ﰡ
(١) - وَتُقْرَاُ مُقَطَّعَةً، كُلُّ حَرْفٍِ عَلَى حِدَةٍ. اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ مَعْنَاهَا: أَنَا أُفصلُ.
(٢) - هَذَا القُرْآنُ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْْكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ، فَلاَ يَضِيقَنَّ صَدْرَكَ مِنَ الإِنْذَارِ بِهِ، وَإِبلاَغِهِ إِلَى مَنْ أُمِرتَ بِإِبْلاَغِهِ إِلَيْهِمْ، وَاصْبِرْ لأَمْرِ رَبِّكَ فِيمَا حَمَّلَكَ مِنْ عِبْءِ النُّبُوَّةِ، كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، فَإِنَّ اللهَ مَعَكَ، وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللهُ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً، وَلِتُذَكِّرَ بِهِ مَنْ كَتَبَ اللهُ لَهُمُ الهِدَايَةَ وَالإِيمَانَ.
حَرَجٌ مِنْهُ - ضِيقٌ مِنْ تَبْلِيعِهِ خَشْيَةَ التَّكْذِيبِ.
وَقَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ هُمُ الذِينَ يَتَذَكَّرُونَ وَيَتَّعِظُونَ (أَوْ قَلِيلاً مَا تَتَّعِظُونَ بِمَا تُوعَظُونَ بِهِ).
(٤) - وَكَثِيرٌ مِنَ القُرَى (أَوِ البِلاَدِ) أَهْلَكَ اللهُ أَهْلَهَا، لِمُخَالَفَتِهِمْ رُسُلَ رَبِّهِمْ فِيما جَاؤُوهُمْ بِهِ، وَتَكْذِيبِهمْ إِيَّاهُمْ، فَأَخْزَاهُمُ اللهُ فِي الدُّنيا، وَسَيُذِلُّهُمْ فِي الآخِرَةِ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ جَاءَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَبَأْسُهُ لَيلاَ (بَيَاتاً) وَمِنْهُمْ مَنْ جَاءَهُمْ نَهَاراً وَهُمْ يَسْتَرِيحُونَ وَسَطَ النَّهَارِ (قَائِلُونَ)، وَكِلاَ الوَقْتَينِ وَقْتُ غَفْلَةٍ مِنَ النَّاسِ وَلَهْوٍ، فَعَلى العَاقِلِ أَلاَّ يَغْتَرَّ بِالدُّنْيَا، وَأَلاَّ يَأْمَنَ غَدْرَ اللَّيَالِي.
كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ - كَثِيرٌ مِنَ القُرَى.
بَأْسُنا - عَذَابُنَا.
بَيَاتاً - وَهُمُ نَائِمُونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيلاً (كَمَا حَدَثَ لِقَوْمِ لُوطٍ).
قَائِلُونَ - يَرْتَاحُونَ وَقْتَ القَيْلُولَةِ، وَهِيَ بَعْدَ الظُهْرِ كَمَا حَدَثَ لأَصْحَابِ الأَيْكَةِ قَوْمِ شُعَيْبٍ.
(٥) - وَحِينَ جَاءَهُمُ العَذَابُ لَمْ يَقُولُوا شَيْئاً غَيْرَ الاعْتِرَافِ بِذُنُوبِهِمْ، وَظُلْمِهِمْ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَشَهِدُوا بِبُطْلاَنِهِ، وَبِأَنَّهُم حَقِيقُونَ بِهَذا العَذَابِ الذِي نَزَلَ بِهِمْ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَظْلِمْهُمْ.
دَعْوَاهُمْ - دُعَاؤُهُمْ وَتَضَرُّعُهُمْ.
(٦) - يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ سَيَسْأَلُ الأُمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَّا أَجَابُوا بِهِ رُسُلَهُمْ فِيمَا أَرْسَلَهُمُ اللهُ بِهِ إِلَيْهِم، وَسَيَسْأَلُ الرُّسُلَ أَيْضاً عَمَّا بَلَّغُوهُ إلَى الأُمَمِ مِنْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ، وَعَمَّا أَجَابَهُمْ بِهِ أَقْوَامُهُمْ.
القَصُّ أَصْلاً - هُوَ تَتَبُّعُ الأَثَرِ فِعْلاً أَوْ قَوْلاً وَيُقْصَدُ بِهِ هُنَا الإِخْبَارُ.
(٨) - وَاللهُ تَعَالَى يَزِنُ أَعْمَالِ العِبَادِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيُقَدِّرُهَا بِعَدْلٍ تَامٍّ (بِالحَقِّ)، فَلا يَظْلِمُ أَحَداً شَيْئاً، فَالذِينَ تَرْجَحُ مَوَازِينُ أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ وَحَسَنَاتُهُمْ (ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُمْ) فَأُولئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ بِالنَّجَاةِ مِنَ العَذَابِ (المُفْلِحُونَ).
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ - رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ.
(٩) - أَمَّا الذِينَ خَفَّتْ موازينُ أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ، وَرَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَكَيثْرَةِ مَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ السَّيِّئاتِ، فَهؤُلاءِ يَكُونُونَ قَدْ خِسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لأَنَّهُمْ حَرَمُوهَا السَّعَادَةَ التِي كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لَهَا لَوْ لمْ يُفْسِدُوا فِطْرَتَهَا.
وَالمُؤْمِنُونَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِ الأَعْمَالِ، هُمُ المُفْلِحُونَ، فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَهُوَ مُفْلِحٌ، وَإِنْ عُذِّبَ عَلَى بَعْضِ ذُنُوبِهِ بِمِقْدَارِهَا، وَإِنَّ الكَافِرِينَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَكَاتِهِمْ هُمْ فِي خُسْرَانٍ عَظِيمٍ.
(١٠) - يَمْتَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ الأَرْضَ قَراراً يَعِيشُونَ وَيَسْتَقِرُّونَ عَلَيها، وَجَعَلَ فِيها جِبَالاً رَاسِياتٍ تَسَهِّلُ اسْتِقْرارَ النَّاسِ عَلَيهَا، فَلا تَمِيدُ بِهِمْ، وَجَعَلَ فِيها أَنْهَاراً، وَأَبَاحَ للنَّاسِ التَّمَتُّعَ بِمَنَافِعِها، وَسَخَّرَ الرِّياحَ لإِخْرَاجِ أَرْزَاقِهِمْ مِنْهَا، وَجَعَلَ لِلنَّاسِ مَا يَيَسَبَّبُونَ بِهِ وَيَتَكَسَّبُونَ (مَعَايِشَ)، وَلِكنَّ النَّاسَ، مَعَ جَميعِ هذِهِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، قَلِيلٌ مِنْهُمُ الشَّكُورُ، وَاللهُ تَعَالَى سَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى كُفْرَانِهِمْ بِالنِّعَمِ حِسَاباً عَسِيراً.
مَكَّنَّاكُمْ - جَعَبْنَا لَكُمْ مَكَاناً وَقَراراً.
مَعَايشَ - مَا تَعِيشُونَ بِهِ وَتَحْيَوْنَ.
(١١) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ إلَى شَرَفِ أَبِيهِمْ آدَمَ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ لَهُمْ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ صَوَّرَهُ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ المَلاَئِكَةَ بِالسُّجُودِ لآدَمَ، تَكْرِيماً وَتَعْظِيماً، فَسَجَدُوا إِطَاعَةً لأَمْرِ اللهِ، إلاَّ إِبْلِيسَ فَإِنَّهُ رَفَضَ السُّجُودَ، وَتَمَرَّدَ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ.
مَا مَنَعَكَ - مَا حَمَلَكَ وَمَا دَعَاكَ.
(١٣) - فَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى إِبْلِيسَ بِأَنْ يَهْبِطَ مِنَ الجَنَّةِ إِلَى الأَرْضِ، لِعِصْيَانِهِ أَمَرَ رَبِّهِ، وَخُرُوجِهِ عَنْ طَاعَتِهِ، فَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ فِيهَا. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالخُرُوجِ مِنَ الجَنَّةِ ذَلِيلاً حَقِيراً، بِسَبَبِ كُفْرِهِ وَتَمَرُّدِهِ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ.
الصَّاغِرِينَ - الأَذِلاَءِ.
أَنْظِرْنِي - أَخِّرْنِي وَأَمْهِلْنِي فِي الحَيَاةِ.
المُنْظَرِينَ - المُمْهَلِينَ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
(١٦) - لَمَّا اسْتَوثَقَ إِبْلِيسُ مِنْ وَعْدِ اللهِ لَهُ بِإِبْقَائِهِ إِلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ، أَخَذَ فِي المُعَانَدَةِ وَالتَّمَرُّدِ فَقَالَ لِرَبِّهِ: كَمَا أَغْوَيْتَنِي (فَبِمَا أَغْوَيتَنِي) وَأَضْلَلْتَنِي وَأَهْلَكْتَنِي فَإِنَّنِي سَأُحَاوِلُ فِتْنَةَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَسَأَعْتَرِضُ سَبِيلَهُمْ مُحَاوِلاً إِبْعَادَهُمْ عَنْ طَرِيقِ اللهِ المُسْتَقِيمِ، طَرِيقِ الحَقِّ وَالهُدَى، بِأَنْ أُزَيِّنَ لَهُمْ طُرُقاً أُخْرى حَتَّى يَضِلُّوا.
فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي - كَمَا أَضْلَلْتَنِي.
لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ - لأَجْلِسَنَّ لَهُمْ، وَلأَتَرَصَّدَنَّ لَهُمْ.
(١٧) - ثُمَّ سَأُحَأوِلُ تَشْكِيكَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) وَأُرَغِّبُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ (مِنْ خَلْفِهِمْ)، وَسَأُشَبِّهُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ (عَنْ أَيْمَانِهِمْ)، وَسَأُزَيِّنَ لَهُم المَعَاصِيَ، وَأُحَسِّنُها لَهُمْ (عَنْ شَمَائِلِهِمْ) وَسَأَفْتِنُهُمْ، مَا اسْتَطَعْتُ، حَتَّى لاَ تَجِدَ يَا رَبِّ بَيْنَ بَنِي آدَمَ كَثيراً مِنَ المُطِيعِينَ الشَّاكِرِينَ لأَنْعُمِكَ عَلَيْهِمْ.
(١٨) - ثُمَّ أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى لَعْنَتَهُ عَلَى إِبْلِيسَ وَطَرْدَهُ لَهُ، وَإِبْعَادَهُ عَنِ المَلأِ الأَعْلَى، وَهُوَ مَقِيتٌ مَعِيبٌ (مَذْؤُومٌ) مُقْصىً مُبْعَدٌ، وَقَالَ لَهُ مُهَدِّداً: إِنَّهُ وَمَنْ يَتَّبِعُهُ مِنْ بَنِي آدَمَ سَيَكُونُ مَصِيرُهُمْ جَهَنَّمَ، وَسَيَمْلَؤُهَا مِنْهُمْ جَمِيعاً.
مَذْؤُوماً - مَذْمُوماً مَعِيباً لَعِيناً.
مَدْحُوراً - مَطْرُوداً مُبْعَداً.
(١٩) - وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لآدَمَ: اسْكُنْ يَا آدَمُ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ، وَأَبَاحَ لَهُمَا أَنْ يَأْكُلاَ مِنْ جَمِيعِ ثِمَارِهَا، إِلاَّ شَجَرَةً وَاحِدَةً نَهَاهُمَا اللهُ عَنِ الاقْتِرَابِ مِنْهَا، وَقَالَ لَهُمَا إِنَّهُمَا إِذَا اقْتَرَبَا مِنْهَا وَأَكَلا مِنْ ثَمَرِهَا، كَانَا مِنَ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ.
وَلَمَّا رَأَى الشَّيْطَاهُ ذلِكَ الصَّنِيعَ الجَمِيلَ مِنَ اللهِ بِآدَمَ وَزَوْجِهِ، أَخَذَهُ الحَسَدُ وَالغَيْرَةُ، وَسَعَى، بِالمَكْرِ وَالوَسْوَسَةِ، لِيَسْلبَهُمَا مَا هُمَا فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ، وَاللِّبَاسِ الحَسَنِ.
(٢٠) - وَأَخَذَ إِبْلِيسُ يُحَرِّضُهُمَا عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ رَبِّهِمَا، وَيَحُثُّهُمَا، وَيُزَيِّنُ لَهُمَا الأَكْلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، لِيَسْلِبَهُمَا لِبَاسَهُمَا الحَسَنَ، وَقَالَ لَهُمَا: إنَّ اللهَ نَهَاكُمَا عَنِ الأَكْلِ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ لِكَيْلاَ تُصْبِحَا مَلَكَيْنِ بِأَكْلِكُمَا مِنْهَا، لَكُمَا خَصَائِصُ المَلاَئِكَةِ وَمَزَايَاهُمْ، أَوْ تُصْبِحَا مِنَ الخَالِدِينَ فِي الجَنَّةِ، الذِينَ لاَ يَمُوتُونَ أَبَداً، وَلا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهُم فِيهَا أَبَداً.
الوَسْوَسَةُ - الصَّوْتُ الخَفِيُّ المُكَرَّرُ. وَوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ لِلْبَشَرِ هِيَ مَا يَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الخَوَاطِرِ السَّيِّئَةِ التِي تُزَيِّنُ لَهُمْ فِعْلَ القَبِيحِ.
سَوْءَاتِهِمَا - عَوْرَاتِهِمَا.
مَا وُورِيَ عَنْهُمَا - مَا سُتِرَ وَغُطَّيَ عَنْهُمَا.
(٢١) - وَحَلَفَ لَهُمَا بِاللهِ إِنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا فِيمَا رَغَّبَهُمَا فِيهِ مِنَ الأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالأَيْمَانِ المُغَلَّظَةِ، إذْ كَانَ عِنْدَهُمَا مَحَلَّ الشَّكِّ وَالظِّنَّةِ لأنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَخْبَرَهُمَا أَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمَا.
قَاسَمَهُمَا - أَقْسَمَ لَهُمَا وَحَلَفَ.
(٢٢) - فَمَا زَالَ إِبْلِيسُ يُخَادِعُهُمَا، وَيُرَغِّبُهُما فِي الأَكْلِ مِنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ، وَيُقْسِمُ لَهُمَا بِاللهِ أَنَّهُ نَاصِحٌ لَهُمَا، حَتَّى حَطَّهُمَا عَمَّا كَانَا عَلَيهِ مِنْ سَلاَمَةِ الفِطْرَةِ وَطَاعَةِ اللهِ، وَنَسِيَا النَّهْيَ (كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى - فَنَسِيَ وَلَمْ نَجدْ لَهُ عَزْماً). فَلَمَّا أَكَلاَ مِنَ الشَّجَرَةِ التِي نَهَاهُمَا اللهُ عَنْهَا، تَعَرَّيَا مِمّا كَانَ يَسْتُرُ سَوْآتِهِمَا (عَوْرَاتِهِمَا) فَبَدَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَوْرَةُ الآخرِ، وَكَانَتْ قَبْلاً مَسْتُورَةً عَنْهُ. فَنَبَّهتْهُمَا إلَى مَا كَانَ خَفِيَ عَنْهُمَا مِنْ أَمْرِهَا، فَخَجِلا مِنْ ظُهُورِهَا، وَشَعَرَا بِالحَاجَةِ إِلى سَتْرِهَا، فَأَخَذَا يُلْصِقَانِ عَلَى عَوْرَاتِهِمَا (يَخْصِفَانِ) مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ لِسَتْرِهَا.
وَسَأَلَ اللهُ تَعَالَى آدَمَ عَنْ أَسْبَابِ مُخَالَفَتِهِمَا لأَمْرِهِ، وَأَكْلِهِمَا مِنَ الشَّجَرَةِ التِي نَهَاهُمَا اللهُ عَنْها، وَذكَّرَهُ بِمَا سَبَقَ أَنْ قَالَهُ مِنْ أَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوٌّ لَهُ وَلِزَوْجِهِ بَيِّنُ العَدَاوَةِ، وَبِمَا حَذَّرَهُ مِنْهُ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ مُعْتَذِراً: (وَعِزَّتِكَ مَا حَسِبْتُ أَحَداً يَحْلِفُ بِكَ كَاذِباً أَبَداً).
دَلَّى الشَّيءَ تَدْلِيَةً - أَرْسَلَهُ إِلى أَسْفَلَ.
فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ - فَأَنْزَلَهُمَا عَنْ رُتْبَةِ الطَّاعَةِ بِخِدَاعِ.
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا - يُلْصِقَانَ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ لِسَتْرِ عَوْرَاتِهِمَا.
السَّوْءَةُ - مَا يَسُوءُ ظُهُورُهُ وَهِيَ هُنَا العَوْرَةُ.
الغُرُورُ - الخِدَاعُ وَالبَاطِلُ.
(٢٣) - فَقَالَ آدَمُ وَزَوْجُهُ نَادِمَيْنِ مُتَضَرِّعَيْنِ: رَبَّنَا إِنَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا بِطَاعَتِنَا لِلشَّيْطَانِ، وَمَعْصِيَتِنا لأَمْرِكَ، وَقَدْ أَنْذَرْتَنَا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا مَا ظَلَمْنَا بِهِ أَنْفُسَنَا، وَتَرْحَمْنَا بِالرِّضا عَنَّا، وَتُوَفِقْنَا لِلهِدَايَةِ، وَتَرْكِ الظُّلْمِ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ لأَنْفُسِنَا.
(وَهَذِهِ هِيَ الكَلِمَاتُ التِي تَلَقَّاهَا آدَمُ مِنْ رَبِّهِ مُعْتَذِراً لِيَغْفِرَ لَهُ).
(٢٤) - فَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى آدَمَ وَحَوَاءَ وَإِبْلِيسَ بِالهُبُوطِ مِنَ الجَنَّةِ إلَى الأَرْضِ، وَقَالَ لَهُمْ إنَّ إِبْلِيسَ سَيَكُونُ عَدُوَاً لِبَنِي آدَمَ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَغْفُلُوا عَنْ عَدَاوَتِهِ وَوَسْوَسَتِهِ، وَسَيَكُونُ لِلْجَمِيعِ قَرَارٌ عَلَى الأَرْضِ، وَمَعَاشٌ وَانْتِفَاعٌ بِمَا فِيهَا، وَسَتَكُونُ لَهُمْ أَعْمَارٌ مَضْرُوبَةٌ إلى آجَالِ مَعْلُومَةٍ.
(٢٦) - يَمْتَنُ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ اللِّبَاسِ (وَهُوَ مَا يُلْبَسُ لِسَتْرِ العَوْرَةِ)، وَمِنَ الرِّيشِ (وَهُوَ مَا يُتَجَمَّلُ بِهِ ظَاهِراً). ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى لَهُمْ إنَّ خَشْيَةَ اللهِ، وَالخُوْفَ مِنْهُ، هُمَا أَفْضَلَ مَا يَكْسِبُهُ الإِنْسَانُ وَيَلْبَسُهُ.
وَذَلِكَ الذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ النِّعَمِ بِإِنْزَالِ المَلاَبِسِ هُوَ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَدَلاَئِلِ إِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ.
(وَقِيلَ بَلِ المَقْصُودُ بِلِبَاسِ التَّقْوَى - هُوَ مَا يُلْبَسُ مِنَ الدُّرُوعِ وَالمَغَافِرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُتَّقَى بِهِ البَأْسُ فِي الحَرْبِ).
الرِّيشُ - لِبَاسُ الحَاجَةِ وَالزِّينَةِ.
أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ - أَعْطَيْنَاكُمْ وَوَهَبْنَا لَكُمْ.
لِبَاسُ التَّقْوى - الإِيمَانُ وَثَمَرَاتُهُ.
(٢٧) - يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ إِبْلِيسَ وَجَمَاعَتِهِ (قَبِيلِهِ)، وَيُذَكِّرُهُمْ بِعَدَاوَتِهِ القَدِيمَةِ لآدَمَ وَزَوْجِهِ، حِينَمَا سَعَى فِي إِخْرَاجِهِمَا مِنَ الجَنَّةِ، دَارِ السَّعَادَةِ وَالهَنَاءِ، إلَى الأَرْضِ دَارِ الشَّقَاءِ، وَتَسَبَّبَ فِي هَتْكِ سِتْرِهِمَا، وَكَشْفِ عَوْرَاتِهِمَا، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُمَا، وَلِذَلِكَ فَإنَّ بَنِي آدَمَ عَلَيْهِمْ ألاَّ يُمَكِّنُوا إِبْلِيسَ مِنْ خِدَاعِهِمْ، وَإِيقَاعِهِمْ فِي المَعَاصِي بِوَسْوَسَتِهِ، فَإِبْلِيسُ يَرَى البَشَرَ فِي حِينِ أَنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَهُ هُمْ. وَالشَّيَاطِينُ هُمْ أَوْلِيَاءُ وَأَخِلاَّءُ وَأَصْحَابٌ لِلْكُفَّارِ الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ مِنَ الإِنْسِ، لاسْتِعْدَادِهِمْ لِتَقَبُّلِ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ وَإِغْوَائِهِمْ. أَمَّا المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.
لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ - لاَ يُضِلَّنَّكُمْ وَلاَ يَخْدَعَنَّكُمْ.
يَنْزِعُ عَنْهُمَا - يُزِيلُ عَنْهُمَا.
قَبِيلُهُ - جُنُودُهُ أَوْ ذُرِّيَتُهُ.
(٢٨) - وَإِذَا فَعَلَ المُكَذِّبُونَ أَمْراً بَالِغَ النُّكْرِ، كَالشِّرْكِ، وَالطَّوَافِ، بِالبَيْتِ عُرَاةً، اعْتَذَرُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: إنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَهُمْ يَسِيرُونَ عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدِينَ بِهِمْ، وَاللهُ أَمَرَهُمْ بِهِ، وَرَضِيَ لَهُمْ عَنْ فِعْلِهِ، إِذْ أَقَرَّهُمْ عَلَيهِ.
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مُنْكِراً مَا يَفْتَرُونَ: إنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِهذِهِ الأُمُورِ المُنْكَرَةِ، فَكَيْفَ يَنْسُبُونَ إِلَيهِ تَعَالَى مَا لاَ يَجِدُونَ دَلِيلاً عَلَى صِحَّةِ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ؟
فَعَلُوا فَاحِشَةً - فَعَلُوا فِعْلاً مُتَنَاهِياً فِي القُبْحِ.
وَاللهُ لاَ يَتَقَبَّلُ العَمَلَ مِنَ العَبْدِ إلاَّ إِذَا كَانَ مُسْتَجْمِعاً أَمْرَينِ:
- الصَّوابَ وَمُوَافَقَةِ الشَّرِيعَةِ.
- وَأَنْ يَكُونَ خَالِصاً لِوَجْهِ اللهِ بَعِيداً عَنِ الشِّرْكِ.
بِالقِسْطِ - بِالعَدْلِ - وَهُوَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ للهِ.
أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ - تَوَجَّهُوا إِلَى عِبَادَتِهِ مُسْقَيمِينَ.
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ - فِي كُلِّ مَكَانِ سُجُودٍ.
أ - فَرِيقاً هَدَاهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ فَاهْتَدَى، وَأَقَامَ وَجْهَهُ للهِ مُخْلِصاً فِي عِبَادَتِهِ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً.
ب - وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةَ لاتِّبَاعِهِمْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الطَّاعَةِ لِرَبِّهِمْ، وَإِنَّهُمْ حِينَ أَطَاعُوا الشَّيَاطِينَ فِيمَا زَيَّنُوهُ لَهُمْ مِنَ الفَوَاحِشِ وَالمُنْكَرَاتِ، أَصْبَحُوا وَكَأَنَّهُمْ وَلَّوْهُمْ أُمُورَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ الذِي يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ، وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ، فَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ.
(٣١) - يَرُدُّ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ عَلَى المُشْرِكِينَ، الذِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ وَهُمْ عُرَاةٌ، وَكَانَ الذِينَ يَطُوفُونَ مِنْهُمْ يُحَرِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِم الدَّسَمَ مَا أَقَامُوا بِألمَوْسِمِ، فَأَمَرَهُمُ اللهُ بِسَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ حِينَ الطَّوَافِ بِالبَيْتِ، وَبالتَّجَمُّلِ عِنْدَ الصَّلاَةِ، ثُمَّ أَبَاحَ لَهُم الأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِدُونِ إِسْرَافٍ (أَيْ بِدُونِ تَجَاوُزِ الحَدِّ المَعْقُولِ)، لأنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبسُوا فلِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلاَ سَرَفٍ، فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يُرى أثرُ نِعَمِهِ عَلَى عَبْدِهِ).
(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنِّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه).
يُقْصَدُ بِأَخْذِ الزِّينَةِ - ارْتِدَاءُ المَلابِسِ الحَسَنَةِ لِسَتْرِ العَوْرَةِ.
(٣٢) - يَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ حَرَّمَ شَيْئاً مِنَ المَآكِلِ، وَالمَلاَبِسِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ شَرْعٍ مِنَ اللهِ، فَيَقُولُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لِهؤلاَءِ المُشْرِكينَ: مَنْ حَرَّمَ مَا خَلَقَ اللهُ لِعِبَادِهِ مِنْ أَسْبَابِ الزِّيْنَةِ، وَمِنْ طَيِّبَاتِ الرِّزْقِ؟ فَهذِهِ الطَّيِّبَاتُ وَالزِّينَةُ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِنْ شَركَهُمْ فِيها الكُفَّارُ فِي الدُّنْيا، وَهِيَ خَالِصَةٌ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ، لاَ يَشْرَكُهُمُ الكُفَّارُ فِي شَيءٍ مِنْها.
وَهكَذَا يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى آيَاتِهِ وَيَشْرَحُهَا لِمَنْ يَعْقِلُونَ مِنَ النَّاسِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ وَحْدَهُ مَالِكُ المُلْكِ وَبِيَدِهِ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ.
(٣٣) - قُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَافْتَرُوْا عَلَى اللهِ الكَذِبَ، فَزَعَمُوا أَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِن كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِم الزِّينَةَ: إِنَّ اللهَ لَمْ يُحَرِّمْ فِيمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ إلاَّ الأُمُ رَ التَّاليةَ.
أ - الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ (كَالزِّنَى وَالمَعَاصِي الأُخْرَى).
ب - الإِثْمَ - وَهُوَ المَعْصِيَةُ.
ج - البَغْيَ عَلَى النَّاسِ، وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
د - وَحَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُشْرِكُوا مَعَهُ أَحَداً فِي عِبَادَتِهِ.
هـ - وَأَنْ يَفْتَرُوا عَلَى اللهِ وَيَكْذِبُوا، وَأَنْ يَقُولُوا عَلَيْهِ مَا لا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ (كَقِوْلِهِمْ إنَّ لَهُ وَلَداً أَوْ نَحْوَ ذلِكَ...).
الفَوَاحِشَ - كِبَارَ المَعَاصِي لِمَزِيدِ قُبْحِهَا.
الإِثْمَ - مَا يُوجِبُهُ مِنْ سَائِرِ المَعَاصِي.
البَغْيَ - الظُّلْمَ وَالاسْتِطَالَةَ عَلَى خَلْقِ اللهِ.
سُلْطَاناً - حُجَّةً وَبُرْهَاناً.
(٣٥) - وَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ بِأَنَّهُ سَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رُسُلاً مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ مِنِ البَشَرِ، يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللهِ وَيُبَيِّنُونَ لَهُمْ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ. فَمَنْ آمَنَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَآمَنَ بِرُسُلِهِ، وَاتَّقَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ، وَأَصْلَحَ نَفْسَهُ بِفِعْلِ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَحْسَنَ العَمَلَ.. فَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أَمْنٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَخَافُ مِمَّا هُوَ مُقْدِمٌ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ، وَلاَ يَحْزَنُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ حَيَاتِهِ فِي الدُّنْيا، وَلاَ عَلَى مَا خَلَّفَهُ فِيهَا وَرَاءَهُ.
(٣٦) - أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ المُنَزَّلَةِ عَلَى أَحَدِ رُسُلِهِ، وَاسْتَكْبَرُوا عَنْ قَبُولِها، وَعَنِ اتِّبَاعِ مَا جَاءَ فِيهَا، وَعَنِ العَمَلِ بِمَا فِيهَا... فَهَؤُلاَءِ سَيَكُونُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ أَبداً، لاَ يَمُوتُونَ وَلاَ يَحْيَونَ (خَالِدِينَ أَبَداً).
(٣٧) - لاَ أَحَدَ أَكْثَرُ ظُلْماً مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ بِأَنْ أَوْجَبَ عَلَى العِبَادِ شَيْئاً مِنَ العِبَادَاتِ لَمْ يُوجِبْهُ اللهُ، أَوْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ، أَوْ عَزا إلى دِينِهِ أَحْكَاماً لَمْ يُنْزِلها اللهُ عَلَى رُسُلِهِ.
وَلاَ أَحَدَ أَكْثَرُ ظُلْماً مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ، بِالقَوْلِ أَوْ بِالاسْتِهْزَاءِ، وَالاسْتِكْبَارِ عَنِ اتِّبَاعِهَا، وَهَؤُلاَءِ المُفْتَرُونَ المُكَذِّبُونَ سَيَحْصَلُونَ عَلَى نَصِيبِهِمْ مِمَّا قَدَّرَهُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الآجَالِ وَالأَرْزَاقِ (نَصِيبُهُمْ مِنَ الكِتَابِ) مَعْ ظُلْمِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، لاَ يُحْرَمُونَ شَيْئاً مِمَّا قَدَّرَهُ اللهُ لَهُمْ إلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ. فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ جَاءَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمنِ يَتَوَفَّوْنَهُمْ، فَيَسْأَلُونَهُمْ: أَيْنَ الذِينَ كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ بِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا، وَتَدْعُونَهُم آلِهَةً، وَتَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ؟ أُدْعُوهُم الآنَ لِيُخَلِّصُوكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ؟ فَيُجِيبُهُمْ هَؤُلاَءِ المُجْرِمُونَ: لَقَدْ غَابُوا عَنَّا وَتَوارَوُا (ضَلُّوا عَنَّا) فَلاَ نَرْجُو مِنْهُم نَفْعاً وَلاَ ضَراً. وَيُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ بِدَعوَتِهِم الشُّرَكَاءَ مَعَ اللهِ، وَيَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ.
(٣٨) - فَيُقَالُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ المُفْتَرِينَ الكَذِبَ عَلَى اللهِ: ادْخُلُوا مَعَ جَمَاعَاتٍ وَأُمَمٍ مِنْ أَمْثَالِكُمْ، وَعَلَى صِفَاتِكُمْ، قَدْ سَبَقَتْكُمْ فِي الكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ. وَكُلَّمَا دَخَلَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فِي النَّارِ، لَعَنَتْ أُخْتَهَا فِي الدِّينِ وَالمِلَّةِ إِذْ هِيَ قَدْ ضَلَّتْ بِاتِّبَاعِهَا، وَالاقْتِدَاءِ بِهَا فِي الكُفْرِ وَالضَّلاَلَةِ، حَتَّى إذَا اجْتَمَعُوا فِي النَّارِ جَمِيعاً (ادَّارَكُوا فِيهَا)، قَالَتْ آخِرُ كُلِّ أُمَّةٍ دَاخِلَةٍ إلَى النَّارِ (وَهُمُ الأَتْبَاعُ وَالسِّفْلَةُ) تَشْكُو أَهْلَ المَنْزِلَةِ وَالمَكَانَةِ مِنَ الكُبَرَاءِ المَتْبُوعِينَ، مِمَّنْ تَقَدَّمُوهُمْ فِي الدُّخُولِ إلَى نَارِ جَهَنَّمَ:
إنَّ هَؤُلاَءِ هُمُ الذِينَ أَضَلُّونَا وَدَفَعُونَا إلَى الشِّرْكِ وَالضَّلاَلَةِ، فَأَضْعِفْ لَهُم العَذَابَ يَا رَبِّ، وَزِدْهُمْ فِيهِ.
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: لَقَدْ فَعَلْنَا، وَجَعَلْنَا لِكُلٍّ مِنْهُمْ ضِعْفاً مِنَ العَذَابِ لإِضْلاَلهِ النَّاسَ، فَوْقَ العَذَابِ الذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَى ضَلاَلِهِ، وَلَكِنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا يُلاَقُونَهُ مِنَ العَذَابِ.
ادَّارَكُوا فِيهَا - تَلاَحَقُوا فِي النَّارِ وَاجْتَمَعُوا فِيهَا.
أُخْرَاهُمْ - فِي المَنْزِلَةِ وَهُمُ السِّفْلَةُ وَالأَتْبَاعُ (وَقَدْ يَكُونُونَ الآخِرِينَ فَي الدُّخُولِ إلَى النَّارِ لأنَّ الكُبَرَاءَ يَكُونُونَ أَوَّلَ الدَّاخِلِينَ إِلَيْها).
أُولاَهُمْ - مَنْزِلَةً وَهُمُ القَادَةُ - وَقَدْ يَكُونُونَ أَوَّلَ الدَّاخِلِينَ إلَى النَّارِ.
عَذَاباً ضِعْفاً - عَذَاباً مُضَاعَفاً وَمَزِيداً.
(٣٩) - وَيَرُدُّ المَتْبُوعُونَ عَلَى الأَتْبَاعِ قَائِلِينَ: لَقَدْ ضَلَلْتُمْ كَمَا ضَلَلْنَا نَحْنُ وَلِذَلِكَ فَلَيْسَ لأَحَدٍ فَضْلٌ عَلَى أَحَدٍ يَسْمَحُ بِأَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ العَذَابُ، فَذُوقُوا العَذَابَ الذِي تَسْتَحِقُّونَهُ، عَلَى مَا اقْتَرَفْتُمُوهُ مِنَ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي وَالأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ. (أَوْ إنَّ هذِهِ العِبَارَة يَقُولُها اللهُ لَهُمْ مُوَبِّخاً وَمُقَرِّعاً).
(٤٠) - وَالذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ تَكَبُّراً وَطُغْيَاناً، وَلَمْ يَتَّبِعُوا رُسُلَ اللهِ اسْتِكْبَاراًَ عَنِ التَّصْدِيقِ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ، فَهَؤُلاَءِ لاَ تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لأَرْوَاحِهِمْ، وَلاَ يَرْفَعُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ عَمَلٌ وَلاَ دُعَاءٌ، وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَدْخُلَ الحَبْلُ الغَلِيظُ (الجَمَلُ) فِي فَتْحَةِ الإِبْرَةِ الصَّغِيرَةِ (سَمِّ الخِيَاطِ). فَكَمَا أنَّ الحَبْلَ الغَلِيظَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَمُرَّ فِي فَتْحَةِ الإِبْرَةِ الصَّغِيرَةِ، كَذَلِكَ لاَ يَدْخُلُ الكُفَّارُ الجَنَّةَ.
وَهَذَا جَزَاءٌ عَادِلٌ مِنَ اللهِ لِلْمُجْرِمِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
الجَمَلُ - الحَبْلُ الغَلِيظُ - وَقِيلَ إِنَّ المَقْصُودَ بِهِ هُنَا الجَمَلُ حَقِيقَةً.
سَمِّ الخِيَاطِ - ثُقْبِ الإِبْرَةِ.
(٤١) - وَلَهُمْ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ فُرُشٌ مِنْ تَحْتِهِمْ (مِهَادٌ)، وَلَهُمْ مِنْهَا أَغْطِيَةٌ مِنْ فَوْقِهِمْ تُغَطِّيهِمْ (غَوَاشٍ). وَبِمِثْلِ هَذَا الجَزَاءِ يَجْزِي اللهُ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ، المُضِلِّينَ لِلْنَّاسِ.
مِهَادٌ - فُرُشٌ أَوْ مُسْتَقَرٌ.
غَوَاشٍ - أَغْطِيَةٍ.
(٤٢) - وَالذِينَ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ، وَصَدَّقُوا رُسُلَ اللهِ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، بِجَوارِحِهِمْ، فَهَؤُلاَءِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخْلُدُونَ فِيهَا أَبَداً.
وَالإِيمَانُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ سَهْلانِ مَيْسُورٌ فِعْلُهُمَا لِجَمِيعِ النَّاسِ، لأنَّ اللهَ لاَ يُكَلِّفُ أَحَداً إلاَّ قَدْرَ طَاقَتِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ.
وُسْعَها - طَاقَتَها وَمَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ.
(٤٣) - وَيَنْزِعُ اللهُ مَا فِي صُدُورِ أَهْلِ الجَنَّةِ مِنْ حِقْدٍ وَضَغِينَةٍ وَحَسَدٍ، فَيُصْبِحُونَ مُتَحَابِّينَ، وَتَجْرِي الأَنْهَارُ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ فِي أَرْضِ الجَنَّةِ، وَيَنْظُرُونَ إلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فَيَقُولُونَ: الحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانَا إلَى طَرِيقِ الجَنَّةِ، وَلَوْلاَ هُدَى اللهِ لَمَا كُنَّا اهْتَدَيْنَا إِليهِ، لَقَدْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُ اللهِ هُوَ الحَقَّ. وَيُنَادُوْنَ (يُنَادِيهِم اللهُ تَعَالَى أَوْ تُنَادِيهِم المَلاَئِكَةُ الكِرَامُ) : إنَّ هذِهِ الجَنَّةَ التِي أَنْتُمْ تَحُلُّونَهَا قَدْ أَوْرَثَكُمُ اللهُ إِيَّاهَا ثَوَاباً لَكُمْ وَجَزَاءً عَلَى إِيمَانِكُمْ وَأَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ.
الغِلٌّ - الحِقْدُ وَالضَّغِينَةُ وَالعَدَاوَةُ.
(٤٤) - وَبَعْدَ أَنْ يَسْتَقِرَّ أَهْلَ الجَنَّةِ فِيهَا، وَيَحْمَدُونَ اللهَ تَعَالَى عَلَى النَّعِيمِ الذِي أَسْبَغَهُ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، يَطَّلِعُونَ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، فَيَرَوْنَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ العَذَابِ وَالنَّصَبِ، وَيَرَوْنَ قَوْماً مِمَّنْ عَرَفُوهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا، وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِ اللهِ، وَيَكْفُرُونَ بِهَا، وَيَسْخَرُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وَيُشَكِّكُونَ فِي صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ عَنْ ثَوَابِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَاعِلِي الخَيْرِ، وَعَنِ العَذَابِ الذِي يَنْتَظِرُ المُكَذِّبِينَ المُجْرِمينَ، فَيُخَاطِبُونَهُمْ قَائِلِينَ: لَقَدْ وَجَدْنَا نَحْنُ مَا وَعَدَنَا رَبُّنا مِنْ نَعِيمٍ، وَجَنَّاتٍ، حَقّاً، جَزَاءً عَلَى الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، فَهَلْ وَجَدْتُمْ أَنْتُمْ يَا أَصْحَابَ النَّارِ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ عَذَابٍ وَنَكَالٍ حَقّاً؟ فَيُجِيبُهُمْ أَهْلُ النَّارِ: أَنْ نَعَمْ، لَقَدْ وَجَدْنَا ذَلِكَ. وَبَعْدَ أَنْ يُقِروا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ، يُعْلِنُ مُعْلِنٌ: أَنْ لَعْنَةَ اللهِ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ وَالمَعَاصِي.
أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ - نَادَى مُنَادٍ، أَوْ أَعْلَنَ مُعْلِنٌ.
(٤٥) - وَيُعَرِّفُ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ فَيَقُولُ: إِنَّهُمُ الذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْ اتِّبَاعِ مَا شَرَعَ اللهُ مِنَ الهُدَى، وَمَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّاتَ، وَيَبْغُونَ أَنْ تَكُونَ سَبيلُ اللهِ مُعْوَجَّةً غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ حَتَّى لاَ يَسْلُكَهَا أَحَدٌ، وَيَكْفُرُونَ بِلِقَاءِ اللهِ فِي الآخِرَةِ، لاَ يُصَدِّقُونَ وَلاَ يُؤْمِنُونَ، وَلِذَلِكَ فَإنَّهُمْ لاَ يُبَالُونَ بِمَا يَأْتُونَ مِنْ مُنْكَرِ القَوْلِ وَالفِعْلِ، لأنَّهُمْ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَ اللهِ وَحِسَابَهُ.
يَبُغُونَهَا عِوَجاً - يَطْلُبُونَهَا ذَاتَ اعْوِجَاجٍ.
(٤٦) - وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ بَيْنَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَأَهْلِ النَّارِ حِاجَزاً (حِجَاباً) يَمْنَعُ وُصُولَ أَهْلِ النَّارِ إِلَى الجَنَّةِ، وَهُوَ السُّورُ الذِي قَالَ عَنْهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أَخْرَى ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ﴾ وَهُوَ الأَعْرَافُ.
وَيَقُولُ المُفسِّرُونَ: يَقِفُ عَلَى الأَعْرَافِ أُنَاسٌ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ مَعْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَلاَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَلا هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيهِمْ، وَلكِنَّهُمْ يَطْمَعُونَ فِي أَنْ يُدْخِلَهُمُ اللهُ الجَنَّةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ.
وَأَهْلُ الأَعْرَافِ يَعْرِفُونَ كُلاًّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الجَنَّةِ بِسِيمَاهُمُ التِي وَصَفَهُمُ اللهُ بِهَا (وَهِيَ بَيَاضُ الوَجْهِ، وَنَضْرَةُ النَّعِيمِ التِي تَعْلُو وُجُوهَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَسَوادُ الوَجْهِ وَالقَتَرَةُ التِي تَرْهَقُ وُجُوهَ أَهْلِ النَّارِ). وَيَتَوَجَّهُ أَهْلُ الأَعْرَافِ إلَى أَهْلِ الجَنَّةِ بِالسَّلاَمِ قَائِلِينَ لَهُمْ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، يَقُولُونَهَا مُهَنِّئِينَ بِالفَوْزِ بِالحِسَابِ، طَامِعِينَ فِي أَنْ يُدِخِلََهُمُ اللهُ الجَنَّةَ مَعَهُمْ.
(وَقَالَ مُفَسِّرُونَ آخَرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) إِنَّ أَهْلَ الأَعْرَافِ يُسَلِّمُونَ عَلَى أَهْلِ الجَنَّةِ بَعْدَ أَنْ يَجْتَازُوا الحِسَابَ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا الجَنَّةَ، إِذْ يَكُونُونَ طَامِعِينَ فِي دُخُولِهَا لِمَا رَأَوْهُ مِنْ يُسْرِ الحِسَابِ).
بَيْنَهُمَا حِجَابٌ - حَاجِزٌ - وَهُوَ سُورٌ بَيْنَهُمَا.
الأَعْرَافِ - أَعَالِي السُّورِ الفَاصِلِ بَيْنَ النَّارِ وَالجَنَّةِ.
بِسِيمَاهُمْ - بِعَلاَمَاتٍ مُمَيِّزَةٍ فِيهِمْ.
(٤٧) - وَكُلَّمَا اتَّجَهَتْ أَبْصَارُهُمْ إلَى جِهَةِ أَهْلِ النَّارِ تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، وَقَالُوا رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ.
(٤٨) - وَيَعْرِفُ أَهْلُ الأَعْرَافِ رُؤُوسَ الكُفْرِ، وَقَادَةَ الشِّرْكِ، وَهُمْ فِي النَّارِ، بِسِيمَاهُمْ (أَيْ بِسَوَادِ وُجُوهِهِمْ) فَيُقَرِّعُونَهُمْ قَائِلِينَ: لَمْ تَنْفَعْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، وَجَمْعُكُمُ المَالَ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْكُمُ اسْتِكْبَارُكُمْ، مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَهَا أَنْتُمْ قَدْ صِرْتُمْ إلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ العَذَابِ، وَسُوءِ المَصِيرِ.
لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ - لَمْ تُفِدْكُمْ وَلَمْ تَنْفَعْكُمْ.
(٥٠) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذِلَّةِ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ذَلِكَ المَوْقِفِ العَظِيمِ، وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الجَنَّةِ أَنْ يُعْطُوهُمْ شَيْئاً مِنْ شَرَابِهِمْ وَطَعَامِهِمْ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الجَنَّةِ: إِنَّ اللهَ حَرَّم ذَلِكَ عَلَى الكَافِرِينَ.
أَفِيضُوا عَلَينَا - صُبُّوا عَلَينا أَوْ أَعْطُونَا.
(٥١) - وَوَصَفَ أَهْلُ الجَنَّةِ هَؤُلاَءِ الكَافِرِينَ، الذِينَ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمُ المَاءَ وَالطَّعَامَ، بِأَنَّهُمْ: الذِينَ اتَّخَذُوا الدِّينَ لَهْواً وَلَعِباً، وَاغْتَرُّوا بِالدُّنيا وَزِينَتِهَا وَزُخْرُفِها، فَانْصَرَفُوا إِليها، وَتَرَكُوا مَا أَمَرَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ العَمَلِ لِلآخِرَةِ.
وَكَمَا نَسِيَ هَؤُلاَءِ دِينَهُمْ وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَجَحَدُوا بِهَا، فَإِنَّ اللهَ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الشَّيءِ المَنْسِيِّ، الذِي لاَ يَبْحَثُ عَنْهُ أَحَدٌ، وَيَنْسَاهُمْ فَلا يُجِيبُ دُعَاءَهُمْ، وَيَتْرُكُهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يُعَذَّبُونَ.
غَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيا - خَدَعَتْهُمْ بِزَخَارِفِهَا وَزِينَتِهَا.
نَنْسَاهُمْ - نَتْرُكُهُمْ فِي العَذَابِ كَالمَنْسِيِّينَ.
وَمَا كَانُوا - وَكَمَا كَانُوا.
(٥٢) - يَقُولُ تَعَالَى إِنَّه أَعْذَرَ إِلَى المُشْرِكِينَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّداً رَسُولاً، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ القُرْآنَ، وَفَصَّلَهُ تَفْصِيلاً لِيُبَيِّنَ لِلْنَّاسِ مَا يَحْتَاجُهُ المُكَلِّفُونَ مِنَ العِلْمِ وَالعَمَلِ، تَزْكِيَةً لِلْنُفُوسِ، وَتَطْهِيراً لِلْقُلُوبِ، وَجَعَلَهُ سَبَبَ سَعَادَتِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَجَعَلَهُ هُدًى وَرَحْمَةً لِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ إِيمَاناً يَبْعَثُهُ إلَى العَمَلِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ، وَالانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاهُ عَنْهُ.
وَهَؤُلاَءِ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَغَبَنُوهَا حُظُوظَهَا بِدُخُولِهِمُ النَّارَ، وَخُلُودِهِمْ فِيهَا، وَغَابَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ المَوْقِفِ العَسِيرِ (ضَلَّ عَنْهُمْ) الذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، فَلا يَشْفَعُونَ فِيهِمْ، وَلاَ يَنْصُرُونَهُمْ، وَلاَ يُنْقِذُونَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ.
تَأْوِيلُهُ - عَاقِبَةُ مَا وَعَدَ الكِتَابُ (القُرْآنُ) وَمَآلُهُ مِنَ البَعْثِ وَالحِسَابِ وَالجَزَاءِ.
يَفْتَرُونَ - يَقُولُونَ كَذِباً وَاخْتِلاَقاً عَنِ الشُّرَكَاءِ وَشَفَاعَتِهِمْ.
(٥٤) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ: السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِما وَمَا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ اسْتِواءً يَليقُ بِجَلاَلِهِ، وَأَخَذَ يُدَبِّرُ أَمْرَهُمَا، فَيُتْبعُ اللَّيْلَ النَّهَارَ، فَيَغْشَى الوُجُودَ بِالظُّلْمَةِ، وَيُتْبعُ النَّهارَ اللَّيْلَ، فَيَغْشَاهُ بِالضِّيَاءِ، يَتَتَابَعَانِ سَرِيعاً، لاَ يَتَأَخَّرُ أَحَدُهُما عَنِ الآخَرِ، وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنَّجُومُ كُلُّهَا تَسِيرُ مُسَخَّرةً، بِأَمْرِ رَبِّهَا، وَمُنْقَادَةً لِحُكْمِهِ ومَشِيئَتِهِ، وَللهِ الأَمْرُ وَالمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ، وَهُوَ رَبُّ العَالَمِينَ.
وَنَسُوقُ هُنَا مَا قَالَهُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ حَوْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ) :(نَسْلكُ فِي هَذا المَقَامِ مَذْهَبَ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَهُوَ إِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْييفٍ وَلاَ تَشْبيِهٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَالظَّاهِرُ المُتَبَادِرُ إلَى أَذْهَانِ المُشَبِّهِينَ مَنْفِيٌّ عَنِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ لا يُشْبِهُهُ شَيءٌ (وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ). وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الخُزَاعِيُّ شَيْخُ البُخَارِيِّ: (مَنْ شَبَّهَ اللهُ بِخَلْقِهِ كَفَرَ، وَمَن جَحَدَ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلاَ رَسُولهُ تَشْبِيهٌ، فَمَنْ أَثْبَتَ مَا وَرَدَتْ بِهِ الآثَارُ الصَّرِيحَةُ وَالأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى الوَجْهِ الذِي يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ، وَنَفَى عَنِ اللهِ النَّقَائِصَ فَقَدْ سَلَكَ سَبيلَ الهُدَى).
ادْعُوا رَبَّكُمْ - اسْأَلُوهُ قَضَاءَ حَاجَاتِكُمْ.
تَضَرُّعاً - مُظْهِرِينَ الضَّرَاعَةَ وَالذِّلَّةَ وَالاسْتِكَانَةَ وَالخُشُوعَ.
خُفْيَةً - سِرَاً فِي أَنْفُسِكُمْ.
(٥٦) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَنِ الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا اللهُ بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ المَنَافِعِ وَالنِّظَامِ، وَبِمَا هَدَى النَّاسَ إِلَيهِ مِنْ حُسْنِ اسْتِغْلاَلها، وَالانْتِفَاعِ بِخَيْرَاتِهَا، وَبِمَا سَخَّرَهُ لَهُمْ مِنْهَا.
وَيَشْمَلُ الإِفْسَادُ كُلَّ مَا أَفْسَدَ العُقُولَ وَالعَقَائِدَ، وَالآدَابَ الشَّخْصِيَّةَ وَالمَعَايِشَ وَالمَرَافِقَ مِنْ زِرَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ وَصِنَاعَةٍ.. ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِدُعَائِهِ خَوْفاً مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ شَدِيدِ العِقَابِ، وَطَمَعاً بِمَا عِنْدَهُ مِنْ جَزِيلِ الثَّوابِ، فَرَحْمَةُ اللهِ مُرْصَدَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ الذِي يَتَّبِعُونَ أَوَامِرَهُ وَيَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَى عَنْهُ.
رَحْمَةَ اللهِ - إِنْعَامَهُ وَإِحْسَانَهُ أَوْ ثَوَابَهُ.
(٥٧) - وَاللهُ تَعَالَى هُوَ المُدَبِّرُ لأمْرِ الخَلْقِ وَالكَوْنِ، وَهُوَ الذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ بَيْنَ يَدِيْ رَحْمَتِهِ، مِنَ السَّحَابِ الحَامِلِ لِلْمَاءِ، فَيُنْشِىءُ بِهَا السَّحَابَ الثِّقَالَ لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ المَاءِ، حَتَّى إذَا أَقَلَّتِ الرِّيحُ السَّحَابَ، وَرَفَعَتْهَا إلَى جَوِّ السَّمَاءِ، سَاقَتْها الرِّيَاحُ، بِأَمْرِ رَبِّها، إلَى أَرْضٍ مُجْدِبَةٍ لاَ نَبَاتَ فِيهَا لِتُمْطِرَ عَلَيهَا، وَتَصُبَّ مَا فِيهَا مِنَ المَاءِ، فَتُنْبِتَ الأَرْضُ، وَتَخْرُجَ فِيهَا الثَّمَراتُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. وَكَمَا يُخْرِجُ اللهُ النَّبَاتَ وَالثَّمَرَاتِ مِنَ الأَرْضِ المَوَاتِ بِالمَطَرِ وَالمَاءِ، كَذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى إِخْرَاجِ المَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَقَرِّبُوا هَذَا المَثَلَ مِنْ ذلِكَ تَتَذَكَّرُوا هذا الشَّبَهَ، فَيَزُولَ اسْتِبْعَادُكُمْ لِلْبَعْثِ وَالنُّشُورِ.
بُشْراً - مُبَشِّراتٍ بِالمَطَرِ.
بَلَدٍ مَيِّتٍ - بَلَدٍ مُجْدِبٍ، لاَ نَبَاتَ فِيهِ وَلاَ مَاءَ.
(٥٨) - وَالأَرْضُ مِنْهَا الطَّيِّبَةُ الكَرِيمَةُ، وَمِنْهَا الخَبِيثَةُ كَالسِّباخِ وَغَيْرِهَا، فَالأَرْضُ الطَّيِّبَةُ يَخْرُجُ نَبَاتُها بِسُهُولَةٍ حَسَناً، وَالأَرْضُ الخَبِيثَةُ لاَ يَخْرُجُ نَبَاتُها إلاَّ بِصُعُوبَةٍ وَعُسْرٍ (نَكِداً)، وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِ البَرِّ وَالكَافِرِ الفَاجِرِ. وَهَكَذا يَضْرِبُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ، وَيُبَيَّنُ لَهُم الآيَاتِ (يُصَرِّفُ) لَعَلَّ المُؤْمِنينَ يَشْكُرُونَ رَبَّهُمْ عَلَى مَا هَدَاهُمْ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ.
النَّكِدُ - هُوَ العَسِيرُ المُمْتَنِعُ مِنْ إِعْطَاءِ الخَيْرِ بُخْلاً، أَوْ هُوَ القَلِيلُ الذِي لاَ خَيْرَ فِيهِ.
نُصَرِّفُ الآيَاتِ - نُكَرِّرُها بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ لِيَعِيَهَا النَّاسُ.
(٥٩) - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، شَرَعَ فِي سَرْدِ قَصَصِ الأَنْبِياءِ الكِرَامِ، فَابْتَدأ بِنُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، لأنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ إلى أَهْلِ الأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ.
وَقَدْ لاقَى نُوحٌ مِنْ قَوْمِهِ عَنَاءً وَعَنتاً، فَوَجَدَ قَوْمَهُ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ وَسَمّوها بِأَسْمَاء، مِثْل وَدٍّ وَسَواع وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ... فَبَعَثَ اللهُ نُوحاً فَأَمَرَ قَوْمَهُ بِعِبَادِةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
(٦٠) - فَقَالَ جُمْهُورُ السَّادَةِ وَالكُبَرَاءِ (المَلأُ) مِنْ قَوْمٍ نُوحٍ: إِنَّنَا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ وَاضِحٍ بَيِّنٍ فِي دَعْوَتِكَ إِيَّانَا إلَى تَرْكِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ التي وَجَدْنَا آبَاءَنا يَعْبُدُونَها.
المَلأُ - السَّادَةُ وَالكُبَرَاءُ.
(٦١) - فَقَالَ لَهُمْ نُوحٌ: إِنَّنِي لَسْتُ ضَالاً، وَلَمْ أَخْرُجْ عَنِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ فِي دَعْوتي لَكُمْ إلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَإِنَّما أَنَا رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ وَرَبِّ كُلِّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ وَمَالِكِهِ.
(٦٢) - وَأَنَا أَتَوَلَّى إِبْلاَغَكُمْ مَا أَرْسَلَنِي بِهِ اللهُ إِلَيْكُمْ مِنَ الدَّعْوَةِ إلَى التَّوْحِيدِ، وَإِخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ، وَأَتَوَلَّى نُصْحَكُمْ وَتَوْجِيهَكْم إِلَى الخَيْرِ وَإِنَّنِي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أَنْتُمْ، لأَنَّنِي مُرْسَلٌ مِنْ قِبَلِهِ إِلَيْكُمْ.
أَنْصَحُ لَكُمْ - أَتَحَرَّى مَا فِيهِ صَلاَحُكُمْ قَوْلاً وَفِعْلاً.
(٦٤) - فَكَذَّبَهُ جُمْهُورُهُمْ، وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ وَخَالَفُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ، وَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ، وَلَمْ يُؤْمِنْ مَعَهُ، إلاَّ قَليلٌ مِنْهُمْ، فَأَنْجَى اللهُ نُوحاً وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ (الفُلْكِ)، وَأَغْرَقَ بِالطُّوفَانِ الذِينَ كَذَّبُوا نُوحاً بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَبَرَاهِينِهِ عَلَى وُجُودِ اللهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ، فَقَدْ كَانَ الذِينَ أَغْرَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالطَّوَفَانِ، قَوْماً عَمِينَ عَنِ الحَقِّ، لا يُبْصِرُونَهُ، وَلاَ يَهْتَدُونَ إِلَيهِ، فَنَصَرَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ.
قَوْماً عَمِينَ - عُمْيَ القُلُوبِ عَنِ الحَقِّ وَالإِيمَانِ.
(٦٥) - وَكَمَا أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى نُوحاً إلى قَوْمِهِ، كَذَلِكَ أَرْسَلَ هُوداً إلَى قَوْمِهِ عَادٍ، وَهُوَ مِنْهُمْ، يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُ لُغَتَهُمْ وَتَفْكِيرَهُمْ لِيَسْتَطِيعَ مُخَاطَبَتَهُمْ. وَكَانَ قَوْمَ عَادٍ ذَوِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وَقُوَّةٍ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ فِي الأَحْقَافِ فِي جَنُوبِّي الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، وَكَانُوا أَشَدَّ النَّاسَ تَكْذِيباً لِلْحَقِّ، اعْتِدَاداً مِنْهُمْ بِقُوَّتِهِمْ، وَشِدَّةِ بَأْسِهِمْ. فَدَعَاهُمْ هُودٌ إلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ نِقَمِهِ إِنْ أَصَرُّوا عَلَى فِعْلِ مَا يُسْخِطُ اللهَ مِنَ الشِّرْكِ وَالمَعَاصِي لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَهَا.
(٦٦) - قَالَ جُمْهُورُ السَّادَةِ مِنْ قَوْمِهِ (المَلأُ) : إِنَّنَا نَرَاكَ فِي ضَلالٍ وَفَسَادِ رَأْيٍ (فِي سَفَاهَةٍ)، إِذْ تَدْعُونَا إلَى تَرْكِ عِبَادَة الأَصْنَامِ، وَالإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَإِنَّنَا نَظُنُّ أَنَّكَ كَاذِبٌ فِي دَعْواكَ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا رَسُولاً.
سَفَاهَةٍ - خِفَّةِ عَقْلٍ وَضَلالٍ عَنِ الحَقِّ.
(٦٧) فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّنِي لَسْتُ سَفِيهاً ضَالاً عَنِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَلاَ ضَعِيفَ الرَّأْيِ، كَمَا تَزْعُمُونَ، وَإِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ إِلَيْكُمْ، وَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالحَقِّ وَالهُدَى مِنَ اللهِ الذِي خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ، فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ وَخَالِقُهُ وَمَالِكُهُ.
(٦٨) - وَمَهَمَّتِي هِيَ مَهَمَّةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ الذِينَ جَاؤُوا قَبْلِي وَهِيَ إِبْلاغُ رِسَالَةِ اللهِ إلى عِبَادِهِ، وَإِسْدَاءُ النُّصْحِ إِليهِم، وَأَنَا صَادِقٌ فِي نُصْحِي لَكُمْ، أَمينٌ فِي إِبْلاَغِكُمْ مَا أَمَرَنِي رَبِّي بِإِبْلاَغِهِ إِلَيْكُمْ.
(٦٩) - أَعَجِبْتُمْ وَكَذَّبْتُمْ أَنْ بَعَثَ اللهُ إِلَيْكُمْ رَسُولاً مِنَ البَشَرِ (مِنْكُمْ) يُوحِي إِلَيْهِ لِيَدْعُوكُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلِيُنْذِرَكُمْ وَيُخَوِّفَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، إنْ أَصْرَرْتُمْ عَلَى الكُفْرِ وَالجُحُودِ وَعِبَادَةِ الأَصْنَامِ؟ كَلاّ لاَ تَعْجَبُوا مِنْ ذَلِكَ، وَاحْمَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ لُطْفٌ مِنْهُ بِكُمْ، وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ، الذِي أَهْلَكَ اللهُ النَّاسَ بِدَعْوَتِهِ لَمَّا خَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ.
وَقَدْ أَكْرَمَكُمُ اللهُ فَزَادَ فِي أَجْسَامِكُمْ بَسْطَةً طُولاً وَقُوَّةً، فَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ هذِهِ، وَاشْكُرُوهُ عَلَيْهَا بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ وَحُسْنِ العِبَادَةِ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فِي النَّجَاةِ مِنْ نَقْمَتِهِ تَعَالَى، وَتَفُوزُونَ فِي اكْتِسَابِ مَرْضَاتِهِ.
بَسْطَة - قُوَّةً وَعِظَمَ أَجْسَامٍ.
آلاَءَ اللهِ - نِعَمَهُ وَأَفْضَالَهُ.
(٧٠) - فَتَكَبَّرُوا وَطَغَوا، وَزَادُوا فِي عِنَادِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، وَقَالُوا لِهُودَ: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَنَتَخَلَّى عَنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ التِي كَانَ يَعْبُدُها آبَاؤُنا، فَهَذا لَنْ يَكُونَ أَبَداً. وَإِذا كُنْتَ صَادِقاً بِأَنَّكَ رَسُولَ اللهِ، فَأْتِنا بِمَا حَذَّرْتَنَا مِنْهُ مِنَ العَذَابِ عَلَى تَرْكِ الإِيمَانِ بِرَبِّكَ.
(٧١) - قَالَ لَهُمْ هُودٌ: لَقَدْ حَقَّ عَلَيكُمْ، بِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ، سَخَطٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَغَضَبٌ (رِجْسٌ)، أَتُجَادِلُونَنِي فِي هذِهِ الأَصْنَامِ التِي اتَّخَذْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ آلِهَةً، وَجَعَلْتُمْ لَهَا أَسْمَاءً، وَهِيَ فِي الحَقِيقَةِ لا تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَيْسَ لَكُمْ حُجَّةٌ مِنَ اللهِ، وَلاَ دَلِيلٌ يُبَرِّرُ عِبَادَتَكُمْ لَهَا، أَوْ يُصَدِّقُ زَعْمَكُمْ بِأنَّهُ رَضِيَ بِأَنْ تَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمْ. وَمَا دُمْتُمْ قَدْ قُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ مِنْ كَلِمَةِ الكُفْرِ، فَانْتَظِرُوا عِقَابَ اللهِ وَقَضَاءَهُ. وَأَنَا مُنْتَظِرٌ مَعَكُمْ نُزُولَهُ بِكُمْ.
رِجْسٌ - عَذَابٌ، أَوْ رَيْنٌ عَلَى القُلُوبِ.
غَضَبٌ - لَعْنٌ وَطَرْدٌ أَوْ سَخَطٌ.
(٧٢) - فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُ اللهِ سَاقَ اللهُ إِلَى عَادٍ السَّحَابَ الذِي يَحْمِلُ إِلَيْهِم العَذَابَ، وَأَنْجَى رَسُولَهُ هُوداً وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَلُطْفٍ، وَدَمَّرَ الكَافِرِينَ جَمِيعاً، مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلى آخِرِهِمْ، لَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أَحَداً، لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُؤمِنِينَ بِرَبِّهِمْ الوَاحِدِ الأَحَدِ.
قَطَعْنَا دَابِرِ القَوْمِ - أَهْلَكْنَا آخَِرَهُمْ، وَمَتَى هَلَكَ الآخِرُ فَقَدْ هَلَكَ الأَوَّلُ.
(٧٣) - كَانَتْ دِيَارُ قَبِيلَةِ ثَمُودَ فِي أَرْضِ الحِجَازِ، فِي مَدَائِنِ صَالِحٍ، بَيْنَ تَبُوكَ وَالمَدِينَةِ. وَلَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِمْ صَالِحاً، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَهُوَ مِنْهُمْ (أَخَاهُمْ)، فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَهُ جَمِيعُ الرُّسُلِ لأَقْوَامِهِمْ: اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَقَدْ جِئْتُكُمْ بِبُرْهَانٍ مِنَ اللهِ عَلَى صِدْقِ قَوْلِي لَكُمْ إِنَّنِي رَسُولُ اللهِ، وَعَلَى صِحَّةِ دَعْوَتِي، فَقَدْ طَلَبْتُمْ مِنِّي بُرْهَاناً عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِي، أنْ يُخْرِجَ اللهُ لَكُمْ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ عَيَّنْتُمُوهَا لِي بِذَاتِهَا، نَاقَةً عُشَرَاءَ فَدَعَوْتُ اللهَ فَاسْتَجَابَ لِي، وَأَخْرَجَ لَكُمُ النَّاقَةَ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ كَيْفَ تَخْرُجُ، وَقَدْ أَخَذْتُ عَلَيكُمُ العُهُودَ وَالمَوَاثِيقَ لَتُؤْمِنُنَّ بِاللهِ إِنْ حَقَّقَ اللهُ عَلَى يَدَيَّ مَا سَأَلْتُمْ، فَآمِنُوا بِاللهِ كَمَا وَعَدْتُمُونِي، وَذَرُوا النَّاقَةَ تَسْرَحُ فِي أَرْضِ اللهِ، وَتَأْكُلُ مِنْ رِزْقِهِ، وَلاَ تَتَعَرَّضُوا لَهَا بِسُوءٍ فِي نَفْسِهَا وَلاَ فِي أَكْلِها، وَأَنَا أُحَذِّرُكُمْ بِأَنَّكُمْ إِذَا اعْتَدَيْتُمْ عَلَيْهَا، وَمَسَسْتُمُوهَا بِسُوءٍ، فَإِنَّ اللهَ سَيُصِيبَكُمْ بِعَذَابٍ شَدِيد الإِيلاَمِ (وَكَانَتِ النَّاقَةُ تَسْرَحُ فِي الأَرْضِ، وَتَشْرَبُ مَاءَ البِئْرِ يَوْماً وَتَتْركُهُ لقومِ ثَمُودَ يَوْماً).
آيَةً - مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ.
(٧٤) - وَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ اسْتَخْلَفَكُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ عَادٍ، وَمَكَّنَكُمْ فِي الأَرْضِ، تَبْنُونَ القُصُورَ فِي سُهُولِهَا، وَتَنْحِتُونَ البُيُوتَ فِي جِبَالِها، فَاشْكُرُوا اللهَ عَلَى أَنْعُمِهِ وَأَفْضَالِهِ وَذلِكَ بِتَوْحِيدِهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالعِبَادَةِ، وَلا تَتَصَرَّفُوا فِي الأَرْضِ تَصَرُّفَ كُفْرانٍ وَجُحُودٍ بِفِعْلٍ لاَ يُرْضِي اللهَ.
العَيْثُ وَالعُثِيُّ - هُوَ الفَسَادُ.
بَوَّأَكُمْ - أَنْزَلَكُمْ وَأَسْكَنَكُمْ.
(٧٥) - وَقَالَ رُؤُوسُ الكُفْرِ، مُتَهَكِّمِينَ سَاخِرِينَ، لِلْضُعَفَاءِ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَهُمُ الذِينَ آمَنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى صَالِحٍ: أَتَظُنُّونَ أَنْ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ حَقِيقَةً؟ فَرَدَّ المُؤْمِنُونَ المُسْتَضْعَفُونَ قَائِلِينَ: إِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ صَالِحٌ مِنْ رَبِّهِمْ.
(٧٦) - فَرَدَّ المُسْتَكْبِرُونَ عَلَى المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ قَائِلِينَ: إِنَّهُمْ كَافِرُونَ جَاحِدُونَ بِالذَي آمَنَ بِهِ المُسْتَضْعَفُونَ، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ صَالِحٌ مِنْ رَبِّهِ.
(٧٧) - فَقَامَ تِسْعَةُ رَهْطٍ (أَفْرادٍ) مِنْ كُبَرَاءِ ثَمُودَ، بِاسْتِمَالَةِ قَوْمِهِمْ لِمُوافَقَتِهِمْ عَلَى نَحْرِ النَّاقَةِ (عَقْرِهَا)، وَالتَّخَلُّصِ مِنْهَا، فَعَقَرُوهَا اسْتِخْفَافاً بِصَالِحٍ، وَنَاقَتَهِ، وَتَحْذِيرِهِ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَعِقَابِهِ، وَتَمَرَّدُوا وَتَجَبَّرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ الذِي أَبْلَغَهُمْ إِيَّاهُ صَالِحُ (عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)، وَقَالُوا لِصَالِحٍ: إِنْ كُنْتَ صَادِقاً بِأَنَّكَ مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّكَ، وَأَنَّكَ تُنْذِرُنَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَأْتِنَا بِهَذَا العَذَابِ.
العُتُوِّ - التَّمَرُّدُ وَالاسْتِكْبَارُ.
العَقْرُ - القَتْلُ وَالذَّبْحُ.
(٧٨) - فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: لَقَدْ حَقَّ عَلَيْكُمْ غَضَبُ اللهِ، فَتَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَأْتِيكُمْ بَعْدَهَا عَذَابُ اللهِ، فَأَرَادَ المُجْرِمُونَ قَتْلَ صَالِحٍ، وَقَالُوا: إنْ كَاَن صَادِقاً نَكُنْ قَدْ عَجَّلْنَا بِهِ قَبْلَنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِباً نَكُنْ قَدْ أَلْحَقْنَاهُ بِنَاقَتِهِ، وَتَآمَرُوا عَلَى أَنْ يَقْتُلُوهُ وَيَقُولُوا لأَهْلِهِ: إِنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا مَصْرَعَهُ، وَيَحْلِفُوا عَلَى ذَلِكَ، لِدَفْعِ المَسْؤُولِيَّةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَلَمَّا تَوَجَّهُوا إِلَيهِ لَيْلاً أَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً أَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعاً، وَذَلِكَ قَبْلَ حُلُولِ العَذَابِ بِقَوْمِهِمْ.
وَفِي اليَوْمِ الرَّابِعِ اسْتَعَدُّوا لِلْهَلاَكِ، وَجَلَسُوا فِي بُيُوتِهِمْ لا يَدْرُونَ مَا يَكُونُ هذا العَذَابُ، وَلا مَتَى يَأْتِيهِمْ. فَلَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَرَجْفَةٌ فِي الأَرْضِ فَفَاضَتْ أَرْوَاحُهُمْ، وَزَهَقَتْ نُفُوسُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَصْبَحُوا صَرْعَى فِي دِيَارِهِمْ لاَ أَرْواحَ فِيهِم، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، لاَ صَغِيرٌ وَلاَ كَبِيرٌ. وَنَجَى اللهُ صَالِحاً وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ.
الرَّجْفَةُ - الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ التِي تَهْتَزُّ بِهَا الأَرْضُ وَهِيَ الصَّيْحَةُ أَيْضاً.
جَاثِمِينَ - مَوْتَى هَامِدِينَ، لاَ حَرَاكَ بِهِمْ.
(٧٩) - فَقَالَ صَالِحُ، بَعْدَ أَنْ هَلَكَ قَوْمُهُ، تَقْريعاً لَهُمْ وَتَوْبِيخاً: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَلَمْ تَسْتَمِعُوا إِليَّ، وَلَمْ تَتَّبِعُونِي، لأنَّكُمْ لا تُحِبُّونَ مَنْ يَنْصَحُكُمْ، وَيَدْعُوكُم إلى الحَقِّ وَالخَيْرِ.
(وَقِيلَ: إِنَّ صَالِحاً قَالَ لِقَوْمِهِ هذَا القَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمُ العَذَابُ).
يَتَطَهَّرُونَ - يَدَّعُونَ الطَّهَارَةَ مِمَّا نَفْعَلُ.
الغَابِرِينَ - البَاقِينَ فِي القَرْيَةِ، وَالهَالِكِينَ مَعَ مَنْ هَلَكَ.
غَبرَ - بَقِيَ أَوْ هَلَكَ.
وَجَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى تَفْسيرٌ لِهَذَا المَطَرِ فَقَالَ تَعَالَى ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ* مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ.﴾ وَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: " مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الفَاعِلَ وَالمَفْعُولَ بِهِ " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتَّرْمَذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ).
(وَيَشْمُلُ التَّحْرِيمُ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي الأَدْبَارِ).
(٨٥) - مَدْيَنَ كَلِمَةٌ تُطْلَقُ عََلَى القَوْمِ وَعَلَى القَرْيَةِ، وَمَدْيَنُ قَرْيَةٌ تَقَعُ فِي جَنُوبِيِّ الأَرْدُنِّ قُرْبَ العَقَبَةِ، وَهُمْ أَيْضاً أَصْحَابُ الأَيْكَةِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ، وَيَرْتَكِبُونَ المَعَاصِي، وَأَظْهَرَهَا بَخْسُ المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ، وَالتَّعَرُّضِ لِعَابِرِي السَّبِيلِ، لِسَلْبِهِمْ وَالاعْتِدَاءِ عَلَيهِمْ.
وَلَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِمْ شُعَيباً عَلَيْهِ السَّلاًمُ، لِيَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَتَوْحِيدِهِ، وَتَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ وَعِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَالإِقْلاَعِ عَنْ تَطْفِيفِ المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ، وَعَدَمِ التَّعَرُّضِ لِلسَّابِلَةِ بِالإِخَافَةِ وَالسَّلْبِ.. فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ: يَا قَوْم اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلهٌ غَيْرُهُ، وَقَدْ أَقَامَ لَكُمُ الحُجَجَ وَالبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ إِلَيْكُمْ، ثُمَّ نَصَحَهُمْ بِمُعَامَلَةِ النَّاسِ بِالعَدْلِ، وَبِإِيفَاءِ النَّاسِ، حُقُوقَهُمْ فِي الكَيْلِ وَالمِيزَانِ، وَبِأَلاَّ يَخُونُوا النَّاسَ، وَلاَ يُخْسِرُوا المِيزَانَ، وَلاَ يَبْخَسُوا النَّاسَ حُقُوقَهُمْ (أَشْيَاءَهُمْ)، وَأَنْ يَتْرُكُوا إِخَافَةَ السَّابِلَةِ.
وَقَالَ لَهُمْ إنَّ اتِّبَاعَ أَمْرِ اللهِ فِيهِ الخَيْرُ لَهُمْ، إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِوحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَبِمَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُ.
البَخْسُ - إِنْقَاصُ الحَقِّ.
(٨٦) - وَنَهَاهُمْ شُعَيبٌ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ (الصِّرَاطِ)، وَعَنْ تَوَعُّدِ النَّاسِ بِالقَتْلِ وَالإِيذَاءِ إَذَا لَمْ يُعْطُوهُمْ مَا مَعَهُمْ مِنْ مَالٍ وَمَتَاعٍ، كَمَا نَهَاهُمْ عَنِ التَّعَدِّي عَلَى المُؤْمِنِينَ الذِينَ اتَّبَعُوا شُعَيباً، وَعَنِ التَّصَدِّي لِلنَّاسِ الذِينَ كَانُوا يَأْتُونَ إلى شُعَيبٍ لِلاسْتِمَاعِ مِنْهُ إلى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ، لِصَرْفِهِمْ عَنْهُ بِالتَّخْوِيفِ وَالإِيذَاءِ، وَبِالقَوْلِ: عَنْهُ كَذَّابٌ يُرِيدُ فِتْنَةَ النَّاسِ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبلاً مِنْ قِلَّةٍ فَكَثَّرَهُمُ اللهُ، وَذِلَّةٍ فَأَعَزَّهُمُ اللهُ، وَذلِكَ لِيَتَّعِظُوا وَيَرْتَدِعُوا عَمَّا يَقُومُونَ بِهِ مِنْ فَسَادٍ. ثُمَّ لَفَتَ نَظَرَهُمْ إلَى النِّهَايَةِ التِي صَارَ إِلَيْهَا المُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ مِنْ خِزْيٍّ وَدَمَارٍ.
صِرَاطٍ - طَريقٍ.
تَبْغُونَها عِوَجاً - تَطْلُبُونَها مُعْوَجَّةً أَيْ ذَاتَ اعْوِجَاجٍ.
(٨٧) - وَيُتَابِعُ شُعَيْبٌ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، نُصْحَ قَوْمِهِ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَآمَنَ فَرِيقٌ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، وَدَعَوْتُكُمْ إِلَيهِ، وَكَفَرَ فَرِيقٌ بِمَا أَرْسَلَنِي بِهِ إِلَيْكُمْ رَبِّي، فَلا تَتَعَجَّلُوا الحُكْمَ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَانْتَظِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَيَفْصِلَ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَيْرُ مَنْ يُحْكُمُ، وَأَعْدَلُ مَنْ يَقْضِي، وَلا شَكَّ فِي أَنَّهُ سَيَجْعَلَ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، وَسَيَجْعَلَ الدَّمَارَ عَلَى الكَافِرِينَ، لأنَّهُ سُنَّتَهُ تَعَالَى قَدْ جَرَتْ بِذَلِكَ، فَلْيَعْتَبِرِ الكَافِرُونَ بِعَاقِبَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، مِنَ الكُفَّارِ المُكَذِّبِينَ.
(٨٨) - تَوَعَّدَ المُسْتَكْبِرُونَ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ نَبِيَّهُمْ شُعَيْباً، وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ قَرْيَتِهِمْ إذَا لَمْ يَقْبَلُوا الرُّجُوعَ عَنْ دِينِهِمِ الحَقِّ إلى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَمِلَّةِ الشِّرِكِ، فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ: أَتَأْمُرُونَنَا بِأَنْ نَعُودَ إلَى مِلَّتِكُمْ، وَتُهَدِّدُونَنَا بِالنَّفْيِ مِنْ أَوْطَانِنَا، وَالإِخْراجِ مِنْ دِيَارِنَا، إِنْ لَمْ نَفْعَلْ مَا تَطْلُبُونَهُ مِنَّا؟ أَتُرْيدُونَ إِجْبَارَنا عَلَى الخُرُوجِ مِنْ دِيَارِنَا، وَعَلَى العَوْدَةِ إلَى دِينِكُمْ حَتَّى وَلَوُ كُنَّا كَارِهِينَ لِكِلا الأَمْرَيْنِ؟
(٨٩) - وَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ: إِنَّهُ وَالمُؤْمِنِينَ مَعَهُ إذَا عَادُوا إلَى مِلَّةِ الكُفْرِ، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ قَدِ افْتَرُوا عَلَى اللهِ أَعْظَمَ الافْتِرَاءِ، لأنَّهُمْ يَكُونُونَ قَدْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءً وَأَنْدَاداً وَلا يَلِيقُ بِالمُؤْمِنِ، وَلاَ يَخْلُقُ بِهِ (وَمَا يَكُونُ لَنَا)، أَنْ يَعُودَ إلَى مِلَّةِ الكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْجَاهُ اللهُ مِنْهَا، إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ لَهُ ذلِكَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَمْراً فَعَلَهُ، وَلاَ رَادَّ لِحُكْمِهِ، وَلاَ مُعْتَرِضَ عَلَى قَضَائِهِ، وَقَدْ أَحَاطَ اللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْماً، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لاَ يَرْضَى الكُفْرَ لِعِبَادِهِ.
ثُمَّ قَالَ شُعَيْبٌ لِقَوْمِهِ: إنَّهُ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ هُوَ وَالمُؤْمِنُونَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ. ثُمَّ دَعَا شُعَيْبٌ رَبَّهُ قَائِلاً: رَبَّنا احْكُمْ وَاقْضِ (افْتَحْ) بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مَعَهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ العَدْلُ الذِي لاَ يَجُوزُ فِي حُكْمِهِ أَبَداً.
افْتَحْ بَيْنَنا - اقْضِ بَيْنَنَا وَاحْكُمْ.
الفِتَاحَةُ - القَضَاءُ.
(٩٠) - فَقَالَ الكُبَرَاءُ الكَافِرُونَ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ، لِمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيباً فِيمَا يَقُولُ، وَفِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ، وَأَقْرَرْتُمْ بِنُبُوَّتِهِ، وَآمَنْتُمْ بِمَا آمَنَ بِهِ، وَكَفَرْتُمْ بَأَصْنَامِكُمْ.. وَبِمَا كَانَ عَلَيهِ آبَاؤُكُمْ مِنْ دِينٍ وَعَادَاتٍ، كُنْتُمْ خَاسِرِينَ.
(٩١) - وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: " وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ " فَاهْتَزَّتْ بِهِمُ الأَرْضَ بِفِعْلِ زَلْزَلَةٍ شَدِيدَةْ، فَأَصْبَحُوا هَالِكِينَ فِي دِيَارِهِمْ لاَ حَرَاكَ بِهِمْ، وَهُمْ مُكِبُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
جَاثِمِينَ - هَالِكِينَ وَهُمْ مُكِبُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
الرَّجْفَةُ - الزَّلْزَلَةُ التِي تَهْتَزُّ بِهَا الأَرْضَ وَهِيَ الصَّيْحَةُ أَيْضاً.
(٩٢) - ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى العَاقِبَةَ التِي صَارَ إِلَيْهَا قَوْمُ شُعَيبٍ، فَقَدْ هَلَكَ الذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُم أَحَداً وَكَأنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِي دِيَارِهِمْ، وَالذِينَ كَذَّبُوا شُعَيباً كَانُوا هُمُ الذِينَ خَسِرُوا الدُّنْيا وَالآخِرَةَ، أَمَّا الذِينَ اتَّبُعُوهُ فَكَانُوا هُمُ الفَائِزُونَ المُفْلِحِينَ.
لَمْ يَغْنَوْا فِيها - لَمء يُقِيمُوا نَاعِمِينَ فِي دِيَارِهِمْ.
(٩٣) - وَبَعْدَ أَنْ نَزَلَ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ وَدَمَارُهُ تَوَلَّى شُعَيْبٌ عَنْهُمْ، وَانْصَرَفَ عَنْ دِيَارِهِمْ، وَخَاطَبَهُمْ مُقَرِّعاً، فَقَالَ لَهُمْ: لَقَدْ نَصَحْتُ لَكُمْ يَا قَوْمِي، وَبَلَّغْتُكُمْ مَا أَرْسَلَنِي بِهِ رَبِّي إِلَيكُمْ، مِنْ دَعْوَةٍ إلَى عِبَادَةِ اللهِ، فَكَفَرْتُمْ وَاسْتَكْبَرْتُمْ، فَدَمَّرَكُمُ اللهُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّنِي لاَ يُمْكِنُ أَنْ آسَفَ وَأَحْزَنَ عَلَى قَوْمٍ جَحَدُوا بِوحْدَانِيَّةِ اللهِ، وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ.
أسَى - أحْزَنُ وَآسَفُ.
البَأْسَاءُ - الفَقْرُ وَالبُؤْسُ.
الضَّرَّاءِ - السُّقْمِ وَالمَرَضِ وَالأَلَمِ.
يَضَّرَّعُونَ - يَتَذَلَّلُونَ وَيَخْضَعُونَ.
(٩٥) - فَإِذَا اسْتَمَرُّوا فِي كُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ يَمْتَحِنُهُمْ رَبُّهُمْ بِالعَافِيَةِ وَالرَّخَاءِ، فَيُبَدِّلُ حَالَهُمْ مِنْ بُؤْسٍ وَضِيقٍ وَمَرَضٍ إلَى رَخَاءٍ وَصِحَّةٍ لِيَشْكُرُوا اللهَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذا كَثُرَتْ أَوْلاَدُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ (عَفَوْا)، وَاسْتَمْرَؤُوا العَيْشَ الهَنِيءَ، وَنَسُوا نِعْمَةَ اللهِ، وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا لَقَدْ مَسَّتْنَا السَّرَّاءَ وَالضَّرَّاءُ مِثْلَمَا سَبَقَ لَها أنْ أَصَابَتْ آبَاءَنا فِي سَالِفِ الأَيَّامِ، وَهَذا هُوَ حَالُ الدُّنيا، فَلا الضَّرَّاءُ عِقَابٌ عَلَى ذَنْبٍ يُرْتَكَبُ، وَلا السَّرَّاءُ جَزَاءٌ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ يُكْتَسَبُ.... فَإِذَا صَرَفُوا هَمَّهُمْ إلَى هَذَا وَأَمْثَالِهِ أَخَذَهُمُ اللهُ بِالعَذَابِ فَجْأَةً، وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ، لأنَّهُمْ جَهِلُوا سُنَنَ اللهِ فِي خَلْقِهِ، فَلاَ هُمُ اهْتَدُوا إِلَيها بِعُقُولِهِمْ، وَلاَ هُمْ صَدَّقُوا الرُّسُلَ فِيمَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ.
عَفَوْا - كَثُرُوا وَنَمَوْا عَدَداً وَمَالاً.
بَغْتَةً - فَجْأَةً.
(٩٦) - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ القُرَى آمَنُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ النَّبِيُّونَ، وَصَدَّقُوهُمْ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الذِي جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، وَاتَّقَوْا بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ، لأَمْطَرَتِ السَّمَاءُ عَلَيْهِمْ بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَلَفَاضَتِ الأَرْضُ بِالخَيْرَاتِ، وَلكِنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، فَعَاقَبَهُمُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ، بِإِهْلاَكِهِمْ عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ المَآثِمِ وَالمَحَارِمِ.
(وَقِيلَ: إنَّ المَقْصُودَ بِأَهْلِ القُرَى هُنَا أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ القُرَى، وَلَكِنَّ النَّصَّ أَشْمَلُ وَهُوَ يُشِيرُ إلَى قُرَى الأَقْوَامِ السَّالِفِةِ التِي أَهْلَكَهَا اللهُ تَعَالَى فِيمَا سَلَفَ مِنَ الأَزْمَانِ).
لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ - لَيَسَّرْنَا عَلَيْهِمْ، أَوْ تَابَعْنَا عَلَيْهِمْ.
(٩٧) - أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى الكَافِرَةِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ اللهِ وَنَكَالُهُ لَيْلاً (بَيَاتاً)، فَيُبَيِّتَهُمْ فِي دُورِهِمْ، وَهُمْ نَائِمُونَ مُطْمَئِنُّونَ لاَ يَتَوَقَّعُونَ بَلاءً؟
يَأْتِيهِمْ بَأْسُنا - يَنْزِلُ بِهِمْ عَذَابُنَا.
بَيَاتاً - وَهُمْ بَائِتُونَ فِي دُورِهِمْ لَيْلاً.
(٩٩) - أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرى الكَافِرَةِ مَكْرَ اللهِ بِهِمْ، وَبَأْسَهْ وَنَقْمَتَهُ وَاسْتِدْرَاجَهُ إِيَّاهُمْ وَقُدْرَتَهُ عَلَى أَخْذِهِمْ، وَتَدْمِيرِهِمْ فِي حَالِ مَنْ سَهْوِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ؟ وَلا يَأْمَنُ مَكَرَ اللهِ إلاَّ القَوْمَ الضَّالُونَ الذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لِعَدَمِ إِدْرَاكِهِمْ مَا فِيهِ صَلاَحُهُمْ وَخَيْرُهُمْ.
(١٠٠) - أَوَلَمْ يَتَبَيِّنْ لِلَّذِينَ يَسْتَخْلِفُهُمُ اللهُ فِي الأَرْضِ - بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَهْلَكَ آخَرِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، سَارُوا سِيَرَتَهُمْ، وَعَمِلُوا عَمَلَهُمْ، وَعَتَوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ - أَنْ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا فَعَلَهُ بِمَنْ قَبْلَهُمْ، عِقَاباً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ وَعْيَ مَوْعِظَةٍ، وَلا فَهْمَ نَصِيحَةٍ.
طَبَعَ - خَتَمَ.
أَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ - أَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ - أَوْ أَلَمْ يُبَيِّنِ اللهُ لَهُمْ.
(١٠١) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ﷺ: إِنَّهُ قَصَّ عَلَيهِ أَخبَارَ القُرى البَائِدَةِ التِي كَذَّبَ أَهْلُها الرُّسُلَ حِينَمَا جَاؤُوهُمْ بِالبَيِّنَاتِ، وَالحُجَجَ الدَّالَةِ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِمْ، وَلكِنَّ هَؤُلاءِ الأَقْوَامَ لَمْ يُؤْمِنُوا حِينَمَا جَاءَهُمُ الرُّسُلُ بِمَا سَأَلُوهُ مِنَ البَرَاهِينِ وَالحُجَجِ، لأنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ المُكَذِّبِينَ عِنَاداً وَاسْتِكْبَاراً أَوْ تَقْلِيداً، أَنْ يَرْجِعُوا إلَى الحَقِّ، وَيُؤْمِنُوا بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ، بَعْدَ أَنْ سَبَقَ لَهُمُ التَّكْذِيبُ بِهَا، حِينَمَا جَاءَتْهُمُ الدَّعْوَةُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهَكَذَا يَطْبَعُ اللهُ وَيَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرينَ فَلا تَتَفَتَّحُ لِلإِيمَانِ.
(١٠٢) - وَلَمْ يَثْبُتَ أَكْثَرُ هؤُلاَءِ الأَقْوَامِ عَلَى عَهْدِ الفِطْرَةِ، الذِي أَخَذَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ، وَهُمْ فِي أَصْلابِ آبَائِهِمْ، بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَعْبُدُوهُ، فَخَالَفُوا هَذا العَهْدَ، وَتَرَكُوهُ وَرَاءَهُمْ ظِهْرِيّاً، وَعَبَدُوا مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى بِلاَ دَليلٍ وَلاَ حُجَّةٍ، وَلا بُرْهَانٍ، فَكَانُوا مِنَ الفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، وَعَنْ عَهْدِ الفِطْرَةِ.
مِنْ عَهْدٍ - مِنْ وَفَاءٍ بِعَهْدٍ، أَوْ حِفَاظٍ عَلَى عَهْدٍ.
(١٠٣) - ثُمَّ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ الرُّسُلِ، الذِينَ أَتَى عَلَى ذِكْرِهِمْ، مُوسَى بِحُجَجِ رَبِّهِ وَبَرْاهِينِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ (آيَاتِهِ)، إلَى فِرْعَونَ مَلِكِ مِصْرَ، وَكُبراءِ قَوْمِهِ (مَلَئِهِ)، فَكَفَرُوا بِهَا، ظُلْماً مِنْهُمْ وَعِنَاداً (أَوْ فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَقَوْمَهُمْ بِالكُفْرِ بِهَا جُحُوداً وَاسْتِكْبَاراً)، وَكَذَّبُوا رَسُولَ رَبِّهِمْ، فَانْظُر يَا مُحْمَّدُ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ المُفْسِدِينَ: لَقَدْ أَغْرَقَهُمُ اللهُ جَمِيعاً - فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ - فِي البَحْرِ، وَمُوسَى وَقَوْمُهُ يَنْظُرُونَ إلَى ذَلِكَ بِأُمِّ أَعْيُنِهِمْ.
فَظَلَمُوا بِهَا - فَكَفَرُوا بِهَا.
(١٠٤) - وَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَونَ: لَقَدْ أَرْسَلَنِي رَبِّي وَرَبُّ العَالَمِينَ إِلَيْكَ، وَهُوَ الذِي خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فِي هَذا الوُجُودِ.
(١٠٥) - وَجَدِيرٌ بِي، وَحَقٌّ عَلَيَّ (حَقِيقٌ عَلَيَّ)، أَنْ لاَ أَفْتَرِي عَلَى اللهِ كَذِباً، وَأَنْ لاَ أَقُولُ إلاَّ الحَقَّ وَالصِدْقَ، لِمَا أَعْلَمُهُ مِنْ جَلالِ شَأْنِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَلَقَدْ جِئْتُكُمْ بِحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ، مِنْ رَبِّكُمْ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، فَاسْمَحْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَحَرِّرْهُمْ مِنْ رِبْقَةِ العُبُودِيَّةِ التِي فَرَضْتَهَا عَلَيْهِمْ.
حَقِيقٌ عَلي - خَلِيقٌ بِي.
(١٠٦) - وَقَالَ فِرْعَونَ لِمُوسَى: لَسْتُ أُصَدِّقُكَ فِيمَا تَقُول، وَلَسْتُ أُعْطِيكَ مَا تَطْلُبُ، فَإِنْ كَانَ مَعَكَ بُرْهَانٌ وَحُجَّةٌ وَمُعْجِزَةٌ فَأَظْهِرْهَا لِنَرَاهَا، إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ وَتَدَّعِي، مِنْ أَنَّ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ أَرْسَلَكَ إلَيْنَا.
مُبْينٌ - ظَاهِرٌ أَمْرُهُ لاَ يُشَكُّ فِيهِ.
(١٠٨) - وَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ إِبْطِهِ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ تَتَلأْلأُ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ وَلاَ بَرَصٍ.
نَزَعَ يَدَهُ - أَخْرَجَها مِنْ تَحَتِ إِبْطِهِ.
(١٠٩) - فَقَالَ جُمْهُورُ الكُبَرَاءِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَونَ نِفَاقاً وَرِيَاءً، مُرَدِّدِينَ قَوْلَ فِرْعَونَ: إِنَّ هذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، أَيْ ذُو مَعْرِفَةٍ بِالسِّحْرِ عَالِيَةٍ (كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى).
المَلأُ - الكُبَرَاءُ وَالسَّادَةُ وَأَهْلُ الرَّأْيِ.
(١١١) - وَبَعدْ َأَنْ قَلَّبُوا أَوْجُهَ الرَّأْيِ، قَالُوا لِفِرْعَونَ: أَخِّرِ البَتَّ فِي أَمْرِهِ، وَاسْتَبْقِهِ، وَأَرْسِلْ فِي مَدَائِنِ مَمْلَكَتِكَ مَنْ يَجْمَعُ لَكَ السَّحَرَةَ. وَكَانَ السَّحَرَةُ كَثيرينَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ.
أَرْجِهْ - أَخِّرْ أَمْرَ عُقُوبَتِهِ وَلاَ تُعَجِّلْ.
حَاشِرِينَ - رِجَالاَ يَجْمَعُونَ لَكَ السَّحَرَةَ.
(١١٢) - فَيَجْمَعُوا لَكَ كُلَّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ وَاسِعٌ بِالسِّحْرِ.
(١١٣) - وَسَأَلَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ حِيْنَمَا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَائِلِينَ: هَلْ لَنَا مِنْ أَجْرٍ عَلَى مَا نَقُومُ بِهِ إِذَا تَغَلَّبْنَا عَلَى مُوسَى، وَأَبْطَلْنَا مَفْعُولَ سِحْرِهِ؟
(١١٥) - وَلَمَّا اسْتَوْثَقَ السَّحَرَةُ مِنْ وَعْدِ فِرْعَونَ العَطَاءَ الجَزِيلَ، قَالُوا لِمُوسَى: إِمَّا أَنْ تُلْقِي بِسِحْرِكَ أَمَامَ الجَمِيعِ، وَإِمَّا أَنْ نَبْدَأَ نَحْنُ بِالإِلْقَاءِ قَبْلَكَ.
(١١٦) - قَالَ لَهُمْ مُوسَى: بَلْ أَلْقُوا أَنْتُمْ أَوْلاً، فَأَلْقُوا مَا مَعَهُمْ مِنْ حِبَالٍ وَعِصِيٍّ. وَلَمَّا أَلْقُوا سِحْرَهُمْ، سَحَرُوا بِهِ أَعْيُنَ النَّاسِ، فَتَخَيَّلُوا أَنَّ مَا يَرَوْنَهُ حَقِيقَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الوَاقِعِ إلاَّ مُجَرَّدَ صَنْعَةٍ وَخَيَالٍ. وَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ الحِبَالَ التِي أَلْقَاهَا السَّحَرَةُ، وَالعِصِيَّ، حَيَّاتٌ وَأَفَاعٍ تَتَحَرَّكُ فَخَافُوا، وَكَانَ ذلِكَ مِنْ ضَخَامَةِ مَا فَعَلَهُ السَّحَرَةُ.
سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ - خَيَّلُوا لَهُمْ مَا يُخَالِفُ الحَقِيقَةَ.
اسْتَرْهَبُوهُمْ - خَوَّفُوهُمْ تَخْوِيفاً شَدِيداً.
الإِفْكِ - الكَذِبَ. مَا يَأْفِكُونَ - مَا يَكْذِبُونَ وَيُمَوِّهُونَ.
تَلْقَفُ - تَبْتَلِعُ وَتَلْتَقِمُ أَوْ تَتَنَاوَلُ بِسُرْعَةٍ.
وَقَعَ الحَقُّ - ظَهَرَ أَمْرُ مُوسَى وَتَبَيَّنَ.
(١١٩) - وَأَدْرَكَ السَّحَرَةُ أَنَّهُمْ غُلِبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَلاَ قُدْرَةٍ لَهُمْ عَلَى مُقَاوَمَتِهِ، وَشَعَرُوا بِصَغَارِهِمْ أَمَامَ عَظَمَةِ رَسُولِ اللهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
(وَقِيلَ بَلِ المَقْصُودُ بِالذِينَ غُلِبُوا، هُمْ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ، الذِينَ أَدْرَكُوا أَنَّ مُوسَى غَلَبَهُمْ أَمَامَ الجَمْعِ المُحْتَشِدِ، فِي ذَلِكَ اليَوْمِ المَشْهُودِ. وَالمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، فَحِينَما أَتَى فِرْعَوْنُ بِالسَّحَرَةِ، إِنَّمَا جَاءَ بِهِمْ لِيُقَارِعُوا مُوسَى، وَهُمْ إِنَّمَا يُمَثِّلُونَ فِرْعَوْنَ فِي هذِهِ المَعْرَكَةِ، فَانْكِسَارُهُمْ هُوَ انْكِسَارٌ لِفِرْعَونَ وَمَلَئِهِ).
(١٢٠) - وَخَرَّ السَّحَرَةُ عَلَى وُجُوهِهِمْ سَاجِدِينَ للهِ إِيمَاناً بِهِ، وَاعْتِذَاراً عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ سِحْرٍ أَرَادُوا بِهِ مُعَارَضَةَ آيَاتِ اللهِ.
(١٢١) - وَقَالُوا: آمَنَّا بِرَبِ العَالَمِينَ، لأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا أنَّ الذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى شَيءٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، إِذْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ سِحْراً لَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَغَلَّبَ بِهِ عَلَيْهِمْ.
(١٢٢) - وَهُوَ تَعَالَى رَبُّ مُوسَى وَهَارُونَ الذِي نَصَرَهُمَا عَلَيْنَا.
(١٢٣) - وَأَدْرَكَ فِرْعَوْنَ الأَثْرَ العَظِيمَ الذِي تَرَكَتْهُ فِي نُفُوسِ الشَّعْبِ، هَزِيمَةُ جَمِيعِ السَّحَرَةِ، الذِي حَشَدَهُمْ، أَمَامَ عَصَا مُوسَى، ثُمَّ مَا تَبِعَ ذَلِكَ مِنْ إِيمَانِ السَّحَرَةِ بِاللهِ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، وَإِعْلاَنِهِمْ إِيمَانَهُمْ، أَمَامَ فِرْعَونَ وَجُمُوعِهِ، بِالسُّجُودِ للهِ، وَهذَا يَعْنِي كُفْرَهُمْ بِأُلُوهِيَّةِ فِرْعَونَ وَعِبَادَتَهِ، فَأَدْرَكَ سُوءَ عَاقِبَةِ جَمِيعِ ذلِكَ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ إِزَالَةَ هذَا الأَثْرِ مِنْ نُفُوسِ الشَّعْبِ، وَإِلْهَاءِ الشَّعْبِ بِشَيءٍ آخَرَ، فَأَخَذَ يَتَوَعَّدُ السَّحَرَةَ لإِيمَانِهِمْ بِرَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ وَبِنُبُوَّتِهِمَا، قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ هُوَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَاتَّهَمَهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَوَاطِئِينَ فِي ذَلِكَ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ، عَلَى أَنْ يَغْلِبَهُمْ مُوسَى، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ عَنْ سَبْقِ اتِّفَاقٍ وَتَشَاوُرٍ مَعَهُما، وَذلِكَ لِيُتِيحُوا لَهُمَا إِخْرَاجَ قَوْمِهِمَا مِنْ مِصْرَ، وَقَالَ لَهُمْ إِنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ مَا سَيَصْنَعُهُ بِهِمْ.
المَكْرُ - هُوَ تَصَرُّفُ الإِنْسَانِ لِيَصْرِفَ آخَرَ عَنْ قَصْدِهِ بِالحِيلَةِ.
(١٢٤) - ثُمَّ شَرَحَ لَهُمْ مَا سَوْفَ يَصْنَعُهُ بِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ سَيَقْطَعُ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، بِصُورَةٍ مُتَخَالِفَةٍ، فَيَقْطَعُ اليَدَ اليُمْنَى وَالرِّجَْل اليُسْرَى، أَوْ يَقْطَعُ اليَدَ اليُسْرَى وَالرِّجْلَ اليُمْنَى، ثُمَّ أَنَّهُ سَيَصْلِبُهُمْ جَمِيعاً عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ حَتَّى يَمُوتُوا، لِيَكُونُوا عِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ.
(١٢٦) - وَنَحْنُ لَمْ نَرْتَكِبْ إِثْماً أَوْ جُرْماً تَنْقِمُ بِهِ عَلَينا، وَالشَّيءُ الوَحِيدُ الذِي تُؤاخِذُنَا عَليهِ هُوَ أَنَّنَا آمَنَّا بِرَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا آيَاتُهُ. ثُمَّ اتَّجَهَ السَّحَرَةُ بِالدُّعَاءِ إِلى اللهِ تَعَالَى قَائِلِينَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى دِينِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الصَّابِرِينَ عَلَى الأَذَى الذِي سَيُلْحِقُهُ فِرْعَوْنُ بِنا، وَتَوَفَّنَا وَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ دِينَكَ وَنَبِسَّكَ، مُسْتَسْلِمُونَ لِقَضَائِكَ.
مَا تَنْقِمُ مِنَّا - مَا تَكْرَهُ مِنّا - وَمَا تَعْتُبُ عَلَيْنا بِهِ.
أَفْرِغْ عَلَينا صَبْراً - أَفِضْ أَوْ صُبَّ عَلَينا صَبْراً مِنْ عِنْدِكَ.
(١٢٧) - وَسَاَلَ جُمْهُورُ السَّادَةِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، عَمَّا يَنْوِي فِرْعَوْنُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِمُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمِهِمَا، وَهَلْ سَيَتْرُكُهْم يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ، وَيُضِلُّونَ الرَّعِيَّةَ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَإِلى تَرْكِ عِبَادَةِ فِرْعَوْنَ وَآلِهَتِهِ؟ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ قَائِلاً: إِنَّهُ سَيَقْتُلُ الذُّكُورَ مِنْ أَبْنَاءِ بَنِي إِسْرِائِيلَ، وَيَسْتَبْقِي النِّسَاءَ عَلَى قَيدِ الحَيَاةِ، وَإِنَّهُ سَيُخْضِعُهُمْ جَمِيعاً لِلْقَهْرِ وَالإِذْلالِ، فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ إِفْسَاداً فِي الأَرْضِ.
نَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ - نَسْتَبْقِي نِسَاءَهُمْ عَلَى قَيْدِ الحَيَاةِ لِلْخِدْمَةِ.
(١٢٨) - وَلَمَّا سَمِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ هذا التَّهْدِيدَ خَافُوا مِنْ بَطْشِ فِرْعَوْنَ، فَطَمْأَنَهُمْ مُوسَى، وَقَالَ لَهُمْ: اسْتَعِينُوا بِاللهِ عَلَى رَفْعِ ذلِكَ الوَعِيدِ عَنْكُمْ، وَاصْبِرُوا وَلاَ تَحْزَنُوا فَإِنَّ الأَرْضَ هِيَ للهِ، الذِي بِيَدِهِ مَلَكَوْتُ كُلِّ شَيءٍ، يُورِثُهَأ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَالعَاقِبَةُ الحُسْنَى لِمَنْ يَتَّقُونَ اللهَ، وَيُرَاعُونَ سُنَنَهُ فِي أَسْبَابِ إِرْثِ الأَرْضِ: اتحَادَ الكَلِمَةِ، وَالاعْتِصَامَ بِالحَقِّ، وَإِقَامَةَ العَدْلِ، وَالصَّبْرَ عَلَى الشَّدَائِدِ، وَالاسْتِعَانَةَ بِاللهِ عَلَى المَكَارِهِ.
(١٣٠) - لَقَدْ ابْتَلَى اللهُ قَوْمَ فِرْعَوْنَ (آلَ فِرْعَوْنَ) بِسِنِينٍ عِجَافٍ، قَلَّتْ فِيهَا الزُّرُوعُ فَجَاعُوا، وَنَقَصَتْ فِيهَا الثَّمَراتُ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النَّعِيمَ وَالخَيْرَاتِ، فَيَعْرِفُوا أَنَّ اللهَ ابْتَلاَهُمْ بِذَلِكَ الجُوعِ، وَبِنَقْصِ الثَّمَرَاتِ لِيُؤْمِنُوا بِاللهِ، وَلِيُدْرِكُوا عَجْزَ فِرْعَوْنَ وَآلِهتِهِ أَمَامَ عَظَمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَبَالِغَ قُدْرَتِهِ، وَليَكُفُّواعَنْ ظُلْمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَسْتَجِيبُوا لِدَعْوَةِ مُوْسَى، لأنَّ المَصَائِبَ تُرَقِّقُ القُلُوبَ القَاسِيَةَ.
بِالسِّنِينَ - بِالقَحْطِ وَالجَدْبِ.
(١٣١) - فَإذَا جَاءَهُمْ الخِصْبُ وَالرِّزْقُ الوَفِيرُ (الحَسَنَةُ) قَالُوا: إنَّنَا نَسْتَحِقُّ ذلِكَ لِمَا لَنَا مِنَ الفَضْلِ وَالامْتِيَازِ عَلَى النَّاسِ، وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ سَنَةُ جَدْبٍ وَقَحْطٍ تَشَاءَمُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ (تَطَيَّرُوا)، وَقَالُوا: هذا بِسَبَبِهِمْ، وَبِسَبَبِ مَا جَاؤُوا بِهِ.
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: إِنَّ عِلْمَ شُؤْمِهِمْ عِنْدَ اللهِ، وَإِنَّ مَا يَتَشَاءَمُونَ مِنْهُ وَيَتَطَيَّرُونَ بِهِ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَقَدْ نَزَلَ بِهِمْ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِم القَبِيحَةِ، وَلَيسَ مِنْ عِنْدِ أَحدٍ مِنَ المَخْلُوقَاتِ، وَلاَ بِسَبَبِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ حِكْمَةَ تَصَرُّفِ الخَالِقِ فِي هَذا الكَوْنِ، وَلاَ أَسْبَابَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ.
يَطَّيَّرُوا - يَتَشَاءَمُوا.
طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ - شُؤْمُهُمْ وَعِقَابُهُمُ المَوْعُودُ في الآخِرَةِ.
(١٣٢) - وَقَالَ هَؤُلاَءِ لِمُوسَى: إِنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ مَهَمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ آيَاتٍ وَحِجَجٍ وَبَرَاهِينَ، يُدَلِّلُ بِهَا عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَفِي ظَنِّهِمْ أَنَّ مَا يَأْتِيهِمْ بِهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ.
(١٣٣) - فَعَاقَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى جَرَائِمِهِمْ بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ الفَيَضَانَاتِ النَّاجِمَةَ عَنِ الأَمْطَارِ الغَزِيرَةِ (الطُّوفَانَ)، وَأَرْسَلَ القُمَّلَ (وَهُوَ السُّوسُ الذِي يَأْكُلُ الحُبُوبَ)، وَابْتَلاَهُمْ بِالضَّفَادِعِ التِي أََخَذَتْ تَمْلأُ بُيُوتَهُمْ وَتُزْعِجُهُمْ، ثُمَّ ابْتَلاَهُمْ بِالدَّمِ، فَخَالَطَ طَعَامَهُمْ وَشَرَابَهُمْ (وَقَِيلَ إِنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ النَّزِيفَ الدَّمُوِيَّ الذِي يَنْجُمُ عَنْ أَمْرَاضٍ كَثِيرَةٍ ابْتُلُوا بِهَا).
وَكَانَتْ تِلْكَ كُلُّهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ عَلَى صِدْقِ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، إِذْ كَانَ تَوَعَّدَهُمْ بِوُقُوعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَقَبْلَ وُقُوعِها، لِتَكُونَ دَلاَلَةً عَلَى صِدْقِهِ لاَ تَحْتَمِلُ تَأْويلاً، فَاسْتَكْبَرُوا عَنِ الإِيمَانِ بِهَا لِعُتُّوِّهِمْ وَرُسُوخِهِمْ فِي الإِجْرَامِ، وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ صِدْقَ رِسَالَتِهِ، وَصِحَّةَ قَوْلِهِ.
الطُّوفَانُ - المَاءُ الكَثِيرُ.
(١٣٤) -وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ كَانَ يَنْزِلُ بِهِمْ مَا يُوْذِرُهُمْ بِهِ مُوسَى مِنَ العَذَابِ، كَانُوا يَأْتُونَ إِلَيهِ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَدْعُوا اللهَ رَبَّهُ لِيُنْقِذَهُمْ مِنَّا نَزَلَ بِهِمْ، وَأنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ ذلِكَ البَلاءَ، وَيَتَعَهَّدُونَ لَهُ بِأَنْ يُؤْمِنُوا لهُ، وَبِأَنْ يَسْمَحُوا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالخُرُوجِ مَعَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. وَكَانَ مُوسَى يَدْعُو اللهَ رَبَّهُ يَسْأَلُهُ كَشْفَ البَلاءِ فَيَكْشِفُهُ، فَلاَ يَلْبَثُونَ أَنْ يَعُودُوا إِلَى كُفْرِهِمْ وَعِنادِهِمْ، وَيُصِرُّونَ عَلَى عَدَمِ السَّماحِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ، فَيَعُودُ اللهُ تَعَالَى إِلَى ابتلائِهِمْ بِبَلاءٍ آخَرَ يُرْهِقُهُمْ، فَيَعُودُونَ إِلَى رَجَاءِ مُوسَى.
(١٣٥) - فَإِذَا كَشَفَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمُ البَلاَءِ بِدُعَاءِ مُوسَى، عَادُوا إلى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، وَنَكَثُوا بِوَعْدِهِمْ لَهُ.
الرِّجْزَ - العَذَابَ
(١٣٦) - بَعْدَ أَنِ ابْتَلاَهُمُ اللهُ بِالآيَاتِ الوَاحِدَةِ بَعْدَ الأُخْرَى، وَبَعْدَ أَنْ نَكَثُوا بِوُعُودِهِمْ المَرَّةَ تِلْوَ المَرَّةِ، انْتَقَمَ اللهُ مِنْهُمْ بِأَنْ أَغْرَقَهُمْ فِي البَحْرِ (اليَمِّ) الذِي فَرَقَهُ مُوسَى بِضَرْبَةٍ مِنْ عَصَاهُ، فَتَجَاوَزَهُ هُوَ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ إلى الطَّرْفِ الآخَرِ مِنْهُ، ثُمَّ وَرَدَهُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَمِيعُهُم دَاخِلَهُ، أَطْبَقَ عَلَيْهِم المَوْجُ فَغَرِقُوا جَمِيعاً. وَقَدْ فَعَلَ اللهُ بِهِمْ ذَلِكَ لأنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَتَغَافَلُوا عَنْها.
(١٣٧) - فَأَوْرَثَ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (وَهُمْ الذِينَ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ، يَتَحَكَّمُ فِيهِمْ فِرْعَوْنُ بِجَوْرِهِ وَطُغْيَانِهِ) مَشَارِقَ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ وَمَغارِبِهَا، وَهِيَ فِلَسْطِينُ، التِي بَارَكَ اللهُ فِيهَا بِالخَصْبِ وَالخَيْرِ الكَثِيرِ. وَهَكَذا نَفَذَتْ كَلِمَة اللهِ الحُسْنَى تَامةً، وَجَازَاهُمْ عَلَى صَبْرِهِمْ، وَدَمَّرَ المَبَانِي، وَخَرَّبَ المَزَارِعَ التِي كَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَدْ أَقَامُوهَا، وَاسْتَصْلَحُوها وَعَرَشُوهَا.
(١٣٨) - وَبَعْدَ أَنْ جَاوَزَ مُوسَى بِقَوْمِهِ البَحْرَ، بِعَوْنِ اللهِ وَتَأَيِيدِهِ مَرُّوا أَثْنَاءَ سَيْرِهِمْ بِقَوْمٍ يَعْبُدُونَ أَصْنَاماً (وَقِيلَ إِنَّها كَانَتْ عَلَى صُورَةِ البَقَرِ)، فَرَاقَتْ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ لِلْجَهَلَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالُوا لِمُوسَى: اصْنَعْ لَنَا آلهةً مِثْلَ آلِهَتِهِمْ. فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّهُمْ قَوْمٌ يَجْهَلُونَ عَظَمَةَ اللهِ وَجَلاَلَهُ، وَمَا يَجِب لِذَاتِهِ الكَرِيمَةِ مِنَ التَّنْزِيهِ عَنِ الشَّرِيكَ وَعَنِ المُمَاثِلِ.
(١٣٩) - وَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ هَؤُلاَءِ الذِينَ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ مَقْضِيٌّ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ بِالتَّبَابِ بِمَا سَيَظْهَرُ مِنْ التّوحِيدِ الحَقِّ فِي هذِهِ الدَّيَارِ، وَزَائِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ (مُتَبَّرٌ).
(١٤٠) - قَالَ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ الله أَكْرَمَكُمْ وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ، وَفَضَّلَكُمْ عَلَى العَالَمِينَ، وَأَرَاكُمُ المُعْجِزَاتِ الكَثِيرَةَ، فَكَيْفَ تُرِيدُونَنِي أَنْ أَبْحَثَ لَكُمْ عَنْ إِلهٍ غَيْرِهِ؟ وَهُوَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ؟ إِنَّ هذا لا يُمكِنُ أَنْ يَكُونَ أَبَداً.
(١٤١) - وَاذْكُرُوا، يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ أَنْجَاكُمُ اللهُ تَعَالَى، - بِإِرْسَالِ مُوسَى إِلَيْكُمْ، وَبِمَا أَيَّدَهُ رَبُّهُ بِهِ مْنَ الآيَاتِ - مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الذِينَ كَانُوا يُرْهِقُونَكُمْ بِالعَذَابِ، وَسُوءِ المُعَامَلَةِ، فَيَقْتُلُونَ الذُّكُورَ مِنْ أَبْنَائِكُمْ، وَيَسْتَبْقُونَ الإِنَاثَ زِيَادَةً فِي التَّنْكِيلِ وَالإِذْلاَلِ، وَذلِكَ بلاءٌ عَطِيمٌ، ابتَلاَكُمْ بِهِ اللهُ.
(١٤٢) - يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ، إِذْ كَلَّمَ مُوسَى، وَنَزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ، وَفِيهَا أَحْكَامُهُمْ، وَتَفَاصِيلُ شَرْعِهِمْ، فَذَكَرَ أَنَّهُ وَاعدَ مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً فَصَامَهَا وَطَوَاهَا، فَلَمَّا تَمَّ المِيقَاتُ، أَمَرَهُ اللهُ بِأَنْ يُكْمِلَ الصِّيَامَ بِزِيَادَةِ عَشْرِ لَيَالٍ أُخَرَ فَصَامَهَا. وَلَمَّا أَرَادَ مُوسَى الذَّهَابَ إلى مِيقَاتِ رَبِّهِ، اسْتَخْلَفَ أَخَاهُ هَارُونَ مَكَانَهُ لِيَتَوَلَّى رِئَاسَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالإِصْلاَحِ وَعَملِ الخَيْرِ، وَبِعَدَمِ اتِّبَاعِ طَرِيقِ المُفْسِدِينَ.
(١٤٣) - فَلَمّا جَاءَ مُوسَى لِلْمَوعِدِ (المِيقَاتِ) الذِي وَقَّتَهُ اللهُ لَهُ لِلْكَلاَمِ مَعَهُ، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُ مُوسَى أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ فَضِيلَتَا الكَلامِ، وَرُؤْيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ رَبِّ مَكِنِّي مِنْ رُؤْيَتِكَ. فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ: إِنَّ ذلِكَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ، وَانْظُرْ إلى الجَبَلِ، فَسَأَتَجَلَّى لَهُ وَأَطْهَرُ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ، وَلَمْ يَنْدَكَّ وَيَتَهَدَّمْ، فَيُمْكِنُكَ أَنْ تَرانِي. فَلَمَّا تَجَلَّى اللهُ تَعَالَى لِلْجَبَلِ سَوّاهُ بِالأَرْضِ وَأَصْبَحَ تُراباً _جَعَلَهُ دَكّاً)، وَوَقَعَ مُوسَى مَغْشِياً عَليهِ مِنْ هَوْلِ مَا رَأى، فَلَمَّا أَفَاقَ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، وَأَعْلَنَ تَوْبَتَهُ مِمَّا كَانَ مِنْهُ مِنْ سُؤالٍ، وَسَبّحَ بِحَمْدِ رَبِّهِ وَنَزَّهَهُ عَمَّا لاَ يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَوّلُ المُؤْمِنينَ، فِي زَمَانِهِ، بِاللهِ وَجَلاَلِهِ وَعَظَمَتِهِ.
(١٤٤) - فَخَاطَبَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى، عَلَيهِ السَّلاَمِ، وَقَالَ لَهُ: إنّي اخْتَرْتُكَ وَاصْطَفَيْتُكَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ زَمَانِكَ بِأَنْ كَلَّمْتُكَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَلَمْ أُوحِ إِليكَ وَحْياً بِواسِطَةِ مَلَكٍ، وَبِأَنْ جَعَلْتُكَ مُرْسلاً، فَتَمَسَّكْ بِالتَّوراةِ التِي آتَيْتُكَ إِيّاهَا، وَاعْمَلَ بِمَا جَاءَ فِيها مِنَ الأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ، وَاشْكُرْ نِعْمَتِي، عَلَيكَ وَعَلَى قَوْمِكَ، بِإِقَامَةِ التَّوراةِ وَالأَحْكَامِ، بِقُوّةٍ وَعَزْمٍ، وَبِالعَمَلِ بِهَا.
(١٤٥) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَعْطَى مُوسَى أَلْوَاحاً كَتَبَ فِيهَا أَنْوَاعُ الهِدَايَةِ وَالمَواعِظِ، وَأَحْكَاماً مُفَصَّلةً تُبَيِّنُ الحَلالَ وَالحَرَامَ (وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الأَلْوَاحَ كَانَتْ تَشْتَمِلُ عَلَى التَّوْرَاةِ) وَأَمَرَهُ اللهُ بِأَنْ يَأْخُذَ بِهَا بِعَزْمٍ عَلَى الطَّاعَةِ، وَأَنْ يَأْمُرَ قَوْمَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِ مَا فِيهَا: كَالإِخْلاَصِ فِي العِبَادَةِ، وَبِالعَفْوِ بَدَلَ القِصَاصِ. أمَّا الفَاسِقُونَ الذِينَ يُخَالِفُونَ أَمْرَ اللهِ، وَيَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ، فَإِنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ إلَى الهَلاَكِ، وَالدَّمَارِ، وَسَيَرَى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي أَسْفَارِهِمْ، دِيَارَ الأُمَمِ الفَاسِقَةِ السَّالِفَةِ، وَمَا صَارَتْ إِلَيهِ مِنْ خَرابٍ، لِيَعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ غَيْرَهُمْ.
(١٤٦) - سَأَصْرِفُ عَنِ الهِدَايَةِ قُلُوبَ الذِينَ يَتَكَبَّرُونَ عَنْ طَاعَتِي، وَيَتَكَبَّرُونَ عَلَى النَّاسِ بِغَيرِ الحَقِّ، وَإِذا رَأَوْا آيَاتِ اللهِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، وَإِذَا رَأَوا طَرِيقَ الخَيْرِ تَنَكَّبُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاَ، وَإِذَا رَأَوْ سَبِيلَ الضَّلاَلِ اتَّبَعُوهُ، وَقَدْ جَازَاهُمُ اللهُ تَعَالَى هَذا الجَزَاءَ لأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَاغَفَلُوا عَنْهَا، فَأَضَلَُّهُمُ اللهُ، وَلَمْ يَهْدِهِمْ. فَكَمَا اسْتَكْبَرُوا بِغَيرِ الحَقِّ فَإِنَّ اللهَ عَاقَبَهُمْ بِالإِذْلاَلِ وَبِالخَتْمِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَبِإلْقَاءِ الغِشَاوَةِ عَلَى أَعْيُنِهِمْ حَتَّى لاَ يَجِدَ الحَقُّ مَنْفَذاً لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا.
(١٤٧) - وَالذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَكُتُبِهِ، المُنَزَّلَةِ بِالحَقِّ وَالهُدَى، عَلَى رُسُلِهِ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، وَلَمْ يَهْتَدُوا، وَكَذَّبُوا بِمَا يَكُونُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ: مِنْ ثَوَابٍ عَلَى الخَيْرِ، وَعِقَابٍ عَلَى الشَّرِّ.. فَإِنَّ أَعْمَالَهُمْ تَهْلَكُ وَتَتَلاَشَى وَتَذْهَبُ سُدًى (تَحْبَطُ)، لأَنَّهُمْ عَمِلُوا لِغَيْرِ اللهِ، وَأَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي غَيْرِ مَا يُرْضِي اللهَ، فَتَصِيرُ أَعْمَالُهُمْ وَبَالاً عَلَيْهِمْ، وَلاَ يُجْزَوْنَ إلاَّ عَلَى الأَعْمَالِ التِي قَامُوا بِهَا مِنَ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ بِأَنْ جَعَلَ الجَزَاءَ فِي الآخِرَةِ أَثَراً لِلْعَمَلِ فِي الدُّنْيا، وَلاَ يَظْلِمُ اللهُ تَعَالَى أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ أَبَداً.
(١٤٨) - وَبَعْدَ أَنْ تَوَجَّهَ مُوسَى لِمِيقَاتِ رَبِّهِ، فَتَنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ سَامِريٌّ، خَرَجَ مَعَهُمْ مِنْ مِصْرَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ قَوْمُهُ يَعْبُدُونَ البَقَرَ، فَزَيَّنَ السَّامِرِيُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عِبَادَةَ العِجْلِ، فَصَنَعَ لَهُمْ تِمْثَالاً عَلَى صُورَةِ عِجْلٍ مِنَ الحُلِيِّ التِي أَخْرَجُوهَا مَعَهُمْ مِنْ مِصْرَ (وَهِيَ حُلِيٌّ كَانُوا اسْتَعَارُوهَا مِنَ القِبْطِ وَهَرَبُوا بِهَا)، وَكَانَ هذَا التِّمْثَالُ إِذَا هَبّتِ الرِّيحُ دَخَلَتْ فِي جَوْفِهِ وَصَدَرَ عَنْ مُرُورِهَا صَوْتٌ كَخُوارِ البَقَرِ، فَافْتَتَنَ بَنُوا إِسْرَائِيلَ بِهذا العِجْلِ، وَعَكَفُوا عَلَى عِبَادَتِهِ وَالطَّوافِ بِهِ.
وَيُوَبِّخُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى اتِّخَاذِهِمُ العِجْلَ رَبّاً، وَيَسْتَسْخِفُ تَصَرُّفَاتِهِمْ هذِهِ، لأَنَّهُمْ اتَّخَذُوا إِلهاً لَهُمْ عِجْلاً لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يُرِشِدُهُمْ إلى جَنَّةٍ، وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً، وَتَرَكُوا عِبَادَةِ اللهِ، خَالِقِ السَّماواتِ والأَرضِ، الذي أَنْجَاهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَقَدْ فَعَلُوا ذلِكَ وَهُمْ ظَالِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ.
(١٤٩) - ثُمَّ نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ)، وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ ضَلُّوا عن الهُدَى، فَقَالُوا مُنِيبِينَ إِلى اللهِ: إِنَّهُمْ إِذا لَمْ يَرْحَمْهُمْ رَبُّهُمْ، وَيَغْفِرْ لَهُمْ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ ظُلْمٍ، بِاتِّخَاذِهِم العِجْلَ رَبّاً، ليَكُونُنَّ مِنَ الهَالِكِينَ.
(١٥٠) - أَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ عَلَيهِ السَّلامُ، بِمَا فَعَلَهُ قَوْمُهُ مِنْ عِبَادَتِهِم العِجْلَ بَعْدَ ذَهَابِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ غَضْبَانَ حَزيناً، وَقَالَ لَهُمْ بِئْسَ مَا فَعَلْتُمُوهُ فِي غَيْبَتِي بَعْدَ ذَهَابِي عَنْكُمْ إلى مُنَاجَاةِ رَبِّي، وَقَدْ كُنْتُ عَلَّمْتُكُمُ التَّوْحِيدَ، وَكَفَفْتُكُمْ عَنِ الشِّرْكِ، وَكَانَ مِنْ وَاجِبِكُمْ أَنْ تَقْتَفُوا أَثَرِي، وَتَسِيرُوا بِسيرَتي، فَفَعَلْتُمْ غَيْرَ ذلِكَ، وَاتَّخَذْتُمْ صَنَماً، وَعَبَدَهُ بَعْضُكُمْ، وَلَمْ يَرْدَعْكُمُ الآخَرُونَ عَنْ ذلِكَ. فَهَلْ اسْتَعْجَلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ، وَهُوَ انْتِظَارُ عَوْدَتِي وَأَنْتُمْ حَافِظُونَ لِعَهْدِي وَمَا وَصَّيْتُكُمْ بِهِ؟ فَبَنَيْتُمُ الأَمْرَ عَلَى أَنَّ المِيعَادَ قَد بَلَغَ آخِرَهُ وَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكُمْ، فَحَدَّثتكُمْ أَنْفُسُكُمْ بِأَنَّنِي مِتُّ، فَغَيَّرْتُمْ كَمَا غَيَّرَتِ الأُمَمُ بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ؟
(وَيُرْوَى أَنَّ السَّامِرِيَّ قَالَ لَهُمْ: هذا إلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسَى، إِنَّ مُوسَى مَاتَ وَلَنْ يَرْجِعَ).
فَأَلْقَى مُوسَى الأَلْوَاحَ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هارُونَ يَجرُّهُ إِليهِ، مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَهَاوَنَ فِي نَهْيِهِمْ عَنِ اتِّخَاذِ العِجْلِ، فَقَالَ لَهُ هَارُونُ: يَا أَخِي يَا ابْنَ أُمِّي، لاَ تُعَنِّفْنِي، وَلاَ تَشُدَّ لِحيَتِي وَرَأْسِي - كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرى -، فَإِنَّ القَوْمَ قَدِ اسْتَضْعَفُونِي، وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي لَمَّا نَهَيْتُهُمْ، فَلاَ تَصُبَّ نِقْمَتَكَ عَلَيَّ فَتُشْمِتَ بِيَ الأَعْدَاءَ، وَلاَ تَعَامِلْنِي مُعَامَلَةَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ الذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ إِلهاً.
(١٥١) - فَلَمَّا تَحَقَّقَ مُوسَى مِنْ بَرَاءَةِ هارُونَ، وَأَنَّهُ قَامَ بِوَاجِبِهِ كَامِلاً نَحْوَ قَوْمِهِ، دَعَا رَبَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا فَرَطَ مِنْهُ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، فِيهما غِلْظَةٌ وَجَفَاءٌ، بِحَقِّ أَخيهِ، وَأَنْ يَغْفِرَ لأَخِيهِ مَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَصَّرَ فِيهِ مِنْ نَهيِ القَوْمِ عَنْ فِعْلِ مَا فَعَلُوهُ، مِنْ عِبَادَةِ العِجْلِ، وَأَنْ يُدْخِلهُمَا فِي رَحْمَتِهِ التِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ، وَأَنْ يَغْمُرَهُما بِجُودِهِ وَفَضْلِهِ، فَهُوَ تَعَالَى أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ جَمِيعاً بِعِبَادِهِ.
(١٥٢) - إِنَّ الذِينَ اسْتَمَرُوا عَلَى عِبَادَةِ العِجْلِ، كَالسَّامِريِّ وَأَشْيَاعِهِ، سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ عَظِيمٌ مِنْ رَبِّهِمْ في الدَّارِ الآخِرَةِ، وَمَهَانَةٌ شَدِيدَةٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا، وَمِثْلُ ذلِكَ الجَزَاءِ الشَّدِيدِ يَجْزِي بِهِ اللهُ كُلَّ مَنِ اخْتَلَقَ الكَذِبَ عَلَيْهِ وَعَبَدَ غَيْرَهُ.
افْتَرَى - اخْتَلَقَ الكَذِبَ.
(١٥٣) - وَالَّذِينَ يَفْعَلُونَ فِعْلاً سَيِّئاً، ثُمَّ يَتُوبُونَ بَعْدَ ذلِكَ وَيَسْتَغْفِرُونَ رَبَّهُمْ، وَيُخْلِصُونَ لًَهُ العِبَادَةَ وَالإيمَانَ، فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَهُمْ ذلِكَ الفِعْلَ السَّيِّئَ، لأَنَّهُ غُفُورٌ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ.
(١٥٥) - أَمَرَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى، عَلَيهِ السَّلاَمُ، بِأَنْ يَأْتِيَهُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَعْتَذِرُونَ إِليهِ عَنْ عِبَادَةِ العِجْلِ، وَوَاعَدَهُمْ مَوْعِداً. فَاخْتَارَ مُوسَى سَبْعِينَ رَجُلاً مِمَّنْ لَمْ يَعْبُدُوا العِجْلَ، وَذَهَبَ مَعَهُمْ. فَلَمَّا أَتَوُا المَكَانَ المَوْعُودَ، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ عِيَاناً وَجَهْرَةً، فَأَنْتَ كَلَّمَتُهُ فَاجْعَلْنَا نَرَاهُ. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا، كَمَا جَاءَ فِي آيةِ أُخْرَى، فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَدْعُو اللهَ تَعَالى وَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إِلى المِيقَاتِ وَأَهْلَكْتَنِي مَعَهُمْ، لِيَرَى ذلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَلاَ يَتَّهِمُونِي بِقَتْلِهِمْ، فَلاَ تُهْلِكُنَا يَا رَبِّ بِمَا فَعَلَهُ الجُهَّالُ مِنَّا، فَمَا مِحْنَةُ عِبَادَةِ العِجْلِ إِلاَّ ابْتِلاءٌ مِنْكَ وَفِتْنَةٌ أَضْلَلْتَ بِهَا مَنْ شِئْتَ إِضْلاَلَهُ مِمَّنْ سَلَكُوا سَبِيلَ الغوَايةِ، وَهَدَيْتَ بِهَا مَنْ شِئْتَ هِدَايَتَهُ، وَلاَ هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، فَاغْفِرْ لَنَا وَلاَ تُؤَاخِذْنَا بِذُنُوبِنَا، وَارْحَمْنَا لِكَيلاَ نَقَعَ فِي مِثْلِ ذلِكَ فِي المُسْتَقْبَلِ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ الغَافِرِينَ.
(١٥٦) - وَأَثْبِتْ لَنَا، بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ ﴿واكتب لَنَا﴾ حَيَاةً طَيِّبَةً فِي هذِهِ الدُّنيا، مِنْ عَافِيةٍ وَبَسْطَةٍ في الرِّزْقِ، وَتَوْفِيقٍ لِطَاعَةِ، وَمَثُوبَةٍ حَسَنَةٍ فِي الآخِرَةِ بِدُخُولِ الجَنَّةِ، وَنَيْلِ رِضْوَانِكَ، إِنَّنَا تُبْنَا إِلَيْكَ ﴿هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ مِمَّا فَرَطَ مِنْ سُفَهَائِنَا مِنْ عِبَادَةِ العِجْلِ، وَمِنْ تَقْصِيرِ العُقَلاءِ مِنّا فِي نَهْيِهِمْ وَالإِنْكَارِ عَلَيهِمْ.
وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى دُعَاءِ مُوسَى قَائِلاً: لَقَدْ أَوْجَبْتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابِي خَاصّاً أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ مِنَ الكُفَّارِ وَالعُصَاةِ، الذِينَ لَمْ يَتُوبُوا، أَمَّا رَحْمَتِي فَقَدْ وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ، وَسَأُثْبِتُ رَحْمَتِي بِمَشِيئَتِي لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكُفْرَ وَالمَعَاصِيَ، وَيُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَيُؤْتُونَ الصَّدَقَاتِ التِي تَتَزَكَّى بِهَا نُفُوسُهُمْ، وَلِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَيُصَدِّقُونَ بِجَمِيعِ آيَاتِي الدَّالَّةِ عَلَى الوحْدَانِيَّةِ، وَيُصَدِّقُونَ رُسُلِي، وَمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ.
(١٥٧) - وَيُتَابِعُ اللهُ تَعَالَى وَصْفَ الذِينَ يَشْمَلُهُمْ بِرَحْمَتِهِ الوَاسِعَةِ فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ الذِينَ يَتَّبِعُونَ مُحَمَّداً النَّبيِّ الأُمِّيَّ، الذِي لاَ يَكْتُبُ وَلاَ يَقْرَأُ، وَقَدْ جَاءَ وَصْفُهُ وَالبِشَارَةُ بِهِ فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ، وَهُوَ يَأْمُرُهُمْ بِفِعْلِ الخَيْرَاتِ، وَبِالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَيَضَعُ عَنْهُمُ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ، كَاشْتِرَاطِ قَتْلِ النَّفْسِ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ، وَالقِصَاصِ فِي القَتْلِ العَمْدِ أَوِ الخَطَإِ، مِنْ غَيْرَ شَرْعٍ لِلدِّيَةِ، وَقَطْعِ الأَعْضَاءِ الخَاطِئَةِ، وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ، وَتَحْرِيمِ السَّبْتِ... فَقَدْ جَاءَ مُحَمَّدٌ بِمَا هُوَ يُسْرٌ وِسَمَاحَةٌ.
[وَقَالَ رَسُولُ اللهُ ﷺ يُوصِي أَمِيرِينِ أَرْسَلَهُمَا فِي بَعْثَينِ إِلى اليَمَنِ: " بَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا "].
وَوَسَّعَ اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ أُمُورَهَا، وَسَهَّلَهَا لَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " فَالذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ النَّبِيِّ الأُميِّ، حِينَ بُعِثَ، مِنْ قَومِ مُوسَى وَعِيسَى، وَمِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَعَزَّرُوهُ بِأَنْ مَنَعُوهُ وَحَمَوْهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُعَادِيهِ، مَعَ التَّعْظِيمِ وَالإِجْلاَلِ، وَنَصَرُوهُ بِاللِّسَانِ وَاليَدِ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الأَعْظَمَ الذِي أُنْزِلَ مَعَ رِسَالَتِهِ، وَهُوَ القُرآنُ.. فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ، الفَائِزُونَ بالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ.
(١٥٨) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ للنَّاسِ جَمِيعاً: إِنِّي رَسُولُ اللهِ تَعَالَى إِلَى جَمِيعِ البَشَرِ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى هَُو الذِي أَرْسَلَنِي، وَهُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَالِكُهُمَا، وَهُوَ مُدَبِّرُهُمَا وَمُصَرِّفُهُما حَسْبَ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، فَهُوَ المَعْبُودُ وَحْدَهُ لاَ إِلهَ إلاَّ هُوَ، وَهُوَ الذِي يَخْلُقُ الكَائِنَاتِ، وَهُوَ الذِي يَقْضِي بِفَنَائِهَا. فَآمِنُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ جَمِيعاً بِاللهِ الذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الذِي أَرْسَلَهُ إلى النَّاسِ كَافَّةً، وَهَذا الرَّسُولُ يُؤْمِنُ بِتَوْحِيدِ اللهِ، وَيُؤْمِنُ بِكَلِمَاتِهِ التِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ.
وَاتَّبِعُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ طَرِيقَ الرَّسُولِ الأُمِّيِّ، وَاقْتَفُوا أَثَرَهُ، فِي كُلِّ مَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُكُمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
(١٦٠) - وَجَعَلَ اللهُ تَعَالَى بَنِي إسْرَائِيلَ اثْنَتِي عَشْرَةَ جَمَاعَةً، إذْ جَعَلَ نَسْلَ كُلِّ وَاحِدِ مِنْ أبْنَاءِ يَعْقُوبَ الاثْنَي عَشَرَ أُمَّةً وَجَمَاعَةً. وَحِينَما عَطِشَ بَنُوا إِسْرَائِيل فِي صَحراءِ سِينَاءَ، اسْتَسْقَى لَهُمْ مُوسَى، فَأوْحَى اللهُ إليهِ: أنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ حَجَراً مِنْ أحْجَارِ الصَّحْراءِ، فَضَرَبَهُ فَانْبَجَسَتِ المِيَاهُ مِنْهُ، فِي اثْنَتَي عَشْرَةَ عَيْناً، لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنٌ يَشْرَبُ مِنْهَا، مَنْعاً لِلْخِصَامِ والتَّنَافُسِ وَالتَّزَاحُمِ عَلَى المَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَسَخَّرَ اللهُ لَهُمْ الغَمَامَ، فَظَلَّلَ عَلَيْهِمْ، لِيَقِيَهُمْ حَرَّ الشَّمْسِ، وَأَرْسَلَ إليهِم المَنَّ وَالسَّلْوَى، فَأخَذُوا يَأكُلُونَ مِنْ طِيِّبَاتِ رِزِْقِ اللهِ، وَيَشْرَبُونَ مِنَ المَاءِ، فَكَفَرُوا بِهذِهِ النِّعَمِ، وَخَالَفُوا أمرَ اللهِ، فَأَلَحَقُوا الضَّرَرَ بِأنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً.
انْبَجَسَتْ - نَبَعَتْ وَتَفَجَّرَتْ.
المَنُّ - مَادَّةٌ حُلْوَةٌ تَقَعُ عَلَى الأشْجَارِ.
السَّلْوَى - طَائِرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَي لَحْمُهُ لَذِيذُ الطَّعْمِ.
السِّبْطُ - وَلَدُ الوَلَدِ وَأطْلِقَتْ كَلِمَةُ أسْبَاطٍ عَلَى أَحْفَادِ يَعْقُوبَ، عَلَيهِ السَّلاَمُ.
(١٦١) - وَبَعْدَ أنْ أَسْكَنَهُمْ رَبُّهُمُ البَلَدَ الذِي دَخَلُوهُ بَعْدَ أَنِ انْتَصَرُوا عَلَى العَمَالِيقَ، أَمَرَهُمْ رَبُّهُمْ بِشُكْرِهِ، وَبِدُخُولِ البَابِ (أَيْ بَابِ البَلَدِ) سُجَّداً شُكْراً للهِ، وَبِأَنْ يَقُولُوا: حِطَّةٌ - (أَيْ اللَّهُمَّ حُطَّ عَنَّا خَطَايَانَا) - لِيَسْتَجِيبَ اللهُ إلى دُعَائِهِمْ، فَيَغْفِرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَيَزِيدَ الحَسَنَاتِ لِمُحْسِنِهِمْ.
(١٦٣) -اسْأَلْ يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلاءِ اليَهُودَ الذِينَ بِحَضْرَتِكَ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِهِم الذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ، فَأصَابَهُمْ بِنَقْمَتِهِ عَلَى اعْتِدَائِهِمْ وَاحْتِيَالِهِمْ فِي مُخَالَفَتِهِمْ أمْرَ رَبِّهِمْ وَحَذِّرْهُمْ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأَصْحَابِهِمْ، أَصْحَابِ القَرِيَةِ التِي كَانَتْ عَلَى سَاحِلِ البَحْرِ (وَهِيَ أَيْلَةُ أَوْ العَقَبَةُ اليَوْمَ)، فَقَدْ كَانَ اليَهُودُ فِيهَا يَعْتَدُونَ عَلَى حُرْمَةِ السَّبْتِ، وَيَتَجَاوُزُونَ حُكْمَ اللهِ الذِي يُحِرِّمُ عَلَيهِم الصَّيْدَ فِيهِ، فَقَدْ كَانَتِ الأَسْمَاكُ (حِيتَانُهُمْ) تَأتِيِهِمْ ظَاهِرَةً عَلَى سَطْحِ المَاءِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ الذِي كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ، فَلاَ يَصِيدُونَ فِيهِ، أَمَّا فِي اليَوْمِ الذِي لا يَسْبِتُونَ، وَلاَ يُعَظِّمُونَ حُرْمَةَ السَّبْتِ، فَكَانَتِ الحِيتَانُ لا تَظْهَرُ لَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ اخْتِبَاراً مِنَ اللهِ لَهُمْ، فَكَانَ اليَهُودُ المُعْتَدُونَ يَنْصِبُونَ الشِّبَاكَ لِلأَسْمَاكِ لِتَقَعَ فِيهَا، وَيَتْرُكُونَهَا فِي الشِّبَاكِ حَتَّى يَنْتَهِيَ السَّبْتُ فَيَأخُذُوهَا، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ انْتِهَاكاً لِمَحَارِمِ اللهِ التِي فَرَضَهَا عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا تَعْظِيمُ حُرْمَةِ السَّبْتِ. فَكَانَ تَصَرُّفُهُمْ هذا احْتِيالاً يُخْفِي نِيَّتَهُمْ فِي الاعْتِدَاءِ عَلَى السَّبْتِ، وَفِسْقاً عَنْ طَاعَةِ اللهِ.
- فِرْقَةٍ ارْتَكَبَتِ المُحَرَّمَ، وَاحْتَالَتْ فِي صَيْدِ السَّمكِ.
- فِرْقَةٍ نَهَتِ المُتَجَاوِزِينَ عَنْ فِعْلِهِمْ هَذا وَاعْتَزَلَتْهُمْ.
- فِرْقَةٍ سَكَتَتْ فَلَمْ تَفْعَلْ شَيْئاً وَلَمْ تَنْهَ، وَلَكِنَّهَا قَالَتْ لِلْفِرْقَةِ المُنْكِرَةِ: لِمَ تَنْهَوْنَ قَوْماً تَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ مُهْلِكُهُمْ لاسْتِحقَاقِهِمْ عُقُوبَتَهُ وَسَخَطَهُ؟ فَلاَ فَائِدَةَ مِنْ نَهْيكُمْ إِيَّاهُمْ. فَرَدَّتْ عَلَيهِمْ الفِرْقَةُ النَّاهِيَةُ قَائِلَةً: إنَّ اللهَ أمَرَنَا بِأنْ نَأمُرَ بِالمَعْرُوفِ، وَنَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ، وَنَحْنُ نُذَكِّرُهُمْ لِنَقُومَ بِأمْرِ اللهِ أوَّلاً (مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ)، ثُمَّ إنَّنا نَرْجُو أنْ يَنْتَهِيَ هَؤُلاءِ المُتَجَاوِزُونَ حُدُودَ اللهِ عَنْ غَيِّهِمْ، وَيَعُودُوا إلى الصَّوابِ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الاعْتِدَاءَ الذي اقْتَرَفُوهُ.
(١٦٦) - فَلَمّا اسْتَمَرُّوا فِي عُتُوِّهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، قَالَ اللهُ لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً ذَلِيلِينَ حَقِيرِينَ، فَكَانُوا.
خَاسِئِِينَ - ذَلِيلِينَ حَقِيرِينَ.
(١٦٧) - وَاذْكُرْ، أيُّها الرَّسُولُ، لَهُمْ، إذْ أعْلَمَ رَبُّكَ هَؤُلاءِ القَوْمِ، مَرَّة إثْرَ مَرَّةٍ، عَلَى ألْسِنَةِ أنْبِيَائِهِمْ، أنَّهُ قَضَى عَلَيهِمْ لَيُسَلِّطَنَّ عَلَيْهُمْ - إلى يَوْمِ القِيَامَةِ - مَنْ يُوقِعُ بِهِم العِقَابَ الشَّدِيدَ بِسَبَبِ طُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِي الأَرْضِ، وَأنَّ رَبًَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ لِلأُمَمِ التِي تَفْسُقُ عَنْ أمْرِهِ، وَتُفْسِدُ فِي الأَرْضِ، وَأنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ أقْلَعَ عَنْ ذَنْبِهِ، وَأنَابَ إلَيهِ وَأصْلَحَ مَا كَانَ قَدْ أفْسَدَ فِي الأرْضِ، قَبْلَ أنْ يَحِلَّ بِهِ العِقَابُ.
(١٦٨) - يَقُولُ تَعَالَى: إنَّهُ فَرَّقَ بَني إِسْرَائِيلَ فِي الأرْضِ فَكَانُوا طَوَائِفَ وَفِرَقاً (أُمَما)، مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ الذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُمْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنَّهُ اخْتَبَرَهُمْ (بَلَوْنَاهُمْ) جَمِيعاً بِالرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، وَبِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَبِالعَافِيَةِ وَالبَلاَءِ، لَعَلَّهُمْ يَثُوبُونَ إِلَى الحَقِّ، وَيَرْجِعُو، َ إلى أَمْرِ اللهِ، فَيَعُودَ إِلَيْهِمْ فَضْلُ اللهِ وَإِحْسَانُهُ وَرَحْمَتُهُ.
بَلَوْنَاهُمْ - اخْتَبَرْنَاهُم.
أُمماً - جَماعَاتٍ وَفِرَقاً.
(١٦٩) - فَجَاءَ جيلٌ جَديدٌ - بَعْدَ ذَلِكَ الجِيلِ الذِي كَانَ مِنْهُ الصَّالِحُونَ وَمَنْ هُمْ دُونَ ذَلِكَ - وَقَفُوا عَلَى مَا فِي التَّورَاةِ، وَكَانُوا عَالِمِينَ بِأحْكَامِها وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يُؤْثِرُونَ حُطَامَ الدُّنيا وَمَتَاعَهَا، عَلَى بَذْلِ الحَقِّ وَنَشْرِهِ، فَكَانُوا يَأكُلُونَ السُحْتَ وَالرُّشَا، وَيُتَاجِرُونَ بالدِّينِ، وَيُحَابُونَ فِي الأَحْكَامِ وَإِقَامَةِ العَدْلِ، وَيُسَوِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيَعِدُونَهَا بالتَّوبَةِ، وَكُلَّمَا لاَحَ لَهُمْ مَجَالٌ لِلاحْتِيَالِ عَلَى شَرْعِ اللهِ قَارَفُوهُ (كَمَا فَعَلَ المَعْتَدُونَ فِي السَّبْتِ)، وَيَأمُلُونَ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ، وَأنْ لاَ يُؤَاخِذَهُمْ عَلى أَفْعَالِهِم القَبِيحَةِ. وَيُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِمْ ضِيقَهُمْ هذا، وَنِسْيَانَهُمْ أنَّهُ أوْجَبَ عَلَيهِمْ فِي المِيثَاقِ أنْ يُبَيِّنُوا الحَقَّ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُوهُ، وَأنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللهِ إلا الحَقَّ، فَقَالُوا البَاطِلَ، وَكَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ وَبِعْثَتَهُ وَرِسَالَتَهُ التِي جَاءَتْ فِي التَّورَاةِ.
ثُمَّ يُرَغِّبُهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي جَزِيلِ ثَوَابِهِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ وَمَا فِيهَا مِنْ رِضْوَانِ اللهِ وَثَوَابِهِ، خَيْرٌ للمُتَّقِينَ مِنْ حُطَامِ الدُّنيا الفَانِيَةِ الذِي يُؤْخَذُ بِالرِّبَا، وَبِأكْلِ السُحْتِ، أفَلا يَعْقِلُ هَؤلاءِ الذِينَ اعْتَاضُوا بِعَرَضِ الدُّنْيَا عَنْ ثَوَابِ رَبِّهِمْ؟
(١٧٠) - ثُمَّ يُثني اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنِ اسْتَمْسَكَ بِكِتَابِهِ مِنْهُمْ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَأدَّاهَا حَقَّ أدَائِهَا، وَيُذَكِّرُهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهُ لاَ يُضِيعُ أجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً مِنَ المُصْلِحِينَ.
(١٧١) - لَمّا أبْلَغَهُمْ مُوسَى عَليهِ السَّلاَمُ مَا فِي الألْواحِ المُنَزَّلَةِ مِنْ عِندْ اللهِ، لِيَعْمَلُوا بِمَا فِيها، ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَأَبَوْا أنْ يُقِرُّوا بِهَا حَتَّى رَفَعَ اللهُ تَعَالَى الجَبَلَ فَوْقَهُمْ حَتَّى أظَلَّ رُؤُوسَهُمْ، وَظَنُّوا أنّهُ وَاقِعٌ عَلَيهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: إنَّ اللهَ يَقُولُ لَكُمْ: لَئِنْ لَمْ تَقْبَلُوا التَّورَاةَ بِمَا فِيها لأرْمِينَّكُمْ بِهذا الجَبَلِ. فَوَقَعُوا عَلى الأَرْضِ سُجَّداً، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إلى الجَبَلِ بِطَرَفِ أعْيُنِهِمْ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: خُذُوا مَا أَعْطَيْنَاكُمْ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِعَزْمٍ، وَاحْتِمَالٍ لِلْمِيثَاقِ وَالتَّكَالِيفِ، وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ مِنَ الأوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَإنَّ ذَلِكَ يُعِدُّكُمْ لِلتَّقْوى، وَيَجْعَلُها مُرْجُوَّةً لَكُمْ.
(١٧٢) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ: أَنَّهُ أقَامَ الأدِلَّةَ عَلَى وُجُودِهِ وَعَظَمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وَقَدْ أقَامَ هَذِهِ الأدِلَّةَ عَنْ طِرِيقِ مَا بَثَّهُ فِي الكَوْنِ مِنْ أَسْبَابِ الهِدَايَةِ. كَمَا أقَامَهَا عَنْ طَرِيقِ الكُتُبِ وَالرُّسُلِ. فَقَالَ تَعَالَى مُخَاطِباً رَسُولَهُ ﷺ: اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ، حِينَ اسْتَخْرَجَ اللهُ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ أصْلابِهِمْ لِيَشْهَدُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ، أنَّ اللهَ رَبُّهُمُ وَمَلِيكُهُمْ، وَأنَّهُ لاَ إله إلاَّ هُوَ، كَمَا أنَّهُ فَطَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَلَهُمْ عَلَيهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللهَ تَعَالَى مَسَحَ صُلْبَ آدَمَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ نَسْمَةٍ خَلَقَهَا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، فَأخَذَ مِنْهُمْ المِيثَاقَ أنْ يَعْبُدُوهُ، وَلاَ يَشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِالأرْزَاقِ، ثُمَّ أعَادَهُمْ في صُلْبِهِ، فَلَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يُولَدَ مَنْ أعْطى المِيثَاقَ يَوْمَئِذِ.
(١٧٤) - وَمَثَلُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ المُسْتَتْبعِ لِلْمَنَافِعِ الجَلِيلَةِ، نُفَصِّلُ لِلنَّاسِ الآيَاتِ وَالدَّلاَئِلَ عَلَى وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، لِيَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ فِي التَّبَصُّرِ فِيها، وَالتَّدَبُّرِ فِي أَمْرِهَا، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ جَهَلِهِمْ، وَعَنْ تَقْلِيدِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ، وَيَهْتَدُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ.
(١٧٥) - وَاقْصُصْ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى اليَهُودِ قِصَّةَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الذِي آتَيْنَاهُ حُجَجَ التَّوْحِيدِ، وَأَفْهَمْنَاهُ أَدِلَّتَهُ حَتَّى صَارَ عَالِماً بِهَا، فَانْسَلَخَ مِنْهَا، وَتَرَكَهَا وَرَاءَهُ ظِهْرِيّاً، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا لِيَهْتَدِيَ بِهَا. وَبَعْدَ أَنْ انْسَلَخَ مِنْهَا وَتَرَكَهَا وَرَاءَهُ بِاخْتِيَارِهِ، لَحِقَهُ الشَّيْطَانُ فَأَدْرَكَهُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الوَسْوَسَةِ إِلَيْهِ إِذْ لَمْ يَبْقَ لَدَيْهِ مِنْ نُورِ البَصِيرَةِ، وَلاَ مِنْ أمَارَاتِ الهِدَايَةِ مَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَبُولِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، فَصَارَ مِنَ الضَّالِّينَ.
(وَرُوِيَ أنَّ هذِهِ القصَّةَ هِيَ قِصَّةُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، لا يَسْأَلُ اللهُ شَيْئاً إلاَّ أعْطَاهُ إيَّاهُ، فَلَمَّا أرَادَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، الذِي تَسَلَّمَ أمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى، أنْ يُحَارِبَ الجَبَّارِينَ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ، انْسَلَخَ هذا الرَّجُلُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَاحَ إلى الجَبَّارِينَ يُحَرِّضُهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إذَا خَرَجْتُمْ لِقِتَالِ بَنِي إسْرَائِيلَ فَإنِّي أدْعُو عَلَيْهِمْ فَأُهْلِكُهُمْ).
(١٧٦) - وَلَوْ أَرَدْنَا أنْ نَرْفَعَهُ بِتِلْكَ الآيَاتِ وَالعَمَلِ بِهَا إلَى دَرَجَاتِ الكَمَالِ لَفَعَلْنَا، بِأنْ نَخْلُقَ لَهُ الهِدَايَة خَلْقاً، وَنُلْزِمَهُ العَمَلَ بِهَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، إِذْ لاَ يُعْجِزُنَا ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذا الرَّفْعَ مُخَالِفٌ لِسُنَّتِنا. لَقَدْ رَكَنَ هَذا الرَّجُلُ إلَى الدُّنيا، وَمَالَ إِلَيها، وَجَعَلَ كُلَّ هَمِّهِ مِنْ حَيَاتِهِ التَّمَتُّعَ بِلَذَائِذِهَا المَادِّيَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَى لَذَّاتِهَا وَنَعِيمِهَا، وَغَرَّتْهُ كَمَا غَرَّتْ غَيْرَهُ مِنَ العُمْيِ عَنْ أُمُورِ الآخِرَةِ.
وَمَثَلُ هَذا الرَّجُلِ مَثَلُ الكَلْبِ فِي لُهَاثِهِ، فَهُوَ فِي هَمٍّ دَائب، وَشُغْلٍ شَاغِلٍ، فِي جَمِيعِ عَرَضِ الدُّنيا وَزُخْرُفِها، وَهُوَ كَالّلاهِثِ مِنَ الإِعْيَاءِ وَالتَّعَبِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَعْنِي بِهِ حَقِيراً لاَ يُتْعِبُ وَلاَ يُعْيِي، وَتَرَاهُ كَمَا أَصَابَ سعَةً مِنَ الرِّزْقِ فِي الدُّنيا، زَادَ طَمَعاً فِيهَا.
وَذَلِكَ المَثَلُ البَالِغُ الحَدِّ فِي الغَرَابَةِ هُوَ مَثَلُ القَوْمِ الذِينَ جَحَدُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَاسْتَكْبَرُوا جَهْلاً بِهَا، وَتَقْلِيداً لَلآبَاءِ وَالأَجْدَادِ، فَهُمْ قَدْ ظَنُّوا أَنَّ إيمَانَهُمْ بِهَا، يَسْلُبُهُمُ العِزَّ وَالجَاهَ، وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ اللَّذَّاتِ. فَاقْصُصْ يَا مُحَمَّدُ قِصَةَ ذَلِكَ الرَّجُلِ عَلى هَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ مِنْ قَوْمِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا، وَيَرَوْنَ الآيَاتِ بِعَيْنِ البَصِيرَةِ، لاَ بِعَيْنِ الهَوَى، فَيَصِلَ الأمْرُ بِهِم إلى الإيمَانِ.
(١٧٧) - قَبُحَتْ صِفَةُ هؤُلاَءِ القَوْمِ فِي الصِّفَاتِ، وَسَاءَ مَثَلُهُمْ فِي الأَمْثَالِ، بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي الآيَاتِ، وَاسْتِخْلاَصِ العِبَرِ مِنْهَا لِلاهْتِدَاءِ بِهَا وَجَعْلِهَا السَّبِيلَ المُوصِلَةَ إلى السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
(١٧٨) - مَنْ يُوَفِّقْهُ اللهُ لِسُلُوكِ سُبُلِ الهِدَايَةِ بِاسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ وَحَوَاسِّهِ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ، بِمُقْتَضَى الفطْرَةِ، وَإِرْشَادِ الدِّينِ، فَهُوَ المُهْتَدِي الذِي شَكَرَ نِعَمَ اللهِ عَلَيهِ، وَأَدَّى حَقَّ رَبِّهِ عليهِ، فَهُوَ يَخْذلْهُ وَيَحْرِمْهُ التَّوْفِيقَ فَيَتَّبِعِ الشَّيْطَانَ فِي عَدَمِ تَفهُّمِ آيَاتِهِ، وَفِي التَّقْصِيرِ فِي شُكْرِ رَبِّهِ عَلَى مَا أنْعَمَ بِهِ عَلَيهِ، فَهُوَ الذِي خَسِرَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
(١٧٩) - لَقَدْ خَلَقْنَا كَثيراً مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ لِيَكُونُوا وَقُوداً لِجَهَنََّمَ، لأنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَمَلَ أهْلِهَا، وَلاَ يَنْتَفِعُونَ بِشَيءٍ مِنْ جَوَارِحِهِمْ التِي جَعَلَها اللهُ سَبِيلاً لِلْهِدَايَةِ، فَلاَ يَسْمَعُونَ الحَقَّ بِآذَانِهِم، وَلا يَفْقَهُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ، وَلا يَرَوْنَ النُّورَ بِعُيُونِهِمْ، فَهُمْ كَالبَهَائِمِ وَالأنْعَامِ السَّارِحَةِ، لاَ تَنْتَفِعُ بِحَوَاسِّهَا إلا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَعَاشِهَا وَبَقَائِهَا، أوْ هُمْ شَرٌّ مِنَ الدَّوَابِّ وَأكْثَرُ ضَلالاً، لأنَّ الدَّوَابَّ قَدْ تَسْتَجِيبُ لِراعِيها إذا أنِسَتْ بِهِ، وَإنْ لَمْ تَفْقَهْ كَلاَمَهُ، بِخِلافِ هَؤُلاءِ. ولأنَّ الدَّوَابَّ تَفْعَلُ مَا خُلِقَتْ لَهُ، إمَّا بِطَبْعِهَا وَإمَّا بِتَسْخِيرِهَا. أمَّا الكَافِرُونَ فِإِنَّهُمْ خُلِقُوا لِيَعْبُدُوا اللهَ وَيُوَحِّدُ هُ، فَكَفَرُوا بِاللهِ، وَأشْرَكُوا بِهِ فَهُمُ الغَافِلُونَ.
(١٨٠) - وَللهِ، دُونَ غَيْرِهِ، جَمِيعُ الأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى أَحْسَنِ المَعَانِي، وَأَكْمَلِ الصِّفَاتِ، فَاذْكُرُوهُ وَنَادُوهُ بِهَا، إِمَّا لِلْثَنَاءِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا لِسُؤالِهِ العَوْنَ وَالمَغْفِرَةَ، وَمَا أَنْتُمْ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ. وَادْعُوهُ يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ، وَاتْرُكُوا جَمِيعَ الذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ بِالمَيْلِ فِي أَلْفَاظِهَا، أَوْ مَعَانِيهَا عَنْ نَهْجِ الحَقِّ، مِنْ تَحْرِيفٍ أَوْ تَأْوِيلٍ أَوْ شْرِكٍ أَوْ تَكْذِيبٍ، أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، أَوْ مَا يَنْفِي وَصْفَها بِالحُسْنَى، لأنَّ هَؤُلاَءِ المُلْحِدِينَ سَيُجْزَوْنَ جَزَاءً وِفَاقاً عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَتَنْزِل بِهِم العُقُوبَةُ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ. فَاجْتَنِبُوا إِلْحَادَهُمْ فِي أسْمَاءِ اللهِ لِكَيْلا يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ ").
(أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمَذِي وَابْنُ مَاجَهْ).
يُلْحِدُونَ - يَنْحَرِفُونَ وَيَمِيلُونَ إِلَى البَاطِلِ؟
بِهِ يَعْدِلُونَ - بِالحَقِّ يَحْكُمُونَ فِي الخُصُومَاتِ.
(١٨٢) - أمَّا الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَكَفَرُوا بِهَا، فَسَيَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَاباً مِنْ وُجُوهِ الرِّزْقِ وَالمَعَاشِ فِي الدُّنْيا، حَتَّى يَغْتَرُّوا بِمَا هُمْ فِيهِ، وَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُم عَلَى شَيءٍ، حَتَّى يُفَاجِئَهُمْ بَأْسُ اللهِ، وَمَا قَضَاهُ عَلَيْهِم، وَهُمْ غَافِلُونَ، لاَ يَشْعُرُونَ وَلاَ يَعْلَمُونَ.
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ - سَنَسْتَدْنِيهِمْ إلَى الهَلاَكِ بِالإِنْعَامِ وَالإِمْهَالِ.
أُمْلِي لَهُمْ - أُمْهِلُهُمْ فِي العُقُوبَةِ.
كَيْدِي مَتِينٌ - أخْذِي شَدِيدٌ قَوِيُّ.
جِنَّةٍ - جُنُونٍ.
(١٨٥) أَوَ لَمْ يَنْظُرْ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبُونَ إلَى مَا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَيَتَدبَّرُوا ذَلِكَ، وَيَعْتَبِرُوا بِهِ، وَيُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَيَتَخَلَّوْا عَنِ الأنْدَادِ وَالأوْثَانِ؟ فَلْيَحْذَرُوا أنْ تَكُونَ آجَالُهُمْ قَدِ اقْتَرَبَتْ فَيَهْلِكُوا وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيَصِيرُوا إلى عَذَابٍ أليمٍ. وَإذا لَمْ يتَّعِظُوا بِمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ، وَبِمَا حَذَّرَهُمْ مِنْهُ، فَبِأَيِّ وَسِيلَةٍ مِنَ التَّخْويفِ وَالتَّحْذِيرِ يُصَدِّقُونَ؟ وَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ القُرْآنِ يُؤْمِنُونَ، إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟
مَلَكُوتِ - المُلْكِ العَظِيمِ.
(١٨٦) - لَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى هَذا القُرْآنَ أَعْظَمَ أسْبَابِ الهِدَايَةِ لِلْمُتَّقِينَ، وَجَعَلَ الرَّسُولَ المُبَلِّغَ لَهُ أقْوَى الرُّسُلِ بُرْهَاناً، وَأكْرَمَهُمْ أخْلاقاً، فَمَنْ فَقَدَ الاسْتِعْدَادَ لِلإِيمَانِ بِهذَا الكِتَابِ، وَهَذا الرَّسُولِ، فَهُوَ الذِي أضَلَّهُ اللهُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَيَتْرُكُ تَعَالَى هؤُلاَءِ الضَّالِّينَ فِي طُغْيَانِهِمْ يَتَرَدَّدُ نَ فِي حَيْرَةٍ، وَلاََ يَهْتَدُونَ سَبيلاً لِلْخُرُوجِ مِمَّا هُمْ فِيهِ.
الطُّغْيَانُ - تَجَاوُزُ الحَدِّ فِي الكُفْرِ.
العَمَهُ - ظُلْمَةُ البَصِيرَةِ - أوْ هُوَ التَّرَدُّدِ وَالحَيْرَةُ.
(١٨٧) - كَانَ كُفًَّارُ قُرَيْشٍ يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ السَّاعَةِ التِي تَنْتَهِي بِهَا هَذِهِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ اسْتِبْعَاداً لِوُقُوعِهَا، وَتَكْذِيباً بِوُجُودِهَا، وَيَقُولُونَ: مَتَى يَحِينُ وَقْتَ رُسُوِّهَا وَاسْتِقْرَارِهَا (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) ؟ وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ بِأَنْ يَرُدَّ عِلْمَهَا إلَى اللهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَقُولَ لِهَؤُلاَءِ السَّائِلِينَ عَنْهَا إِنَّ عِلْمَهَا عِنْدَ اللهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الذِي يُظْهِرُ أَمْرَهَا، وَلا يَعْلَمُ أَحَدٌ وَقْتَهَا إلاَّ هُوَ.
وَحِينَ يَحِينُ وَقْتُهَا فَإِنَّ هَوْلَها يَثْقُلُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلاَ يَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الخَلْقِ إلاَّ وَيُصِيبَهُ ضَرَرٌ مِنْهَا. وَلاَ تَأْتِي السَّاعَةُ النَّاسَ إلاَّ فَجْأَةً، وَعَلَى حِينِ غِرَّةٍ، وَدُونَ سَابِقِ إِنْذَارٍ. وَيَسْألُكَ هَؤُلاَءِ عَنِ السَّاعَةُ كَأنَّكَ حَرِيصٌ عَلَى العِلْمِ بِهَا، أًَوْ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ مُبَالِغٌ فِي سُؤَالِكَ رَبَّكَ عَنْهَا. فَقُلْ لَهُمْ إنَّ اللهَ عِنْدَهُ وَحْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ تِلْكَ الحَقِيقَةَ.
حَفِيٌّ عَنِ الأَمْرِ - بَلِيغُ فِي السُّؤَالِ عَنْهُ أَوْ عَالِمٌ بِهِ.
أَيَّانَ مُرْسَاهَا - مَتَى إِثْبَاتُ وُقُوعِهَا.
لاَ يُجَلِّيها - لاَ يَكْشِفُها وَيُظْهِرُهَا.
ثَقُلَتْ - عَظُمَتْ لِشِدَّتِهَا.
(١٨٩) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى خَلءقَهُ إِلَى أنَّ جَميعَ البَشَرِ مَخْلُوقُونَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ (هِيَ آدَمَ)، وَأَنَّهُ خَلَقَ مِنْ هَذِهِ النَّفْسِ زَوْجَهَا (حَوَّاءَ)، ثُمَّ انْتَشَرَ النَّاسَ مِنْهُمَا عَنْ طَرِيقِ التَّنَاسُلِ المَعْرُوفِ. وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ جَعَلَ لِلْنَّفْسِ زَوْجاً لَهَا مِنْ جِنْسِهَا لِيَتَآلَفَهَا، وَلِيَسْكُنَ أَحَدُهُما إلَى الآخَرِ، فَلاَ أُلْفَةَ أعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَحِينَمَا وَاقَعَ الذَّكَرُ الأنْثَى (تَغَشَّاهَا) عَلِقَتْ مِنْهُ. وَكَانَ الحَمْلُ فِي أَوَّلِ عَهْدِهِ خَفيفاً لاَ تَكَادُ تَشْعُرُ بِهِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ الحَمْلُ بِهَا وَأَثْقَلَتْ، تَوَجَّهَ الزَّوْجَانِ إلَى اللهِ رَبِّهِما بِالدُّعَاءِ، بِأَنْ يَرْزُقَهُمَا وَلَداً صَالِحاً (أَيْ تَامَّ الخَلْقِ، يَصْلُحُ لِلْقِيَامِ بِالأعْمَالِ النَّافِعَةِ التِي يَعْمَلُها البَشَرُ)، وَأَقْسَمَا عَلَى وَطَّنا نَفْسَيْهما عَلَيهِ مِنَ الشُّكْرِ للهِ عَلَى أَنْعُمِهِ.
تَغَشَّاهَا - وَاقَعَها.
فَمَرَّتْ بِهِ - فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ.
أَثْقَلَتْ - صَارَتْ ذَاتَ ثِقَلٍ بِكبرِ الحَمْلِ.
صَالِحاً - سَوِيّاً فِي خَلْقِهِ.
(١٩٠) - فَلَمَّا رَزَقَهُمَا اللهُ تَعَالَى وَلَداً سَلِيماً سَوِيّاً، نَسِيَا دَعْوَتَهُمَا للهِ، وَجَعَلاَ الأَصْنَامَ شُرَكَاءَ للهِ فِي عَطيتِهِ لَهُمَا، وَتَقَرَّبَا إلَيْهَا شَاكِرَيْنِ. فَتَعَالَى اللهُ وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ شَرِكَةٍ فِي المُلْكِ.
(وَيَرَى الحَسَنُ البَصْرِيُّ أَنَّ المُرَادَ بِالسِّيَاقِ لَيْسَ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِنَّمَا المُرَادُ المُشْرِكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا).
(١٩٣) - وَهَذِهِ الأصْنَامُ لاَ تَسْمَعُ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهَا وَلاَ تَفْهَمُهُ، وَلاَ تَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهَا، وَسَواءٌ لَدَيْهَا مَنْ دَعَاهَا وَمَنْ دَحَاهَا - كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ-.
(١٩٤) - يُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ هَذِهِ الأَصْنَامُ التِي يَعْبُدُهَا المُشْرِكُونَ، وَيَدْعُونَها مِنْ دُونِ اللهِ، هِيَ حِجَارَةٌ وَمَخْلُوقَاتٌ مِثْلُهُمْ، لاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً. وَيَقُولُ تَعَالَى لِعَابِدِي هَذِهِ الأَصْنَامِ: إِنَّهُمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي زَعْمِهِمِ أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى مَا يَعْجَزُونَ هُمْ عَنْهُ بِقِواهُمْ البَشَريَّةِ مِنْ نَفْعٍ وَضَرٍّ، فَلْيَدْعُوا هَذِهِ الأَصْنَامَ لِتَسْتَجِيبَ لَهُمْ، إِمَّا بِأَنْفُسِهَا، أَوْ بِحَمْلِها الرَّبَّ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، عَلَى إِعْطَائِهِمْ مَا يَطْلُبُونَ هُمْ مِنَها. وَبِمَا أنَّها لَنْ تَسْتَجِيبَ لِمَنْ يَدْعُوهَا، لأنَّهَا حِجَارَةٌ وَجَمادَاتٌ، وَمَخلُوقَاتٌ عَاجِزَةٌ، لِذَلِكَ يَكُونُ مَنْ يَعْبُدُونَها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
(١٩٥) - وَهَذِهِ الأَصْنَامُ لَيْسَ لَهَا أَرْجُلٌ تَمْشِي عَلَيْهَا، وَلاَ أَيْدٍ تَضْرِبُ بِهَا وَتَبْطِشُ، وَلاَ عُيُونٌ بِهَا تُبْصِرُ، وَلا آذَانٌ بِهَا تَسْمَعُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَثَرٌ فِي ضَرٍّ أَوْ نَفْعٍ. وَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: ادْعُوا أَرْبَابَكُمْ هَؤُلاَءِ، وَحَاوِلُوا أَنْتُمْ وَإيَّاهُم الكَيْدَ لِي، وَلاَ تُقَصِّرُوا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذا الكَيْدَ لَنْ يَضُرَّ بِي شَيْئاً.
فَلاَ تُنْظِرُونَ - فَلاَ تُمْهِلُونِي سَاعَةً.
(١٩٦) - إِنَّ اللهَ حَسْبِي، وَهُوَ مُتَوَلِّي أَمْرِي وَنَاصِرِي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَهُوَ يَتَولَّى نَصْرَ كُلِّ صَالِحٍ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُوَ الذِي نَزَّل القُرْآنَ بِالحَقِّ عَلَيَّ (الكِتَابَ).
(١٩٨) - وَإِنْ تَدْعُوا الأَصْنَامَ، التِي يَعْبُدُهَا المُشْرِكُونَ، إِلَى أَنْ يَهْدُوكُمْ إلَى مَا تُحَصِّلُونَ بِهِ مَقَاصِدَكُمْ وَتَنْتَصِرُونَ بِهِ، لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ، لأَنَّهُمْ حِجَارَةٌ لَهُمْ عُيُونٌ تَنْظُرُ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُ، وَلِذَلِكَ فَإنَّهمْ عَاجِزُونَ عَنْ مَدِّ يَدِ العَوْنِ لأحَدٍ.
(وَهَذا القَوْلُ يَنْطَبِقُ عَلَى المُشْرِكِينَ أَيْضاً. وَقَالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إِنَّ المَقْصُودَ بِهِمْ هُنَا المُشْرِكُونَ).
(١٩٩) - أَعْرِضْ أَيُّهَا النَّبِيُّ عَنِ الجَاهِلِينَ، وَسِرْ فِي سَبِيلِ الدَّعْوةِ، وَخُذِ النَّاسَ بِمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ، وَأَمُرْهُمْ بِكُلِّ أَمْرٍ مُسْتَحْسَنٍ تَعْرِفُهُ العُقُولُ، وَتُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ لا يُخَيَّرُ بَيْنَ أَمْرَينِ إلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا.
(وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَألَ جِبْرِيلَ، عَلَيهِ السَّلامُ عَنِ المَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: (" إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ بِأنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتُعْطِيَ مِنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلَ مَنْ قََطَعكَ ") (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ).
وَقِيلَ إِنَّ حُسْنَ المُعَامَلَةِ يَكُفُّ العَاصِي عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ التَّمَرُّدِ.
العَفْوُ - هُوَ السَّهْلُ الذِي لاَ كُلْفَةَ فِيهِ.
خُذِ العَفْوَ - خُذْ مَا عَفَا وَصَفَا مِنْ أَخْلاقِ النَّاسِ.
وَأمُرْ بِالعُرْفِ - المَعْرُوفُ حُسْنُهُ فِي الشَّرْعِ.
(٢٠٠) - فَإِذَا مَا اسْتَثَارَ الشَّيْطَانُ غَضَبَكَ لِيَصُدَّكَ عَنِ الإِعْرَاضِ عَنِ الجَاهِلِينَ، وَيَحْمِلَكَ عَلَى مُجَارَاتِهِمْ وَمُجَازَاتِهِمْ، فَاسْتَعِذْ بِاللهِ، وَاسْتَجِرْ بِهِ مِنْ نَزْغَ الشَّيْطَانِ، إِنَّهُ سَميعٌ لِجَهْلِ الجَاهِلِينَ عَلَيْكَ، عَلِيمٌ بِمَا يُذْهِبُ عَنْكَ نَزْغَ الشَّيطَانِ.
النَّزْغُ - كَالنَّخْسِ وَهُوَ إِصَابَةُ الجَسَدِ بِرَأسٍ مُحَدَّدٍ كَالإِبْرَةِ وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ.
يَنْزَغَنَّكَ - يُصِيبَنَّكَ أَوْ يَصْرِفَنَّكَ.
(٢٠١) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى إِنَّ المُتَّقِينَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا أَلَمَّ بِهِمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ بَوَسْوَسَتِهِ إِلَيْهِمْ لِيَحْمِلَهُمْ عَلَى المَعْصِيَةِ، أَوْ لِيُوقِعَ بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ... تَذَكَّرُوا أَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ عَدُوِّهِمْ وَتَذَكَّرُوا أَنَّ رَبَّهُمْ قَدْ حَذَّرَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ وَنَزْغِهِ، وَسْوَسَتِهِ، فَتَابُوا وَأَنَابُوا وَاسْتَعَاذُوا بِاللهِ، وَرَجَعُوا إِلَيْهِ، فَإِذَا هُمْ قَدِ اسْتَقَامُوا وَصَحَوْا (مُبْصِرُونَ).
مَسَّهُمْ طَائِفٌ - ألَمَّ بِهِمْ وَسْوَسَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ.
(٢٠٢) - وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ مِنَ الكُفَّارِ، وَهُمُ الجَاهِلُونَ الذِينَ لاَ يَتَّقُونَ اللهَ، تَتَمَكَّنُ الشَّيَاطِينِ مِنْ إِغْوَائِهِمْ فَيَمُدُّونَهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَيَزِيدُونَهُمْ ضَلاَلاً، وَلاَ يَكُفُّونَ عَنْ ذَلِكَ وَلاَ يُقَصِّرُونَ فِيهِ، لأَنَّهُمْ لاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِذَا شَعَرُوا بِالنُّزُوغِ إِلى الشَّرِّ وَلاَ يَسْتَعِيذُونَ بِاللهِ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَمَسِّهِ.
يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ - تُعَاوِنُهُمُ الشَّيَاطِينُ فِي الضَّلاَلِ.
لا يُقْصِرُونَ - لاَ يَكُفُّونَ عَنْ إِغَوَائِهِمْ.
(٢٠٣) - قَالَ المُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ألاَ تُجْهِدُ نَفْسَكَ فِي طَلَبِ الآيَاتِ مِنَ اللهِ حَتَّى نَرَاهَا وَنُؤْمِنَ بِهَا؟ (وَقِيلَ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: إِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ بِأنْ تَرَاخَى الوَحْيُ عَلَيْكَ زَمَناً مَا، قَالُوا: لَوْلاَ اخْتَلَقْتَها، وَافْتَعَلْتَ نَظْمَهَا وَتَألِيفَهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ؟).
وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ بِأنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّنِي لاَ أَتَقَدَّمَ إلى اللهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ شَيءٍ، وَإِنَّمَا أتَّبِعُ مَا أمَرَنِي بِهِ رَبِّي، فَأمْتَثِلُ إلَى مَا يُوحِيهِ إليَّ، فَإِنْ أَنْزَلَ آيَةً أَبْلَغْتُها كَمَا أَمَرَ، وَإِنْ مَنَعَهَا لَمْ أَسْألْهُ ابْتِدَاءً عَنْهَا. إلاَّ أَنْ يَأذنَ لِي بِذَلِكَ. ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إلَى أَنَّ هَذَا القُرْآنَ هُوَ أَعْظَمُ المُعْجِزَاتِ، وَأَبْيَنُ الدَّلاَلاتِ وَالبَييِّنَاتِ.
الاجْتِبَاءُ - هُوَ الاخْتِرَاعُ وَالاخْتِلاَقُ.
هَذَا بَصَائِرُ - هَذا القُرآنُ حُجَجٌ بَيِّنَةٌ وَبَرَاهِينُ نَيِّرَةٌ.
(٢٠٤) - لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ القُرْآنَ بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ، أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِالإِنْصَاتِ إِلَيْهِ عِنْدَ تَلاَوَتِهِ للانْتِفَاعِ بِهُدَاهُ، وَإِعْظَاماً لَهُ وَاحْتِرَاماً. فَإِذَا قَرَأَ الإِمَامُ فِي صَلاَةِ الجَهْرِ فَالمُؤْتَمُّونَ بِهِ يَنْصِتُونَ وَلاَ يَقْرَؤُونَ مَعَه.
(٢٠٥) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِذِكْرِهِ كَثِيراً فِي أَوْلِ النَّهَارِ وَفِي آخِرِهِ، كَمَا أَمَرَ عِبَادَه بِعِبَادَتِهِ فِي هَذينِ الوَقْتَينِ، (وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ). وَيَأْمُرُ اللهُ بِأَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ فِي النَّفْسِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً، وَبِالقَوْلِ خُفْيَةً وَسِرّاً، لاَ جَهْراً، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ خَفِيّاً لاَ نِدَاءً وَلاَ جَهْراً بَلِيغاً، وَبِأنْ لاَ يَكُونَ الإِنْسَانُ غَافِلاً عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَأَنْ يَسْتَشْعِرَ قَلْبُهُ الخُضُوعَ لَهُ، وَالخَوْفَ مِنْ قُدْرَتِهِ.
تَضَرُّعاً - مُظْهِراً الضَّرَاعَةَ وَالذِّلَّةَ.
خِيفَةً - خَائِفاً مِنْ عِقَابِهِ.