تفسير سورة هود

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة هود من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ قال ابن عباس: هذه السورة مكية كلها. وعنه أيضاً: انها مكية إلا قوله:﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ ﴾[هود: ١٢]، الآية. وكتاب خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطعة كقوله:﴿ الۤـمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ ﴾[البقرة: ١-٢].
وأحكت صفة له. ومعنى الاحكام: نظمه نظماً رصيفاً لا نقص فيه ولا خلل. والهمزة في " أحكمت " للنقل وأصله حكم فهو حكيم، ثم أدخلت عليه همزة النقل فصار يتعدى لواحد ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والاحكام والمواعظ والبعث بعد الموت والقصص. أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية آية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد، أي بيّن. ولخص من لدن، تقدم الكلام عليه في آل عمران حكيم بمعنى محكم وهي صفة راجعة لقوله: أحكمت خبير عالم بخفايا الأشياء راجع لقوله: ثم فصلت، وكان العطف بثم لتراخي أوامر التفصيل ونواهيه عن المنزل بالاحكام. ومن لدن يتعلق بأحد الفعلين من باب الاعمال، ومن حيث المعنى تتعلق بهما. و ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ ﴾ يحتمل أن يكون حرف ان تفسير، لأن في تفصيل الآيات معنى القول وهذا أظهر. ويجوز أن تكون ان الناصبة للمضارع ولا نفي، وعلامة النصب حذف النون. ويجوز أن تكون أن مصدرية وصلت بفعل النهي وعلامة الجزم فيه حذف النون. والظاهر عود الضمير في منه إلى الله تعالى أي انني لكم نذير من جهته وبشير فيكون في موضع الصفة فيعلق بمحذوف، أي كائن من جهته، أو يعلق بنذير، أي أنذركم من عذابه إن كفرتم وأبشركم بثوابه ان آمنتم.﴿ وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ ﴾ هذا أمر بالاستغفار يرجح أن يكون ان لا تعبدوا نهياً نهي، ثم أمر كقوله: وقوفاً بها على مطيهم   يقولون لا تهلك أسى وتجملوالاستغفار: طلب المغفرة وهي الستر، والتوبة: الانسلاخ من المعاصي والندم على ما سلف منها والعزم على عدم العود إليها. وتقدم أمران بينهما تراخ وترتب عليهما جواباً بينهما تراخ ترتب على الاستغفار التمتيع المتاع الحسن في الدنيا. وترتب على التوبة إيتاء الفضل في الآخرة وناسب كل جواب لما وقع جواباً له لأن الاستغفار من الذنب أول حال الراجع إلى الله تعالى فناسب ان يرتب عليه حال الدنيا. والتوبة هي المنجية من النار والتي تدخل الجنة، فناسب أن يرتب عليها حال الآخرة. والضمير في " فضله " يحتمل أن يعود على الله، أي يعطي في الآخرة كل من كان له فضل في عمل الخير وزيادة ما تفضل به عليه تعالى وزيادة. ويحتمل أن يعود على كل، أي جزاء ذلك الفضل الذي عمله في الدنيا لا يبخس منه شيئاً. والظاهر ان تولوا مضارع حذف منه التاء أي وإن تتولوا. وقيل: هو ماض للغائبين. والتقدير فقل لهم: إني أخاف عليكم. ووصف يوم بكبير، وهو يوم القيامة لما يقع فيه من الأهوال.﴿ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ أي إلى جزائه.﴿ مَرْجِعُكُمْ ﴾ أي يوم القيامة.﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ﴾ الآية، قال ابن عباس: نزلت في الأخنس بن شريق كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف أنه ليحبه ويضمر خلاف ما يظهر. وقيل غير ذلك.﴿ لِيَسْتَخْفُواْ ﴾ أي من الله، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على أزورارهم. والضمير في منه عائد على الله تعالى، والذي يظهر من أسباب النزول أنه عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما قيل ان هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمتستر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه وكراهة للقائه، وهم يظنون ان ذلك يخفى عليه أو عن الله تعالى. فنزلت الآية. فعلى هذا يكون " ليستخفوا " متعلقاً بقوله: يثنون صدورهم. ومعنى يستغشون ثيابهم: يجعلونها أغشية. ومنه قول الخنساء: أرعى النجوم وما كلفت رعيتها   وتارة أتغشى فضل أطماريوانتصب حين بقوله: يعلم. وقال الزمخشري: يريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم. وقال أبو البقاء: إلا حين العامل في الظرف محذوف أي إلا حين يستغشون ثيابهم يستخفون. وتقدير الزمخشري وأبي البقاء إضمار لا يحتاج إليه.
﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ الآية. الدابة هنا عام في حيوان يحتاج إلى رزق. وعلى الله ظاهر في الوجوب، وإنما هو تفضل. ولكنه لما ضمن تعالى أن يتفضل عليهم أبرزه في حيز الوجوب. قال ابن عباس: مستقرها: حيث تأوي إليه من الأرض. ومستودعها: الموضع الذي تموت فيه فتدفن. ومن دابة في موضع مبتدأ. ومن زائدة لاستغراق الجنس. ورزقها مبتدأ. وعلى الله خبره، والجملة خبر المبتدأ، والتقدير وما من دابة إلا رزقها كائن على الله تعالى.﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى ما يدل على كونه عالماً ذكر ما يدل على كونه قادراً. وتقدم تفسير الجملة الأولى في سورة يونس. والظاهر أن قوله: وكان عرشه على الماء، تقديره قبل خلق السماوات والأرض، وفي هذا دليل على أن الماء والعرش كانا مخلوقين قبل. والظاهر تعلق ليبلوكم بخلق، أي خلقهن بحكمة بالغة وهي ان يجعلها مساكن لعباده وينعم عليهم فيها بفنون النعم ويكلفهم فعل الطاعات واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه. ومعنى ليبلوكم، أي ليختبركم وأيكم أحسن مبتدأ وخبر في موضع نصب بقوله: ليبلوكم، وهو معلق، لأن الاختبار فيه معنى التمييز والعلم. وذكر الزمخشري: ان استمع تعلق، ومثله بقوله: استمع أيهم مبتدأ أحسن صوتاً. " انتهى ". ولا أعلم أحداً ذكر ان استمع تعلق، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب سل وانظر. وفي جواز تعليق رأي البصرية خلاف ولذلك علق عن جملة الاستفهام. والظاهر الإِشارة بهذا إلى القول، أي أن قولكم إنكم مبعوثون إلا سحر، أي بطلان هذا القول كبطلان السحر. والظاهر أن العذاب هو العذاب الموعود به. والأمة هنا المدة من الزمان.﴿ مَا يَحْبِسُهُ ﴾ استفهام قالوه على سبيل التكذيب والاستهزاء. والظاهر أن يوم منصوب بقوله: مصروفاً، فهو معمول لخبر ليس وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها، قالوا: لأن تقدم المعمول يؤذن بتقدم العامل، ونسب هذا المذهب لسيبويه، وعليه أكثر البصريين، وذهب الكوفيون والمبرد إلى أنه لا يجوز ذلك وقالوا: لا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل، وأيضاً فإن الظرف والمجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما نحو: ان اليوم زيداً مسافر. وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقدم خير ليس عليها ولا بمعموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية. وقول الشاعر: فيأبى فما يزداد إلا لجاجة   وكنت أبياً في الخنا لست أقدموتقدم تفسير جملة: وحاق بهم.﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ ﴾ الآية، الظاهر أن الإِنسان هنا جنس، والمعنى أن هذا الخلق في سجايا الناس ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإِيمان إلى الصبر والعمل الصالح ولذلك جاء الاستثناء منه في قوله: إلا الذين صبروا متصلاً.﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ ﴾ الآية، كانوا يقترحون عليه الآيات تعنتاً لا استرشاداً لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في إرشادهم. وضائق: اسم فاعل، من ضاق وعبر بضائق دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع تارك، وان كان ضيق أكثر استعملاً لأنه وصف لازم وضائق وصف عارض، ولأن اسم الفاعل من الثلاثي إذا لم يأت على وزن فاعل نحو فرح وثقيل. وأريد الحدوث به بني على فاعل كثقل فهو ثاقل وفرح فهو فارح، ولذلك جاء اسم الفاعل من ضاق على فاعل لحدوثه إذ ليس وصفاً لازماً فيجيء على ضيق.﴿ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ ﴾ أي ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه وما عليك ردوا أو تهاونوا أو اقترحوا.﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ يحفظ ما يقولون وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل فتوكل عليه وكل أمرك إليه.
﴿ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ ﴾ الآية، الظاهر أن أم منقطعة فتقدر ببل، والهمزة أي بل أيقولون افتراه، والضمير في افتراه عائد على قوله: يوحى إليك وهو القرآن. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لا تتعلق أطماعهم بأن يترك بعض ما أوحي إليه إلا لدعواهم أنه ليس من عند الله وأنه هو الذي افتراه وإنما تحداهم أولاً بعشر سور مفتريات قبل تحديهم بسورة إذ كانت هذه السورة مكية، والبقرة مدنية، وسورة يونس أيضاً مكية، ومقتضى التحدي بعشر سور أن يكون قبل طلب المعارضة بسورة فلما نسبوه إلى الافتراء طلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات إرخاء لعنانهم وكأنه يقول: هبوا اني اختلقته ولم يوح إلي فأتوا أنتم بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام. وإنما عنى بقوله: مثله من حسن النظم والبيان وإن كان مفترى. وشأن من يريد تعجيز شخص أن يطالبه أولاً بأن يفعل أمثالاً مما يفعل هو ثم إذا تبين له عجزه قال له: إفعل مثالاً واحداً.﴿ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ﴾ الذي يظهر أن الضمير في فإِن لم يستجيبوا عائد على من استطعتم. ومن لكم عائد على الكفار لعود الضمير على أقرب مذكور، ولكون الخطاب يكون لواحد ولترتب الجواب على الشرط ترتباً حقيقياً من الأمر بالعلم. ولا يتجوز بأنه أريد به فدوموا على العلم بأن لا إله إلا هو ولا أن يكون قوله: فهل أنتم مسلمون تحريضاً على تحصيل الإِسلام لا انه يراد به الإِخلاص ولما طولبوا بالمعارضة وأمروا بأن يدعوا من يساعدهم، فلم تمكن المعارضة ولا استجاب أصنامهم وآلهتهم لهم أمروا بأن يعلموا أنه من عند الله وليس مفترى، فيُمكن معارضته وأنه تعالى هو المختص بالألوهية لا يشركه في شىء منها آلهتهم وأصنامهم فلا يمكن أن يجيبوا لظهور عجزهم، وانها لا تنفع ولا تضر في شىء من المطالب.﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا ﴾ الآية، مناسبتها مما قبلها أنه تعالى لما ذكر أشياء من أحوال الكفار المنافقين في القرآن، ذكر شيئاً من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة. وظاهر من العموم في كل من يريد زينة الحياة الدنيا والجزاء مقرون بمشيئة الله تعالى. وجاء فعل الشرط ماضياً في قوله: من كان، وفعل الجزاء مضارعاً مجزوماً وهو نوّف والجزم أفصح من الرفع إذ لو جاء نوفى مرفوعاً لكان جائزاً كما قال الشاعر: وان أتاه خليل يوم مسألة   يقول لا غائب مالي ولا حرمفرفع يقول ولو جزمه لكان أفصح كالآية وأفرد الضمير في كان يريد على لفظ من وجمعه في قوله إليهم مراعاة للمعنى. والضمير في قوله: ما صنعوا فيها الظاهر أنه عائد على الآخرة والمجرور متعلق بحبط. والمعنى وظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة ويجوز أن يتعلق بقوله: صنعوا، فيكون عائداً على الحياة الدنيا كما عاد عليها في فيها قبل وما في ما صنعوا بمعنى الذي أو مصدرية وباطل وما بعده توكيد لقوله: وحبط ما صنعوا. وباطل خبر مقدم إن كان من عطف الجمل وما كانوا هو المبتدأ وان كان خبراً بعد خبر ارتفع ما بباطل على الفاعلية.﴿ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ الآية لما ذكر حال من يريد الحياة الدنيا ذكر حال من يريد وجه الله بأعماله الصالحة. وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة والتقدير كمن يريد الحياة الدنيا، وكثيراً ما حذف في القرآن كقوله تعالى:﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ﴾[فاطر: ٨]، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره كان على بينة أي على برهان من الله وبيان أنّ دين الإِسلام حق، وهو دليل العقل.﴿ وَيَتْلُوهُ ﴾ ويتبع ذلك البرهان.﴿ شَاهِدٌ مِّنْهُ ﴾ أي شاهد بصحته وهو القرآن منه أي من الله تعالى أو شاهد من القرآن.﴿ وَمِن قَبْلِهِ ﴾ أي ومن قبل القرآن.﴿ كِتَابُ مُوسَىٰ ﴾ وهو التوراة أي ويتلو ذلك أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى. والإِشارة بأولئك إلى من كان على بينة راعى معنى من فجمع.﴿ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ ﴾ أي مكان وعده الذي يصير إليه وقال حسان: أوردتموها حياض الموت ضاحية   فالنار موعدها والموت لاقيها﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً ﴾ تقدم تفسير نظير هذه الجملة والإِشهاد جمع شاهد كصاحب وأصحاب أو جمع شهيد كشريف وأشراف. والاشهاد: الملائكة الذي يحفظون عليهم أعمالهم في الدنيا. وفي قوله: هؤلاء، إشارة إلى تحقيرهم وإصغارهم بسوء مرتكبهم. وفي قوله: على ربهم أي على من يحسن إليهم ويملك نواصيهم، وكانوا جديرين بأن لا يكذبوا عليه.﴿ مِنْ أَوْلِيَآءَ ﴾ إسم لكان. ومن: زائدة. والضمير في ما كانوا عائد على أولياء ومعنى أنه من لا يستطيع أن يسمع ولا يبصر فكيف يصلح للولاية، ويكون يضاعف لهم العذاب اعتراضاً. وقيل: ما مصدرية، أي يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم وإبصارهم، والمعنى أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد. و ﴿ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ خسران أنفسهم كونهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى فخسروا في تجارتهم خسراناً لا أعظم منه. وهو على حذف مضاف أي راحة وسعادة أنفسهم.﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ مذهب الخليل وسيبويه أنهما رُكّبا مِن لا وجرم وبنيا والمعنى حق وما بعده رفع به على الفاعلية. وقال الكسائي: معناها لا صد ولا منع فيكون اسم لا وهي مبنية على الفتح. وقال قوم: انّ جرم مبنية مع لا على الفتح نحو قولك: لا رجل ومعناها لا بد ولا محالة، وهو شبيه بقول الكسائي فيكون ان لهم على إسقاط حرف الجر إذ صار التقدير لا بد من أن لهم النار أي من كينونة النار لهم ولما كان خسران النفس أعظم الخسران حكم عليهم بأنهم هم الزائدون في الخسران على كل خاسر من سواهم.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ الآية، والفريقان هنا الكافر والمؤمن، ولما كان تقدم ذكر الكفار وأعقب بذكر المؤمنين جاء التمثيل هنا مبتدأ بالكافر، فقال: كالأعمى والأصم. ويمكن أن يكون من باب تشبيه اثنين باثنين فقوبل الأعمى بالبصير وهو طباق، وقوبل الأصم بالسميع وهو طباق أيضاً.﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ ﴾ استفهام معناه النفي أي لا يستويان مثلاً أي صفة.﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً ﴾ الآية.﴿ أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ ﴾ ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان كما جاء مصرحاً به في غير هذه السورة وان بدل من أني لكم في قراءة من فتح ويحتمل أن تكون أنْ المفسرة واما في قراءة من كسر فيحتمل أن تكون المفسرة والمراعى قبلها اما أرسلنا واما نذير مبين. ويحتمل أن تكون معمولة لا أرسلنا أي بأن لا تعبدوا إلا الله وذكروا في بادىء الرأي أنه منصوب على الظرف. والظاهر ان العامل فيه اتبعك وان كان الظرف جائياً بعد إلا. والمعنى اتبعك في بادىء رأيهم أراذلنا. وقرىء: بادىء الرأي من بدأ يبدأ. ومعناه أول الرأي. وقرىء: بادي بالياء من بدا يبدو، ومعناه ظاهر الرأي.﴿ قَالَ يٰقَوْمِ ﴾ لما حكى شبهتهم في إنكار نبوته عليه السلام وهي قولهم: ما نراك إلا بشراً مثلنا، ذكر أن المساواة في البشرية لا تمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة والرسالة، ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه على جهة التعليق والإِمكان، وهو متيقن أنه على بينة من ربه ومن معرفته وتوحيده وما يجب له وما يمتنع، لكنه ابرزه في طريق الشرط والجزاء على سبيل الفرض لهم والاستدراج للإِقرار بالحق وقيام الحجة على الخصم. والبينة: البرهان والشاهد بصحة دعواه. و ﴿ رَحْمَةً ﴾ قال ابن عباس: الرحمة النبوة.﴿ فَعُمِّيَتْ ﴾ مبنياً للمفعول مع شد الميم. والظاهر أن الضمير عائد على البينة، وبذلك يحصل الذم لهم من أنه أتى بالمعجزة الجليلة الواضحة وانها على وضوحها واستنارتها خفيت عليهم.﴿ أَنُلْزِمُكُمُوهَا ﴾ تعدى لمفعولين أحدهما ضمير الخطاب. والثاني ضمير الغيبة واتصاله أفصح. ويجوز في الكلام انفصاله فتقول: أنلزمكم إياها.﴿ وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً ﴾ الآية، تلطف نوح عليه السلام بندائه إياهم بقوله: ويا قوم. ويا قوم استدراجاً لهم في قبول كلامه كما تلطف مؤمن آل فرعون بقوله: يا قوم يا قوم. والضمير في عليه عائد على الإِنذار. وافراد الله تعالى بالعبادة المفهوم من قوله: اني لكم نذير مبين ان لا تعبدوا إلا الله. وتقدم تفسير الجمل الثلاثة في الانعام. و ﴿ تَزْدَرِيۤ ﴾ تفتعل. والدال بدل من التاء. قال الشاعر: ترى الرجل النحيف فتزدريه   وفي أنوابه أسد هصوروالعائد على الموصول محذوف، أي تزدريهم، أي تستحقرهم أعينكم. و ﴿ لَن يُؤْتِيَهُمُ ﴾ معمول لقوله: ولا أقول، وللذين معناه لأجل الذين.﴿ قَدْ جَادَلْتَنَا ﴾ الظاهر المبالغة في الخصومة والمناظرة.﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ ﴾ إشارة إلى قوله: إني أخاف عليكم عذاب يوم اليم. وبما يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي. وحذف العائد تقديره بما تعدنا به ويجوز أن تكون مصدرية، أي بوعدك إيانا.﴿ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ ﴾ الآية، أي ليس ذلك إلي، إنما هو لله الذي يعاقبكم على عصيانكم إن شاء فعل. ولما قالوا قد جادلتنا وطلبوا تعجيل العذاب، وكان مجادلته لهم إنما هو على سبيل النصح والإِنقاذ من عذاب الله تعالى. قال: ﴿ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ ﴾ وهذان الشرطان اعتقب الأول منهما قوله: ولا ينفعكم نصحي، وهو دليل على جواب الشرط تقديره إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي. والشرط الثاني اعتقب الأول وجوابه أيضاً ما دل عليه قوله: ولا ينفعكم نصحي، تقديره ان كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي وصار الشرط الثاني شرطاً في الأول، وصار المتقدم متأخراً، والمتأخر متقدماً. وكان التركيب إن أردت أن أنصح لكم ان كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي وهو من حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو: إن كان الله يريد أن يغويكم. فإِن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي.
﴿ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ ﴾ الآية، الظاهر أن الضمير في يقولون عائد على قوم نوح، أي بل أيقولون افتراه فيما أخبرهم به من دين الله وعقاب من أعرض عنه. فقال عليه الصلاة والسلام:" ان افتريته فعلي إجرامي "، أي إثم إجرامي. والإِجرام مصدر أجرم.﴿ وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ ﴾ الآية.
﴿ فَلاَ تَبْتَئِسْ ﴾ نهاه تعالى عن ابتئاسه وهو حزنه عليهم في استكانة. وابتئس: افتعل من البؤس. ويقال: ابتأس الرجل، إذا أبلغه شىء يكرهه. قال الشاعر: وكم من خليل أو حميم رزئته   فلم تبتئس والرزء فيه جليل﴿ وَٱصْنَعِ ﴾ عطف على فلا تبتئس.﴿ بِأَعْيُنِنَا ﴾ بمرأى منا وكلاءة وحفظ.﴿ وَوَحْيِنَا ﴾ نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع. وعن ابن عباس: لم يعلم كيف صنعه الفلك فأوحى الله تعالى أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.﴿ وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ ﴾ الآية، هي حكاية حال ماضية. والفلك: السفينة. قال ابن عباس: الخشب من خشب السمسار وهو البقص قطعة من جبل لبنان وسخريتهم منه لكونهم رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت. قالوا: يا نوح ما تصنع؟ قال: أبني بيتاً يمشي على الماء. فتعجبوا من قوله وسخروا منه وقالوا: هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجاراً. وكلما: ظرف. وما: مصدرية ظرفية تقديره وكل وقت مرور سخروا منه. والناصب لكل سخروا.﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ تهديد بالغ. والعذاب المخزي: الغرق، والعذاب المقيم: عذاب الآخرة، لأنه دائم عليهم سرمد. و ﴿ مَن يَأْتِيهِ ﴾ مفعول بتعلمون. ومن موصولة. وتعدي تعلمون إلى واحد استعمالاً لها استعمال عرف في التعدية إلى واحد. قال ابن عطية: وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين واقتصر على واحد. " انتهى ". ولا يجوز حذف الثاني اقتصاراً لأن أصله خبر مبتدأ ولا اختصاراً هنا لأنه لا دليل على حذفه. وحتى هنا: غاية لقوله: ويصنع الفلك ويصنع كما قلنا حكاية حال ماضية، أي وكان يصنع الفلك إلى أن جاء الوعد الموعود به. والجملة من قوله: وكلما مر عليه حال كأنه قيل: ويصنعها. والحال أنه كلما مروا وأمرنا واحد الأمور أو مصدر، أي أمرنا بالفوران أو للسحاب بالإِرسال والملائكة بالتصرف في ذلك وفار معناه انبعث بقوة والتنور وجه الأرض والعرب تسميه تنوراً، قاله ابن عباس. والتنور: مستوقد النار، وزنه فعول عند أبي علي وهو أعجمي وليس بمشتق. وقال ثعلب: وزنه مفعول من النور. وأصله تنووُر، فهمزت الواو ثم خففت وشدد الحرف الذي قبله. وقرىء: من كل بالتنوين. فيكون زوجين مفعولاً بقوله: احمل. وقرىء: بغير تنوين على الإِضافة، فيكون اثنين مفعول احمل وأهلك ومن معطوفان على المفعول قبله ولما كان المطر ينزل كأفواه القرب، جعلت الوحوش تطلب وسط الأرض هرباً من الماء حتى اجتمعت عند السفينة فأمر الله تعالى أن يجعل فيها من الزوجين اثنين يعني ذكراً وأنثى ليبقى أصل النسل بعد الطوفان. فروي أنه كان يأتيه أنواع الحيوان فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى. وكانت السفينة ثلاث طبقات السفلى للوحوش، والوسطى للطعام والشراب، والعليا له ولمن آمن معه.﴿ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ قال ابن عباس: ثمانون رجلاً، وعنه ثمانون إنساناً ثلاثة من بنيه سام وحام ويافث، وثلاثة كنائن له ولما خرجوا من السفينة بنو قرية تدعى اليوم قرية الثمانين بناحية الموصل.
﴿ وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا ﴾ الآية، الضمير في وقال عائد على نوح عليه السلام، أي وقال نوح حين أمر بالحمل في السفينة لمن آمن معه ومن أُمر بحمله اركبوا فيها. والظاهر أنه خطاب لمن يعقل خاصة لأنه لا يليق بمن لا يعقل. وعدي اركبوا بفي لتضمنه معنى صيروا فيها أو ادخلوا فيها، والتقدير اركبوا الماء فيها. والباء في ﴿ بِسْمِ ٱللَّهِ ﴾ في موضع الحال أي متبركين باسم الله. ومجراها ومرساها منصوبان اما على أنهما ظرفا زمان أو مكان لأنهما يجيئان لذلك، أو ظرفا زمان على جهة الحذف كما حذف من جئتك مَقْدَم الحاج. ويجوز أن يكون مجراها ومرساها مرفوعين على الابتداء. وبسم الله الخبر.﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ ﴾ إخبار من الله تعالى بما جرى للسفينة. وبهم حال، أي ملتبسة بهم. والمعنى تجري وهم فيها.﴿ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ ﴾ أي في موج الطوفان شبه كل موجة منه بجبل في تراكمها وارتفاعها. وقوله: في موج، يدل على أن الموج كان ظرفاً لهم، وهم مظروفون فيه وكانت السفينة تسبح بهم في الماء كالسمكة.﴿ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ ﴾ الآية، الواو لا ترتب وهذا النداء كان قبل جري السفينة في قوله: وهي تجري بهم، وفي إضافته إليه هنا. وفي قوله: ان ابني من أهلي، وندائه دليل على أنه ابنه لصلبه، قاله ابن عباس: والضمير في كان عائد على ابنه. وأدغم بعض القراء الباء في الميم في اركب معنا، لاشتراكهما في أنهما من حروف الشفة، ولذلك أبدلت في قول بعضهم باسمك، يريدون ما اسمك، ونداؤه بالتصغير خطاب تحنن ورأفة. والمعنى اركب معنا في السفينة فتنجو.﴿ وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ فتهلك. وظن ابن نوح أن ذلك المطر والتفجر على العادة ولذلك:﴿ قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ ﴾ أي من وصول الماء إليّ فلا أغرق. وهذا يدل على تماديه في الكفر وعدم وثوقه بأبيه فيما أخبر. وقيل: والجبل الذي عناه طور زيتا فلم يمنعه. والظاهر إبقاء عاصم على حقيقته وانه نفي كل عاصم من أمر الله في ذلك الوقت وان من رحم يقع فيه من على المعصوم. والضمير الفاعل يعود على الله تعالى. وضمير الموصول محذوف ويكون الاستثناء منقطعاً، أي لكن من رحمه الله معصوم.﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ ﴾ أي بينه وبين نوح عليه السلام. قيل: كانا يتراجعان الكلام فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكباً على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه. وحيل بينه وبين نوح فغرق.﴿ وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ ﴾ الآية، في هذه الآية أحد وعشرون نوعاً من البديع المناسبة في قوله: اقلعي وابلعي والمطابقة بذكر الأرض والسماء. والمجاز في قوله: يا سماء والمراد مطر السماء. والاستعارة في قوله: اقلعي. والإِشارة في قوله: وغيض الماء فإِنها إشارة إلى معان كثيرة، والتمثيل في قوله: وقضي الأمر عبر بإِهلاك الهالكين ونجاة الناجين بلفظة فيها بعد عن لفظة الموضوع له، والارداف في قوله: واستوت على الجودي، فقوله: استوت، كلام تام وعلى الجودي مردف قصداً للمبالغة في التمكن بهذا المكان. والتعليل في قوله: وغيض الماء، فإِن ذلك علة الاستواء وصحة التقسيم باستيعاب اقسام الماء في حالة نقصه إذ ليس إلا احتباس ماء السماء واحتقان ماء الأرض، وغيض الماء حاصل على ظهرها، والاحتراس في قوله: وبعداً للقوم الظالمين وهو أيضاً ذم لهم ودعاء عليهم والإِيضاح بقوله: الظالمين بين أنهم هم القوم الذين سبق ذكرهم في قوله:﴿ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ ﴾[هود: ٣٨].
فالألف واللام في القوم للعهد لو سقط لفظة القوم هنا لحصل لبس في المعنى والمساواة فلفظها مساوٍ لمعناها وحسن النسق لعطف قضايا بعضها على بعض، والإِيجاز لذكر القصة باللفظ القصير مستوعباً للمعاني الجمة والتسهيم، لأن أول الآية يا أرض ابلعي، فاقتضى آخرها ويا سماء اقلعي. والتهذيب لأن مفردات الألفاظ موصوفة بكمال الحسن كل لفظة سهلة مخارج الحروف عليها رونق الفصاحة وحسن البيان والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في قرارها. والتجنيس في قوله: اقلعي وابلعي. والمقابلة في قوله: يا أرض ابلعي ويا سماء اقلعي. والذم في قوله: بعداً للقوم الظالمين. والوصف قصة القصة ووصفها بأحسن وصف بحيث استعمل نعوت ألفاظها وصفات معانيها، فما أعظم إعجازها من آية عدة ألفاظها تسع عشرة لفظة فيها أحد وعشرون نوعاً من البديع. والجودي اسم جبل. وهذا النداء والخطاب بالأمر هو استعارة مجازية، وعلى هذا جمهور الحذاق، وقيل: إن الله تعالى أحدث فيهما إدراكاً وفهماً لمعاني الخطاب. وروي ان إعرابياً سمع هذه الآية فقال هذا كلام القادرين. ومعنى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ ﴾ الآية، أراد أن يناديه ولذلك أدخل الفاء إذ لو أراد حقيقة النداء والاخبار عن وقوعه منه لم تدخل الفاء في فقال وإلا لسقطت، والواو في هذه الجملة لا ترتب أيضاً وذلك أن هذه القصة كانت أولى ما ركب نوح السفينة. ومعنى من أهلي أي الذي أمرت أن أحملهم في السفينة بقوله تعالى:﴿ ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾[هود: ٤٠] ولم يظن أنه داخل فيمن استثناه الله تعالى بقوله:﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ ﴾[هود: ٤٠] لظنه أنه مؤمن. وعموم قوله: ومن آمن، يشمل المؤمن من أهله ومن غيرهم. وحسَّن الخطاب بقوله: وان وعدك الحق. ومعنى ليس من أهلك على قول من قال انه ابنه لصلبه، أي الناجين، أو الذين عمّهم الوعد ومن زعم أنه ربيبه فهو ليس من أهله حقيقة إذ لا نسبة بينه وبينه بولادة فعلى هذا نفى ما قدر أنه داخل في قوله: وأهلك ثم علل انتفاء كونه ليس من أهله. بـ ﴿ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ والضمير في أنه عائد على ابن نوح. وقرىء: عمل غير صالح منوناً غير رفعاً صفة له فاحتمل قوله: انه أن يكون على حذف مضاف تقديره أيْ انّ عمله عمل غير صالح أو يكون الحذف في عمل تقديره انه ذو عمل غير صالح، أو جعله نفس العمل مبالغة في ذمه. وقرىء: وعمل فعلاً ماضياً وغير منصوب به. ومعنى قوله: ﴿ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ أي إذ وعدتك فاعلم يقيناً أنه لا خلف في الوعد فإِذا رأيت ولدك لم يحمل فكان عليك أن تقف وتعلم أن ذلك لحق واجب عند الله تعالى. وعلى هذا القدر وقع عتابه ولذلك جاء بترفق وتلطف في قوله:﴿ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾ وان أسألك في المستقبل ما لا علم لي بصحته تأديباً واتعاظاً بموعظتك.
﴿ قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ ﴾ الآية، القائل هو الله تعالى لقوله: ﴿ مِّنَّا ﴾.
وسنمتعهم أمر عند نزوله بالهبوط من السفينة أو من الجبل مع أصحابه للانتشار في الأرض. والباء للحال أي مصحوباً بسلامة وأمن.﴿ وَبَركَاتٍ ﴾ وهي الخيرات النامية في كل الجهات. والظاهر أن من لابتداء الغاية أي ناشئة من الذين معك وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر. ويجوز أن يكون وأمم مبتدأ محذوف الصفة وهي المسوغة لجواز الابتداء بالنكرة. والتقدير وأمم منهم، أي ممن معك، أي ناشئة معك. ويجوز أن يكون مبتدأ ولا تقدّر صفة والخبر سنمتعهم في التقديرين ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل، ويدل على ان الممتعين تقع منهم معاصي فلذلك قال: ثم يمسهم منا عذاب أليم.﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ ﴾ تلك: الإشارة إلى قصة نوح. وتلك: إشارة للبعيد لأن بين هذه القصة والرسول عليه السلام مُدَداً لا تحصى. ومن أنباء الغيب من: للتبعيض، وهو الذي تقادم عهده ولم يبق علمه إلا عند الله تعالى. و ﴿ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ ﴾ لتكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء ولم يكن علمها عندك ولا عند قومك، وأعلمناهم بها لتكون لهم مثالاً وتحذيراً ان يجيئهم ويصيبهم إذا كذبوك ما أصاب أولئك ولِلَحْظِ هذا المعنى ظهرت فصاحة. قوله: فاصبر، أي فاصبر على أذاهم مجتهداً في التبليغ عن الله تعالى فالعاقبة لك كما كانت لنوح عليه السلام في هذه القصة. ومعنى ما كنت تعلمها أي مفصلة كما سردناها عليك وعلم الطوفان كان معلوماً عند العالم على سبيل الإِجمال. والجملة من قوله: ما كنت تعلمها في موضع الحال من مفعول نوحيها أو من مجرور إليك.﴿ وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ﴾ الآية، وإلى عاد معطوف على قوله: أرسلنا نوحاً، عطفت الواو المجرور على المجرور والمنصوب على المنصوب.﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ﴾ قال الحسن: في جعلهم الإِلهية لغير الله تعالى.
﴿ قَالُواْ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ﴾ أي بحجة واضحة تدل على صدقك وقد كذبوا في ذلك وبهتوه. وعن في عن قولك حال من الضمير في تاركي آلهتنا، كأنه قيل: صادرين عن قولك.﴿ إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ ﴾ نسبوا ما صدر منه من دعائهم إلى الله تعالى وإفراده بالألوهية إلى الخبل والجنون وإن ذلك مما اعتراه به بعض آلهتهم لكونه سبّها وحرض على تركها، ودعا إلى ترك عبادتها. واعتراك جملة محكية بنقول فهي في موضع المفعول، ودلت على بله حيث اعتقدوا في حجارة انها تضر وتنتصر وتنتقم.﴿ مَّا مِن دَآبَّةٍ ﴾ الآية، وصف قدرة الله وعظم ملكه من كون كل دابة في قبضته وملكه وتحت قهره وسلطانه فأنتم من جملة أولئك المقهورين. وقوله: ﴿ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ ﴾ تمثيل إذ كان القادر المالك يقود المقدور عليه بناصيته كما يقاد الأسير والفرس بناصيته حتى صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة على الحيوان. وكانت العرب تجر ناصية الأسير الممنون عليه علامة أنه قد قدر عليه وقبض ناصيته. والظاهر أن الضمير في قوله: تولوا عائد على قوم هود. وخطابه لهم من تمام الجمل المقولة قبل، وتولوا صلة تتولوا حذفت التاء الثانية فصار تولوا. وجواب الشرط هو قوله: ﴿ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ﴾ ويصح أن يكون جواباً لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل فكأنه قيل: فإِن تتولوا استؤصلتم بالعذاب. ويدل على ذلك الجملة الخبرية وهي قوله: ﴿ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾.
﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً ﴾ الآية، قيل: كانوا أربعة آلاف. وقيل: ثلاثة آلاف. والظاهر تعلق ﴿ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾ بقوله: نجينا أي نجيناهم بمجرد رحمة من الله لحقتهم لا بأعمالهم الصّالحة. وقال الزمخشري: فإِن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟ قلت: ذكر أولاً أنه حين أهلك عدوهم نجاهم، ثم قال: ونجيناهم من عذاب غليظ، على معنى وكانت التنجية من عذاب غليظ. قال: وذلك ان الله تعالى بعث عليهم السَّموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم وتقطعهم عضوا عضوا.﴿ وَتِلْكَ عَادٌ ﴾ إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قيل: سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا. ثم استأنف الاخبار عنهم فقال: جحدوا بها، أي بآيات ربهم أي أنكروها. وأضاف الآيات إلى ربهم تنبيهاً على أنه مالكهم ومربيهم فأنكروا آياته، والواجب إقرارهم بها وأصل جحد أن يتعدى بنفسه لكنه أجري مجرى كفر فعدي بالباء كما عدي كفر بنفسه.﴿ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ ﴾ قيل: عصوا هوداً والرسل الذين كانوا من قبله وقيل: ينزل تكذيب الرسل الواحد منزلة تكذيب الرسل لأنهم كلهم مجمعون على الإِيمان بالله والإِقرار وبربوبيته لقوله:﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾[البقرة: ٢٨٥].
﴿ وَٱتَّبَعُوۤاْ ﴾ أي سقَّاطهم أمر رؤسائهم وكبرائهم. والمعنى أنهم أطاعوهم فيما أمروهم به.﴿ وَأُتْبِعُواْ ﴾ عام في المتبعين والمتبوعين. وانتصب بُعداً على أنه مصدر بمعنى الدعاء كأنه قيل: أبعدهم الله بعداً، ومعناه الدعاء بالهلاك وقوم هود بدل من عاد. وإنما خصهم بالذكر لأن ثم عادا أخرى وهم المشار إليهم بقوله تعالى:﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ ﴾[النجم: ٥٠] وهم عاد آدم.
﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً ﴾ الآية.﴿ هُوَ أَنشَأَكُمْ ﴾ اخترعكم.﴿ مِّنَ ٱلأَرْضِ ﴾ أي باختراع آدم عليه السلام أصلهم فكان إنشاء الأصل إنشاءً للفرع.﴿ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ ﴾ جعلكم عماراً. وقيل: استعمركم من العمر، أي استبقاكم فيها.﴿ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ ﴾ أي داني الرحمة.﴿ مُّجِيبٌ ﴾ لمن دعاه.﴿ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً ﴾ قال كعب: كانوا يرجونه للمملكة بعد مَلِكهم لأنه كان ذا حسب وثروة. وعن ابن عباس: كان فاضلاً خيراً نقدمك على جميعنا. والإِشارة بهذا إلى الأمر بعبادة الله تعالى وإفراده بها.﴿ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ﴾ حكاية حال ماضية. وفي اننا لغتان لقريش. قال الفراء: من قال اننا اخرج الحرف على أصله لأنه كناية المتكلمين فاجتمعت ثلاث نونات. ومن قال: انا استثقل اجتماعها فأسقط الثالثة وأبقى الأولتين. والذي اختاره ان نا ضمير المتكلمين لا تكون المحذوفة، لأن في حذفها حذف بعض اسم وهي منه حرف ساكن. وإنما المحذوفة النون الثانية من أنّ، فحذفت لاجتماع الأمثال وبقي من الحرف الهمزة والنون الساكنة بعد هذا أولى من حذف ما بقي منه حرف. وأيضاً فقد عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمين ولم يعهد حذف نون نا فكان حذفها من أن أولى. ومريب اسم فاعل من متعد، أرابه: أوقعه في الريبة، وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة. أو: من لازم اراب الرجل إذا كان ذا ريبة. فأسند ذلك إلى الشك إسناداً مجازياً، ووجود هذا الشك كوجود التصميم على الكفر.﴿ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي ﴾ الآية، تقدم الكلام على أرأيتم في قصة نوح عليه السلام.﴿ غَيْرَ تَخْسِيرٍ ﴾ غير أن أُخَسركم، أي أنسُبكم إلى الخسران وأقول انكم خاسرون ففعل هذا للنسبة كفسَّقتُهُ وفجرته، أي نسبته إلى الفسق والفجور. قال الزمخشري: فإن قلت: فبم يتعلق لكم؟ قلت: بآية حالاً منها متقدمة لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها، فلما تقدمت انتصبت على الحال. " انتهى ". هذا متناقض لأنه من حيث تعلق لكم بآية كان لكم معمولاً لآية وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها لأن الحال يتعلق بمحذوف فيتناقض هذا الكلام لأنه من حيث كونه معمولاً لها كانت هي العاملة ومن حيث كونه حالاً منها كان العامل غيرها. ومعنى ﴿ تَمَتَّعُواْ ﴾ استمتعوا بالعيش.﴿ فِي دَارِكُمْ ﴾ في بلدكم. وتسمى البلاد: الديار.﴿ ذٰلِكَ ﴾ أي الوعد بالعذاب.﴿ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ أي صدق حق. والأصل غير مكذوب فيه فاتسع فيه بحذفه حرف الجر وأجري الضمير مجرى المفعول به.
﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً ﴾ الكلام في جاء أمرنا كالكلام السابق في قصة هود. ومن تتعلق بمحذوف، أي ونجيناهم من خزي أي وكانت التنجية من خزي يومئذٍ. وقرىء: ومن خزي بالتنوين ونصب يومئذٍ على الظرف معمولاً لخزي، وقرىء: بالاضافة وفتح الميم والتنوين في إذ تنوين عوض من الجملة المحذوفة المتقدمة الذكر أي ومن فضيحة يومئذٍ جاء الأمر وحل بهم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يريد بيومئذٍ يوم القيامة كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة " انتهى ". وهذا ليس بجيد لأن التنوين في إذ تنوين عوض ولم تتقدم إلا قوله: فلما جاء أمرنا، ولم يتقدم جملة فيها ذكر يوم القيامة ولا ما يكون فيها فيكون هذا التنوين عوضاً من الجملة التي تكون يوم القيامة. وناسب مجيء الأمر وصفه تعالى بالقوي العزيز فإِنهما من صفات الغلبة والقهر والانتقام. والجملة التي بعد هذا تقدم الكلام عليها في الاعراف.﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِٱلْبُـشْرَىٰ ﴾ الآيات أدرج شيئاً من اخبار إبراهيم عليه السلام بين قصة صالح ولوط لأن له مدخلاً في قصة لوط وكان إبراهيم ابن خالة لوط والرسل هنا الملائكة بشرت إبراهيم عليه السلام بثلاث بشائر بالولد والخلة وبانجاء لوط ومن آمن معه. قيل: كانوا اثني عشر ملكاً، قاله ابن عباس. وانتصب سلاماً على إضمار الفعل أي سلمنا عليك سلاماً، فسلاماً قطعة معمولاً للفعل المضمر المحكي بقالوا، وسلام خبر مبتدأ محذوف أي أمري وأمركم سلام أو مبتدأ محذوف الخبر أي عليكم سلام، والجملة محكية وان كان حذف منها أحد جُزءَيْها.﴿ فَمَا لَبِثَ ﴾ من: نافية. ولبث: معناه تأخر وأبطأ وان جاء فاعل بلبث التقدير فما تأخر مجيئه ان جاء، ويجوز أن يكون في لبث ضمير إبراهيم فهو فاعل وإن جاء على إسقاط الحرف فقدر بأن وبعن وبفي وهذا من أدب الضيافة، وهو تعجيل القرى وكان مال إبراهيم البقر فقدم أحسن ما فيه وهو العجل. ومعنى: ﴿ حَنِيذٍ ﴾ أي مشوي.﴿ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ ﴾ أي إلى أكله.﴿ نَكِرَهُمْ ﴾ أي أنكرهم قال الشاعر: وأنكرتني وما كان الذي نكرت   من الحوادث إلا الشيب والصلعا﴿ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ قال الحسن: حدّث به نفسه. والظاهر أنه لم يعرف أنهم ملائكة لمجيئهم في صورة البشر وكان مشغوفاً باكرام الضيف فلذلك جاؤا في صورهم وإنما عرف أنهم ملائكة بقولهم: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة، وهي سارة بن هاران بن تاخور وهي ابنة عمه. قائمة أي لخدمة الأضياف وكان نساؤهم لا يحتجبن كعادة العرب ونازلة البوادي والصحراء ولم يكن التبرج مكروهاً عندهم وكانت عجوزاً وخدمة الضيفان مما يعدّ من مكارم الأخلاق.﴿ فَضَحِكَتْ ﴾ قال مجاهد حاضت. وقال الجمهور: هو الضحك المعروف. فقيل: هو مجاز معبّر به عن طلاقة الوجه وسروره بنجاة أخيها وهلاك قومه.﴿ فَبَشَّرْنَاهَا ﴾ هذا موافق لقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِٱلْبُـشْرَىٰ ﴾ والمعنى فبشرناها على لسان رسلنا بشرتها الملائكة بإِسحاق وبأن إسحاق سيلد يعقوب.﴿ يَٰوَيْلَتَىٰ ﴾ الألف في يا ويلتا بدل من ياء الإِضافة، ويا ويلتا كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يتعجبن منه واستفهمت بقولها: أألد، استفهام إنكار وتعجب.﴿ وَأَنَاْ عَجُوزٌ ﴾ وما بعده جملتا حال. وانتصب: ﴿ شَيْخاً ﴾، على الحال. والإِشاره بهذا أي بعلي تعجب من حدوث ولد بين شيخين هرمين واستغربت ذلك من حيث العادة لا إنكاراً لقدرة الله تعالى.﴿ قَالُوۤاْ ﴾ أي الملائكة.﴿ أَتَعْجَبِينَ ﴾ استفهام انكار لعجبها.
﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ٱلرَّوْعُ ﴾ أي الخيفة التي كان أوجبها في نفسه حين نكر أضيافة والمعنى اطمأن قلبه بعلمه أنهم ملائكة، والبشرى تبشيره بالولد أو بأن المراد بمجيئهم غيره. وجواب لما محذوف تقديره اجترأ على الخطاب، ودل على ذلك الجملة المستأنفة وهي يجادلنا.﴿ يَٰإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ ﴾ أي قالت الملائكة. والإِشارة بهذا إلى الجدال والمحاورة في شىء مفروغ منه والأمر ما قضاه وحكم به من عذابه الواقع بهم لا محالة.﴿ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ ﴾ الآية، خرجت الملائكة من قرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى قرية لوط عليه السلام وبينهما ثمانية أميال، وقيل: أربعة فراسخ فأتوها عشاء وقيل: نصف النهار، وجدوا لوطاً عليه السلام في حدث له. وقيل: وجدوا ابنته تسقي ماء في نهر سدوم وهي أكبر حواضر قوم لوط فسألوها الدلالة على من يضيّفهم ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط، وقالت لهم: مكانكم، وذهبت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليهم فقالوا: إنا نريد أن تضيّفنا الليلة، فقال لهم: أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال: أشهد بالله أنهم شر قوم في الأرض وقد كان الله تعالى قال للملائكة: لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات. فلما قال هذه قال جبريل عليه الصلاة والسلام: هذه واحدة وتردد القول منهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات ثم دخل لوط المدينة فحينئذٍ سىء بهم أي لحقه سوء بسببهم وضاق ذرعه بهم.﴿ وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ﴾ أي شديد لما كان يتخوفه من تعدي قومه على أضيافه.﴿ وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ﴾ لما جاء لوط بضيفه لم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت: ان لوطاً أضاف الليلة قوماً ما رؤي مثلهم جمالاً وكذا وكذا فحينئذٍ جاؤا يهرعون أي يسرعون كأنما يدفعون دفعاً فعل الطامع الخائف فوت ما يطلبه.﴿ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ أي كان ذلك دينهم وعادتهم أصروا على ذلك ومردوا عليه فليس ذلك بأول إنشاء هذه المعصية جاؤا يهرعون إليه لا يكفهم حياء لضراوتهم عنها. والتقدير في ومن قبل، أي من قبل مجيئهم إلى هؤلاء الأضياف وطلبهم إياهم.﴿ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي ﴾ الأحسن أن تكون الإِضافة مجازية، أي بنات قومي أي البنات.﴿ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾ إذ النبي ينزل منزلة الأب لقومه. وقرىء: أطهر على الحال. فقيل: هؤلاء مبتدأ وخبر وهن مبتدأ ولكم خبره. قيل: والعامل المضمر. وقيل: لكم بما فيه من معنى الاستقرار. وقيل: هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر وهن فصل وأطهر حال، ورد بأن الفصل لا يقع إلا بين جزيء الجملة ولا يقع بين الحال وذي الحال وقد أجاز ذلك بعضهم وادعى السماع فيه من العرب لكنه قليل.﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ﴾ قال ذلك على سبيل التفجع. وجواب لو محذوف تقديره لفعلت بكم وصنعت. والظاهر أن لو عطف جملة فعلية على جملة فعلية.
﴿ قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ ﴾ الآية، روي أن لوطاً عليه الصلاة والسلام غلبوه وهمّوا بكسر الباب وهو يمسكه قال له الرسل: تنح عن الباب فتنحى فانفتح الباب فضربهم جبريل عليه السلام بجناحه فطمس أعينهم فعموا وانصرفوا على أعقابهم يقولون النجاة النجاة فعند لوط قوم سحرة وتوعدوا لوطاً فحينئذٍ قالوا له: إنا رسل ربك، الآية. والجملة من قوله: ﴿ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ ﴾ موضحة للذي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصلوا إليه ولم يقدروا على ضرره ثم أمروه بأن يسريَ بأهله. وقرىء: فأسر بالوصل وبالهمز.﴿ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلْلَّيْلِ ﴾ قال ابن عباس: بطائفة من الليل. وقرىء: ﴿ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ ﴾ بالنصب وهو استثناء من فاسر بأهلك، وبالرفع بدل من قوله: أحد. قال الزخشري: وفي إخراجها مع أهله روايتان روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت: واقوماه فأدركها حجر فقتلها، وروي انه أمر بأن يخلفها مع قومها وان هواها إليهم ولم يسر بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين. " انتهى ". وهذا وهم فاحش إذ بني القراءتين على اختلاف الروايتين من أنه سري بها أو أنه لم يسر بها وهذا تكاذب في الاخبار يستحيل أن تكون القراءتان وهما من كلام الله تعالى يترتبان على التكاذب. والضمير: ﴿ إِنَّهُ ﴾، ضمير الشأن. و ﴿ مُصِيبُهَا ﴾ مبتدأ. و ﴿ مَآ أَصَابَهُمْ ﴾ الخبر.﴿ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ ﴾ أي موعد هلاكهم الصبح. وجعل ميقاتاً لهلاكهم لأن النفوس فيه أودع والراحة فيه أجمع. ويروى أن لوطاً عليه السلام خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم عليه السلام. والضمير في: ﴿ عَالِيَهَا ﴾ عائد على مدائن قوم لوط جعل جبريل عليه السلام جناحه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الدّيَكة ثم قلبها عليهم واتبعوا الحجارة من فوقهم وهي المؤتفكات سبع مدائن. وقيل: خمس، عدّها المفسرون وفي ضبطها اشكال.﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا ﴾ أي على أهلها. وروي أن الحجارة أصابت منهم من كان خارج مدنهم حتى قتلهم أجمعين وان رجلاً كان في الحرم فبقي الحجر معلقاً في الهواء حتى خرج من الحرم فقتله الحجر.﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ﴾ الآية، كان قوم شعيب عبدة أوثان فدعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده وبالكفر استوجبوا العذاب ولم يعذب الله أمة عذاب استئصال إلا بالكفر وان انضافت إلى ذلك معصية كانت تابعة. قال ابن عباس: بخير أي في رخص الأسعار يوم محيط أي مهلك من قوله: وأحيط بثمره، وأصله من إحاطة العدو وهو العذاب الذي حل بهم في آخر. ووصف اليوم بالإِحاطة أبلغ من وصف العذاب به، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث فإِذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه.﴿ قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ ﴾ الآية، لما أمرهم شعيب عليه السلام بعبادة الله تعالى وترك عبادة أوثانهم وبإِيفاء الكيل والميزان ردوا عليه على سبيل الاستهزاء والهزؤ بقولهم: أصلاتك وكان كثير الصلاة وكان إذا صلى تغامزوا وتضاحكوا.﴿ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ ﴾ مقابلة لقوله: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.﴿ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ﴾ مقابل لقوله: ولا تنقصوا المكيال والميزان وكون الصلاة آمرة هو على وجه المجاز كما كانت ناهية في قوله:﴿ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ ﴾[العنكبوت: ٤٥].
أو يقال: انها تأمر بالجميل والمعروف، أي تدعو إليه وتبعث عليهم. إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته. والمعنى تأمرك بتكليفنا أن نترك فحذف المضاف لأن الإِنسان لا يؤمر بفعل غيره. والظاهر أنه أريد بالصلاة الصلاة المعهودة في تلك الشريعة.﴿ إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ ﴾ ظاهره أنه إخبار منهم على سبيل الاستهزاء والتهكم.
﴿ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ ﴾ هذه مراجعة لطيفة واستنزال حسن واستدعاء برفق ولذلك قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ذلك خطيب الأنبياء "وهذا النوع يسمى استدراج المخاطب عند أرباب علم البيان وهو نوع لطيف غريب المعنى والمغزى يتوصل به إلى بلوغ الغرض. قال الزمخشري: فإن قلت: أين جواب أرأيتم وما لم يثبت كما ثبت في قصة نوح وصالح؟. قلت: جوابه محذوف وإنما لم يثبت لأن إثباته في القصتين دل على مكانه. ومعنى الكلام ينادي عليه، والمعنى أخبروني إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبياً على الحقيقة أنصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا كذلك " انتهى ". وتسمية هذا جواباً لا رأيتم ليس بالمصطلح بل هذه الجملة التي قدّرها هي في موضع المفعول الثاني لأرأيتم لأن أرأيتم إذا ضمنت معنى أخبرني تعدت لمفعولين، والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية ينعقد منها ومن المفعول الأول في الأصل جملة ابتدائية كقول العرب: أرأيتم زيداً ما صنع. قال ابن عطية: وجواب الشرط الذي في قوله:﴿ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ ﴾ محذوف تقديره أَضِل كما ضللتم، أو أترك تبليغ الرسالة، ونحو هذا مما يليق بهذه المحاجة. " انتهى ". وليس قوله: أضل جواباً للشرط لأنه إن كان مثبتاً فلا يمكن أن يكون جواباً لأنه لا يترتب على الشرط وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة فهو في موضع المفعول الثاني لأرأيتم، وجواب الشرط محذوف يدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها. قال الزمخشري: ما استطعت يجوز فيه وجوه أحدها: أن يكون بدلاً من الإِصلاح أي المقدار الذي استطعته، أو على حذف مضاف تقديره إلا الإِصلاح إصلاح ما استطعت فهذان وجهان في البدل، والثالث: أن تكون مفعولاً كقوله: ضعيف النكاية أعداءه   أي ما أريد إلا أن أُصلحَ ما استطعتُ إصلاحه من فاسدكم. " انتهى ". هذا الثالث ضعيف لأن المصدر المعرف بأل لا يجوز أعماله في المفعول به عند الكوفيين، واما البصريون فاعماله عندهم فيه قليل. ومعنى: ﴿ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ﴾ يسكبنّكم.﴿ شِقَاقِيۤ ﴾ أي خلاقي وعدواتي وشقاقي فاعل. يجرمنكم وان يصيبكم مفعول ثان ليجرمنكم ومثل مرفوع به.﴿ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ﴾ أما في الزمان لقرب عهد هلاكهم من عهدكم إذ هم أقرب الهالكين.﴿ قَالُواْ يٰشُعَيْبُ ﴾ كانوا لا يلقون إليه أذهانهم رغبة عنه وكراهة له أو قالوا ذلك على وجه الاستهانة به.﴿ وَلَوْلاَ رَهْطُكَ ﴾ احترموه لرهطه إذ كانوا كفاراً مثلهم وكان في عزة ومنعة منهم.﴿ لَرَجَمْنَاكَ ﴾ ظاهره القتل وبالحجارة وهي شر القِتْلات.﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ أي بذي منعة علينا. والظاهر في قوله: واتخذتموه ان الضمير عائد على الله تعالى أي ونسيتموه وجعلتموه كالشىء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به والظهرى بكسر الظاء منسوب إلى الظهر من تغييرات النسب ونظيره قولهم في النسب إلى أمس أمسى بكسر الهمزة.﴿ وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ ﴾ تقدم تفسير نظيره. قال الزمخشري: فإِن قلت: قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته، ثم اتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم فكان القياس أن يقول: من يأتيه عذاب يخزيه، ومن هو صادق حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم. قلت: القياس ما ذكرت ولكنهم لما كانوا يعودونه كاذباً قال: ومن هو كاذب يعني في زعمكم ودعواكم تجهيلاً لهم. " انتهى ". وفي ألفاظ هذا الرجل سوء أدب والذي قاله ليس بقياس لأن التهديد الذي وقع ليس بالنسبة إليه ولا هو داخل في التهديد المراد بقوله: سوف تعلمون إذ لم يأت التركيب اعملوا على مكانتكم واعمل على مكانتي ولا سوف تعلمون واعلم وإنما التهديد مختص بهم واستسلف الزمخشري قوله: قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته فبني على ذلك سؤالاً فاسداً لأن المترتب على ما ليس مذكوراً لا يصح البتة وجميع الآية والتي قبلها إنما هي بالنسبة إليهم على سبيل التهديد ونظيره في سورة تنزيل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم. فهذا جاء بالنسبة للمخاطبين في قوله: قل يا قوم اعملوا على مكانتكم، كما جاء هنا.﴿ مَن يَأْتِيهِ ﴾ من يجوز أن تكون موصولة مفعولةً بقوله: تعلمون، أي تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب. ويجوز أن تكون استفهامية في موضع رفع على الابتداء. وتعلمون معلق كأنه قيل أيُّنا يأتيه عذاب يخزيه وأينا هو كاذب.﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا ﴾ الآية: المعجزات التسع وهي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونقص من الأموال والأنفس، والثمرات، ومنهم من أبدل النقص بإِظلال الجبل. وقيل: الآيات التوراة، وهذا ليس بسديد لأنه قال: إلى فرعون وملائه، والتوراة إنما أنزلت بعد هلاك فرعون وملائه. والسلطان المبين: هو الحجة الواضحة.﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ يقال: قدم زيد القوم يقدم قدْماً وقدوماً يقدمهم والمعنى يقدم قومه المغرقين وعدل إلى النار كما كان قدوة في الضلال متبعاً كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه وعدل عن فيورِدَهم إلى فأوردهم لتحقق وقوعه لا محالة، فكأنه قد وقع ولما في ذلك من الإِرهاب والتخويف والهمزة فأوردهم للتعدية ورد يتعدى إلى واحد فلما أدخل الهمزة تعدى إلى اثنين فتضمن وارداً وموروداً. ويطلق الورد على الوارد فالورد لا يكون المورود فاحتيج إلى حذف ليطابق فاعل بئس المخصوص بالذم فالتقدير وبئس مكان الورد المورود. ويعني به النار، فالورد فاعل ببئس والمخصوص بالذم المورود وهي النار. قال ابن عطية: والمورود صفة للورد، أي بئس مكان الورد المورود النار، ويكون المخصوص محذوفاً لفهم المعنى كما حذف في قوله:﴿ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ﴾[آل عمران: ١٢، ١٩٧].
" انتهى ". هذا التخريج يبنى على جواز وصف فاعل نعم وبئس وفيه خلاف ذهب ابن السراج والفارسي إلى أن ذلك لا يجوز. وقال الزمخشري: بئس الرفد المرفود رفدهم أي بئس العون المعان، وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له وقد رفدت باللعنة في الآخرة. وقيل: بئس العطاء المعطي. " انتهى ". ويظهر من كلامه أن المرفود صفة للرفد وأن المخصوص بالذم محذوف تقديره رفدهم وما ذكره من تفسيره، أي بئس العون المعان هو قول أبي عبيدة، وسمي العذاب رفداً على نحو قوله: تحية بينهم ضرب وجيع   وقال الكلبي: الرفد الرفادة أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار.
﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ ﴾ الآية، الإِشارة بذلك إلى ما تقدم من ذكر الأنبياء وقومهم وما حل بهم من العقوبات أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى. والضمير في منها عائد على القرى. قال ابن عباس: قائم عامر وحصيد داثر. قال الزمخشري: فإِن قلت: ما محل هذه الجملة؟ قلت: هي مستأنفة لا محل لها. " انتهى ". وقال أبو البقاء: منها قائم مبتدأ وخبر في موضع الحال من الهاء في نقطة. وحصيد مبتدأ خبره محذوف أي ومنها حصيد. " انتهى ". وما ذكره أبو البقاء يجوز أي نقصه عليك وحال القرى ذلك فالحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين أي نقص عليك نقص أنباء القرى وهي على هذه الحال يشاهدون فعل الله تعالى بها.﴿ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ﴾ ما نافية أو استفهامية بمعنى أيُّ شىء.﴿ ٱلَّتِي يَدْعُونَ ﴾ وغير تتبيب أي غير تخسير.﴿ وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ ﴾ الآية، أي ومثل ذلك الأخذ أخذ الله الأمم السابقة أخذ ربك. والقرى عام في القرى الظالمة، والظلم: يشمل ظلم الكفر وغيره. ذلك إشارة إلى يوم القيامة الدال عليه قوله عذاب الآخرة، والناس مفعول لم يسم فاعله رافعه مجموع. وأجاز ابن عطية أن يكون الناس مبتدأ ومجموع خبر مقدم وهو بعيد لإِفراد الضمير في مجموع وقياسه على إعرابه مجموعون ومجموع له الناس عبارة عن الحشر. " ومشهود " عام يشهده الأوّلون والآخرون من الإِنس والجن والملائكة والحيوان.﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ ﴾ أي ذلك اليوم. وقيل: يعود على الجزاء.﴿ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ ﴾ أي القضاء السابق قد نفذ بأجل محدود لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه. والظاهر أن الفاعل بيأتي ضمير يعود على ما عاد عليه الضمير في نؤخره، وهو قوله: ذلك يوم، والناصب له لا تكلَّم والمعنى لا تكلم نفس يوم يأتي ذلك اليوم إلا بإِذنه تعالى وذلك من عظم المهابة والهول في ذلك اليوم.﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ ﴾ الآية، الزفير: أول نهيق الحمار، والشهيق: آخره. وانتصاب خالدين على أنها حال مقدرة. وما: مصدرية ظرفية، أي مدة دوام السماوات والأرض، والمراد بهذا التوقيت التأكيد كقول العرب: ما أقام ثبير وما لاح كوكب وضعت العرب ذلك للتأبيد من غير نظر لفناء ثبير أو الكوكب أو لعدم فنائهما.
﴿ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى قصص عبدة الأوثان من الأمم السالفة واتبع ذلك بذكر أحوال الأشقياء والسعداء شرح لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحوال الكفار من قومه وأنهم متبعوا اياتهم. كحال من تقدم من الأمم السالفة في اتباع آبائهم في الضلال. وهؤلاء إشارة إلى مشركي العرب باتفاق وانّ ديدنهم كديدن الأمم الماضية. في التقليد والعمى عن النظر في الدلائل والحجج. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدة بالانتقام منهم إذ حالهم في ذلك حال الأمم السالفة والأمم السالفة قد قصصنا عليك ما جرى لهم من سوء العاقبة والتشبيه في قوله: كما يعيد، معناه أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت وقد بلغك ما نزل باسلافهم فسينزل بهم مثله وما يعبدون استئناف جرى مجرى التعليل للنهي عن المرية مما كان يحتمل أن تكون مصدرية وبمعنى الذي والنصيب هنا. قال ابن عباس: ما قدر لهم من خير وشر. وقال الزمخشري: فإِن قلت: كيف نصب غير منقوص حالاً عن النصيب الموفي؟ قلت: يجوز أن يوفي وهو ناقص، ويوفي وهو كامل، ألا تراك تقول: وفيّته شطر حقه وثلث حقه وحقه كاملاً وناقصاً. " انتهى ". وهذه مغلطة إذ قال: وفيته شطر حقه فالتوفية وقعت في الشطر وكذا ثلث حقه، فالمعنى أعطيته الشطر أو الثلث كاملاً لم أنقصه عنه شيئاً، وأما قوله: وحقه كاملاً وناقصاً أما كاملاً فصحيح وهي حال مؤكدة لأن التوفية تقتضي الاكمال، واما وناقصاً فلا يقال: المنافاة التوفية. والخطاب في فلا تك متوجه إلى من داخله الشك لا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، والمعنى والله أعلم قل يا محمد لمن شك لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء فإِن الله لم يأمرهم بذلك وإنما اتبعوا في ذلك آبائهم تقليداً لهم وإعراضاً عن حجج العقول.﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ ﴾ الآية، والكتاب: التوراة، فاختلفوا فيه فقبله بعض وأنكره بعض. والظاهر عود الضمير في فيه على الكتاب لقربه. ويجوز أن يعود على موسى عليه السلام ويلزم من الاختلاف في أحدهما الاختلاف في الآخر.﴿ وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ﴾ الآية، الظاهر عموم كل وشموله للمؤمن والكافر. وقرىء: وإن كلاً بالتشديد وكلاً اسمها. وقرىء: وانْ بالتخفيف وكلا اسمها وأعمالها مخففة ثابت في لسان العرب، ففي كتاب سيبويه ان زيد المنطلق بتخفيف ان. وقرىء: لما بتخفيف الميم فاللام هي الداخلة في خبر انّ المخففة والمشددة، وما زائدة واللام في ليوفينهم جواب قسم محذوف، وذلك القسم في موضع خبر ان وليوفينهم جواب القسم المحذوف فالتقدير وان كلاً لأقسم ليوفينهم. وقرىء: لما بالتشديد وهي لما الجازمة حذف الفعل المجزوم لدلالة المعنى عليه وتقديره وان كلا لما ينقص من جزاء عمله، ويدل على قوله تعالى: ﴿ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ لما اخبر بانتفاء نقص جزاء أعمالهم أكده بالقسم قالت العرب: قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها لدلالة المعنى عليه.﴿ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ ﴾ الآية، أمر بالاستقامة وهو عليها وهو أمر بالدوام والثبوت، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تابوا من الكفر ولسائر الأمة بالمعنى، وأمرت مخاطبة تعظيم واستفعل هنا للطلب أي اطلب الإِقامة على الدين كما تقول: استغفر، أي اطلب الغفران. ومن تاب معك معطوف على الضمير المستكن في فاستقم وأغنى الفاصل عن التوكيد.﴿ وَلاَ تَطْغَوْاْ ﴾ قال ابن عباس: في القرآن فتحلوا وتحرموا ما لم آمركم به.﴿ وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ قال ابن عباس: ومعنى الركون الميل.﴿ فَتَمَسَّكُمُ ﴾ جواب للنهي منصوب بإِضمار ان بعد الفاء كقوله تعالى:﴿ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ﴾[طه: ٦١].
" انتهى ".﴿ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ ﴾ الآية، سبب نزولها ما في صحيح مسلم من حديث الرجل الذي عالج امرأة أجنبية منه فأصاب منها ما سوى إتيانها فنزلت وانظر إلى الأمر والنهي في هذه الآيات حيث جاء الخطاب في الأَمر فاستقم كما أمرت وأقم الصلاة موحّداً في الظاهر وان كان المأمور به من حيث المعنى عاماً. وجاء الخطاب في النهي ولا تطغوا ولا تركنوا موجّهاً إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطباً به أمته فحيث كان الأمر بأفعال الخير توجه الخطاب إليه وحيث كان النهي عن المحظورات عدل عن الخطاب عنه إلى غيره من أمته وهذا من جليل الفصاحة ولا خلاف أن المأمور بإِقامتها هي الصلاة المكتوبة وإقامتها دوامها. وانتصب طرفي النهار على الظرف وطرف الشىء يقتضي أن يكون من الشىء فالذي يظهر أنهما الصبح والعصر لأنهما طرفا النهار، والزلف مثل المغرب والعشاء. والظاهر أن الإِشارة بقوله: ذلك، إلى أقرب مذكور وهو قوله: أقم الصلاة، أي إقامتها في هذه الأوقات ذكرى، أي سبب عظة. وتذكرة للذاكرين، أي المتعظين.
﴿ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ ﴾ الآية، لولا هنا للتحضيض صحبها معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد. والقرون: قوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره. والبقية هنا يراد بها الخير والنظر إلا قليلاً استثناء منقطع أي لكن قليل من أنجينا منهم نهوا عن الفساد وهم قليل بالإِضافة إلى جماعاتهم. والظاهر أن الذين ظلموا هم تاركوا النهي عن الفساد. وما أترفوا فيه، أي نعّموا فيه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش النهي ورفضوا ما فيه صلاح دينهم.﴿ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ أي ذوي جرائم غير ذلك. قال الزمخشري: إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفاً على مضمر لأن المعنى إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد في الأرض واتبع الذين ظلموا شهواتهم فهو عطف على نهوا وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإِتراف، فالواو للحال كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم وكانوا مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام. " انتهى ". جعل ما في قوله: ما أترفوا فيه، مصدرية ولهذا قدره اتبعوا، والظاهر أنها بمعنى الذي لعود الضمير في فيه عليها. وأجاز أيضاً أن يكون معطوفاً على اتبعوا، أي اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. وأجاز أيضاً أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قوم مجرمون. " انتهى ". ولا يسمى هذا اعتراضاً في اصطلاح النحويين لأنه آخر آية فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر.﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ ﴾ الآية، تقدم تفسير شبه هذه الآية في الانعام إلا أن هنا ليهلك وهي آكد في النفي لأنه على مذهب الكوفيين زيدت اللام في خبر كان على سبيل التوكيد وعلى مذهب البصريين توجه النفي إلى الخبر المحذوف المتعلق به اللام تقديره مريداً الإِهلاك للقرى. قال ابن عطية: المعنى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم منه. تعالى الله عن ذلك ﴿ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ بالإِيمان به. وقال الزمخشري: وأهلها مصلحون تنزيهاً لذاته عن الظلم وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين من الظلم. " انتهى ". وهو مصادم للحديث:" أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث "وللآية:﴿ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾[الأنفال: ٢٥].
﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ قال الزمخشري: يعني لاضطرهم إلى أن يكون أهل ملة واحدة، وهذا كلام يتضمن نفي الاضطرار وأنه لم يقهرهم على الاتفاق على دين الحق ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل فاختلفوا.﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾ إلا أناساً هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه." انتهى ". وهو على طريقة الاعتزال. وقال ابن عباس وقتادة: أمة واحدة مؤمنة حتى لا يقع منهم كفر لكنه تعالى لم يشأ ذلك.﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾ استثناء متصل من قوله: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فلا يقع منهم اختلاف. والإِشارة بقوله: ﴿ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ إلى المصدر المفهوم من قوله: مختلفين، كما قال الشاعر: إذا أنهى السفيه جرى إليه   فعاد الضمير على المصدر المفهوم من اسم الفاعل، كأنه قال: وللاختلاف خلقهم ويكون على حذف مضاف، أي ولثمرة الاختلاف من الشقاء والسعادة خلقهم. وقال الزمخشري: ولذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام أولاً من التمكين والاختيار الذي عنه الاختلاف خلقهم ليثيب مختار الحق بحسن اختياره ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره. " انتهى ". وهذا على طريقة الاعتزال.﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾ أي نفذ قضاؤه وحق أمره. واللام في ﴿ لأَمْلأَنَّ ﴾ هي التي يتلقى بها القسم إذ الجملة قبلها ضمنت معنى القسم كقوله تعالى:﴿ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ ﴾[آل عمران: ٨١]، ثم قال: لتؤمنن به، والجنة والجن بمعنى واحد. قال ابن عطية: والهاء فيه للمبالغة وان كان الخبر يقع على الواحد فالجنة جمعه. " انتهى ". فيكون مما يكون فيه الواحد بغير هاء وجمعه بالهاء كقول بعض العرب: كم للواحد، وكمأة للجمع.﴿ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ ﴾ مفعول به والعامل فيه نقص، والتنوين عوض عن المحذوف والتقدير وكل نبأ نقص عليك. ومن نبأ الرسل في موضع الصفة لقوله: ولاك، إذ هي مضافة في التقدير إلى نكرة. وما: زائدة كما هي في قوله:﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾[الأعراف: ٣].
﴿ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ قال ابن عباس: ما نسكن به فؤادك وتثبيت الفؤاد هو بما جرى للأنبياء عليهم السلام، ولاتباعهم المؤمنين، وما لقوا من تكذيبهم من الأذى، ففي هذا كله أسوة بهم إذ المشاركة في الأمور الصعبة تهون ما يلقى الإِنسان من الأذى، ثم الاعلام بما جرى على مكذبيهم من العقوبات المستأصلة بأنواع العذاب من الغرق والريح والرجفة وخسف وغير ذلك فيه طمأنينة النفس وتأنيس. والإِشارة بقوله: ﴿ فِي هَـٰذِهِ ﴾، إلى أبناء الرسل التي قصها الله تعالى عليه أي النبأ الصدق الحق الذي هو مطابق لما جرى ليس فيه تغيير ولا تحريف كما ينقل شيئاً من ذلك المؤرخون.﴿ وَمَوْعِظَةٌ ﴾ أي اتعاظ وازدجار لسامعه.﴿ وَذِكْرَىٰ ﴾ لمن آمن إذ الموعظة والذكرى لا ينتفع بهما إلا المؤمن لقوله تعالى:﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾[الذاريات: ٥٥].
﴿ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ الآية، اعملوا صيغة أمر ومعناه التهديد والوعيد. والخطاب لأهل مكة وغيرها.﴿ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ ﴾ أي جهتكم وحالتكم التي أنتم عليها.﴿ وَٱنْتَظِرُوۤاْ ﴾ بنا الدوائر.﴿ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾ أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله من النقم النازلة بأشباهكم.﴿ وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الآية، أضاف تعالى علم الغيب بما في السماوات والأرض له توسعاً لا يخفى عليه شىء في أعمالكم، ولاحَظَّ لمخلوق في علم الغيب، فالجملة الأولى: دلت على أن علمه محيط بجميع الكائنات كليّها وجزئّيها حاضرها وغائبها، لأنه إذا أحاط علمه بما غاب فهو بما حضر محيط إذ علمه تعالى لا يتفاوت. والجملة الثانية: دلت على القدرة النافذة والمشيئة. والجملة الثالثة: دلت على الأمر بإِفراد من هذه صفاته بالعبادة الجسدية والقلبية، والعبادة أولى الرتب الذي يتحلى بها العبد. والجملة الرابعة: دلت على الأمر بالتوكل وهي أخيرة الرتب لأنه بنور العبادة أبصر أن جميع الكائنات معذوقة بالله تعالى، وأنه هو المتصرف وحده في جميعها لا يشركه في شىء منها أحد من خلقه، فوكل نفسه إليه تعالى ورفض سائر ما يتوهم أنه سبب في شىء منها. والجملة الخامسة: تضمنت التنبيه على المجازاة فلا يضيع طاعة مطيع ولا يهمل حال متمرد، لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
Icon