تفسير سورة مريم

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة مريم من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة مريم
هذه السورة مكية كالسورة التي قبلها.
وقال مقاتل : إلاّ آية السجدة فهي مدنية نزلت بعد مهاجرة المؤمنين إلى الحبشة.
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى ضمن السورة قبلها قصصاً عجباً كقصة أهل الكهف، وقصة موسى مع الخضر، وقصة ذي القرنين، وهذه السورة تضمنت قصصاً عجباً من ولادة يحيى بين شيخ فانٍ وعجوز عاقر، وولادة عيسى من غير أب، فلما اجتمعا في هذا الشيء المستغرب ناسب ذكر هذه السورة بعد تلك،

سورة مريم
ترتيبها ١٩ سورة مريم آياتها ٩٨
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ٣٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤)
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩)
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩)
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
235
اشتغال النَّارِ تَفَرُّقُهَا فِي الْتِهَابِهَا فَصَارَتْ شُعَلًا. وَقِيلَ: شُعَاعُ النَّارِ. الشَّيْبُ مَعْرُوفٌ، شَابَ شعره ابيضّ بعد ما كَانَ بِلَوْنٍ غَيْرِهِ. الْمَخَاضُ اشْتِدَادُ وَجَعِ الْوِلَادَةِ وَالطَّلْقِ. الْجِذْعُ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا الشَّجَرَةُ مِنْهَا وَبَيْنَ مُتَشَعَّبِ الْأَغْصَانِ، وَيُقَالُ للغضن أَيْضًا جِذْعٌ وَجَمْعُهُ أَجْذَاعٌ فِي الْقِلَّةِ، وَجُذُوعٌ فِي الْكَثْرَةِ. السَّرِيُّ الْمُرْتَفِعُ الْقَدْرِ، يُقَالُ سَرُوَ يَسْرُوُ، وَيُجْمَعُ عَلَى سَرَاةٍ بِفَتْحِ السِّينِ وَسُرَوَاءَ وَهُمَا شَاذَّانِ فِيهِ، وَقِيَاسُهُ أَفْعِلَاءُ. وَالسَّرِيُّ النَّهْرُ الصَّغِيرُ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْرِي فِيهِ وَلَامُهُ يَاءٌ كَمَا أَنَّ لَامَ ذَلِكَ وَاوٌ. وَقَالَ لَبِيدٌ:
فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السرى فصدّعا مسجورة متحاورا قُلَّامُهَا
أَيْ جَدْوَلًا. الْهَزُّ التَّحْرِيكُ. الرُّطَبُ مَعْرُوفٌ وَاحِدُهُ رُطْبَةٌ، وَجُمِعَ شَاذًّا عَلَى أَرْطَابٍ كَرُبْعٍ وَأَرْبَاعٍ وَهُوَ مَا قُطِعَ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ وَيَيْبَسَ. الْجَنِيُّ مَا طَابَ وَصَلُحَ لِلِاجْتِنَاءِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: لَمْ يَجِفَّ وَلَمْ يَيْبَسْ. وَقِيلَ: الْجَنِيُّ مَا تَرَطَّبَ مِنَ الْبُسْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
236
الْجَنِيُّ وَالْمَجْنِيُّ وَاحِدٌ، وَعَنْهُ الْجَنِيُّ الْمَقْطُوعُ. قُرَّةُ الْعَيْنِ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُرِّ، يُقَالُ: دمع الفرح اللَّمْسِ وَدَمْعُ الْحُزْنِ سُخْنُ اللَّمْسِ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ:
فَأَمَّا عُيُونُ الْعَاشِقِينَ فَأَسْخَنَتْ وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتِ
وقريش يقول: قَرَرْتُ بِهِ عَيْنًا، وَقَرَرْتُ بِالْمَكَانِ أَقَرُّ وَأَهْلُ نَجْدٍ قَرِرْتُ بِهِ عَيْنًا بِالْكَسْرِ. الْفَرِيُّ الْعَظِيمُ مِنَ الْأَمْرِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَفِي الشَّرِّ، وَمِنْهُ فِي وَصْفِ عُمَرَ: فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ، وَالْفَرِيُّ الْقَطْعُ وَفِي الْمَثَلِ: جَاءَ يَفْرِي الْفَرِيَّ أَيْ يَعْمَلُ عَظِيمًا مِنَ الْعَمَلِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَرِيُّ الْبَدِيعُ وَهُوَ مِنْ فَرْيِ الْجِلْدِ. الْإِشَارَةُ مَعْرُوفَةٌ تَكُونُ بِالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَالثَّوْبِ وَالرَّأْسِ وَالْفَمِ، وَأَشَارَ أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ يُقَالُ: تَشَايَرْنَا الْهِلَالَ لِلْمُفَاعَلَةِ.
وَقَالَ كَثِيرٌ:
فَقُلْتُ وَفِي الْأَحْشَاءِ دَاءٌ مُخَامِرٌ أَلَا حَبَّذَا يَا عِزَّ ذَاكَ التَّشَايُرُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كَالسُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا آيَةَ السَّجْدَةِ فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ مُهَاجَرَةِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى ضَمَّنَ السُّورَةَ قَبْلَهَا قَصَصًا عَجَبًا كَقِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَقِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ، وَقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ تَضَمَّنَتْ قَصَصًا عَجَبًا مِنْ وِلَادَةِ يَحْيَى بَيْنَ شَيْخٍ فَانٍ وَعَجُوزٍ عَاقِرٍ، وَوِلَادَةِ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا فِي هَذَا الشَّيْءِ الْمُسْتَغْرَبِ نَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ تِلْكَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ بِمَا يوقف عليه هناك وذِكْرُ خبر مبتدأ محذوف أي هَذَا الْمَتْلُوُّ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ ذِكْرُ. وَقِيلَ ذِكْرُ خَبَرٌ
237
لِقَوْلِهِ كهيعص وَهُوَ مُبْتَدَأٌ ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ. قِيلَ: وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ هُوَ الْمُبْتَدَأُ فِي الْمَعْنَى وَلَيْسَ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ، وَلَا فِي ذِكْرِ الرَّحْمَةِ مَعْنَاهَا. وَقِيلَ: ذِكْرُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فِيمَا يُتْلَى ذِكْرُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَافْ بِإِسْكَانِ الْفَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ ضَمُّهَا، وَأَمَالَ نَافِعٌ هَاءً وَيَاءً بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَأَظْهَرَ دَالَ صَادٍ عِنْدَ ذَاكَ. ذِكْرُ وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَعَنْهُ أَيْضًا ضَمُّ الْيَاءِ وَكَسْرُ الْهَاءِ، وَعَنْ عَاصِمٍ ضَمُّ الْيَاءِ وَعَنْهُ كَسْرُهُمَا وَعَنْ حَمْزَةَ فَتْحُ الْهَاءِ وَكَسْرُ الْيَاءِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: مَعْنَى الضَّمِّ فِي الْهَاءِ وَالْيَاءِ إِشْبَاعُ التَّفْخِيمِ وَلَيْسَ بِالضَّمِّ الْخَالِصِ الَّذِي يُوجِبُ الْقَلْبَ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْمُقْرِي الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ فِي شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ خَارِجَةُ عَنِ الْحَسَنِ: كَافْ بِضَمِّ الْكَافِ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ عَنْهُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَهَارُونُ بْنُ مُوسَى الْعَتَكِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْهُ بِالضَّمِّ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ مُتَرْجَمٌ عَلَيْهَا بِالضَّمِّ وَلَسْنَ مَضْمُومَاتِ الْمَحَالِّ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُنَّ لَوْ كُنَّ كَذَلِكَ لَوَجَبَ قَلْبُ مَا بَعْدَهُنَّ مِنَ الْأَلِفَاتِ وَاوَاتٍ بَلْ نُحِّيَتْ هَذِهِ الْأَلِفَاتُ نَحْوَ الْوَاوِ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى أَلِفَ التَّفْخِيمِ بِضِدِّ الْأَلِفِ الْمُمَالَةِ فَأَشْبَهَتِ الْفَتَحَاتِ الَّتِي تَوَلَّدَتْ مِنْهُنَّ الضَّمَّاتُ، وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ كَمَا تَرْجَمُوا عَنِ الْفَتْحَةِ الْمُمَالَةِ الْمُقَرَّبَةِ مِنَ الْكَسْرَةِ بِكَسْرَةٍ لِتَقْرِيبِ الْأَلِفِ بَعْدَهَا مِنَ الْيَاءِ انْتَهَى.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَقْطِيعِ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَتَخْلِيصِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا ائْتَلَفَ مِنَ الْحُرُوفِ، فَيَصِيرُ أَجْزَاءَ الْكَلِمِ فَاقْتَضَيْنَ إِسْكَانَ آخِرِهِنَّ، وَأَظْهَرَ الْأَكْثَرُونَ دَالَ صَادٍ عِنْدَ ذَالِ ذِكْرُ وَأَدْغَمَهَا أَبُو عَمْرٍو. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَفِرْقَةٌ بِإِظْهَارِ النُّونِ مِنْ عَيْنٍ وَالْجُمْهُورُ عَلَى إِخْفَائِهَا.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ يَعْمُرَ ذِكْرُ فعلا ماضيا رَحْمَتِ بِالنَّصْبِ، وَحَكَاهُ أَبُو الْفَتْحِ وَذَكَرُهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أي هذا المتلو من القرآن ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ وَذَكَرَ الدَّانِيُّ عَنِ ابْنِ يَعْمُرَ ذِكْرُ فِعْلُ أمر من التذكير رَحْمَتِ بالنصب وعَبْدَهُ نُصِبَ بِالرَّحْمَةِ أَيْ ذِكْرُ أن رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ. وَذَكَرَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ أَنَّ ذِكْرُ بِالتَّشْدِيدِ مَاضِيًا عَنِ الْحَسَنِ بِاخْتِلَافٍ وَهُوَ صَحِيحٌ عَنِ ابْنِ يَعْمُرَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَتْلُوَّ أَيِ الْقُرْآنَ ذَكَّرَ بِرَحْمَةِ رَبِّكَ فَلَمَّا نُزِعَ الْبَاءُ انْتَصَبَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقُرْآنَ ذَكَّرَ النَّاسَ تَذْكِيرًا أَنْ رَحِمَ اللَّهُ عَبْدَهُ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ عَامِلًا فِي عَبْدَهُ زَكَرِيَّا لِأَنَّهُ ذَكَّرَهُمْ بِمَا نَسُوهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَتَجَدَّدَ
238
عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ وَنُزُولِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ عَلَى الْمُضِيِّ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَقَرَأَ الْكَلْبِيُّ ذِكْرُ عَلَى الْمُضِيِّ خَفِيفًا مِنَ الذِّكْرِ رَحْمَةِ رَبِّكَ بِنَصْبِ التَّاءِ عَبْدَهُ بِالرَّفْعِ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ يَحْيَى بْنُ يعمر وذِكْرُ عَلَى الْأَمْرِ عَنْهُ أَيْضًا انتهى.
وإِذْ ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ قَالَ الْحَوْفَيُّ: ذِكْرُ وَقَالَ أَبُو البقاء: وإِذْ ظرف لرحمة أو لذكر انْتَهَى. وَوَصْفُ نِدَاءٍ بِالْخَفِيِّ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لِئَلَّا يُخَالِطَهُ رِيَاءٌ. مُقَاتِلٌ: لِئَلَّا يُعَابَ بِطَلَبِ الْوَلَدِ فِي الْكِبَرِ. قَتَادَةُ: لِأَنَّ السِّرَّ وَالْعَلَانِيَةَ عِنْدَهُ تَعَالَى سَوَاءٌ. وَقِيلَ: أَسَرَّهُ مِنْ مَوَالِيهِ الَّذِينَ خَافَهُمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَمْرٌ دُنْيَاوِيٌّ فَأَخْفَاهُ لِأَنَّهُ إِنْ أُجِيبَ فَذَاكَ بُغْيَتُهُ، وَإِلَّا فَلَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ. وَقِيلَ: لِإِخْلَاصِهِ فِيهِ فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
وَقِيلَ: لِضَعْفِ صَوْتِهِ بِسَبَبِ كِبَرِهِ، كَمَا قِيلَ: الشَّيْخُ صَوْتُهُ خُفَاتٌ وَسَمْعُهُ تَارَاتٌ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْجَهْرُ بِهِ يُعَدُّ مِنَ الِاعْتِدَاءِ. وَفِي التَّنْزِيلِ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ «١».
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا».
قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي هَذِهِ كَيْفِيَّةُ دُعَائِهِ وَتَفْسِيرُ نِدَائِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَهَنَ بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بكسرها. وقرىء بِضَمِّهَا لُغَاتٌ ثَلَاثٌ، وَمَعْنَاهُ ضَعْفٌ وَأُسْنِدَ الْوَهَنُ إِلَى الْعَظْمِ لِأَنَّهُ عَمُودُ الْبَدَنِ وَبِهِ قِوَامُهُ وَهُوَ أَصْلُ بِنَائِهِ، فَإِذَا وَهَنَ تَدَاعَى مَا وَرَاءَهُ وَتَسَاقَطَتْ قُوَّتُهُ، وَلِأَنَّهُ أَشَدُّ مَا فِيهِ وَأَصْلَبُهُ فَإِذَا وَهَنَ كَانَ مَا وَرَاءَهُ أَوْهَنَ وَوَحَّدَ الْعَظْمُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ، وَقَصَدَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ الَّذِي هُوَ الْعَمُودُ وَالْقِوَامُ، وَأَشَدُّ مَا تَرَكَّبَ مِنْهُ الْجَسَدُ قَدْ أَصَابَهُ الْوَهَنُ وَلَوْ جُمِعَ لَكَانَ قَصْدًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَهِنْ مِنْهُ بَعْضُ عِظَامِهِ وَلَكِنْ كُلُّهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: اشْتَكَى سُقُوطَ الْأَضْرَاسِ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَكَانَ لَهُ سَبْعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: خَمْسٌ وَسَبْعُونَ. وَقِيلَ: خَمْسٌ وَثَمَانُونَ. وَقِيلَ: سِتُّونَ. وَقِيلَ: خَمْسٌ وَسِتُّونَ. وَشُبِّهَ الشَّيْبُ بِشُوَاظِ النَّارِ فِي بَيَاضِهِ وَانْتِشَارِهِ فِي الشَّعْرِ وَفُشُوِّهِ فِيهِ وَأَخْذِهِ مِنْهُ كُلَّ مَأْخَذٍ بِاشْتِعَالِ النَّارِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ، ثُمَّ أَسْنَدَ الِاشْتِعَالَ إِلَى مَكَانِ الشَّعْرِ وَمَنْبَتِهِ وَهُوَ الرَّأْسُ، وَأَخْرَجَ الشَّيْبَ مُمَيَّزًا وَلَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ رَأَسُ زَكَرِيَّاءَ فَمِنْ ثَمَّ فَصَحَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَشُهِدَ لَهَا بِالْبَلَاغَةِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَإِلَى هَذَا نَظَرَ ابْنُ دُرَيْدٍ.
فَقَالَ:
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٥٥.
239
وَاشْتَعَلَ الْمُبْيَضُّ فِي مُسْوَدِّهِ مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَزْلِ الْغَضَا
وَبَعْضُهُمْ أَعْرَبَ شَيْباً مَصْدَرًا قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَابَ فَهُوَ مَصْدَرٌ مِنَ الْمَعْنَى. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَاشْتِعَالُ الرَّأْسِ اسْتِعَارَةُ الْمَحْسُوسِ لِلْمَحْسُوسِ إِذِ الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ النَّارُ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الشَّيْبُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الِانْبِسَاطُ وَالِانْتِشَارُ وَلَمْ أَكُنْ نَفْيٌ فِيمَا مَضَى أَيْ مَا كُنْتُ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا بَلْ كُنْتُ سَعِيدًا مُوَفَّقًا إِذْ كُنْتَ تُجِيبُ دُعَائِي فَأَسْعَدُ بِذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا الْكَافُ مَفْعُولٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِدُعائِكَ إِلَى الْإِيمَانِ شَقِيًّا بَلْ كُنْتُ مِمَّنْ أَطَاعَكَ وَعَبَدَكَ مُخْلِصًا. فَالْكَافُ عَلَى هَذَا فَاعِلٌ وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا سَلَفَ إِلَيْهِ مِنْ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِ، أَيْ قَدْ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ فِيمَا سَلَفَ وَسَعِدْتُ بِدُعَائِي إِيَّاكَ فَالْإِنْعَامُ يَقْتَضِي أَنْ تجيبني آخر كَمَا أَجَبْتَنِي أَوَّلًا.
وَرُوِيَ أَنَّ حَاتِمًا الطَّائِيَّ أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ فَقَالَ: أَنَا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ وَقْتَ كَذَا، فَقَالَ حَاتِمٌ: مَرْحَبًا بِالَّذِي تَوَسَّلَ بِنَا إِلَيْنَا وَقَضَى حَاجَتَهُ.
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي الْمَوالِيَ بَنُو الْعَمِّ وَالْقَرَابَةِ الَّذِينَ يَلُونَ بِالنَّسَبِ. قَالَ الشَّاعِرِ:
مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا لَا تَنْبِشُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا
وَقَالَ لَبِيدٌ:
وَمَوْلًى قَدْ دَفَعْتُ الضَّيْمَ عَنْهُ وَقَدْ أَمْسَى بِمَنْزِلَةِ الْمَضِيمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ الْمَوالِيَ هُنَا الْكَلَالَةُ خَافَ أَنْ يَرِثُوا مَالَهُ وَأَنْ يَرِثَهُ الْكَلَالَةُ.
وَرَوَى قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَخِي زَكَرِيَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَرِثُ مَالَهُ».
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا كَانَ مَوَالِيهِ مُهْمِلِينَ الدِّينَ فَخَافَ بِمَوْتِهِ أَنْ يَضِيعَ الدِّينُ فَطَلَبَ وَلِيًّا يَقُومُ بِالدِّينِ بَعْدَهُ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ إِذْ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ»
وَالظَّاهِرُ اللَّائِقُ بِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْصُومٌ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ الْوَلَدَ لِأَجْلِ مَا يُخْلِفُهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا خَافَ أَنْ تَنْقَطِعَ النُّبُوَّةُ مِنْ وَلَدِهِ وَيَرْجِعَ إِلَى عُصْبَتِهِ لِأَنَّ تِلْكَ إِنَّمَا يَضَعُهَا اللَّهُ حَيْثُ شَاءَ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى اللَّهِ فِيمَنْ شَاءَهُ وَاصْطَفَاهُ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَانَ مَوَالِيهِ وَهُمْ عَصَبَتُهُ إِخْوَتُهُ وَبَنُو عَمِّهِ شِرَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَافَهُمْ عَلَى الدِّينِ أَنْ يُغَيِّرُوهُ وَأَنْ لَا يُحْسِنُوا الْخِلَافَةَ عَلَى أُمَّتِهِ، فَطَلَبَ عَقِبًا صَالِحًا مِنْ صُلْبِهِ يَقْتَدِي بِهِ فِي إِحْيَاءِ الدِّينِ.
240
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خِفْتُ مِنَ الْخَوْفِ. وَقَرَأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَيْدُ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِي وَابْنُ يَعْمُرَ وَابْنُ جُبَيْرٍ
وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَوَلَدُهُ مُحَمَّدٌ وَزَيْدٌ وَشُبَيْلُ بْنُ عَزْرَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ لِأَبِي عَامِرٍ خَفَّتِ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْفَاءِ مُشَدَّدَةً وَكَسْرِ تَاءِ التَّأْنِيثِ
الْمَوالِيَ بِسُكُونِ الْيَاءِ وَالْمَعْنَى انْقَطَعَ مَوَالِيَّ وَمَاتُوا فَإِنَّمَا أَطْلُبُ وَلِيًّا يَقُومُ بِالدِّينِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ خِفْتُ مِنَ الْخَوْفِ الْمَوالِيَ بسكون التاء عَلَى قِرَاءَةِ خِفْتُ مِنَ الْخَوْفِ يَكُونُ مِنْ وَرائِي أَيْ بَعْدَ مَوْتِي. وَعَلَى قِرَاءَةِ خِفْتُ يَحْتَمِلُ أَنْ يتعلق مِنْ وَرائِي بخفت وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَفُّوا قُدَّامَهُ أَيْ دَرَجُوا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ تَقَوٍّ وَاعْتِضَادٌ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَوَالِي أَيْ قَلُّوا وَعَجَزُوا عَنْ إِقَامَةِ الدِّينِ. ووَرائِي بِمَعْنَى خَلْفِي وَمَنْ بَعْدِي، فَسَأَلَ رَبَّهُ تَقْوِيَتَهُمْ وَمُظَاهَرَتَهُمْ بِوَلِيٍّ يَرْزُقُهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ مِنْ وَرَايَ مَقْصُورًا كَعَصَايَ.
وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْعَاقِرِ فِي آلِ عِمْرَانَ وَقَوْلُهُ مِنْ لَدُنْكَ تَأْكِيدٌ لِكَوْنِهِ وَلِيًّا مَرْضِيًّا بِكَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ وَصَادِرًا مِنْ عِنْدِهِ، أَوْ أَرَادَ اخْتِرَاعًا مِنْكَ بِلَا سَبَبٍ لِأَنِّي وَامْرَأَتِي لَا نَصْلُحُ لِلْوِلَادَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ يَهَبَهُ وَلِيًّا وَلَمْ يُصَرِّحْ بأن يكون ولد البعد ذَلِكَ عِنْدَهُ لِكِبَرِهِ وَكَوْنِ امْرَأَتِهِ عَاقِرًا. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَأَلَ الْوَلَدَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَرِثُنِي وَيَرِثُ بِرَفْعِ الْفِعْلَيْنِ صِفَةً لِلْوَلِيِّ فَإِنْ كَانَ طَلَبَ الْوَلَدَ فَوَصْفُهُ بِأَنْ تَكُونَ الْإِجَابَةُ فِي حَيَاتِهِ حَتَّى يَرِثَهُ لِئَلَّا تَكُونَ الْإِجَابَةُ فِي الْوَلَدِ لَكِنْ يُحْرَمُهُ فَلَا يَحْصُلُ مَا قَصَدَهُ. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَالْيَزِيدِيُّ وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَقَتَادَةُ بِجَزْمِهِمَا عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ يَعْمُرَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَرْبِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو نَهِيكٍ يَرِثُنِي بِالرَّفْعِ وَالْيَاءِ
وَأَرِثُ جَعَلُوهُ فِعْلًا مُضَارِعًا مِنْ وَرِثَ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَفِيهِ تَقْدِيمٌ فَمَعْنَاهُ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يَرِثُنِي إِنْ مِتُّ قَبْلَهُ أَيْ نُبُوَّتِي وَأَرِثُهُ إِنْ مَاتَ قَبْلِي أَيْ مَالَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجَحْدَرِيُّ يَرِثُنِي وَأَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ.
قَالَ أَبُو الْفَتْحِ هَذَا هُوَ التَّجْرِيدُ التَّقْدِيرُ يَرِثُنِي مِنْهُ وَأَرِثُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَرِثُ أَيْ يَرِثُنِي بِهِ وَأَرِثُ وَيُسَمَّى التَّجْرِيدُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِرْثِ إِرْثُ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تُوَرِّثُ الْمَالَ. وَقِيلَ: يَرِثُنِي الْحُبُورَةَ وَكَانَ حَبْرًا وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ الْمُلْكَ يُقَالُ: وَرِثْتُهُ وَوَرِثْتُ مِنْهُ لُغَتَانِ.
وَقِيلَ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ آلِ يَعْقُوبَ لَيْسُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ وَلَا عُلَمَاءَ.
241
وقرأ مجاهد أو يرث مِنْ آلِ يَعْقُوبَ عَلَى التصغير، وأصله وو يرث فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً عَلَى اللُّزُومِ لِاجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ وَهُوَ تَصْغِيرُ وَارِثٍ أَيْ غُلَيْمٌ صَغِيرٌ. وَعَنِ الْجَحْدَرِيِّ وَارِثٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ يَعْنِي بِهِ الْإِمَالَةَ الْمَحْضَةَ لَا الْكَسْرَ الْخَالِصَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَعْقُوبَ هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ مَاثَانَ أَخُو زَكَرِيَّاءَ. وَقِيلَ: يَعْقُوبُ هَذَا وَعِمْرَانُ أَبُو مَرْيَمَ أَخَوَانِ مِنْ نَسْلِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ ومرضيا بمعنى مرضي.
يا زَكَرِيَّا أَيْ قِيلَ لَهُ بِإِثْرِ الدُّعَاءِ. وَقِيلَ: رَزَقَهُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ دُعَائِهِ. وَقِيلَ:
بَعْدَ سِتِّينَ وَالْمُنَادِي وَالْمُبَشِّرُ زَكَرِيَّاءَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ «١» الْآيَةَ وَالْغُلَامُ الْوَلَدُ الذَّكَرُ، وقد يقال للأثني غُلَامَةٌ كَمَا قَالَ:
تُهَانُ لَهَا الْغُلَامَةُ وَالْغُلَامُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَحْيى لَيْسَ عَرَبِيًّا لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ عَادَتُهُمْ أَنْ يُسَمُّوا بِأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ فَيَكُونُ مَنْعُهُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فَيَكُونُ مُسَمًّى بِالْفِعْلِ كَيَعْمُرُ ويعيش قد سَمَّوْا بِيَمُوتَ وَهُوَ يَمُوتُ بْنُ الْمُزَرَّعِ ابْنُ أُخْتِ الْجَاحِظِ. وَعَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ. فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْيَى بِالْحِكْمَةِ وَالْعِفَّةِ. وَقِيلَ: يحيي بهدايته وإشادة خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَقِيلَ لِأَنَّهُ يُسْتَشْهَدُ وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُعَمَّرُ زَمَنًا طَوِيلًا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ حَيِيَ بَيْنَ شَيْخٍ كَبِيرٍ وَأُمٍّ عَاقِرٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ حَيِيَ بِهِ عُقْرُ أُمِّهِ وَكَانَتْ لَا تَلِدُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ أَسْلَمَ: لَمْ نُسَمِّ قَبْلَهُ أَحَدًا بِيَحْيَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ الْأَسَامِيَ الشُّنُعَ جَدِيرَةٌ بِالْأَثَرَةِ وَإِيَّاهَا كَانَتِ الْعَرَبُ تُنَحِّي فِي التَّسْمِيَةِ لِكَوْنِهَا أَنْبَهَ وَأَنْوَهَ وَأَنْزَهَ عَنِ النَّفْرِ، حَتَّى قَالَ الْقَائِلُ فِي مَدْحِ قَوْمٍ:
شُنُعِ الْأَسَامِي مُسْبِلِي أُزُرٍ حُمْرٍ تَمَسُّ الْأَرْضَ بِالْهُدُبِ
وَقَالَ رُؤْبَةُ لِلنَّسَّابَةِ الْبَكْرِيِّ: وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ نَسَبِهِ أَنَا ابْنُ الْعَجَّاجِ فَقَالَ: قَصَّرْتَ وَعَرَّفْتَ انْتَهَى. وَقِيلَ لِلصَّلْتِ بْنِ عَطَاءٍ: كَيْفَ تَقَدَّمْتَ عِنْدَ الْبَرَامِكَةِ وَعِنْدَهُمْ مَنْ هُوَ آدَبُ مِنْكَ، فَقَالَ: كَنْتُ غَرِيبَ الدَّارِ غَرِيبَ الِاسْمِ خَفِيفَ الْحَزْمِ شَحِيحًا بِالْأَشْلَاءِ. فَذَكَرَ مِمَّا قَدَّمَهُ كَوْنُهُ غَرِيبَ الِاسْمِ إِذْ كَانَ اسْمُهُ الصَّلْتَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ سَمِيًّا أَيْ مَثَلًا وَنَظِيرًا وَكَأَنَّهُ مِنَ الْمُسَامَاةِ وَالسُّمُوِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّهُ لَا يُفَضَّلُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا لَمْ تَلِدِ الْعَوَاقِرُ مِثْلَهُ.
(١) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: ٣/ ٣٩.
242
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمَثَلِ سَمِيٌّ لِأَنَّ كُلَّ مُتَشَاكِلَيْنِ يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْمِ الْمِثْلِ وَالشَّبِيهِ وَالشَّكْلِ وَالنَّظِيرِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَمِيٌّ لِصَاحِبِهِ. وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ قَطُّ، وَأَنَّهُ وُلِدَ بَيْنَ شَيْخٍ فَانٍ وَعَجُوزٍ عَاقِرٍ وَأَنَّهُ كَانَ حَصُورًا انْتَهَى.
وأَنَّى بِمَعْنَى كَيْفَ: وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ «١» فِي آلِ عِمْرَانَ وَالْعِتِيُّ الْمُبَالَغَةُ فِي الْكِبَرِ. وَيُبْسِ الْعُودِ.
وَقَرَأَ أَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عِتِيًّا بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ وَعَبْدُ اللَّهِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَصَادِ صَلِيًّا جَعَلَهُمَا مَصْدَرَيْنِ كَالْعَجِيجِ وَالرَّحِيلِ، وَفِي الضَّمِّ هُمَا كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمَا عَلَى فُعُولٍ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَمُجَاهِدٍ عُسُيًّا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالسِّينِ كَمُسُوَّرَةٍ.
وَحَكَاهَا الدَّانِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَكَاهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ أُبَيٍّ وَمُجَاهِدٍ يُقَالُ عَتَّا الْعُودُ وَعَسَّا يَبِسَ وَجَسَّا.
قالَ: كَذلِكَ أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ تَصْدِيقٌ لَهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ قالَ رَبُّكَ فَالْكَافُ رَفْعٌ أَوْ نَصْبٌ بقال، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مُبْهَمٍ يُفَسِّرُهُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَنَحْوُهُ وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ «٢». وَقَرَأَ الْحَسَنُ وهو عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلَا يَخْرُجُ هَذَا إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيِ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُ، وَهُوَ عَلَيَّ ذَلِكَ يَهُونُ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ لَا إِلَى قَوْلِ زَكَرِيَّاءَ وَقَالَ: مَحْذُوفٌ فِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ أَيْ قَالَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تُنَوِّهْ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُخَاطِبُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَوَعَدَهُ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَوْلُهُ قالَ كَذلِكَ قِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى قَالَ لَهُ الْمَلَكُ كَذلِكَ فَلْيَكُنِ الْوُجُودُ كَمَا قِيلَ لَكَ قالَ رَبُّكَ خَلْقُ الْغُلَامِ عَلَيَّ هَيِّنٌ أَيْ غَيْرُ بِدْعٍ وَكَمَا خَلَقْتُكَ قَبْلُ وَأَخْرَجْتُكَ مِنْ عَدَمٍ إِلَى وُجُودٍ كَذَلِكَ أَفْعَلُ الْآنَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ كَذلِكَ أَيِ الْأَمْرُ أَنَّ اللَّذَانِ ذَكَرْتَ مِنَ الْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ وَالْكِبَرِ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ قالَ رَبُّكَ وَالْمَعْنَى عِنْدِي قَالَ الْمَلَكُ كَذلِكَ أَيْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ انْتَهَى. وقرأ الحسن هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ بِكَسْرِ الْيَاءِ. وَقَدْ أَنْشَدُوا قَوْلَ النَّابِغَةِ:
عَلَيِّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ لوالده ليست بذات عقارب
بِكَسْرِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَكَسْرُهَا شَبِيهٌ بِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ «٣» بِكَسْرِ الْيَاءِ. وقرأ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٤٠.
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٦٦. [.....]
(٣) سورة إبراهيم: ١٤/ ٢٢.
243
الْجُمْهُورُ وَقَدْ خَلَقْتُكَ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ خَلَقْنَاكَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً أَيْ شَيْئًا مَوْجُودًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَيْئاً لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَوْ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ كَقَوْلِهِمْ: عَجِبْتُ مِنْ لَا شَيْءَ إِذَا رَأَى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلًا.
قالَ أَيْ زَكَرِيَّا رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَيْ عَلَامَةً أَعْلَمُ بِهَا وُقُوعَ مَا بُشِّرْتُ بِهِ وَطَلَبَ ذَلِكَ لِيَزْدَادَ يَقِينًا كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السلام ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «١» لَا لِتَوَقُّفٍ مِنْهُ عَلَى صِدْقِ مَا وُعِدَ بِهِ، وَلَا لِتَوَهُّمِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ مُطْلَقَةً فَلَمْ يَعْرِفِ الْوَقْتَ فَطَلَبَ الْآيَةَ لِيَعْرِفَ وَقْتَ الْوُقُوعِ. قالَ آيَتُكَ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ لَمَّا حَمَلَتْ زَوْجَتُهُ بِيَحْيَى أَصْبَحَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَ أَحَدًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ وَيَذْكُرُ اللَّهَ، فَإِذَا أَرَادَ مُنَادَاةَ أَحَدٍ لم يطقه.
وسَوِيًّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرٍ أَيْ لَا تُكَلِّمْ فِي حَالِ صِحَّتِكَ لَيْسَ بِكَ خَرَسٌ وَلَا عِلَّةٌ قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَوِيًّا عَائِدٌ عَلَى اللَّيَالِي أَيْ كَامِلَاتٍ مُسْتَوَيَاتٍ فَتَكُونُ صِفَةً لِثَلَاثٍ، وَدَلَّ ذِكْرُ اللَّيَالِي هُنَا وَالْأَيَّامِ فِي آلِ عِمْرَانَ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْكَلَامِ اسْتَمَرَّ لَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَزَيْدُ بن علي أَلَّا تُكَلِّمَ بِرَفْعِ الْمِيمِ جَعَلَهَا أن المخففة من الثقيلة التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِهَا جَعَلُوا أَنِ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ
أَيْ وَهُوَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَ النَّاسَ، وَمِحْرَابُهُ مَوْضِعُ مُصَلَّاهُ، وَالْمِحْرَابُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آلِ عِمْرَانَ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَيْ أَشَارَ. قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ مُنَبِّهٍ وَالْكَلْبِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ أَوْحَى إِلَيْهِمْ أَشَارَ، وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:
وَيَشْهَدُ لَهُ إِلَّا رَمْزًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَتَبَ لَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
بَلْ كَتَبَ لَهُمْ فِي التُّرَابِ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ وَحْيٌ انْتَهَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَتَبَ فِي وَرَقَةٍ وَالْوَحْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْكِتَابَةُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
سِوَى الْأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا بَقِيَّةُ وَحْيٍ فِي بُطُونِ الصَّحَائِفِ
وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
كَوَحْيِ صَحَائِفٍ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى فَأَهْدَاهَا لِأَعْجَمَ طِمْطِمِىِّ
وَقَالَ جَرِيرٌ:
كَأَنَّ أَخَا الْيَهُودِ يَخُطُّ وَحْيًا بِكَافٍ فِي مَنَازِلِهَا ولام
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٦٠.
244
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنْ سَبِّحُوا صَلُّوا. وَقِيلَ أَمَرَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالتَّسْبِيحِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَانَ يَخْرُجُ عَلَى قَوْمِهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ إِشَارَةً. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ وَعِنْدِي فِي هَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا خُصَّ بِالتَّسْبِيحِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَأَى أَمْرًا عَجِبَ مِنْهُ أَوْ رَأَى فِيهِ بَدِيعَ صَنْعَةٍ أَوْ غَرِيبَ حِكْمَةٍ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ الْخَالِقِ، فَلَمَّا رَأَى حُصُولَ الْوَلَدِ مِنْ شَيْخٍ وَعَاقِرٍ عَجِبَ مِنْ ذَلِكَ فَسَبَّحَ وَأَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وأَنْ مُفَسِّرَةٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ أَنْ سَبِّحُوا أَنْ نصب بأوحى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَيْ انْتَهَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ أَنْ سَبِّحُوهُ بِهَاءِ الضَّمِيرِ عَائِدَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَرَوَى ابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَةَ أَنْ سَبِّحُنَّ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ أَلْحَقَ فِعْلَ الْأَمْرِ نُونَ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدِ.
يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ فَلَمَّا وُلِدَ يَحْيَى وَكَبُرَ وَبَلَغَ السِّنَّ الَّذِي يُؤْمَرُ فِيهِ قَالَ اللَّهُ لَهُ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ وَأَبْعَدَ التَّبْرِيزِيُّ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الْمُنَادِيَ لَهُ أَبُوهُ حِينَ تَرَعْرَعَ وَنَشَأَ، وَالصَّحِيحُ مَا سَبَقَ لِقَوْلِهِ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا والْكِتابَ هُوَ التَّوْرَاةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ عِيسَى وَلَمْ يَكُنِ الْإِنْجِيلُ مَوْجُودًا انْتَهَى.
وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ قِيلَ لَهُ كِتَابٌ خُصَّ بِهِ كَمَا خُصَّ كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَقِيلَ:
الْكِتابَ هُنَا اسْمُ جِنْسٍ أَيِ اتْلُ كُتُبَ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْكِتابَ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَأَرْسَلَهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ يَصُومُ وَيُصَلِّي فِي حَالِ طُفُولِيَّتِهِ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِقُوَّةٍ بِجِدٍّ وَاسْتِظْهَارٍ وَعَمَلٍ بِمَا فِيهِ وَالْحُكْمُ النُّبُوَّةُ أَوْ حُكْمُ الْكِتَابِ أَوِ الْحِكْمَةُ أَوِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ أَوِ اللُّبُّ وَهُوَ الْعَقْلُ، أَوْ آدَابُ الْخِدْمَةِ أَوِ الْفِرَاسَةُ الصَّادِقَةُ أَقْوَالٌ صَبِيًّا أَيْ شَابًّا لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ الْكُهُولَةِ. وَقِيلَ: ابْنُ سَنَتَيْنِ. وَقِيلَ: ابْنُ ثَلَاثٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: «ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ» وَحَناناً مَعْطُوفٌ عَلَى الْحُكْمِ وَالْحَنَانُ الرَّحْمَةُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ الْمَلِيكُ فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا
قَالَ: وَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ مُثَنًّى كَمَا قَالَ:
حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضٍ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى وَجَعَلْنَاهُ حَناناً لِأَهْلِ زَمَانِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَتَعَطُّفًا مِنْ رَبِّهِ عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: لَيِّنًا. وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: مَحَبَّةً، وَعَنْ عَطَاءٍ تَعْظِيمًا.
245
وَقَوْلُهُ وَزَكاةً عَنِ الضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ عَمَلًا صَالِحًا. وَعَنِ ابْنِ السَّائِبِ: صَدَقَةً تُصُدِّقَ بِهَا عَلَى أَبَوَيْهِ. وَعَنِ الزَّجَّاجِ تَطْهِيرًا. وَعَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ زِيَادَةً فِي الْخَيْرِ. وَقِيلَ ثَنَاءً كَمَا يُزَكَّي الشُّهُودُ. وَكانَ تَقِيًّا. قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَهُمَّ قَطُّ بِكَبِيرَةٍ وَلَا صَغِيرَةٍ وَلَا هَمَّ بِامْرَأَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَهُ مُتَّقِيًّا لَهُ لَا يَعْدِلُ بِهِ غَيْرَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ طَعَامُهُ الْعُشْبَ الْمُبَاحَ وَكَانَ لِلدَّمْعِ فِي خَدَّيْهِ مَجَارٍ بَائِنَةٌ وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
أَيْ كَثِيرُ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَالتَّبْجِيلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو نَهِيكٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَبَرًّا
فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِكَسْرِ الْبَاءِ أَيْ وَذَا بِرٍّ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً
أَيْ مُتَكَبِّرًا عَصِيًّا
أَيْ عَاصِيًا كَثِيرَ الْعِصْيَانِ، وَأَصْلُهُ عَصُويٌ فَعُولٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ.
وَسَلامٌ عَلَيْهِ
. قَالَ الطَّبَرِيُّ: أَيْ أَمَانٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا التَّحِيَّةُ الْمُتَعَارَفَةُ وَإِنَّمَا الشَّرَفُ فِي أَنْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي الْإِنْسَانُ فِيهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ وَالْفَقْرِ إِلَى اللَّهِ،
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عِيسَى وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ الْتَقَيَا وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ، فَقَالَ يَحْيَى لِعِيسَى: ادْعُ لِي فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: بَلْ أَنْتَ ادْعُ لِي فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَأَنَا سَلَّمْتُ عَلَى نَفْسِي.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: يَوْمَ وُلِدَ
أَيْ أَمَانٌ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يتاله الشَّيْطَانُ وَيَوْمَ يَمُوتُ
أَيْ أَمَانٌ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
مِنْ عَذَابِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي قَوْلِهِ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
تَنْبِيهٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الشُّهَدَاءِ لِقَوْلِهِ بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «١» وَهَذَا السَّلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللَّهِ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا.
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٦٩.
246
مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ زَكَرِيَّا وَطَلَبَهُ الْوَلَدَ وَإِجَابَةَ اللَّهِ إِيَّاهُ فَوُلِدَ لَهُ مِنْ شَيْخٍ فَانٍ وَعَجُوزٍ لَهُ عَاقِرٍ وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، أَرْدَفَهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ فِي الْغَرَابَةِ وَالْعَجَبِ وَهُوَ وُجُودُ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَيْضًا فَقَصَّ عَلَيْهِمْ مَا سَأَلُوهُ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ الْخَضِرِ وَمُوسَى، ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِمْ مَا سَأَلُوهُ أَيْضًا وَهُوَ قِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قِصَصًا لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهَا وَفِيهَا غَرَابَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَهَارُونَ مُوجَزَةً، ثُمَّ بِقِصَّةِ إِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ لِيَسْتَقِرَّ فِي أَذْهَانِهِمْ أَنَّهُ أَطْلَعَ نَبِيَّهُ عَلَى مَا سَأَلُوهُ وَعَلَى مَا لَمْ يَسْأَلُوهُ، وَأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحْيُهُ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّةِ رِسَالَتِهِ مِنْ أُمِّيٍّ لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ وَلَا رَحَلَ وَلَا خَالَطَ مَنْ لَهُ عِلْمٌ وَلَا عَنَى بجمع سير.
والْكِتابِ
الْقُرْآنُ. ومَرْيَمَ
هِيَ ابْنَةُ عمران أم عيسى، وإِذِ
قِيلَ ظَرْفُ زَمَانٍ مَنْصُوبٌ باذكر، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ لَا يَقَعُ فِي الْمَاضِي.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذِ
بَدَلٌ مِنْ مَرْيَمَ
بَدَلُ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ الْأَحْيَانَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا فِيهَا وَقْتُهُ، إِذِ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ مَرْيَمَ ذِكْرُ وَقْتِهَا هَذَا لِوُقُوعِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ فِيهَا انتهى. ونصب إِذِ
باذكر عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِيَّةِ يَقْتَضِي التَّصَرُّفَ فِي إِذِ
وَهِيَ مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لَمْ يُتَصَرَّفُ فِيهَا إِلَّا بِإِضَافَةِ ظَرْفِ زَمَانٍ إِلَيْهَا. فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ ثَمَّ مَعْطُوفٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَهُوَ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي إِذِ
وَتَبْقَى عَلَى ظَرْفِيَّتِهَا وَعَدَمِ تَصَرُّفِهَا، وَهُوَ أَنْ تُقَدَّرَ مَرْيَمُ وَمَا جَرَى لَهَا إِذِ انْتَبَذَتْ
وَاسْتَبْعَدَ أَبُو الْبَقَاءِ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: لِأَنَّ الزَّمَانَ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَالًا عَنِ الْجُثَّةِ وَلَا خَبَرًا عَنْهَا وَلَا وَصْفًا لَهَا لَمْ يَكُنْ بَدَلًا مِنْهَا انْتَهَى. وَاسْتِبْعَادُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِعَدَمِ الْمُلَازَمَةِ. قَالَ: وَقِيلَ التَّقْدِيرُ خَبَرُ مَرْيَمَ فَإِذْ مَنْصُوبَةٌ لِخَبَرٍ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ هَذَا الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ. وَقِيلَ: إِذِ
بِمَعْنَى أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ كَقَوْلِكَ: أُكْرِمُكَ إِذْ لَمْ تُكْرِمْنِي أَيْ إِنْ لَمْ تُكْرِمْنِي. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ أَيْ وَاذْكُرْ
مَرْيَمَ
انتباذها انتهى.
وانْتَبَذَتْ
افْتَعَلَ مِنْ نَبَذَ، وَمَعْنَاهُ ارْتَمَتْ وَتَنَحَّتْ وَانْفَرَدَتْ. قَالَ السُّدِّيُّ انْتَبَذَتْ
لِتَطْهُرَ مِنْ حَيْضِهَا وَقَالَ غَيْرُهُ: لِتَعْبُدَ اللَّهَ وَكَانَتْ وَقْفًا عَلَى سَدَانَةِ الْمُتَعَبِّدِ وَخِدْمَتِهِ وَالْعِبَادَةِ فَتَنَحَّتْ مِنَ النَّاسِ كَذَلِكَ، وَانْتَصَبَ مَكاناً
عَلَى الظَّرْفِ أَيْ فِي مَكَانٍ، وَوُصِفَ بِشَرْقِيٍّ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّا يَلِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَوْ مِنْ دَارِهَا، وَسَبَبُ كَوْنِهِ فِي الشَّرْقِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ جِهَةَ الشَّرْقِ مِنْ حَيْثُ تَطْلُعُ الشَّمْسُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الشَّرْقَ قِبْلَةً لِمِيلَادِ
247
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: قَعَدَتْ فِي مَشْرَقَةٍ لِلِاغْتِسَالِ مِنَ الْحَيْضِ مُحْتَجِبَةً بِحَائِطٍ أَيْ شَيْءٍ يَسْتُرُهَا، وَكَانَ مَوْضِعُهَا الْمَسْجِدَ فَبَيْنَا هِيَ فِي مُغْتَسَلِهَا أَتَاهَا الْمَلَكُ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ شَابٍّ أَمْرَدَ وَضِيءِ الْوَجْهِ جَعْدِ الشَّعْرِ سَوِيِّ الْخَلْقِ لَمْ يَنْتَقِصْ مِنَ الصُّورَةِ الْآدَمِيَّةِ شَيْئًا أَوْ حَسَنُ الصُّورَةِ مُسْتَوِي الْخَلْقِ. وَقَالَ قَتَادَةُ شَرْقِيًّا
شَاسِعًا بَعِيدًا انْتَهَى.
وَالْحِجَابُ الَّذِي اتَّخَذَتْهُ لِتَسْتَتِرَ بِهِ عَنِ النَّاسِ لِعِبَادَةِ رَبِّهَا. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مِنْ جُدْرَانَ. وَقِيلَ: مِنْ ثِيَابٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَعَلَتِ الْجَبَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ حِجاباً
وَظَاهِرُ الْإِرْسَالِ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهَا وَمُحَاوَرَةُ الْمَلَكِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَبِيَّةٌ. وَقِيلَ: لَمْ تُنَبَّأْ وَإِنَّمَا كَلَّمَهَا مِثَالُ بَشَرٍ وَرُؤْيَتُهَا لِلْمَلَكِ كَمَا رُئِيَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِفَةِ دِحْيَةَ. وَفِي سُؤَالِهِ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرُّوحَ جِبْرِيلُ لِأَنَّ الدين يحيا به ويوحيه أَوْ سَمَّاهُ رُوحَهُ عَلَى الْمَجَازِ مَحَبَّةً لَهُ وَتَقْرِيبًا كَمَا تَقُولُ لِحَبِيبِكَ: أَنْتَ رُوحِي. وَقِيلَ عِيسَى كَمَا قَالَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ فَتَمَثَّلَ
أَيِ الْمَلَكُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَسَهْلٌ رُوحَنا
بِفَتْحِ الرَّاءِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِمَا فِيهِ رَوْحُ الْعِبَادِ وَإِصَابَةُ الرَّوْحِ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عُدَّةُ الْمُقَرَّبِينَ فِي قَوْلِهِ فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ «١» أَوْ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَهُمُ الْمَوْعُودُونَ بِالرَّوْحِ أَيْ مُقَرَّبَنَا وَذَا رَوْحِنَا. وَذَكَرَ النقاش أنه قرىء رُوحَنا
بِتَشْدِيدِ النُّونِ اسْمُ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَانْتَصَبَ بَشَراً سَوِيًّا
عَلَى الْحَالِ لِقَوْلِهِ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا. قِيلَ: وَإِنَّمَا مُثِّلَ لَهَا فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ لِتَسْتَأْنِسَ بِكَلَامِهِ وَلَا تَنْفِرَ عَنْهُ، وَلَوْ بَدَا لَهَا فِي الصُّورَةِ الْمَلَكِيَّةِ لَنَفَرَتْ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى اسْتِمَاعِ كَلَامِهِ، وَدَلَّ عَلَى عَفَافِهَا وَوَرَعِهَا أَنَّهَا تَعَوَّذَتْ بِهِ مِنْ تِلْكَ الصُّورَةِ الْجَمِيلَةِ الْفَائِقَةِ الْحُسْنِ وَكَانَ تَمْثِيلُهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ابْتِلَاءً لَهَا وَسَبْرًا لِعِفَّتِهَا.
وَقِيلَ: كَانَتْ فِي مَنْزِلِ زَوْجِ أُخْتِهَا زَكَرِيَّا وَلَهَا مِحْرَابٌ عَلَى حِدَةٍ تَسْكُنُهُ، وَكَانَ زَكَرِيَّا إِذَا خَرَجَ أَغْلَقَ عَلَيْهَا فَتَمَنَّتْ أَنْ تَجِدَ خَلْوَةً فِي الْجَبَلِ لِتُفَلِّيَ رَأْسَهَا فَانْفَرَجَ السَّقْفُ لَهَا فَخَرَجَتْ فَجَلَسَتْ فِي الْمَشْرَقَةِ وَرَاءَ الْجَبَلِ فَأَتَاهَا الْمَلَكُ. وَقِيلَ: قَامَ بَيْنَ يَدَيْهَا فِي صُورَةِ تِرْبٍ لَهَا اسْمُهُ يُوسُفُ مِنْ خَدَمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
، وَتَعْلِيقُهَا الِاسْتِعَاذَةِ عَلَى شَرْطِ تَقْوَاهُ لِأَنَّهُ لَا تَنْفَعُ الِاسْتِعَاذَةُ وَلَا تُجْدِي إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَتَّقِي اللَّهَ أَيْ إِنْ كَانَ يُرْجَى مِنْكَ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ وَتَخْشَاهُ وتحفل الاستعاذة بِهِ فَإِنِّي عَائِذَةٌ بِهِ مِنْكَ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أَيْ فَإِنِّي أَعُوذُ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَسَتَتَّعِظُ بِتَعْوِيذِي بِاللَّهِ مِنْكَ. وَقِيلَ: فَاخْرُجْ عَنِّي. وَقِيلَ: فَلَا تَتَعَرَّضْ لِي وَقَوْلُ مَنْ قَالَ تَقِيٌّ اسْمُ رَجُلٍ صَالِحٍ أَوْ رَجُلٍ فَاسِدٍ لَيْسَ بِسَدِيدٍ. وَقِيلَ: إِنْ
نَافِيَةٌ أَيْ مَا
(١) سورة الواقعة: ٥٦/ ٨٩.
248
كُنْتَ تَقِيًّا
أَيْ بِدُخُولِكَ عَلَيَّ وَنَظَرِكَ إِلَيَّ، وَلِيَاذُهَا بِاللَّهِ وَعِيَاذُهَا بِهِ وَقْتَ التَّمْثِيلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلَ مَا تَمَثَّلَ لَهَا اسْتَعَاذَتْ مِنْ غَيْرِ جَرْيِ كَلَامٍ بَيْنَهُمَا.
قالَ
أَيْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
النَّاظِرُ فِي مَصْلَحَتِكِ وَالْمَالِكُ لِأَمْرِكِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَعَذْتِ بِهِ وَقَوْلُهُ لَهَا ذَلِكَ تَطْمِينٌ لَهَا وَإِنِّي لَسْتُ مِمَّنْ تُظَنُّ بِهِ رِيبَةٌ أَرْسَلَنِي إِلَيْكِ لِيَهَبَ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَأَبُو الْحَسَنِ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَيَعْقُوبُ وَالْيَزِيدِيُّ وَمِنَ السَّبْعَةِ نَافِعٌ وأبو عمر: وليهب أَيْ لِيَهَبَ رَبُّكِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ لِأَهَبَ
بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَأَسْنَدَ الْهِبَةَ إِلَيْهِ لَمَّا كَانَ الْإِعْلَامُ بِهَا مِنْ قِبَلِهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَهَبَ لَكِ
لِأَكُونَ سَبَبًا فِي هِبَةِ الْغُلَامِ بِالنَّفْخِ فِي الرَّوْعِ. وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ أَمَرَنِي أَنْ أَهَبَ لَكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحْكِيًّا بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ قَالَ لِأَهَبَ
وَالْغُلَامُ اسْمُ الصَّبِيِّ أَوَّلَ مَا يُولَدُ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ إِلَى سِنِّ الْكُهُولَةِ. وَفُسِّرَتِ الزَّكَاةُ هُنَا بِالصَّلَاحِ وَبِالنُّبُوَّةِ وَتَعَجَّبَتْ مَرْيَمُ وَعَلِمَتْ بِمَا أُلْقِيَ فِي رَوْعِهَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سُؤَالِهَا عَنِ الْكَيْفِيَّةِ فِي آلِ عِمْرَانَ فِي قِصَّتِهَا وَفِي قَوْلِهَا وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِأَنَّ مَسِيسَ الْبَشَرِ يَكُونُ بِنِكَاحٍ وَبِسِفَاحٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَ الْمَسُّ عِبَارَةً عَنِ النِّكَاحِ الْحَلَالِ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْهُ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ «١» أو لمستم النِّسَاءَ وَالزِّنَا لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا يُقَالُ فَجَرَ بِهَا وَخَبُثَ بِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِقَمِنٍ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ الْكِنَايَاتُ وَالْآدَابُ انْتَهَى. وَالْبَغِيُّ الْمُجَاهِرَةُ الْمُشْتَهِرَةُ فِي الزِّنَا، وَوَزْنُهُ فَعُولٌ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ اجْتَمَعَتْ وَاوٌ وَيَاءٌ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا لِأَجْلِ الْيَاءِ كَمَا كُسِرَتْ فِي عِصِيٍّ وَدِلِيٍّ. قِيلَ: وَلَوْ كَانَ فَعِيلًا لَحِقَتْهَا هَاءُ التَّأْنِيثِ فَيُقَالُ بَغِيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ التَّمَامِ: هِيَ فَعِيلٌ، وَلَوْ كَانَتْ فَعُولًا لَقِيلَ بَغُوٌّ كَمَا قِيلَ فُلَانٌ نَهُوٌّ عَنِ الْمُنْكَرِ انْتَهَى. قِيلَ: وَلَمَّا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ خَاصًّا بِالْمُؤَنَّثِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ فَصَارَ كَحَائِضٍ وَطَالِقٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ بَاغٍ. وَقِيلَ:
بَغِيٌّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَعَيْنٍ كَحِيلٍ أَيْ مبغية بطلبها أَمْثَالُهَا.
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ الْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ السَّابِقِ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا وَلِنَجْعَلَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى تَعْلِيلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ لِنُبَيِّنَ بِهِ قُدْرَتَنَا وَلِنَجْعَلَهُ أَوْ مَحْذُوفٍ مُتَأَخِّرٍ أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَالضَّمِيرُ فِي وَلِنَجْعَلَهُ عَائِدٌ عَلَى الْغُلَامِ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٧، وسورة الأحزاب: ٣٣/ ٤٩.
249
وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَكانَ أَيْ وَكَانَ وُجُودُهُ أَمْراً مَفْرُوغًا مِنْهُ، وَكَوْنُهُ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ أَيْ طَرِيقَ هُدًى لِعَالَمٍ كَثِيرٍ فَيَنَالُونَ الرَّحْمَةَ بِذَلِكَ. وَذَكَرُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا أَوْ فِيهِ وَفِي كُمِّهَا وَقَالَ: أَيْ دَخَلَ الرُّوحُ الْمَنْفُوخُ مِنْ فَمِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ النَّفْخُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ فَنَفَخْنا «١» وَيَحْتَمِلُ مَا قَالُوا: فَحَمَلَتْهُ أَيْ فِي بَطْنِهَا وَالْمَعْنَى فَحَمَلَتْ بِهِ. قِيلَ: وَكَانَتْ بِنْتَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: بَنَتَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَالَهُ وَهْبٌ وَمُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: بَنَتَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: اثْنَتَى عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: عَشْرِ سِنِينَ. قِيلَ:
بَعْدَ أَنْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ. وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْصَمِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَاضَتْ بَعْدُ. وَقِيلَ: لَمْ تَحُضْ قَطُّ مَرْيَمُ وَهِيَ مطهرة من الحيض، فلما أَحَسَّتْ وَخَافَتْ مَلَامَةَ النَّاسِ أَنْ يُظَنَّ بِهَا الشَّرُّ فَارْتَمَتْ بِهِ إِلَى مَكَانٍ قَصِيٍّ حَيَاءً وَفِرَارًا. رُوِيَ أَنَّهَا فَرَّتْ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ أَوْ نَحْوِهَا قَالَهُ وَهْبٌ. وَقِيلَ: إِلَى مَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِبَيْتِ لَحْمٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِيلِيَا أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ. وَقِيلَ: بَعِيدًا مِنْ أَهْلِهَا وَرَاءَ الْجَبَلِ. وَقِيلَ: أَقْصَى الدَّارِ.
وَقِيلَ: كَانَتْ سُمِّيَتْ لِابْنِ عَمٍّ لَهَا اسْمُهُ يُوسُفُ فَلَمَّا قِيلَ حَمَلَتْ مِنَ الزِّنَا خَافَ عَلَيْهَا قَتْلَ الْمَلِكِ هَرَبَ بِهَا، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِأَنْ يَقْتُلَهَا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ فَلَا تَقْتُلْهَا فَتَرَكَهَا حَمَلَتْهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَمَا حَمَلَتْهُ نَبَذَتْهُ عَنِ ابْنٍ.
وَقِيلَ: كَانَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ. وَقِيلَ:
حُمِلَ فِي سَاعَةٍ وَصُوِّرَ فِي سَاعَةٍ وَوَضَعَتْهُ فِي سَاعَةٍ. وَقِيلَ: سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكِ: سَبْعَةِ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٍ وَلَمْ يَعِشْ مَوْلُودٌ وُضِعَ لِثَمَانِيَةٍ إِلَّا عِيسَى وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُضْطَرِبَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُضْرَبَ عَنْهَا صَفْحًا إِلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوهَا فِي كُتُبِهِمْ وَسَوَّدُوا بِهَا الْوَرَقَ، وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلْحَالِ أَيْ مَصْحُوبَةٌ بِهِ أَيِ اعْتَزَلَتْ وَهُوَ فِي بَطْنِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تَدُوسُ بِنَا الْجَمَاجِمَ وَالتَّرِيبَا أَيْ تَدُوسُ الْجَمَاجِمَ وَنَحْنُ عَلَى ظُهُورِهَا.
وَمَعْنَى فَأَجاءَهَا أَيْ جَاءَ بِهَا تَارَةً فَعُدِّيَ جَاءَ بِالْبَاءِ وَتَارَةً بِالْهَمْزَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
إِلَّا أَنْ اسْتِعْمَالَهُ قَدْ يُغَيَّرُ بَعْدَ النَّقْلِ إلى معنى الإلجاء الإتراك، لَا تَقُولُ: جِئْتُ الْمَكَانَ وَأَجَاءَنِيهِ زَيْدٌ كَمَا تَقُولُ: بَلَغْتُهُ وَأَبْلَغَنِيهِ، وَنَظِيرُهُ آتَى حَيْثُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ إِلَّا فِي الْإِعْطَاءِ وَلَمْ يَقُلْ آتَيْتُ الْمَكَانَ وَآتَانِيهِ فُلَانٌ انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ وَقَوْلُ غَيْرِهِ إِنَّ الِاسْتِعْمَالَ غَيَّرَهُ إِلَى مَعْنَى الْإِلْجَاءِ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ المستقرءين ذَلِكَ عَنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، والإجاءة تدل على
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٩١ وسورة التحريم: ٦٦/ ١٢.
250
الْمُطْلَقِ فَتَصْلُحُ لِمَا هُوَ بِمَعْنَى الْإِلْجَاءِ وَلِمَا هُوَ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ كَمَا لَوْ قُلْتَ: أَقَمْتُ زَيْدًا فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُخْتَارًا لِذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ قَدْ قَسَرْتَهُ عَلَى الْقِيَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الإتراك لَا تَقُولُ إِلَى آخِرِهِ فَمَنْ رَأَى أَنَّ التَّعْدِيَةَ بالهمزة قياس أجاز لك وَلَوْ لَمْ يَسْمَعْ وَمَنْ لَا يَرَاهُ قِيَاسًا فَقَدْ سَمِعَ ذَلِكَ فِي جَاءَ حَيْثُ قَالُوا: أَجَاءَ فَيُجِيزُ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَنْظِيرُهُ ذَلِكَ بآتي فَهُوَ تَنْظِيرٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَأَنَّ أَصْلَهُ أَتَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ آتَى مِمَّا بُنِيَ عَلَى أَفْعَلَ وَلَيْسَ مَنْقُولًا مِنْ أَتَى بِمَعْنَى جَاءَ، إِذْ لَوْ كَانَ مَنْقُولًا مِنْ أَتَى الْمُتَعَدِّيَةِ لِوَاحِدٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ هُوَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ، وَالْفَاعِلُ هُوَ الْأَوَّلَ إِذَا عَدَّيْتَهُ بِالْهَمْزَةِ تَقُولُ: أَتَى الْمَالُ زَيْدًا، وآتى عمرا زَيْدًا الْمَالَ، فَيَخْتَلِفُ التَّرْكِيبُ بِالتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ زَيْدًا عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالْمَالَ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ كَانَ يَكُونُ الْعَكْسَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَا قَالَهُ. وَأَيْضًا فَآتَى مُرَادِفٌ لِأَعْطَى فَهُوَ مُخَالِفٌ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ فِي الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَقُلْ أَتَيْتُ الْمَكَانَ وَآتَانِيهِ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ يُقَالُ: أَتَيْتُ الْمَكَانَ كَمَا تَقُولُ: جِئْتُ الْمَكَانَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَتَوْا نَارِي فَقُلْتُ مَنُونَ أَنْتُمْ فَقَالُوا الْجِنَّ قُلْتُ عِمُوا ظَلَامَا
وَمَنْ رَأَى النَّقْلَ بِالْهَمْزَةِ قِيَاسًا قَالَ: أَتَانِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَأَجاءَهَا أَيْ سَاقَهَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَجَارٍ سَارَ مَعْتَمِدًا إِلَيْكُمْ أجاءته المخافة والرجاء
وأما فَتَحَةَ الْجِيمِ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ. وَقَرَأَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ عَاصِمٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَشُبَيْلُ بْنُ عَزْرَةَ فَاجَأَهَا مِنَ الْمُفَاجَأَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ شُبَيْلُ بْنُ عَزْرَةَ: فَاجَأَهَا. فَقِيلَ:
هُوَ مِنَ الْمُفَاجَأَةِ بِوَزْنِ فَاعِلِهَا فَبُدِّلَتْ هَمْزَتُهَا بِأَلِفِ تَخْفِيفٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَمْزَةً بَيْنَ بَيْنَ غَيْرَ مَقْلُوبَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ كَقِرَاءَةِ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ الْمَخاضُ بِكَسْرِ الْمِيمِ يُقَالُ مَخَضَتِ الْحَامِلُ مَخَاضًا وَمِخَاضًا وَتَمَخَّضَ الولد في بطنها: وإِلى تتعلق بفاجأها، وَمَنْ قَرَأَ فَاجَأَهَا مِنَ الْمُفَاجَأَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ مُسْتَنِدَةٌ أَيْ فِي حَالِ اسْتِنَادِهَا إِلَى النَّخْلَةِ، وَالْمُسْتَفِيضُ الْمَشْهُورُ أَنَّ مِيلَادَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَيْتَ لَحْمٍ، وَأَنَّهَا لَمَّا هَرَبَتْ وَخَافَتْ عَلَيْهِ أَسْرَعَتْ بِهِ وَجَاءَتْ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَوَضَعَتْهُ عَلَى صَخْرَةٍ فَانْخَفَضَتِ الصَّخْرَةُ لَهُ وَصَارَتْ كَالْمَهْدِ وَهِيَ الْآنَ مَوْجُودَةٌ تُزَارُ بِحَرَمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ إِلَى بَحْرِ الْأُرْدُنِّ فَعَمَّدَتْهُ فِيهِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي
251
يَتَّخِذُهُ النَّصَارَى وَيُسَمُّونَهُ يَوْمَ الْغِطَاسِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْمِيَاهَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَقَدَّسَتْ فَلِذَلِكَ يَغْطِسُونَ فِي كُلِّ مَاءٍ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ بِمِصْرَ قَالَ: بِكُورَةِ أَهْنَاسَ.
قِيلَ: وَنَخْلَةُ مَرْيَمَ قَائِمَةٌ إِلَى الْيَوْمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّخْلَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ مَجِيءِ مَرْيَمَ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْبَتَ لَهَا نَخْلَةً تَعَلَّقَتْ بِهَا.
وَرُوِيَ أَنَّهَا بَلَغَتْ إِلَى مَوْضِعٍ كَانَ فِيهِ جِذْعُ نَخْلَةٍ يَابِسٌ بَالٍ أَصْلُهُ مُدَوِّدٌ لَا رَأْسَ لَهُ وَلَا ثَمَرَ وَلَا خُضْرَةَ
، وَأَلْ إِمَّا لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَوِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ كَأَنَّ تِلْكَ الصَّحْرَاءَ كَانَ بِهَا جِذْعُ نَخْلَةٍ مَعْرُوفٌ فَإِذَا قِيلَ جِذْعِ النَّخْلَةِ فُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَرْشَدَهَا تَعَالَى إِلَى النَّخْلَةِ لِيُطْعِمَهَا مِنْهَا الرُّطَبَ الَّذِي هُوَ خُرْسَةُ النُّفَسَاءِ الْمُوَافِقَةُ لَهَا وَلِظُهُورِ تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْهَا فَتَسْتَقِرُّ نَفْسُهَا وَتَقَرُّ عَيْنُهَا، فَاشْتَدَّ بِهَا الْأَمْرُ هُنَالِكَ وَاحْتَضَنَتْ الْجِذْعَ لِشِدَّةِ الْوَجَعِ وَوَلَدَتْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَتْ عِنْدَ وِلَادَتِهَا لِمَا رَأَتْهُ مِنَ الْآلَامِ وَالتَّغَرُّبِ وَإِنْكَارِ قَوْمِهَا وَصُعُوبَةِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ مَا وَجْهٍ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَتَمَنَّتْ مَرْيَمُ الْمَوْتَ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ إِذْ خَافَتْ أَنْ يُظَنَّ بِهَا الشَّرُّ فِي دِينِهَا وَتُعَيَّرَ فَيَغْبَنَهَا ذَلِكَ، وَهَذَا مُبَاحٌ وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ تَمَنَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِالْبَدَنِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ مِنَ الْقُرَّاءِ فِي كَسْرِ الْمِيمِ مِنْ مِتُّ وَضَمِّهَا فِي آلِ عِمْرَانَ، وَالنَّسْيُ الشَّيْءُ الْحَقِيرُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنْسَى فَلَا يُتَأَلَّمَ لِفَقْدِهِ كَالْوَتَدِ وَالْحَبْلِ لِلْمُسَافِرِ وَخِرْقَةِ الطَّمْثِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالذَّبْحِ وَهُوَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُذْبَحَ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ بِفَتْحِ النُّونِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: نِسْأً بِكَسْرِ النُّونِ وَالْهَمْزِ مَكَانَ الْيَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ نون الْأَعْرَابِيِّ. وَقَرَأَ بَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ السَّهْمِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ أَيْضًا نَسَأً بِفَتْحِ النُّونِ وَالْهَمْزِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ نَسَأْتُ اللَّبَنَ إِذَا صَبَبْتَ عَلَيْهِ مَاءً، فَاسْتُهْلِكَ اللَّبَنُ فِيهِ لِقِلَّتِهِ فَكَأَنَّهَا تَمَنَّتْ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ اللَّبَنِ الَّذِي لَا يُرَى وَلَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الْمَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ بَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ نَسًا بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ بَنَاهُ عَلَى فَعَلٍ كَالْقَبَضِ وَالنَّفَضِ. قَالَ الْفَرَّاءُ نَسْيٌ وَنِسْيٌ لُغَتَانِ كَالْوِتْرِ وَالْوَتْرِ وَالْفَتْحُ أَحَبُّ إِلَيَّ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الْكَسْرُ أَعْلَى اللُّغَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مِنْ كَسَرَ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُنْسَى كَالنِّقْضِ اسْمٌ لما ينقض، ومنه فَتَحَ فَمَصْدَرٌ نَائِبٌ عَنِ اسْمٍ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ دَنَفٌ وَدَنِفٌ وَالْمَكْسُورُ هُوَ الْوَصْفُ الصَّحِيحُ وَالْمَفْتُوحُ مَصْدَرٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الْوَصْفِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا لِمَعْنًى كَالرِّطْلِ وَالرَّطْلِ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا إِلَى الْحَمْلِ.
252
وَقِيلَ: قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ أَوْ قَبْلَ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي جَرَى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو جَعْفَرٍ فِي رِوَايَةِ مَنْسِيًّا بِكَسْرِ الْمِيمِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ السِّينِ كَمَا قَالُوا مُنْتِنٌ بِإِتْبَاعِ حَرَكَةِ الْمِيمِ لِحَرَكَةِ التَّاءِ. وَقِيلَ: تَمَنَّتْ ذَلِكَ لِمَا لَحِقَهَا مِنْ فَرْطِ الْحَيَاءِ عَلَى حُكْمِ الْعَادَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَا كَرَاهَةً لِحُكْمِ اللَّهِ أَوْ لِشِدَّةِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهَا إِذَا بَهَتُوهَا وَهِيَ عَارِفَةٌ بِبَرَاءَةِ السَّاحَةِ، وبضد ما قربت مِنِ اخْتِصَاصِ اللَّهِ إِيَّاهَا بِغَايَةِ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ لِأَنَّهُ مَقَامُ دَحْضٍ قَلَّمَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْأَقْدَامُ، أَوْ لِحُزْنِهَا على الناس أن يَأْثَمُ النَّاسُ بِسَبَبِهَا.
وَرُوِيَ أَنَّهَا سَمِعَتْ نِدَاءً اخْرُجْ يَا مَنْ يُعْبَدُ مِنْ دون الله فحزنت وقالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ.
وَقَالَ وَهْبٌ: أَنْسَاهَا كَرْبُ الْوِلَادَةَ وَمَا سَمِعَتْ مِنَ النَّاسِ بِشَارَةَ الْمَلَائِكَةِ بِعِيسَى.
وَقَرَأَ زِرٌّ وَعَلْقَمَةُ فَخَاطَبَهَا مَكَانَ فَناداها وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لَا قراءة لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَالْمُنَادَى الظَّاهِرُ أَنَّهُ عِيسَى أَيْ فَوَلَدَتْهُ فَأَنْطَقَهُ اللَّهُ وَنَادَاهَا أَيْ حَالَةَ الْوَضْعِ. وَقِيلَ: جِبْرِيلُ وَكَانَ فِي بُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ أَخْفَضَ مِنَ الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا وَقَالَهُ الْحَسَنُ وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ. قِيلَ: وَكَانَ يَقْبَلُ الْوَلَدَ كَالْقَابِلَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَناداها مَلَكٌ مِنْ تَحْتِها. وَقَرَأَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالضَّحَّاكُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ مِنْ حَرْفُ جَرٍّ. وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَالْأَبَوَانِ وَعَاصِمٌ وَزِرٌّ وَمُجَاهِدٌ وَالْجَحْدَرِيُّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَنْهُمَا مِنْ بِفَتْحِ الْمِيمِ بِمَعْنَى الَّذِي وتَحْتِها ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ صِلَةٌ لِمَنْ، وَهُوَ عِيسَى أَيْ نَادَاهَا الْمَوْلُودُ قَالَهُ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وأن حَرْفُ تَفْسِيرٍ أَيْ لَّا تَحْزَنِي وَالسَّرِيُّ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ الْجَدْوَلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ وَقَتَادَةُ عَظِيمًا مِنَ الرِّجَالِ لَهُ شَأْنٌ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ فَسَّرَ الْآيَةَ فَقَالَ: أَجَلْ لَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ سَرِيًّا كَرِيمًا فَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ:
يَا أَبَا سَعِيدٍ إِنَّمَا يَعْنِي بِالسَّرِيِّ الْجَدْوَلَ، فَقَالَ الْحَسَنُ لِهَذِهِ وَأَشْبَاهِهَا أُحِبُّ قُرْبَكِ، وَلَكِنْ غَلَبَنَا الْأُمَرَاءُ.
ثُمَّ أَمَرَهَا بِهَزِّ الْجِذْعِ الْيَابِسِ لِتَرَى آيَةً أُخْرَى فِي إِحْيَاءِ مَوَاتِ الْجِذْعِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:
بَلْ كَانَتِ النَّخْلَةُ مُطَعَّمَةً رُطَبًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الْجِذْعُ مَقْطُوعًا وَأُجْرِيَ تَحْتَهُ النَّهْرُ لِجَنْبِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُكَلِّمَ هُوَ عِيسَى وَأَنَّ الْجِذْعَ كَانَ يَابِسًا وَعَلَى هَذَا ظَهَرَتْ لَهَا آيَاتٌ تَسْكُنُ إِلَيْهَا وَحُزْنُهَا لَمْ يَكُنْ لِفَقْدِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى تَتَسَلَّى بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلَكِنْ لِمَا ظَهَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِقَوْمِهَا أَنَّ وِلَادَتَهَا مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ لَيْسَ بِبِدْعٍ مِنْ شَأْنِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ جِذْعًا نَخِرًا فَلَمَّا هَزَّتْ إِذِ السَّعَفُ قَدْ طَلَعَ ثُمَّ نَظَرَتْ إِلَى الطَّلْعِ يَخْرُجُ مِنْ
253
بَيْنِ السَّعَفِ، ثُمَّ اخْضَرَّ فَصَارَ بَلَحًا، ثُمَّ احْمَرَّ فَصَارَ زَهْوًا ثُمَّ رُطَبًا كُلُّ ذَلِكَ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَجَعَلَ الرُّطَبُ يَقَعُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا لَا يتسرح منه شيء. وإلى حَرْفٌ بِلَا خِلَافٍ وَيَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ وَهُزِّي وَهَذَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، وَقَدْ رُفِعَ الضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ ظَنَّ وَلَا فَقَدَ وَلَا عَلِمَ وَهُمَا لِمَدْلُولٍ وَاحِدٍ لَا يُقَالُ: ضَرَبْتُكَ وَلَا زَيْدٌ ضَرَبَهُ أَيْ ضَرَبَ نَفْسَهُ وَلَا ضَرَبَنِي إِنَّمَا يُؤْتَى فِي مِثْلِ هَذِهِ التَّرَاكِيبِ بِالنَّفْسِ فَتَقُولُ: ضَرَبْتَ نَفْسَكَ وَزَيْدٌ ضَرَبَ نَفْسَهُ وَضَرَبْتُ نَفْسِي وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عِنْدَهُمْ كَالضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فَلَا تَقُولُ: هَزَزْتُ إِلَيْكَ وَلَا زَيْدٌ هَزَّ إِلَيْهِ وَلَا هَزَزْتَ إِلَيَّ وَلِهَذَا زَعَمُوا فِي قَوْلِ الشاعر:
دع عنك نهيا صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ وَلَكِنْ حديثا ما حدثت الرَّوَاحِلِ
وَفِي قَوْلِ الْآخَرِ:
وَهَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنَّ الْأُمُو رَ بِكَفِّ الْإِلَهِ مَقَادِيرُهَا
إِنَّ عَنْ وَعَلَى لَيْسَا حَرْفَيْنِ وَإِنَّمَا هُمَا اسْمَانِ ظَرْفَانِ، وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ لِأَنَّ عَنْ وَعَلَى قَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُمَا اسْمَيْنِ فِي قَوْلِهِ:
مِنْ عَنْ يَمِينِ الْحُبَيَّا نَظْرَةٌ قَبَلُ وَفِي قَوْلِهِ:
غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بعد ما تَمَّ ظِمْؤُهَا وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ زَعَمَ أَنَّ عَلَى لَا تَكُونُ حَرْفًا أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّهَا اسْمٌ فِي كُلِّ مَوَارِدِهَا وَنُسِبَ إِلَى سِيبَوَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ إِلَى تَكُونُ اسْمًا لِإِجْمَاعِ النُّحَاةِ عَلَى حَرْفِيَّتِهَا كَمَا قُلْنَا.
وَنَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَهُزِّي إِلَيْكِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ «١» وَعَلَى تَقْرِيرِ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ يَنْبَغِي تَأْوِيلُ هَذَيْنِ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِلَيْكِ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِهُزِّي وَلَا بِاضْمُمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ وَالتَّقْدِيرُ أَعْنِي إِلَيْكِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «٢» وَمَا أَشْبَهَهُ عَلَى بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ. وَالْبَاءُ فِي بِجِذْعِ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «٣». قَالَ أَبُو عَلِيٍّ كَمَا يُقَالُ: أَلْقَى بِيَدِهِ أَيْ ألقى يده. وكقوله:
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٣٢.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٢١.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٩٥.
254
سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ أَيْ لَا يَقْرَأْنَ السور. وأنشد الطبري:
فؤاد يمان ينبت السدر صدره وأسفله بالمرخ والسهان
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ عَلَى مَعْنَى افْعَلِي الْهَزَّ بِهِ. كَقَوْلِهِ:
يَخْرُجُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي قَالُوا: التَّمْرُ لِلنُّفَسَاءِ عَادَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ التَّحْنِيكُ، وَقَالُوا: كَانَ مِنَ الْعَجْوَةِ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وَقِيلَ: مَا لِلنُّفَسَاءِ خَيْرٌ مِنَ الرُّطَبِ. وَقِيلَ: إِذَا عَسُرَ وِلَادُهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا خَيْرٌ مِنَ الرُّطَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُساقِطْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالسِّينِ وَشَدِّهَا بَعْدَ أَلِفٍ وَفَتْحِ الْقَافِ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَمَسْرُوقٌ وَحَمْزَةُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ خَفَّفُوا السِّينَ. وَقَرَأَ حَفْصٌ تُساقِطْ مُضَارِعُ سَاقَطَتْ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ تَتَسَاقَطُ بِتَاءَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَالْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةٍ يَسَّاقَطْ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتِ مُضَارِعِ اسَّاقَطَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَمَسْرُوقٌ. تسقط بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقٍ مَضْمُومَةً وَكَسْرِ الْقَافِ. وَعَنْ أَبِي حَيْوَةَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَعَنْهُ تَسْقُطْ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ مَفْتُوحَةً وَضَمِّ الْقَافِ، وَعَنْهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قِرَاءَةِ أَبِي حَيْوَةَ هَذِهِ أَنَّهُ قَرَأَ رُطَبٌ جَنِيٌّ بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَإِنْ قَرَأَ بِفِعْلٍ مُتَعَدٍّ نَصَبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ أَوْ بِفِعْلٍ لَازِمٍ فَنَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى الْجِذْعِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَمُسْنَدٌ إِلَى النَّخْلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى الْجِذْعِ عَلَى حَدِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ «١» وَفِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ يَلْتَقِطْهُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ.
وَأَجَازَ الْمُبَرِّدُ فِي قَوْلِهِ رُطَباً أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ وَهُزِّي أَيْ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ رُطَبًا تُسَاقِطْ عَلَيْكِ، فَعَلَى هَذَا الَّذِي أَجَازَهُ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ فَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ مَعْمُولُ تُساقِطْ فَمَنْ قَرَأَهُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ فَظَاهِرٌ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الأعمال، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فَلَا لِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِ هُزِّي إِذْ ذَاكَ وَالْفِعْلُ اللَّازِمُ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ جَنِيًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ النُّونِ وَالرِّزْقُ فَإِنْ كَانَ مَفْرُوغًا مِنْهُ فَقَدْ وُكِّلَ ابْنُ آدَمَ إِلَى سَعْيِ مَا فِيهِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَتْ مَرْيَمُ بِهَزِّ الْجِذْعِ وَعَلَى هَذَا جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ وَلَيْسَ ذلك بمناف للتوكل.
(١) سورة يوسف: ١٢/ ١٠.
255
وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ عِيسَى لَهَا لَا تَحْزَنِي، فَقَالَتْ: كَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَأَنْتَ مَعِي لَا ذَاتَ زَوْجٍ وَلَا مَمْلُوكَةً أَيُّ شَيْءٍ عُذْرِي عِنْدَ النَّاسِ؟ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْآيَةَ فَقَالَ لَهَا عِيسَى: أَنَا أَكْفِيكِ الْكَلَامَ
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ جَمَعْنَا لَكِ فِي السَّرِيِّ وَالرُّطَبِ فَائِدَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَالثَّانِيَةُ سَلْوَةُ الصَّدْرِ لِكَوْنِهِمَا مُعْجِزَتَيْنِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً أَيْ وَطِيبِي نَفْسًا وَلَا تَغْتَمِّي وَارْفُضِي عَنْكِ مَا أَحْزَنَكِ وَأَهَمَّكِ انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَتِ الْعَادَةُ تَقْدِيمَ الْأَكْلِ عَلَى الشُّرْبِ تَقَدَّمَ فِي الآية والمجاورة قَوْلِهِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا وَلَمَّا كَانَ الْمَحْزُونُ قَدْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ قَالَ:
وَقَرِّي عَيْناً أَيْ لَا تَحْزَنِي، ثُمَّ أَلْقَى إِلَيْهَا مَا تَقُولُ إِنْ رَأَتْ أحدا. وقرىء وَقَرِّي بِكَسْرِ الْقَافِ وَهِيَ لُغَةٌ نَجْدِيَّةٌ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي مَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ رُومِيٍّ تَرَئِنَّ بِالْإِبْدَالِ مِنَ الْيَاءِ هَمْزَةً وَرُوِيَ عَنْهُ لَتَرَؤُنَّ بِالْهَمْزِ أَيْضًا بَدَلَ الْوَاوِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ لَحْنٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا مِنْ لُغَةِ مَنْ يَقُولُ لتأت بِالْحَجِّ وَحَلَأْتُ السَّوِيقَ وَذَلِكَ لِتَآخٍ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحُرُوفِ اللِّينِ فِي الْإِبْدَالِ انْتَهَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ تَرَيِنَّ بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ خَفِيفَةً. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَهِيَ شَاذَّةٌ يَعْنِي لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرِ الْجَازِمُ فَيَحْذِفَ النُّونَ. كَمَا قَالَ الْأَفْوَهُ الْأَوْدِيُّ:
أَمَا تَرَى رَأْسِي أَزْرَى بِهِ مَآسُ زَمَانٍ ذِي انْتِكَاسٍ مؤوس
وَالْآمِرُ لَهَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَذَلِكَ الْقَوْلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ وَلَدُهَا. وَقِيلَ جِبْرِيلُ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُبِيحَ لَهَا أَنْ تَقُولَ مَا أُمِرَتْ بِقَوْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَى فَقُولِي أَيْ بِالْإِشَارَةِ لَا بِالْكَلَامِ وَإِلَّا فَكَانَ التَّنَاقُضُ يُنَافِي قَوْلَهَا انْتَهَى. وَلَا تَنَاقُضَ لِأَنَّ الْمَعْنَى فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا بعد فَقُولِي هَذَا وَبَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، أَيْ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً وَسَأَلَكِ أَوْ حَاوَرَكِ الْكَلَامَ فَقُولِي.
وقرأ يد بْنُ عَلِيٍّ صِيَامًا وَفَسَّرَ صَوْماً بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الْكَلَامِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ صَمْتًا. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِثْلُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: كَانَتْ سُنَّةُ الصِّيَامِ عِنْدَهُمُ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْأَكْلِ وَالْكَلَامِ انْتَهَى. وَالصَّمْتُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَا يَصِحُّ نَذْرُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ».
وَقَدْ أَمَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالنُّطْقِ وَأُمِرَتْ بِنَذْرِ الصَّوْمِ لِأَنَّ عِيسَى بِمَا يُظْهِرُ اللَّهُ عَلَيْهِ يَكْفِيهَا أَمْرَ الِاحْتِجَاجِ وَمُجَادَلَةِ السُّفَهَاءِ. وَقَوْلُهُ إِنْسِيًّا لِأَنَّهَا كَانَتْ تُكَلِّمُ الملائكة دون الإنس.
256
أَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا.
فَأَتَتْ بِهِ قِيلَ إِتْيَانُهَا كَانَ مِنْ ذَاتِهَا. قِيلَ: طَهُرَتْ مِنَ النِّفَاسِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرَاهَا آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ، وَكَلَّمَهَا عيسى ابنها وَحَنَّتْ إِلَى الْوَطَنِ وَعَلِمَتْ أَنَّ عِيسَى سَيَكْفِيهَا مَنْ يُكَلِّمُهَا فَعَادَتْ إِلَى قَوْمِهَا. وَقِيلَ: أَرْسَلُوا إِلَيْهَا لَتَحْضُرِي إِلَيْنَا بِوَلَدِكِ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ أَخْبَرَ قَوْمَهَا بِوِلَادَتِهَا وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ فَلَمَّا رَأَوْهَا وَابْنَهَا قالُوا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: الْفَرِيُّ الْعَظِيمُ الشَّنِيعُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ فِيمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ فَرِيًّا بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَفِيمَا نَقَلَ ابْنُ خَالَوَيْهِ فَرْئًا بِالْهَمْزِ. وهارُونَ شَقِيقُهَا أَوْ أَخُوهَا مِنْ أُمِّهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْثَلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ هارُونَ أَخُو مُوسَى إِذْ كَانَتْ مِنْ نَسْلِهِ، أَوْ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شُبِّهَتْ بِهِ، أَوْ رَجُلٌ مِنَ النِّسَاءِ وَشَبَّهُوهَا بِهِ أَقْوَالٌ. وَالْأَوْلَى أَنَّهُ أَخُوهَا الْأَقْرَبُ.
وَفِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ حِينَ خَصَمَهُ نَصَارَى نَجْرَانَ فِي قوله تعالى يا أُخْتَ هارُونَ وَالْمُدَّةَ بَيْنَهُمَا طَوِيلَةٌ جِدًّا فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: «أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ».
وَأَنْكَرُوا عَلَيْهَا مَا جَاءَتْ بِهِ وَأَنَّ أَبَوَيْهَا كَانَا صَالِحَيْنِ، فَكَيْفَ صَدَرَتْ مِنْكِ هَذِهِ الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفُرُوعَ غَالِبًا تَكُونُ زَاكِيَةً إِذَا زَكَتِ الْأُصُولُ، وَيُنْكَرُ عَلَيْهَا إِذَا جَاءَتْ بِضِدِّ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ لَجَأٍ التَّيْمِيُّ الشَّاعِرُ الَّذِي كَانَ يُهَاجِي جَرِيرًا مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ لجعل الْخَبَرَ الْمَعْرِفَةَ وَالِاسْمَ النَّكِرَةَ وَحَسَّنَ ذَلِكَ قَلِيلًا كَوْنُهَا فيها مسوع جَوَازِ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ الْإِضَافَةُ، وَلَمَّا اتَّهَمُوهَا بِمَا اتَّهَمُوهَا نَفَوْا عَنْ أَبَوَيْهَا السُّوءَ لِمُنَاسَبَةِ الْوِلَادَةِ، وَلَمْ يَنُصُّوا عَلَى إِثْبَاتِ الصَّلَاحِ وَإِنْ كَانَ نَفْيُ السُّوءِ يُوجِبُ الصَّلَاحَ وَنَفْيُ الْبِغَاءِ يُوجِبُ الْعِفَّةَ لِأَنَّهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا نَقِيضَانِ.
رُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ بِهِ عَلَى قَوْمِهَا وَهُمْ أَهْلُ بَيْتٍ صَالِحُونَ تَبَاكَوْا وَقَالُوا ذَلِكَ. وَقِيلَ: هَمُّوا بِرَجْمِهَا حَتَّى تَكَلَّمَ عِيسَى فَتَرَكُوهَا.
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أَيْ هُوَ الَّذِي يُجِيبُكُمْ إِذَا نَاطَقْتُمُوهُ.
وَقِيلَ: كَانَ الْمُسْتَنْطِقُ لِعِيسَى زَكَرِيَّا.
وَيُرْوَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَشَارُوا إِلَى الطِّفْلِ قَالُوا: اسْتِخْفَافُهَا بِنَا أَشَدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا، ثُمَّ قَالُوا لَهَا عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ وَالتَّهَكُّمِ بِهَا أَيْ إِنَّ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ يُرَبَّى لَا يُكَلَّمُ، وَإِنَّمَا
257
أَشَارَتْ إِلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ لَهَا مِنْ وَعْدِهِ أَنَّهُ يُجِيبُهُمْ عَنْهَا وَيُغْنِيهَا عَنِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: بِوَحْيٍ مِنَ الله إليها. وكانَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: تَامَّةٌ وَيَنْتَصِبُ صَبِيًّا عَلَى الْحَالِ فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَاقِصَةٌ فَتَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ أَوْ تَبْقَى عَلَى مَدْلُولِهَا مِنِ اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ الْمَاضِي، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الِانْقِطَاعِ كَمَا لَمْ يَدُلَّ فِي قَوْلِهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «١» وَفِي قوله وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً «٢» وَالْمَعْنَى كانَ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا كَانَ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ كانَ هَذِهِ بِأَنَّهَا تُرَادِفُ لَمْ يَزَلْ وَمَا رَدَّ بِهِ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ كَوْنَهَا زَائِدَةً مِنْ أَنَّ الزَّائِدَةُ لَا خَبَرَ لَهَا، وَهَذِهِ نَصَبَتْ صَبِيًّا خَبَرًا لَهَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الِاسْتِقْرَارُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ لِإِيقَاعِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ فِي زَمَانٍ مَاضٍ مُبْهَمٍ يَصْلُحُ لِقَرِيبِهِ وَبِعِيدِهِ وَهُوَ هَاهُنَا لِقَرِيبِهِ خَاصَّةً وَالدَّالُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَأَنَّهُ مَسُوقٌ لِلتَّعَجُّبِ، وَوَجْهٌ آخَرُ أَنْ يَكُونَ نُكَلِّمُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ أَيْ كَيْفَ عُهِدَ قَبْلَ عِيسَى أَنْ يُكَلِّمَ النَّاسُ صَبِيًّا.
فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فِيمَا سَلَفَ مِنَ الزَّمَانِ حَتَّى نُكَلِّمَ هَذَا انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ مَفْعُولٌ بِنُكَلِّمُ. وَنُقِلَ عَنِ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ أَنَّ مَنْ شرطية وكانَ فِي مَعْنَى يَكُنْ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَكَيْفَ نُكَلِّمُ وَهُوَ قَوْلٌ بِعِيدٌ جِدًّا. وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْمَهْدِ حِجْرُ أُمِّهِ. وَقِيلَ: سَرِيرُهُ. وَقِيلَ: الْمَكَانُ الَّذِي يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَامَ مُتَّكِئًا عَلَى يَسَارِهِ وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِسَبَّابَتِهِ الْيُمْنَى
، وَأَنْطَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا بِقَوْلِهِ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ رَدًّا لِلْوَهْمِ الَّذِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى.
وفي قوله عَبْدُ اللَّهِ وَالْجُمَلُ الَّتِي بَعْدَهُ تَنْبِيهٌ عَلَى بَرَاءَةِ أُمِّهِ مِمَّا اتُّهِمَتْ بِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخَصُّ بِوَلَدٍ مَوْصُوفٍ بِالنُّبُوَّةِ وَالْخِلَالِ الْحَمِيدَةِ إِلَّا مبرأة مصطفاة والْكِتابَ الْإِنْجِيلُ أَوِ التَّوْرَاةُ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا أَقْوَالٌ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا أَنَّهُ تَعَالَى نَبَّأَهُ حَالَ طُفُولِيَّتِهِ أَكْمَلَ اللَّهُ عَقَلَهُ وَاسْتَنْبَأَهُ طِفْلًا. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ سَبَقَ فِي قَضَائِهِ وَسَابِقِ حُكْمِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْعَلَ الْآتِي لِتَحَقُّقِهِ كَأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ وَجَعَلَنِي مُبارَكاً قَالَ مُجَاهِدٌ: نَفَّاعًا. وَقَالَ سُفْيَانُ: مُعَلِّمُ خَيْرٍ. وَقِيلَ: آمِرًا بِمَعْرُوفٍ، نَاهِيًا عَنْ مُنْكَرٍ. وَعَنِ الضحاك: قضاء للحوائج وأَيْنَ مَا كُنْتُ شَرْطٌ وَجَزَاؤُهُ محذوف تقديره جَعَلَنِي مُبارَكاً وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لَجَعَلَنِي السَّابِقِ لِأَنَّ أَيْنَ لَا يَكُونُ إِلَّا اسْتِفْهَامًا أَوْ شَرْطًا لَا جائز
(١) سورة النساء: ٤/ ٩٦.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٣٢.
258
أَنْ يَكُونَ هُنَا اسْتِفْهَامًا، فَتَعَيَّنَتِ الشَّرْطِيَّةُ وَاسْمُ الشَّرْطِ لَا يَنْصِبُهُ فِعْلٌ قَبْلَهُ إِنَّمَا هُوَ مَعْمُولٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَلِيهِ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ عَلَى مَا شُرِعَ فِي الْبَدَنِ وَالْمَالِ. وقيل:
الزَّكاةِ زكاة الرؤوس فِي الْفِطَرِ. وَقِيلَ الصَّلَاةُ الدعاء، والزَّكاةِ التطهر.
وما فِي مَا دُمْتُ مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَرَأَ دُمْتُ بِضَمِّ الدَّالِ عَاصِمٌ وَجَمَاعَةٌ. وَقَرَأَ دِمْتُ بِكَسْرِ الدَّالِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو انْتَهَى. وَالَّذِي فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّ الْقُرَّاءَ السَّبْعَةَ قرؤوا دُمْتُ حَيًّا بِضَمِّ الدَّالِّ، وَقَدْ طَالَعْنَا جُمْلَةً مِنَ الشَّوَاذِّ فَلَمْ نَجِدْهَا لَا فِي شَوَاذِّ السَّبْعَةِ وَلَا فِي شَوَاذِّ غَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لُغَةٌ تَقُولُ دُمْتُ تَدَامُ كَمَا قَالُوا مِتُّ تمات، وسبق أنه قرىء وَبِرًّا بِكَسْرِ الْبَاءِ فَإِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَذَا بِرٍّ، وَإِمَّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ جَعَلَ ذَاتَهُ مِنْ فَرْطِ بِرِّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضْمَرَ فِعْلٌ فِي مَعْنَى أَوْصَانِي وَهُوَ كَلَّفَنِي لِأَنَّ أَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَكَلَّفَنِيهَا وَاحِدٌ، وَمَنْ قَرَأَ وَبَرًّا بِفَتْحِ الْبَاءِ، فَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مُبارَكاً وَفِيهِ بُعْدٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ أَوْصانِي وَمُتَعَلِّقِهَا، وَالْأَوْلَى إِضْمَارُ فِعْلٍ أَيْ وَجَعَلَنِي بَرًّا. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنَّهُ قرىء وَبِرٍّ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَالرَّاءِ عَطْفًا عَلَى بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ.
وَقَوْلُهُ: بِوالِدَتِي بَيَانُ مَحَلِّ الْبِرِّ وَأَنَّهُ لَا وَالِدَ لَهُ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ بَرَّأَهَا قَوْمُهَا. وَالْجَبَّارُ كَمَا تَقَدَّمَ الْمُتَعَاظِمُ وَكَانَ فِي غَايَةِ التَّوَاضُعِ يَأْكُلُ الشَّجَرَ وَيَلْبَسُ الشَّعْرَ وَيَجْلِسُ عَلَى التُّرَابِ حَيْثُ جَنَّهُ اللَّيْلُ لَا مَسْكَنَ لَهُ،
وَكَانَ يَقُولُ: سَلُونِي فَإِنِّي لَيِّنُ الْقَلْبِ صَغِيرٌ فِي نَفْسِي
، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي وَالسَّلامُ لِلْجِنْسِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا التَّعْرِيفُ تَعْرِيضٌ بِلَعْنَةِ مُتَّهِمِي مَرْيَمَ وَأَعْدَائِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ اللَّامَ لِلْجِنْسِ فَإِذَا قَالَ: وَجِنْسُ السَّلَامِ عَلَيَّ خَاصَّةً فَقَدْ عَرَّضَ بِأَنَّ ضِدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَنَظِيرُهُ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى «١» يَعْنِي إِنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ مُنَاكَرَةٍ وَعِنَادٍ فَهُوَ مَئِنَّةٌ لِنَحْوِ هَذَا مِنَ التَّعْرِيضِ. وَقِيلَ: أَلْ لِتَعْرِيفِ الْمُنَكَّرِ فِي قِصَّةٍ يَحْيَى فِي قَوْلِهِ وَسَلامٌ
نَحْوُ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا «٢» فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ أَيْ وَذَلِكَ السَّلَامُ الْمُوَجَّهُ إِلَى يَحْيَى فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ مُوَجَّهٌ إِلَيَّ. وَسَبَقَ الْقَوْلُ فِي تَخْصِيصِ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ يَوْمَ وُلِدْتُ أَيْ يَوْمَ وَلَدْتَنِي جَعَلَهُ مَاضِيًا لَحِقَتْهُ تَاءُ التَّأْنِيثِ ورجح
(١) سورة طه: ٢٠/ ٤٧.
(٢) سورة المزمل: ٧٣/ ١٥. [.....]
259
وَسَلَامٌ عَلَيَّ وَالسَّلَامُ لِكَوْنِهِ مِنَ اللَّهِ وَهَذَا مِنْ قَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: سَلَامُ عِيسَى أَرْجَحُ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَقَامَهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَ نَفْسِهِ فَسَلَّمَ نائبا عن الله.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٤ الى ٤٠]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَوْلُودِ الَّذِي وَلَدَتْهُ مَرْيَمُ الْمُتَّصِفُ بِتِلْكَ الأوصاف الجميلة، وذلِكَ مبتدأ وعِيسَى خبره وابْنُ مَرْيَمَ صِفَةٌ لِعِيسَى أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ بَدَلٌ، وَالْمَقْصُودُ ثُبُوتُ بُنُوَّتِهِ مِنْ مَرْيَمَ خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ أَبٍ فَلَيْسَ بِابْنٍ لَهُ كَمَا يَزْعُمُ النَّصَارَى وَلَا لِغَيْرِ رِشْدَةٍ كَمَا يَزْعُمُ الْيَهُودُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ قَوْلَ الْحَقِّ بِنَصْبِ اللَّامِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ أَيْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ عِيسَى أَنَّهُ ابْنُ مَرْيَمَ ثَابِتٌ صِدْقٌ لَيْسَ مَنْسُوبًا لِغَيْرِهَا، أَيْ إِنَّهَا وَلَدَتْهُ مِنْ غَيْرِ مَسِّ بَشَرٍ كَمَا تَقُولُ هَذَا عَبْدُ الله الحق لَا الْبَاطِلَ، أَيْ أَقُولُ الْحَقِّ وَأَقُولُ قَوْلَ الْحَقِّ فَيَكُونُ الْحَقِّ هُنَا الصِّدْقُ وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ أَيِ الْقَوْلُ الْحَقِّ كَمَا قَالَ وَعْدَ الصِّدْقِ «١» أَيْ الْوَعْدُ الصِّدْقُ وَإِنْ عَنَى بِهِ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ الْقَوْلُ مُرَادًا بِهِ الْكَلِمَةُ كَمَا قَالُوا كَلِمَةُ اللَّهِ كَانَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَدْحِ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الَّذِي صِفَةً لِلْقَوْلِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الَّذِي صِفَةً لِلْحَقِّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَ بِرَفْعِ اللَّامِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ قَالُ بِأَلِفٍ وَرَفْعِ اللَّامِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ قَوْلَ بِضَمِّ الْقَافِ وَرَفْعِ اللَّامِ وَهِيَ مَصَادِرُ كَالرَّهَبِ وَالرَّهْبِ وَالرُّهْبِ وارتفاعه عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ أَيْ نِسْبَتُهُ إِلَى أُمِّهِ فَقَطْ قَوْلَ الْحَقِّ فَتَتَّفِقُ إِذْ ذَاكَ قِرَاءَةُ النَّصْبِ وَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ فِي الْمَعْنَى.
(١) سورة الأحقاف: ٤٦/ ١٦.
260
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ بَدَلٌ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْمَجَازِ فِي قَوْلٍ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِهِ كَلِمَةُ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَكُونُ الذَّاتَ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةٍ زَائِدَةٍ قَالَ: بِأَلِفٍ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا الْحَقِّ بِرَفْعِ الْقَافِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَالْمَعْنَى قَالَ الْحَقُّ وَهُوَ اللَّهُ ذلِكَ النَّاطِقُ الْمَوْصُوفُ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ هُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ والَّذِي عَلَى هَذَا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ الَّذِي.
وَقَرَأَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَالسُّلَمِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ وَالْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ تَمْتَرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ
وَالْجُمْهُورُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَامْتَرَى افْتَعَلَ إِمَّا مِنَ الْمِرْيَةِ وَهِيَ الشَّكُّ، وَإِمَّا مِنَ الْمِرَاءِ وَهُوَ الْمُجَادَلَةُ وَالْمُلَاحَاةُ، وَكِلَاهُمَا مَقُولٌ هُنَا قَالَتِ الْيَهُودُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، وَقَالَتِ النَّصَارَى ابْنُ اللَّهِ وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَهُوَ اللَّهُ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ هَذَا تَكْذِيبٌ لِلنَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَإِذَا اسْتَحَالَتِ الْبُنُوَّةُ فَاسْتِحَالَةُ الْإِلَهِيَّةِ مُسْتَقِلَّةٌ أَوْ بِالتَّثْلِيثِ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِحَالَةِ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ مَعْنَاهُ الِانْتِفَاءُ فَتَارَةً يَدُلُّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى الزَّجْرِ مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ «١» وَتَارَةً عَلَى التَّعْجِيزِ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «٢» وَتَارَةً عَلَى التَّنْزِيهِ كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ هَذَا النَّفْيَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ أَيْ تَنَزَّهَ عَنِ الْوَلَدِ إِذْ هُوَ مِمَّا لَا يُتَأَتَّى وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَعْقُولِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ لِاسْتِحَالَتِهِ، إِذْ هُوَ تَعَالَى مَتَى تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِإِيجَادِ شيء أو جده فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّوَالُدِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ إِذا قَضى أَمْراً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَإِنَّ اللَّهَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ بِالْكَسْرِ دُونَ وَاوٍ.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَإِنَّ بِالْوَاوِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ هَذَا قَوْلَ الْحَقِّ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي كَذَلِكَ. وَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ وَلِأَنَّهُ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ كَقَوْلِهِ وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً «٣» انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ أَيْضًا، وَبِأَنَّ اللَّهَ بِالْوَاوِ وَبَاءِ الْجَرِّ أَيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَاعْبُدُوهُ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ في وَإِنَّ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ مَعْطُوفًا عَلَى وَالزَّكَاةِ، أَيْ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ «٤» وَبِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ انْتَهَى. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِلْفَصْلِ الْكَثِيرِ، وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِمَعْنَى الْأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ.
(١) سورة التوبة: ٩/ ١٢٠.
(٢) سورة النمل: ٢٧/ ٦٠.
(٣) سورة الجن: ٧٣/ ١٨.
(٤) سورة مريم: ١٩/ ٣١.
261
وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى، وَقَضَى إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ أَمْراً مِنْ قَوْلِهِ إِذا قَضى أَمْراً وَالْمَعْنَى إِذا قَضى أَمْراً وَقَضَى إِنَّ اللَّهَ انْتَهَى. وَهَذَا تَخْبِيطٌ فِي الْإِعْرَابِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى أَمْراً كَانَ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ، وَكَوْنُهُ تَعَالَى رَبَّنَا لَا يَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ وَهَذَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ فَإِنَّهُ مِنَ الْجَلَالَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ بِالْمَكَانِ الَّذِي قَلَّ أَنْ يُوَازِنَهُ أَحَدٌ مَعَ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ فَهْمِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَإِنَّهُ يُضَعَّفُ فِي النَّحْوِ وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِ وَرَبُّكُمْ قِيلَ لِمُعَاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ هَذَا الْكَلَامَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلَّذِينِ خَاطَبَهُمْ عِيسَى بِقَوْلِهِ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ «١» الْآيَةَ وَإِنَّ اللَّهَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَقَدْ قَالَ وَهْبٌ عَهَدَ عِيسَى إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ وَمَنْ كَسَرَ الْهَمْزَةَ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَحْكِيًّا.
يُقَالُ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ قَوْلِهِ ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ- إِلَى- وَإِنَّ اللَّهَ حمل اعْتِرَاضٍ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا أَيِ الْقَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ، هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي يُفْضِي بِقَائِلِهِ وَمُعْتَقِدِهِ إِلَى النَّجَاةِ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ لِلرَّسُولِ بِتَفَرُّقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِرَقًا، وَمَعْنَى مِنْ بَيْنِهِمْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُمْ بَلْ كَانُوا هُمُ الْمُخْتَلِفِينَ لَمْ يَقَعِ الِاخْتِلَافُ سَبَبُهُ غَيْرُهُمْ. والْأَحْزابُ قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لَمَّا قَصَّ عَلَيْهِمْ قِصَّةَ عِيسَى اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ انْتَهَى. فَالضَّمِيرُ فِي بَيْنِهِمْ عَلَى هَذَا لَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْأَحْزابُ.
وَقِيلَ: الْأَحْزابُ هُنَا الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: هُمُ النَّصَارَى فَقَطْ.
وَعَنْ قَتَادَةَ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمَعُوا أَرْبَعَةً مِنْ أَحْبَارِهِمْ. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: عِيسَى هُوَ اللَّهُ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ وَأَحْيَا مَنْ أَحْيَا وَأَمَاتَ مَنْ أَمَاتَ، فَكَذَّبَهُ الثَّلَاثَةُ وَاتَّبَعَتْهُ الْيَعْقُوبِيَّةُ. ثُمَّ قَالَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ: عِيسَى ابْنُ اللَّهِ فَكَذَّبَهُ الِاثْنَانِ وَاتَّبَعَتْهُ النُّسْطُورِيَّةُ، وَقَالَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ: عِيسَى أَحَدُ ثَلَاثَةٍ اللَّهُ إِلَهٌ، وَمَرْيَمُ إِلَهٌ، وَعِيسَى إِلَهٌ فَكَذَّبَهُ الرَّابِعُ وَاتَّبَعَتْهُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ. وَقَالَ الرَّابِعُ:
عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَاتَّبَعَتْهُ فِرْقَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ اقْتَتَلَ الْأَرْبَعَةُ، فَغُلِبَ الْمُؤْمِنُونَ وَظَهَرَتِ الْيَعْقُوبِيَّةُ عَلَى الْجَمِيعِ فَرُوِيَ أَنَّ فِي ذَلِكَ نَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ «٢» آيَةُ آلِ عِمْرَانَ، وَالْأَرْبَعَةُ يَعْقُوبُ وَنُسْطُورُ وَمَلْكَا وإسرائيل.
(١) سورة مريم: ١٩/ ٣٠.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ٢١.
262
وبين هُنَا أَصْلُهُ ظَرْفٌ اسْتُعْمِلَ اسْمًا بِدُخُولِ مِنْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ.
وَقِيلَ الْبَيْنُ هُنَا الْبُعْدُ أَيِ اخْتَلَفُوا فِيهِ لِبُعْدِهِمْ عَنِ الحق. ومَشْهَدِ مَفْعَلِ مِنَ الشُّهُودِ وَهُوَ الْحُضُورُ أَوْ مِنَ الشَّهَادَةِ وَيَكُونُ مَصْدَرًا وَمَكَانًا وَزَمَانًا، فَمِنَ الشُّهُودِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ شُهُودِ هَوْلِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ مَكَانِ الشُّهُودِ فِيهِ وَهُوَ الْمَوْقِفُ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ وَقْتِ الشُّهُودِ وَمِنَ الشَّهَادَةِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ شَهَادَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَأَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَأَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِالْكُفْرِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ مَكَانِ الشَّهَادَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ وَقْتِ الشَّهَادَةِ وَالْيَوْمُ الْعَظِيمُ عَلَى هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: هُوَ يَوْمُ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ اخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ وَقِيلَ مَا قَالُوهُ وَشَهِدُوا بِهِ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ يَوْمَ اخْتِلَافِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّعَجُّبِ الْوَارِدِ مِنَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ «١» وَأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالتَّعَجُّبِ.
قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَئِنْ كَانُوا صُمًّا وَبُكْمًا عَنِ الْحَقِّ فَمَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ السَّمْعُ وَلَا الْبَصَرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُمْ أَسْمَعُ شَيْءٍ وَأَبْصَرُهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هُوَ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ أَيْ سَوْفَ يَسْمَعُونَ مَا يَخْلَعُ قُلُوبَهُمْ، وَيُبْصِرُونَ مَا يُسَوِّدُ وُجُوهَهُمْ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: إِنَّهُ أَمْرُ حَقِيقَةٍ لِلرَّسُولِ أَيْ أَسْمِعْ الناس اليوم وأبصرهم بِهِمْ وَبِحَدِيثِهِمْ مَاذَا يُصْنَعُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ إِذَا أَتَوْا مَحْشُورِينَ مَغْلُولِينَ لكِنِ الظَّالِمُونَ عُمُومٌ يَنْدَرِجُ فِيهِ هؤلاء الأحزاب الكفارة وغيرهم من الظالمين، والْيَوْمَ أَيْ فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْقَعَ الظَّاهِرَ أَعْنِي الظَّالِمِينَ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ إِشْعَارًا بِأَنْ لَا ظُلْمَ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِهِمْ حَيْثُ أَغْفَلُوا الِاسْتِمَاعَ وَالنَّظَرَ حِينَ يُجْدِي عَلَيْهِمْ وَيُسْعِدُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالضَّلَالِ الْمُبِينِ إِغْفَالُ النَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ انْتَهَى.
وَأَنْذِرْهُمْ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالضَّمِيرُ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الظَّالِمِينَ.
ويَوْمَ الْحَسْرَةِ يَوْمَ ذَبْحِ الْمَوْتِ وَفِيهِ حَدِيثٌ.
وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: حِينَ يَصْدُرُ الْفَرِيقَانِ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: حِينَ يَرَى الْكُفَّارُ مَقَاعِدَهُمُ الَّتِي فَاتَتْهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْحَسْرَةِ اسْمَ جِنْسٍ لِأَنَّ هَذِهِ حَسَرَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي مَوَاطِنَ عِدَّةٍ، وَمِنْهَا يَوْمُ الْمَوْتِ، وَمِنْهَا وَقْتُ أَخْذِ الْكِتَابِ بِالشَّمَالِ وَغَيْرُ ذَلِكَ انْتَهَى.
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٧٥.
263
ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊ ﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙ ﰿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ
وإِذْ بد مِنْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ. قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: قُضِيَ الْأَمْرُ ذُبِحَ الْمَوْتُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قُضِيَ الْعَذَابُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْمَعْنَى إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ هَلَاكُكُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا بَرَزَتْ جَهَنَّمُ وَرَمَتْ بِالشَّرَرِ. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَيْضًا: إِذَا فُرِغَ مِنَ الْحِسَابِ وَأُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ. وَقِيلَ إِذَا قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «١». وَقِيلَ: إِذَا يُقَالُ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ «٢» وَقِيلَ:
إِذَا قُضِيَ سَدُّ بَابِ التَّوْبَةِ وَذَلِكَ حِينَ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا.
وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عَنِ الْحَسَنِ وَأَنْذِرْهُمْ إِعْرَاضٌ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَنْذِرْهُمْ أَيْ وَأَنْذِرْهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ غَافِلِينَ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ يُرِيدُ فِي الدُّنْيَا الْآنَ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ كَذَلِكَ انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَالًا وَالْعَامِلُ فِيهِ وَأَنْذِرْهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مُشْتَغِلُونَ بِأُمُورِ دُنْيَاهُمْ مُعْرِضُونَ عَمَّا يُرَادُ مِنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وقُضِيَ الْأَمْرُ أَمْرَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها تَجُوزُ وَعِبَارَةٌ عَنْ فَنَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبَقَاءِ الْخَالِقِ فَكَأَنَّهَا وِرَاثَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُرْجَعُونَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْأَعْرَجُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَحَكَى عَنْهُمُ الداني بالتاء.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٩٨]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١٠٨.
(٢) سورة يس: ٣٦/ ٥٩.
264
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا
266
لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا.
وَاذْكُرْ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ وَذَاكِرُهُ وَمُورِدُهُ فِي التَّنْزِيلِ هُوَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا عِيسَى وَاخْتِلَافَ الْأَحْزَابِ فِيهِمَا وَعِبَادَتَهُمَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَانَا مِنْ قَبِيلِ مَنْ قَامَتْ بِهِمَا الْحَيَاةُ ذَكَرَ الْفَرِيقَ الضَّالَّ الَّذِي عَبَدَ جَمَادًا وَالْفَرِيقَانِ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الضَّلَالِ، وَالْفَرِيقُ الْعَابِدُ الْجَمَادَ أَضَلُّ ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَذْكِيرًا لِلْعَرَبِ بِمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَبْيِينَ أَنَّهُمْ سَالِكُو غَيْرِ طَرِيقِهِ، وَفِيهِ صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَلَقًّى بِالْوَحْيِ وَالصِّدِّيقُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالِغَةِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ مِنَ الثُّلَاثِيِّ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ كَثِيرُ الصِّدْقِ، وَالصِّدْقُ عُرْفُهُ فِي اللِّسَانِ وَيُقَابِلُهُ الْكَذِبُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْخُلُقِ وَفِيمَا لَا يَعْقِلُ يُقَالُ: صَدَقَنِي الطَّعَامَ كَذَا وَكَذَا قَفِيزًا، وُعُودٌ صِدْقٌ لِلصُّلْبِ الْجَيِّدِ فَوُصِفَ إِبْرَاهِيمُ بِالصِّدْقِ عَلَى الْعُمُومِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالصِّدِّيقِيَّةُ مَرَاتِبُ أَلَا تَرَى إِلَى وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا فِي قَوْلِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ «١» وَمِنْ غَرِيبِ النَّقْلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ مِنْ أَنَّ فِعِّيلًا إِذَا كَانَ مِنْ مُتَعَدٍّ جَازَ أَنْ يَعْمَلَ فَتَقُولُ هَذَا شِرِّيبٌ مُسْكِرٌ كَمَا أَعْمَلُوا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فَعُولًا وَفَعَّالًا وَمِفْعَالًا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمُرَادُ فَرْطُ صِدْقِهِ وَكَثْرَةُ مَا صَدَّقَ بِهِ مِنْ غُيُوبِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَكُتُبِهِ ورسوله، وَكَانَ الرُّجْحَانُ وَالْغَلَبَةُ فِي هَذَا التَّصْدِيقِ لِلْكُتُبِ وَالرُّسُلِ أَيْ كَانَ مُصَدِّقًا لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَكُتُبِهِمْ وَكَانَ نَبِيًّا فِي نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ «٢» وَكَانَ بَلِيغًا فِي الصِّدْقِ لِأَنَّ مِلَاكَ أَمْرِ النُّبُوَّةِ الصِّدْقُ وَمُصَدِّقَ اللَّهِ بِآيَاتِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ حَرِيٌّ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَبَدَلِهِ أَعْنِي إِبْراهِيمَ.
(١) سورة النساء: ٤/ ٦٩.
(٢) سورة الصافات: ٣٧/ ٣٧.
267
وإِذْ قالَ
نَحْوُ قَوْلِكَ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَنِعْمَ الرَّجُلُ أَخَاكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ إِذْ
بَكَانَ أَوْ بِ صِدِّيقاً نَبِيًّا أَيْ كَانَ جَامِعًا لِخَصَائِصِ الصِّدِّيقِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ حِينَ خَاطَبَ أَبَاهُ تِلْكَ الْمُخَاطَبَاتِ انْتَهَى. فَالتَّخْرِيجُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي تَصَرُّفَ إِذْ
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّهَا لَا تَتَصَرَّفُ، وَالتَّخْرِيجُ الثَّانِي مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ كَانَ النَّاقِصَةَ وَأَخَوَاتَهَا تَعْمَلُ فِي الظُّرُوفِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ. وَالتَّخْرِيجُ الثَّالِثُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يُنْسَبُ إِلَّا إِلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، أَمَّا أَنْ يُنْسَبَ إِلَى مُرَكَّبٍ مِنْ مَجْمُوعِ لَفْظَيْنِ فَلَا، وَجَائِزٌ أن يكون معمولا لصديقا لِأَنَّهُ نَعْتٌ إِلَّا عَلَى رَأْيِ الْكُوَفِيِّينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يكون معمولا لنبيا أَيْ مُنَبَّأً فِي وَقْتِ قَوْلِهِ لِأَبِيهِ مَا قَالَ، وَأَنَّ التَّنْبِئَةَ كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَقَرَأَ أَبُو الْبِرِّ هُثَيْمٍ إِنَّهُ كَانَ صَادِقًا. وَفِي قوله يا أَبَتِ
تَلَطُّفٌ وَاسْتِدْعَاءٌ بِالنَّسَبِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ يَا أَبَتِ
بِفَتْحِ التَّاءِ وَقَدْ لَحَّنَ هَارُونُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى يَا أَبَتِ
فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَا أَبَتِ بِوَاوٍ بَدَلَ يَاءٍ، وَاسْتَفْهَمَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ السَّبَبِ الْحَامِلِ لأبيه على عبادة الضم وَهُوَ مُنْتَفٍ عَنْهُ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْإِغْنَاءُ عَنْهُ شَيْئًا تَنْبِيهًا عَلَى شُنْعَةِ الرَّأْيِ وَقُبْحِهِ وَفَسَادِهِ فِي عِبَادَةِ مَنِ انْتَفَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْأَوْصَافُ.
وَخَطَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: انْظُرْ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ أَبَاهُ وَيَعِظَهُ فِيمَا كَانَ مُتَوَرِّطًا فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ الْعَظِيمِ وَالِارْتِكَابِ الشَّنِيعِ الَّذِي عَصَى فِيهِ أَمْرَ الْعَقْلِ وَانْسَلَخَ عَنْ قَضِيَّةِ التَّمْيِيزِ كَيْفَ رَتَّبَ الْكَلَامَ مَعَهُ فِي أَحْسَنِ اتِّسَاقٍ وَسَاقَهُ أَرْشَقَ مَسَاقٍ مَعَ اسْتِعْمَالِ الْمُجَامَلَةِ وَاللُّطْفِ وَالرِّفْقِ وَاللِّينِ وَالْأَدَبِ الْجَمِيلِ وَالْخُلُقِ الْحَسَنِ مُنْتَصِحًا فِي ذَلِكَ نَصِيحَةَ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا.
حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عليه لسلام إِنَّكَ خَلِيلِي حَسِّنْ خُلُقَكَ وَلَوْ مَعَ الْكُفَّارِ، تَدْخُلْ مَدَاخِلَ الْأَبْرَارِ»
، كَلِمَتِي سَبَقَتْ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ أُظِلُّهُ تَحْتَ عَرْشِي وَأُسْكِنُهُ حَظِيرَةَ الْقُدْسِ، وَأُدْنِيهِ مِنْ جِوَارِي.
وَسَرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ هَذَا كَلَامًا كَثِيرًا مِنْ نَوْعِ الخطابة تركناه.
وما لَا يَسْمَعُ
الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً وَمَعْمُولُ يَسْمَعُ
ويُبْصِرُ
مَنْسِيٌّ وَلَا يَنْوِي أَيْ مَا لَيْسَ بِهِ اسْتِمَاعٌ وَلَا إِبْصَارٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ دُونَ تقييد بمتعلق. وشَيْئاً
. إِمَّا مَصْدَرٍ أَوْ مَفْعُولٍ بِهِ، وَلَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْعِلَّةِ فِي عِبَادَةِ الصَّنَمِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجِدَ جَوَابًا، انْتَقَلَ مَعَهُ إِلَى إِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ قَدْ جَاءَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا
268
لَمْ يَأْتِهِ وَلَمْ يَصِفْ أَبَاهُ بِالْجَهْلِ إِذْ يُغْنِي عَنْهُ السُّؤَالُ السَّابِقُ. وَقَالَ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّبْعِيضِ أَيْ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ لَيْسَ مَعَكَ، وَهَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بعد ما نبىء، إِذْ فِي لَفْظِ جاءَنِي تَجَدُّدُ الْعِلْمِ، وَالَّذِي جَاءَهُ الْوَحْيُ الَّذِي أَتَى بِهِ الْمَلَكُ أَوِ الْعِلْمُ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ وَثَوَابِهَا وَعِقَابِهَا أَوْ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ فَاتَّبِعْنِي عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وارفض الأصنام يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ. وَانْتَقَلَ مَنْ أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِهِ إِلَى نَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ وَعِبَادَتُهُ كَوْنُهُ يُطِيعُهُ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ثُمَّ نَفَّرَهُ عَنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ بِأَنَّهُ كَانَ عَصِيًّا لِلرَّحْمَنِ، حَيْثُ اسْتَعْصَى حِينَ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَأَبَى، فَهُوَ عَدُوٌّ لَكَ وَلِأَبِيكَ آدَمَ مِنْ قَبْلُ. وَكَانَ لَفْظُ الرَّحْمَنِ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى سِعَةِ رَحْمَتِهِ، وَأَنَّ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ وَلَا يُعْصَى، وَإِعْلَامًا بِشَقَاوَةِ الشَّيْطَانِ حَيْثُ عَصَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَارْتَكَبَ مِنْ ذَلِكَ مَا طَرَدَهُ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا لِنَفْسِهِ عِصْيَانَ رَبِّهِ لَا يَخْتَارُ لِذُرِّيَّتِهِ مَنْ عَصَى لِأَجْلِهِ إِلَّا مَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ من عصيانهم.
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالطَّبَرِيُّ أَخافُ أَعْلَمُ كَمَا قَالَ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما «١» أَيْ تَيَقَّنَّا، وَالْأَوْلَى حَمْلُ أَخافُ عَلَى مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ آيِسًا مِنْ إِيمَانِهِ بَلْ كَانَ رَاجِيًا لَهُ وَخَائِفًا أَنْ لَا يُؤْمِنَ وَأَنْ يَتَمَادَى عَلَى الْكُفْرِ فَيَمَسَّهُ الْعَذَابُ، وَخَوَّفَهُ إِبْرَاهِيمُ سُوءَ الْعَاقِبَةِ وَتَأَدَّبَ مَعَهُ إِذْ لَمْ يُصَرِّحْ بِلُحُوقِ الْعَذَابِ بِهِ بَلْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْخَائِفِ، وَأَتَى بِلَفْظِ الْمَسِّ الَّذِي هُوَ أَلْطَفُ مِنَ الْمُعَاقَبَةِ وَنَكَّرَ الْعَذَابَ، وَرَتَّبَ عَلَى مَسِّ الْعَذَابِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَهُوَ وِلَايَةُ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «٢» أَيْ مِنَ النَّعِيمِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ، وَصَدَّرَ كُلَّ نَصِيحَةٍ بِقَوْلِهِ يَا أَبَتِ توسلا إِلَيْهِ وَاسْتِعْطَافًا.
وَقِيلَ: الْوِلَايَةُ هُنَا كَوْنُهُ مَقْرُونًا مَعَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ تَبَاغَضَا وَتَبَرَّأَ بَعْضُهُمَا مِنْ بَعْضٍ.
وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ وَلِيًّا فِي الدُّنْيَا لِلشَّيْطَانِ فَيَمَسَّكَ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ. وَقَوْلُهُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ لَا يُعَيِّنُ أَنَّ الْعَذَابَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ الْعَذَابُ عَلَى الْخِذْلَانِ مِنَ اللَّهِ فَيَصِيرَ مُوَالِيًا لِلشَّيْطَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَسُّ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يُبْتَلَى عَلَى كُفْرِهِ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونَ ذَلِكَ الْعَذَابُ سَبَبًا لِتَمَادِيهِ عَلَى الْكُفْرِ وَصَيْرُورَتِهِ إِلَى وَلَايَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى أَنْ يُوَافَى عَلَى الْكُفْرِ كَمَا قَالَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «٣» وَهَذِهِ الْمُنَاصَحَاتُ
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٨٠.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٧٢. [.....]
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٦٨.
269
تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِمُعَالَجَةِ أَبِيهِ، وَالطَّمَاعِيَةِ فِي هِدَايَتِهِ قَضَاءً لِحَقِّ الْأُبُوَّةِ وَإِرْشَادًا إِلَى الْهُدَى «لأن يهدي الله بك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ».
قالَ أَيْ أَبُوهُ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ، وَالرَّغْبَةُ عَنِ الشَّيْءِ تَرْكُهُ عَمْدًا وَآلِهَتُهُ أَصْنَامُهُ، وَأَغْلَظَ لَهُ فِي هَذَا الْإِنْكَارِ وَنَادَاهُ بِاسْمِهِ وَلَمْ يُقَابِلْ يَا أَبَتِ بِيَا بُنِيَّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُدِّمَ الْخَبَرُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فِي قَوْلِهِ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي لِأَنَّهُ كَانَ أَهَمَّ عِنْدَهُ وَهُوَ عِنْدَهُ أَعْنِي وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ لِرَغْبَتِهِ عَنْ آلِهَتِهِ، وَإِنَّ آلِهَتَهُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْغَبَ عَنْهَا أَحَدٌ. وَفِي هَذَا سُلْوَانٌ وَثَلْجٌ لِصَدْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا كَانَ يَلْقَى مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ كُفَّارِ قَوْمِهِ انْتَهَى. وَالْمُخْتَارُ فِي إِعْرَابِ أَراغِبٌ أَنْتَ أَنْ يَكُونَ رَاغِبٌ مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ عَلَى أداة الاستفهام، وأَنْتَ فَاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْإِعْرَابُ عَلَى مَا أَعْرَبَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ كون أَراغِبٌ خبرا وأَنْتَ مُبْتَدَأٌ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ إِذْ رُتْبَةُ الْخَبَرِ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الْمُبْتَدَأِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فُصِلَ بَيْنَ الْعَامِلِ الَّذِي هُوَ أَراغِبٌ وَبَيْنَ مَعْمُولِهِ الَّذِي هُوَ عَنْ آلِهَتِي بِمَا لَيْسَ بِمَعْمُولٍ لِلْعَامِلِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ هُوَ عَامِلًا فِي الْمُبْتَدَأِ بِخِلَافِ كَوْنِ أَنْتَ فَاعِلًا فإن مَعْمُولُ أَراغِبٌ فَلَمْ يُفْصَلْ بَيْنَ أَراغِبٌ وَبَيْنَ عَنْ آلِهَتِي بِأَجْنَبِيٍّ إِنَّمَا فُصِلَ بِمَعْمُولٍ لَهُ.
وَلَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ رَغْبَتَهُ عَنْ آلِهَتِهِ تَوَعَّدَهُ مُقْسِمًا عَلَى إِنْفَاذِ مَا تَوَعَّدَهُ بِهِ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ وَمُتَعَلِّقُ تَنْتَهِ مَحْذُوفٌ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُخَاطَبَتِي بِمَا خَاطَبْتَنِي بِهِ وَدَعَوْتَنِي إِلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنِ الرَّغْبَةِ عَنْ آلِهَتِي لَأَرْجُمَنَّكَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ لَئِنْ.
قَالَ الْحَسَنُ: بِالْحِجَارَةِ. وَقِيلَ: لَأَقْتُلَنَّكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: لَأَشْتُمَنَّكَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: عَلَامَ عُطِفَ وَاهْجُرْنِي؟ قُلْتُ: عَلَى مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَأَرْجُمَنَّكَ أَيْ فَاحْذَرْنِي وَاهْجُرْنِي لِأَنَّ لَأَرْجُمَنَّكَ تَهْدِيدٌ وَتَقْرِيعٌ انْتَهَى. وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى حَذْفٍ لِيُنَاسِبَ بَيْنَ جُمْلَتَيِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بَلْ يَجُوزُ عَطْفُ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْإِنْشَائِيَّةِ. فَقَوْلُهُ وَاهْجُرْنِي مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَكِلَاهُمَا مَعْمُولٌ لِلْقَوْلِ.
وَانْتَصَبَ مَلِيًّا عَلَى الظَّرْفِ أَيْ دَهْرًا طَوِيلًا قَالَهُ الْجُمْهُورُ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا،
270
وَمِنْهُ الْمَلَوَانُ وَهُمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالْمُلَاوَةُ بِتَثْلِيثِ حَرَكَةِ الْمِيمِ الدَّهْرُ الطَّوِيلُ مِنْ قَوْلِهِمْ:
أَمْلَيْتُ لِفُلَانٍ فِي الْأَمْرِ إِذَا أَطَلْتُ لَهُ. وقال الشاعر:
فعسنا بِهَا مِنَ الشَّبَابِ مُلَاوَةً فالحج آيَاتُ الرَّسُولِ الْمُحَبَّبِ
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: سِيرَ عَلَيْهِ مَلِيٌّ مِنَ الدَّهْرِ أَيْ زَمَانٌ طَوِيلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ:
مَلِيًّا معناه سالما سَوِيًّا فَهُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ وَاهْجُرْنِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَلْخِيصُ هَذَا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ مُسْتَنِدًا بِحَالِكَ غَنِيًّا عَنِّي مَلِيًّا بِالِاكْتِفَاءِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ أَبَدًا.
وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهِلٍ:
فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الْجِبَالِ لِمَوْتِهِ وَبَكَتْ عَلَيْهِ الْمُرْمِلَاتُ مَلِيًّا
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: دَهْرًا، وَأَصْلُ الْحَرْفِ الْمُكْثُ يُقَالُ: تَمَلَّيْتُ حِينًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ مَلِيًّا بِالذَّهَابِ عَنِّي وَالْهِجْرَانِ قَبْلَ أَنْ أُثْخِنَكَ بِالضَّرْبِ حَتَّى لَا تَقْدِرَ أن تبرخ فُلَانٌ مَلِيٌّ بِكَذَا إِذَا كَانَ مُطِيقًا لَهُ مُضْطَلِعًا بِهِ انْتَهَى.
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ. قَرَأَ أَبُو الْبِرِّ هُثَيْمٌ: سَلَامًا بِالنَّصْبِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: هَذَا بِمَعْنَى الْمُسَالَمَةِ لَا بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ، أَيْ أَمَنَةً مِنِّي لَكَ وَهَؤُلَاءِ لَا يَرَوْنَ ابْتِدَاءَ الْكَافِرِ بِالسَّلَامِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ حَلِيمٌ: خَاطَبَ سَفِيهًا كَقَوْلِهِ وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً «١». وَقِيلَ: هِيَ تَحِيَّةُ مُفَارِقٍ، وَجَوَّزَ قَائِلُ هَذَا تَحِيَّةَ الْكَافِرِ وَأَنْ يُبْدَأَ بِالسَّلَامِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ مَذْهَبُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ «٢» الْآيَةَ وَبِقَوْلِهِ قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ «٣» الآية.
وقالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ سَلامٌ عَلَيْكَ وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مُتَأَوَّلٌ، وَمَذْهَبُهُمْ مَحْجُوجٌ بِمَا ثَبَتَ
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ»
وَرَفْعُ سَلامٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَنَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ سَلَّمْتُ سَلَامًا دُعَاءً لَهُ بِالسَّلَامَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمَالَةِ، ثُمَّ وَعَدَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِشَرْطِ حُصُولِ مَا يُمْكِنُ مَعَهُ الِاسْتِغْفَارُ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَهَذَا كَمَا يَرِدُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى الْكَافِرِ وَلَا يَصِحُّ الِامْتِثَالُ إِلَّا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ.
وَمَعْنَى سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ أَدْعُو اللَّهَ فِي هِدَايَتِكَ فَيَغْفِرُ لَكَ بِالْإِيمَانِ وَلَا يُتَأَوَّلُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِكَافِرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ عليه
(١) سورة الفرقان: ٣٥/ ٦٣.
(٢) سورة الممتحنة: ٦٠/ ٨.
(٣) سورة الممتحنة: ٦٠/ ٤.
271
السَّلَامُ أَوَّلَ نَبِيٍّ أُوحِيَ إِلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِكَافِرٍ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ إِنَّمَا طَرِيقُهَا السَّمْعُ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْهُ لِأَبِيهِ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَبَيَّنَ لَهُ فِي أَبِيهِ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ كَمَا رُوِيَ، وَإِمَّا أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ الْحَتْمُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ إِنَّمَا هُوَ السَّمْعُ، فَأَمَّا الْقَضِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فَلَا تَأْبَاهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَعْدُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالْوَفَاءُ بِهِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ بِنَاءً عَلَى قَضِيَّةِ الْعَقْلِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «١» فَلَوْ كَانَ شَارِطًا لِلْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنْكَرًا ومستثنى عما وجب فِيهِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لَهُ لِأَنَّهُ وَعَدَهُ أَنْ يُؤْمِنَ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ «٢» فَجَعَلَ الْوَاعِدَ آزَرَ وَالْمَوْعُودَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِاعْتِقَابِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَعْدَ بِالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الجافي في قَوْلِهِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ الْآيَةَ. فَكَيْفَ يَكُونُ وَعْدُهُ بِالْإِيمَانِ؟ وَلِأَنَّ الْوَاعِدَ هُوَ إِبْرَاهِيمُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ حَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ وَعَدَهَا إِيَّاهُ.
وَالْحَفِيُّ الْمُكْرِمُ الْمُحْتَفِلُ الْكَثِيرُ الْبِرِّ وَالْأَلْطَافِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ لُغَةً فِي قَوْلِهِ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها «٣». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَحِيمًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: حَلِيمًا. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: بَارًّا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: حَفِيُّكَ مَنْ يَهُمُّهُ أَمْرُكَ، وَلَمَّا كَانَ فِي قَوْلِهِ لَأَرْجُمَنَّكَ فَظَاظَةٌ وَقَسَاوَةُ قَلْبٍ قَابَلَهُ بِالدُّعَاءِ لَهُ بِالسَّلَامِ وَالْأَمْنِ وَوَعَدَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ قَضَاءً لِحَقِّ الْأُبُوَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْهُ إِغْلَاظٌ. وَلَمَّا أَمَرَهُ بِهَجْرِهِ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ يَتَمَثَّلُ أَمْرَهُ وَيَعْتَزِلُهُ وَقَوْمَهُ وَمَعْبُودَاتِهِمْ، فَهَاجَرَ إِلَى الشَّامِ قِيلَ أَوْ إِلَى حَرَّانَ وَكَانُوا بِأَرْضِ كَوْثَاءَ، وَفِي هِجْرَتِهِ هَذِهِ تَزَوَّجَ سَارَةَ وَلَقِيَ الْجَبَّارَ الَّذِي أَخْدَمَ سَارَةَ هَاجَرَ، وَالْأَظْهَرُ أن قوله وَأَدْعُوا رَبِّي مَعْنَاهُ وَأَعْبُدُ رَبِّي كَمَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «الدُّعَاءُ الْعِبَادَةُ»
لِقَوْلِهِ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الدُّعَاءُ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً «٤» إِلَى آخِرِهِ، وَعَرَّضَ بِشَقَاوَتِهِمْ بِدُعَاءِ آلِهَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا مَعَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ فِي كَلِمَةِ عَسى وَمَا فِيهِ مِنْ هَضْمِ النَّفْسِ. وَفِي عَسى تَرَجٍّ فِي ضِمْنِهِ خَوْفٌ شَدِيدٌ، وَلَمَّا فَارَقَ الْكُفَّارَ وَأَرْضَهُمْ أَبْدَلَهُ مِنْهُمْ أَوْلَادًا أَنْبِيَاءَ، وَالْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ فَكَانَ فِيهَا وَيَتَرَدَّدُ إِلَى مَكَّةَ فَوُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ وَابْنُهُ يَعْقُوبُ تَسْلِيَةً لَهُ وَشَدًّا لِعَضُدِهِ، وَإِسْحَاقُ أَصْغَرُ مِنْ إِسْمَاعِيلَ، وَلَمَّا حَمَلَتْ هَاجَرُ بِإِسْمَاعِيلَ غَارَتْ سَارَةُ ثُمَّ حَمَلَتْ بإسحاق.
(١) سورة الممتحنة: ٦٠/ ٤.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ١١٤.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٨٧.
(٤) سورة الشعراء: ٢٦/ ٨٣.
272
وَقَوْلُهُ مِنْ رَحْمَتِنا قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ النُّبُوَّةُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَالُ وَالْوَلَدُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرَ الدِّينِيَّ وَالدُّنْيَوِيَّ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ. وَلِسَانُ الصِّدْقِ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ الْبَاقِي عَلَيْهِمْ آخِرَ الْأَبَدِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبَّرَ بِاللِّسَانِ كَمَا عَبَّرَ بِالْيَدِ عَمَّا يُطْلَقُ بِالْيَدِ وَهِيَ الْعَطِيَّةُ. وَاللِّسَانُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الرِّسَالَةُ الرَّائِعَةُ كَانَتْ فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِّي أَتَتْنِي لِسَانٌ لَا أُسَرُّ بِهَا وَقَالَ آخَرُ:
نَدِمْتُ عَلَى لِسَانٍ كَانَ مِنِّي وَلِسَانُ الْعَرَبِ لُغَتُهُمْ وَكَلَامُهُمْ. اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ فَصَيَّرَهُ قُدْوَةً حَتَّى عَظَّمَهُ أَهْلُ الْأَدْيَانِ كُلُّهُمْ وَادَّعَوْهُ. وَقَالَ تَعَالَى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ «١» ومِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «٢» ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «٣» وَأَعْطَى ذَلِكَ ذُرِّيَّتَهُ فَأَعْلَى ذِكْرَهُمْ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، كَمَا أَعْلَى ذِكْرَهُمْ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ كَمَا أَعْلَى ذكره وأثنى عليه.
جَثَا: قَعَدَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَهِيَ قِعْدَةُ الْخَائِفِ الذَّلِيلِ يَجْثُو وَيَجْثِي جُثُوًّا وَجِثَايَةً. حَتَمَ الْأَمْرَ: أَوْجَبَهُ. النَّدِيُّ وَالنَّادِي: الْمَجْلِسُ الَّذِي يُجْتَمَعُ فِيهِ لِحَادِثَةٍ أَوْ مَشُورَةٍ. وَقِيلَ: مَجْلِسُ أَهْلِ النَّدَى وَهُوَ الْكَرَمُ. وَقِيلَ: الْمَجْلِسُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ. قَالَ حَاتِمٌ:
فَدُعِيتُ فِي أُولِي النَّدِيِّ وَلَمْ يُنْظَرْ إِلَيَّ بِأَعْيُنٍ خُزْرٍ
الرِّيُّ: مَصْدَرُ رَوَيْتُ مِنَ الْمَاءِ، وَاسْمُ مَفْعُولٍ أَيْ مَرْوِيٌّ قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ. الزِّيُّ: مَحَاسِنُ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الزِّيِّ وَهُوَ الْجَمْعُ. كَلَّا: حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ وَالْمُبَرِّدِ وَعَامَّةِ الْبَصْرِيِّينَ، وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ وَنَصْرُ بْنُ يُوسُفَ وَابْنُ وَاصِلٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ إِلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى حَقًّا، وَذَهَبَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ إِلَى أَنَّهَا حَرْفُ تَصْدِيقٍ بِمَعْنَى نَعَمْ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ مَعَ الْقَسَمِ. وَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ الْبَاهِلِيُّ إِلَى أَنَّ كَلَّا رَدٌّ لِمَا قَبْلَهَا فَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَمَا بَعْدَهَا اسْتِئْنَافٌ، وَتَكُونُ أَيْضًا صِلَةً لِلْكَلَامِ بِمَنْزِلَةِ أَيْ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. الضِّدُّ: الْعَوْنُ يُقَالُ: مِنْ أَضْدَادِكُمْ أَيْ أَعْوَانِكُمْ، وَكَأَنَّ الْعَوْنَ سُمِّيَ ضِدًّا لأنه يضاد
(١) سورة النساء: ٤/ ١٢٥.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٦١.
(٣) سورة النحل: ١٦/ ١٢٣.
273
عَدُوَّكَ وَيُنَافِيهِ بِإِعَانَتِهِ لَكَ عَلَيْهِ: الْأَزُّ وَالْهَزُّ وَالِاسْتِفْزَازُ أَخَوَاتٌ، وَمَعْنَاهَا التَّهْيِيجُ وَشِدَّةُ الْإِزْعَاجِ، وَمِنْهُ أَزِيزُ الْمِرْجَلِ وَهُوَ غَلَيَانُهُ وَحَرَكَتُهُ. وَفَدَ يَفِدُ وَفْدًا وَوُفُودًا وَوِفَادَةً: قَدِمَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرُمَةِ، الْأَدُّ وَالْإِدُّ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا الْعَجَبُ. وَقِيلَ: الْعَظِيمُ الْمُنْكَرُ وَالْإِدَّةُ الشِّدَّةُ، وَأَدَّنِي الْأَمْرُ وَآدَنِي أَثْقَلَنِي وَعَظُمَ عَلَيَّ أَدًّا. الْهَدُّ: قَالَ الجوهري هدّا الْبِنَاءَ هَدًّا كَسَرَهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ سُقُوطٌ بِصَوْتٍ شَدِيدٍ، وَالْهَدَّةُ صَوْتُ وَقْعِ الحائط ونحوه يقال:
هديهد بِالْكَسْرِ هَدِيدًا. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْهَدُّ الْهَدْمُ الشَّدِيدُ. الرِّكْزُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَمِنْهُ رَكَّزَ الرُّمْحَ غَيَّبَ طَرَفَهُ فِي الْأَرْضِ، وَالرِّكَازُ الْمَالُ الْمَدْفُونُ. وَقِيلَ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ دُونَ نُطْقٍ بِحُرُوفٍ وَلَا فَمٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الْأَنِيسِ فَرَاعَهَا عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ وَالْأَنِيسُ سِقَامُهَا
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا.
قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ مُخْلَصاً بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي رَزِينٍ وَيَحْيَى وَقَتَادَةَ، أَيْ أَخْلَصَهُ اللَّهُ لِلْعِبَادَةِ وَالنُّبُوَّةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ «١». وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ عَنِ الشِّرْكِ وَالرِّيَاءِ، أَوْ أَخْلَصَ نَفْسَهُ وَأَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ. وَنِدَاؤُهُ إِيَّاهُ هُوَ تكليمه تعالى إياه. والطُّورِ الْجَبَلُ الْمَشْهُورُ بِالشَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَيْمَنِ صِفَةٌ لِلْجَانِبِ لِقَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ «٢» بِنَصْبِ الْأَيْمَنَ نَعْتًا لِجَانِبِ الطُّورِ، وَالْجَبَلُ نَفْسُهُ لَا يُمْنَةَ لَهُ وَلَا يُسْرَةَ وَلَكِنْ كَانَ عَلَى يَمِينِ مُوسَى بِحَسْبِ وُقُوفِهِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْيَمَنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْجَانِبِ وَهُوَ الرَّاجِحُ لِيُوَافِقَ ذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلطُّورِ إِذْ مَعْنَاهُ الْأَسْعَدُ الْمُبَارَكُ.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَتَقْدِيرُهُ وَنادَيْناهُ حِينَ أَقْبَلَ مِنْ مَدْيَنَ وَرَأَى النَّارَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَهُوَ يُرِيدُ مَنْ يَهْدِيهِ إِلَى طَرِيقِ مِصْرَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ أَيْ مِنْ نَاحِيَةِ
(١) سورة ص: ٣٨/ ٤٦.
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٥٢ وسورة طه: ٢٠/ ٨٠.
274
الْجَبَلِ. وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا قَالَ الْجُمْهُورُ: تَقْرِيبُ التَّشْرِيفِ وَالْكَلَامِ وَالْيَوْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَدْنَى مُوسَى مِنَ الْمَلَكُوتِ وَرُفِعَتْ لَهُ الْحُجُبُ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، وَقَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمَيْسَرَةُ. وَقَالَ سعيد: أردفه جبريل على السَّلَامُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَهُ بِمَنْ قَرَّبَهُ بَعْضُ الْعُظَمَاءِ لِلْمُنَاجَاةِ حَيْثُ كَلَّمَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ انْتَهَى. وَنَجِيٌّ فَعِيلٌ مِنَ الْمُنَاجَاةِ بِمَعْنَى مُنَاجٍ كَالْجَلِيسِ، وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْمُنَاجَاةِ وَهِيَ الْمُسَارَّةُ بِالْقَوْلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى نَجَّاهُ صدقه ومن فِي مِنْ رَحِمَتِنَا لِلسَّبَبِ أَيْ مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِنَا لَهُ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ أَيْ بَعْضَ رَحْمَتِنَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وأَخاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَدَلٌ وهارُونَ عَطْفُ بَيَانٍ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ رَجُلًا أَخَاكَ زَيْدًا انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَخَاهُ مَفْعُولٌ بِقَوْلِهِ وَوَهَبْنا وَلَا تُرَادِفُ مِنْ بَعْضًا فَتُبْدَلَ مِنْهَا، وَكَانَ هَارُونُ أَسَنَّ مِنْ مُوسَى طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَشُدَّ أَزْرَهُ بنبوته ومعونته فأجابه وإِسْماعِيلَ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْعَرَبِ يَمَنِيِّهَا وَمُضَرِيِّهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ:
إِنَّهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ حِزْقِيلٍ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ فَشَجُّوا جلدة رأسه فخيره الله فِيمَا شَاءَ مِنْ عَذَابِهِمْ فَاسْتَعْفَاهُ وَرَضِيَ بِثَوَابِهِ وَفَوَّضَ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ فِي عَفْوِهِ وَعُقُوبَتِهِ، وَصِدْقُ وَعْدِهِ أَنَّهُ كَانَتْ مِنْهُ مَوَاعِيدُ لِلَّهِ وَلِلنَّاسِ فَوَفَّى بِالْجَمِيعِ، فَلِذَلِكَ خُصَّ بِصِدْقِ الْوَعْدِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَمْ يَعِدْ رَبَّهُ مَوْعِدَةً إِلَّا أَنْجَزَهَا، فَمِنْ مَوَاعِيدِهِ الصَّبْرُ وَتَسْلِيمُ نَفْسِهِ لِلذَّبْحِ، وَوَعَدَ رَجُلًا أَنْ يُقِيمَ لَهُ بِمَكَانٍ فَغَابَ عَنْهُ مُدَّةً. قِيلَ: سَنَةً. وَقِيلَ: اثَّنَى عَشَرَ يَوْمًا فَجَاءَهُ، فَقَالَ: بَرِحْتَ مِنْ مَكَانِكَ؟
فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، مَا كُنْتُ لِأُخْلِفَ مَوْعِدِي.
وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ. قَالَ الْحَسَنُ: قَوْمَهُ وَأُمَّتَهُ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ يَأْمُرُ قَوْمَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ يَبْدَأُ بِأَهْلِهِ فِي الْأَمْرِ بِالصَّلَاحِ وَالْعِبَادَةِ لِيَجْعَلَهُمْ قُدْوَةً لِمَنْ وَرَاءَهُمْ، وَلِأَنَّهُمْ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ النَّاسِ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «١» وأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ «٢» قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا «٣» أَيْ تَرَى أَنَّهُمْ أَحَقُّ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِمْ بِالْإِحْسَانِ الدِّينِيِّ أَوْلَى. وَقِيلَ: أَهْلَهُ أُمَّتَهُ كُلَّهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ أُمَمَ النَّبِيِّينَ فِي عِدَادِ أَهَالِيهِمْ، وَفِيهِ أَنَّ حَقَّ الصَّالِحِ أَنْ لَا يَأْلُوَ نُصْحًا لِلْأَجَانِبِ فَضْلًا عَنِ الأقارب والمتصلين، وأن يخطيهم بِالْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَلَا يُفَرِّطَ فِي ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَالَ أَيْضًا ذُكِرَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصِدْقِ الْوَعْدِ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَشْرِيفًا لَهُ وَإِكْرَامًا كَالتَّلْقِيبِ نَحْوِ الْحَلِيمِ الأواه وَالصِّدِّيقِ، وَلِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ الْمُتَوَاصَفُ من خصاله.
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٢١٤. [.....]
(٢) سورة طه: ٢٠/ ١٣٢.
(٣) سورة التحريم: ٦٦/ ٦.
275
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَرْضِيًّا وَهُوَ اسم مفعول أي مرضو وفاعل بِقَلْبِ وَاوِهِ يَاءً لِأَنَّهَا طَرَفٌ بَعْدَ وَاوٍ سَاكِنَةٍ، وَالسَّاكِنُ لَيْسَ بِحَاجِزٍ حَصِينٍ فَكَأَنَّهَا وَلِيَتْ حَرَكَةً، وَلَوْ بُنِيَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ مَفْعُلًا لَصَارَ مَفْعِلًا لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَكُونُ طَرَفًا وَقَبْلَهَا مُتَحَرِّكٌ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَمَكِّنَةِ غَيْرِ الْمُتَقَيِّدَةِ بِالْإِضَافَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ حِينَ سموا بيغزو الْغَازِيَ مِنَ الضَّمِيرِ قَالُوا: بغز حِينَ صَارَ اسْمًا، وَهَذَا الْإِعْلَالُ أَرْجَحُ مِنَ التَّصْحِيحِ، وَلِأَنَّهُ اعْتَلَّ فِي رَضِيٍّ وفي رضيان تثنية رضي. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مَرْضُوًا مُصَحَّحًا. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: أَرْضٌ مَسْنِيَّةٌ وَمَسْنُوَّةٌ، وَهِيَ التي تسقى بالسواني.
وإِدْرِيسَ
هُوَ جِدُّ أَبِي نُوحٍ وَهُوَ أَخْنُوخُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَظَرَ فِي النُّجُومِ وَالْحِسَابِ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ وَأَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ وَخَاطَ الثِّيَابَ وَلَبِسَ الْمَخِيطَ، وَكَانَ خَيَّاطًا وَكَانُوا قَبْلُ يَلْبَسُونَ الْجُلُودَ، وَأَوَّلُ مُرْسَلٍ بَعْدَ آدَمَ وَأَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْمَوَازِينَ وَالْمَكَايِيلَ وَالْأَسْلِحَةَ فَقَاتَلَ بَنِي قَابِيلَ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ إِلْيَاسُ بُعِثَ إِلَى قَوْمِهِ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَعْمَلُوا مَا شاؤوا فأبوا وأهلكوا.
وإِدْرِيسَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ إِفْعِيلًا مِنَ الدَّرْسِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ صَرْفُهُ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَلَمِيَّةُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إِدْرِيسَ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ أَيْ مِنَ مَعْنَى الدَّرْسِ، فَحَسِبَهُ الْقَائِلُ مُشْتَقًّا مِنَ الدَّرْسِ. وَالْمَكَانُ الْعَلِيُّ شَرَفُ النُّبُوَّةِ وَالزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً انْتَهَى. وَقَالَهُ جَمَاعَةٌ وَهُوَ رَفْعُ النُّبُوَّةِ وَالتَّشْرِيفِ وَالْمَنْزِلَةِ فِي السَّمَاءِ كَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَقِيلَ: بَلْ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ كَمَا رُفِعَ عِيسَى كَانَ لَهُ خَلِيلٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَحَمَلَهُ عَلَى جَنَاحِهِ وَصَعِدَ بِهِ حَتَّى بَلَغَ السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَلَقِيَ هُنَالِكَ مَلَكَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ قِيلَ لِيَ اهْبِطْ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَاقْبِضْ فِيهَا رُوحَ إِدْرِيسَ وَإِنِّي لَأَعْجَبُ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ الصَّاعِدُ: هَذَا إِدْرِيسُ مَعِي فَقَبَضَ رُوحَهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَكَذَلِكَ هِيَ رُتْبَتُهُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: إِلَى الْجَنَّةِ لَا شَيْءَ أَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْبُدُ اللَّهَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَتَارَةً يُرْفَعُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ مَيِّتٌ فِي السَّمَاءِ.
أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ الأنبياء ومِنَ فِي
276
مِنَ النَّبِيِّينَ لِلْبَيَانِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ مُنْعَمٌ عَلَيْهِمْ ومِنَ الثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، وَكَانَ إِدْرِيسُ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ لِقُرْبِهِ مِنْهُ لِأَنَّهُ جَدُّ أَبِي نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمُ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حُمِلَ مَعَ نُوحٍ، لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ إِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَعْقُوبُ وَإِسْرَائِيلُ مَعْطُوفٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَمُوسَى وَهَارُونُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَكَذَلِكَ عِيسَى لِأَنَّ مَرْيَمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ.
وَمِمَّنْ هَدَيْنا يَحْتَمِلُ الْعَطْفُ عَلَى مِنَ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ خَبَرٌ لِأُولَئِكَ. وإِذا تُتْلى كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ صِفَةً لِأُولَئِكَ وَالْجُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةَ خَبَرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُتْلى بِتَاءِ التَّأْنِيثِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَشِبْلُ بْنُ عَبَّادٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْعِجْلِيُّ عَنْ حَمْزَةَ وَقُتَيْبَةُ فِي رِوَايَةٍ وَوَرْشٌ فِي رِوَايَةِ النَّحَّاسِ، وَابْنُ ذَكْوَانَ في روايد التَّغْلِبِيِّ بِالْيَاءِ. وَانْتَصَبَ سُجَّداً عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ لِأَنَّهُ حَالَ خُرُورِهِ لَا يَكُونُ سَاجِدًا، وَالْبُكِيُّ جَمْعُ بَاكٍ كَشَاهِدٍ وَشُهُودٍ، وَلَا يُحْفَظُ فِيهِ جَمْعُهُ الْمَقِيسُ وَهُوَ فُعَلَةٌ كَرَامٍ وَرُمَاةٍ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بُكِيًّا بِضَمِّ الْبَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَيَحْيَى وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِهَا إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْكَافِ كَعِصِيٍّ وَدِلِيٍّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ جَمَعَ لِمُنَاسَبَةِ الْجَمْعِ قَبْلَهُ.
قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرُ البكا بمعنى بكاء، وأصله بكو وكجلس جُلُوسًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وبُكِيًّا بِكَسْرِ الْبَاءِ وَهُوَ مَصْدَرٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّ إِتْبَاعَ حَرَكَةِ الْكَافِ لَا تُعَيِّنُ الْمَصْدَرِيَّةَ، أَلَا تراهم قرؤوا جِثِيًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ جَمْعُ جَاثٍ، وَقَالُوا عِصِيٌّ فَأَتْبَعُوا.
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا.
نَزَلَ فَخَلَفَ فِي الْيَهُودِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٍ، وَفِيهِمْ وَفِي النَّصَارَى عَنِ السُّدِّيِّ، وَفِي قَوْمٍ مِنْ أُمَّةِ الرَّسُولِ يَأْتُونَ عِنْدَ ذَهَابِ صَالِحِيهَا يَتَبَارَزُونَ بِالزِّنَا يَنْزُو فِي الْأَزِقَّةِ بَعْضُهُمْ
277
عَلَى بَعْضٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ. وَعَنْ وَهْبٍ: هُمْ شُرَّابُو الْقَهْوَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى خَلْفٌ فِي الْأَعْرَافِ، وَإِضَاعَةُ الصَّلَاةِ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ: إِضَاعَتُهَا الْإِخْلَالُ بِشُرُوطِهَا. وَقِيلَ: إِقَامَتُهَا فِي غَيْرِ الْجَمَاعَاتِ.
وَقِيلَ: عَدَمُ اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا. وَقِيلَ: تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ وَالِاشْتِغَالُ بِالصَّنَائِعِ. والأسباب، والشَّهَواتِ عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْتَهًى يَشْغَلُ عَنِ الصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللَّهِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ مَنْ بَنَى الشَّدِيدَ وَرَكِبَ الْمَنْظُورَ وَلَبِسَ الْمَشْهُورَ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ مِقْسَمٍ الصَّلَوَاتِ جَمْعًا. وَالْغَيُّ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلُّ شَرٍّ، وَالرَّشَادُ كُلُّ خَيْرٍ. قَالَ الشَّاعِرِ:
فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمُ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ جَزَاءَ غَيٍّ كَقَوْلِهِ يَلْقَ أَثاماً «١» أَيْ مُجَازَاةَ آثَامٍ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْغَيُّ الْخُسْرَانُ وَالْحُصُولُ فِي الْوَرَطَاتِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَابْنُ مَسْعُودٍ وَكَعْبٌ: غَيٌّ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ضَلَالٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ غَيًّا عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ. وَحَكَى الْكَرْمَانِيُّ: آبَارٌ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ إِلَيْهَا الصَّدِيدُ وَالْقَيْحُ. وَقِيلَ: هَلَاكٌ. وَقِيلَ:
شَرٌّ. وقرىء فِيمَا حَكَى الْأَخْفَشُ يَلْقَوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَشَدِّ الْقَافِ.
إِلَّا مَنْ تابَ اسْتِثْنَاءٌ ظَاهِرُهُ الِاتِّصَالُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مُنْقَطِعٌ وَآمَنَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْإِضَاعَةَ كُفْرٌ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ يَدْخُلُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَكَذَا كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ يَدْخُلُونَ. وَقَرَأَ كَذَلِكَ هُنَا الزُّهْرِيُّ وَحُمَيْدٌ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَابْنُ سَعْدَانَ. وَقَرَأَ ابْنُ غَزْوَانَ عَنْ طَلْحَةَ: سَيَدْخُلُونَ بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جَنَّاتِ نَصْبًا جَمْعًا بَدَلًا مِنَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً اعْتِرَاضٌ أَوْ حَالٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْأَعْمَشُ وَأَحْمَدُ بْنُ مُوسَى عَنْ أَبِي عَمْرٍو جَنَّاتِ رَفْعًا جَمْعًا أَيْ تِلْكَ جَنَّاتُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ انْتَهَى يَعْنِي وَالْخَبَرُ الَّتِي. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَعَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ جَنَّةَ عَدْنٍ نَصْبًا مُفْرَدًا وَرُوِيَتْ عَنِ الْأَعْمَشِ وَهِيَ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ وَالْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ عَنْ حَمْزَةَ جَنَّةُ رَفْعًا مُفْرَدًا وعَدْنٍ إِنْ كَانَ عَلَمًا شَخْصِيًّا كَانَ الَّتِي نَعْتًا لِمَا أُضِيفَ إِلَى عَدْنٍ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى إِقَامَةً كَانَ الَّتِي بدلا.
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٦٨.
278
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَدْنٍ مَعْرِفَةٌ عَلَمٌ لِمَعْنَى الْعَدْنِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ، كَمَا جَعَلُوا فَيْنَةَ وَسَحَرَ وَأَمْسِ فِي مَنْ لَمْ يَصْرِفْهُ أَعْلَامًا لِمَعَانِي الْفَيْنَةِ وَالسَّحَرِ وَالْأَمْسِ، فَجَرَى الْعَدْنُ كَذَلِكَ. أَوْ هُوَ علم الأرض الجنة لكونه مَكَانَ إِقَامَةٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا سَاغَ الْإِبْدَالُ لِأَنَّ النَّكِرَةَ لَا تُبْدَلُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ إِلَّا مَوْصُوفَةً، وَلَمَا سَاغَ وَصْفُهَا بِالَّتِي انْتَهَى.
وَمَا ذَكَرَهُ مُتَعَقَّبٌ. أَمَّا دَعْوَاهُ أَنَّ عَدْنًا عَلَمٌ لِمَعْنَى الْعَدْنِ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَوْقِيفٍ وَسَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَكَذَا دَعْوَى الْعَلَمِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ مَوْصُوفَةً فَلَيْسَ مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ جَوَازُ إِبْدَالِ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْصُوفَةً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ قَالَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ وَهُمْ محجوجون بالسماع علم مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِنَا فِي النَّحْوِ، فَمُلَازَمَتُهُ فَاسِدَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَمَا سَاغَ وَصْفُهَا بِالَّتِي فَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُ الَّتِي صِفَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ إِعْرَابُهُ بدلا وبِالْغَيْبِ حَالٌ أَيْ وَعَدَهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ عَنْهُمْ أَوْ وَهُمْ غَائِبُونَ عَنْهَا لَا يُشَاهِدُونَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ أَيْ بِتَصْدِيقِ الْغَيْبِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ الَّذِينَ يَكُونُونَ عِبَادًا بِالْغَيْبِ أَيْ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ فِي السِّرِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَعْدُهُ مَصْدَرٌ. فَقِيلَ: مَأْتِيًّا بِمَعْنَى آتِيًا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَوْضُوعِهِ مِنْ أَنَّهُ اسْمُ الْمَفْعُولِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَأْتِيًّا مَفْعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَالْوَجْهُ أَنَّ الْوَعْدَ هُوَ الْجَنَّةُ وَهُمْ يَأْتُونَهَا، أَوْ هُوَ مِنْ قَوْلِكَ أَتَى إِلَيْهِ إِحْسَانًا أَيْ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا مُنْجَزًا، وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالْوَجْهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: وَعْدُهُ هُنَا مَوْعُودُهُ وَهُوَ الْجَنَّةُ، ومَأْتِيًّا يَأْتِيهِ أَوْلِيَاؤُهُ انْتَهَى.
إِلَّا سَلاماً اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَهُوَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ «١».
وَقِيلَ: يُسَلِّمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ دُخُولِهَا. وَمَعْنَى بُكْرَةً وَعَشِيًّا يَأْتِيهِمْ طَعَامُهُمْ مَرَّتَيْنِ فِي مِقْدَارِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنَ الزَّمَنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا بُكْرَةَ وَلَا عَشِيَّ وَلَكِنْ يُؤْتَوْنَ بِهِ عَلَى مَا كَانُوا يَشْتَهُونَ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَهُ قَتَادَةُ أَنْ تَكُونَ مُخَاطَبَةً بِمَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ فِي رَفَاهَةِ الْعَيْشِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: خُوطِبُوا عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْلَمُ مِنْ أَفْضَلِ الْعَيْشِ، وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعَرَبِ إِنَّمَا كَانَ يَجِدُ الطَّعَامَ الْمَرَّةَ فِي الْيَوْمِ، وَكَانَ عَيْشُ أَكْثَرِهِمْ مِنْ شَجَرِ الْبَرِّيَّةِ وَمِنَ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اللَّغْوُ فُضُولُ الْكَلَامِ وَمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ ظَاهِرٌ عَلَى وُجُوبِ تَجَنُّبِ اللَّغْوِ وَاتِّقَائِهِ حَيْثُ نَزَّهَ اللَّهُ عَنْهُ الدَّارَ الَّتِي لَا تَكْلِيفَ فِيهَا. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَهُ
(١) سورة الرعد: ١٣/ ٢٤.
279
وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً «١» وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ «٢» الْآيَةَ أَيْ إِنْ كَانَ تَسْلِيمُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ لَغْواً فَلَا يَسْمَعُونَ لَغْوًا إِلَّا ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ وَادِي قَوْلِهِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
أَوْ لَا يَسْمَعُونَ فِيها إِلَّا قَوْلًا يَسْلَمُونَ فِيهِ مِنَ الْعَيْبِ وَالنَّقِيصَةِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى السَّلَامِ هُوَ الدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ، وَدَارُ السَّلَامِ هِيَ دَارُ السَّلَامَةِ وَأَهْلُهَا عَنِ الدُّعَاءِ بِالسَّلَامَةِ أَغْنِيَاءُ. فَكَانَ ظَاهِرُهُ مِنْ بَابِ اللَّغْوِ وَفُضُولِ الْحَدِيثِ لَوْلَا مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الْكَلَامِ.
وَقَالَ أَيْضًا: وَلَا يَكُونُ ثَمَّ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ وَلَكِنْ عَلَى التَّقْدِيرِ. وَلِأَنَّ الْمُتَنَعَّمَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَنْ وَجَدَ غَدَاءً وَعَشَاءً. وَقِيلَ: أَرَادَ دَوَامَ الرِّزْقِ وَدَرُورَهُ كَمَا تَقُولُ: أَنَا عِنْدَ فُلَانٍ صَبَاحًا وَمَسَاءً وَبُكْرَةً وَعَشِيًّا، وَلَا يَقْصِدُ الْوَقْتَيْنِ الْمَعْلُومَيْنِ انْتَهَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُورِثُ مُضَارِعُ أَوْرَثَ، وَالْأَعْمَشُ نُورِثُهَا بِإِبْرَازِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَقَتَادَةُ وَرُوَيْسٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيْوَةَ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ. وَالتَّوْرِيثُ اسْتِعَارَةٌ أَيْ تَبْقَى عَلَيْهِ الْجَنَّةُ كَمَا يَبْقَى عَلَى الْوَارِثِ مَالُ الْمَوْرُوثِ، وَالْأَتْقِيَاءُ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ قَدِ انْقَضَتْ أَعْمَالُهُمْ وَثَمَرَتُهَا بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْجَنَّةُ، فَقَدْ أَوْرَثَهُمْ مِنْ تَقْوَاهُمْ كَمَا يُوَرَّثُ الْوَارِثُ الْمَالَ مِنَ الْمُتَوَفَّى. وَقِيلَ: أُورِثُوا مِنَ الْجَنَّةِ الْمَسَاكِنَ الَّتِي كَانَتْ لِأَهْلِ النَّارِ لَوْ أَطَاعُوا.
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ
أَبْطَأَ جِبْرِيلُ عَنِ الرَّسُولِ مَرَّةً، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: «يَا جِبْرِيلُ قَدِ اشْتَقْتُ إِلَيْكَ أَفَلَا تَزُورُنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا» ؟ فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: سَبَبُهَا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَأَخَّرَ فِي السُّؤَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَهِيَ كَالَّتِي فِي الضُّحَى، وَتَنَزَّلَ تَفَعَّلَ وَهِيَ لِلْمُطَاوَعَةِ وَهِيَ أَحَدُ مَعَانِي تَفَعَّلَ، تَقُولُ: نَزَّلْتُهُ فَتَنَزَّلَ فَتَكُونُ لِمُوَاصَلَةِ الْعَمَلِ فِي مُهْلَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ لَا يُلْحَظُ فِيهِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ كَقَوْلِهِمْ: تَعَدَّى الشَّيْءَ وَعَدَّاهُ وَلَا يَكُونُ مُطَاوِعًا فَيَكُونَ تَنَزَّلَ فِي مَعْنَى نَزَلَ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَسْتَ لَإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يُصَوِّبُ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّنَزُّلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: مَعْنَى النُّزُولِ عَلَى مَهَلٍ، ومعنى النزول على
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٧٢.
(٢) سورة القصص: ٢٨/ ٥٥.
280
الْإِطْلَاقِ. كَقَوْلِهِ: فَلَسْتُ لِإِنْسِيٍّ الْبَيْتَ لِأَنَّهُ مُطَاوِعُ نَزَّلَ وَنَزَّلَ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنْزَلَ وَبِمَعْنَى التَّدْرِيجِ وَاللَّائِقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ النُّزُولُ عَلَى مَهَلٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ نُزُولَنَا فِي الْأَحَايِينِ وَقْتًا غِبَّ وَقْتٍ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْوَاوُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ وَما نَتَنَزَّلُ هِيَ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى أُخْرَى وَاصِلَةٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا. وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ قَوْلَهُ وَمَا نَتَنَزَّلُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
«١» وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذكر قِصَّةَ زَكَرِيَّا وَمَرْيَمَ وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَنْعَمَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَقَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ «٢» وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَفَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ خَلْفٌ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَصْحَابُ الْكُتُبِ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يُقَالُ فِيهِمْ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ إِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِيمَنْ كَانَتْ لَهُ شَرِيعَةٌ فُرِضَ عَلَيْهِمْ فِيهَا الصَّلَاةُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ الْيَهُودُ هُمْ سَبَبَ سُؤَالِ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَ، وَأَبْطَأَ الْوَحْيُ عَنْهُ فَفَرِحَتْ بِذَلِكَ قُرَيْشٌ وَالْيَهُودُ وَكَانَ ذَلِكَ مِنِ اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِمْ، هَذَا وَهُمْ عَالِمُونَ بِنُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَما نَتَنَزَّلُ تَنْبِيهًا عَلَى قِصَّةِ قُرَيْشٍ وَالْيَهُودِ، وَأَنَّ أَصْلَ تِلْكَ الْقِصَّةِ إِنَّمَا حَدَثَتْ مِنْ أُولَئِكَ الْخَلَفِ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ وَخَتْمًا لِقِصَصِ أُولَئِكَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ لِمُخَاطَبَةِ أَشْرَفِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِعْذَارًا مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلرَّسُولِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْإِبْطَاءَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِذْ لَا يَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ إِبْطَاءُ الْوَحْيِ سَبَبُهُ قِصَّةُ السُّؤَالِ وَكَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْرِنْ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِالْمَشِيئَةِ، وَكَانَ السُّؤَالُ مُتَسَبِّبًا عَنِ اتِّبَاعِ الْيَهُودِ شَهَوَاتِهِمْ وَخَفِيَّاتِ خُبْثِهِمُ اكْتَفَى بِذِكْرِ النَّتِيجَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ ذِكْرِ مَا آثَرَتْهُ شَهَوَاتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَخُبْثُهُمْ.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا بَيْنَ الْأَيْدِي الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا إِلَى النَّفْخَةِ الْأُولَى، وَمَا خَلْفَ ذَلِكَ الْآخِرَةُ مِنْ وَقْتِ الْبَعْثِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي بَنِي آدَمَ، وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ هِيَ لِلْمَلَائِكَةِ فَتَأَمَّلْهُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَا بَيْنَ الْأَيْدِي هُوَ مَا مَرَّ مِنَ الزَّمَانِ قَبْلَ الْإِيجَادِ، وَمَا خَلْفَ هُوَ مَا بَعْدَ مَوْتِهِمْ إِلَى اسْتِمْرَارِ الْآخِرَةِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ هُوَ مُدَّةُ الْحَيَاةِ. وَفِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ مَا بَيْنَ أَيْدِينا الْآخِرَةُ وَما خَلْفَنا
(١) سورة مريم: ١٩/ ١٩.
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٥٨.
281
الدُّنْيَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَسُفْيَانُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
عَكْسَهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَا بَيْنَ أَيْدِينا قَبْلَ أَنْ نُخْلَقَ وَما خَلْفَنا بَعْدَ الْفَنَاءِ وَما بَيْنَ ذلِكَ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: حِينَ كَوْنِنَا. وَقَالَ صاحب الغينان: مَا بَيْنَ أَيْدِينا نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَما خَلْفَنا مِنَ الْأَرْضِ وَما بَيْنَ ذلِكَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. قال ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ، ثُمَّ قَالَ: حَصَرَ الْأَزْمِنَةَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ أَنَّ كُلَّهَا لِلَّهِ هُوَ مُنْشِئُهَا وَمُدَبِّرُ أَمْرِهَا عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ تَقْدِيمِ إِنْزَالٍ وَتَأْخِيرِهِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ وَتَصَرُّفٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا الْقَصْدُ الْإِشْعَارُ بِمُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ، وَأَنَّ قَلِيلَ تَصَرُّفِهِمْ وَكَثِيرَهُ إِنَّمَا هُوَ بِأَمْرِهِ وَانْتِقَالَهُمْ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ إِنَّمَا هُوَ بِحِكْمَتِهِ إِذِ الْأَمْكِنَةُ لَهُ وَهُمْ لَهُ، فَلَوْ ذَهَبَ بِالْآيَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَمَا خَلْفَ الْأَمْكِنَةُ الَّتِي فِيهَا تَصَرُّفُهُمْ وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ ذَلِكَ هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَمَقَامَاتُهُمْ لَكَانَ وَجْهًا كَأَنَّهُ قَالَ: نَحْنُ مُقَيَّدُونَ بِالْقُدْرَةِ لَا نَنْتَقِلُ وَلَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ فِيهِ ابْنُ عَطِيَّةَ لَهُ إِلَى آخِرِهِ ذَهَبَ إِلَى نَحْوِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ لَهُ: مَا قُدَّامَنَا وَمَا خَلْفَنَا مِنَ الْجِهَاتِ وَالْأَمَاكِنِ. وَمَا نَحْنُ فِيهَا، فَلَا نَتَمَالَكُ أَنْ نَنْتَقِلَ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ وَمَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ إِلَّا بِأَمْرِ الْمَلِيكِ وَمَشِيئَتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَكَيْفَ نُقْدِمُ عَلَى فِعْلٍ نُحْدِثُهُ إِلَّا صَادِرًا عَمَّا تُوجِبُهُ حِكْمَتُهُ وَيَأْمُرُنَا وَيَأْذَنُ لَنَا فِيهِ انْتَهَى. وَقَالَ الْبَغْوَيُّ: لَهُ عِلْمُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَابْنُ بَحْرٍ: وَما نَتَنَزَّلُ الْآيَةَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِذَا دَخَلُوهَا وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالْآيَةِ الْأُولَى إِلَى قَوْلِهِ وَما بَيْنَ ذلِكَ أَيْ مَا نَنْزِلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا أَيْ فِي الْجَنَّةِ مُسْتَقْبَلًا وَما خَلْفَنا مِمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا وَمَا بَيْنَهُمَا أَيْ مَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ: وَقِيلَ هِيَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمُتَّقِينَ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَيْ وَمَا نَنْزِلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْنَا بِثَوَابِ أَعْمَالِنَا وَأَمْرِنَا بِدُخُولِهَا وَهُوَ الْمَالِكُ لِرِقَابِ الْأُمُورِ كُلِّهَا السَّالِفَةِ وَالْمُتَرَقَّبَةِ وَالْحَاضِرَةِ، اللَّاطِفُ فِي أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالْمُوَفِّقُ لَهَا وَالْمُجَازِي عَلَيْهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى تَقْرِيرًا لَهُمْ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا لِأَعْمَالِ الْعَامِلِينَ غَافِلًا عَمَّا يَجِبُ أَنْ يُثَابُوا بِهِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ النِّسْيَانُ وَالْغَفْلَةُ عَلَى ذِي مَلَكُوتِ السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ وُجُوهٍ.
282
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ التَّنْزِيلِ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِقَوْلِهِ بِأَمْرِ رَبِّكَ فَظَاهِرُ الْأَمْرِ بِحَالِ التَّكْلِيفِ أَلْيَقُ.
وَثَانِيهَا: خِطَابٌ مِنْ جَمَاعَةٍ لِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِمُخَاطَبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْجَنَّةِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَا فِي مَسَاقِهِ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما لَا يَلِيقُ بِحَالِ التَّكْلِيفِ وَلَا يُوصَفُ بِهِ الرَّسُولُ انْتَهَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَما نَتَنَزَّلُ بِالنُّونِ عَنَى جِبْرِيلُ نَفْسَهُ وَالْمَلَائِكَةَ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ. قِيلَ: وَالضَّمِيرُ فِي يَتَنَزَّلُ عَائِدٌ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَرُدُّهُ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا لِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ مَعَهُ وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ جِبْرِيلَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُقَدِّرُهَا وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى الْحِكَايَةِ عَنْ جِبْرِيلَ، وَالضَّمِيرُ لِلْوَحْيِ انْتَهَى. وَيُحْمَلُ ذَلِكَ الْقَوْلُ عَلَى إِضْمَارٍ أَيْ وَمَا يَتَنَزَّلُ جِبْرِيلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ قَائِلًا لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا أَيْ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْذَارِ فِي الْبُطْءِ عَنْكَ بِأَنَّ رَبَّكَ مُتَصَرِّفٌ فِينَا لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَصَرَّفَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، وَإِخْبَارٌ أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِنَاسِيكَ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْكَ الْوَحْيُ.
وَارْتَفَعَ رَبُّ السَّماواتِ عَلَى الْبَدَلِ أَوْ عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ هَلْ تَعْلَمُ بِإِظْهَارِ اللَّامِ عِنْدَ التَّاءِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَهِشَامٌ وَعَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ وَهَارُونُ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْحَسَنِ وَالْأَعْمَشِ وَعِيسَى وَابْنِ مُحَيْصِنٍ بِالْإِدْغَامِ فِيهِمَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُمَا لُغَتَانِ وَعَلَى الْإِدْغَامِ أَنْشَدُوا بَيْتَ مُزَاحِمٍ الْعُقَيْلِيِّ:
فَذَرْ ذَا وَلَكِنْ هَلْ تُعِينُ مُتَيَّمًا عَلَى ضَوْءِ بَرْقٍ آخِرَ اللَّيْلِ نَاصِبِ
وَعُدِّيَ فَاصْطَبِرْ بِاللَّامِ عَلَى سَبِيلِ التَّضْمِينِ أَيْ اثْبُتْ بِالصَّبْرِ لِعِبَادَتِهِ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ تُورِدُ شَدَائِدَ، فَاثْبُتْ لَهَا وَأَصْلُهُ التَّعْدِيَةُ بِعَلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «١» وَالسَّمِيُّ مَنْ تُوَافِقُ فِي الِاسْمِ تَقُولُ: هَذَا سَمِيُّكَ أَيِ اسْمُهُ مِثْلُ اسْمِكَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِلَفْظِ اللَّهِ شَيْءٌ قَطُّ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُسَمُّونَ أَصْنَامَهُمْ آلِهَةً وَالْعُزَّى إِلَهٌ وَأَمَّا لَفْظُ اللَّهِ فَلَمْ يُطْلِقُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يُسَمَّى أَحَدٌ الرَّحْمَنَ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أَيْ هَلْ تَعْلَمُ مَنْ يُسَمَّى أَوْ يُوصَفُ بِهَذَا
(١) سورة طه: ٢٠/ ١٣٢.
283
الْوَصْفِ، أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ يُسَمِّي شَيْئًا بِهَذَا الِاسْمِ سِوَى اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ سَمِيًّا مَثَلًا وَشَبِيهًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَ السَّمِيُّ بِمَعْنَى الْمُسَامِي وَالْمُضَاهِي فَهُوَ مِنَ السُّمُوِّ، وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ وَلَا يَحْسُنُ فِي ذِكْرِ يَحْيَى انْتَهَى. يَعْنِي لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ فُلَانٌ سَمِيُّ فُلَانٍ إِذَا شَارَكَهُ فِي اللَّفْظِ، وَسَمِيُّهُ إِذَا كَانَ مُمَاثِلًا لَهُ فِي صِفَاتِهِ الْجَمِيلَةِ وَمَنَاقِبِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَأَنْتَ سَمِيٌّ لِلزُّبَيْرِ وَلَسْتَ لِلزُّبَيْرِ سَمِيًّا إِذْ غَدَا مَا لَهُ مِثْلُ
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ خَالِقٌ وَقَادِرٌ إِلَّا هُوَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَلَدًا رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ وَلَدَ اللَّهُ.
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً.
قِيلَ: سَبَبُ النُّزُولِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ قِيلَ هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ جَاءَ بِعَظْمِ رُفَاتٍ فَنَفَخَ فِيهِ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: أَيُبْعَثُ هَذَا؟ وَكَذَّبَ وَسَخِرَ
، وَإِسْنَادُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِلْجِنْسِ بِمَا صَدَرَ مِنْ بَعْضِهِمْ. كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ نَبَا بِيَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدِ
أُسْنِدَ الضَّرْبُ إِلَى بَنِي عَبْسٍ مَعَ قَوْلِهِ نَبَا بِيَدَيْ، وَرْقَاءَ وَهُوَ وَرْقَاءُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ الْعَبْسِيُّ، أَوْ لِلْجِنْسِ الْكَافِرِ الْمُنْكِرِ لِلْبَعْثِ أَوِ الْمَعْنِيُّ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، أو المعاصي بْنُ وَائِلٍ، أَوْ أَبُو جَهْلٍ، أَوِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَقْوَالٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَإِذا بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَتْ فَرِقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ ذَكْوَانَ بِخِلَافٍ عَنْهُ إِذَا بِدُونِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَسَوْفَ بِاللَّامِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ سَأُخْرَجُ بِغَيْرِ لَامٍ وَسِينِ الِاسْتِقْبَالِ عِوَضُ سَوْفَ، فَعَلَى قِرَاءَتِهِ تَكُونُ إِذَا مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ سَأُخْرَجُ لِأَنَّ حَرْفَ التَّنْفِيسِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْفِعْلِ فِيمَا قَبْلَهُ، عَلَى أَنَّ فِيهِ خِلَافًا شَاذًّا وَصَاحِبُهُ مَحْجُوجٌ بِالسَّمَاعِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
284
فَلَمَّا رَأَتْهُ آمِنًا هَانَ وَجْدُهَا وَقَالَتْ أَبُونَا هَكَذَا سَوْفَ يَفْعَلُ
فَهَكَذَا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ وَهُوَ بِحَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ مُصَرِّفٍ قَرَأَ لَسَأُخْرَجُ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَمَا نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ قِرَاءَةِ طَلْحَةَ فَاللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ فَلَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا، فَيُقَدَّرُ الْعَامِلُ مَحْذُوفًا مِنْ مَعْنَى لَسَوْفَ أُخْرَجُ تَقْدِيرُهُ إِذَا مَا مِتُّ أُبْعَثُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ لَامُ الِابْتِدَاءِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُضَارِعِ تُعْطِي مَعْنَى الْحَالِ، فَكَيْفَ جَامَعَتْ حَرْفَ الِاسْتِقْبَالِ؟ قُلْتُ: لَمْ تُجَامِعْهَا إِلَّا مُخْلَصَةً لِلتَّوْكِيدِ كَمَا أُخْلِصَتِ الْهَمْزَةُ فِي يَا أَللَّهُ لِلتَّعْوِيضِ، وَاضْمَحَلَّ عَنْهَا مَعْنَى التَّعْرِيفِ انْتَهَى.
وَمَا ذُكِرَ مِنَ أَنَّ اللَّامَ تُعْطِي مَعْنَى الْحَالِ مُخَالَفٌ فِيهِ، فَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ يَسْقُطُ السُّؤَالُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ كَمَا أُخْلِصَتِ الْهَمْزَةُ إِلَى آخِرِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ إِلَهٌ، وَأَمَّا مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَصْلَهُ لَاهٍ فَلَا تَكُونُ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعْوِيضِ إِذْ لَمْ يُحْذَفْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ قُلْنَا إِنَّ أَصْلَهُ إِلَهٌ وَحُذِفَتْ فَاءُ الْكَلِمَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ فِي النِّدَاءِ لِلتَّعْوِيضِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ لِلْعِوَضِ مِنَ الْمَحْذُوفِ لَثَبَتَتْ دَائِمًا فِي النِّدَاءِ وَغَيْرِهِ، وَلَمَا جَازَ حَذْفُهَا فِي النِّدَاءِ قَالُوا: يَا اللَّهُ بِحَذْفِهَا وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ قَطْعَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي النِّدَاءِ شَاذٌّ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَسَوْفَ مَجْلُوبَةٌ عَلَى الْحِكَايَةِ لِكَلَامٍ تَقَدَّمَ بِهَذَا الْمَعْنَى كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ لِلْكَافِرِ: إِذَا مِتَّ يَا فُلَانُ لَسَوْفَ تُخْرَجُ حَيًّا، فَقَرَّرَ الْكَلَامَ عَلَى الْكَلَامِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِبْعَادِ، وَكَرَّرَ اللَّامَ حِكَايَةً لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَلَا أَنَّ هَذَا حِكَايَةٌ لِقَوْلٍ تَقَدَّمَ، بَلْ هَذَا مِنَ الْكَافِرِ اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ وَالْإِنْكَارِ، وَمَنْ قَرَأَ إِذَا مَا أَنْ تَكُونَ حُذِفَتِ الْهَمْزَةَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَلَى سَبِيلِ الْهَزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِمَنْ يَقُولُ ذَلِكَ إِذْ لَمْ يَرِدْ بِهِ مُطَابَقَةَ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُخْرَجُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِيلَاؤُهُ أَيْ وَإِيلَاءُ الظَّرْفِ حَرْفُ الْإِنْكَارِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ هُوَ وَقْتُ كَوْنِ الْحَيَاةِ مُنْكَرَةً، وَمِنْهُ جَاءَ إِنْكَارُهُمْ فَهُوَ كَقَوْلِكَ لِلْمُسِيءِ إِلَى الْمُحْسِنِ أَحِينَ تَمَّتْ عَلَيْكَ نِعْمَةُ فُلَانٍ أَسَأْتَ إِلَيْهِ.
وَقَرَأَ أَبُو بَحْرِيَّةَ وَالْحَسَنُ وَشَيْبَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَمِنَ السَّبْعَةِ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ أَوَلا يَذْكُرُ خَفِيفًا مُضَارِعُ ذَكَرَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِفَتْحِ الذَّالِ وَالْكَافِ وَتَشْدِيدِهِمَا أَصْلُهُ يَتَذَكَّرُ أُدْغِمَ التَّاءُ فِي الذَّالِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ يَتَذَكَّرُ عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ
285
الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَاوُ عَاطِفَةٌ لَا يَذْكُرُ عَلَى يَقُولُ، وَوُسِّطَتْ هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ بَيْنَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَحَرْفُ الْعَطْفِ انْتَهَى. وَهَذَا رُجُوعٌ مِنْهُ إِلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ إِذَا تَقَدَّمَتْهُ الْهَمْزَةُ فَإِنَّمَا عُطِفَ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَقُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ لِأَنَّ لَهَا صَدْرَ الْكَلَامِ، وَكَانَ مَذْهَبُهُ أَنْ يُقَدَّرَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْحَرْفِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ مَا بَعْدَ الْوَاوِ فَيُقِرَّ الْهَمْزَةَ عَلَى حَالِهَا، وَلَيْسَتْ مُقَدَّمَةً مِنْ تَأْخِيرٍ وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ.
أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ أَنْشَأْنَاهُ وَاخْتَرَعْنَاهُ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ إِلَى الْوُجُودِ، فَكَيْفَ يُنْكِرُ النَّشْأَةَ الثَّانِيَةَ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ فِي غَايَةِ الِاخْتِصَارِ وَالْإِلْزَامِ لِلْخَصْمِ، وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ الِاحْتِجَاجَ النَّظَرِيَّ وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ الْمَذْهَبَ الْكَلَامِيَّ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الِاحْتِجَاجُ فِي الْقُرْآنِ: وَلَمْ يَكُ شَيْئاً إِشَارَةٌ إِلَى الْعَدَمِ الصِّرْفِ وَانْتِفَاءُ الشَّيْئِيَّةِ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُسَمَّى شَيْئًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَلَمْ يَكُ شَيْئاً موجود أو هي نزعة اعْتِزَالِيَّةٌ وَالْمَحْذُوفُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ فِي التَّقْدِيرِ قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَبْلُ بَعْثِهِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ قَبْلُ الْحَالَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَهِيَ حَالَةُ بَقَائِهِ انْتَهَى.
وَلَمَّا أَقَامَ تَعَالَى الْحُجَّةَ الدَّامِغَةَ عَلَى حَقِّيَّةِ الْبَعْثِ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ بِاسْمِهِ مُضَافًا إِلَى رَسُولِهِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَفْخِيمًا، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْقَسَمُ فِي الْقُرْآنِ تَعْظِيمًا لِحَقِّهِ وَرَفْعًا مِنْهُ كَمَا رَفَعَ مِنْ شَأْنِ السماء والأرض بقوله فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ «١» وَالْوَاوُ فِي وَالشَّياطِينَ لِلْعَطْفِ أَوْ بِمَعْنَى مَعَ يُحْشَرُونَ مَعَ قُرَنَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ أَغْوَوْهُمْ، يُقْرَنُ كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانٍ فِي سِلْسِلَةٍ وَهَذَا إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي لَنَحْشُرَنَّهُمْ لِلْكَفَرَةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَمَا جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ وَبَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ كَمَا فَرَّقَ فِي الْجَزَاءِ، وَأُحْضِرُوا جَمِيعًا وَأُورِدُوا النَّارَ لِيُعَايِنَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَهْوَالَ الَّتِي نَجَوْا مِنْهَا فَيُسَرُّوا بِذَلِكَ وَيَشْمَتُوا بِأَعْدَائِهِمُ الْكُفَّارِ، وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَامًّا فَالْمَعْنَى يَتَجَاثَوْنَ عند موافاة شاطىء جَهَنَّمَ كَمَا كَانُوا فِي الْمَوْقِفِ مُتَجَاثِينَ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ التَّوَافُقِ لِلْحِسَابِ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي حَالَةِ الْمَوْقِفِ وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا «٢» وجِثِيًّا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قُعُودًا، وَعَنْهُ جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ جَمْعُ جَثْوَةٍ وَهُوَ الْمَجْمُوعُ مِنَ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ: عَلَى الرُّكَبِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ قِيَامًا عَلَى الرُّكَبِ لِضِيقِ المكان بهم.
(١) سورة الذاريات: ٥١/ ٢٣.
(٢) سورة الجاثية: ٤٥/ ٢٨.
286
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ جِثِيًّا وعِتِيًّا وصِلِيًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْعَيْنِ وَالصَّادِ وَالْجُمْهُورُ بِضَمِّهَا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ أَيْ لَنُخْرِجَنَّ كَقَوْلِهِ وَنَزَعَ يَدَهُ «١». وَقِيلَ: لَنَرْمِيَنَّ مِنْ نَزَعَ الْقَوْسَ وَهُوَ الرَّمْيُ بِالسَّهْمِ، وَالشِّيعَةُ الْجَمَاعَةُ الْمُرْتَبِطَةُ بِمَذْهَبٍ. قَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ:
يَبْدَأُ بِالْأَكَابِرِ فَالْأَكَابِرِ جُرْمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَمْتَازُ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ أَعَصَاهُمْ فَأَعْصَاهُمْ وَأَعْتَاهُمْ فَأَعْتَاهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا طَرَحْنَاهُمْ فِي النَّارِ عَلَى التَّرْتِيبِ فَقُدِّمَ أَوْلَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَأَوْلَاهُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي أَيُّهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمَحْشُورِينَ الْمُحْضَرِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيُّهُمْ بِالرَّفْعِ وَهِيَ حَرَكَةُ بِنَاءٍ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، فَأَيُّهُمْ مَفْعُولٌ بننزعن وهي موصولة: وأَشَدُّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ صِلَةٌ لِأَيِّهِمْ وَحَرَكَةُ إِعْرَابٍ عَلَى مَذْهَبِ الْخَلِيلِ وَيُونُسَ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي التَّخْرِيجِ. وأَيُّهُمْ أَشَدُّ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَحْكِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الْخَلِيلِ أَيِ الَّذِينَ يُقَالُ فِيهِمْ أَيُّهُمْ أَشَدُّ. وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ فَيُعَلَّقُ عَنْهُ لَنَنْزِعَنَّ عَلَى مَذْهَبِ يُونُسَ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّزْعُ وَاقِعًا عَلَى مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ كَقَوْلِهِ وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا «٢» أَيْ لَنَنْزِعَنَّ بَعْضَ كُلِّ شِيعَةٍ فَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ إِنَّهُمْ أَشَدُّ عِتِيًّا انْتَهَى.
فَتَكُونُ أَيُّهُمْ مَوْصُولَةً خبر مبتدأ محذوف، وهذا تَكَلُّفٌ وَادِّعَاءُ إِضْمَارٍ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَجَعْلُ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ جُمْلَتَيْنِ، وَقَرَنَ الْخَلِيلُ تَخْرِيجَهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَلَقَدْ أَبِيتُ مِنَ الْفَتَاةِ بِمَنْزِلٍ فَأَبِيتُ لَا حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومُ
أَيْ فَأَبِيتُ يُقَالُ فِيَّ لَا حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومٌ، وَرَجَّحَ الزَّجَّاجُ قَوْلَ الْخَلِيلِ وَذَكَرَ عَنْهُ النَّحَّاسُ أَنَّهُ غَلَّطَ سِيبَوَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَجُوزَ اضْرِبِ السَّارِقَ الْخَبِيثَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ قِيلَ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ حَيْثُ هَذِهِ أَسْمَاءٌ مُفْرَدَةٌ وَالْآيَةُ جُمْلَةٌ وَتَسَلُّطُ الْفِعْلِ عَلَى الْمُفْرَدِ أَعْظَمُ مِنْهُ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ أَنَّ معنى لَنَنْزِعَنَّ لنناذين فَعُومِلَ مُعَامَلَتَهُ فَلَمْ تَعْمَلْ فِي أَيُّ انْتَهَى. وَنُقِلَ هَذَا عَنِ الْفَرَّاءِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَنَادَى تَعَلَّقَ إِذَا كَانَ بَعْدَهُ جُمْلَةُ نَصْبٍ فَتَعْمَلُ فِي الْمَعْنَى وَلَا تَعْمَلُ فِي اللَّفْظِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيُّهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِشِيعَةٍ، فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ وَالْمَعْنَى مِنَ الَّذِينَ تَشَايَعُوا أَيُّهُمْ أَشَدُّ كَأَنَّهُمْ يَتَبَادَرُونَ إِلَى هَذَا، وَيَلْزَمُ أَنْ يُقَدِّرَ مَفْعُولًا لَنَنْزِعَنَّ مَحْذُوفًا وَقَدَّرَ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَذْهَبِ مِنَ الَّذِينَ تَشَايَعُوا أَيُّهُمْ أَيْ مِنَ الَّذِينَ تَعَاوَنُوا فَنَظَرُوا أَيُّهُمْ أَشَدُّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. وَقَدْ حَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّ التَّشَايُعَ هو التعاون.
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٠٨ وسورة الشعراء: ٢٦/ ٣٣.
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٥٠.
287
وَحَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ شُقَيْرٍ أَنَّ بَعْضَ الْكُوفِيِّينَ يَقُولُ: فِي أَيُّهُمْ مَعْنَى الشَّرْطِ، تَقُولُ:
ضَرَبْتُ الْقَوْمَ أَيُّهُمْ غَضِبَ، وَالْمَعْنَى إِنْ غَضِبُوا أَوْ لَمْ يَغْضَبُوا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ إِنِ اشْتَدَّ عُتُوُّهُمْ أَوْ لَمْ يَشْتَدَّ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَمُعَاذُ بْنُ مُسْلِمٍ الْهَرَّاءُ أُسْتَاذُ الْفَرَّاءِ وَزَائِدَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ أَيُّهُمْ بالنصب مفعولا بلننزعنّ، وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ لَا يَتَحَتَّمُ فِيهَا الْبِنَاءُ إِذَا أُضِيفَتْ وَحُذِفَ صَدْرُ صِلَتِهَا، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ تَحَتُّمُ الْبِنَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِهِ الْبَنَّاءُ وَالْإِعْرَابُ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْجَرْمِيُّ: خَرَجْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ فَلَمْ أَسْمَعْ مُنْذُ فَارَقْتُ الْخَنْدَقَ إِلَى مَكَّةَ أَحَدًا يَقُولُ لَأَضْرِبَنَّ أَيُّهُمْ قَائِمٌ بِالضَّمِّ بَلْ بِنَصْبِهَا انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَّا وَقَدْ خَطَّأَ سِيبَوَيْهِ، وَسَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَعْنِي الزَّجَّاجَ يَقُولُ: مَا تَبَيَّنَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ غَلِطَ فِي كِتَابِهِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ هَذَا أَحَدُهُمَا. قَالَ: وَقَدْ أَعْرَبَ سِيبَوَيْهِ أَيًّا وَهِيَ مُفْرَدَةٌ لِأَنَّهَا تُضَافُ فَكَيْفَ يَبْنِيهَا وَهِيَ مضافة؟.
وعَلَى الرَّحْمنِ متعلق بأشد. وعِتِيًّا تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ تَقْدِيرُهُ أَيُّهُمْ هُوَ عُتُوُّهُ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَيُلْقِيهِ فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ، أَوْ فَيَبْدَأُ بِعَذَابِهِ ثُمَّ بِمَنْ دُونَهُ إِلَى آخِرِهِمْ عَذَابًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهُ تَبْدُو عُنُقٌ مِنَ النَّارِ فَتَقُولُ: إِنِّي أُمِرْتُ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ فَتَلْتَقِطُهُمْ».
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: «يَحْضُرُونَ جَمِيعًا حَوْلَ جَهَنَّمَ مُسَلْسَلِينَ مَغْلُولِينَ ثُمَّ يُقَدَّمُ الْأَكْفَرُ فَالْأَكْفَرُ».
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عِتِيًّا جَرَاءَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فُجْرًا. وَقِيلَ: افْتِرَاءً بِلُغَةِ تَمِيمٍ. وَقِيلَ: عِتِيًّا جَمْعُ عَاتٍ فَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ.
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ أَيْ نَحْنُ فِي ذَلِكَ النَّزْعِ لَا نَضَعُ شَيْئًا غَيْرَ مَوْضِعِهِ، لِأَنَّا قَدْ أَحَطْنَا عِلْمًا بِكُلِّ وَاحِدٍ فَأَوْلَى بِصِلِيِّ النَّارِ نَعْلَمُهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَوْلَى بِالْخُلُودِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
صِلِيًّا دُخُولًا. وَقِيلَ: لُزُومًا. وَقِيلَ: جَمْعُ صَالٍ فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ وَبِهَا مُتَعَلِّقٌ بِأَوْلَى.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ مِنْكُمْ لِلْعَطْفِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قَسَمٌ وَالْوَاوُ تَقْتَضِيهِ، وَيُفَسِّرُهُ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ».
انْتَهَى. وَذَهَلَ عَنْ قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنِ الْقَسَمِ بِالْجَوَابِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى إِلَّا إِذَا كَانَ الْجَوَابُ بِاللَّامِ أَوْ بِأَنْ، وَالْجَوَابُ هُنَا جَاءَ عَلَى زَعْمِهِ بِأَنِ النَّافِيَةِ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْقَسَمِ عَلَى مَا نَصُّوا. وَقَوْلُهُ وَالْوَاوُ تَقْتَضِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا عِنْدَهُ وَاوُ الْقَسَمِ، وَلَا يَذْهَبُ نَحْوِيٌّ إِلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْوَاوِ وَاوُ قَسَمٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ حَذْفُ الْمَجْرُورِ وَإِبْقَاءُ الْجَارِّ، وَلَا يَجُوزُ
288
ذَلِكَ إِلَّا إِنْ وَقَعَ فِي شِعْرٍ أَوْ نَادِرِ كَلَامٍ بِشَرْطِ أَنْ تَقُومَ صِفَةُ الْمَحْذُوفِ مَقَامَهُ كَمَا أَوَّلُوا فِي قَوْلِهِمْ: نِعْمَ السَّيْرُ عَلَى بِئْسَ الْعِيرِ، أَيْ عَلَى عِيرٍ بِئْسَ الْعِيرُ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَاللَّهِ مَا زِيدٌ بِنَامٍ صَاحِبُهُ أَيْ بِرَجُلٍ نَامٍ صَاحِبُهُ. وَهَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ إِذْ لَمْ يُحْذَفِ الْمُقْسَمُ بِهِ وَقَامَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْكُمْ بِكَافِ الْخِطَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ لِلْخَلْقِ وَأَنَّهُ لَيْسَ الْوُرُودُ الدُّخُولَ لِجَمِيعِهِمْ، فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ هُوَ الْجَوَازُ عَلَى الصِّرَاطِ لِأَنَّ الصِّرَاطَ مَمْدُودٌ عَلَيْهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَدْ يَرِدُ الشَّيْءَ وَلَمْ يَدْخُلْهُ كَقَوْلِهِ وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ «١» وَوَرَدَتِ الْقَافِلَةُ الْبَلَدَ وَلَمْ تَدْخُلْهُ، وَلَكِنْ قَرُبَتْ مِنْهُ أَوْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَمَّا وَرَدْنَ الْمَاءَ زُرْقًا جِمَامُهُ وَضَعْنَ عِصِيَّ الْحَاضِرِ الْمُتَخَيِّمِ
وَتَقُولُ الْعَرَبُ: وَرَدْنَا مَاءَ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي كَلْبٍ إِذَا حَضَرُوهُمْ وَدَخَلُوا بِلَادَهُمْ، وَلَيْسَ يُرَادُ بِهِ الْمَاءُ بِعَيْنِهِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ فَيَكُونُ الْوُرُودُ فِي حَقِّهِمُ الدُّخُولَ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْخِطَابُ عَامٌّ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ وَلَكِنْ لَا تَضُرُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَكَرُوا كَيْفِيَّةَ دُخُولِ الْمُؤْمِنِينَ النَّارَ بِمَا لَا يُعْجِبُنِي نَقْلُهُ فِي كِتَابِي هَذَا لِشَنَاعَةِ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ وَإِنْ لَمْ تَضُرَّهُمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَجَمَاعَةٌ وَإِنْ مِنْهُمْ بِالْهَاءِ لِلْغَيْبَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الضَّمَائِرِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْوُرُودِ جَثْوُهُمْ حَوْلَهَا وَإِنْ أُرِيدَ الْكُفَّارُ خَاصَّةً فَالْمَعْنَى بَيِّنٌ، وَاسْمُ كانَ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى الْوُرُودِ أَيْ كَانَ وُرُودُهُمْ حَتْمًا أَيْ وَاجِبًا قُضِيَ بِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ثُمَّ بِحَرْفِ الْعَطْفِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُرُودَ عَامٌّ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عباس وَأُبَيٌّ
وَعَلِيٌّ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ وَيَعْقُوبُ ثَمَّ بِفَتْحِ الثَّاءِ
أَيْ هُنَاكَ، وَوَقَفَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ثَمَّهْ بِهَاءِ السَّكْتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُنَجِّي بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ. وَقَرَأَ يَحْيَى وَالْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإِسْكَانِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ.
وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ نُجِّيَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مَضْمُومَةٍ وَجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ: نُنَحِّي بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مُضَارِعُ نَحَّى
، وَمَفْعُولُ اتَّقَوْا مَحْذُوفٌ أَيِ الشِّرْكُ وَالظُّلْمُ هنا ظلم الكفر.
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٢٣. [.....]
289
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَأَصْحَابِهِ، كَانَ فُقَرَاءُ الصَّحَابَةِ فِي خُشُونَةِ عَيْشٍ وَرَثَاثَةِ سِرْبَالٍ وَالْمُشْرِكُونَ يدهنون رؤوسهم وَيُرَجِّلُونَ شُعُورَهُمْ وَيَلْبَسُونَ الْحَرِيرَ وَفَاخِرَ الْمَلَابِسِ، فَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً أَيْ مَنْزِلًا وَسَكَنًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَلَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَأَتْبَعَهُ بِمَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عَارَضُوا تِلْكَ الْحُجَّةَ الدَّامِغَةَ بِحُسْنِ شَارَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ يَدُلُّ عَلَى كَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ يُتْلَى بِالْيَاءِ وَالْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ كَانَ الْمُؤْمِنُ يَتْلُو عَلَى الْكَافِرِ الْقُرْآنَ وَيُنَوِّهُ بِآيَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ الْكَافِرُ: إِنَّمَا يُحْسِنُ اللَّهُ لِأَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَيُنْعِمُ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ، وَنَحْنُ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْنَا دُونَكُمْ فَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ وَأَنْتُمْ فُقَرَاءُ، وَنَحْنُ أَحْسَنُ مَجْلِسًا وَأَجْمَلُ شَارَةً.
وَمَعْنَى بَيِّناتٍ مُرَتَّلَاتِ الْأَلْفَاظِ مُلَخَّصَاتِ الْمَعَانِي أَوْ ظَاهِرَاتِ الْإِعْجَازِ أَوْ حُجَجًا وبراهين. وبَيِّناتٍ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَنَّ آيَاتِهِ تَعَالَى لَا تَكُونُ إِلَّا بِهَذَا الْوَصْفِ دَائِمًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَقاماً بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَالْجُعْفِيُّ وَأَبُو حاتم عن أبي عمر وبضم الْمِيمِ وَاحْتَمَلَ الْفَتْحُ وَالضَّمُّ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا أَوْ مَوْضِعَ قِيَامٍ أَوْ إِقَامَةٍ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى كَثْرَةَ مَا أَهْلَكَ مِنَ الْقُرُونِ مِمَّنْ كَانَ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُهْلِكُهُمْ وَيَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهُمْ كَمَا فَعَلَ بِغَيْرِهِمْ وَاتِّعَاظًا لَهُمْ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَتَّعِظُ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ حُسْنِ الْأَثَاثِ وَالرِّيِّ، وَيَعْنِي إِهْلَاكَ تَكْذِيبٍ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. ومِنْ قَرْنٍ تبيين لكم وكَمْ مَفْعُولٌ بِأَهْلَكْنَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهُمْ أَحْسَنُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صفة لكم. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ تَرَكْتَ هُمْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بُدٌّ مِنْ نَصْبِ أَحْسَنُ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ انْتَهَى. وَتَابَعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى أَنَّ هُمْ أَحْسَنُ صِفَةٌ لِكَمْ، وَنَصَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ كَمْ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ وَالْخَبَرِيَّةَ لَا تُوصَفُ وَلَا يُوصَفُ بِهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هُمْ أَحْسَنُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَرْنٍ، وَجُمِعَ لِأَنَّ الْقَرْنَ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ فَرُوعِيَ مَعْنَاهُ، وَلَوْ أُفْرِدَ الضَّمِيرُ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ عَرَبِيًّا فَصَارَ كَلَفْظِ جَمِيعٍ. قَالَ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ «١» وَقَالَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ فَوَصَفَهُ بِالْجَمْعِ وَبِالْمُفْرَدِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَثَاثِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ.
وقرأ الجمهور وَرِءْياً بالهمزة مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالطِّحْنِ وَالسِّقْيِ.
(١) سورة يس: ٣٦/ ٣٢.
290
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّئْيُ الْمَنْظَرُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ صُوَرًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَطَلْحَةُ فِي رِوَايَةِ الْهَمْدَانِيِّ وَأَيُّوبُ وَابْنُ سَعْدَانَ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَقَالُونُ وَرِيًّا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَهْمُوزَ الْأَصْلِ مِنَ الرِّوَاءِ وَالْمَنْظَرِ سُهِّلَتْ هَمْزَتُهُ بِإِبْدَالِهَا يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّيِّ ضِدِّ الْعَطَشِ لِأَنَّ الرَّيَّانَ مِنَ الْمَاءِ لَهُ مِنَ الْحُسْنِ وَالنَّضَارَةِ مَا يُسْتَحَبُّ ويستحن، كماله مَنْظَرٌ حَسَنٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِمَّا يُرَى وَيُقَابَلُ.
وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَاصِمٍ وحميد وَرِءْياً بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ وَهُوَ عَلَى الْقَلْبِ وَوَزْنُهُ فِلْعًا، وَكَأَنَّهُ مِنْ رَاءَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكُلُّ خَلِيلٍ رَآنِي فَهُوَ قَائِلٌ مِنْ أجل هَذَا هَامَةُ الْيَوْمِ أَوْ غد
وقرىء وَرِيَاءً بِيَاءٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، حَكَاهَا الْيَزِيدِيُّ وَأَصْلُهُ وَرِئَاءً مِنَ الْمُرَاءَاةِ أَيْ يُرِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا حُسْنَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا رَوَى عَنْهُ طَلْحَةُ وَرِيًا مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا تَشْدِيدٍ، فَتَجَاسَرَ بَعْضُ النَّاسِ وَقَالَ هِيَ لَحْنٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَهَا تَوْجِيهٌ بِأَنْ تَكُونَ مِنَ الرواء، وقلب فصار وَرِءْياً ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى الْيَاءِ وَحُذِفَتْ، أَوْ بِأَنْ تَكُونَ مِنَ الرِّيِّ وَحُذِفَتْ إِحْدَى الْيَاءَيْنِ تَخْفِيفًا كَمَا حُذِفَتْ فِي لَا سِيَّمَا، وَالْمَحْذُوفَةُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهَا لَامُ الْكَلِمَةِ لِأَنَّ النَّقْلَ إِنَّمَا حَصَلَ لِلْكَلِمَةِ بِانْضِمَامِهَا إِلَى الْأُولَى فَهِيَ أَوْلَى بِالْحَذْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَابْنُ جُبَيْرٍ وَيَزِيدُ الْبَرْبَرِيُّ وَالْأَعْسَمُ الْمَكِّيُّ وَزِيًّا بِالزَّايِ مُشَدِّدَ الْيَاءِ وَهِيَ الْبِزَّةُ الْحَسَنَةُ، وَالْآلَاتُ الْمُجْتَمِعَةُ الْمُسْتَحْسَنَةُ.
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا.
فَلْيَمْدُدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُ عَلَى مَعْنَاهُ مِنَ الطَّلَبِ وَيَكُونُ دُعَاءً، وَكَانَ الْمَعْنَى الْأَضَلُّ مِنَّا وَمِنْكُمْ مَدَّ اللَّهُ لَهُ، أَيْ أَمْلَى لَهُ حَتَّى يؤول إِلَى عَذَابِهِ. وَكَان الدُّعَاءُ عَلَى صِيغَةِ الطَّلَبِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا فِي الْمَعْنَى وَصُورَتُهُ صُورَةُ الْأَمْرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ:
مَنْ كَانَ ضَالًّا مِنَ الْأُمَمِ فَعَادَةُ اللَّهِ لَهُ أَنَّهُ يَمْدُدُ لَهُ وَلَا يُعَاجِلُهُ حَتَّى يُفْضِيَ ذَلِكَ إِلَى عَذَابِهِ فِي
291
الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُخْرِجَ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ إِيذَانًا بِوُجُوبِ ذَلِكَ، وَإِنَّهُ مَفْعُولٌ لَا مَحَالَةَ كَالْمَأْمُورِ بِهِ الْمُمْتَثَلِ لِيَقْطَعَ مَعَاذِيرَ الضَّالِّ، وَيُقَالَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ «١» أَوْ كَقَوْلِهِ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «٢» وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَتَّى غَايَةٌ لِقَوْلِهِ فَلْيَمْدُدْ وَالْمَعْنَى إِنَّ الَّذِينَ فِي الضَّلَالَةِ مَمْدُودٌ لَهُمْ فِيهَا إِلَى أَنْ يُعَايِنُوا الْعَذَابَ بِنُصْرَةِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ أَوِ السَّاعَةَ وَمُقَدِّمَاتِهَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِالْآيَةِ الَّتِي هِيَ رَابِعَتُهَا، وَالْآيَتَانِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَهُمَا أَيْ قَالُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا «٣» حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ أَيْ لَا يَبْرَحُونَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَيَتَوَلَّعُونَ بِهِ لَا يَتَكَافُّونَ عَنْهُ إِلَى أَنْ يُشَاهِدُوا الْمَوْعُودَ رَأْيَ عَيْنٍ إِمَّا الْعَذابَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ غَلَبَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَتَعْذِيبُهُمْ إِيَّاهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا، وَإِظْهَارُ اللَّهِ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَإِمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُونَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى عَكْسِ مَا قَدَّرُوهُ، وَأَنَّهُمْ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً لَا خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى خِلَافِ صِفَتِهِمُ.
انْتَهَى هَذَا الْوَجْهُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ قَوْلِهِ قَالُوا: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ وَبَيْنَ الْغَايَةِ وَفِيهِ الْفَصْلُ بِجُمْلَتَيِ اعْتِرَاضٍ وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالثَّانِي أَنَّ يَتَّصِلَ بِمَا يَلِيهَا فَذَكَرَ نَحْوًا مِمَّا قَدَّمْنَاهُ، وَقَابَلَ قَوْلَهُمْ خير مكانا بقوله شَرٌّ مَكاناً وقوله وَأَحْسَنُ نَدِيًّا بِقَوْلِهِ وَأَضْعَفُ جُنْداً لِأَنَّ النَّدِيَّ هُوَ الْمَجْلِسُ الْجَامِعُ لِوُجُوهِ الْقَوْمِ وَالْأَعْوَانِ، وَالْأَنْصَارِ وَالْجُنْدُ هُمُ الأعوان، والأنصار وإِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ بَدَلٌ من ما المفعولة برأوا. ومَنْ مَوْصُولَةٌ مَفْعُولَةٌ بِقَوْلِهِ فَسَيَعْلَمُونَ وَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ وَاسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْفِعْلُ قَبْلَهَا مُعَلَّقٌ وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ.
وَلَمَّا ذَكَرَ إِمْدَادَ الضَّالِّ فِي ضَلَالَتِهِ وَارْتِبَاكَهُ فِي الِافْتِخَارِ بِنِعَمِ الدُّنْيَا عَقَّبَ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ هُدًى لِلْمُهْتَدِي وَبِذِكْرِ الْباقِياتُ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنْ تَنَعُّمِهِمْ فِي الدُّنْيَا الَّذِي يَضْمَحِلُّ وَلَا يَثْبُتُ. ومَرَدًّا مَعْنَاهُ مَرْجِعًا وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ فِي الْكَهْفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَزِيدُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ فَلْيَمْدُدْ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقَعَ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ مَدًّا وَيَمُدُّ لَهُ الرَّحْمَنُ وَيَزِيدُ أَيْ يَزِيدُ فِي ضَلَالِ الضال بخذلانه، ويزيد
(١) سورة فاطر: ٣٥/ ٣٧.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٧٨.
(٣) سورة مريم: ١٩/ ٧٣.
292
الْمُهْتَدِينَ هِدَايَةً بِتَوْفِيقِهِ انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَيَزِيدُ مَعْطُوفًا عَلَى مَوْضِعِ فَلْيَمْدُدْ سَوَاءٌ كَانَ دُعَاءً أَمْ خَبَرًا بِصُورَةِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ إِنْ كَانَتْ مَنْ مَوْصُولَةً أَوْ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ إِنْ كَانَتْ مَنْ شَرْطِيَّةً، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً عَارِيَةٌ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى مَنْ يَرْبِطُ جُمْلَةَ الْخَبَرِ بِالْمُبْتَدَأِ أَوْ جُمْلَةَ الشَّرْطِ بِالْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ فَلْيَمْدُدْ وَمَا عَطَفَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، وَالْمَعْطُوفَ عَلَى جُمْلَةِ الْجَزَاءِ جَزَاءٌ، وَإِذَا كَانَتْ أَدَاةُ الشَّرْطِ اسْمًا لَا ظَرْفًا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ ضَمِيرُهُ أَوْ ما يقول مَقَامَهُ، وَكَذَا فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ خَيْرٌ ثَواباً مِنْ مُفَاخَرَاتِ الْكُفَّارِ وَخَيْرٌ مَرَدًّا أَيْ وَخَيْرٌ مَرْجِعًا وَعَاقِبَةً أَوْ مَنْفَعَةً مِنْ قَوْلِهِمْ لَيْسَ لِهَذَا الْأَمْرِ مَرَدٌّ وَهَلْ يَرِدُ مَكَانِي زَيْدًا. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قِيلَ خَيْرٌ ثَوَابًا كَانَ لِمُفَاخَرَاتِهِمْ ثوابا حَتَّى يُجْعَلَ ثَوَابُ الصَّالِحَاتِ خَيْرًا مِنْهُ؟ قُلْتُ: كَأَنَّهُ قِيلَ ثَوَابُهُمُ النَّارُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ. وقوله:
شجعاء جربها الذَّمِيلُ تَلُوكُهُ أُصُلًا إِذَا رَاحَ الْمَطِيُّ غِرَاثَا
وَقَوْلِهِ:
تحية بينهم ضرب وجيع ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ خَيْرٌ ثَوَابًا وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ التَّهَكُّمِ الَّذِي هُوَ أَغْيَظُ لِلْمُتَهَدِّدِ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ عِقَابُكَ النَّارُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا وَجْهُ التَّفْضِيلِ فِي الْخَبَرِ كَانَ لِمَفَاخِرِهِمْ شُرَكَاءُ فِيهِ؟ قُلْتُ: هَذَا مِنْ وَجِيزِ كَلَامِهِمْ يَقُولُونَ: الصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ أَيْ أَبْلَغُ فِي حَرِّهِ مِنَ الشِّتَاءِ فِي بَرْدِهِ انْتَهَى.
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا نَزَلَتْ فِي الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ عَمِلَ لَهُ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ عَمَلًا وَكَانَ قَيْنًا، فَاجْتَمَعَ لَهُ عِنْدَهُ دَيْنٌ فَتَقَاضَاهُ فَقَالَ: لَا أُنْصِفُكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقَالَ خَبَّابٌ: لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ وَيَبْعَثَكَ. فَقَالَ الْعَاصِي: أو مبعوث أَنَا بَعْدَ الْمَوْتِ؟
فَقَالَ خباب: نعم، قال: فائت إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَسَيَكُونُ لِي مَالٌ وَوَلَدٌ وَعِنْدَ ذَلِكَ أَقْضِيكَ دَيْنَكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَقَدْ كَانَتْ لِلْوَلِيدِ أَيْضًا أَقْوَالٌ تُشْبِهُ هَذَا الْغَرَضَ، وَلَمَّا كَانَتْ رُؤْيَةُ الْأَشْيَاءِ سَبِيلًا إِلَى الْإِحَاطَةِ بِهَا وَصِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْهَا اسْتَعْمَلُوا أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبَرَ، وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ أَفَادَتِ التَّعْقِيبَ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَخْبَرَ أَيْضًا بِقِصَّةِ هَذَا الْكَافِرِ عَقِيبَ قِصَّةِ أُولَئِكَ، وَالْآيَاتُ: الْقُرْآنُ وَالدَّلَالَاتُ عَلَى الْبَعْثِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَداً أَرْبَعَتُهُنَّ
293
هُنَا، وَفِي الزُّخْرُفِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْوَاوِ وَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي نُوحٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ عِيسَى الْأَصْبَهَانِيُّ بِضَمِّ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى الْجِنْسِ لَا مَلْحُوظًا فِيهِ الْإِفْرَادُ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدَ اللَّفْظِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقِيلَ هُوَ جَمْعٌ كَأَسَدٍ وَأُسْدٍ، وَاحْتَجَّ قَائِلُ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرَا قَدْ ثَمَّرُوا مَالًا وَوُلْدَا
وَقِيلَ: هُوَ مُرَادِفٌ لِلْوَلَدِ بِالْفَتْحَتَيْنِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ:
فَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ وَلَدَ حِمَارِ
وَقَرَأَ عَبْدِ اللَّهِ وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةُ فِي أَطَّلَعَ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَلِذَلِكَ عادلتها أَمِ. وقرىء بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِي الِابْتِدَاءِ وَحَذْفِهَا فِي الْوَصْلِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِدَلَالَةِ أَمِ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ:
بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ يُرِيدُ أَبِسَبْعٍ، وَجَاءَ التَّرْكِيبُ فِي أَرَأَيْتَ عَلَى الْوَضْعِ الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنَّهَا تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ تَنْصِبُهُ، وَيَكُونُ الثَّانِي اسْتِفْهَامًا فأطلع وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَرَأَيْتَ، وَمَا جَاءَ مِنْ تَرْكِيبِ أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي عَلَى خِلَافِ هَذَا فِي الظَّاهِرِ يَنْبَغِي أَنْ يُرَدَّ إِلَى هَذَا بِالتَّأْوِيلِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَطَّلَعَ الْجَبَلَ إِذَا ارْتَقَى إِلَى أَعْلَاهُ وَاطَّلَعَ الثَّنْيَةَ. قَالَ جَرِيرٌ:
لَاقَيْتُ مُطَّلَعَ الْجِبَالِ وُعُورًا وَتَقُولُ: مُرْ مُطَّلِعًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ أَيْ عَالِيًا لَهُ مَالِكًا لَهُ، وَلِاخْتِيَارِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ شَأْنٌ تَقُولُ:
أو قد بَلَغَ مِنْ عَظَمَةِ شَأْنِهِ أَنِ ارْتَقَى إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي تَوَحَّدَ بِهِ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا ادَّعَى أَنْ يُؤْتَاهُ وَتَأَلَّى عَلَيْهِ لَا يَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ، إِمَّا عِلْمِ الْغَيْبِ، وَإِمَّا عَهْدٍ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ فَبِأَيِّهِمَا تَوَصَّلَ إِلَى ذَلِكَ.
وَالْعَهْدُ. قِيلَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَلْ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ قَدَّمَهُ فَهُوَ يَرْجُو بِذَلِكَ مَا يَقُولُ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: هَلْ عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يؤتيه ذلك. وكَلَّا رَدْعٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْخَطَأِ الَّذِي هُوَ مُخْطِئٌ فِيمَا تَصَوَّرَهُ لِنَفْسِهِ وَيَتَمَنَّاهُ فَلْيَرْتَدِعْ عَنْهُ. وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ كَلَّا بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا
294
هُنَا وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ كَلَّ السَّيْفُ كَلًّا إِذَا نَبَا عَنِ الضَّرِيبَةِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ مِنْ لَفْظِهِ وَتَقْدِيرُهُ كَلُوا كَلَّا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ أَوْ عَنِ الْحَقِّ. وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَنَّى بِالْكِتَابَةِ عَنْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ. فلذلك دلت السِّينُ الَّتِي لِلِاسْتِقْبَالِ أَيْ سنجازيه على ما يقوله. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
فِيهِ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: سَيَظْهَرُ لَهُ وَنُعْلِمُهُ أَنَّا كَتَبْنَا قَوْلَهُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ:
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ أَيْ تَبَيَّنَ وَعَلِمَ بِالِانْتِسَابِ أَنِّي لَسْتُ ابْنَ لَئِيمَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتَوَعِّدَ يَقُولُ لِلْجَانِي سَوْفَ أَنْتَقِمُ مِنْكَ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَبْخَلُ بِالِانْتِصَارِ وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِ الزَّمَانُ، وَاسْتَأْخَرَ فَجَرَّدَهَا هُنَا لِمَعْنَى الْوَعِيدِ انْتَهَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَنَكْتُبُ بِالنُّونِ وَالْأَعْمَشُ بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَالتَّاءُ مَفْتُوحَةٌ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَذُكِرَتْ عَنْ عَاصِمٍ وَنَمُدُّ أَيْ نُطَوِّلُ لَهُ مِنَ الْعَذابِ الَّذِي يعذب به المستهزءون أَوْ نَزِيدُهُ مِنَ الْعَذَابِ وَنُضَاعِفُ لَهُ الْمَدَدَ.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب وَنَمُدُّ لَهُ
يُقَالُ مَدَّهُ وَأَمَدَّهُ بِمَعْنًى وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ أَيْ نَسْلُبُهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ فَنَكُونُ كَالْوَارِثِ لَهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَجْعَلُ مَا يَتَمَنَّى مِنَ الْجَنَّةِ لِغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو سُهَيْلٍ: نَحْرِمُهُ مَا يَتَمَنَّاهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَنَجْعَلُهُ لِغَيْرِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَدْ تَمَنَّى وَطَمِعَ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا مَالًا وَوَلَدًا، وَبَلَغَتْ بِهِ أَشْعَبِيَّتُهُ أَنْ تَأَلَّى عَلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ لَأُوتَيَنَّ لِأَنَّهُ جَوَابُ قَسَمٍ مُضْمَرٍ، وَمَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللَّهِ يُكَذِّبْهُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَعَلَا: هَبْ أَنَّا أَعْطَيْنَاهُ مَا اشْتَهَاهُ إِمَّا نَرِثُهُ مِنْهُ فِي الْعَاقِبَةِ وَيَأْتِينا فَرْداً غَدًا بِلَا مَالٍ وَلَا وَلَدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى «١» الْآيَةَ فَمَا يُجْدِي عَلَيْهِ تَمَنِّيهِ وَتَأَلِّيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّمَا يَقُولُهُ مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا قَبَضْنَاهُ حُلْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَهُ وَيَأْتِينا رَافِضًا لَهُ مُنْفَرِدًا عَنْهُ غَيْرَ قَائِلٍ لَهُ انْتَهَى.
وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ مَعْنَاهُ نَحْفَظُهُ عَلَيْهِ لِلْعَاقِبَةِ وَمِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ أَيْ حَفَظَةُ ما قالوه انتهى. وفَرْداً تَتَضَمَّنُ ذِلَّتَهُ وَعَدَمَ أَنْصَارِهِ، ويَقُولُ صِلَةُ مَا مُضَارِعٌ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْمَاضِي أَيْ مَا قَالَ. وَالضَّمِيرُ فِي وَاتَّخَذُوا لِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ وَهُمُ الظَّالِمُونَ فِي قَوْلِهِ وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ «٢» فَكُلُّ ضَمِيرٍ جُمِعَ ما بعده
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٩٤.
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٧٢.
295
عَائِدٌ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ عَوْدُهُ عَلَيْهِ، وَاللَّامُ فِي لِيَكُونُوا لَامُ كَيْ أَيْ لِيَكُونُوا أَيِ الْآلِهَةُ لَهُمْ عِزًّا يَتَعَزَّزُونَ بِهَا فِي النُّصْرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْإِنْقَاذِ مِنَ الْعَذَابِ.
كَلَّا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَلَّا رَدْعٌ لَهُمْ وَإِنْكَارٌ لِتَعَزُّزِهِمْ بِالْآلِهَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ نَهِيكٍ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أَيْ سَيَجْحَدُونَ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ مَرَرْتُ بِغُلَامِهِ وَفِي مُحْتَسَبِ ابْنِ جِنِّي كَلَّا بِفَتْحِ الْكَافِ وَالتَّنْوِينِ، وَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَاهُ كَلَّ هَذَا الرَّأْيِ وَالِاعْتِقَادِ كَلًّا، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَهِيَ كَلَّا الَّتِي لِلرَّدْعِ قَلَبَ الْوَاقِفُ عَلَيْهَا أَلِفَهَا نُونًا كَمَا فِي قَوَارِيرَا انْتَهَى. فَقَوْلُهُ وَقَرَأَ ابْنُ نَهِيكٍ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَصَاحِبُ اللَّوَامِحِ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو نَهِيكٍ بِالْكُنْيَةِ وَهُوَ الَّذِي يُحْكَى عَنْهُ الْقِرَاءَةُ فِي الشَّوَاذِّ وَأَنَّهُ قَرَأَ كَلَّا بِفَتْحِ الْكَافِ وَالتَّنْوِينِ وَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو الْفَتْحِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ يَعْنِي كَلَّا نَعْتٌ لِلْآلِهَةِ قَالَ: وَحَكَى عَنْهُ أَيْ عَنْ أَبِي نَهِيكٍ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ كَلَّا بِضَمِّ الْكَافِ وَالتَّنْوِينِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سَيَكْفُرُونَ تَقْدِيرُهُ يَرْفُضُونَ أَوْ يَتْرُكُونَ أَوْ يَجْحَدُونَ أَوْ نَحْوُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِلَى آخِرِهِ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ قَالَ إِنَّهَا الَّتِي لِلرَّدْعِ، وَالَّتِي لِلرَّدْعِ حَرْفٌ وَلَا وَجْهَ لِقَلْبِ أَلِفَهَا نُونًا وَتَشْبِيهُهُ بِقَوَارِيرَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ قَوَارِيرَا اسْمٌ رَجَعَ بِهِ إِلَى أَصْلِهِ، فَالتَّنْوِينُ لَيْسَ بَدَلًا مِنْ أَلِفٍ بَلْ هُوَ تَنْوِينُ الصَّرْفِ. وَهَذَا الْجَمْعُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَيَتَحَتَّمُ مَنْعُ صَرْفِهِ أَمْ يَجُوزُ؟ قَوْلَانِ، وَمَنْقُولٌ أَيْضًا أَنَّ لُغَةً لِلْعَرَبِ يَصْرِفُونَ مَا لَا يَنْصَرِفُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، فَهَذَا التَّنْوِينُ إِمَّا عَلَى قَوْلُ مَنْ لَا يَرَى بِالتَّحَتُّمِ أَوْ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي نَهِيكٍ أَنَّهُ قَرَأَ كُلٌّ بِضَمِّ الْكَافِ وَرَفْعِ اللَّامِ وَرَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ الْخَبَرُ، وَتَقَدَّمَ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْآلِهَةُ وَتَلَاهُ ضَمِيرٌ فِي قَوْلِهِ لِيَكُونُوا فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي سَيَكْفُرُونَ عَائِدٌ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ مُحْدَثٍ عَنْهُ. فَالْمَعْنَى أَنَّ الْآلِهَةَ سَيَجْحَدُونَ عِبَادَةَ هَؤُلَاءِ إِيَّاهُمْ كَمَا قَالَ: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ وَفِي آخِرِهَا فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ «١» وَتَكُونُ آلِهَةً هُنَا مَخْصُوصًا بِمَنْ يَعْقِلُ، أَوْ يَجْعَلُ اللَّهُ لِلْآلِهَةِ غَيْرِ الْعَاقِلَةِ إِدْرَاكًا تُنْكِرُ بِهِ عِبَادَةَ عَابِدِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْمُشْرِكِينَ يُنْكِرُونَ لِسُوءِ الْعَاقِبَةِ أَنْ يَكُونُوا كَمَا قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ «٢» لَكِنَّ قَوْلَهُ وَيَكُونُونَ يُرَجِّحُ الْقَوْلَ الأول لا تساق الضَّمَائِرِ لِوَاحِدٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَخْتَلِفُ الضَّمَائِرُ إِذْ يَكُونُ فِي سَيَكْفُرُونَ لِلْمُشْرِكِينَ وفي يَكُونُونَ للآلهة.
(١) سورة النحل: ١٦/ ٨٦.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٢٣.
296
وَمَعْنَى ضِدًّا أَعْوَانًا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الضحاك: أَعْدَاءً. وَقَالَ قَتَادَةُ: قُرَنَاءَ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَلَاءً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ يَجِيئُهُمْ مِنْهُ خِلَافُ مَا كانوا أمّلوه فيؤول بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى ذِلَّةٍ ضِدِّ مَا أَمَّلُوهُ مِنَ الْعِزِّ، فَالضِّدُّ هُنَا مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ الْجَمْعُ كَمَا يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالضِّدُّ الْعَوْنُ وُحِّدَ توحيد وهم يد عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ لِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ لفرط تضامنهم وَتَوَافُقِهِمْ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ عَوْنًا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ وَقُودُ النَّارِ وَحَصَبُ جَهَنَّمَ وَلِأَنَّهُمْ عُذِّبُوا بِسَبَبِ عِبَادَتِهِمْ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً.
أَرْسَلْنَا مَعْنَاهُ سَلَّطْنَا أَوْ لَمْ نَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ مِثْلُ قَوْلِهِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً «١» وَتَعْدِيَتُهُ بِعَلَى دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَسْلِيطٌ وتَؤُزُّهُمْ تُحَرِّكُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تُزْعِجُهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تُشْلِيهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تُغْرِيهِمْ عَلَى الْمَعَاصِي وَتُهَيِّجُهُمْ لَهَا بِالْوَسَاوِسِ وَالتَّسْوِيلَاتِ، وَالْمَعْنَى خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ وَلَمْ نَمْنَعْهُمْ وَلَوْ شَاءَ لَمَنَعَهُمْ، وَالْمُرَادُ تَعْجِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْعُتَاةُ مِنَ الْكُفَّارِ وَأَقَاوِيلُهُمْ.
عَجِلْتُ عَلَيْهِ بِكَذَا إِذَا اسْتَعْجَلْتُهُ مِنْهُ أَيْ لَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُهْلَكُوا فَلَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تَطْلُبُ مِنْ هَلَاكِهِمْ إِلَّا أَيَّامٌ مَحْصُورَةٌ وَأَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ كَأَنَّهَا فِي سُرْعَةٍ تَقَضِّيهَا السَّاعَةُ الَّتِي تُعَدُّ فِيهَا لَوْ عُدَّتْ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ «٢» انْتَهَى. وَقِيلَ نَعُدُّ أَعْمَالَهُمْ لِنُجَازِيَهُمْ. وَقِيلَ: آجَالَهُمْ فَإِذَا جَاءَ أَحْلَلْنَا الْعُقُوبَةَ بِهِمْ. وَقِيلَ: أَيَّامَهُمُ الَّتِي سَبَقَ قَضَاؤُنَا أَنْ نُمْهِلَهُمْ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: أَنْفَاسَهُمْ، وَانْتَصَبَ يَوْمَ بِاذْكُرْ أَوِ احْذَرْ مُضْمَرَةً أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تقديره
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ٣٦.
(٢) سورة الأحقاف: ٤٦/ ٣٥.
297
مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ أَوْ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ أَوْ بِيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أَوْ مَعْنَى بُعْدًا، وَتَضَمَّنَ الْعَدُّ وَالْإِحْصَاءُ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ، أَوْ يَوْمَ نَحْشُرُ وَنَسُوقُ نَفْعَلُ بِالْفَرِيقَيْنِ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ أَوْ بِلَا يَمْلِكُونَ، وَكُلُّهَا مَقُولٌ فِي نَصْبِ يَوْمَ وَالْأَوْجَهُ الْأَخِيرُ. وَعُدِّيَ نَحْشُرُ بإلى الرَّحْمنِ تَعْظِيمًا لَهُمْ وَتَشْرِيفًا. وَذَكَرَ صِفَةَ الرَّحْمَانِيَّةِ الَّتِي خَصَّهُمْ بِهَا كَرَامَةً إِذْ لَفْظُ الْحَشْرِ فِيهِ جَمْعٌ مِنْ أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ وَأَقْطَارٍ شَاسِعَةٍ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ، فَجَاءَتْ لَفْظَةُ الرَّحْمنِ مُؤْذِنَةً بِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ إِلَى مَنْ يَرْحَمُهُمْ، وَلَفْظُ السَّوْقِ فِيهِ إِزْعَاجٌ وَهُوَ إِنْ عُدِّيَ بإلى جَهَنَّمَ تَفْظِيعًا لَهُمْ وَتَبْشِيعًا لِحَالِ مُقِرِّهِمْ. وَلَفْظَةُ الْوَفْدِ مُشْعِرَةٌ بِالْإِكْرَامِ وَالتَّبْجِيلِ كَمَا يَفِدُ الْوُفَّادُ عَلَى الْمُلُوكِ مُنْتَظِرِينَ لِلْكَرَامَةِ عِنْدَهُ.
وَعَنْ عَلِيٍّ: عَلَى نُوقٍ رِحَالُهَا ذَهَبٌ، وَعَلَى نَجَائِبَ سَرْجُهَا يَاقُوتٌ.
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَجِيئُونَ رُكْبَانًا عَلَى النُّوقِ الْمُحَلَّاةِ بِحِلْيَةِ الْجَنَّةِ خَطْمُهَا مِنْ يَاقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ.
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ أَنَّهُمْ يَرْكَبُونَ عَلَى تَمَاثِيلَ من أعمالهم الصالحة هِيَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ،
رُوِيَ أَنَّهُ يَرْكَبُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَا أَحَبَّ مِنْ إِبِلٍ أَوْ خَيْلٍ أَوْ سُفُنٍ تَجِيءُ عَائِمَةً بِهِمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْوِفَادَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحِسَابِ وَأَنَّهَا النُّهُوضُ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «١» وَشَبَّهُوا بِالْوُفُودِ لِأَنَّهُمْ سَرَاةُ النَّاسِ وَأَحْسَنُهُمْ شَكْلًا وَلَيْسَتْ وِفَادَةً حَقِيقِيَّةً لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الِانْصِرَافَ مِنَ الْمَوْفُودِ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ مُقِيمُونَ أَبَدًا فِي ثَوَابِ رَبِّهِمْ وَهُوَ الْجَنَّةُ وَالْوِرْدُ الْعِطَاشُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنُ، وَالْوِرْدُ مَصْدَرُ وَرَدَ أَيْ سَارَ إِلَى الْمَاءِ.
قَالَ الرَّاجِزُ:
رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صَمَّا كُدْرِيَّةٍ أَعْجَبَهَا بَرْدُ الْمَاءِ
وَلَمَّا كَانَ مَنْ يَرِدُ الْمَاءَ لَا يَرِدُهُ إِلَّا لِعَطَشٍ، أُطْلِقَ الْوِرْدُ عَلَى الْعِطَاشِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِسَبَبِهِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ يُحْشَرُ الْمُتَّقُونَ وَيُسَاقُ الْمُجْرِمُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَا يَمْلِكُونَ عَائِدٌ عَلَى الْخَلْقِ الدَّالِّ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ الْمُتَّقِينَ وَالْمُجْرِمِينَ إِذْ هُمْ قِسْمَاهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ ومَنِ بَدَلٌ مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ أَوْ نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا يَمْلِكُونَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ. وَقِيلَ: مَوْضِعُهُ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَا يَمْلِكُونَ وَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى الْمُجْرِمِينَ. وَالْمَعْنَى غَيْرَ مَالِكِينَ أَنْ يُشْفَعَ لَهُمْ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا. وَقِيلَ:
الضَّمِيرُ فِي لَا يَمْلِكُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمُتَّقِينَ وَالْمُجْرِمِينَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ. وقيل: عائد
(١) سورة القمر: ٥٤/ ٥٥.
298
عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَاتِّخَاذُ الْعَهْدِ هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فِي حَيِّزِ مَنْ يَشْفَعُ.
وَتَظَافَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ يَشْفَعُونَ فَيُشَفَّعُونَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ فِي أُمَّتِي رَجُلًا يُدْخِلُ اللَّهُ بِشَفَاعَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ».
وَقَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ الشَّهِيدَ يَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ.
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ لِلْمُتَّقِينَ: الْمَعْنَى لَا يَمْلِكُ الْمُتَّقُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا لِهَذَا الصِّنْفِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ اتَّخَذَ الْمَشْفُوعَ فِيهِمْ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مَنِ اتَّخَذَ الشَّافِعِينَ فَالتَّقْدِيرُ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ كَمَا قَالَ:
فَلَمْ يَنْجُ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ وَمِئْزَرَا.
أَيْ لَمْ يَنْجُ شَيْءٌ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْوَاوُ ضَمِيرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ يَعْنِي الْوَاوَ فِي لَا يَمْلِكُونَ عَلَامَةً لِلْجَمْعِ كَالَّتِي فِي أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَالْفَاعِلُ مَنِ اتَّخَذَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ انْتَهَى. وَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ مَعَ وُضُوحِ جَعْلِ الْوَاوِ ضَمِيرًا. وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ أَنَّهَا لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ.
وَأَيْضًا قَالُوا: وَالْأَلِفُ وَالنُّونُ الَّتِي تَكُونُ عَلَامَاتٍ لَا ضَمَائِرَ لَا يُحْفَظُ مَا يَجِيءُ بَعْدَهَا فَاعِلًا إِلَّا بِصَرِيحِ الْجَمْعِ وَصَرِيحِ التَّثْنِيَةِ أَوِ الْعَطْفِ، إِمَّا أَنْ تَأْتِيَ بِلَفْظٍ مُفْرَدٍ يُطْلَقُ عَلَى جَمْعٍ أَوْ عَلَى مُثَنًّى فَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ إِلَى نَقْلٍ، وَإِمَّا عَوْدُ الضَّمَائِرِ مُثَنَّاةً وَمَجْمُوعَةً عَلَى مُفْرَدٍ فِي اللَّفْظِ يُرَادُ بِهِ الْمُثَنَّى، وَالْمَجْمُوعُ فَمَسْمُوعٌ مَعْرُوفٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ قِيَاسُ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ عَلَى تِلْكَ الضَّمَائِرِ، وَلَكِنَّ الْأَحْفَظَ أَنْ لَا يُقَالَ ذَلِكَ إِلَّا بِسَمَاعٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ يَعْنِي مَنِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ إِلَّا شَفَاعَةَ مَنِ اتَّخَذَ.
وَالْعَهْدُ هُنَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ:
«لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ».
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْعَهْدُ الطَّاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَفِظَ كِتَابَ اللَّهِ. وَقِيلَ: عَهْدُ اللَّهِ إِذْنُهُ لِمَنْ شَاءَ فِي الشَّفَاعَةِ مِنْ عَهِدَ الْأَمِيرُ إِلَى فُلَانٍ بِكَذَا، أَيْ أَمَرَهُ بِهِ أَيْ لَا يَشْفَعُ إِلَّا الْمَأْمُورُ بِالشَّفَاعَةِ الْمَأْذُونُ لَهُ فِيهَا. وَيُؤَيِّدُهُ وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ «١» يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «٢». لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ
(١) سورة سبأ: ٣٤/ ٢٣.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ١٠٩.
299
يَشاءُ وَيَرْضى «١». وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يكون الْمُجْرِمُونَ يَعُمُّ الْكَفَرَةَ وَالْعُصَاةَ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا الْعُصَاةُ الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ سَيُشْفَعُ فِيهِمْ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا أَزَالُ أَشْفَعُ حَتَّى أَقُولَ يَا رَبِّ شَفَّعْنِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ وَلَكِنَّهَا لِي»
انْتَهَى. وَحَمْلُ الْمُجْرِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْعُصَاةِ بِعِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بمن اتَّخَذَ مُحَمَّدٍ عِلْيَهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِالشَّفَاعَةِ الْخَاصَّةِ لِمُحَمَّدٍ الْعَامَّةَ لِلنَّاسِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «٢» وَالضَّمِيرُ فِي لَا يَمْلِكُونَ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ.
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً الضَّمِيرُ فِي قالُوا عَائِدٌ عَلَى بَعْضِ الْيَهُودِ حَيْثُ قالوا عزيز ابْنُ اللَّهِ، وَبَعْضِ النَّصَارَى حَيْثُ قَالُوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَبَعْضُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ لَقَدْ جِئْتُمْ أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ لَقَدْ جِئْتُمْ أَوْ يَكُونُ الْتِفَاتًا خَرَجَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ زِيَادَةُ تَسْجِيلٍ عَلَيْهِمْ بِالْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّعَرُّضِ لِسُخْطِهِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى عَظِيمِ مَا قَالُوا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِدًّا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ
وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِفَتْحِهَا
أَيْ شَيْئًا إِدًّا حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمَصْدَرُ مَقَامَهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ يَكَادُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ وَكَذَا فِي الشُّورَى وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ وَالْأَعْمَشِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ ينفطرن مضارع انفطر وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَابْنُ عَامِرٍ هُنَا وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي بَحْرِيَّةَ وَالزُّهْرِيِّ وَطَلْحَةَ وَحُمَيْدٍ وَالْيَزِيدِيِّ وَيَعْقُوبَ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ يَتَفَطَّرْنَ مُضَارِعُ تَفَطَّرَ وَالَّتِي فِي الشُّورَى قَرَأَهَا أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَتَصَدَّعْنَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ تَفْسِيرًا لِمُخَالَفَتِهَا سَوَادَ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، ولرواية الثقات عَنْهُ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ تَكادُ تُرِيدُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَكادُ أُخْفِيها «٣» وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَكَادَتْ وَكِدْتُ وَتِلْكَ خَيْرُ إِرَادَةٍ لَوْ عَادَ مِنْ زَمَنِ الصَّبَابَةِ مَا مَضَى
وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْكَيْدُودَةَ مُقَارَبَةُ الشَّيْءِ وَهَذِهِ الْجُمَلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ لِبَشَاعَةِ هَذَا الْقَوْلِ، أَيْ هَذَا حَقُّهُ لَوْ فَهِمَتِ الْجَمَادَاتُ قَدْرَهُ وَهَذَا مَهْيَعٌ لِلْعَرَبِ. قَالَ جرير:
(١) سورة النجم: ٥٣/ ٢٦. [.....]
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٧٩.
(٣) سورة طه: ٢٠/ ١٥.
300
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وَقَالَ آخَرُ:
أَلَمْ تَرَ صَدْعًا فِي السَّمَاءِ مُبَيَّنًا عَلَى ابْنٍ لِبَنِي الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ
وَقَالَ الآخر:
فَأَصْبَحَ بَطْنُ مَكَّةَ مُقْشَعِرًّا كَأَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَ بِهَا هِشَامُ
وَقَالَ آخَرُ:
بَكَى حَارِثُ الْجَوْلَانِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ وَحَوْرَانُ مِنْهُ خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ
حَارِثُ الْجَوْلَانِ: مَوْضِعٌ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: ما معنى انفطار السموات وَانْشِقَاقِ الْأَرْضِ وَخُرُورِ الْجِبَالِ، وَمِنْ أَيْنَ تُؤْثَرُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْجَمَادَاتِ؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أن اللَّهَ يَقُولُ:
كِدْتُ أَفْعَلُ هذه بالسماوات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ غَضَبًا مِنِّي عَلَى مَنْ تَفَوَّهَ بِهَا لَوْلَا حِلْمِي وَوَقَارِي، وَإِنِّي لَا أُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ كَمَا قَالَ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «١» الْآيَةَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اسْتِعْظَامًا لِلْكَلِمَةِ، وَتَهْوِيلًا مِنْ فَظَاعَتِهَا، وَتَصْوِيرًا لِأَثَرِهَا فِي الدِّينِ وَهَدْمِهَا لِأَرْكَانِهِ. وَقَوَاعِدِهِ، وَأَنَّ مِثَالَ ذَلِكَ الْأَثَرِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ أَنْ يُصِيبَ هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْعَالَمِ مَا تَنْفَطِرُ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ وَتَخِرُّ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ هذا الكلام فزعت منه السموات وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ وَكِدْنَ أَنْ يَزُلْنَ مِنْهُ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَادَتِ الْقِيَامَةُ أَنْ تَقُومَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ حَقِيقَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ أَيْ تَسْقُطُ عَلَيْهِمْ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ أَيْ تُخْسَفُ بِهِمْ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَيْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: تَكَادُ تَفْعَلُ ذَلِكَ لَوْ كَانَتْ تَعْقِلُ مِنْ غِلَظِ هَذَا الْقَوْلِ، وَانْتَصَبَ هَدًّا عِنْدَ النَّحَّاسِ عَلَى الْمَصْدَرِ قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى تَخِرُّ تَنْهَدُّ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ هَدًّا مَصْدَرًا لِهَدَّ الْحَائِطُ يَهِدُّ بِالْكَسْرِ هَدِيدًا وَهَدًّا وَهُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ. وَقِيلَ هَدًّا مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مَهْدُودَةً، وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ هَدًّا مَصْدَرُ هَدَّ الْحَائِطَ إِذَا هَدَمَهُ وَهُوَ فِعْلٌ متعد،
(١) سورة فاطر: ٣٥/ ٤١.
301
وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ أَيْ لِأَنَّهَا تُهَدُّ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَنْ دَعَوْا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. قَالَ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ فِي مِنْهُ كَقَوْلِهِ:
عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِمًا عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمُ
وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِكَثْرَةِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ لِجُمْلَتَيْنِ، قَالَ: وَمَنْصُوبًا بِتَقْدِيرِ سُقُوطِ اللَّامِ وَإِفْضَاءِ الْفِعْلِ أَيْ هَدًّا لِأَنَّ دَعَوْا عَلَّلَ الْخُرُورَ بِالْهَدِّ، وَالْهَدُّ بِدُعَاءِ الْوَلَدِ لِلرَّحْمَنِ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَدًّا لَا يَكُونُ مَفْعُولًا بَلْ مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى وَتَخِرُّ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، قَالَ: وَمَرْفُوعًا بِأَنَّهُ فَاعِلُ هَدًّا أَيْ هَدَّهَا دُعَاءُ الْوَلَدِ لِلرَّحْمَنِ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَدًّا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا تَوْكِيدِيًّا، وَالْمَصْدَرُ التَّوْكِيدِيُّ لَا يَعْمَلُ وَلَوْ فَرَضْنَاهُ غَيْرَ تَوْكِيدٍ لَمْ يَعْمَلْ بِقِيَاسٍ إِلَّا إِنْ كَانَ أَمْرًا أَوْ مُسْتَفْهَمًا عَنْهُ، نَحْوَ ضَرْبًا زَيْدًا، وَاضْرِبَا زَيْدًا عَلَى خِلَافٍ فِيهِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ خَبَرًا كَمَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ هَدَّهَا دُعَاءُ الرَّحْمَنِ فَلَا يَنْقَاسُ بَلْ مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ نَادِرٌ كَقَوْلِهِ:
وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيُّهُمْ أَيْ وَقَفَ صَحْبِي.
وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ دَعَوْا فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ لَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنَا الْعَامِلَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ أَيْضًا: هُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى تَقْدِيرِ اللَّامِ، قَالَ: وَفِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ دُعَاؤُهُمْ، وَمَعْنَى دَعَوْا سَمَّوْا وَهِيَ تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ حُذِفَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا، وَالتَّقْدِيرُ سَمَّوْا مَعْبُودَهُمْ وَلَدًا لِلرَّحْمَنِ أَيْ بِوَلَدٍ لِأَنَّ دَعَا هَذِهِ تَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، وَيَجُوزُ دُخُولُ الْبَاءِ عَلَى الثَّانِي تَقُولُ: دَعَوْتُ وَلَدِي بِزَيْدٍ، أَوْ دَعَوْتُ وَلَدِي زَيْدًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
دَعَتْنِي أَخَاهَا أُمُّ عَمْرٍو وَلَمْ أكن أخاها ولم أرضع لَهَا بِلِبَانِ
وَقَالَ آخَرُ:
أَلَا رُبَّ مَنْ يَدَّعِي نَصِيحًا وَإِنْ يَغِبْ تَجِدْهُ بِغَيْبٍ مِنْكَ غَيْرَ نَصِيحِ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا الَّذِي هُوَ الثَّانِي طَلَبًا لِلْعُمُومِ وَالْإِحَاطَةِ بِكُلِّ مَا دَعَا لَهُ وَلَدًا، قَالَ أَوْ مِنْ دَعَا بِمَعْنَى نَسَبَ الَّذِي مُطَاوِعُهُ مَا فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ».
وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لَا نَدَّعِي لِأَبٍ
302
أَيْ لَا نَنْتَسِبُ إِلَيْهِ انْتَهَى. وَكَوْنُ دَعَوْا هُنَا بِمَعْنَى سَمَّوْا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقِيلَ:
دَعَوْا بِمَعْنَى جعلوا. ويَنْبَغِي مُطَاوِعٌ لِبَغَى بِمَعْنَى طَلَبَ، أَيْ وَمَا يَتَأَتَّى لَهُ اتِّخَاذُ الْوَلَدِ لِأَنَّ التَّوَالُدَ مُسْتَحِيلٌ وَالتَّبَنِّي لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُتَبَنَّى، وَلَيْسَ لَهُ تعالى جنس ويَنْبَغِي لَيْسَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَتَصَرَّفُ بَلْ سُمِعَ لَهَا الْمَاضِي قَالُوا: انْبَغَى وَقَدْ عَدَّهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَتَصَرَّفُ وَهُوَ غلط ومَنْ مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ مَا كُلُّ الَّذِي فِي السموات وكل تَدْخُلُ عَلَى الَّذِي لِأَنَّهَا تَأْتِي لِلْجِنْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ «١» وَنَحْوُ:
وَكُلُّ الَّذِي حَمَّلْتَنِي أَتَحَمَّلُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ مَوْصُوفَةٌ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ كُلُّ نَكِرَةً وُقُوعَهَا بَعْدَ رُبَّ في قوله:
رَبِّ مَنْ أَنْضَجْتَ غَيْظًا صَدْرَهُ انْتَهَى. وَالْأَوْلَى جَعْلُهَا مَوْصُولَةً لِأَنَّ كَوْنَهَا مَوْصُوفَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَوْصُولَةِ قَلِيلٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَطَلْحَةُ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَيَعْقُوبُ إِلَّا آتٍ بِالتَّنْوِينِ الرَّحْمنِ بالنصب والجمهور بالإضافة وآتِي خَبَرُ كُلُّ وَانْتَصَبَ عَبْداً عَلَى الْحَالِ. وَتَكَرَّرَ لَفْظُ الرَّحْمنِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ غَيْرُهُ، إِذْ أُصُولُ النِّعَمِ وَفُرُوعُهَا مِنْهُ وَمَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ يَشْمَلُ مَنِ اتَّخَذُوهُ مَعْبُودًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى وَعُزَيْرًا بِحُكْمِ ادِّعَائِهِمْ صِحَّةَ التَّوَالُدِ أَوْ بِحُكْمِ زَعْمِهِمْ ذَلِكَ فَأَشْرَكُوهُمْ فِي الْعِبَادَةِ إِذْ خِدْمَةُ الْأَبْنَاءِ خِدْمَةُ الْآبَاءِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مَا مِنْ مَعْبُودٍ لَهُمْ في السموات أَوْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا يَأْتِي الرَّحْمَنَ عَبْدًا مُنْقَادًا لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَحْصاهُمْ وَأَحَاطَ بِهِمْ وَحَصَرَهُمْ بِالْعَدَدِ، فَلَمْ يَفُتْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَانْتَصَبَ فَرْداً عَلَى الْحَالِ أَيْ مُنْفَرِدًا لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ جَعَلُوهُ شَرِيكًا، وَخَبَرُ كُلُّهُمْ آتِيهِ فَرْداً وَكُلُّ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ مَلْفُوظٍ بِهَا نَحْوِ كُلِّهِمْ وَكُلِّ النَّاسِ فَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا عَلَى لَفْظِ كُلِّ، فَتَقُولُ: كُلُّكُمْ ذَاهِبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ جَمْعًا مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى فَتَقُولُ: كُلُّكُمْ ذَاهِبُونَ. وَحَكَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ أصبغ في كتاب رؤوس الْمَسَائِلِ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ الْوَجْهَيْنِ، وَعَلَى الْجَمْعِ جَاءَ لَفْظُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي
(١) سُورَةِ الزمر: ٣٩/ ٣٣.
303
الْكَشَّافِ وَكُلُّهُمْ مُتَقَلِّبُونَ فِي مَلَكُوتِهِ مَقْهُورُونَ بِقَهْرِهِ، وَقَدْ خَدَشَ فِي ذَلِكَ أَبُو زَيْدٍ السُّهَيْلِيُّ فَقَالَ: كُلٌّ إذا ابتدأت وَكَانَتْ مُضَافَةً لَفْظًا يَعْنِي إِلَى مَعْرِفَةٍ فَلَا يَحْسُنُ إِلَّا إِفْرَادُ الْخَبَرِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، تَقُولُ: كُلُّكُمْ ذَاهِبٌ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ذَاهِبٌ، هَكَذَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ الْفَصِيحِ فَإِنْ قُلْتَ: فِي قَوْلِهِ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ إِنَّمَا هُوَ حَمْلٌ عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ قُلْنَا: بَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْجَمْعِ وَاسْمُ الْجَمْعِ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ بِإِفْرَادٍ، تَقُولُ: الْقَوْمُ ذَاهِبُونَ، وَلَا تَقُولُ: الْقَوْمُ ذَاهِبٌ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْقَوْمِ كَلَفْظِ الْمُفْرَدِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ كُلُّكُمْ ذَاهِبٌ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ذَاهِبٌ فَكَانَ الْإِفْرَادُ مُرَاعَاةً لِهَذَا الْمَعْنَى انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ كُلُّكُمْ ذَاهِبُونَ بِالْجَمْعِ وَنَحْوِهِ إِلَى سَمَاعٍ وَنَقْلٍ عَنِ الْعَرَبِ، أَمَّا إِنْ حُذِفَ الْمُضَافُ الْمَعْرِفَةُ فَالْمَسْمُوعُ مِنَ الْعَرَبِ الْوَجْهَانِ.
وَالسِّينُ فِي سَيَجْعَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَعْلُ فِي الدُّنْيَا، وَجِيءَ بِأَدَاةِ الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ المؤمنين كانوا بمكة حَالَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَكَانُوا مَمْقُوتِينَ مِنَ الْكَفَرَةِ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَفَشَا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا
فِي التِّرْمِذِيِّ. قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ الْمَحَبَّةُ فِي الْأَرْضِ» قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا
إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قال ابن عطية: ويحتمل أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى أَيْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنِ إِتْيَانِ كل من في السموات وَالْأَرْضِ فِي حَالِ الْعُبُودِيَّةِ وَالِانْفِرَادِ، أَنَّسَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وُدًّا وَهُوَ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ كَرَامَتِهِ لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ إِنَّمَا هِيَ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ وَأَمَارَاتِ غُفْرَانِهِ انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُحَبِّبُهُمْ إِلَى خَلْقِهِ بِمَا يَعْرِضُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَيَنْشُرُ مِنْ دِيوَانِ أَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ أَيْضًا: وَالْمَعْنَى سَيُحْدِثُ لَهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوَدَّةً وَيَزْرَعُهَا لَهُمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَوَدُّدٍ مِنْهُمْ وَلَا تَعَرُّضٍ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا النَّاسُ مَوَدَّاتِ الْقُلُوبِ مِنْ قُرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ أَوِ اصْطِنَاعِ مَبَرَّةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِرَاعٌ مِنْهُ ابْتِدَاءً اخْتِصَاصًا مِنْهُ لِأَوْلِيَائِهِ بِكَرَامَةٍ خَاصَّةٍ، كَمَا قَذَفَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمُ الرُّعْبَ وَالْهَيْبَةَ إعظاما لهم وَإِجْلَالًا لِمَكَانِهِمْ انْتَهَى. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ سَيُدْخِلُهُمْ دَارَ كَرَامَتِهِ وَيَجْعَلُ لَهُمْ وُدًّا بِسَبَبِ نَزْعِ الْغِلِّ مِنْ صُدُورِهِمْ بِخِلَافِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِي النَّارِ أَيْضًا يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
304
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وُدًّا بِضَمِّ الْوَاوِ. وَقَرَأَ أَبُو الْحَارِثِ الْحَنَفِيُّ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ وُدًّا بِكَسْرِ الْوَاوِ.
قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُنَافِقُونَ يُحِبُّونَهُ، وَكَانَ لَمَّا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ اسْتَوْحَشَ بِالْمَدِينَةِ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَلْقَى اللَّهُ لَهُمْ وُدًّا فِي قَلْبِ النَّجَاشِيِّ،
وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: لَا تَجِدُ مُؤْمِنًا إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ عَلِيًّا وَأَهْلَ بَيْتِهِ
انْتَهَى. وَمِنْ غَرِيبِ هَذَا مَا أَنْشَدَنَا الْإِمَامُ اللُّغَوِيُّ رَضِيُّ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ الْأَنْصَارِيُّ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى لزبينا بن إسحاق النصراني الرسغي:
عَدِيٌّ وَتَيْمٌ لَا أُحَاوِلُ ذِكْرَهُمْ بِسُوءٍ وَلَكِنِّي مُحِبٌّ لِهَاشِمِ
وَمَا تَعْتَرِينِي فِي عَلِيٍّ وَرَهْطِهِ إِذَا ذُكِرُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ
يَقُولُونَ مَا بَالُ النَّصَارَى تُحِبُّهُمْ وَأَهْلُ النُّهَى مِنْ أَعْرُبٍ وَأَعَاجِمِ
فَقُلْتُ لَهُمْ إِنِّي لَأَحْسَبُ حُبَّهُمْ سَرَى فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ حَتَّى الْبَهَائِمِ
وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ أَنَّ بُغْضَ عَلِيٍّ مِنَ الْكَبَائِرِ.
وَالضَّمِيرُ فِي يَسَّرْناهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ مُيَسَّرًا سَهْلًا بِلِسانِكَ أَيْ بِلُغَتِكَ وَهُوَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ.
لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ أَيْ تُخْبِرُهُمْ بِمَا يَسُرُّهُمْ وَبِمَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى تَقْوَاهُمْ وَاللُّدُّ جَمْعٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لُدًّا ظُلْمَةً، وَمُجَاهِدٌ فُجَّارًا، وَالْحَسَنُ صُمًّا، وَأَبُو صَالِحٍ عِوَجًا عَنِ الْحَقِّ، وَقَتَادَةُ ذَوِي جَدَلٍ بِالْبَاطِلِ آخِذِينَ فِي كُلِّ لَدِيدٍ بِالْمِرَاءِ أَيْ فِي كُلِّ جَانِبٍ لِفَرْطِ لُجَاجِهِمْ يُرِيدُ أَهْلَ مَكَّةَ.
وَكَمْ أَهْلَكْنا تَخْوِيفٌ لَهُمْ وَإِنْذَارٌ بِالْإِهْلَاكِ بِالْعَذَابِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُمْ عَائِدٌ عَلَى قَوْماً لُدًّا وهَلْ تُحِسُّ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ أَيْ لَا تُحِسُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
هَلْ تُحِسُّ مُضَارِعُ أَحَسَّ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ تُحِسُّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الحاء. وقرىء تُحِسُّ مِنْ حَسَّهُ إِذَا شَعَرَ بِهِ وَمِنْهُ الْحَوَاسُّ وَالْمَحْسُوسَاتُ. وَقَرَأَ حَنْظَلَةُ أَوْ تَسْمَعُ مُضَارِعُ أُسْمِعَتْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّكْزُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ الْحِسُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا أَتَاهُمْ عَذَابُنَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ شَخْصٌ يُرَى وَلَا صَوْتٌ يُسْمَعُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَاتُوا وَنُسِيَ ذِكْرُهُمْ فَلَا يُخْبِرُ عَنْهُمْ مخبر.
305
Icon