ﰡ
قال ابن عباس : الدفء اللباس، وقال الحسن : الدفء ما استدفىء به من أصوافها، وأوبارها وأشعارها.
واستدل به قوم على جواز الانتفاع بها في حالة حياة الحيوان وموته.
وليس ذلك بصحيح، فإنه تعالى قال :﴿ لَكُم فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِع، ومِنهَا تَأْكُلُون ﴾، فبين أن منها ما أكلنا١، فدل ذلك على إباحة هذه الثلاثة بشرط الزكاة٢.
٢ - أي الذبح وذكر اسم الله عليها..
وذكر ذاكرون من أصحاب أبي حنيفة، أن في الآية دليل على تحريم لحومها، فيقولون : في الأنعام ذكر الله تعالى في الكتاب، أنها للأكل، وفي البغال والحمير أنها للركوب والزينة، وذكروا في تحقيق ذلك أن الله تعالى ذكر في الأنعام منافع الركوب، وحمل الأثقال إلى البلاد، وذكر الجمال بها حين تريحون وحين تسرحون، فنبه على المنافع الأصلية، والنادرة، كالأكل والركوب على الأنعام، فلو كانت الخيل مأكولة لذكره.
ويجاب عنه، بأن الله تعالى لم يذكر ذلك، لأنه لا يعد للأكل عرفاً، وإنما يؤكل إذا أصابته زمانة، ونقصت قيمته، فلم يذكر الأكل بما فيه من نقصان وخسران. بخلاف الأنعام التي منها الأكل، وأن حمل الأثقال عليها هو المقصود.
يحتج به أبو يوسف١ ومحمد والشافعي، فيمن حلف لا يلبس حلياً فلبس لؤلؤاً، أنه يحنث لتسمية الله تعالى إياه حلياً٢.
وأبو حنيفة لا يرى ذلك، لأن الحلي إذا أطلق لا يفهم منه اللؤلؤ، وذلك مكابرة منه.
٢ - انظر السيوطي في الإكليل..
يدل على أن ذلك من الآيات التي يجب الاعتبار بها ؛ لأنه عطف على ما تقدم.
وفيه بيان عظيم نعم الله تعالى لهذين الجنسين، والأمر ظاهر في مزيتهما ؛ لكثرة وجوه الانتفاع بهما، بخلاف سائر الثمرات، فلذلك خصهما بالذكر.
فأمّا السَكَر ففيه أقوال : قال الحسن : هو المسكر من الشراب، وقال الأصم : أن السّكْر : كل ما حرمه الله تعالى من ثمرهما، والرزق الحسن : ما أحله الله، وقال الحسن : هو الشراب المستلذ، وإن لم يسكر، والرزق الحسن : الرطب والعنب وما يتفرع عنهما. والأقرب إلى الظاهر، هو ما يتخذ من الرطب والعنب، وما يتخذ من التين غيره، ويدخل فيما يتخذ منها : السكر، وهو الشراب الذي يسكر ؛ لأن ذلك هو مقتضى الآية، ويدخل في قوله :" رزقاً حسناً "، ما يتخذ منهما، من خل وزبيب وغيره، مما يؤكل في الطعام الطيب، وكل ذلك نعمة منه، والأقرب : أن تحريم الخمر بعد ذلك.
ووجب الاعتبار بثمرات النخيل والأعناب، فأظهر ما ذكره في اللبن في قوله :﴿ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَناً خَالِصاً١ ﴾ ؛ لأن ظهور الرطب والعنب من ذلك الرطب اليابس، على اختلاف طعومهما، وذلك من أدل الدلائل على توحيد الله تعالى، ولذلك قال :﴿ إنَّ في ذَلِكَ لآيةً لِقَومٍ يَعْقِلُون٢ ﴾، الآية :[ ٦ ].
٢ - انظر محاسن التأويل..
ذكر إسماعيل بن اسحق، أن المراد به : عبد نفسه، وليس المراد : عبداً للعباد، ويجوز أن يكون : عبد الله. وهذا بعيد، والظاهر أنه : أي عبد كان.
واحتج به قوم في أنه لا يملك بالتمليك، فإنه لو ملك لقدر على شيء، وقد قال تعالى :﴿ لاَ يَقْدِرُ عَلى شيءٍ ﴾. ويمكن أن يجاب عنه، أن المراد به : أنه إذا تصرف لا يمكنه أن يتصرف إلا بإذن غيره، كما يقال ذلك فيمن لا يملك أصلاً، وإلا فهذا اللفظ لا يدل على نفي ملك الطلاق، ونفي ملك النكاح، فهذا ما يدل عليه الظاهر دون ما سواه، ولذلك عقبه بقوله :﴿ ومَنْ رَزَقْنَاهُ مِنّا رِزْقاً حَسنَاً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِراً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ ﴾، فأبان بذلك أن نقيض هذا المعنى في العبد، عدم استقلاله بالإنفاق سراً وجهراً.
وقال الأصم : المراد به، المملوك الذي ربما يكون أشد من مولاه١ أسراً وأنضر وجهاً، وهو لسيده ذليل لا يقدر إلا على ما أذن له فيه، فقال الله تعالى ضرباً للمثل : فإذا كان هذا شأنكم وشأن عبيدكم، فكيف جعلتم أحجاراً أمواتاً شركاء لله تعالى في خلقه وعبادته، وهي لا تسمع ولا تعقل ؟ وهذا القول أولى بالظاهر ؛ لأن العبد المملوك لا يكون جماداً، ولا يقال في الجماد لا يقدر على شيء، وهو بالصفة التي معها لا يجوز أن يقدر، فلا حاجة والحالة هذه إلى صرفه عن ظاهره، فبين تعالى أن هذا العبد إذا لم يساوي من رزقناه رزقاً حسناً، فهو ينفق منه سراً وجهراً مع اشتراكهما في الحيوانية والقدرة والآلة، فكيف يجوز التسوية بين الأصنام التي لا يتأتى منها ضرر ولا نفع، وبين مالك الأمر والخلق.
وإسماعيل بن اسحق روى عن ابن عباس، أن الآية واردة في رجل من قريش وعبده أسلما، وإنه كان مولى لعثمان يكفله وينفق عليه، ولذلك ذكر في الأبكم أنه لا يقدر على شيء كما ذكره في العبد، ثم لا يدل ذلك على أنه لا يملك٢.
٢ - انظر أسباب النزول للواحدي النيسابوري..
وقد روى جبير بن مطعم عن أبيه، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال :" اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفثه ونفخه١ "، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة.
وقال مالك : لا يتعوذ في المكتوبة قبل القراءة، ويتعوذ في قيام رمضان إذا قرأ. ونقل عن بعض السلف، التعوذ بعد القراءة مطلقاً، احتجاجاً بقوله تعالى :﴿ فإذَا قَرَأْتَ القُرآنَ فاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾.
ولا شك في أن ظاهر ذلك، يقتضى أن تكون الاستعاذة بعد القراءة كقوله تعالى :﴿ فإذَا قَضَيْتُمُ الصلاَةَ فاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً٢ ﴾، إلا أن غيره محتمل مثل قوله :﴿ وإذَا قُلْتُم فاعْدِلُوا٣ ﴾.
وقوله :﴿ وإذَا سَألْتمُوهُن متاعاً فاسئلُوهُن مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ٤ ﴾ : ليس المراد به أن يسألا من وراء حجاب بعد سؤال متقدم، ومثله قول القائل : فإذا قلت فاصدق، وإذا أحرمت فاغتسل، يعني : فاغتسل قبل الإحرام.
والمعنى في جميع ذلك : إذا أردت ذلك كذلك، والاستعاذة قبل القراءة لنفي وساوس الشيطان لعنه الله قبل القراءة، قال الله تعالى :﴿ وَما أَرْسلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نبِي إلا إذَا تَمَنّى أَلْقَى الشّيْطَانَ٥ ﴾.
٢ - سورة النساء، آية ١٠٣..
٣ - سورة الأنعام، آية ١٥٢..
٤ - سورة الأحزاب، آية ٥٣..
٥ - سورة الحج، آية ٥٢..
وذلك يدل على أن حكم الردة لا يلزمه، غير أنه إن أمكنه أن يوري فيجب عليه أن يفعل وإلا كفر، ولو صبر حتى قتل شهيداً كان أعظم لأجره، وذلك يدل على أنه عند الإكراه قبيح أيضاً، غير أن المشرع غفر له لما يدفع به عن نفسه من الضرر، ولو لم يكن قبيحاً في نفسه، لوجب عليه أن يأتي به.
واستدل به أصحاب الشافعي على نفي وقوع طلاق المكره وعتاقه، وكل قول حمل عليه بباطل، نظراً لما فيه من حفظ حقه عليه، كما امتنع الحكم بنفوذ ردته حفظاً على دينه، وإذا أكره على الزنا فلا يباح له الزنا، ولا يباح له القتل بالإكراه، فلولا الرخصة أمكن في الردة مثله، فكأن الذي يتلفظ بكلمة الردة مراده دفع الضرر، فليس يطلق على ما يأتي به الكفر، وما أراد الكفر لمعناه، وإنما أراد به دفع الضرر١.
إيجاب إتباع ملته، وقد بينا ذلك في أصول الفقه١.
وذلك يدل على المماثلة في القصاص، وعلى وجوب المثل في المثليات، والقيم العادية في المقومات، وقد وردت الآية في الكفار يوم أحد، حيث مثلوا ببعض القتلى، كحمزة بن عبد المطلب وغيره، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يمثل بسبعين من المشركين بدله، فنزل قوله تعالى :﴿ وإنْ عَاقَبْتُم ﴾ الآية، وأبان أن الصبر أولى، ودل به على أن للولي الحق على غيره، وهو أن يعفو١.