تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها اثنتا عشرة ومائة
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ اقترب للناس حسابهم... ﴾ قرب الزمن الذي يحاسب فيه المشركون على إنكارهم البعث وهو زمن قيام الساعة ؛ إذ هو آت لا محالة، وكل آت قريب. ﴿ وهم في غفلة ﴾ تامة عنه، وجهالة عامة بالإيمان والحساب والجزاء، وسائر ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. ﴿ معرضون ﴾ عن الدلائل والآيات والنذر.
﴿ محدث ﴾ أي محدث تنزيله على النبي صلى الله عليه وسلم وهو لفظ القرآن ؛ فقد كان ينزل به جبريل عليه السلام آية آية، وسورة سورة في وقت بعد وقت. أما معناه وهو الكلام النفسي فقديم غير محدث.
﴿ لاهية قلوبهم ﴾ غافلة عنه، لا تتأمل في آياته ولا تفكر في حكمه. يقال : لهي عنه – كرضي – ولها – كدعا – لهيا ولهيانا، سلا وغفل وترك ذكره. وهو حال من فاعل " استمعوه " أو " يلعبون ".
﴿ وأسروا النجوى... ﴾ بالغوا في إخفاء تناجيهم بما يهدمون به أمر القرآن حتى لا يفطن أحد إلى أنهم يتناجون ؛ مبالغة في إحكام التدبير السيئ. والنجوى : المسارة بالحديث ؛ وقالوا :﴿ هل هذا إلا بشر مثلكم ﴾ فكيف تصدقونه في دعوى الرسالة ! والرسول لا يكون إلا ملكا ! ﴿ أفتأتون السحر ﴾ أي أجهلتم أنه ساحر فتحضرون عنده وتقبلون منه﴿ وأنتم تبصرون ﴾ أي تعاينون سحراه ! ؟ وقد قالوا ذلك لزعمهم أن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق فهو من قبيل السحر.
﴿ بل قالوا ﴾ في القرآن هو﴿ أضغاث أحلام ﴾ أخلاط كأخلاط الأحلام، وأباطيل لا حقيقية لها [ آية ٤٤ يوسف ص ٢٨٦ ]. ﴿ بل افتراه ﴾ اختلقه من تلقاء نفسه﴿ بل هو شاعر ﴾ وما جاء به شعر ؛ يخيّل مالا حقيقة له.
﴿ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا... ﴾ رد لقولهم : " هل هذا إلا بشر مثلكم ".
﴿ وما جعلناهم جسدا... ﴾ أي وما جعلنا الرسل الذين أرسلناهم قبلك أجسادا لا يتغذون لأغذية – أي ملائكة – ولكن جعلناهم مثلك أجسادا تتغذى. والجسد : مصدر جسد الدم يجسد، التصق. وأطلق على الجسم المركب لالتصاق أجزائه بعضها ببعض، ويطلق على الواحد المذكر وغيره ؛ ولذلك أفرد. وقيل : أفرد لإرادة الجنس. وهو رد لقولهم : " ما لهذا الرسول يأكل الطعام " .
﴿ فيه ذكركم ﴾ فيه موعظتكم، أوفيه شرفكم وصيتكم.
﴿ وكم قصمنا من قرية ﴾ أهلكنا أهلها. وأصل القصم : كسر الشيء حتى يبين وينفصل.
يقال : قصم ظهره يقصمه فانقصم، أي كسره فانكسر ؛ واستعمل في الإهلاك مجازا. ومنه قيل للداهية المهلكة : فاصمة الظهر.
﴿ أحسوا بأسنا... ﴾ عاينوا عذابنا الشديد. وأصل الإحساس : الإدراك بالحاسة [ آية ٥٢ آل عمران ص ١٠٨ ]. والبأس : الشدة والمكروه. ﴿ إذا هم منها يركضون ﴾ يهربون مسرعين من قريتهم. وأصل الركض : ضرب الدابة بالرجل لحثها على العدو ؛ ومنه " اركض برجلك " وكنى به عن الهرب السريع.
﴿ ما أترفتم فيه ﴾ ما نعمتم فيه من العيش الهنيء، والنعم الوافرة التي كانت سبب بطركم ؛ من الترفة [ آية ١١٦ هود ص ٣٧٧ ]. وقيل ذلك لهم استهزاء.
﴿ يا ويلنا ﴾ يا هلاكنا [ آية ٣١ المائدة ص ١٩٠ ].
﴿ جعلنهم حصيدا خامدين ﴾ أي كالنبات المحصود بالمناجل، وكالنار الخامدة في الهلاك والاستئصال. فعيل بمعنى مفعول، يستوى فيه الواحد وغيره ؛ وفعله من بابي نصر وضرب و " خامدين " من خمدت النار تخمد وتخمد خمدا وخمودا : سكن لهيبها.
﴿ وما خلقنا السماء والأرض... ﴾ ما خلقنا هذه المخلوقات البديعة الصنع، المحكمة التدبير، خالية من الحكم والمصالح ؛ بل خلقناها لحكم بالغة مستتبعة غايات جليلة ومنافع عظيمة.
﴿ لو أردنا أن نتخذ لهوا... ﴾ اللهو : الترويج عن النفس بما تتشاغل به عن الجد، وهو قريب من العبث الباطل ؛ وهو محال عليه تعالى، وهو من تعليق المحال على المحال. ومنه اتخاذ الصّاحبة والولد ؛ أي لو أردنا اتخاذ اللهو لكان ذلك من جهة إرادتنا، لكن ذلك مستحيل استحالة ذاتية فيستحيل أن نريده. يقال : لهوت به ألهو لهوا، وتلهيت به : أولعت به.
﴿ بل نقذف بالحق على الباطل ﴾ أي بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو.
﴿ فيدمغه ﴾ فيمحقه ويهلكه. وأصل الدمغ : كسر الدماغ. يقال : دمغه يدمعه، إذا شجه حتى بلغت الشجة الدماغ ؛ واسمها الدامغة، وإذا بلغت الشجة ذلك لم ينتظر للمشجوج بعدها حياة.
﴿ فإذا هو زاهق ﴾ ذاهب هالك. يقال : زهق الشيء يزهق زهوقا، بطل وهلك ؛ فهو زاهق وزهوق. ﴿ ولكم الويل ﴾ العذاب والعقاب﴿ مما تصفون ﴾ الله تعالى به مما لا يليق بشأنه الجليل.
﴿ ولا يستحسرون ﴾ لا يكلون ولا يتعبون ؛ مأخوذ من الحسير ؛ وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب. يقال : حسر البعير يحسره ويحسره، أي ساقه حتى أعياه ؛ كأحسره. واستحسرت : أعيت وكلت ؛ يتعدى ولا يتعدى. وحسر البصر يحسر حسورا، كل وانقطع من طول مدى ونحوه.
﴿ لا يفترون ﴾ لا يسكنون عن نشاطهم في تنزيه الله تعالى وتعظيمه وطاعته، فذلك سجية فيهم. يقال : فتر يفتر ويفتر فتورا وفتارا، سكن بعد حدة، ولان بعد شدة. وفتر الماء : سكن حرّه ؛ فهو فاتر.
﴿ أم اتخذوا آلهة... ﴾ أي بل أتخذوا آلهة من أجزاء الأرض وهي الأصنام والأوثان ؟ والاستفهام للإنكار والتوبيخ. ﴿ هم ينشرون ﴾ أي أهم يبعثون الموتى من قبورهم ؟ كلا ! ؛ من أنشر الله الميت فنشر : أي أحياه فحيى. وقرئ بفتح الياء وضم الشين من نشر، وهو أنشر بمعنى أحيا. وقد يجئ نشر لازما فيقال : نشر الموتى نشورا – من باب قعد – حيوا.
﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ أي إن هذا النظام المحكم المستمر، والاتساق البديع الدائم، والارتباط بين أجزاء العالم العلوي والسفلي، والآثار الكونية المترتبة على ذلك – لا يمكن أن يصدر إلا عن صانع قادر، حكيم مدبر، منفرد بالإيجاد والإبداع والتدبير، لا شريك له في فعله، ولا معقب لحكمه ولا راد لأمر. إذ أن تعدد الآلهة يلزمه التنازع والتغالب بينهم في الأفعال، والتصادم في الإرادات ؛ فيختل النظام، ويضطرب الأمر ويخرب العالم. ولما كان المشاهد غير ذلك، دل على وحدة الإله المتصرف المدبر القدير.
ألا ترى أنه فرض تعدد الإله، وأراد أحدهما حركة كوكب وأراد الآخر سكونه ؛ فلا جائز أن يقع مرادهما معا للزوم اجتماع الضدّين، ولا جائز أن يمتنع مرادهما معا لأنه لا مانع من وجود مراد أحدهما إلا وجود مراد الآخر. وإذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فهو الإله القادر، والآخر عاجز فلا يكون إلها. ﴿ فسبحان الله ﴾ فتنزيها لله وتبرئة له من أن يكون له شريك في الألوهية.
﴿ لا يسأل عما يفعل ﴾ في عباده من إعزاز وإذلال، وهداية وإضلال، وإسعاد وإشقاء ؛ لأنه الرب المالك المتصرف. والخلق يسألون يوم القيامة عما عملوا لأنهم عبيد، وقد أعطاهم نور العقل ليستدلوا ويرشدوا، ويميزوا بين الحق والباطل ؛ فأبصر قوم وعمي آخرون ؛ وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا ﴾ يغنون من الملائكة ؛ حيث قال الزاعمون : هن بنات الله. ﴿ سبحانه بل عباد مكرمون ﴾ أي بل هم عباد مخلوقون له تعالى، مقربون عنده. وقد وصفهم الله في هذه الآية بسبع صفات. و " عباد " جمع عبد. والعبودية لله تعالى : إظهار التذلل والخضوع له سبحانه. ومكرم : اسم مفعول من أكرم. وإكرام الله للعبد : إحسانه إليه وإنعامه عليه.
﴿ لا يسبقونه بالقول ﴾ لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به، ولا يقولون شيئا حتى يقوله.
﴿ وهم من خشيته مشفقون ﴾ أي وهم من خوف الله وعقابه حذرون أن يخالفوا أمره ونهيه. يقال : أشفق منه، أي حذره.
﴿ أو لم ير... ﴾ في هذه الآية والآيتين بعدها ستة أدلة على التوحيد وكمال القدرة ؛ أي ألم يتفكروا ويعلموا. والمراد : التمكن منه بالنظر العقلي. ﴿ أن السموات والأرض كانتا رتقا... ﴾ ملتصقتين منضمتين ليس بينهما انفصال ففصلنا بينهما. والرتق : مصدر بمعنى الضم والالتئام. يقال : رتق الفتق يرتقه رتقا ورتوقا، إذا شده. ورتقت الشيء فارتتق، أي التأم. والفتق : ضد الرتق، وهو الفصل بين المتصلين. يقال : فتق الشيء يفتقه، شقه. وعن ابن عباس : كانتا ملتصقتين فرفع الله السماء ووضع الأرض. وعن الحسن وقتادة : كانتا جميعا ففصل الله بينهما بالهواء. وقيل : كانتا معدومتين فأوجدناهما. واستعمال الرتق والفتق في ذلك مجاز.
﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حي ﴾ خلقنا من الماء كل شيء حي ؛ أي متصف بالحياة الحقيقية وهو الحيوان، أو كل شيء نام فيدخل النبات، ويراد من الحياة ما يشمل النمو. وهذا العام مخصوص بما سوى الملائكة والجن مما هو حي.
﴿ وجعلنا في الأرض رواسي ﴾ جبالا ثوابت﴿ أن تميد بهم ﴾ أي كراهة أن تتحرك وتضطرب بهم اضطرابا لا يعقبه تثبيت. [ آية ١٥ النحل ص ٤٣١ ]. ﴿ وجعلنا فيها فجاجا سبلا ﴾ أي جعلنا في الأرض مسالك طرقا واسعة للسابلة ؛ جمع فج وهو الطريق الواسع. والسبل : جمع سبيل وهو الطريق، بدل من " فجاجا ".
﴿ كل في فلك يسبحون ﴾ أي كل واحد من الشمس والقمر يسير في فلكه بسرعة ؛ كالسابح في الماء ؛ من السبح وهو المر السريع في الماء أو الهواء. وأتي بضمير جمع العقلاء لكون السباحة المسندة إليهما من فعل العقلاء ؛ كقوله تعالى : " رأيتهم لي ساجدين " ، " قالتا أتينا طائعين " .
﴿ وما جعلنا لبشر... ﴾ نزلت حين قال الأعداء : " نتربص به ريب المنون " بغضا له.
﴿ ونبلوكم بالشر والخير ﴾ نختبركم ؛ أي نعاملكم معاملة المختبر بما تحبون وما تكرهون ؛ لأجل إظهار شكركم وصبركم. ﴿ فتنة ﴾ أي ابتلاء واختبارا ؛ مصدر مؤكد ل " نبلوكم " من غير لفظه.
﴿ خلق الإنسان من عجل ﴾ العجل : طلب الشيء وتحريه قبل أوانه، وفعله من باب طرب. والمراد : أن جنس الإنسان خلق مجبولا مطبوعا على العجلة والتسرع، فيستعجل كثيرا من الأشياء وقد تكون مضرة به. ومن ذلك استعجالهم العذاب الذي أعدوا به ؛ جهلا منهم وغفلة عن شأنه.
ثم بين اله تعالى شدة ما يحصل لهم منه بقوله :﴿ لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفّون عن وجوههم النار... ﴾ أي لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال.
﴿ بل تأتيهم بغتة ﴾ بل تأتيهم الساعة الموعود بها وبعذابهم فيها مفاجأة من غير شعور بمجيئها. مصدر بغتة كمنعه ؛ ومنه المباغتة أي المفاجأة. ﴿ فتبهتهم ﴾ تدهشهم وتحيرهم والفعل كعلم ونصر وكرم وزهي [ آية ٢٥٨ البقرة ص ٨٥ ]. ﴿ ولا هم ينظرون ﴾ يمهلون لتوبة أو معذرة. وهو تهديد ووعيد.
﴿ ولقد استهزئ... ﴾ تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم. ﴿ فحاق ﴾ أحاط أو نزل بهم. يقال : حاق به الشيء يحيق، أحاط به.
﴿ من يكلؤكم ﴾ يحفظكم ويحرسكم. يقال : كلاه كلأ وكلاءة وكلاء، حرسه وحفظه. واكتلأت منه : احترست. والاستفهام للتقريع والتنبيه للمستهزئين كي لا يغتروا بما يتقلبون فيه من النعم، وبالإمهال والمطاولة.
﴿ لا يستطيعون نصر أنفسهم ﴾ أي أن هؤلاء الآلهة لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم، ويدفعوا عنها ما ينزل بها﴿ ولا هم منا يصبحون ﴾ بنصر وتأييد ؛ فهم في غاية العجز. أو ولاهم منا يجارون. تقول العرب : أنا لك صاحب من فلان وجار، بمعنى مجريك ومانعك منه. وصحب فلان فلانا : أجاره ومنعه. فكيف يتوهّمون فيها النصر لهم !.
﴿ أفلا يرون... ﴾ هذه الآية مدنية وإن كانت السورة مكية ؛ أي أعمي المستهزئون فلا يرون أنا نأتي أرضهم فننقصها من أطرافها بتسليط المسلمين عليها وانتزاعها من أيديهم ! ؟ ﴿ أفهم الغالبون ﴾ استفهام بمعنى الإنكار، معناه : بل نحن الغالبون وهم المغلوبون.
﴿ ولئن مسّتهم نفحة... ﴾ أصابهم شيء قليل من العذاب أو طرف منه. وفي هذا التعبير ثلاث مبالغات : ذكر المس الذي يكفى في تحققه إيصال ما. وما في النفح من النزارة والقلة ؛ يقال : نفحه بعطية، رضخه وأعطاه يسيرا. والبناء الدال على المرة، وهي لأقل ما يطلق عليه الأسم. والمراد : بيان سرعة تأثرهم بأقل شيء من العذاب الذي كانوا يستعجلونه استهزاء. وأنه إذا نالهم جزعوا ونادوا بالويل والثبور.
﴿ ونضع الموازين... ﴾ بيان للعدل الإلهي يوم القيامة في الجزاء على ما سلف من الأعمال، وأنه تعالى لا يظلم أحدا شيئا مما له أو عليه ؛ فلا ينقص من إحسان المحسن شيء ما، ولا يزاد في إساءة المسيء شيء ما. والقسط : العدل. والموازين : ما توزن به صحائف الأعمال. ﴿ وإن كان مثقال حبة من خردل ﴾ أي وإن كان العمل قد بلغ من القلة والحقارة وزن حبة من خردل – وهي مثل في الصغر –﴿ أتينا بها ﴾ جئنا بصحيفته في الموازين.
﴿ ولقد آتينا إبراهيم رشده ﴾ هدايته الكاملة إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا من قبل استنبائه ؛ ترشيحا لمنصب النبوة والدعوة إلى الحق ؛ كما هو شأننا فيمن نصطفيه لذلك من عبادنا.
﴿ ما هذه التماثيل... ﴾ الأصنام ؛ وعبر عنها بالتماثيل تحقيرا لها ؛ فإن التمثال هو الشيء المصنوع من رخام أو نحاس أو خشب أو معدن أو نحو ذلك. على هيئة مخلوق من مخلوقات الله تعالى كالإنسان والحيوان والكواكب. يقال : مثلت الشيء بالشيء، أي شبّهته به. ﴿ أنتم لها عاكفون ﴾ أي أنتم لأجلها عاكفون على عبادتها، أو ملازمون لها ومقبلون عليها ؛ وأنتم قد صنعتموها بأيديكم ؟
﴿ فجعلهم جذاذا ﴾ فجعل الأصنام قطعا وكسرا. واحده جذاذة ؛ من الجذ وهو القطع والكسر. تقول : جذذت الشيء، أي قطعته وكسرته.
﴿ بل فعله كبيرهم ﴾ قصد بإسناد الفعل إلى كبيرهم – ومعلوم عجزه عند بداهة – إثباته لنفسه بأسلوب تعريضي تهكمي ؛ إلزاما لهم بالحجة.
﴿ نكسوا على رءوسهم ﴾ انقلبوا من الفكرة المستقيمة الصالحة، في تظليم أنفسهم بعبادة مالا يقدر على دفع المضرة عن نفسه فضلا عن غيره – إلى ما كانوا عليه من الكفر، وعبادة الأوثان ؛ فأخذوا في المجادلة بالباطل وقالوا :﴿ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ﴾ فكيف نسألهم ! ؟ فعل مبني للمجهول ؛ من النكس وهو قلب الشيء من حال إلى حال، وأصله قلب الشيء بحيث يصير أعلاه أسفله.
﴿ أف لكم ﴾ اسم فعل بمعنى أتضجر. ضجر إبراهيم عليه السلام من إصرارهم على الباطل بعد وضوح الحق وانقطاع العذر ؛ فتأفف بهم. وأصله صوت المتضجر من استقذار الشيء [ آية ٢٣ الإسراء ص ٤٥٤ ] واللام لبيان المتضجر لأجله.
﴿ ونجيناه ولوطا... ﴾ أخرجناه ومعه زوجه سارة وابن أخيه أو ابن عمه لوط من العراق إلى الشام ؛ فنزل إبراهيم بفلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة، فبعث نبيا إلى أهلها وما قرب منها.
﴿ ويعقوب نافلة ﴾ عطية منا زيادة على ما سأل ؛ إذ دعا ربه في إسحاق فزيد يعقوب بن اسحاق من غير دعاء ؛ من نفله إذا أعطاه.
﴿ آتيناه حكما ﴾ حكمة أو نبوة، أو فصل القضاء بالحق بين الخصوم﴿ وعلما ﴾ فقها في الدين وما ينبغي علمه.
﴿ كانوا قوم سوء ﴾ فساد وفعل مكروه [ آية ٩٨ التوبة ص ٣٣٢ ].
﴿ في الحرث ﴾ أي الزرع، وكان كرما قد تدلت عناقيده﴿ إذ نفشت فيه غنم القوم ﴾ تفرقت وانتشرت فيه ليلا بلا راع فرعته وأفسدته. يقال : نفشت الغنم والإبل، أي رعت ليلا بلا راع من باب نصر وضرب وسمع. والنفش اسم منه.
﴿ ففهمناها سليمان... ﴾ ففهمنا سليمان الحكومة. وكان داود قد حكم بإعطاء صاحب الحرث رقاب الغنم في حرثه، فرأى سليمان أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بثمرتها، ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه ؛ فإذا عاد إلى ما كان عليه في السنة المقبلة رد كل واحد منهما ما لصاحبه إليه ؛ فرجع داود إلى حكم سليمان عليهما السلام.
﴿ يسبحن ﴾ يقدسن الله تعالى، وهو من المعجزات ؛ كما سبح الحصا في كف الرسول صلى الله عليه وسلم وسمعه الناس معجزة له ؛ وهو كقوله تعالى : " يا جبال أوبي معه " .
﴿ وعلمناه صنعة لبوس ﴾ أي عمل الدروع بإلانة الحديد له. واللبوس الدرع. وأصل اللبوس واللباس واللبس والملبس – كمقعد ومنبر – كل ما يلبس. ﴿ لتحصنكم من بأسكم ﴾ لتجعلكم. في حرز من الإصابة بآلة الحرب من عدوكم. يقال : أحصنه وحصنه، جعله في حرز ومكان منيع.
﴿ ولسليمان الريح عاصفة ﴾ أي وسخرنا لسليمان الريح، شديدة الهبوب. يقال عصفت الريح تعصف، اشتدت ؛ فهي عاصف وعاصفة وعصوف، سميت بذلك لتحطيمها ما تمر عليه فتجعله كالعصف وهو التبن.
﴿ أني مسني الضر ﴾ هو ما يصيب النفس من المرض والهزال ونحوهما.
﴿ وذا الكفل ﴾ هو إلياس أو زكريا أو يوشع بن نون. وقيل : إنه كان عبدا صالحا ولم يكن نبيا
﴿ وذا النون ﴾ أي اذكر صاحب النون وهو يونس من متى عليه السلام. والنون : الحوت، وجمعه نينان وأنوان. وقيل له ذو النون لابتلاع الحوت له. ﴿ إذ ذهب مغاضبا ﴾ عضبان على قومه من أجل ربه ؛ لكفرهم أو أمرهم. وقد فارقهم بدون أن يأمره الله تعالى بفراقهم. ﴿ فظن أن لن نقدر عليه ﴾ أي أن لن نقضي عليه بعقوبة. أو أن لن نضيق عليه، عقابا له على ترك قومه من غير أمرنا. يقال : قدرت عليه الشيء أقدره وأقدره قدرا وقدرا، ضيقته عليه. ومنه : " فقدر عليه رزقه " أي ضيقه عليه، " الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " . ﴿ فنادى في الظلمات ﴾ ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر، وظلمة الليل.
﴿ يدعوننا رغبا ورهبا ﴾ راغنبين في نعمنا، وراهبين من نقمنا. مصدران بمعنى اسم الفاعل منصوبان على الحال، وفعلهما من باب طرب. ﴿ خاشعين ﴾ متواضعين خاضعين، لا يستكبرون عن دعائنا.
﴿ والتي أحصنت فرجها... ﴾ حفظت فرجها من النكاح الحلال والحرام ؛ يعني مريم بنت عمران عليه السلام. ﴿ من روحنا ﴾ أي من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام ؛ أمرناه فنفخ في جيب درعها فأحدثنا بذلك عيسى عليه السلام. ﴿ وجعلناها وابنها آية للعالمين ﴾ دلالة لهم على كمال قدرتنا إذ خلقنا ولدا من غير أب.
﴿ إن هذه أمتكم ﴾ أي إن ملة التوحيد والإسلام، وهي دين جميع الأنبياء عليهم السلام – دينكم الذي يجب أن تحافظوا على حدوده وتراعوا سائر حقوقه. ﴿ أمة واحدة ﴾ دينا واحدا متفقا عليه من جميع الأنبياء. منصوب على الحال من " أمتكم ".
﴿ وتقطعوا أمرهم بينهم ﴾ جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا وتفرقوا فيه شيعا. والمراد بهم : المعاندون الجاحدون.
﴿ وحرام على قرية ﴾ أي وممتنع على أهل قرية﴿ أهلكناها ﴾ لفرط طغيانهم وتمردهم﴿ أنهم لا يرجعون ﴾ في الآخرة للجزاء
﴿ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ﴾ حتى هنا : ابتدائية، وما بعدها غاية لما يدل عليه ما قبلها ؛ فكأنه قيل : بل يستمرون على هلاكهم حتى تقوم الساعة فيرجعوا إلينا ويقولوا : يا ويلنا قد كنا في الدنيا في غفلة تامة من أمر البعث والجزاء، بل كنا ظالمين بتكذيب الآيات والنذر. ﴿ وهم ﴾ أي يأجوج ومأجوج. ﴿ من كل حدب ﴾ مرتفع من الأرض كجبل أو أكمة.
﴿ ينسلون ﴾ يسرعون في السير مشاة إلى المحشر كنسلان الذئاب ؛ من النسل وهو مقاربة الخطو من الإسراع. يقال : نسل في مشيته ينسل نسلا ونسلانا، أسرع.
﴿ واقترب الوعد الحق ﴾ وهو ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب والجزاء، معطوف على " فتحت ". ﴿ فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ﴾ مرتفعة الأجفان لا تكاد تطرف من شدة الهول. يقال : شخص بصر فلان يشخص شخوصا فهو شاخص، إذا فتح عينيه وجعل لا يطرف ؛ جواب قوله : " إذا فتحت " و " هي " ضمير الشأن مبتدأ، و " شاخصة " خبر مقدم، و " أبصار " مبتدأ مؤخر، والجملة خبر " هي ".
﴿ إنكم وما تعبدون ﴾ إنكم – أيها الكفار – والأصنام والطواغيت التي تعبدونها من دون الله وقود جهنم. وحصب النار : ما يرمى فيها وتهيج به. يقال : حصبه يحصبه، إذا رماه بالحصباء وهي صغار الحجارة.
﴿ لهم فيها زفير ﴾ تنفس شديد يخرج من أقصى أجوافهم [ آية ١٠٦ هود ص ٣٧٤ ]﴿ لا يسمعون ﴾ شيئا ما لشدة الهول. أو لشدة الزفير.
﴿ لا يسمعون حسيسها ﴾ أي حسيس النار، وهو صوتها الذي يحس من حركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة. وأصل الحسيس : الصوت تسمعه من شيء يمر قريبا منك.
﴿ لا يحزنهم ﴾ يقال : حزنه الأمر حزنا، جعله حزينا كأحزنه. ﴿ الفزع الأكبر ﴾ وهو أهوال يوم القيامة. أو نفخة البعث. مصدر فزع – كفرح ومنع – وهو انقباض ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف.
﴿ ويوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ﴾ أي اذكر لهم هذا اليوم. والطي : ضد النشر والسجل : الصحيفة التي يكتب فيها. والكتب : بمعنى المكتبات، أي ما يكتب في الصحف من المعاني الكثيرة. واللام بمعنى على ؛ كما في قوله تعالى : " وتله للجبين ". أي يوم نطوي السماء طيا مثل طي الصحيفة على ما فيها من المكتوبات. وفي هذا التشبيه إيماء إلى أن ذلك من أهون ما تتناوله يد القدرة الإلهية.
﴿ كتبنا في الزبور ﴾ أي المزبور وهو المكتوب ؛ من قولهم : زبرت الكتاب، أي كتبته. والمراد به : الجنس ؛ فيشمل جميع الكتب المنزلة على الرسل عليهم السلام. ﴿ من بعد الذكر ﴾ أي أم الكتاب الذي تكتب فيه الأشياء قبل ذلك وهو اللوح المحفوظ. وقيل : الذكر العلم، وهو المراد بأم الكتاب.
﴿ آذنتكم على سواء ﴾ أعلمتكم ما أمرت به حال كونكم جميعا مستوين في الإعلام به، لا أخص أحدا منكم دون أحد، والهمزة فيه للنقل ؛ من أذن بمعنى علم، وقد كثر استعماله في إجرائه مجزى الإنذار ؛ ومنه في قراءة " فأذنوا بحرب من الله ورسوله " . والله أعلم.