إذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَيَسْتَمِرُّونَ عَلَى جُحُودِهِمْ بِهَا؟
(وَرُوِيَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ رَداً عَلَى المُشْرِكِينَ، فَقَدْ كَلَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْماً قُرَيْشاً، فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ: تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ مَعَهُ عَصَا يَضْرِبُ بِهَا الحَجَرَ، وَأَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي المَوْتَى، وَأَنَّ صَالِحاً كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ... فَأْتِنَا بِبَعْضِ تِلْكَ الآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولَ اللهِ: أَيُّ شَيءٍ تُحِبُّونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ؟ قَالُوا: تُحَوِّلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَباً. فَقَالَ لَهُمْ إنْ فَعَلْتُ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ. وَاللهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لَنَتْبَعَنَّكَ أَجْمَعِينَ. فَقَامَ رَسُولُ اللهِ يَدْعُو. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَقَالَ: إنْ شِئْتَ أَصْبِحَ الصَّفَا ذَهَباً، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ لَنُعَذِّبَنَّهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ. فَقَالَ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَتْرُكُهُمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ - مُجْتَهِدِينَ فِي الحَلْفِ بِأَغْلَظِ الأَيْمَانِ وَأَوْكَدِهَا.
(١١٠) - وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّا نَخْتِمُ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ الحَقِّ فَلاَ يُدْرِكُونَهُ، وَنَحُولُ بَيْنَ أَبْصَارِهِمْ وَبَيْنَ اجْتِلائِهِ فَلاَ يُبْصِرُونَهُ، وَيَكُونُ حَالُهُمْ حِينَئِذٍ كَحَالِهِمُ الأَوَّلِ فِي عَدَمِ الإِيمَانِ بِمَا جَاءَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنَ الآيَاتِ. وَمَنْ لَمْ يُقْنِعْهُ مَا جَاءَ بِهِ القُرْآنُ مِنَ الدَّلاَئِلِ العَقْلِيَّةِ، وَالبَرَاهِينِ العَمَلِيَّةِ، لاَ يُقْنِعُهُ مَا يَرَاهُ بِعَيْنِهِ مِنَ الأَدِلَّةِ الحِسِّيَّةِ. وَإِنا نَدَعُهُمْ يَتَجَاوَزُونَ الحَدَّ فِي الكُفْرِ وَالعِصْيَانِ، وَيَتَرَدَّدُونَ حَيَارَى مُتَخَبِّطِينَ فِيمَا سَمِعُوا مِنَ الآيَاتِ وَهُمْ يُحَدِّثُونَ أَنْفُسَهُمْ: أَهَذَا هُوَ الحَقُّ المُبِينُ، أَمْ إِنَّهُ سِحْرٌ خَادِعٌ؟
نَذَرُهُمْ - نَتْرُكُهُمْ.
طُغْيَانِهِمْ - تَجَاوُزِهِمُ الحَدَّ بِالكُفْرِ وَالضَّلاَلَةِ.
يَعْمَهُونَ - يَعْمُونَ عَنِ الرُّشْدِ، أَوْ يَتَحَيَّرُونَ.
(١١١) - إنَّ هَؤُلاَءِ الذِينَ أَقْسَمُوا أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لِيُؤْمِنُنَّ بِهَا، كَاذِبُونَ فِيمَا يَقُولُونَ: فَلُوْ أَجَابَكَ اللهُ عَلَى سُؤَالِكَ - يَا مُحَمَّدُ - فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ المَلاَئِكَةُ تُخْبِرُهُمْ بِصِدْقِ الرِّسَالَةِ المُنْزَّلَةِ عَلَيْكَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، أَوْ أَحْيَا اللهُ المَوْتَى فَكَلَّمُوهُمْ وَأَخْبَرُوهُمْ بِصِدْقِ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ، أَوْ جَمَعَ اللهُ كُلَّ شَيءٍ مِنَ الآيَاتِ وَالدَّلاَئِلِ الأُخْرَى وَأَرْسَلَها إلَيْهِمْ مُعَايَنَةً وَمُوَاجَهَةً مَا كَانُوا لِيُؤمِنُوا بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِمْ، إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِيمَانَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ وَحْدَهُ القَادِرُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَجَعْلِهِمْ يُؤْمِنُونَ. فَهُوَ الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَجْهَلُونَ هَذَا الأَمْرَ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَ المُسْتَهْزِئُونَ مِنْ قُرَيشٍ، وَهُمْ خَمْسَةُ نَفَرٍ، فِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالُوا: أَرِنَا المَلاَئِكَةَ يَشْهَدُونَ لَكَ بِأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، أَوْ ابْعَثْ لَنَا بَعْضَ مَوْتَانَا نَسْأَلْهُمْ: أَحَقٌ مَا تَقُولُ أَوْ بَاطِلٌ. أَوْ ائْتِنَا وَالمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ).
حَشَرْنَا - جَمْعَنا.
قُبُلاً - مُقَابَلَةً وَمُوَاجَهَةً أَوْ جَمَاعَةً جَمَاعَةً.
(١١٢) - وَكَمَا جَعَلْنَا هؤُلاَءِ وَأَمْثَالَهُمْ أَعْدَاءً لَكَ يَا مُحَمَّدُ، يُخَالِفُونَكَ وَيُعَانِدُونَكَ، وَيُعَادُونَكَ، كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ قَبْلِكَ أَعْدَاءً مِنْ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ (شَيَاطِينُ الإِنْسِ هُمُ الكُبُرَاءُ وَمَنْ يُضِلُّونَ النَّاسَ عَنِ الهُدَى بِالوَسْوَسَةِ وَالإِغْرَاءِ وَالمُخَادَعَةِ)، وَيُلْقِي بَعْضُ هَؤُلاَءِ الشَّيَاطِينِ مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ إلى بَعْضِ القَوْلِ المُمَوَّهَ الذِي يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَسْتُرُونَ بِهِ قُبْحَ بَاطِلِهِمْ، وَيُؤَدُّونَهُ بِطُرُقٍ خَفِيَّةٍ لاَ يَفْطَنُ إلَى بَاطِلِهَا كُلُّ وَاحِدٍ، حَتَّى يَغُرُّوا النَّاسَ وَيَخْدَعُوهُمْ وَيُمِيلُوهُمْ إلَى مَا يُرِيدُونَ، كَمَا وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ لآدَمَ وَحَوْاءَ لِلأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ التِي نَهَاهُمَا اللهُ عَنْهَا، وَكَمَا يُوَسْوِسُ شَيَاطِينُ الإِنْسِ لِمَنْ يَجْتَرِحُونَ السَّيِّئَاتِ، فَيُزَيِّنُونَ لَهُمْ مَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ اللَّذَّةِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالحُرِّيَّةِ، وَيُمَنُّونَهُمْ بِعَفْوِ اللهِ.
وَلَوْ شَاءَ اللهُ أَنْ لاَ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لَمَا فَعَلُوهُ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ إِذْ خَلَقَ النَّاسُ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِقُبُولِ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَالخَيْرِ وَالشَّرِّ.
زُخْرُفَ القَوْلِ - بَاطِلَ القَوْلِ المُزَوَّقَ المُمَوَّهَ.
غُرُوراً - خِدَاعاً وَأَخْذاً عَلَى غِرَّةٍ.
(١١٣) - وَيُوحِي هَؤُلاَءِ الشَّيَاطِينُ، بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، القَوْلَ المُمَوَّهَ لِيَغُرُّوا بِهِ المُؤْمِنِينَ، وَيَصْرِفُوهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، وَيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلِتَمِيلَ إِلَيهِ قُلُوبُ الكَافِرِينَ الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ، لأنَّهُ المُوَافِقُ لأَنْفُسِهِمْ إذْ هُمْ يَمِيلُونَ إلَى حُبِّ الشَّهَوَاتِ التِي مِنْ جُمْلَتِهَا الأَقَاوِيلُ المُزَخْرَفَةُ، وَالأَبَاطِيلُ المُمَوَّهَةُ، فَيَرْضَوْنَ ذَلِكَ لأَنْفُسِهِمْ بِلاَ بَحْثٍ وَلاَ تَمْحِيصٍ فِيهِ، وَيَرْتَكِبُونَ مِنَ المَآثِمِ وَالمَعَاصِي مَا هُمْ مُرْتَكِبُونَ بِغُرُورِهِمْ.
لِتَصْغَى - لِتَمِيلَ إلَى زُخْرُفِ القَوْلِ.
لِيَقْتَرِفُوا - لِيَكْتَسِبُوا مِنَ الآثَامِ.
(١١٤) - قُلْ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ بِاللهِ، الذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْكَ تَقْدِيمَ الأَدِلَّةِ، وَالإِتْيَانَ بِالمُعْجِزَاتِ لِلْدَّلاَلَةِ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِكَ: إِنَّ القُرْآنَ هُوَ أَقْوَى مِنْ جَمِيعِ مَا اقْتَرَحْتُمُوهُ مِنَ الأَدِلَّةِ، وَهُوَ الذِي يَجِبُ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ الرِّسَالَةِ، وَاتِّبَاعِ حُكْمِ اللهِ فِيهَا. وَقُلْ لِهَؤُلاَءِ: لَيْسَ لِي أَنْ أَتَعَدَّى حُكْمَ اللهِ، وَلاَ أَنْ أَتَجَاوَزَهُ، لأَنَّهُ لاَ حُكْمَ أَعْدَلُ مِنْ حُكْمِهِ، وَلاَ قَوْلَ أَصْدَقُ مِنْ قَوْلِهِ، وَهُوَ الذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصِّلاً فِيهِ كُلَّ مَا يَصِحُّ بِهِ الحُكْمُ. وَإِنْزَالُهُ عَلَى رَجُلٍ أُمِّيٍّ مُشْتَمِلاً عَلَى الحُكْمِ التَّفْصِيليِّ لِلْعَقَائِدِ وَالشَّرَائِعِ، هُوَ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ.
وَالذِينَ آتَاهُمُ اللهُ الكِتَابَ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ لِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَنَّ اللهَ يُوحِي إلَى رُسُلٍ مِنَ البَشَرِ، كَمَا يُوحِي إِلَيْكَ، وَلِمَا وَرَدَ فِي كُتُبِهِمْ مِنَ البِشَارَةِ بِكَ، وَمَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ الأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مِنْ ذِكْرِكَ، فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ المُتَشَكِّكِينَ فِي أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَيْكَ بِالحَقِّ.
المُمْتِرِينَ - المُتَشَكِّكِينَ.
(١١٥) - وَتَمَّتْ رَحْمَةُ رَبِّكَ فِيمَا وَعَدَكَ بِهِ مِنَ النَّصْرِ، وَفِيمَا أَوْعَدَ بِهِ المُسْتَهْزِئِينَ مِنَ الهَلاَكِ وَالخِذْلاَنِ، كَمَا تَمَّتْ فِي الرُّسُلِ قَبْلَكَ وَفِي أَعْدَائِهِمْ. وَقَدْ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً لِحُصُلِوهَا عَلَى الوَجْهِ الذِي أَخْبَرَ بِهِ، وَعَدْلاً بِجَزَاءِ كُلٍّ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالكَافِرِينَ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَقَدْ يُزَادُ المُؤْمِنُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرَحْمَةً، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُبَدِّلَ مَا قَضَى اللهُ بِهِ، وَلاَ أَنْ يَرُدَّ مَا حَكَمَ بِهِ، وَهُوَ السَّمِيعُ لِمَا يَقُولُهُ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبُونَ المُخَادِعُونَ مِنْ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ، وَهُوَ العَليمُ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ المَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ، وَبِمَا يَقْتَرِفُونَهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالآثَامِ.
كَلِمَةُ رَبِّكَ - كَلاَمُهُ وَهُوَ القُرْآنُ العَظِيمُ.
صِدْقاً وَعَدْلاً - فِي مَوَاعِيدِهِ وَأَحْكَامِهِ.
يَخْرُصُونَ - يَكْذِبُونَ فِيمَا يَنْسِبُونَهُ إلَى اللهِ، أَوْ يُقَدِّرُونَ تَقْدِيراً جُزَافِيّاً.
(١١٨) - يُبِيحُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الأَكْلَ مِنَ الذَّبَائِحِ التِي ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عِنْدَ ذَبْحِهَا، أَمَّا مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَلاَ يُبَاحُ لَهُمْ أَكْلُهُ، وَهَذَا إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِآيَاتِ رَبِّهِم الكَرِيمِ.
(١١٩) - وَمَا الذِي يَمْنَعُكُمْ مِنْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ التِي أَحَلَّ لَكُمُ اللهُ الأَكْلَ مِنْهَا؟ وَقَدْ بَيَّنَ لَكُمُ اللهُ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ (المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنْزِيرِ... الخ) إلاَّ مَا دَعَتْكُمُ الضَّرُورَةُ المُلِحَّةُ إلى أَكْلِهِ مِنْ هَذِهِ المُحَرَّمَاتِ. فَإنَّ اللهَ أَبَاحَ لَكُمُ الأَكْلَ مِنْهَا بِمِقْدَارِ الحَاجَةِ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يُضِلُّونَ غَيْرَهُمْ بِأَهْوَائِهِمْ الزَّائِفَةِ، وَشَهَواتِهِم الفَاسِدَةِ، مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ أُوتُوهُ بِصِحَّةِ مَا يَقُولُونَ، وَلاَ بُرْهَانٍ عَلَيْهِ، وَهُمْ إِنَّمَا يُطِيعُونَ الشَّيَاطِينَ فِي ذَلِكَ، وَيَعْصُونَ اللهَ بِهِ. (كَالذِينَ اتَّخَذُوا السَّوَائِبَ وَالبَحَائِرَ.. وَأَحَلُّوا أَكْلَ المَيْتَةِ وَلَحْمِ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ..) وَاللهُ أَعْلَمُ بِالمُعْتَدِينَ الذِينَ يَتَجَاوَزُونَ مَا أَحَلَّهُ اللهُ إلَى مَا حَرَّمَهُ عَلَيهِمْ.
(١٢٠) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِتَرْكِ المَحَارِمِ وَالمَآثِمِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا (مِمَّا تَعَلَّقَ بِالجَوَارِحِ وَأَفْعَالِهَا)، وَمَا بَطَنَ مِنْهَا (مِمَّا تَعَلَّقَ بِالقَلْبِ وَأَعْمَالِهِ كَالكِبْرِ وَالحَسَدِ، وَتَدْبِيرِ المَكَائِدِ، وَالاعْتِدَاءِ فِي أَكْلِ المُحَرَّمَاتِ فِي أَكْثَرَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ الضَّرُورَاتُ)، وَالذِينَ يَكْسِبُونَ الآثَامَ الظَّاهِرَةَ وَالبَاطِنَةَ سَيَلْقَوْنَ جَزَاءَ إِثْمِهِمْ، وَعَاقِبَةَ كَسْبِهِمْ.
الإِثْمُ - لُغَةً مَا قَبُحَ، وَشَرْعاً مَا حَرَّمَهُ اللهُ. وَعَرَّفَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِقَوْلِهِ: " هُوَ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ "
ذَرُوا - اتْرُكُوا.
يَقْتَرِفُونَ - يَكْتَسِبُونَ مِنَ الإِثْمِ.
(١٢١) - فَلاَ تَأْكُلُوا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ مِمَّا مَاتَ فَلَمْ تَذْبَحُوهُ، وَلاَ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، مِمَّا ذَبَحَهُ المُشْرِكُونَ لأَوْثَانِهِمْ، فَإِنَّ أَكْلَ ذَلِكَ فِسْقٌ وَمَعْصِيَةٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ حَنْبَلٍ: إنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ عَمْداً أَوْ سَهْواً يَجْعَلُ الذَّبِيحَةَ غَيْرَ حَلاَلٍ. وَقَالاَ الذَّبْحُ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ فِسْقٌ، وَكَذَلِكَ الأَكْلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ التِي لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهَا فِسْقٌ.
- وَقَالَ الشَّافِعِي: لاَ تَشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، فَإِنْ تُرِكَتْ عَمْداً أَوْ سَهْواً فَلاَ ضَرَرَ فِي ذَلِكَ، وَيَحِلّ الأَكْلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ. وَقَالَ إنَّ المُحَرَّمَ هُوَ مَا ذُبِحَ لِغَيرِ اللهِ، كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ قُرَيْشٍ مِنْ نَحْرِ الذَّبَائِحِ لِلأَوْثَانِ.
- وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ نِسْيَاناً لاَ يَضُرُّ، أَمَّا تَرْكُها عَمْداً فَيَجْعَلُها غَيْرَ حَلاَلٍ.
وَإِنَّ شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ ليُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ بِالوَسْوَسَةِ بِمَا يُجَادِلُونَكُمْ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ فَقَدْ جَادَلَتِ اليَهُودُ النَّبِيَّ: فَقَالُوا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلْنَا، وَلاَ نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللهُ (أَيْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفهِ).
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةُ، أَرْسَلَتْ فَارِسُ إلَى قُرَيْشٍ أَنْ خَاصِمُوا مُحَمَّداً، وَقُولُوا لَهُ: فَمَا تَذْبَحُ أَنْتَ بِسِكِينٍ فَهُوَ حَلاَلٌ، وَمَا ذَبَحَ اللهُ بِشَمْشِيرٍ مِنْ ذَهَبِ (أَيْ المَيْتَةَ) فَهُوَ حَرَامٌ؟
وَسَمِعَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ هَذَا القَوْلَ فَوَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ...) ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: فَإِنْ أَطَعْتُمُ المُشْرِكِينَ فِي أَكْلِ المَيْتَةِ فَإِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ، لأَنَّكُمْ تَكُونُونَ قَدْ عَدَلْتُمْ عَنْ شَرْعِ اللهِ وَأَمْرِهِ، إلَى قَوْلِ غَيْرِهِ، فَقَدَّمْتُمْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ.
(١٢٢) - هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ الذِي كَانَ مَيْتاً فِي الكُفْرِ وَالضَّلاَلِ فَأَحْيَا اللهُ قَلْبَهُ بِالإِيمَانِ، وَهَدَاهُ وَوَفْقَهُ إلَى اتِّبَاعِ رُسُلِهِ، وَجَعَلَ لَهُ نُوراً يَهْتَدِي بِهِ كَيْفَ يَسِيرُ، وَكَيْفَ يَتَصَرَّفُ وَالنُّورُ هُوَ القُرْآنُ وَالإِسْلاَمُ. وَيَقُولُ تَعَالَى هُلْ يَسْتَوي المُهْتَدِي السَّائِرُ عَلَى هُدَى وَبَصِيرَةٍ، مَعَ الضَّالِّ السَّائِرِ فِي ظُلُمَاتِ الكُفْرِ وَالجَهَالَةِ وَالضَّلاَلِ، وَلاَ يَهْتَدِي إلَى مَنْفَذٍ يَسْتَطِيعُ مِنْهُ الخُرُوجَ مِمَّا هُوَ فِيهِ؟
وَكَمَا زَيَّنَ اللهُ الإِيَمَانَ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الإِيمَانِ، كَذَلِكَ زَيَّنَ الشَّيْطَانُ لِهَؤُلاَءِ الضَّالِينَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الجَهَالَةِ وَالضَّلاَلِ، وَذَبْحِ القَرَابِينِ لِغَيْرِ اللهِ، وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ بِمِثْلِ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ المُتَقَدِّمِ ذِكرُهَا.
(١٢٣) - وَكَمَا جَعَلْنَا فِي قَرْيَتِكَ أَكَابِرَ مِنَ المُجْرِمِينَ الذِينَ يَدْعُونَ إلَى الكُفْرِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَيَدْعُونَ إلَى مُخَالَفَتِكَ وَمُعَادَاتِكَ.. كَذَلِكَ كَانَتِ الرُّسُلُ قَبْلَكَ يُبْتَلَوْنَ بِذَلِكَ، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ. وَيَقُومُ هَؤُلاَءِ المُجْرِمُونَ بِالدَّعْوَةِ إلَى الضَّلالَةِ بِزُخْرُفٍ مِنَ القَوْلِ وَالفِعْلِ (يَمْكُرُونَ).
وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّهُمْ لاَ يَمْكُرُونَ إلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ، لأنَّ مَكْرَهُمْ يَعُودُ وَبَالاً عَلَيْهِمْ، لأَنَّ اللهَ يُهْلِكُهُمْ بِالعَذَابِ، وَيُبْطِلُ مَكْرَهُمْ، وَيَنْصُرُ رُسُلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُمْ يَمْكُرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ.
المَكْرُ - هُوَ صَرْفُ الإِنْسَانِ عَمَّا يُرِيدُ إلَى غَيْرِهِ بِضُرُوبٍ مِنَ الحِيلةِ وَالخِدَاعِ وَزُخْرُفِ القَوْلِ.
(١٢٤) - وَإِذَا جَاءَ أُولئِكَ المُشْرِكِينَ آيةٌ مِنَ القُرْآنِ تَتَضَمَّنُ صِدْقَ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِ، مِنَ التَّوْحِيدِ وَالهُدَى، قَالُوا: لَنْ نَذْعَنَ لِلْحَقِّ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْنَا الوَحْيُ، كَمَا يَنْزِلُ عَلَى الرُّسُلِ.
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاَءِ قَائِلاً: الرِّسَالَةُ فَضْلٌ مِنَ اللهِ يَمُنُّ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، لاَ يَنَالُهُ أَحَدٌ بِكَسْبٍ، وَلاَ يُعْطِيهِ اللهُ إِلاَّ مَنْ كَانَ أَهْلاً لَهُ. ثُمَّ يَتَوَعَّدُ اللهُ المُجْرِمِينَ المُتَكَبِّرِينَ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، وَالانْقِيَادِ لَهُمْ فِيمَا جَاؤُوا بِهِ، بِأَنَّهُمْ سَيُصِيبُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ صَغَارٌ وَذِلَّهٌ دَائِمَيْنِ بَيْنَ يَدَي اللهِ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى اسْتِكْبَارِهِمْ فِي الدُّنْيا، وَسَيَنَالُهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ فِي الآخِرَةِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ وَخَدِيعَتِهِمْ.
صَغَارٌ - ذُلٌّ عَظِيمٌ وَهَوَانٌ.
(١٢٥) - إِذَا أَرَادَ اللهُ هِدَايَةَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ يُيَسِّرُهُ لِلإِسْلاَمِ، وَيُوَسِّعُ قَلْبَهُ لِلْتَّوْحِيدِ، وَالإِيمَانِ بِهِ، وَيَقْذِفُ اللهُ فِي قَلْبِهِ نُوراً يَنْشَرِحُ لَهُ وَيَنْفَسِحُ، كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُضِلَّ أَحَداً يَجْعَلُ صَدْرَهُ ضَيِّقاً لاَ يَتَّسِعُ لِشَيءٍ مِنَ الهُدَى وَلاَ يَخْلُصُ إِلَيهِ شَيءٌ مِنَ الإِيمَانِ، فَإِذَا طُلِبَ إِلَيْهِ التَّأَمُّلُ فِيمَا يُدْعَى إِلَيْهِ مِنْ دَلاَئِلِ التَّوْحِيدِ وَالنَّظَرِ فِي الأَنْفُسِ وَالآفَاقِ. وَجَدَ فِي صَدرِهِ ضِيقاً عَنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مِثْلُهُ فِي ضِيقِ الصَّدْرِ مَثَلُ مَنْ يَصْعَدُ إلى الطَّبَقَاتِ العُلْيا مِنَ السَّمَاءِ إِذْ يَشْعُرُ بِضِيقٍ فِي التَّنَفُّسِ، وَكُلَّمَا تَزَايَدَ صُعُودُهُ تَزَايَدَ شُعُورُهُ بِضِيقٍ فِي التَّنَفُّسِ.
وَكَمَا يَجْعَلُ اللهُ صَدْرَ مَنْ أَرَادَ إِضْلاَلَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً، كَذَلِكَ يُسَلِّطُ اللهُ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ مِمَّنْ أَبَوا الإِيمَانَ، فَيَغْوِيهِ، وَيَصُدُّهُ عَنْ سَبِيلِ اللهِ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّجْسُ هُنَا هُوَ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ مَا لاَ خَيْرَ فِيهِ).
وَالرِّجْسُ لُغَةً - كُلُّ مَا هُوَ مُسْتَقْذَرٌ عَقْلاً أَوْ شَرْعاً أَوْ حِسّاً وَهُوَ هُنَا العَذَابُ.
حَرَجاً - شَدِيدَ الضِّيقِ.
يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ - يَتَكَلَّفُ صُعُودَهَا فَلاَ يَسْتَطِيعُهُ.
(١٢٦) - وَدِينُ الإِسْلاَمِ الذِي شَرَعْنَاهُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ، بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ، هُوَ صِرَاطُ اللهِ المُسْتَقِيمُ، وَقَدْ وَضَّحْنَا الآيَاتِ وَبَيَّنَّاهَا، لِقَوْمٍ يَفْهَمُونَ وَيَعْقِلُونَ وَيَعُونَ.
فَصَّلْنَا - بَيَّنَّا وَوَضَّحْنَا.
يَذَّكَّرُونَ - يَعُونَ وَيَفْهَمُونَ وَيَعْقِلُونَ.
(١٢٧) - وَلِهَؤُلاَءِ المُتَّبَعِينَ صِرَاطَ رَبِّهِم المُسْتَقِيمَ الجَنَّةُ، عِنْدَ رَبِّهِمْ، يَوْمَ القِيَامَةِ، وَاللهُ حَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ وَمُؤَيِّدُهُمْ، فَجَزَاءً لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ، تَوَلاَّهُمُ اللهُ، وَأَثَابَهُمُ الجَنَّةَ بِمِنَّهِ وَكَرَمِهِ.
دَارُ السَّلاَمِ - الجَنَّةُ. وَسُمِّيَتْ كَذَلِكَ لِسَلاَمَةِ المُؤْمِنِينَ الدَّاخِلِينَ إِلَيْهَا.
وَلِيُّهُمْ - نَاصِرُهُمْ وَحَافِظُهُمْ وَمُؤَيِّدُهُمْ.
(١٢٨) - وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ، فِيمَا تَقُصُّهُ عَلى هَؤُلاَءِ، وَتُنْذِرُهُمْ بِهِ، مَا يَجْرِي يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ يَحْشُرُ اللهُ الجِنَّ وَأَوْلِيَاءَهُمْ مِنَ الإِنْسِ الذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فِي الدُّنْيا، وَيَعُوذُونَ بِهِمْ، إذْ يَقُولُ تَعَالَى لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ إِغْوَاءِ الإِنْسِ وَإِضْلاَلِهِمْ، فَأَوْرَدْتُمُوهُمُ النَّارَ. وَقَالَ أَوْلِيَاءُ الجِنِّ مِنَ الإِنْسِ يُجِيبُونَ اللهَ تَعَالَى: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، بِمَا كَانَ لِلْجِنِّ مِنَ اللذَّةِ فِي إِغْوَائِنا بِالأَبَاطِيلِ، وَأَهْوَاءِ الأَنْفُسِ وَشَهَوَاتِهَا، وَبِمَا كَانَ لَنَا فِي طَاعَتِهِمْ وَوَسْوَسَتِهِمْ مِنَ المُتْعَةِ، وَاتِّبَاعِ الهَوَى، وَالانْغَمَاسِ فِي اللَّذَّاتِ، وَبَلَغْنَا، بَعْدَ اسْتِمْتَاعِ بَعْضِنَا بِبَعْضٍ، إلَى الأَجَلِ الذِي قَدَّرْتَهُ لَنَا وَهُوَ المَوْتُ (أَوْ هُوَ يَوْمَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ).
فَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: النَّارُ مَثْوَاكُمْ وَمَنْزِلُكُمْ، أَنْتُمْ وَأَوْلِيَاؤُكُمْ، مَاكِثِينَ فِيهَا سَرْمَداً، إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُنْقِذَهُ، وَاللهُ حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَحُكْمِهِ، عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُ النَّاسُ.
اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ - أَكْثَرْتُمْ مِنْ دَعْوَتِهِمِ إلَى الضَّلاَلَةِ وَإِغْوَائِهِمْ.
مَثْواكُمْ - مَأْوَاكُمْ وَمُسْتَقَرَّكُمْ.
(١٢٩) - وَكَمَا جَعَلْنَا هَؤُلاَءِ الخَاسِرِينَ مِنَ الإِنْسِ أَنْصَاراً وَأَوْلِياءَ لِتِلْكَ الطَّائِفَةِ التِي أَغْوَتْهُمْ مِنَ الجِنِّ، كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالظَّالِمِينَ، نُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَنُهْلِكُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَنَنْتَقِمُ مِنْ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ.
وَقَالَ الأَعْمَشُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: (إذَا فَسَدَ النَّاسُ أَمَرَ اللهُ عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ، وَذَلِكَ أنَّ المُلُوكَ يَتَصَرَّفُونَ فِي الأُمَمِ الجَاهِلَةِ تَصَرُّفَ الرُّعَاةِ فِي الأَغْنَامِ السَّائِمَةِ).
(١٣٠) - وَيَسْأَلُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ كُفَّارَ الإِنْسِ وَالجِنِّ مُقَرِّعاً فَيَقُولُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَهُمُ الرُّسُلُ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ، وَهَلْ أََنْذَرُوهُمْ لِقَاءَ يَوْمِ القِيَامَةِ؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّنَا نُقِرُّ بِأَنَّ الرُّسُلَ جَاؤُونَا، وَأَبْلَغُونَا آيَاتِكَ، وَأَنْذَرُونَا بِأَنَّنَا مُلاَقُو رَبِّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَأّنَّنَا فَرَّطْنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيا، وَهَلَكَنْا بِتَكْذِيبنَا الرُّسُلَ وَمُخَالَفَتِهِمْ، وَاغْتَرَرْنَا بِزُخْرِفِ الحَيَاةِ الدُّنْيا وَزِينَتِهَا وَشَهَواتِها، وَأَنَّنَا نَشْهَدُ عَلَى أَنْفُسِنَا أَنَّنَا كُنَّا كَافِرِينَ فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيا.
غَرَّتْهُمْ - خَدَعَتْهُمْ بِبَهْرَجِهَا وَزِينَتِهَا.
(١٣١) - لَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ تَعَالَى إلَى الإِنْسِ وَالجِنِّ، بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الكُتُبِ، لِئَلاَ يُؤْخَذَ أَحَدٌ بِظُلْمٍ، وَهُوَ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ اللهِ. فَاللهُ سُبْحَانَهُ لاَ يُعَاجِلُ قَوْماً بِالعُقُوبَةِ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً يَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ، وَيُنْذِرُهُمْ عِقَابَهُ. وَلاَ يُؤَاخِذُهُمْ رَبُّهُمْ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُمْ لِكَيْلاَ يَقُولُوا: مَا جَاءَنَا بَشِيرٌ وَلاَ نَذِيرٌ، وَلَوْ جَاءَنَا رَسُولٌ لاَهْتَدَيْنا، وَلآمَنَّا بِرَبِنَّا وَاتَّبَعْنَا الرُّسُلَ.
(١٣٢) - وَلِكُلِّ عَامِلٍ - سَوَاءٌ أَطَاعَ اللهَ أَوْ عَصَاهُ - مَرَاتِبٌ وَمَنَازِلٌ مِنْ عَمَلِهِ، يُبَلِّغه اللهُ إِيَاها، وَيُثِيبُهُ بِهَا، إنْ خَيْراً فَخَيْراً، وَإِنْ شَراً فَشَراً، وَجَمِيعُ أَعْمَالِهِمْ بِعِلْمِ اللهِ، يُحْصِيهَا وَيُثبْتُهَا عِنْدَهُ لِيَجْزِيَهُمْ بِهَا، فَهُوَ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْ شَيءٍ مِمَّا يَعْمَلُونَ.
(١٣٣) - وَرَبُّكَ، يَا مُحَمَّدُ، هُوَ الغَنِيُّ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنْ جَمِيعِ الوُجُوهِ، وَهُمُ الفُقَرَاءُ إِلَيهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، وَهُوَ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ وَلِذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِالخَيْرِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الشَّرِّ، لِيَفُوزُوا بِالثَّوَابِ، وَيَجْتَنِبُوا العِقَابَ. فَإِذَا شَاءَ أَذْهَبَكُمْ إذَا خَالَفْتُمْ أَمْرَهُ، وَجَاءَ بِقَومٍ آخَرِينَ يَجْعَلُهُمْ خُلَفَاءَ فِي الأَرْضِ يَعْمَلُونَ بِطَاعَتِهِ، وَذَلِكَ يَسِيرٌ عَلَى اللهِ. فَكَمَا أَذْهَبَ القُرُونَ الأُولَى، وَأَتَى بِغَيْرِهِمْ، كَذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِذْهَابِ قَوْمِكَ، وَالإِتْيَانِ بِآخَرِينَ غَيْرِهِمْ.
(١٣٤) - وَأَخْبِرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ: أنَّ الذِي يُوعَدُونَ بِهِ، مِنْ أَمْرِ الحَشْرِ وَالحِسَابِ وَالجَزَاءِ، كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ، وَأَنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ اللهَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِمْ، وَإِنْ أَصْبَحُوا تُرَاباً وَعِظَاماً، لأنَّهُ تَعَالَى لاَ يُعْجِزُهُ شَيءٌ.
بِمُعْجِزِينَ - بِقَادِرِينَ عَلَى الهَرَبِ مِنْ عَذَابِ اللهِ.
(١٣٥) - وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى الكُفَّارَ، وَيَتَوَعَّدُهُمْ، فَيَأْمُرُ رَسُولَهُ ﷺ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: اسْتَمِرُّوا عَلَى طَرِيقَتِكُمْ، إنْ كُنْتُمْ تَظُنَّونَ أَنَّكُمْ عَلَى هُدًى، فَأَنَا مُسْتَمِرٌ عَلَى طَرِيقَتِي وَمَنْهَجِي، وَسَتَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ العَاقِبَةُ، أَتَكُونُ لَكُمْ أَمْ لِي؟ وَقَدْ أَنْجَزَ اللهُ وَعْدَهُ لِرَسُولِهِ فَفَتَحَ مَكَّةَ، وَأَذَلَّ اللهُ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينَ، لأنَّ المُشْرِكِينَ وَالظَّالِمِينَ لاَ يُفْلِحُونَ.
عَلَى مَكَانَتِكُمْ - غَايَةَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، أَوْ عَلَى طَرِيقَتِكُمْ.
(١٣٦) - يَذُمُّ اللهُ تَعَالَى المُشْرِكِينَ، وَيُوَبِّخُهُمْ عَلَى مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ بِدَعٍ وَكُفْرٍ وَشِرْكٍ، وَعَلَى مَا جَعَلُوهُ للهِ، مِنْ أَنْدَادٍ وَشُرَكَاءَ وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ. فَقَدْ جَعَلُوا لَهُ نَصِيباً مِمَّا خَلَقَ (ذَرَأَ) مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ (مِنَ الحَرْثِ)، وَمِنَ البَهَائِمِ وَالأَنْعَامِ، وَجَعَلُوا لِمَنْ أَشْرَكُوهُمْ فِي العِبَادَةِ مَعَ اللهِ، مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ، نَصِيباً آخَرَ فَقَالُوا: - فِيمَا زَعَمُوا وَلَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَيهِ - فِي النَّصِيبِ الأَوَّلِ هَذَا للهِ نَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيهِ. وَقَالُوا فِي النَّصِيبِ الثَّانِي: هَذَا لِمَعْبُودَاتِنَا (لِشُرَكَائِنَا)، نَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهَا، فَكَانُوا يُنْفِقُونَ نَصِيبَ اللهِ عَلَى قِرَى الأَضْيَافِ، وَإِكْرَامِ الصّبْيَانِ، وَالتَّصَدُّقِ عَلَى المَسَاكِينِ. أَمَّا نَصِيبُ آلِهَتِهِمْ فَكَانُوا يُنْفِقُونَهُ عَلَى سَدَنَتِهَا، وَعَلَى القَرَابِينِ إِلَيْها. فَمَا خَصُّوا مَعْبُُودَاتِهِمْ بِهِ، مَا كَانَ لِيَصْرِفَ شَيءٌ مِنْهُ فيِ الوُجُوهِ التِي جَعَلَهَا للهِ، بَلْ يَهْتَمُونَ بِحِفْظِهِ عَلَى السَّدَنَةِ، وَعَلَى ذَبْحِ القَرَابِينِ إِلَيْها. وَمَا خَصُّوا بِهِ اللهَ، وَجَعَلُوهُ لَهُ، فَكَانُوا يُحَوِّلُونَهُ أَحْيَاناً إلَى الأَصْنَامِ. وَقَدْ ذَمَّهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى تَصَرُّفِهِمْ هَذَا فَقَالَ: (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)، إِذْ أَنَّهُمْ أَخْطَؤُوا أَوْلاً فِي القَسَمِ وَالتَّخْصِيصِ، لأنَّ اللهَ تَعَالَى رَبُّ كُلِّ شَيءٍ، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَاسَ بِهِ أَحَدٌ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا قَسَمُوا هَذِهِ القِسْمَةَ الفَاسِدََ لَمْ يُحَافِظُوا عَلَيْهَا، بَلْ جَارُوا فِيهَا وَتَجاوَزُوا الحَدَّ.
ذَرَأَ - خَلَقَ عَلَى وَجْهِ الاخْتِرَاعِ أَوْ بَثَّ.
الحَرْثِ - الزَّرْعِ.
الأَنْعَامِ - الإِبْلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالمَاعِزِ.
(١٣٧) - وَكَمَا زَيَّنَتِ الشَّيَاطِينُ لِهَؤُلاَءِ أَنْ يَجْعَلُوا للهِ نَصِيباً مِمَّا خَلَقَ مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ، وَلِلأَوْثَانِ نَصِيباً آخَرَ، كَذَلِكَ زَيَّنُوا لَهُمْ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ، خَشْيَةَ الفَقْرِ وَالإِمْلاَقِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ خَشْيَةَ العَارِ (وَالشُّرَكَاءُ، هُنَا، هُمُ الشَّيَاطِينُ). وَقَدْ زَيَّنَتْ لَهُمُ الشَّيَاطِينُ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ، لِيُهْلِكُوهُمْ بِالإِغْوَاءِ، وَيُفْسِدُوا عَلَيْهِمْ فِطْرَتَهُمْ، فَتَنْقَلِبَ عَوَاطِفَ وِدِّ الوَالِدَينِ، مِنْ رَأْفَةٍ وَرَحْمَةٍ، إلَى قَسْوَةٍ وَوَحْشِيَّةٍ، فَيَنْحَرَ الوَالِدُ وَلَدَهُ، وَيَدْفُنَ الأَبُّ ابْنَتَهُ وَهِيَ حَيَّةٌ. وَقَدْ لَبَسَتِ الشَّيَاطِينُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا يَدَّعُونَهُ مِنَ التَّمَسُّكِ بِدِينِ أَبِيهِمْ إِسْمَاعِيلَ، وَجَدِّهِمْ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيهِمَا السَّلاَمُ. وَقَدْ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ تَقَالِيدِ الشِّرْكِ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَعْرِفُ مَا هُوَ الأَصْلُ، وَمَا هُوَ المُبْتَدَعُ فِيهِ. وَلُوَ شَاءَ اللهُ ألاَّ يَفْعَلُوا ذَلِكَ مَا فَعَلُوهُ، وَلَكِنَّ إرَادَتَهُ وَحِكْمَتَهُ قَضَتَا بِجَعْلِهِمْ مُسْتَعِدِينَ لِلْتَّأَثُّرِ بِكُلِّ مَا يَرِدُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الأَفْكَارِ وَالآرَاءِ، وَاخْتِيَارِ مَا يَتَرَجَّحُ لَدَيْهِمْ. فَذَرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ وَمَا يَتَقَوَّلُونَ وَمَا يَفْتَرُونَ وَيَبْتَدِعُونَ.
لِيَرُدُّوهُمْ - لِيُهْلِكُوهُمْ بِالإِغْوَاءِ.
لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ - لِيَخْلِطُوا عَلَيْهِمْ وَلِيُمَوِّهُوا عَلَيْهِمْ.
يَفْتَرُونَ - يَخْتَلِقُونَ مِنَ الكَذِبِ.
(١٣٨) - وَإِنَّهُمْ، لِغِوَايَتِهِمْ وَشِرْكِهِمْ، قَسَمُوا أَنْعَامَهُمْ وَزُرُوعَهُمْ إلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أ - أَنْعَامٍ وَأَقْوَاتٍ مِنْ حُبُوبٍ وَغَيْرِها، تُقْتَطَعُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُجْعَلُ لِمَعْبُودَاتِهِمْ، تَعَبُّداً وَتَدَيُّناً، وَيَمْتَنِعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا لِغَيرِ هَذِهِ المَعْبُودَاتِ، وَيَقُولُونَ إِنَّهَا مُحْتَجَرَةٌ لِللآلِهَةِ، لاَ تُعْطَى لِغَيرِهَا وَلاَ يَطْعَمُهَا إلاَّ مَنْ يَشَاؤُونَ، أَيْ لاَ يَأْكُلُ مِنْهَا إلاَّ الذُّكُورُ دُونَ الإِنَاثِ.
ب - أَنْعَامٌ حٌرِّمَتْ ظُهُورُهَا، فَلاَ تُرْكَبُ وَلاَ يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَهِيَ البَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالحَامِي.
ج - وَأَنْعَامٌ لاَ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا عِنْدَ الذَّبْحِ بَلْ يُهِلُّونَ بِهَا لآلِهَتِهِمْ وَحْدَها، وَكَانُوا إذَا حَجُّوا لاَ يَحِجُّونَ عَلَيْهَا، وَلاَ يُلَبُّونَ عَلَى ظُهُورِها.
وَقَدْ قَسَمُوا هَذا التَّقْسِيمِ، وَجَعَلُوهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ، وَنَسَبُوهُ إلَى اللهِ افْتِرَاءً عَلَيْهِ، وَاللهُ بَرِيءٌ مِنْهُ، فَهُوَ لَمْ يَشْرَعْهُ لَهُمْ، وَسَيَجْزِيهِم اللهُ، عَلَى هَذَا الافْتِرَاءِ، الجَزَاءَ الذَي يَسْتَحِقُّونَهُ.
حِجْرٌ - مَحْجُورَةٌ وَمُحْتَجَرَةٌ وَمُحَرَّمَةٌ.
حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا - وَهِيَ السَّوائِبُ وَالبَحَائِرُ وَالحَوَامِي.
(١٣٩) - وَخَصَّصُوا نَتَاجَ البَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ لِذُكُورِهِمْ، وَحَرَّمُوهُ عَلَى إِنَاثِهِمْ، فَلاَ تَشْرَبُ الإِنَاثَ مِنْ لَبَنِ هَذِهِ الأَنْعَامِ، وَإذَا وَلَدَتْ ذَكَراً كَانَ لَحْمُهُ مُخَصَّصاً لِلْذُكُورِ دُونَ الإِنَاثِ، أَمَّا إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى فَتُتْرَكُ لِلنِّتَاجِ. وَإِذَا وَلَدَتْ مَوُلُوداً مَيِّتاً اشْتَرَكَ فِي أَكْلِهِ الذُّكُورُ وَالإِنَاثُ.
وَسَيَجْزِيهِمِ اللهُ تُعُالَى عَلَى قَوْلِهِم الكَذِبَ فِي ذَلِكَ، إِذِ ادَّعُوا أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِهِ اللهُ تَعَالَى (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) إنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ، عَلِيمٌ بِأَعْمَالِ العِبَادِ.
البَحِيرَةُ - المَشْقُوقَةُ الأُذْنِ مِنَ الأَنْعَامِ.
السَّائِبَةُ - التِي تُسَيِّبُ وَتُتْرَكُ لِلآلِهَةِ فَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهَا أَحَدٌ.
سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ - سَيَجْزِيهِمْ كَذِبَهُمْ عَلى اللهِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ.
(١٤٠) - أَنْكَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مُشْرِكِي العَرَبِ أَمْرَينِ، وَنَعَاهُمَا عَلَيْهِمْ وَهُمَا:
أ - قَتْلُ أَوْلاَدِهِمْ وَوَأَدُ بَنَاتِهِمْ سَفَهاً، وَالأَوْلاَدُ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَإِذَا سَعَى العَبْدُ فِي زَوَالِهَا فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً عَظِيماً.
ب - وَتَحْرِيمِ بَعْضِ مَا رَزَقَهُمُ اللهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَقَدْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَشْيَاءَ ابْتَدَعُوهَا هُمْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ.
فَقَالَ تَعَالَى: إنَّ الذِينَ أَقْدَمُوا عَلَى قَتْلِ أَوْلاَدِهِمْ، وَوَأْدِ بَنَاتِهِمْ، وَتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، قَدْ خَسِرُوا فِي الدُّنْيا، لأَنَّهُمْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ، وَخَسِرُوا فِي الآخِرَةِ، لأنَّهُمْ سَيَكُونُونَ فِي أَسْوَأِ المَنَازِلِ بِسَبَبِ كَذِبِهِمْ عَلَى اللهِ، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ، إِذْ ادَّعُوا أَنَّ اللهَ هُوَ الذِي أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ. وَكُلُّ ذَلِكَ ضَلاَلٌ مِنْهُمْ وَسَفَهٌ، وَبُعْدٌ عَنِ الهُدَى.
(١٤١) - وَرَبُّكُمُ اللهُ، أيُّهَا النَّاسُ، هُوَ الذِي خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ، وَخَلَقَ بَسَاتِينَ فِيهَا أَشْجَارٌ مَعْرُوشَاتٌ - أَيْ مَرْفُوعَاتٌ عَلَى عَرَائِشَ كَأَشْجَارِ الكُرُومِ - وَغَيْرُ مَعْرُوشَاتٌ، وَخَلَقَ الزُّرُوعَ، وَمِنْهَا الحُبُوبُ، وَخَلَقَ النَّخِيلَ مُخْتَلِفاً فِي طَعْمِهِ حِينَ أَكْلِهِ، وَخَلَقَ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً فِي مَنْظَرِهِ، وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ فِي طَعْمِهِ، مَعْ أَنَّهُ كُلَّهُ يَنْبُتُ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَيُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ، فَكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ حِينَ يُثْمِرُ، وَأَدُّوا الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ عَلَيْهِ يَوْمَ يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ.
وَلا تُسْرِفُوا فِي كُلِّ شَيءٍ: فِي الأَكْلِ وَفِي الإِنْفَاقِ وَفِي اللِّبَاسِ، لأَنَّهُ تَعَالَى لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ.
(وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ أَمَرَ مَنْ يَجُزُّ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ بِأَنْ يَأْتِيَ بِقِنْوٍ مِنْهَا يُعَلِّقُهُ فِي المَسْجِدِ لِيَأْكُلَ مِنْهُ المَسَاكِينُ).
(وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ: " إذَا حَضَرَكَ المَسَاكِينُ حِينَ الجَنْيِ وَالقِطَافِ طَرَحْتَ لَهُمْ شَيْئا ").
مَعْرُوشَاتٍ - مُحْتَاجَةٍ إلَى الرَّفْعِ عَلَى العَرَائِشِ كَأَشْجَارِ الكُرُومِ.
مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ - مُخْتَلِفَ الطَّعْمِ حِينَ الأَكْلِ.
(١٤٢) - يَقُولُ تَعَالَى: إنَّهُ خَلَقَ مِنَ الأَنْعَامِ حَيَوَانَاتٍ كِبَاراً، لِيَحْمِلُوا عَلَيْهَا مَتَاعَهُمْ وَأَثْقَالَهُمْ (حَمُولَةً) كَالْجِمَالِ وَالأَبْقَارِ، وَخَلَقَ مِنَ الأَنْعَامِ صِغَاراً كَالفُصْلانِ الدَّانِيَةِ مِنَ الأَرْضِ لِصِغَرِ أَجْسَامِهَا، كَالفرْشِ المَفْرُوشَةِ عَلَيها، لِيَأْكُلُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَلُحُومِهَا، وَلِسْتَفِيدُوا مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا. وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ مِنَ الأَنْعَامِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ طَرَائِقِ الشَّيْطَانِ وَمَسَالِكِهِ وَأَوَامِرِهِ كَمَا اتَّبَعَهَا المُشْرِكُونَ الذِينَ حَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ. وَالشَّيْطَانُ عَدُوٌّ لِلإِنْسَانِ بَيِّنُ العَدَاوَةِ، لاَ يُرِيدُ لَهُ الخَيْرَ، وَلا يُرِيدُ لَهُ الأَمْنَ وَالسَّلاَمَةَ، وَلاَ الفَوْزَ بِرِضْوَانِ اللهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يُضِلَّهُ وَيُؤَدِي بِهِ إلَى الهَلاَكِ.
حَمُولَةً - مَا يَحْمِلُ الأَثْقَالَ كَالإِبْلِ.
فَرْشاً - مَا يُفْرَشُ لِلْذَّبْحِ، كَالغَنَمِ وَالمَاعِزِ. أَوْ مَا هُوَ صَغيرُ الجِسْمِ قَرِيبٌ مِنَ الأَرْضِ كَالفِرَاشِ
خُطُوَاتِ - طُرُقَهُ وَآثَارَهُ تَحْرِيماً وَتَحْلِيلاً.
(١٤٣) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى هُنَا جَهْلَ العَرَبِ، قَبْلَ الإِسْلاَمِ، فِيمَا كَانُوا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الأَنْعَامِ، وَجَعَلَوهَا أَجْزَاءً وَأَنْوَاعاً (بَحِيرةً وَسَائِبةً وَحَامَياً..) وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا ابْتَدَعُوهُ فِي الأَنْعَامِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَيُبَيِّنُ اللهُ أَنَّهُ أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ، وَأَنَّهُ جَعَلَ مِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً، ثُمَّ بَيَّنَ أَصْنَافَ الأَنْعَامِ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ شَيْئاً مِنْ أَوْلاَدِهَا، بَلْ جَعَلَهَا كُلَّهَا مُسَخَّرةً لِبَنِي آدَمَ، أَكْلاً وَرُكُوباً وَحَمُولَةً وَحَلْباً، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الانْتِفَاعِ.
وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ خَلَقَ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الأَنْعَامِ: مِنَ الضَّأنِ (الغَنَمِ) زَوْجَيْنِ ذَكَراًَ وَأُنْثَى وَمِنَ المَاعِزِ زَوْجَيْنِ ذَكَراً أَوْ أُنْثَى، وَلَمْ يُحَرِّمْ مِنْهَا شَيْئاً لاَ الذُّكُورَ وَلاَ الإِنَاثَ، فَلِمَ تُحَرِّمُونَ أَنْتُمْ بَعْضاً، وَتُحِلُّونَ بَعْضاً؟ وَهَلْ يَشْتَمِلُ الرَّحمُ عِنْدَ الحَمَلِ إِلاَّ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى؟ وَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ كُلَّهُ حَلاَلاً.
فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: أَخْبِرُونِي عَنْ يَقِينٍ (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) كَيْفَ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْكُمْ مَا زَعَمْتُمْ تَحْرِيمَهُ؟
(١٤٤) - وَخَلَقَ اللهُ تَعَالَى مِنَ الإِبِلِ زَوْجَينِ، ذَكَراً وَأُنْثَى، وَمِنَ البَقَرِ زَوْجَينِ، فَاسْأَلْهُمْ هَلْ حَرَّمَ اللهُ الذُّكُورَ أَمِ الإِنَاثَ، (أَمْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ)، وَالأُنْثَى لاَ تَحْمِلُ إلاَّ ذَكَراً أَوْ أُنْثَى. فَاللهُ تَعَالَى لَمْ يُحْرِّمْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ شَيْئاً، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ كُلَّهُ حَلاَلاً لِلْنَّاسِ لِيَنْتَفِعُوا بِهِ.
وَيَسْأَلْهُمُ اللهُ تَعَالَى إِنْ كَانُوا حَاضِرِينَ (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ) حِينَ أَوْصَاهُمُ اللهُ بِمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ؟ (وَهُوَ تَهَكُّمٌ عَلَْهِمْ).
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ لاَ أَحَدَ أَكْثَرَ ظُلْماً مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً وَأَتَى بِبِدَعٍ، زَعَمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، لِيُضِلَّ بِهَا النَّاسَ، وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ.
وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا - أَمَرَكُمُ اللهُ بِهَذَا التَّحْرِيمِ.
وَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ شَيءٍ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ، وَهُوَ لاَ يَقْصِدُ بِأَكْلِهِ البَغْيَ وَالعُدْوَانَ، وَتَجَاوُزَ شَرْعِ اللهِ، فَإِنَّهُ لاَ بَأْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، لأنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْزَلَ اللهُ كِتَابَهُ، وَأَحَلَّ حَلاَلَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلاَلٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ).
وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ، بِالإِضَافَةِ إلَى مَا حَرَّمَهُ اللهُ، عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ السِّبَاعِ، وَعَنْ أَكْلِ لَحْمِ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطُّيُورِ (الجَوَارِحِ).
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ - آكِلٍ يَأْكُلُهُ.
دَماً مَسْفُوحاً - دَماً سَائِلاً مُهْرَاقاً.
رِجْسُ - قَذَرٌ أَوْ نَجَسٌ أَوْ حَرَامٌ.
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ - ذُبِحَ عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللهِ.
اضْطُرَّ - أَلْجَأَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلى أَكْلِهِ.
غَيْرَ بَاغٍ - غَيْرَ طَالِبٍ لِلْحَرَامِ لِلَذَّةٍ أَوْ اسْتِئْثَارٍ.
وَلاَ عَادٍ - غَيْرَ مُتَجَاوِزٍ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ.
(١٤٦) - وَيَذْكُرُ تَعَالَى: أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى اليَهُودِ - عَلَى سَبِيلِ العُقُوبَةِ لَهُمْ لاَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أُصُولِ شَرْعِهِمْ - لَحْمَ كُلِّ ذِي ظُفْرٍ مِنَ البَهَائِمِ وَالطُّيُورِ (أَيْ مَا لَيْسَ بِمَشْقُوقِ الأَصَابِعِ كَالإِبِلِ وَالنَّعَامِ وَالإِوَزِّ وَالبَطِّ)، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَ البَقَرِ وَالغَنَمِ الخَالِصَةَ، وَهِيَ الثُّرْبُ (الشَحْمُ الذِي يَلُفُّ الأَمْعَاءَ، أَمَّا مَا عَلَى الظَّهْرِ مِنْ شَحْمٍ - وَمِنْهُ الإِلْيَةُ - وَمَا وُجِدَ فِي الحَوَايَا (وَهِيَ المَبَاعِرُ وَالمَرَابِضُ) وَمَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ مِنَ الشَّحْمِ وَالعِظَامِ، فَإِنَّهُ حَلالٌ). وَهَذَا التَّحْرِيمُ فَرَضَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى اليَهُودِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى بَغْيِهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِمْ أَوَامِرَ اللهِ، وَإِنَّهُ تَعَالَى لَعَادِلٌ فِي حُكْمِهِ فِيمَا فَرََُ عَلَيْهِمْ، وَصَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ نَبِيَّهُ، مِنْ تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَى اليَهُودِ.
(وَقِيلَ إِنَّ السَّبَبَ فِي تَحْرِيمِ شُحُومِ البَقَرِ وَالغَنَمِ، هُوَ أَنَّ القَرَابِينَ عِنْدَهُمْ لاَ تَكُونُ إلاَّ مِنْهُمَا، وَكَانَ يُتَّخَذُ مِنْ شُحُومِها الوَقُودُ لِلرَّبِّ).
شُحُومَهُمَا - شُحُومَ الكَرْشِ وَالكِلْيَتَيْنِ.
الحَوَايَا - المَصَارِينَ.
مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا - مَا عَلِقَ بِهِمَا مِنَ الشَّحْمِ فَهُوَ حَلاَلٌ.
مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ - كَإِلْيَةِ الغَنَمِ فَهِيَ حَلاَلٌ.
(١٤٧) - فَإِنْ كَذَّبَكَ قَوْمُكَ يَا مُحَمَّدُ، وَكَذَّبَكَ اليَهُودُ، فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللهَ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ - وَفِي ذَلِكَ تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي ابْتِغَاءِ رَحْمَةِ اللهِ وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ - فَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى عِنَادِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ، فَحَذِّرْهُمْ مِنْ نِقْمَةِ اللهِ، وَعَذَابِهِ، فَإِنَّ بَأْسَ اللهِ تَعَالَى شَدِيدٌ، وَلاَ يَرُدُّهُ شَيءٌ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ.
لاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ - لاَ يُدْفَعُ عَذَابُهُ.
(١٤٨) - سَيَقُولُ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ، اعْتِذَاراً عَنْ شِركِهِمْ، لَوْ شَاءَ اللهُ ألاَّ نُشْرِكَ بِهِ، وَلاَ يُشْرِكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلِنا، لَمَا أَشْرَكْنَا، وَلَمَا أَشْرَكُوا، وَلَوْ شَاءَ اللهُ أَلاَّ نُحَرِّمَ شَيْئاً مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ وَغَيْرِها، لَمَا حَرَّمْنَا، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ نُشْرِكَ بِهِ الأَوْلِيَاءَ وَالشُّفَعَاءِ، وَشَاءَ أَنْ نُحَرِّمَ مَا حَرَّمْنَا مِنَ البَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِها فَحَرَّمْنَاهَا، فَإِتْيَانُنا بِهَا دَلِيلٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَى رِضَاهُ بِهَا.
وَكَمَا كَذَّبَ مُشْرِكُو مَكَّةَ رَسُولَهُمْ مُحَمَّداً ﷺ، فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ دَعْوَةِ التَّوْحِيدِ، كَذَلِكَ كَذَّبَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ رُسُلَهُمْ تَكْذِيباً غَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ العِلْمِ. وَالرُّسُلُ قَدْ أَقَامُوا الأَدِلَّةَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَأَيَّدَهُمُ اللهُ بِالآيَاتِ، وَالمُعْجِزَاتِ عَلَى صِدْقِهِمْ، فَأَعْرَضَ المُكَذِّبُونَ، وَأَصَرُّوا عَلَى جُحُودِهِمْ، فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا).
وَلَوُ كَانَ اللهُ رَاضِياً عَنْ أَفْعَالِهِمْ لَمَا عَاقَبَهُمْ عَلَيْهَا، كَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ صَادِرَةً عَنْهُمْ جَبْراً، لَمَا اسْتَحَقُّوا العِقَابَ عَلَيْها، وَلَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: إنَّهُ أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَأَهْلَكَهُمْ بِظُلْمِهِمْ. وَاسْأَلْهُمْ يَا مُحَمَّدُ: هَلْ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يَقُولُونَ وَيَحْتَجُّونَ؟ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مُسْتَنَدٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّ اللهَ رَضِيَ لَهُم الشِّرْكَ، وَالتَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ، فَلْيُظْهِرُوهُ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيءٍ مِنَ العِلْمِ الصَّحِيحِ، بَلْ تَتَّبِعُونَ فِي عَقَائِدِكُمْ وَآرَائِكُمُ الحَدْسَ وَالتَّخْمِينَ الذِي لاَ يَسْتَقِرُّ عِنْدَهُ حُكْمٌ.
التَّخَرُّصَ - التَّخْمِينُ وَالتَّقْدِيرُ أَوْ الكَذِبُ.
(١٤٩) - وَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: للِه الحُجَّةُ التَّامَّةُ، وَالحُجَّةُ البّالِغَةُ فِي هِدَايَةِ مِنْ اهْتَدَى، وَضَلاَلِ مَنْ ضَلَّ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ هِدَايَتَكُمْ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعيِن، َ فَكُلُّ ذَلِكَ بِقَدَرِهِ، وَمَشِيئَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ.
الحُجَّةُ البَالِغَةُ: بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الكُتُبِ.
(١٥٠) - وَقُلْ لَهُمْ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمُ الذِينَ تَقُولُونَ إِنَّهُم يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ الذِي حَرَّمْتُمُوهُ أَنْتُمْ كَذِباً وَافْتِرَاءً عَلَى اللهِ، فَإِنْ حَضَرَ هَؤُلاَءِ الشُّهُودُ وَشَهِدُوا فَلاَ تُصَدِّقْهُمْ، وَلاَ تَقْبَلْ لَهُمْ شَهَادَةً، وَلاَ تُسَلِّمْ لَهُمْ بِالسُّكُوتِ عَلَى كَذِبِهِمْ، لأنَّهُمْ إِنَّمَا يَشْهَدُونَ بِالكَذِبِ وَالبَاطِلِ، وَلاَ تَتَّبِعْ أَهَوَاءَ الكَافِرِينَ الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ، وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ، وَيُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ، وَيَجْعَلُونَ لَهُ مَنْ يُمَاثِلُهُ مِنَ المَعْبُودَاتِ البَاطِلَةِ، فِي جَلْبِ الخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ.
هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ - أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ.
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ - يُسَوُّونَ بِرَبِّهِمْ غَيْرَهُ فِي العِبَادَةِ.
(١٥١) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ، الذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللهِ، وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ، وَقَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ، وَهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَهْوَائِهِمْ، وَبِوَحي مِنَ الشَّيْطَانِ، قُلْ لَهُمْ: تَعَالَوْا أَقْرَأْ عَلَيْكُمْ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّاً وَصِدْقاً، لاَ تَخَرُّصاً وَلاَ ظَنّاً وَتَخْمِيناً، لَقَدْ وَصَّاكُمْ بِألاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَبِأَنْ تُحْسِنُوا إِلَى وَالِدَيْكُمْ، وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، وَبِألاَّ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ الصِّغَارَ خَشْيَةَ الفَقْرِ فِي المُسْتَقْبَلِ، وَبِسَبَبِ فَقْرِكُم الحَاصِلِ، فَاللهُ تَعَالَى يَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ. وَأَوْصَاكُمْ رَبُّكُمْ بِألاَّ تَفْعَلُوا الفَوَاحِشَ، كَالزِّنَى وَقَذْفِ المُحْصَنَاتِ، سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهَا فِي السِّرِّ أَوْ فِي العَلَنِ، وَألاَّ تَقْتُلوا النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ قَتْلَهَا إلاَّ إِذَا كَانَ القَتْلُ بِحَقٍّ تَنْفِيذاً لِحُكْمِ القَضَاءِ، وَهَذَا مَا أَمَرَكُمُ اللهِ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ عَنِ اللهِ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلاَّ بِأُمُورٍ ثَلاَثَةٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ، وَزِنىً بَعْدَ إِحْصَانٍ وَقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ").
وَصَّاكُمْ - أَمَرَكُمْ وَأَلْزَمَكُمْ.
أَتْلُ عَلَيْكُمْ - أَقْرَأْ عَلَيْكُمْ.
الإِمْلاَقُ - شِدَّةُ الفَقْرِ.
الفَوَاحِشَ - كِبَارَ المَعَاصِي كَالزِّنَى وَنَحْوِهِ.
(١٥٢) - وَيُتَابِعُ اللهُ تَعَالَى، فِي هَذِهِ الآيَةِ، بَيَانَ مَا أَوْصَى بِهِ النَّاسَ، وَمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، فَيَقُولُ تَعَالَى: وَمِمَّا أَوْصَى بِهِ النَّاسَ: ألاَّ يَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ، إذَا وَلُّوا أَمْرَهُ، أَوْ تَعَامَلُوا مَعَهُ، إلاَّ بِالطَّرِيقَةِ الحَسَنَةِ (إلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ) التِي تَحْفَظُ مَالَهُ، وَتُثَمِّرُهُ، وَتُرَجِّحُ مَصْلَحَتَهُ، وَأَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ تَرْبِيَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَأَنْ يَسْتَمِرَّ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ اليَتِيمُ سِنَّ الرُّشْدِ، وَالقُوَّةِ وَالقُدّرَةِ عَلَى الإِدْرَاكِ وَالتَّصَرُّفِ.
وَلَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَأَخَذُوا فِي عَزْلِ مَالِ اليَتِيمِ وَطَعَامِهِ، عَنْ مَالِهِمْ، فَكَانَ طَعَامُ اليَتِيمِ يَفْسَدُ، لاَ يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِمَّنْ هُوَ عِنْدَهُمْ. فَشَكَوا ذَلِكَ لِلْنَّبِيِّ ﷺ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ.﴾ فَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُ النَّاسَ بِمُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ اليَتِيمِ، وَالعِنَايَةِ بِمَالِهِ، وَعَدَمِ التَّصَرُّفِ فِيهِ إلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَيُحَذِّرَهُمْ تَعَالَى مِنَ التَّجَاوُزِ عَلَى مَالِ اليَتِيمِ.
وَيَقُولُ تَعَالَى: إنَّ مِمَّا أَوْصَى بِهِ النَّاسَ أَيْضاً: إِيفَاءَ الكَيْلِ وَالمِيْزَانِ عِنْدَ البَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَعَدَمَ غَمْطِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ وَاللهُ تَعَالَى يَدْعُو المُؤْمِنَ أَنْ يَبْلُغَ جُهْدَهُ فِي أَدَاءِ ذَلِكَ، فَإِذَا بَلَغَ جُهْدَهُ، وَعَمِلَ مَا فِي وُسْعِهِ، يَكُونُ قَدْ قَامَ بِأَمْرِ اللهِ، وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ إِن أَخَطَأَ بَعْدَ ذَلِكَ، لأنَّ اللهَ لاَ يُكَلِّفُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها، وَقَدرَ طَاقَتِهَا.
وَيَقُولُ تَعَالَى: إنَّ مِمَّا وَصَّى بِهِ النَّاسَ أَيْضاً العَدْلُ فِي القَوْلِ واَلفِعْلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي كُلِّ حَالٍ: فِي الشَّهَادَةِ وَفِي الحُكْمِ وَفِي الكَيْلِ وَالمِيْزَانِ، وَلَوْ كَانَ الأَمْرُ يَتَعَلَّقُ بِقَرِيبٍ، فَإِنَّ القَرَابَةَ وَالصَّدَاقَةَ يَجِبُ ألاَّ تَصْرِفَا الإِنْسَانَ عَنْ قَوْلِ الحَقِّ، وَعَنِ العَدْلِ فِيهِ.
كَمَا يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالوَفَاءِ بِعَهْدِ اللهِ، وَالقِيَامِ بِطَاعَتِهِ، فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، وَفِيمَا عَاهَدُوا النَّاسَ عَلَيْهِ.
وَهَذَا مَا أَوْصَى بِهِ اللهُ المُؤْمِنِينَ، وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَأَكَّدَ عَلَيهِ.
وَيَقُولُ تَعَالَى: إذَا اجْتَهَدْتُمْ بِالوَفَاءِ بِمَا أَمَرَ اللهُ، وَتَوَاصَيْتُمء بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَيْتُمْ عَنِ المُنْكَرِ، فَلَعَلَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ تَتَّعِظُونَ، وَتَنْتَهُونَ عَمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلِ.
حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ - حَتَّى يَبْلُغَ اسْتِحْكَامَ قُوَّتِهِ وَيَرْشُدَ.
بِالقِسْطِ - بِالعَدْلِ دُونَ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ.
وُسْعَهَا - طَاقَتَهَا، وَمَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ.
(١٥٣) - وَدَلَّ اللهُ تَعَالَى العِبَادَ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ المُوصِلِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَدَعَاهُمْ إلى اتِّبَاعِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً لاَ عِوَجَ فِيهِ، فَعَلَيْكُمْ أِنْ تَتَّبِعُوهُ إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الهِدَايَةَ، وَالفَوْزَ بِرِضَا رَبِّكُمْ وَرِضْوَانِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " خَطَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ خَطّاً بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيماً. وَخَطَّ عَنْ يَمِينِهِ خَطّاً وَعَنْ شِمَالِهِ خَطّاً، ثُمَّ قَالَ هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبيلٌ إلاَّ عَلَيهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةُ ".
(وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: " ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً صِرَاطاً مُسْتَقِيماً، وَعَنْ جَنْبَتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا)، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ الإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئاً مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ، قَالَ وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ فَتَحْتَهُ تَلِجْهُ. فَالصِرَاطِ هُوَ الإِسْلاَمُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللهِ، وَالأَبْوَابُ المُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللهِ، وَالدَّاعِي مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ "). (أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنِّسَائِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ).
فَاتَّبِعُوا سَبِيلَ اللهِ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ، لأنَّهُ سَبيلٌ وَاضِحٌ وَاحِدٌ، وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ المُتَفَرِّقَةَ المُضِلَّةَ، حَتَّى لا تَتَفَرَّقُوا شِيَعاً وَأَحْزَاباً، وَتَبْعُدُوا عَنْ صِرَاطِ اللهِ السَّوِيِّ.
صِرَاطِي مُسْتَقِيماً - سَبِيلِي وَدِينِي، لاَ عِوَجَ فِيهِمَا.
(١٥٤) - لَمَّا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنِ القُرْآنِ أَنَّهُ صِرَاطُهُ المُسْتَقِيمُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ، عَطَفَ يَمْدَحُ التَّورَاةَ وَرَسُولَها مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى كَامِلاً، جَامِعاً لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَقَدْ آتَاهُ اللهُ إيَّاهُ إِتْمَاماً لِلْنِّعْمَةِ وَالكَرَامَةِ، عَلَى مَنْ أَحْسَنَ فِي اتِّبَاعِهِ، وَاهْتَدَى بِهِ.
وَالتَّوْرَاةُ دَلِيلٌ مِنْ دَلاَئِلِ الهِدَايَةِ إلى الحَقِّ، وَسَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ لِمَنْ أَرَادَ الهِدَايَةَ، وَقَدْ تَضَمَّنَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيءٍ، لَعَلَّ قَوْمَ مُوسَى يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَيَتَذَكَّرُونَ لِقَاءَ رَبِّهِمْ فَيُحْسِنُوا العَمَلَ، وَيَفُوزُوا فِي الآخِرَةِ بِحُسْنِ العَاقِبَةِ وَالمَآبِ.
(١٥٥) - وَهَذا القُرْآنُ هُوَ كِتَابٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ، مُبَارَكٌ أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَاتَّبِعُوهُ أَيُّهَا النَّاسُ وَتَدَبَّرُوهُ، وَاعْمَلُوا بِمَا فِيهِ، وَادْعُوا إِلَيْهِ. وَوَصَفَهُ تَعَالَى بِالبَرَكَةِ لِمَنْ اتَّبَعَهُ وَعَمِلَ بِهِ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، لأنَّهُ جَمَعَ أَسْبَابَ الهِدَايَةِ الدَّائِمَةِ.
(١٥٦) - وَأَنْزَلَنْا هَذَا القُرْآنَ، المُرْشِدَ إلَى تَوْحِيدِ اللهِ، لِكَيْلاَ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ مُعْتَذِرِينَ عَنْ شِرْكِكُمْ: إِنَّمَا أُنَْزِلَ الكِتَابُ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى (طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا)، وَمَا كُنَّا نَفْهَمُ مَا جَاءَ فِيهِمَا، لأنَّ الكِتَابَيْنِ لَمْ يَكُونَا بِلُغَتِنَا، وَلَمْ نُؤْمَرْ بِالأَخْذِ بِهِمَا وَبِمَا جَاءَ فِيهِمَا مِنْ أَحْكَامٍ، وَلِذَلِكَ كُنَّا غَافِلِينَ عَنْ دِرَاسَةِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمَا جَاءَ فِي كُتُبِهِمْ.
(١٥٧) - وَأَنْزَلْنَا هَذا القُرْآنَ لِئَلاَّ تَقُولُوا: لَوْ أَنَّنَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الكِتَابِ، لَكِنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فِيمَا أَتَوْهُ، فَهَا قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ - عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ ﷺ - قُرْآنٌ عَظِيمٌ، فِيهِ بَيَانٌ لِلْحَقِّ، وَلِلْحَلاَلِ وَالحَرَامِ، وَفِيهِ هُدًى لِلْقُلُوبِ، وَرَحْمَةٌ مِنَ اللهِ بِالعِبَادِ الذِينَ يَتَّبِعُونَهُ، وَيَقْتَفُونَ مَا فِيهِ.
ثُمَّ تَهَدَّدَ اللهُ تَعَالَى مَنْ يُعْرِضُ عَنِ القُرْآنِ وَآيَاتِهِ، بِسُوءِ العَاقِبَةِ، فَقَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَلَمْ يَتَّبْع مَا أُرْسِلَ بِهِ، وَأَعْرَضَ عَنْ آيَاتِ اللهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا جَاءَ فِيهَا، وَلَمْ يَنْتَهِ عَمَّا نَهَتْ عَنْهُ، فَلاَ هُوَ آمَنَ بِهَا، وَلاَ هُوَ عَمِلَ بِمَا فِيهَا.
وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ سَيَجْزِي الذِينَ يُعْرِضُونَ عَنْ آيَاتِهِ التِي بَثَّهَا فِي الأَنْفُسِ وَالآفَاقِ، وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ الإِيمَانِ بِهَا، وَعَنِ اتِّبَاعِهَا، أَسْوأَ العَذَابِ وَأَشَدَّهُ بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ وَصَدِّهِمْ الآخَرِينَ (بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ).
صَدَفَ عَنْهَا - أَعْرَضَ عَنْهَا أَوْ صَرَفَ النَّاسَ عَنْهَا.
(١٥٨) - يَتَوَعَّدَ اللهُ تَعَالَى الكَافِرِينَ بِهِ، وَالمُخَالِفِينَ لِرُسُلِهِ، وَالمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ، وَالصَّادِّينَ عَنْ سَبِيلِهِ، فَيَقُولُ: مَاذَا يَنْتَظِرُ هَؤُلاَءِ لِيُؤْمِنُوا؟ هَلْ يَنْتَظِرُونَ مَلاَئِكَةَ المَوْتِ لِتَأْتِيَهُمْ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ؟ أَوْ هَلْ يَنْتَظِرُونَ قِيَامَ السَّاعَةِ حِينَ يَأْتِي اللهُ وَالمَلاَئِكَةُ، أَوْ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَعْضُ آيَاتِ اللهِ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَهِيَ الآيَاتُ المُوجِبَةُ للإِيْمَانِ الاضْطِرارِيِّ، حِينَ يَرَوْنَ شَيْئاً مِن أَشْرَاطِ السَّاعَةِ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطُلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيها " - أَيْ مَنْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنَ البَشَرِ). (رَوَاهُ البُخَارِي).
وَيَقُولُ تَعَالَى: إنَّهُ فِي ذَلِكَ الحِينَ لاَ يَنْفَعُ النَّفْسَ إِيمَانُهَا، إذَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، فَإِذَا آمَنَ الكَافِرُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ فَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُ إِيمَانُهُ، أَمَّا مَنْ آمَنَ مِنْ قَبْلُ، فَإِنْ كَانَ مُصْلِحاً فِي عَمَلِهِ فَهُوَ بَخَيرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصْلِحاً، فَأَحْدَثَ تَوْبَةً حِينَئِذٍ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ تَوْبَتُهُ.
وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى مَنْ يُسَوِّفُ إِيمَانَهُ وَتَوْبَتَهُ إلَى وَقْتٍ لاَ يَنْفَعُهُ فِيهِ ذَلِكَ فَيَقُولُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: انْتَظِرُوا إِنِّي مُنْتَظِرٌ مَعَكُمْ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلَهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشراً. وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيءٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ "). (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
(١٦١) - يَأَمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ بِأَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِمَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الهِدَايَةِ إلَى صِرَاطِ رَبِّهِ المُسْتَقِيمُ، الذِي لاَ اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَلاَ انْحِرَافَ، وَهَذَا الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ هُوَ دِينُ اللهِ الذِي يَقُومُ بِهِ أَمْرُ النَّاسِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَبِهِ يَصْلُحُونَ (دِيناً قَيَماً). وَهَذا الدِّينُ القَيِّمُ هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ الذِي كَانَ حَنِيفاً مُخْلِصاً، مُنْحَرِفاً عَنِ الشِّرْكِ.
دِيناَ قِيَماً - دِيناً ثَابِتاً مُقَوِّماً لأُمُورِ المَعَاشِ وَالمَعَادِ.
حَنِيفاً - مُنْحَرِفاً عَنِ الشِّرْكِ وَالبَاطِلِ، مَائِلاً إلَى الدِّينِ الحَقِّ.
(١٦٢) - وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ، الذِينَ يَذْبَحُونَ الذَّبَائِحِ عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللهِ: إِنَّكَ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ، فَإنَّ صَلاَتَكَ وَنُسْكَكَ وَمَحْيَاكَ عَلَى اسْمِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، خَالِصاً لِوَجْهِ اللهِ الذِي خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ، وَهُوَ رَبُّ العَالَمِينَ جَمِيعاً.
النُّسْكُ - العِبَادَةِ.
(لَقَدْ كَانَتْ دَعْوَةُ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ إلَى الإِسْلاَمِ: هِيَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ).
إلاَّ عَلَيها - إلاَّ ذَنْباً مَحْمُولاً عَلَيْهَا عَقَابُهُ.
لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ - لاَ تَحْمِلُ نَفْسٌ آثِمَةٌ إِثْمَ غَيْرِهَا.
(١٦٥) - وَاللهُ رَبُّكم وَرَبُّ كُلِّ شَيءٍ، هُوَ الذِي اسْتَخْلَفَكُمْ فِي الأَرْضِ، وَجَعَلَكُمْ تَعْمُرُونَهَا جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ، وَخَلَفاً بَعْدَ سَلَفٍ، وَقَدْ فَاوَتَ بَيْنَكُمْ فِي الأَرْزَاقِ وَالأَخْلاَقِ وَالمَحَاسِنِ وَالمَسَاوِئِ، وَالمَنَاظِرِ وَالأَشْكَالِ وَالأَلْوَانِ... وَلَهُ الحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ لِيَخْتَبِرَكُمْ فِي الذِي أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، وَيَمْتَحِنَكُمْ بِهِ، فَيَخْتَبِرَ الغَنِيَّ فِي غِنَاهُ، وَيَسْأَلَهُ عَنْ شُكْرِهِ، وَالفَقِيرَ فِي فَقْرِهِ وَيَسْأَلَهُ عَنْ صَبْرِهِ.
وَيُرهِّبُ اللهُ تَعَالَى العِبَادَ وَيُرَغِّبُهُمْ، فَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ حِسَابَهُ وَعِقَابَهُ لِمَنْ خَالَفَ رُسُلَهُ وَكَذَّبَ بِآيَاتِهِ، سَرِيعَانِ، وَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ وَالاَهُ وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ فِيمَا جَاؤُوا بِهِ مِنَ الخَيْرِ، وَلِمَنْ تَابَ وَأَنَابَ وَأَحْسَنَ العَمَلَ.
خَلاَئِفَ الأَرْضِ - يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً فِي الأَرْضِ.
لِيَبْلُوكُمْ - لِيَخْتَبِرَكُمْ.