تفسير سورة البلد

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة البلد من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

القضاء ومفوضا أمورك كلها اليه سبحانه على وجه التسليم والرضا متوجها بالعزيمة الخالصة نحو المولى حتى تكون مخاطبا بهذا الخطاب المستطاب في كل نفس من أنفاسك التي جرت عليك في عموم افعالك وحالاتك وبالجملة لا تغفل عن الله مطلقا تفز بتشريف أمثال هذه الخطابات العلية والكرامات السنية من الحق. جعلنا الله من زمرة المستيقظين المطمئنين بمنه وجوده
[سورة البلد]
فاتحة سورة البلد
لا يخفى على من وصل الى مقام القلب الذي هو عبارة عن البيت الحرام الحقيقي والكعبة المعنوية التي قد دحيت وبسطت من تحتها أراضي مطلق الاستعدادات وعموم القابليات وتوجهت نحوها زوار القوى والآلات من كل فج عميق ومرمى سحيق من بوادي الإمكان واودية الطبائع والأركان ان من وصل اليه وعكف حول بابه وتشرف بطوافه ووقف بين يدي الله ناويا الموت الإرادي محرما عن لوازم الطبيعة ومقتضيات الإمكان من ميقات الطلب والارادة الصادقة مغتسلا بزمزم التوبة والانابة تائبا عن الالتفات الى مطلق السوى والأغيار متجردا عن ثياب الغفلة وجلباب الاغترار ساعيا بين صفاء المحبة ومروة المودة الإلهية بكمال الشوق والذوق متوجها للوقوف الى عرفات اللاهوت متعريا عن عوارض عالم الناسوت ذابحا كبش نفسه تقربا الى الحي الذي لا يموت منخلعا عن جلباب البدن ولوازمه في منا الفناء معاملا مع الله في سوق البقاء طالبا لربح اللقاء حل له ان يقاتل عند الحرم الإلهي جنود الامارة وكفار القوى والآلات المانعة عن الوصول الى كعبة الذات وعن الوقوف عند عرفات الأسماء والصفات الى ان يغلب عليهم ويهلكهم ويصفى البيت العتيق الإلهي الذي هو عبارة عن قلب العارف الكامل عن أصنام مطلق الأحلام وأوثان عموم الأماني والآمال الحاصلة من الخيالات والأوهام لذلك رخص سبحانه لحبيبه ﷺ القتال في حرم مكة شرفها الله مع ان الحرمة فيها مؤبدة فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي اختار لنفسه بيتا صوريا ليكون قبلة لأصحاب الصورة وبيتا معنويا ليكون وجهة لأرباب القلوب الصافية الرَّحْمنِ لعباده حيث يدعوهم الى كعبة المقصود الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى عرفات الوحدة وبيت معمور الوجود
[الآيات]
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ الذي هو كعبة آمال ارباب الارادة والطلب ألا وهو السواد الأعظم اللاهوتى إذ لا حاجة في ثبوته ووضوحه الى القسم بالنسبة الى ارباب المعرفة واليقين بل اقسم لأصحاب الغفلة والضلال بهذا البلد يعنى مكة شرفها الله التي قد وضعت بيتا حراما لا يحل لاحد ان يفعل فيها شيأ من المحظورات والمباحات سيما القتل والصيد
وَمن جملة خواصك التي قد اصطفيناك وميزناك بها عن سائر الناس يا أكمل الرسل هي انه أَنْتَ حِلٌّ يعنى أنت لجمعك وكمال جامعيتك وحيازة مرتبتك عموم المراتب مستحل للتعرض خاصة القتل والأسر في الحرم بين عموم الناس لمزيد فضيلتك ومنزلتك عند الله وزيادة خصوصيتك بِهذَا الْبَلَدِ الذي حرم على عموم العباد وانما أحل لك ايضا ما أحل في ساعة من نهار لا أزيد منها وبعد تلك الساعة يحرم لك ايضا
وَوالِدٍ اى اقسم ايضا بالوالد الذي هو عبارة عن حقيقة آدم الصفي عليه السلام حسب ثبوته في فضاء عالم اللاهوت وَما وَلَدَ منه في عالم اللاهوت وما ولد منه في عالم الطبيعة بعد هبوطها الى مضيق الناسوت وبالجملة بحق هذه المقسمات العظام
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ اى أظهرنا نشأة ناسوته مغمورا فِي كَبَدٍ تعب ومشقة كثيرة شاغلة لعموم حواسه ومداركه
بحيث يستوعب ويحيط بجميع القوى والآلات حوائج المعاش وأسبابه فاشتغل عن الله بسبب ذلك وترك امر معاده ايضا بواسطته فأخذ في كسب الأموال وجمع الحطام والآثام المبعدة عن الحكيم العلام فصار من غاية استغراقه بالدنيا قد نسى العقبى وزلت نعله عن طريق المولى لذلك كذب وتولى واستكبر واستولى واستظهر بأمواله وأولاده واستعلى وترقى امره في الغفلة والغرور الى ان طغى على الله وبغى على عباده وظن انه لا يغلب ولا يعلى عليه. كما قال سبحانه مقرعا عليه مسفها له مستفهما
أَيَحْسَبُ الإنسان المجبول على الكفران والنسيان أَنْ لَنْ يَقْدِرَ اى انه لن يستطيع عَلَيْهِ أَحَدٌ فينتقم منه او يأخذه على ما صدر عنه من العتو والعناد ومن كمال بطره وغروره ومفاخرته على بنى نوعه
يَقُولُ على سبيل الرعونة والخيلاء والسمعة والرياء قد أَهْلَكْتُ وأنفقت في سبيل الله مالًا لُبَداً مالا كثيرا ملبدا منضدا مجتمعا متراكما
أَيَحْسَبُ ويعتقد ذلك الأحمق المباهي أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ اى انه لم يعلم الله إنفاقه ونيته فيه واعتقاده عليه وإبطاله بالمن والأذى كيف يتأتى له انكار اطلاعنا عليه وعلى ما صدر عنه
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ ولم نظهر في جسده حين صورناه حسب حولنا وقوتنا وكمال قدرتنا عَيْنَيْنِ ليبصر بهما عجائب صنعتنا وغرائب حكمتنا
وَايضا ألم نجعل له لِساناً ليعرب ويترجم به عموم ما يدور في خلده وَشَفَتَيْنِ معينين على التكلم والاعراب على وجه الإفصاح والتوضيح
وَبالجملة قد هَدَيْناهُ بإعطاء هذه النعم العظام النَّجْدَيْنِ اى طريقي الخير والشر والهداية والضلالة واختبرناه بهما وابتليناه بانه أى طريق يختار لنفسه بعد ما وفقناه لكليهما ونبهناه عليهما وبعد ما أعطيناه ما أعطيناه وهديناه بما هديناه
فَلَا اقْتَحَمَ وما دخل الإنسان المجبول على الكفران والنسيان الْعَقَبَةَ الكؤدة الوعرة على نفسه الشاقة لها حتى يؤدى شكر ما أعطيناه ثم ابهمها سبحانه تعظيما وتفخيما فقال
وَما أَدْراكَ ايها المغرور بالحياة المستعارة الدنياوية ولوازمها مَا الْعَقَبَةُ الكؤدة في طريق اهل الايمان والعرفان ثم بينها بقوله
فَكُّ رَقَبَةٍ اى العقبة الكؤدة عبارة عن فك الرقبة المملوكة للنفس الامارة عن رقية الأماني والآمال الطوال
أَوْ العقبة الكؤدة إِطْعامٌ لفقراء الله وعجزة عباده فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ اى حاجة شديدة وجوع مفرط
يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ اى له رحم وقرابة الى المطعم
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ قد اسكنه الفقر واغبره في تراب المذلة والصغار
ثُمَّ بعد ما اقدم على اقتحام العقبة المذكورة قد كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وأيقنوا ان ما في يدهم لله ومن مال الله وهم منفقون باقدار الله لعيال الله في سبيل الله وَمع ايمانهم بالله واتصافهم بالأعمال الصالحة المؤكدة لإيمانهم قد تَواصَوْا بينهم اى اوصى بعضهم بعضا بِالصَّبْرِ على مشاق التكاليف الإلهية ومتاعب الطاعات المأمور بها لهم وَكذلك تَواصَوْا بينهم بِالْمَرْحَمَةِ والشفقة على عباد الله وتعظيمهم والتحنن نحوهم والإحسان معهم ولو بكلمة طيبة وبالجملة
أُولئِكَ الموصوفون بهذه الكرامة العظمى أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ عند الله اى ذوو اليمن والكرامة وانواع اللطف وأعلى الدرجات والمقامات. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وكذبوا بِآياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ اى ذوو الملامة والندامة المأخوذون بشؤم كفرهم ومعاصيهم المجزيون بفواسد ما اقترفوا من الجرائم والآثام لذلك
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ مطبقة مغلقة مكتوبة محفوفة بحيث لا يمكنهم التنفس فيها أصلا لكونهم
Icon