ولما نزلت كبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فسنّ التكبير آخرها وروى الأمر به خاتمتها وخاتمة كل سورة بعدها وهو الله أكبر أو لا إله إلا الله والله أكبر.
﴿ بسم الله ﴾ الملك ذي الجلال والإكرام ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ بنعمته الخاص والعام ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل ودّه بإتمام الإنعام.
ﰡ
وقال قتادة : أقسم بالضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى وبليلة المعراج التي عرج فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى قدّم هنا الضحى وفي السورة التي قبلها الليل ؟ أجيب : بأنّ لكل منهما أثراً عظيماً في صلاح العالم.
ولليل فضيلة السبق لقوله تعالى :﴿ وجعل الظلمات والنور ﴾ [ الأنعام : ١ ] وللنهار فضيلة النور فقدّم سبحانه هذا تارة وهذا أخرى، كالركوع والسجود في قوله تعالى :﴿ اركعوا واسجدوا ﴾ [ الحج : ٧٧ ] وقوله تعالى :﴿ واسجدي واركعي مع الراكعين ﴾ [ آل عمران : ٤٣ ] أو أنه قدّم الليل في سورة أبي بكر لأنّ أبا بكر سبقه كفر، وقدّم الضحى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه نور محض ولم يتقدّمه ذنب، أو أنّ سورة الليل سورة أبي بكر وسورة الضحى سورة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يجعل بينهما واسطة بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
فإن قيل : ما الحكمة في كونه تعالى ذكر الضحى، وهو ساعة وذكر الليل بجملته ؟ أجيب : بأنّ في ذلك إشارة إلى أن ساعة من نهار توازن جميع الليل كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم يوازن جميع الأنبياء عليهم السلام، وأيضاً الضحى وقت السرور والليل وقت الوحشة ففيه إشارة إلى أنّ سرور الدنيا أقل من شرورها، وأنّ هموم الدنيا أدوم من سرورها، فإنّ الضحى ساعة والليل ساعات.
ويروى أنّ الله تعالى لما خلق العرش أظلت عمامة سوداء ونادت ماذا أمطر ؟ فأجيبت : أن امطري السرور ساعة فلهذا ترى الهموم والأحزان دائمة والسرور قليلاً ونادراً، وقدّم ذكر الضحى وأخر الليل ؛ لأنه يشبه الموت.
تنبيه : اختلفوا في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال :
أحدها ما روى البخاري عن جندب بن سفيان قال :«اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت أمّ جميل امرأة أبي لهب، فقالت : يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث » فنزلت.
ثانيها : ما روى أبو عمرو قال :«أبطأ جبريل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى شق عليه فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو وأنزل عليه الآية ».
ثالثها : ما روي «أنّ خولة كانت تخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات فمكث النبيّ صلى الله عليه وسلم أياماً لا ينزل عليه الوحي، فقال صلى الله عليه وسلم يا خولة ما حدث في بيتي إنّ جبريل عليه السلام لا يأتيني قالت خولة : فكنست فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميت فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ترعد لحياه وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة، فقال : يا خولة، دثريني فأنزل الله تعالى هذه السورة.
ولما نزل جبريل عليه السلام سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن التأخير فقال : أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ».
رابعها : ما روي «أنّ اليهود سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف ؟ فقال صلى الله عليه وسلم سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى :﴿ ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً ٢٣ إلا أن يشاء الله ﴾ [ الكهف : ٢٣ ] فأخبره بما سئل عنه، وفي هذه القصة نزلت ﴿ ما ودّعك ربك ﴾ » واختلفوا في مدّة احتباس الوحي عنه. فقال ابن جرير : اثنا عشر يوماً. وقال ابن عباس : خمسة عشر يوماً. وقال مقاتل : أربعون يوماً. قالوا : وقال المشركون : إنّ محمداً ودّعه ربه وقلاه فأنزل الله تعالى هذه السورة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك ؟ فقال جبريل عليه السلام : إني كنت إليك أشدّ شوقاً ولكني عبد مأمور وأنزل الله تعالى :﴿ وما نتنزل إلا بأمر ربك ﴾ » [ مريم : ٦٤ ].
قال البقاعي : إنّ الناس على أربعة أقسام : منهم من له الخير في الدارين وهم أهل الطاعة الأغنياء، ومنهم : من له الشرّ فيهما وهم الكفرة الفقراء، ومنهم من له صورة خير في الدنيا وشرّ في الآخرة وهم الكفرة الأغنياء، ومنهم من له صورة شرّ في الدنيا وخير في الآخرة وهم المؤمنون الفقراء. وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أهل البيت أختار الله لنا الآخرة على الدنيا ».
قال ابن عباس : له الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. فإن قيل : ما هذه اللام الداخلة على سوف ؟ أجيب : بأنها لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف تقديره : ولأنت سوف يعطيك، وذلك أنها لا تخلو من أن تكون لام قسم ابتداء، ولام الابتداء، لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر فلا بدّ من تقدير مبتدأ وخبر، وأن يكون أصله : ولأنت سوف يعطيك.
فإن قيل : ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير ؟ أجيب : بأن معناه : أنّ العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة على أنه تعالى أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بالحال التي كان عليها.
وقال السدي : وجدك ضالاً، أي : في قوم ضلال فهداهم الله تعالى بك، أو فهداك على إرشادهم. وقيل : وجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها. وقيل : ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فذكرك كقوله تعالى :﴿ أن تضل إحداهما ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ]. وقيل : وجدك طالباً للقبلة فهداك إليها. كقوله تعالى :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] الآية، ويكون الضلال بمعنى الطلب لأنّ الضال طالب وقيل : وجدك ضائعاً في قومك فهداك إليهم، ويكون الضلال. بمعنى المحبة كما قال تعالى :﴿ تالله إنك لفي ضلالك القديم ﴾ [ يوسف : ٩٥ ]، أي : محبتك. قال الشاعر :
هذا الضلال أشاب مني المفرقا | والعارضين ولم أكن متحققا |
عجباً لعزة في اختيار قطيعتي | بعد الضلال فحبلها قد أخلقا |
يا رب ردّ ولدي محمداً | اردده ربي واصطنع عندي يدا |
وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره فقوله تعالى :﴿ ووجدك ضالاً فهدى ﴾، أي : وجد قومك ضلالاً فهداهم بك، وقيل : غير ذلك. قال الزمخشري : ومن قال : كان على أمر قومه أربعين سنة فإن أراد أنه كان على خلوّهم من العلوم السمعية فنعم، وإن أراد أنه كان على كفرهم ودينهم فمعاذ الله والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوّة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة، فما بال الكفر والجهل بالصانع ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، وكفى بالنبيّ نقيصة عند الكفار أن يسبق له كفر.
وقيل : أغناك بمال خديجة وتربية أبي طالب، ولما اختل ذلك أغناه بمال أبي بكر ولما اختل ذلك أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم. روى الزمخشري : أنه صلى الله عليه وسلم قال :«جعل رزقي تحت ظل رمحي ». وقال الرزاي : العائل ذو العيلة ثم أطلق على الفقير، ويجوز أن يراد ووجدك ذا عيال لا تقدر على التوسعة عليهم فأغناك بما جعل لك من ربح التجارة، ثم من كسب الغنائم.
وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته، قلت : يا رب إنك آتيت سليمان بن داود ملكاً عظيماً، وآتيت فلاناً كذا قال : يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويتك، قلت : بلى يا رب. قال : ألم أجدك ضالاً فهديتك ؟ قلت : بلى يا رب، قال : ألم أجدك عائلاً فأغنيتك ؟ قلت : بلى يا رب ». وفي رواية «ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك ؟ قلت بلى يا رب ».
اليتيم منصوب بتقهر، وبه استدل ابن مالك على أنه لا يلزم من تقديم المعمول تقديم العامل، ألا ترى أنّ اليتيم منصوب بالمجزوم وقد تقدّم على الجازم، ولو تقدّم على لا، لامتنع ؛ لأنّ المجزوم لا يتقدّم على جازمه كالمجرور لا يتقدّم على جاره وفي الآية دلالة على اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه، وقال صلى الله عليه وسلم «من ضمّ يتيماً وكان في نفقته وكفاه مؤنته كان له حجاباً من النار يوم القيامة ». وقال :«من مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة ». وقال قتادة : كن لليتيم كالأب الرحيم.
فإن قيل : ما الحكمة في أن الله تعالى اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم اليتم ؟ أجيب : بوجوه :
أحدها : أن يعرف حرارة اليتيم فيرفق باليتيم.
ثانيها : يشاركه في الاسم فيكرمه لأجل ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا سميتم الولد محمداً فأكرموه ووسعوا له في المجلس ».
ثالثها : ليستند من أوّل عمره على الله تعالى فيشبه إبراهيم عليه السلام في قوله : حسبي من سؤالي علمه بحالي.
رابعها : أنّ اليتيم تظهر عيوبه فلما لم يجدوا عيباً لم يجدوا فيه مطعناً.
خامسها : جعله يتيماً ليعلم كل أحد أن فضيلته ابتداء من الله تعالى لا من تعليم، لأن من له أب فإنه يؤدّبه ويعلمه.
سادسها : اليتم والفقر نقص في العادة فكونه صلى الله عليه وسلم مع هذين الوصفين من أكرم الخلق كان ذلك قلباً للعادة فيكون معجزة.
وقيل : أما أنه ليس السائل المستجدي ولكن طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره.
والمعنى : إنك كنت يتيماً وضالاً وعائلاً فآواك الله وهداك وأغناك، فمهما يكن من شيء فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث، واقتد بالله فتعطف على اليتيم وآوه فقد ذقت اليتم وهوانه ورأيت كيف فعل الله تعالى بك، وترحم على السائل وتفقده بمعروفك ولا تزجره عن بابك كما رحمك ربك فأغناك بعد الفقر، وحدث بنعمة الله كلها. ويدخل تحت هدايته الضلال وتعليمه الشرائع، والقرآن مقتد بالله تعالى في أن هداه من الضلالة.
وقال مجاهد : تلك النعمة هي القرآن، والتحديث به أن يقرأ ويقرئ غيره. وعنه أيضاً : تلك النعمة هي النبوّة، أي : بلغ ما أنزل إليك من ربك. وقيل : تلك النعمة هي أن وفقك الله سبحانه وتعالى فراعيت حق اليتيم والسائل فحدّث بها ليقتدي بك غيرك. وعن الحسن بن علي قال : إذا عملت خيراً فحدّث به إخوانك ليقتدوا بك إلا أن هذا لا يحسن إلا إذا لم يتضمن رياء وظن أنّ غيره يقتدي به كما علم مما مرّ. وروي «أنّ شخصاً كان جالساً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فرآه رث الثياب فقال له صلى الله عليه وسلم ألك مال ؟ قال : نعم. فقال له صلى الله عليه وسلم إذا آتاك الله مالاً فلير أثره عليك ». وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ الله جميل يحب الجمال » ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده ». فإن قيل : ما الحكمة في أن الله تعالى أخر حق نفسه عن حق اليتيم والسائل ؟ أجيب : بكأنه يقول : أنا أغنى الأغنياء وهما محتاجان، وحق المحتاج أولى بالتقديم وأختار قوله سبحانه وتعالى : فحدث على قوله تعالى فأخبر ليكون ذلك حديثاً عنه لا ينساه ويعيده مرّة بعد أخرى.